المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

• أخبرنا محمد قال سمعت محمد بن إبراهيم الفارسي يقول - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - ط السعادة - جـ ١٠

[أبو نعيم الأصبهاني]

فهرس الكتاب

• أخبرنا محمد قال سمعت محمد بن إبراهيم الفارسي يقول سمعت فارسا يقول سمعت يوسف بن الحسين يقول سمعت ذا النون يقول: يا معشر المريدين من أراد منكم الطريق فليلق العلماء بالجهل والزهاد بالرغبة وأهل المعرفة بالصمت.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانئ يقول سمعت محمد بن يوسف يقول: كان ذو النون يقول في مناجاته: يا واهب المواهب ومجزل الرغائب أعوذ بك من النزول بعد الوصول ومن الكدر بعد الصفا، ومن الشوق بعد الأنس، ومن طائف الحسرة لعارض الفترة، ومن تغير الرضا ومن التخلف عن الحادى لحظة أو إلى الإيمان دون العلم ومن موقع حذر يوجب للعقل بطوايار حتى كمل النعم عندي ورق في ذرى الكرامة مهجتي ونضر اللهم بالكمال لديك بهجتى عزفنى عن الدون ووار علمي عن الخاطر يا من منح الأصفياء منازل الحق ومدى الغايات أصف هدايتي من دنس العارض وأحسم عدوى من ملاحظتي وأخلصني بكمال رغبتي وبما لا يبلغه سؤالي إنك رحيم ودود.

أسند ذو النون رحمه الله غير حديث عن الأئمة رحمهم الله تعالى عن مالك والليث بن سعد وسفيان بن عيينة والفضل بن عياض وابن لهيعة.

• حدثنا أبو سعيد الحسين بن محمد بن علي ثنا أبو سعيد الحسن بن أحمد ابن المبارك ثنا أبو جعفر أحمد بن صبيح بن رسلان الفيومي - بمكة - ثنا أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري ثنا مالك بن أنس عن الزهري عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل أحبة من خلقه قيل من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته» . غريب من حديث مالك تفرد بن محمد بن عبد الرحمن بن غزوان حدثنا مالك ابن أنس مثله.

ص: 3

• حدثنا سهل بن عبد الله التستري ثنا الحسن بن أحمد الطوسى ثنا أحمد ابن صليح ثنا ذو النون ثنا سفيان بن عيينة عن أبي بكر سمع أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» . ثابت صحيح وهو عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.

• حدثناه محمد بن أحمد بن الحسن ثنا بشر بن موسى ثنا الحميدي ثنا سفيان بن عيينة ثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه سمع أنس بن مالك يقول:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثله.

• حدثنا أبو الفضل بحر بن إبراهيم بن زياد ثنا الحسن بن أحمد الوثائقي ثنا أحمد بن صليح الفيومي ثنا أبو الفيض ذو النون ثنا فضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجافوا عن ذنب السخي فإن الله تعالى آخذ بيده، كلما عثر» . رواه محمد بن عقبة المكي عن فضيل مثله.

• حدثناه إبراهيم بن أبي حصين ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا محمد بن عبيد الجدعاني ثنا تميم بن عمران القرشي عن محمد بن عقبة المكي عن فضيل بن عياض: مثله.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا الحسن بن أبي الحسن ثنا أبو الحسن علي بن يعقوب حدثني محمد بن إبراهيم بن عبيد الله حدثني محمد بن سعيد بن عبد الرحمن الخوارزمي حدثني أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم حدثني أبو جرية أحمد بن الحكم - من أهل البلقاء - عن عبد الله بن إدريس قال: وفد على مولاي نجا ملك البجة رجل من أهل الشام يستميجه يقال له عبد الرحمن ابن هرمز الأعرج فقدم إليه طعاما على مائدة فتحركت القصعة على المائدة فأسندها الملك برغيف فقال له عبد الرحمن بن هرمز حدثني أبو هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا خرجتم من حج أو عمرة فتمتعوا لكى تنكلوا، وأكرموا الخير فإن الله تعالى سخر له بركات السماء والأرض، ولا تسندوا القصعة بالخبز فإنه ما أهانه قوم إلا ابتلاهم الله بالجوع» .

ص: 4

‌أحمد بن أبي الحواري

ومنهم الزاهد في السراري. النابذ للجواري. العابد في القفار والبراري أبو الحسن أحمد بن أبي الحواري.

كان لفضول الدنيا قاليا. وعن الملاذ ساليا. وفي مكين الأحوال عاليا ولصحيح الآثار حاويا.

• حدثنا إسحاق بن أحمد بن علي ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد بن أبي الحواري قال قلت لأبي صفوان الرعيني: أي شيء الدنيا التي ذمها الله تعالى في القرآن الذي ينبغي للعاقل أن يجتنبها؟ قال كلما أصبت فيها تريد به الدنيا فهو مذموم وكلما أصبت فيها تريد به الآخرة فليس منها. قال أحمد: فحدثت به مروان فقال: الفقه على ما قال أبو صفوان.

• حدثنا إسحاق بن أحمد ثنا إبراهيم ثنا أحمد بن أبي الحواري قال قلت لراهب في دير حرملة وأشرف على من صومعته فقلت: يا راهب ما اسمك؟ قال جريج. قلت ما يحبسك في هذه الصومعة؟ قال حبست فيها عن شهوات الدنيا.

قلت أما كان يستقيم أن تذهب معنا هاهنا فى الأرض وتجئ وتمنع نفسك الشهوات؟ قال: هيهات هذا الذي تصف أنت قوة وأنا في ضعف فحلت بين نفسي وبينها. قلت: ولم تفعل ذلك؟ قال: نجد في كتبنا أن بدن ابن آدم خلق من الأرض وروحه خلق من ملكوت السماء، فإذا أجاع بدنه وأعراه وأسهره نازع الروح إلى الموضع الذي خرج منه، وإذا أطعمه وسقاه ونومه وأراحه أخلد البدن إلى الموضع الذي خرج منه، فلم يكن شيء أحب إليه من الدنيا.

قلت له: فإذا فعل هذا تعجل له في الدنيا الثواب؟ قال: نعم نورا يواريه. قال أحمد: فحدثت به أبا سليمان فقال: قاتله الله ما أعجبه إنهم ليصفون.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال سمعت أبي يقول: يا بني من كانت نيته في العافية ملأ الله حضنه العافية.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال سمعت أبا سليمان يقول: السالي

ص: 5

عن الشهوات هو راض، والرضى عن الله عز وجل والرحمة للخلق درجة المرسلين.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال: كنت إذا شكوت إلى أبي سليمان قساوة قلبي أو شيئا قد نمت عنه من حزبي أو غير ذلك. قال: بما كسبت يداك وما الله بظلام للعبيد، شهوة أصبتها. وقال لي أبو سليمان:

يكون فوق الصبر منزلة؟ قلت: نعم. قال فانتفض ثم قال لي: إذا كان الصابرون يعطون أجرهم بغير حساب فكيف يعطون الآخرين.

• حدثنا أبو أحمد محمد بن محمد بن إسحاق الحافظ ثنا سعيد بن عبد العزيز الحلبي قال سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت محمد بن جعفر بن مطر يقول سمعت إبراهيم بن يوسف يقول: رمى أحمد بن أبي الحواري بكتبه فقال: نعم الدليل كنت، والاشتغال بالدليل بعد الوصول محال.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت محمد بن عبد الله الطبري يقول:

سمعت يوسف بن الحسين يقول: طلب أحمد بن أبي الحواري العلم ثلاثين سنة فلما بلغ الغاية حمل كتبه إلى البحر فغرقها وقال: يا علم لم أفعل هذا بك تهاونا بك ولا استخفافا بحقك ولكن كنت أطلبك لأهتدي بك إلى ربي، فلما اهتديت بك إلى ربي استغنيت عنك.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت أبي يقول قال إبراهيم بن شيبان يحكي عن أحمد بن أبي الحواري قال: لا دليل على الله سواه، وإنما يطلب العلم لآداب الخدمة.

• سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن عبد العزيز الرازي المذكر يقول سمعت أبا عمرو البيكندي يقول: لما فرغ أحمد بن أبي الحواري من التعليم جلس للناس فخطر بقلبه ذات يوم خاطر من قبل الحق فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة طويلة ثم قال: نعم الدليل كنت لي على ربي، ولكن

ص: 6

لما ظفرت بالمدلول كان الاشتغال بالدليل محال، فغسل كتبه بالفرات.

• حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد بن حمدان الرازي النيسابوري ثنا أبو بكر محمد بن عبد الله النيسابوري حفيد العباس بن حمزة ثنا جدي العباس ابن حمزة قال قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت عتبة بن أبي السائب يقول:

ثلاث هن أخذة للمتعبد: المرض والحج والتزويج، فمن ثبت بعدهن فقد ثبت.

• حدثنا أبو أحمد ثنا محمد ثنا جدي العباس قال قال أحمد بن أبي الحواري سمعت بشر بن السري يقول: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك.

قال أحمد: وعلامة حب الله حب طاعة الله، وقيل حب ذكر الله، فإذا أحب الله العبد أحبه ولا يستطيع العبد أن يحب الله حتى يكون الابتداء منه بالحب له، وذلك حين عرف منه الاجتهاد في مرضاته. قال أحمد: ومن عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه، ومن لم يعرف نفسه فهو من دينه في غرور. وقال أحمد: إذا حدثتك نفسك بترك الدنيا عند إدبارها فهو خدعة، وإذا حدثتك نفسك بتركها عند إقبالها فذاك.

• حدثنا محمد بن جعفر بن يوسف ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ثنا أبو حاتم ثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا زكريا يحيى بن العلاء يقول إذا قرأ ابن آدم القرآن ثم خلط ثم عاد يقرأ يقول الله: مالك ولكلامي.

• حدثنا محمد ثنا عبد الله ثنا أبو حاتم ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا يحيى ابن زكريا قال: كنا عند علي بن بكار فمرت به سحابة فسألته عن شيء فقال:

اسكت أما تخشى أن يكون فيها حجارة؟.

• حدثنا محمد ثنا عبد الله ثنا أبو حاتم ثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني إسحاق بن خلف قال: مر عيسى عليه السلام بثلاثة من الناس قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم، فقال: ما الذي بلغكم ما أرى؟ قالوا: الخوف من النيران. قال مخلوقا خفتم، وحقا على الله أن يؤمن الخائف. قال: ثم جاوزهم الى ثلاثة أخرى فإذا هم أشد تغير ألوان وأشد نحول أبدان. فقال: ما الذي بلغكم ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنان. فقال: مخلوقا اشتقتم وحقا على

ص: 7

الله أن يعطيكم ما رجوتم. ثم جاوزهم الى ثلاثة أخرى فإذا هم أشد نحول أبدان، وأشد تغير ألوان، كأن على وجوههم المرآة من النور. فقال: ما الذي بلغكم ما أرى؟ قالوا: الحب لله. قال: أنتم المقربون أنتم المقربون.

• حدثنا محمد ثنا عبد الله ثنا أبو حاتم ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا الوليد ابن عتبة قال قلت لأبي صفوان بن عوانة: لأي شيء يحب الرجل أخاه؟ قال:

لأنه رآه يحسن خدمة ربه.

• حدثنا محمد ثنا عبد الله ثنا أبو حاتم ثنا أحمد قال قلت لراهب: أى شيء قوى ما تجدونه في كتبكم؟ قال: ما نجد شيئا أقوى من أن تجعل حيلك وقوتك كلها في محبة الخالق.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد ثنا أبو علي بن الحسين بن عبد الله بن شاكر السمرقندي ثنا أبو الحسن أحمد بن أبي الحواري وسمعته يقول:

نقطع إلى الله وكن عابدا زاهدا صادقا متوكلا مستقيما عارفا ذاكرا مؤنسا مستحيا خائفا راجيا راضيا، وعلامة الرضا أن لا يختار شيئا إلا ما يختاره له مولاه، فإذا كان ذلك كذلك كان له من الله عونا حتى يرده إلى طاعته ظاهرا وباطنا، ولا يكون العبد تائبا حتى يندم بالقلب ويستغفر باللسان ويرد المظالم فيما بينه وبين الناس، ويجتهد في العبادة ثم يتشعب له من التوبة والاجتهاد الزهد، ثم يتشعب له من الزهد الصدق، ثم يتشعب له من الصدق التوكل ثم يتشعب له من التوكل الاستقامة ثم يتشعب له من الاستقامة المعرفة، ثم يتشعب له من المعرفة الذكر، ثم يتشعب له من الذكر الحلاوة والتلذذ، ثم بعد التلذذ الأنس ثم بعد الأنس بالله الحياء، ثم بعد الحياء الخوف، وعلامة الخوف الاستعداد والتحويل من هذه الأحوال لا يفارق خوف تحويل هذه الأحوال من قلبه دون لقائه.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد ثنا عمر ثنا الحسين بن عبد الله بن شاكر السمرقندي ثنا أحمد بن أبي الحواري قال سمعت عبد العزيز يقول: إنه تبارك وتعالى إن لم يكن رزق أهل طاعته أصوانا حسانا فقد فتح لهم من لذة طاعته

ص: 8

ما يتنعمون بأصواتهم، قال وسمعت عبد العزيز يقول: الموت حسن يوصل منه الحبيب إلى المحبوب. قال: وحدثنا أحمد ثنا شعيب بن أحمد القرشي عن دكين الفزاري قال: لما أراد الله تعالى قبض إبراهيم عليه السلام هبط إليه ملك الموت فقال له إبراهيم: رأيت خليلا يقبض روح خليله، قال: فعرج ملك الموت إلى ربه ثم عاد إليه فقال له: يا إبراهيم ورأيت خليلا يكره لقاء خليله قال فاقبض روحي الساعة.

• حدثنا أبي ثنا أحمد ثنا الحسين ثنا أحمد قال سمعت عبد الله الحذاء يقول قال يوسف عليه السلام: اللهم إني أتوجه إليك بصلاح آبائي إبراهيم خليلك، وإسحاق ذبيحك، ويعقوب إسرائيلك. فأوحى الله تعالى إليه: يا يوسف تتوجه بنعمة أنا أنعمتها عليهم؟ قال أحمد: فقلت لأبي سليمان: كنت لبعض الأولياء قبل اليوم أشد حبا، فقال لي: إنما يتقرب إليه بحب أوليائه أولا ثم يأتي بعد منزلة تشغل القلب. قال أحمد: وسمعت أبا سليمان يقول: خرج عيسى ويحيى عليهما السلام يمشيان فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى يا بن خالة لقد أصبت اليوم خطيئة ما أرى الله يغفرها لك أبدا. قال: وما هي يا بن خالة؟ قال: امرأة صدمتها. قال: والله ما شعرت بها. قال: سبحان الله بدنك معي فأين روحك؟ قال. معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرفة عين.

• حدثنا أبي ثنا أحمد ثنا الحسين ثنا أحمد بن أبي الحواري قال سمعت أخي محمدا قال: تعبد رجل من بني إسرائيل في غيضة من جزيرة البحر أربعمائة سنة حتى طال شعره حتى إذا مر بالغيضة تعلق بعض أغصان الغيضة بشعره، فبينما هو ذات يوم يدور إذا هو بشجرة منها فيها وكر طير فحول موضع مصلاه إلى قريب منها. قال فقيل له: استأنست بغيري! وعزتي لأحطنك مما كنت فيه درجتين.

• حدثنا أبو محمد بن حيان - إملاء - ثنا إسحاق بن أبي حسان ثنا أحمد ابن أبى الحوارى ثنا أبو المفلس ثنا أبو عبيد الله الجهني قال: نعيم أهل الجنة

ص: 9

برضوان الله أفضل من نعيمهم بالجنان.

• حدثنا أبو محمد - إملاء - ثنا إسحاق ثنا أحمد قال: ناظرت أبا سليمان في الحديث الذي جاء أول زمرة يحشر إلى الجنة الحمادون الله على كل حال فقال. لى: ويحك ليس هو أن تحمده على المصيبة وقلبك معتصر عليها، فاذا كنت كذلك فأخرج أن تكون من الصابرين، ولكن أن تحمده وقلبك مسلم راض.

• حدثنا أبو أحمد - إملاء - ثنا إسحاق ثنا أحمد قال سمعت محمودا يقول:

سبحان من لا يمنعه عظيم سلطانه أن ينظر في صغير سلطانه.

• حدثنا أبو محمد - إملاء - ثنا إسحاق ثنا أحمد حدثني عبد الخالق بن جبير قال سمعت أبا موسى الطرسوسي يقول: ما تفرغ عبد لله ساعة إلا نظر الله إليه بالرحمة.

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا إبراهيم بن نائلة ثنا أحمد بن أبي الحواري قال سمعت مضاء بن عيسى يسأل سباعا الموصلي إلى أي شيء انتهى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس به.

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا إبراهيم بن نائلة ثنا أحمد قال سمعت مضاء بن عيسى يقول: إذا وصلوا إليه لم يرجعوا عنه إنما رجع من رجع من الطريق.

• حدثنا أحمد ثنا إبراهيم ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا محمد بن ثابت القاري قال: من كانت همته في أداء الفرائض لم يكمل له في الدنيا لذة.

• حدثنا أحمد ثنا إبراهيم ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أبو الموفق الأزدي قال قال الله تعالى: لو أن ابن آدم لم يرج غيري ما وكلته إلى غيري، ولو أن ابن آدم لم يخف غيري ما أخفته من غيري.

• حدثنا أحمد ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال سمعت عبد العزيز بن عمير يقول:

في القلوب قلب مريض، فاذا وجد بغيته طار.

• حدثنا أحمد ثنا إبراهيم ثنا أحمد ثنا زيدان قال قال عتبة الغلام: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.

ص: 10

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد بن عمر ثنا الحسين بن عبد الله ثنا أحمد ابن أبي الحواري قال سمعت محمد بن تمام يقول: الكلام جند من جنود الله، ومثله مثل الطين تضرب به الحائط، فإن استمسك نفع، وإن وقع أثر. قال:

وسمعت أبا جعفر يقول: القلب بمنزلة القمع يصب فيه الزيت أو العسل فيخرج منه ويبقى فيه لطاخته.

• حدثنا أبي ثنا أحمد ثنا الحسن ثنا أحمد قال سمعت مضاء بن عيسى يقول: خف الله يلهمك، واعمل له لا يلجئك إلى دليل.

• حدثنا عبد الله بن محمد - إملاء وقراءة - ثنا عمر بن بحر الأسدي قال سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول. بينا أنا ذات يوم فى بلاد الشام فى قبة من قباب المقابر ليس عليها باب إلا كساء قد أسبلته، فإذا أنا بامرأة تدق على الحائط فقلت: من هذا؟ قالت: امرأة ضالة دلني على الطريق رحمك الله. قلت رحمك الله على أي الطريق تسألين؟ فبكت ثم قالت: يا أحمد على طريق النجاة. قلت:

هيهات إن بيننا وبين طريق النجاة عقابا وتلك العقاب لا تقطع إلا بالسير الحثيث، وتصحيح المعاملة، وحذف العلائق الشاغلة عن أمر الدنيا والآخرة قال: فبكت بكاء شديدا ثم قالت: يا أحمد سبحان من أمسك عليك جوارحك فلم تتقطع، وحفظ عليك فؤادك فلم يتصدع، ثم خرت مغشيا عليها، فقلت لبعض النساء: انظري أي شيء حال هذه الجارية؟ قال أحمد فقمن إليها ففتشنها فإذا وصيتها في جيبها كفنوني في أثوابي هذه فإن كان لي عند الله خير فهو أسعد لي، وإن كان غير ذلك فبعدا لنفسي. قلت: ما هي؟ فحركوها فإذا هي ميتة. فقلت للخدم: لمن هذه الجارية؟ قالوا: جارية قرشية مصابة وكان الذي معها يمنعها من الطعام، وكانت تشكو إلينا وجعا بجوفها، فكنا نصفها لمتطببي الشام فكانت تقول: خلوا بيني وبين الطبيب الراهب - تعني أحمد - أشكو إليه بعض ما أجد من بلائي لعله أن يكون عنده شفائي.

• حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا إسحاق بن أبي حسان ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا جعفر بن محمد بن أحمد الميموني قال: أتيت أحمد الموصلي فقلت

ص: 11

له: إني قد أهديت إليك حديثا، قال هيه هات. فإما أن يأتيني المزيد من الله فأعمل إليه، وإما أن أشهق شهقة فأموت. فقلت: بلغني عن أبي العالية الرياحي قال: قرأت في بعض الكتب حديثا طرد عني نومي وأذهب شهواتي يا معشر الربانيين من أمة محمد انتدبوا لدار. فلما قلت انتدبوا لدار اصفر ثم احمر ثم اسود ثم غشي عليه فقلت انتدبوا لدار أرضها زبرجد أخضر تجري عليها أنهار الجنة فيها الدر والياقوت واللؤلؤ، وسورها زبرجد أصفر متدل عليها أشجار الجنة بثمارها. فلما غشي عليه قمت وتركته.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أبو زرعة الدمشقي ثنا أحمد بن أبي الحواري.

قال: كنت أسمع وكيع بن الجراح يقول: يبتدئ قبل أن يحدث فيقول:

ما هناك إلا عفوه، ولا نعيش إلا في ستره، ولو كشف الغطاء انكشف عن أمر عظيم.

• حدثنا أبي ثنا أحمد ثنا الحسين بن عبد الله بن شاكر ثنا أحمد بن أبي الحواري قال حدثني أحمد بن داود قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا من كل عشرة واحدا، ثم أخرجوا من كل مائة واحدا، ثم أخرجوا من كل ألف واحدا، حتى أخرجوا سبعة خيار بني إسرائيل فقالوا: أدخلونا في بيت وطينوا علينا ولا تخرجونا حتى نعرف ربنا، قال ففعلوا قال: فمات أول يوم واحد، وفي اليوم الثاني آخر ثم مات في اليوم الثالث آخر، فقال شاب وكان أصغرهم: أخرجونا قد عرفته. قال: ففتحوا فأخرجوهم فقال لهم: قد عرفته، قالوا: وأي شيء عرفت؟ قال: عرفت أنه لا يعرف، فإن شئتم فدعونا حتى نموت عن آخرنا، وإن شئتم أخرجونا. قال أحمد: فحدثت به أبا سليمان فقال: صدق، لا يعرف حق معرفته ولكن بعض خلقه أعرف به من بعض، ومثل ذلك مثل السماء أعرفهم بها أقربهم منها.

• حدثنا أبي ثنا أحمد ثنا الحسين ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أيوب بن أبي عائشة - وكان من الصالحين وكنا نتبرك بدعائه - عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال قيل لموسى عليه السلام يا موسى إنما مثل كتاب أحمد صلى الله عليه

ص: 12

وسلم في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته.

• حدثنا أبي ثنا أحمد ثنا الحسين ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أبو السمط يوسف بن مخلد حدثني أبو عمر المؤذن قال وجدت في سفر التوراة الرابع أن الله تعالى يقول: أنا الله لا إله إلا أنا عيني على كل شيء أرى النمل في الصفا وأرى وقع الطير في الهوى، وأعلم ما في القلب والكلى، وأعطي العبد على ما نوى.

• حدثنا أبي ثنا أحمد ثنا الحسين ثنا أحمد ثنا هشام بن عمرو قال: أوحى الله تعالى إلى موسى وعيسى عليهما السلام: يا موسى وعيسى من أجل دنيا دنيئة وشهوة رديئة تفرطان في طلب الآخرة؟ يا موسى ويا عيسى حتى متى أطيل النسيئة وأحسن الطلب. قال: أحمد فحدثت به أبا سليمان فقال لي: إذا كان موسى وعيسى معاتبين فأي شيء يقال لمثلي ومثلك؟ وأي شيء أصابا من الدنيا جبة صوف وكسر.

• حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إسحاق ثنا إسحاق ثنا عمر بن بحر الأسدي قال سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أسماء الرملية - وكانت من المتعبدات المجتهدات - قالت: سألت البيضاء بنت المفضل فقلت: يا أختي هل للمحب لله دلائل يعرف بها؟ قالت: يا أخنى والمحب للسيد يخفى؟ لو جهد المحب للسيد أن يخفي ما خفي. قلت: فصفيه لي في أخلاقه وطعامه وشرابه ونومه ويقظته وحركاته. قالت: بلى قد أكثرت علي ولكن سأصف لك من ذلك ما قدرت عليه، لو رأيت المحب لله لرأيت عجبا عجيبا من واله ما يقر على الأرض، طائر متوحش أنسه في الوحدة، قد منع الراحة ولها بذكر المحبوب، وطعامه الحب عن الجوع شربه والحب عند الظمأ، ونومه الفكرة في الوصلة، ويقظته المبادرة في الغفلة، ليس له هدو ولا يميل إلى سلو، إن عزي لم يتعز، وإن صبر لم يتصبر، فهو الدهر منكس لا تغيره الايام، ولا بمل من طول الخدمة لله، إذا مل الخدام حتى يصير من محبته وطول خدمته في درج الشوق فيقر قراره وتخمد ناره ويطفى شرره، ويقل همه، وتواصل أحزانه.

ص: 13

• حدثنا أحمد بن أحمد بن إسحاق ثنا إبراهيم بن نائلة ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا يونس بن محمد الحذاء عن حمزة النيسابوري قال: إن صاحب الدين يفكر فعلته السكينة ورضي فلم يهتم، وخلى الدنيا فنجى من الشر وانفرد فكفي وترك الشهوات فصار حرا وترك الحسد فظهرت له المحبة، وسلب نفسه عن كل فان فاستكمل العقل.

• حدثنا أحمد ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال سمعت شعيب بن حرب يقول لرجل:

إذا دخلت القبر ومعك الإسلام فأبشر.

• حدثنا أحمد ثنا إبراهيم بن حرب بن المفضل عن أبي المليح الرقي قال: إذا صار ابن آدم في قبره لم يبق شيء كان يخافه دون الله إلا مثل له في لحده يفزعه لأنه خافه في الدنيا دون الله عز وجل.

• حدثنا أبي ثنا الحسن بن أبان ثنا الحسين بن عبد الله بن شاكر ثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت علي بن أبي الحواري يقول: شبع يحيى بن زكريا من خبز شعير شبعة فنام عن حزبه فأوحى الله تعالى إليه: يا يحيى هل وجدت دارا خيرا من داري؟ أو جوارا خيرا لك من جواري؟ يا يحيى لو اطلعت في الفردوس لذاب جسمك، وزهقت نفسك اشتياقا، ولو اطلعت إلى جهنم اطلاعة للبست الحديد بعد المسوح، ولبكيت الصديد بعد الدموع.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني حدثني أحمد بن عبد الله بن سليمان القرشي قال سمعت أبا الحسن علي بن صالح بن هلال القرشي يقول ثنا أحمد ابن أصرم المزنى العقبلى قال: سمعت يحيى بن معين يقول: التقى أحمد بن حنبل وأحمد بن أبي الحواري بمكة فقال أحمد بن حنبل لأحمد بن أبي الحواري: يا أحمد حدثنا بحكاية سمعتها من أستاذك أبي سليمان الداراني. فقال يا أحمد قل سبحان الله بلا عجب، فقال أحمد بن حنبل: سبحان الله - وطولها - بلا عجب. فقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما. قال: فقام أحمد بن حنبل ثلاثا وجلس

ص: 14

ثلاثا وقال: ما سمعت في الإسلام حكاية أعجب من هذه إلي. ثم ذكر أحمد بن حنبل عن يزيد بن هارون عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم» . ثم قال لأحمد ابن أبي الحواري: صدقت يا أحمد وصدق شيخك.

قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله: ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى بن مريم عليه السلام فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم فوضع هذا الإسناد عليه لسهولته وقربه، وهذا الحديث لا يحتمل بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل.

• أخبرنا علي بن يعقوب الدمشقي - في كتابه - وحدثني عثمان بن محمد العثماني ثنا جعفر بن أحمد بن عاصم ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا علي بن أبي الحر قال: خرج الأوزاعي حاجا قال: فلما كنت بالمدينة أتيت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بليل فإذا شاب يتهجد بين القبر والمنبر فلما طلع الفجر استلقى على ظهره وقال: عند الصباح يحمد القوم السرى، فقلت: يا ابن أخي لك ولأصحابك لا للجمالين.

قال. وحدثنا أحمد بن أبى الحوارى ثنا عيسى ابن عبيد الجبيلي قال سمعت أبا كريمة الكلبي - وكان من عباد أهل الشام - يقول: ابن آدم ليس لما بقي في الدنيا من عمرك ثمن. وسمعته يقول عند الصباح يحمد القوم السرى، وعند الممات يحمد القوم التقى.

قال: وحدثنا أحمد بن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان يقول: إنا إن شاء الله وأصحابى قاصدين اليه، وأهل البدع راجعين عنه، وأهل المعاصي قد أخذوا يمينا وشمالا فوقعوا فى الأحول والشكوك.

قال: وحدثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أحمد بن النضر عن ابن شابور قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غيب لم يره.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا أبو الحسن البغدادي قال ذكر لي عن أحمد ابن أبي الحواري أنه قال: دخلت على أبي سليمان وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ قال كنت البارحة أصلى فحملتني عيناي فنمت فإذا أتا بحوراء قد خرجت علي

ص: 15

من محرابي بيدها رقعة فقالت: يا أبا سليمان تحسن تقرأ؟ فقلت: نعم فقالت اقرأ هذه الرقعة ففككتها فاذا فيها.

ألهتك لذة نومة عن خير عيش

مع الغنجات فى غرف الجنان

تعيش مخلدا لا موت فيها

وتنعم في الجنان مع الحسان

تيقظ من منامك إن خيرا

من النوم التهجد بالقران.

• حدثنا أبي ثنا إسحاق بن إبراهيم المسوحي ثنا عبد الله بن الحجاج ثنا عبد الله بن أشنويه الأزدي - بفارس - ثنا العباس بن حمزة ثنا أحمد بن أبي الحواري قال: دخلت على أبي سليمان وهو يبكي فقلت له: مم تبكي؟ فقال لى: ويحك يا أحمد، كيف لا أبكي وقد بلغني أنه إذا جن الليل وهدأت العيون وخلا كل خليل بخليله واستنارت قلوب العارفين وتلذذت بذكر ربهم وارتفعت هممهم إلى ذي العرش وافترش أهل المحبة أقدامهم بين يدي مليكهم في مناجاته ورددوا كلامه بأصوات محزونة جرت دموعهم على خدودهم وتقطرت فى محاريبهم خوفا واشتياقا، فأشرف عليهم الجليل جل جلاله فنظر اليهم فأمدهم محابة وسرورا، فقال لهم: أحبابي والعارفين بي، اشتغلوا بي وألقوا عن قلوبكم ذكر غيري، أبشروا فإن لكم عندي الكرامة والقربة يوم تلقوني، فينادي الله جبريل: يا جبريل، بعيني من تلذذ بكلامى واستراح إلى وأناخ بفنائي، وإني لمطلع عليهم في خلواتهم أسمع أنينهم وبكاءهم، وأرى تقلبهم واجتهادهم، فناد فيهم يا جبريل: ما هذا البكاء الذي أسمع، وما هذا التضرع الذي أرى منكم؟ هل سمعتم أو أخبركم عني أحد أن حبيبا يعذب أحباءه؟ أوما علمتم أني كريم فكيف لا أرضى؟ أيشبه كرمي أن أرد قوما قصدوني؟ أم كيف أذل قوما تعززوا بي! أم كيف أحجب غدا أقواما آثروني على جميع خلقي وعلى أنفسهم وتنعموا بذكري؟ أم كيف يشبه رحمتي أو كيف يمكن أن أبيت قوما تملقوا لي وقوفا على أقدامهم، وعند البيات أخزوهم؟ أم كيف يجمل بي أن أعذب قوما إذا جنهم الليل تملقوني، وكيفما كانوا انقطعوا إلي واستراحوا إلى ذكري وخافوا عذابي وطلبوا القربة عندى

ص: 16

فبي حلفت لأرفعن الوحشة عن قلوبهم، ولأكونن أنيسهم إلى أن يلقوني، فإذا قدموا علي يوم القيامة فإن أول هديتي إليهم أن أكشف لهم عن وجهي حتى ينظروا إلي وأنظر إليهم، ثم لهم عندي ما لا يعلمه غيري. يا أحمد! إن فاتني ما ذكرت لك فيحق لي أن أبكي دما بعد الدموع. قال أحمد: فأخذت معه بالبكاء، ثم خرجت من عنده وتركته بالباب، فكنت أرى أثر ذلك عليه حتى الممات. وجعل يبكي ويصيح، فكنت بعد ذلك إذا سألته عن شيء من الحديث يقول: ما كفاك الذي سمعت؟ - يعني هذا - فأقول: لعل منفعتي فيما لم أسمعه بعد. فيقول: أجل. ثم قال لي أحمد: خذها إليك فقد سقت لك الحديث بتمامه وإني ربما اختصرته. وبكى أحمد لما حدثني هذا الحديث وصرخ يقول: وا حرماناه، وا شؤم خطيئتاه، مضى القوم وبقينا بعد حين قد أمضيناه، فالناس ظفروا بما طلبوا ولا ندري ما ينزل بنا، فوا خطراه، وجعل يبكي ويصيح. فأخذت معه في البكاء، وكنت أرى أثر ذلك عليه إلى الممات.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا محمد بن محمد بن عمران بن ميسرة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أحمد بن أبي الحواري. قال قال لي أبو سليمان: جوع قليل، وعري قليل، وذل قليل، وفقر قليل، وصبر قليل، قد انقضت عنك أيام الدنيا.

• حدثنا عثمان بن محمد ثنا عبد الواحد بن أحمد التنيسي ثنا أبو عثمان سعيد بن الحكم بن أوس الدمشقي ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أبو على الزحبى قال: فقد الحسن بن يحيى شابا كان ينقطع إليه، قال: فخرج الحسن حتى أتى منزله فدق عليه الباب فخرج إليه الشاب فقال له: يا ابن أخي ما لي لم أرك منذ أيام؟ فقال له: يا أخي إن هذه الدار ليست دار لقاء، إنما هي دار عمل واللقاء ثم.

ثم أغلق الباب في وجهه. قال فما رآه الحسن بعد ذلك اليوم حتى أخرجت جنازته.

• حدثنا عثمان بن محمد قال قرأ علي بن أحمد بن محمد بن عيسى ثنا يوسف ابن الحسن قال قال أحمد: - يعني ابن أبي الحواري - يوما: لله لعبده في أوان

ص: 17

معاصيه وإعراضه عن ربه أشد نظرا إليه وحبا من العبد في أوان تتابع نعمه وكمال كرامته، وعظيم ستره وإحسانه. ثم قال: وهل يليق إلا ذلك؟ وقال:

قنعت بعلم الله ذخرى وواجدى

بمكتوم أسرار تضمنها صدرى

فلو جاز ستر الستر بيني وبينه

إلى القلب والأحشاء لم يعلما سري.

• حدثنا محمد بن علي بن حبيش ثنا ابن منيع ثنا العباس بن حمزة ثنا أحمد ابن أبي الحواري. قال سمعت أبا سليمان يقول: لان أترك من غشائى لقمة أحب إلي من أن آكلها وأقوم من أول الليل إلى آخره.

• حدثنا محمد ثنا ابن منيع ثنا العباس ثنا أحمد قال سمعت أبا سليمان يقول إن من خلق الله لخلقا ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه، فكيف يشتغلون عنه بالدنيا!.

• حدثنا إسحاق بن أحمد ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد بن أبي الحواري قال قلت لأبي بكر بن عياش: حدثنا. قال: دعونا من الحديث فإنا قد كبرنا ونسينا الحديث، جيئونا بذكر المعاد، جيئونا بذكر المقابر، لو أني أعرف أهل الحديث لأتيتهم إلى بيوتهم حتى أحدثهم.

• حدثنا إسحاق بن أحمد ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد قال سمعت محمد الكندي يقول سمعت أشياخنا يقولون: إذا عرض لك أمران لا تدرى فى أيهما الرشاد فانظر إلى أقربهما إلى هواك مخالفة فإن الحق فى مخالفة الهوى.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال سمعت أبا عبد الله الواهبي يقول: ما أخلص عبد قط إلا أحب أن يكون فى جب لا يعرف، ومن أدخل فضولا من الطعام أخرج فضولا من الكلام.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: إن الرجل لينقطع إلى ملوك الدنيا فترى أثرهم عليه بينا، فكيف بمن ينقطع إليه لا يرى أثره عليه؟ وأتبعها بكلمة صححها، قال: ترى أثر الخدمة علينا بينا ونور الجلال.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد ثنا أبو جعفر الحذاء قال سمعت

ص: 18

فضيلا يقول. ما اشتد عجبى قط من عبادة ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي من أوليائه أطاعه. قالوا. ولم يا أبا علي؟ قال: لأنه ألهمهم، ولو أراد أن يلهمهم أكثر من ذلك لفعل.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد حدثني عبد العزيز بن عمير قال:

لما كلم الله موسى عليه السلام قال: يا رب إن اللعين يوسوس إلي أن الذي يكلمني غيرك. قال: فأوحى الله إليه: يا موسى ارفع رأسك. فرفع رأسه فإذا بالسماء قد كشطت وإذا بالعرش بارز، وإذا الملائكة قيام في الهواء. قال عبد العزيز فلما سمع موسى كلام الله عز وجل مقت كلام الآدميين.

• حدثنا إسحاق بن أحمد ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عمر بن سلمة السراج عن أبى جعفر المصرى قال قال رسول الله تعالى: معشر المتوجهين إلي بحبي ما ضركم ما فاتكم من الدنيا إذا كنت لكم حظا، وما ضركم من عاداكم إذا كنت لكم سلما.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال سمعت أبا يوسف يقول: يا أخي وما عليك أن تنقطع إليه في آخر عمرك فتخدمه.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد حدثني إبراهيم بن أيوب الحوراني قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: إذا أفنى الله الخلق أقام يمجد نفسه قبل أن يبعثهم مثل عمر الدنيا أربع مرات. قال أحمد: وكان يقال: عمر الدنيا سبعة آلاف سنة.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد قال سمعت العباس بن الوليد بن يزيد وتغرغرت عيناه وقال: ليت شعري الى أن تؤدينا هذه الأيام والليالي؟ فحدثت به محمد بن كيسان قال: تؤدينا إلى السيد الكريم.

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد ثنا أبو مريم الصلت بن حكيم قال قال الحسن: إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استيقظت قلوبهم فنطقت بالحكمة. وزادني فيه عبد العزيز بن عمير قال: وورثوا السر.

ص: 19

• حدثنا إسحاق ثنا إبراهيم ثنا أحمد. قال: قلت لأبي طلحة: أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: إعطاء المجهود، وخلع الراحة، وقطع الأمان.

• حدثنا عبد المنعم بن عمر بن عبد الله ثنا أحمد بن محمد بن زياد ثنا أبو عبد الرحمن بن الدرقين ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا الرحبي عن أبي حبيب قال: جاء رجل إلى الحسن فقال يا أبا سعيد إذا أكلت قليلا جعت، وإن أكثرت أتخمت. فقال له الحسن: ما أرى هذه الدار توافقك فاطلب دارا غيرها.

• حدثنا عبد المنعم ثنا أحمد بن محمد بن زياد ثنا عبد الصمد بن أبي يزيد ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا قاسم بن أسد الأصبهاني ثنا عبيد بن يعيش قال:

لقي هرم بن حبان أويسا القرني، فقال: السلام عليك يا أويس بن عامر قال:

وعليك يا هرم بن حبان. أما أنا فعرفتك بالصفة فكيف عرفتني؟ قال:

عرفت روحي روحك، لأن أرواح المؤمنين تشام كما تشام الخيل، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. قال إني أحبك في الله. قال: ما ظننت أن أحدا يحب في غير الله. قال: إني أريد أن أستأنس بك. قال: ما ظننت أن أحدا يستوحش مع الله. قال: أوصني. قال: عليك بالأسياف - يعني ساحل البحر - قال: فمن أين المعاش؟ قال: أف أف، خالط الشك الموعظة، تفر إلى الله بدينك وتتهمه في رزقك.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عمر بن بحر الأسدي قال سمعت أحمد بن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان يقول: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام إني إنما خلقت الشهوات لضعفاء خلقي، فإياك أن تعلق قلبك منها بشيء فأيسر ما أعاقبك به أن أنسخ حلاوة حبي من قلبك.

• حدثنا عبد الله ثنا عمر قال سمعت أحمد يقول سمعت أبا سليمان يقول:

أهل القيام بالليل على ثلاث طبقات، منهم من إذا قرأ فتفكر فبكى، ومنهم من إذا قرأ فتفكر صاح وهو يجد في صياحه راحة، فسبحان الذي يصيحهم إذا شاء. ومنهم من إذا قرأ فتفكر لم يبك ولم يصح بهت. فقلت لأبي سليمان من أي شيء بكى هذا؟ ومن أي شيء صاح هذا؟ ومن أي شيء بهت هذا؟

ص: 20

قال: ما أقوى على تفسير هذا.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عمر بن بحر قال سمعت أحمد يقول: سمعت أبا سليمان يقول: مررت في جبل اللكام في جوف الليل فسمعت رجلا يقول في دعائه: سيدي وأملي ومؤملي ومن به تم عملي، أعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك، وأعوذ بك من قلب لا يشتاق إليك، وأعوذ بك من دعاء لا يصل إليك، وأعوذ بك من عين لا تبكي اليك. علمت أنه عرف، فقلت:

يافتى إن للعارفين مقامات، وللمشتاقين علامات. قال: ما هي؟ قلت: كتمان المصيبات، وصيانات الكرامات. ثم قال لي: عظني. قلت: اذهب فلا ترد غيره ولا ترد خيره، ولا تبخل يشيئه عنه. قال: زدني. قلت: اذهب فلا ترد الدنيا واتخذ الفقر غنى والبلاء من الله شفاء، والتوكل معاشا، والجوع حرفة، واتخذ الله لكل شدة عدة. فصعق صعقة فتركته في صعقته ومضيت فاذا أنا برجل نائم فركضته برجلي فقلت له: قم يا هذا فإن الموت لم يمت.

فرفع رأسه إلي فقال: إن ما بعد الموت أشد من الموت. فقلت له: من أيقن بما بعد الموت شد مئزر الحذر ولم يكن للدنيا عنده خطر، ولم يقض منها وطرا.

• حدثنا عبد الله ثنا عمر قال سمعت أحمد يقول: دخل عياد الخواص على إبراهيم بن صالح وهو أمير فلسطين فقال: يا شيخ عظني. فقال: بم أعظك أصلحك الله! بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظر ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك. قال: فبكى حتى سالت الدموع على لحيته.

• حدثنا عبد الله ثنا عمر ثنا أحمد قال سمعت أبا سليمان يقول إذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب. قال: وسمعت أبا سليمان يقول: يكبر عند العالمين بالله أن يكون العذاب أيسر عليهم من المعصية لله.

• حدثنا عبد الله ثنا عمر قال سمعت أحمد يقول سمعت أبا سليمان يقول:

بين العبد يوم القيامة وهو يرى أنه قد هلك فإذا هو بصحف مختومة فيقال له: فض الخاتم واقرأ ما فيها. فينظر فيها فيقول: يا رب أعمال لم أعملها ولا

ص: 21

أعرفها. فيقول: هذه نيتك التي كنت تنوي في الدنيا، أحصيتها لك وكتبتها. ثم يؤمر به إلى الجنة.

• حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي قال سمعت الحسن بن سفيان يقول سمعت عياض بن زهير يقول: سمعت يحيى بن معين وذكر أحمد بن أبي الحواري فقال: أظن أهل الشام يعقبهم الله تعالى الغيث به.

• حدثنا أبو محمد بن حيان - من أصله - ثنا أحمد بن جعفر الجمال ثنا أبو حاتم ثنا محمود بن خالد - وذكر أحمد بن أبي الحواري - فقال: ما أظنه بقي على وجه الأرض مثله.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى ثنا محمد بن أحمد بن سعيد الرازي ثنا العباس بن حمزة قال سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول فى الرباط والغزو:

ونعم المستراح، إذا مل العبد من العبادة استراح إلى غير معصية. قال: وسمعت حمد يقول: إن الله إذا أحب قوما أفادهم فى القيظة والمنام. وقال أحمد: الدنيا مزبلة ومجمع الكلاب، وأقل من الكلاب من عكف عليها، فإن الكلب يأخذ منها حاجته وينصرف، والمحب لها لا يزايلها بحال. وقال أحمد: من أحب أن يعرف بشيء من الخير أو يذكر به فقد أشرك في عبادته، لأن من عبد على المحبة لا يحب أن يرى خدمته سوى مخدومه. وقال أحمد: إنى لأقر القرآن فأنظر في آية آية فيحار عقلي فيها وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسيغهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتكلمون كلام الرحمن أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما رزقوا ووفقوا.

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا أحمد بن الحسين بن طلاب ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا سلام المديني قال سمعت المخرمي يقول عن سفيان الثوري قال من أحب الدنيا وسر بها نزع خوف الآخرة من قلبه.

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا أحمد بن الحسين ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا مروان بن معاوية الفزاري. قال: شهدت سفيان بن عيينة وسأله رجل

ص: 22

عن مسألة فقال: لا أدري. فقال له: يا أبا محمد إنها قد كانت. فقال سفيان وإذا كانت وأنا لا أدري فإيش تعمل.

• حدثنا محمد ثنا مروان بن محمد قال سمعت سفيان بن عيينة وقال لشيخ عنده - أو إلى جانبه -: يا شيخ بلغني أنك تغنى في بلادك. قال: نعم يا أبا محمد.

قال أحمق والله.

• حدثنا محمد ثنا أحمد قال سمعت وكيع بن الجراح يقول: ويل للمحدث إذا استصحبه أصحاب الحديث.

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن عون ثنا أحمد بن أبي الحواري قال قلت للوليد: يا أبا العباس بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» قال: لأنهما كانا يغتابان. فقال الوليد: لا ندع نحن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتفسير أهل العراق. فحدثت به أحمد بن حنبل فقال. صدق الوليد، يكون من الحجامة أحب إلينا من أن يكون من الغيبة.

لأنا نقدر أن لا نحتجم والغيبة لا نضبطها.

• حدثنا إسحاق بن أحمد ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني أخي محمد قال: قال علي بن فضيل لأبيه: يا أبت ما أحلى كلام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: يا بني وتدري لم حلا؟ قال: لا يا أبت. قال:

لأنهم أرادوا الله به.

• حدثنا إسحاق بن أحمد ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني أخي محمد قال قلت لفضيل بن عياض في قوله تعالى {(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا)} قال ممن كانوا وحيث ما كانوا، وفي أي زمان كانوا.

• حدثنا محمد بن أحمد بن محمد ثنا عبد الرحمن بن داود ثنا محمد بن العباس ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا سفيان بن عيينة قال: يهون الموقف يوم القيامة على المؤمن كصلاة فريضة صلاها في الدنيا أتم ركوعها وسجودها.

• حدثنا محمد بن أحمد ثنا عبد الرحمن بن داود ثنا محمد بن العباس ثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت ابا الخضر الوصاف يقول في قوله تعالى:

{(في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)} قال: تفسيره أن لو ولي حساب

ص: 23

الخلائق غير الله لم يفصل بينهم في خمسين ألف سنة، وهو تعالى يفصل بينهم في مقدار نصف يوم من أيام الآخرة.

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا عبد الله بن أبي داود ثنا أحمد بن أبي الحواري عن محمد بن عائد ثنا ابن شابور عن سعيد بن بشير عن قتادة قال:

أخيار أمرائكم الذين يحبون قراءكم، وشراركم الذين يحبون أمراءكم.

أسند أحمد بن أبي الحواري عن الأعلام والمشاهير ما لا يعد كثرة.

• حدثنا أبو علي الحسن بن علي بن الخطاب الوراق ثنا محمد بن محمد بن سليمان ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا حفص بن غياث ثنا هشام عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا» .

• حدثنا الحسن بن علي ثنا محمد بن محمد ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا حفص بن غياث ثنا الأعمش عن أبي الضحى عن سنبر بن شكل عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

• حدثنا محمد بن الحسن اليقطيني ومحمد بن المظفر ومحمد بن الخطيب قالوا:

ثنا محمد بن محمد بن سليمان ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا حفص بن غياث عن مسعر قال سمعت إبراهيم السكسكى ح. قال حفص: وحدثنا العوام بن حوشب عن إبراهيم السكسكى عن أبى بردة عن أبي موسى عن أبيه. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مرض أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم» .

• حدثنا علي بن هارون ثنا أبو بكر بن أبي داود ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا حفص بن غياث عن الحجاج عن مكحول عن أبي إدريس عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلنا: يا رسول الله نجد آنية المشركين! قال: «اغسلوها واطبخوا فيها» .

• حدثنا محمد بن علي ثنا عبد الله بن أحمد بن عتاب وأحمد بن الحسين بن طلاب الدمشقيان قالا: ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أبو معاوية عن هشام بن

ص: 24

عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس» وذكر الحديث.

• حدثنا إسحاق بن أحمد بن علي ثنا إبراهيم بن يوسف بن خالد ثنا ابن أبي الحواري ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم بن عمر. قال قال عمر: «من حرص على الإمارة لم يعدل فيها» .

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن خلف ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا ابن نمير ثنا الأعمش عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة عن بلال. قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوى مناكبنا وأقدامنا في الصلاة» .

• حدثنا أبو أحمد عبد الرحمن بن الحارث الغنوي ثنا أحمد بن القاسم المقرى ثنا جعفر بن محمد الدمشقي ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا عبد الله بن إدريس عن عبد الله بن سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرة. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق» .

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن الحسن بن غوث ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا وكيع ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن الوتر أو نسيه فليوتر إذا ذكر أو استيقظ» .

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا إبراهيم بن نائلة ح. وحدثنا أبو عمرو بن حمدان ثنا الحسن بن سفيان قالا: ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا عبد الله بن وهب عن يونس عن الزهري عن سالم قال: «كان أبي يقدم ضعفة أهله من المزدلفة إلى منى ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله» .

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا إسحاق بن أبي حسان ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أبو خزيمة بكار بن شعيب عن ابن ابى حازم عن ابيه عن سهل ابن سعد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصحب أحدا لا يرى لك من الفضل كما ترى له» .

ص: 25

• حدثنا أبو دلف عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن دلف العجلي ثنا يعقوب بن عبد الرحمن الدعاء ثنا جعفر بن عاصم ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا عباس بن الوليد قال حدثني علي بن المديني عن حماد بن زيد عن مالك بن دينار عن الحسن عن كعب بن عجرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا إماءكم على إناءكم فأن لها آجالا كآجال الناس» .

• حدثنا محمد بن إبراهيم بن علي ثنا محمد بن الحسن بن عون ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا وكيع ثنا أبان بن عبد الله البجلي عن أبي بكر بن حفص عن ابن عمر «أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها ولا بعدها وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله» .

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن الحسين ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا وكيع ثنا داود بن سوار المزني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا زوج أحدكم خادمه عبدا فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة فانه عورة» .

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن الحسن ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا سعيد ابن السائب - ذاك الطائفي - عن داود بن أبي عاصم الثقفي قال: سألت ابن عمر عن الصلاة بمنى فقال: هل سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم.

وآمنت به قال «فإنه كان يصلي بمنى ركعتين» .

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع عن ابن أبي ذيب عن عثمان بن عبد الله عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي في السفر قبلها ولا بعدها» .

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا خليل بن مرة عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يوتر فليس منا» .

• حدثنا إسحاق بن أحمد ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد بن أبي الحواري

ص: 26

ثنا يحيى بن صالح الوحاظي ثنا عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث فى روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته» .

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا عبد الله بن أبي داود ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا شيخ بوادي القرى يقال له سليم بن مطير عن أبيه قال حججت بخالة لي ورفيقتها فلما كنا بالسويداء نمت وانتبهت فإذا عندها رجل يطلب دواء يطلب الحضض فسمعته يقول حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقال غيره: حدثني أبو الزوائد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا هذا العطاء ما كان عطاء، فاذا تجاحفت قريش على الملك وكان رشوة عن دين أحدكم فدعوه» .

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن رشدين ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا الوليد ثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا قليل من أذى الجبار» .

• حدثنا محمد بن المظفر ثنا محمد بن محمد بن سليمان حدثني أحمد بن أبي الحواري - وأخرج إلي كتابه - ثنا أحمد بن حنبل ثنا محمد بن جعفر ثنا سفيان عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة. قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث فذكره» .

• حدثنا أبو أحمد الغطريفي ثنا عبد الله بن يزيد بن أبان الدقيقي ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا يونس بن محمد ثنا جرير بن حازم عن معمر عن الزهري عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة» .

• حدثنا محمد بن علي ثنا محمد بن عون الوحيدي ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا وكيع ثنا سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة يوم العيد مروان بن الحكم فقام إليه رجل فقال

ص: 27

الصلاة قبل الخطبة، فقال: ترك ما هنالك بالخلاف. قال فقال أبو سعيد الخدري أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» .

• حدثنا محمد بن علي ثنا محمد بن عون ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا وكيع ثنا مرة ويزيد بن ابراهيم الدستوى عن ابن سيرين عن ابن عباس قال:

«سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لا يخاف إلا الله - يصلي ركعتين» .

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا أسامة بن زيد. قال: سألت طاووسا عن السبحة في السفر والحسن بن مسلم بن بنان جالسا فقال الحسن حدثنا طاوس - وهو يسمع - أن ابن عباس قال «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة السفر والحضر فكان يصلى فى الحضر قبلها وبعدها وصلى في السفر قبلها وبعدها» .

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف ركعتي الفجر» .

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد بن عمر ثنا الحسين بن عبد الله بن شاكر ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا عبد القدوس أبو المغيرة ثنا ابن ثوبان حدثني عطاء - يعني ابن قرة - عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة «أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما لا يكاد يفارقه ولا يعرف له كبير عمل وكان الآخر لا يكاد يرى ولا يعرف له كبير عمل. فقال الذي لا يكاد يفارقه يا رسول الله بأبي وأمي ذهب المصلون بالأجر - بأجر الصلاة - والصائمون باجر الصيام فذكر أعمال الخير فقال ويحك ماذا عندك قال لا والذي بعثك بالحق إلا حب الله ورسوله. قال: لك ما احتسبت، وأنت مع من أحببت. قال:

وأما الآخر فمات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهو في أصحابه هل علمتم أن الله قد أدخل فلانا الجنة؟ فعجب القوم أنه كان لا يكاد يرى. فقام بعضهم الى

ص: 28

أهله فسأل امرأته عن عمله قالت: ما كان له كبير عمل إلا ما قد رأيتم، غير أنه قد كانت له خصلة. قالوا: وما هي؟ قالت: ما كان يسمع المؤذن من ليل ولانهار ولا على أي حال إلا كان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، مثل قوله قربها وأكفر من أباها قالت. فإذا قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله أقر بها وأكفر من أبى. قال الرجل دخل الجنة فأقبل حتى إذا كان من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه حيث يسمعه الصوت نادى النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته: أتيت أهل فلان فسألتهم عن عمله فأخبروني بكذا وكذا قال الرجل أشهد أنك رسول الله. قال وأنا أشهد أني رسول الله».

• حدثنا محمد بن علي ثنا محمد بن الحسن ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا وكيع ثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال:

«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فصلى بالناس ركعتين» .

• حدثنا محمد بن علي ثنا محمد بن الحسن ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا وكيع ثنا سعيد وسفيان عن معين بن خالد عن زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية» .

• حدثنا محمد بن علي بن الحسن ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا وكيع ثنا سفيان ومسعد عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى العيدين بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية» .

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا شعبة عن إبراهيم بن محمد ابن المنتشر عن أبيه. قال: سمعت عائشة تقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل الفجر على كل حال» .

• حدثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا شعبة. قال سمعت شيخا بواسط يقال له شعيب أو أبو شعيب. قال سمعت طاوسا يقول: سئل ابن عمر عن

ص: 29

الركعتين بعد العصر فقال: ما رأيت - أو ما رأينا - أحدا يصليهما قال: وسئل عن الركعتين قبل النوم فلم ينه عنهما».

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا مسعد عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال: رأى ابن عمر قوما اضطجعوا بعد ركعتي الفجر فأرسل إليهم فنهاهم فقالوا ذلك السنة قال فارجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة.

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا شعبة عن هشام عن أبان ابن أبي عياش عن إبراهيم بن أبي علقمة عن عبد الله قال: بت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأوتر فقنت في الوتر قبل الركعة قال ثم أرسلت أمي من القائلة فأخبرتني بذلك.

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا سفيان عن هشام عن ابن سيرين عن عائشة قالت: «أسر رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في الركعتين في الفجر وكان يقرأ فيهما قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» .

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا سفيان ومسعد عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن عائشة قالت: «ما كنت ألقى النبي صلى الله عليه وسلم من آخر السحر إلا وهو نائم عندي - تعني بعد الوتر» .

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع ثنا سيفان عن الأعمش عن تميم بن سلمة من عروة عن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظني فيقول قومي فأوتري» .

• حدثنا محمد ثنا محمد ثنا أحمد ثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم فلينم على فراشه فإن أحدكم لعله يذهب فيسلب نفسه» .

• حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عمر بن إسحاق الكلوذاني قالا: ثنا عبد الله ابن أبي داود ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا مروان بن محمد ثنا سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم الإدام الخل»

ص: 30

• حدثنا محمد بن عمر بن إسحاق ثنا عبد الله بن أبي داود ح. وحدثنا محمد بن إبراهيم ثنا أحمد بن الحسين بن طلاب ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا مروان بن محمد عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بيت لا تمر فيه جياع أهله» .

• حدثنا إسحاق بن أحمد ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا مروان عن يزيد بن السمط عن الوضين بن عطاء عن يزيد بن مرثد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وكما لا يخشى من الشوك العنب لذلك لا ينزل الأبرار منازل الفجار فاسلكوا أي طريق شئتم فأي طريق سلكتم وردتم على أهله» . رواه غير أحمد فقال عن يزيد عن أبي ذر

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر - إملاء - ثنا إسحاق بن أبي حسان ثنا أحمد بن ابى الحوارى ثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة عن معاذ بن جبل قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته وإن يهلك فيما يهوى يا معاذ إن المؤمن لا تسكن روعته ولا اضطرابه حتى يخلف الجسر وراء ظهره، فالقرآن دليله والخوف محجته والشوق مطيته والصلاة كهفه والصوم جنته والصدقة فكاكه والصدق أميره والحياء وزيره وربه من وراء ذلك بالمرصاد. يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه. يا معاذ إني أحب لك ما أحب لنفسي وأنهيت إليك ما أنهى إلي جبريل فلا الفيتك تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما أتاه الله منك» .

• حدثنا محمد بن حميد ثنا القاسم بن زكر ثنا أبو حاتم ثنا أحمد بن أبي الحوارى ثنا ابن عبد القدوس بن الحجاج ثنا أبو ثوبان عن الحسن بن الحر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وأبي السائب مولى هشام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداج.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أبو زرعة الدمشقى ثنا على بن عياش ثنا أبو ثوبان عن الحسن بن الحر مثله

ص: 31

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن عتاب الزفتى الدمشقى ثنا احمد ابن أبي الحواري ثنا مروان بن محمد ثنا عيسى بن يونس عن عبد الله الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال ما سموا الأبرار حتى بر الأبناء الآباء والآباء الأبناء.

• أخبرنا علي بن يعقوب بن أبي العقب الدمشقي - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ثنا جعفر بن أحمد بن عاصم ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أبو أحمد القاص أنبأنا موسى الخياط عن الأعمش قال كان شاب من شباب أهل الكوفة من التابعين ذبل من غير سقم وانحنى من غير كبر وقرحت الجبهة من السجود وصار للدموع في خده أخدود قال: فدخلت عليه والدته ليلة من الليالي فقالت له يا بني إن القليل من العمل الدائم لا يمل خير من الكثير يمل وإني أتخوف أن يكون الله قد رآك على وجه من وجوه عبادته ثم يراك بعد هذه قد مللت وفترت فيمقتك، يا بني ما لي أرى الناس يفرحون وأراك حزينا لا تفرح وأراهم يهدءون وينامون وأراك صائما لا تأكل ولا تشرب؟ قال لها يا والدتى أدنى منى جزيت عنى الحسنى. إني تفكرت في الموت فرأيت الموت لا يترك الكبير ولا يرحم الصغير، يا أماه جزيت عني الحسنى إن لابنك غدا في القبر نوما طويلا وإن لابنك غدا في البرزخ لحبسا طويلا وإن لابنك غدا في البلى ذلا كثيرا يا أمتاه إني أمرت بالسباق وغاية السباق الجنة إن بلغت الغاية فلحت وإن قصرت عن الغاية هلكت. يا أمتاه إني في طلب منزل عسى أن ينفعني وينفعك يوما.

قال فانصرفت فرقدت فلما أصبحت أتت عبد الله بن مسعود صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا صاحب رسول الله إن لي ابنا قد ذبل من غير سقم وانحنى من غير كبر وقرحت جبهته من السجود وصارت دموعه في خده أخدودا يا صاحب رسول الله إن الناس ينامون وابني لا يهدأ ولا ينام والناس يأكلون وابني صائم لا يأكل ولا يشرب ويفرح الناس ويضحكون وابني حزين لا يفرح ولا يضحك وأنت رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد جربت من الأمور ما لم نجرب ورأيت منها ما لم نر. فهل لك أن تمشي

ص: 32

معي لعلك ترى أثر ذلك عليه. قال: فمشى معها فلما دخل إلى ابنها نظر إلى نور العبادة يتقد بين عينيه فقال له عبد الله بن مسعود: بأبي أنت وأمي يا خاطب الحور العين، بأبي أنت وأمي يا طالب دار السلام بأبي أنت وأمى يا من قد اشتاق إلى أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال فحدثني قال شعرت يا حبيبي أنه من دخل النار جريحا لا يداوى جرحه أبدا، وشعرت يا حبيبي أنه من دخل النار كسيرا لا يجبر كسره أبدا حبيبي إن أهل النار منها يأكلون ومنها يشربون وفي أدراكها يتقلبون وبمقامع الحديد الى قعرها يضربون ويردون. قال: فصفق الفتى صعقة خر مغشيا عليه قال: فأتت أمه فوضعت يدها على رأسه ثم قالت: يا صاحب رسول الله إنما جئت بك الى ابنى لتعظه. ألم أجئ بك لتقتله قال: فصب على وجهه من الماء فأفاق. قال عبد الله بن مسعود: يا هذا إن لنفسك عليك حقا ولبدنك عليك حقا. فأعط كل ذي حق حقه قال: يا صاحب رسول الله. ما رأيت الخيل وهي في الميدان؟ قال بلى قد رأيتها. قال: فأيها رأيت المبادر؟ قال المضمر المخف قال فأنا أحب أن أضمر نفسي لعل الله يبلغ بي غاية المتقين.

فقال له وفقك الله وأرشدك.

أخبرنا علي بن يعقوب في كتابه وحدثني عنه عثمان قال ثنا جعفر بن أحمد ثنا أحمد ابن أبى الحوارى ثنا أبو عبد الله الهمداني عن عبد الله بن وهب قال: إن في الجنة غرفة يقال لها العالية فيها حوراء يقال لها الغنجة، إذا أراد ولى الله يأتيها أتاها جبريل فناداها فقامت على أطراف أصابعها معها أربعة آلاف وصيفة يحملن ذيلها وذوائبها يبخرنها بمجامر بلا نار. قال أبو عبد الله فغشي على ابن وهب فحمل فأدخل منزله فلم يزل يعودونه حتى مات رحمه الله.

‌أبو يزيد البسطامي

قال الشيخ الحافظ أبو نعيم رحمه الله ومنهم التائه الوحيد الهائم الفريد البسطامي أبو يزيد تاه فغاب. وهام فآب. غاب عن المحدودات. إلى موجد المحسوسات والمعدومات. فاروق الخلق وافق الحق. فأيد بأخلاء السر وأمد

ص: 33

باستيلاء البر إشاراته هائنة وعباراته كامنة. لعارفيها ضامنة ولمنكريها فاتنة

• حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان ثنا عبد الله بن أحمد بن موسى الصرفى ثنا أحمد بن محمد بن حابان ثنا عمر البسطامي عن أبي موسى عن أبي يزيد البسطامي قال: ليس العجب من حبي لك وأنا عبد فقير، إنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت يعقوب بن إسحاق يقول سمعت إبراهيم الهروي يقول سمعت أبا يزيد البسطامي يقول: غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء: توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه، فلما انتهيت رأيت ذكره سبق ذكري ومعرفته سبقت معرفتي ومحبته أقدم من محبتي وطلبه لي أولا حتى طلبته.

• حدثنا عبد الواحد بن بكر قال قال الحسن بن إبراهيم الدامغانى ثنا موسى بن عيسى قال سمعت أبي يقول سمعت أبا يزيد يقول: اللهم إنك خلقت هذا الخلق بغير علمهم وقلدتهم أمانة من غير إرادتهم فإن لم تعنهم فمن يعينهم.

• حدثنا عمر بن عثمان ثنا عبد الله بن أحمد بن موسى ثنا أحمد بن محمد بن جابان ثنا عمر البسطامي عن أبي موسى عن أبي يزيد قال: إن لله خواص من عباده لو حجبهم في الجنة عن رؤيته لاستغاثوا بالخروج من الجنة كما يستغيث أهل النار بالخروج من النار.

• سمعت الفضل بن جعفر يقول سمعت محمد بن منصور يقول قال عبيد بن عبد القاهر: جلس قوم الى أبى يزيد فأطرق مليا ثم رفع رأسه إليهم فقال:

منذ أجلستم إلي هو ذا أجيل فكري ألتمس حبة عفنة اخرجها إليكم تطيقون حملها فم أجد قال: وقال أبو يزيد غبت عن الله ثلاثين سنة فكانت عنه ذكري إياه فلما خنست عنه وجدته فى كل حال فقال لى رجل مالك لا تسافر قال لأن صاحبي لا يسافر وأنا معه مقيم فعارضه السائل بمثل فقال: إن الماء القائم قد كره الوضوء منه لم يروا بماء البحر بأسا هو الطهور ماؤه الحل ميتته ثم قال: قد ترى الأنهار تجري لها روي وخرير حتى إذا دنت من البحر

ص: 34

وامتزجت به سكن خريرها وحدتها ولم يحس بها ماء البحر ولا ظهر فيه زيادة ولا إن خرجت منه استبان فيه نقص.

• حدثنا عمر بن أحمد ثنا عبد الله بن أحمد ثنا أحمد بن محمد ثنا عثمان عن أبي موسى قال قال أبو يزيد: لم أزل ثلاثين سنة كلما أردت ان ذكر الله أتمضمض وأغسل لساني إجلالا لله أن اذكره.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا أبو الحسن الرازى قال سمعت يوسف ابن الحسين يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول قال أبو يزيد البسطامي لم أزل أجول في ميدان التوحيد حتى خرجت إلى دار التفريد ثم لم أزل أجول في دار التفريد حتى خرجت إلى الديمومية فشربت بكأسه شربة لا أظمأن من ذكره بعدها أبدا. قال يوسف: وكنت أسمع هذا الكلام على غير هذا اللفظ من ذي النون وفيه زيادة كان ذو النون لا يبديها إلا في وقت نشاطه وغلبة حاله عليه فيقول ذلك ويقول بعده: لك الجلال والجمال ولك الكمال سبحانك سبحانك قد ستك ألسن التماديح وأفواه التسابيح أنت أنت أزلي أزلي. حبه لي أزلي.

• حدثنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران ثنا منصور بن عبد الله قال سمعت أبا عمران موسى بن عيسى يقول سمعت أبي يقول قال أبو يزيد: غبت عن الله ثلاثين سنة وكانت غيبتي عنه ذكري إياه فلما خنست عنه وجدته في كل حال حتى كأنه انا.

• حدثنا أحمد بن أبى عمران ثنا موسى ثنا منصور قال جاء رجل إلى أبي يزيد فقال: أوصني. فقال له: انظر إلى السماء فنظر صاحبه إلى السماء فقال له أبو يزيد: أتدري من خلق هذا؟ قال الله. قال أبو يزيد: إن من خلقها لمطلع عليك حيث كنت فاحذره.

• حدثنا احمد ثنا منصور ثنا موسى قال جاء رجل إلى أبي يزيد فقال بلغني أنك تمر في الهواء. قال: وأي أعجوبة في هذه؟ طير يأكل الميتة يمر في الهواء والمؤمن أشرف من الطير؟ قال ووجه اليه احمد بن خرب حصيرا وكتب معه إليه صل عليه بالليل. فكتب أبو يزيد إليه: إني جمعت عبادات أهل السموات

ص: 35

والأرضين السبع فجعلتها في مخدة ووضعتها تحت خدي.

• سمعت الفضل بن جعفر يقول سمعت محمد بن منصور سمعت عبيد يقول قال أبو يزيد: طلقت الدنيا ثلاثا ثلاثا بتاتا لا رجعة فيها وصرت إلى ربى وحدى فناديته بالاستغاثة إليه أدعوك دعاء لم يبق له غيرك. فلما عرف صدق الدعاء من قلبي والإياس من نفسي كان أول ما ورد علي من إجابة هذا الدعاء أن أنساني نفسي بالكلية ونصب الخلائق بين يدي مع إعراضي عنهم.

• حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان ثنا عبيد الله بن أحمد ثنا أحمد بن محمد بن جابان ثنا عمر البسطامي عن أبي موسى عن أبي يزيد قال: إن في الطاعات من الآفات ما لا تحتاجون إلى أن تطلبوا المعاصي.

• حدثنا عمر ثنا عبيد ثنا أحمد ثنا عمر عن أبي موسى. قال قال أبو يزيد:

ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر.

• أخبرنا محمد بن الحسين قال سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا عمران موسى بن عيسى يقول سمعت أبي يقول قال أبو يزيد: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد علي من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لتعبت، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد. وقال أبو يزيد: لا يعرف نفسه من صحبته شهوته. وقال أبو يزيد: الجنة لا خطر لها عند المحبين وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم.

وسمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا الحسن المروزي يقول سمعت امرأة أبي يزيد البسطامي تقول سمعت أبا يزيد يقول: عالجت كل شيء فما عالجت أصعب من معالجة نفسي وما شيء أهون علي منها.

سمعت أبا الحسن يقول سمعت أبا الحسن المروزي يقول سمعت امرأة أبي يزيد تقول سمعت أبا يزيد تقول: دعوت نفسى الى الله فأبت علي واستصعبت فتركتها ومضيت إلى الله.

• حدثنا عمر بن أحمد ثنا عبيد الله بن أحمد ثنا أحمد بن محمد ثنا عمر عن أبي موسى عن أبي يزيد قال: أشد المحجوبين عن الله ثلاثة بثلاثة فأولهم الزاهد

ص: 36

بزهده، والثاني العابد بعبادته، والثالث العالم بعلمه، ثم قال مسكين الزاهد قد ألبس زهده وجرى به في ميدان الزهاد ولو علم المسكين أن الدنيا كلها سماها الله قليلا فكم ملك من القليل وفي كم زهد مما ملك؟ ثم قال: إن الزاهد هو الذي يلحظ إليه بلحظة فيبقى عنده ثم لا ترجع نظرته إلى غيره ولا إلى نفسه. وأما العابد فهو الذي يرى منة الله عليه في العبادة أكثر من العبادة، حتى تعرف عبادته في المنة. وأما العالم فلو علم أن جميع ما أبدى الله من العلم سطر واحد من اللوح المحفوظ، فكم علم هذا العالم من ذلك السطر وكم عمل فيما علم؟

أخبرنا محمد بن الحسين قال سمعت أحمد بن على سمعت يعقوب سمعت الحسن ابن علي يقول قال أبو يزيد: المعرفة في ذات الحق جهل، والعلم في حقيقة المعرفة جناية، والإشارة من المشير شرك في الإشارة. وقال: العارف همه ما يأمله والزاهد همه ما يأكله. وقال طوبى لمن كان همه هما واحدا، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه، وسمعت أذناه. ومن عرف الله فإنه يزهد في كل شيء يشغله عنه.

• حدثنا أحمد بن أبي عمران ثنا منصور بن عبد الله قال سمعت أبا عمران موسى بن عيسى يقول سمعت أبي يقول قال أبو يزيد أو سئل ما علامة العارف - 9 - فقال: {(إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)} الآية وقال: عجبت لمن عرف الله كيف يعبده. وقيل له: إنك من الأبدال السبعة الذين هم أوتاد الأرض فقال أنا كل السبعة. وسئل متى يبلغ الرجل حد الرجال في هذا الأمر؟ قال: إذا عرف عيوب نفسه فحينئذ يبلغ مبلغ الرجال. وقال: إن لله عبادا لو حجبوا عنه طرفة عين ثم أعطوا الجنان كلها ما كان لهم إليها حاجة وكيف يركنون إلى الدنيا وزينتها.

• سمعت الفضل بن جعفر يقول سمعت الحسن يقول سمعت عبيد بن عبد القاهر يقول قال أبو يزيد البسطامي: إن الله تعالى ليرزق عبده الحلاوة فمن أجل فرحة يمنعه من حقائق القرب. وسئل عن درجة العارف، فقال: ليس هناك درجة بل أعلى فائدة العارف وجوده ربه. وقال عرفت الله بالله وعرفت ما دون الله بنور الله. وسئل بماذا يستعان على العبادة؟ فقال بالله إن كنت تعرفه وقال أدل عليك بك وبك أصل إليك. وقال نسيان النفس ذكر بارئ النسم.

ص: 37

وقال من تكلم في الأزل يحتاج أن يكون معه سراج الأزل. وقال ما وجد الواجدون شيئا من الحضور إلا كانوا غائبين في حضورهم وكنت أنا المخبر عنهم في حضورهم.

• حدثنا عمر بن أحمد ثنا عبد الله بن أحمد ثنا أحمد بن محمد ثنا عمر عن أبي موسى قال سمعت أبا يزيد يقول يوما: ما ذكروه إلا بالغفلة، ولا خدموه إلا بالفترة. قال وسمعوه يوما وهو يقول: لا تقطعني بك عنك. وسمعوه يوما وهو يقول: أكثر الناس إشارة أبعدهم منه. وسأله رجل من أصحب؟ فقال:

من لا يحتاج أن تكتمه شيئا مما يعلمه الله منك. وسمعوه يوما يقول: أقربهم من الله أوسعهم على خلقه. وسمعوه يوما وهو يقول: لا يحمل عطاياه إلا مطاياه المذللة المروضة. وسأله رجل من أصاحب؟ فقال: من إذا مرضت عادك وإذا أذنبت تاب عليك.

• حدثنا أحمد بن أبي عمران ثنا منصور بن عبد الله قال سمعت موسى يقول سمعت أبي يقول: بينا أنا قاعد خلف أبي يزيد يوما إذ شهق شهقة فرأيت أن شهقته تخرق الحجب بينه وبين الله، فقلت: يا أبا يزيد رأيت عجبا.

فقال يا مسكين وما ذلك العجب؟ فقلت رأيت شهقتك تخرق الحجب حتى وصلت إلى الله تعالى. فقال يا مسكين إن الشهقة الجيدة هي التي إذا بدت لم يكن لها حجاب تخرقه. وسأله رجل فقال: يا أبا يزيد العارف يحجبه شيء عن ربه؟ فقال: يا مسكين من كان هو حجابه أي شيء يحجبه.

• أخبرنا أبو عمر بن حمدان قال وجدت بخط أبي سمعت ابا عثمان سعيد ابن إسماعيل يقول قال أبو يزيد. من سمع الكلام ليتكلم مع الناس رزقه الله فهما يكلم به الناس، ومن سمعه ليعامل الله رزقه الله فهما يناجي به ربه.

• أخبرنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت أبا نصر الهروي يقول سمعت يعقوب بن إسحاق يقول سمعت إبراهيم الهروي يقول سمعت أبا يزيد يقول: هذا فرحي بك وأنا أخافك فكيف فرحي بك إذا أمنتك. قال وسمعت أبا يزيد يقول: رب أفهمني عنك فإني لا أفهم عنك إلا بك. قال أبو يزيد

ص: 38

كفر أهل الهمة أسلم من إيمان أهل المنة وقال ليت الخلق عرفوني فكفاهم من ذلك معرفتهم بأنفسهم. قال وسئل أبو يزيد بم نالوا المعرفة؟ قال بتضييع ما لهم والوقوف على ماله. وقال اطلع الله على قلوب أوليائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفا فشغلهم بالعبادة.

• أخبرنا محمد بن الحسين قال سمعت منصورا يقول سمعت يعقوب بن إسحاق يقول سمعت إبراهيم الهروي يقول سمعت أبا يزيد البسطامي وسئل ما علامة العارف؟ قال: ألا يفتر من ذكره ولا يمل من حقه ولا يستأنس بغيره. وقال إن الله تعالى أمر العباد ونهاهم فأطاعوه فخلع عليهم خلعة من خلعه فاشتغلوا بالخلع عنه وإني لا أريد من الله إلا الله.

• سمعت الفضل بن جعفر يقول سمعت محمد بن منصور يقول سمعت عبيد ابن عبد القاهر يقول قال أبو يزيد: العارف فوق ما يقول والعالم دون ما يقول والعارف ما فرح بشيء قط ولا خاف من شيء قط، والعارف يلاحظ ربه والعالم يلاحظ نفسه بعلمه والعابد يعبده بالحال والعارف يعبده في الحال، وثواب العارف من ربه هو وكمال العارف احترافه فيه له. وقال رجل لأبي يزيد: علمني اسم الله الأعظم. قال ليس له حد محدود إنما هو فراغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فارفع إلي أي اسم شئت فإنك تصير به الى المشرق والمغرب ثم تجئ وتصف.

• حدثنا أحمد بن أبي عمران قال سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا عمران موسى يقول سمعت عمر البسطامي يقول سمعت أبي يقول قال أبو يزيد:

انظر أن يأتي عليك ساعة لا ترى في السماء غيره ولا في الأرض غيرك. وقال إن الصادق من الزاهدين إذا رأيته هبته وإذا فارقته هان عليك أمره. والعارف إذا رأيته هبته وإذا فارقته هبته. قال وسمعت أبا يزيد يقول: لأن يقال لي لم لا تفعل أحب إلي من أن يقال لي لم فعلت. وقال الذي يمشي على الماء ليس بعجب لله خلق كثير يمشون على الماء ليس لهم عند الله قيمة. وقال الجوع سحاب فإذا جاع العبد مطر القلب الحكمة. وسئل عن قوله {(إنا لله وإنا إليه} 1

ص: 39

{راجعون)} قال إنا لله إقرار لله بالملك، وإنا إليه راجعون إقرار على اليقين بالملك.

-

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا عمران يقول سمعت عمر البسطامي يقول سمعت أبا يزيد يقول: من لم ينظر إلى شاهد بعين الاضطرار وإلى أوقاتي بعين الاغترار وإلى أحوالي بعين الاستدراج وإلى كلامي بعين الافتراء وإلى عباراتي بعين الاجتراء وإلى نفسي بعين الازدراء فقد أخطأ النظر في.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا موسى بن عيسى يقول سمعت عمر يقول سمعت أبي يقول سمعت أبا يزيد يقول لو: صفت لى تهليلة ما باليت بعدها بشيء.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت منصورا يقول سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول سمعت علي بن عبيد الهمدانى يقول كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته. فكتب أبو يزيد في جوابه: سكرت وما شربت من الدرر وغيري قد شرب بحور السموات والأرض وما روي بعد ولسانه مطروح من العطش ويقول هل من مزيد.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت علي بن عبد الله يقول سمعت تيمور البسطامي يقول سمعت موسى بن عيسى يقول قال أبي قال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرفع فى الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهى وحفظ الحدود وأداء الشريعة. وقال إذا وقفت بين يدي الله فاجعل نفسك كأنك مجوسي تريد أن تقطع الزنار بين يديه. قال وحكى عمي عن أبيه أنه اجتمع عليه الناس فقال يا رب كنت سألتك الله ألا تحجبهم بك عنك فحجبتهم بي عنك: وحكي عنه أنه قال نوديت في سري فقيل لي خزائننا مملوءة من الخدمة فإن أردتنا فعليك بالذلة والافتقار.

• سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الحلواني - بطرتيب - يقول سمعت يعقوب بن إسحاق الهروي يقول سمعت إبراهيم الهروي وذكر عن أبي يزيد قال: أولياء الله مخدرون معه فى حجال الأنس له لا يراهم أحد في

ص: 40

الدنيا والآخرة إلا من كان محرما لهم. وأما غيرهم فلا إلا منتقبين من وراء حجبهم. قال وقرئ عند أبي يزيد يوما {(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا)} قال فهاج ثم قال: من كان عنده فلا يحتاج أن يحشر لأنه جليسه أبدا. وقيل لأبي يزيد: أيصل العبد إليه في ساعة واحدة؟ قال نعم ولكن يرد بالفائدة والربح على قدر السفر.

• قال الشيخ رحمه الله تعالى: اقتصرنا على هذا القدر من كلامه لما فيه من الإشارات العميقة التي لا يصل إلى الوقوف على مودعها إلا من غاص في بحره وشرب من صافي أمواج صدره وفهم نافثات سره المتولدة المنتشرة من سكره.

فأما الرواية عنه فغير محفوظة غير أني رأيت من ورائه شيخا واعظا لقيته ببغداد وبالبصرة يعرف

بأبي الفتح بن الحمصي أحمد بن الحسين بن محمد ابن سهل فذكر أن علي بن جعفر البغدادي حدثهم قال قال أبو موسى الدؤلي ثنا أبو يزيد البسطامي ثنا أبو عبد الرحمن السندى عن عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤذك به الله، إن رزق الله لا يجره إليك حرص حريص، ولا يرده كره كاره، وإن الله تعالى بحكمه وجلاله جعل الفرح والروح في الرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط» .

قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله: وهذا الحديث مما ركب على أبي يزيد والحمل فيه على شيخنا أبي الفتح فقد عثر منه على غير حديث ركبه، وحدثنا بهذا الحديث القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم ثنا محمد بن الحسين بن حفص ثنا علي بن محمد بن مروان وهو السرى ثنا أبي ثنا عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن من ضعف اليقين» . فذكر مثله.

قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله! أما شموس أهل المشرق وأعلامهم فقد عني بذكرهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري في كتابه المترجم

ص: 41

طبقات الصوفية وأحببت إيداع أسماء جماعة من مشهوريهم كتابى على الاختصار دون الأكثار.

‌أحمد بن الخضر

فمنهم أحمد بن الخضر المعروف بابن خضرويه البلخي شيخ خراسان له الفتوة المشهورة والتجريد الحميد، كانت قرينته المكتنية بأم علي من بنات الكبار حللت زوجها أحمد من صداقها على أن يزوجها أبا يزيد البسطامي فحملها إلى أبي يزيد فدخلت عليه وقعدت بين يديه مسفرة عن وجهها فقال لها أحمد:

رأيت منك عجبا أسفرت عن وجهك بين يدي أبي يزيد. فقالت: لأني لما نظرت إليه فقدت حظوظ نفسي وكلما نظرت إليك رجعت إلى حظوظ نفسي. فلما خرج قال لأبي يزيد أوصني قال تعلم الفتوة من زوجتك.

• وحكى لي أبو عبد الرحمن السلمي عن أحمد قال: من أحب أن يكون الله معه في جميع الأحوال فليلزم الصدق فإن الله مع الصادقين.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت محمد بن حامد يقول كنت جالسا عند أحمد بن خضرويه وهو في النزع وكان قد أتى عليه خمس وتسعون سنة فسئل عن مسألة فدمعت عيناه وقال: يا بني باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة هو ذا يفتح لي الساعة لا أدري أيفتح لى بالسعادة أو بالشقاوة، أنى لي أوان الجواب؟ وكان ركبه من الدين سبعمائة دينار وحضره غرماؤه فنظر إليهم فقال اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم فأدعني قال فدق داق الباب وقال هذه دار أحمد بن خضرويه؟ فقالوا نعم. قال أين غرماؤه؟ قال فخرجوا فقضى عنه ثم خرجت روحه.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن الخضر المروزي - ببغداد - ثنا محمد بن عبدة المروزي ثنا أبو معاذ النحوي ثنا أبو حمزة السكري عن رقبة بن مصقلة عن سالم بن بشير عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله

ص: 42

عليه وسلم قال: «تسحروا فإن السحور بركة» . تفرد به أبو حمزة السكري عن رقبة. قال وأحمد بن الخضر ذكره سليمان المروزي وذكر لي بعض الناس أنه البلخي وهو مروزي الدار.

‌إبراهيم الهروي

ومنهم أبو إسحاق إبراهيم الهروى يعرف بستنبه.

صحب إبراهيم بن أدهم من أقران أبي يزيد، من المذكورين بالتوكل والتجريد، توفي بقزوين وكان أهل هراة يعظمونه فحج متجردا فقيل إنه كان من دعائه في تلك الحجة أن قال: اللهم اقطع رزقي عن أموال أهل هراة وزهدهم في. فكان بعد ذلك تأتي عليه الأيام الكثيرة لا يطعم فيها شيئا، فإذا مر بسوق هراة قالوا هذا الفاعل ينفق في كل يوم وليلة كذا وكذا درهما.

• سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا القاسم النصرأباذي يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: بقي إبراهيم بن بستنبه في البادية ما أكل وما شرب وما اشتهى شيئا فقال عارضتني نفسي أن لي مع الله رتبة فلم أشعر أن كلمني رجل عن يميني فقال: يا إبراهيم ترائي الله في سرك؟ فنظرت إليه فقلت: قد كان ذلك قال: تدري كم لي هاهنا لم آكل ولم أشرب ولم أشته شيئا وأنا زمن مطروح؟ قلت الله أعلم. قال ثمانين يوما وأنا أستحي من الله أن يقع لي خاطرك، ولو أقسمت على الله أن يجعل هذا الشجر ذهبا لجعله، فكانت بركة رؤيته تنبيها لي ورجوعا إلى حالتي الأولى.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانئ يقول سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت محمد بن إبراهيم الهروي يقول قال أبي: من أراد ألا يحجب دعاؤه من السماء فليتعاهد من نفسه خمسة أشياء: أولا أن يكون أكله غلبة لا يأكل إلا ما لا بد منه، ولباسه غلبة لا يلبس إلا ما لا بد منه، ونومه غلبة لا ينام إلا ما لا بد منه، وكلامه غلبة لا يتكلم إلا ما لا بد منه. والخامس أن يكون متضرعا حافظا لإرادته دائما حافظا لأعضائه كلها. قال وطريق الجنة على ثلاثة

ص: 43

أشياء أولها أن يسكن قلبك بموعود الله، والثاني الرضا بقضاء الله، والثالث إخلاص العمل في جميع النوافل. قال ومن أراد أن يبلغ الشرف كل الشرف فليختر سبعا على سبع فأن الصالحين اختاروها حتى بلغوا أسنام الخير: أولها أن يختار الفقر على الغنى، والجوع على الشبع، والدون على المرتفع، والذل على العز، والتواضع على الكبر، والحزن على الفرح، والموت على الحياة. وقال كل من أصاب هذه الثلاثة فقد أصاب الشرف في الدنيا والآخرة: أولها فتح القلب - يعني يفتح الله قلبه فيجعله مأوى الذكر والمناجاة - والثاني غنمه البر فكل بر يرزقه الله يراه أنه غنيمة له فيتقبله بالمنة ويحفظه بالخوف ويتممه بالخشية ويسلمه بالإخلاص ويحفظه بالصبر، والثالث يجد الظفر على عدوه ليستقيم على طاعة الله حتى يرزقه الله الظفر على عدوه.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن جعفر ثنا محمد بن عبد الله حدثني محمد بن إبراهيم ثنا أبي ثنا عبد الرحيم بن حبيب عن إسماعيل بن يحيى التيمي عن سفيان عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدى إلى أمتي حديثا يقيم به سنة أو يثلم به بدعة فله الجنة» .

‌داود البلخي

قال الشيخ رحمه الله: ومن متقدمى شيوخ المشرق داود البلخى وإبراهيم ابن أدهم وشقيق البلخي وحاتم الأصم وقد تقدم ذكرهم غير داود البلخي فإنه لم ينشر عنه كانتشار إبراهيم وشقيق وحاتم ولم أر له ذكرا فيما وقع إلينا إلا ما

يحكي عنه إبراهيم بن أدهم أنه قال: أصحبت رجلا بين الكوفة ومكة فإذا صلى ركعتين تجوز فيهما وتكلم بكلام خفي بينه وبين نفسه فإذا عن يمينه جفنة ثريد وكوز ماء فأكل وأطعمني فذكرت ذلك لبعض المشايخ ممن له آيات وكرامات فقال لي يا بني ذاك أخي داود - ووصف من حاله ما أبكى من حوله - ومسكنه من وراء نهر بلخ بقرية يقال لها الصادر تفخر على البقاع بكينونة داود فيها. ثم قال: يا بني ماذا علمك وقال لك قلت علمني اسم الله الأعظم. فقال

ص: 44

الشيخ فما هو؟ قلت له إنه لكبير في قلبي أن أنطق به لساني فإني سألت الله مرة وإذا رجل يحجزني فقال سل تعطه، فراعني ذلك وفزعت منه فزعا شديدا فقال لا بأس ولا روع. أنا أخوك الخضر. فقال إن أخي داود علمك اسم الله الأعظم والله يثبت به قلبك ويقوي به ضعفك ويؤنس به وحشتك ويؤمن به روعتك ويجدد به رغبتك ويعينك، إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الرضا عن الله لباسا وحبه دثارا والأثرة شعارا فتفضل الله عليهم.

قال الشيخ رحمه الله: رأيت هذه الحكاية مروية عن محمد بن الفرحي عن عثمان بن عمار عن إبراهيم بن أدهم فأحببت أن لا أخلي الكتاب من ذكر داود رحمه الله.

‌أبو تراب النخشبي

• ومنهم أبو تراب النخشبي كان أحد أعلام المتوكلين وإمام المتجردين تأدب بحاتم الأصم وعلي الرازي المذبوح، له الرياضات المشهورة، والسياحات المذكورة، دخل أصبهان وسمع من عبد الله بن محمد بن زكريا ومحمد بن عبد الله ابن مصعب وصحبه جدي محمد بن يوسف بمكة وبالحجاز مدة مديدة، وكذلك صحبه أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل بالبادية.

• حدثنا أبو محمد بن حبان قال سمعت عبد الرزاق ابني يحكي عن أبي عبد الله محمد بن أحمد الكسائي المقرى قال: كنت جالسا عند ابن أبي عاصم وعنده قوم فقال له رجل: أيها العاصي بلغنا أن ثلاثة نفر كانوا بالبادية يقلبون الرمل فقال أحدهم: اللهم إنك قادر على أن تطعمنا خبيصا على لون هذا الرمل فأذاهم بأعرابي بيده طبق فسلم عليهم ووضع بين أيديهم طبقا عليه خبيص حار فقال ابن أبي عاصم: قد كان ذاك. قال أبو عبد الله وكان الثلاثة عثمان بن صخر الزاهد أستاذ أبي تراب [وأبو تراب] وأحمد بن عمرو بن أبي عاصم وكان هو الذي دعا.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ثنا أبو

ص: 45

تراب قال قال حاتم عن شقيق: لو أن رجلا عاش مائتي سنة لا يعرف هذه الأربعة أشياء لم ينج من النار إن شاء الله: أحدها معرفة الله، والثاني معرفة نفسه، والثالث معرفة أمر الله ونهيه، والرابع معرفة عدو الله وعدو نفسه. وتفسير معرفة الله أن تعرف بقلبك أن لا معطي غيره ولا مانع غيره ولا نافع غيره ولا ضار غيره، وأما معرفة النفس فأن تعرف نفسك أنك لا تضر ولا تنفع، ولا تستطيع شيئا من الأشياء. وخلاف النفس أن تكون متضرعا إليه. وأما معرفة أمر الله ونهيه فأن تعلم أمر الله عليك وأن رزقك على الله وأن تكون واثقا بالرزق مخلصا في العمل. وعلامة الإخلاص ألا يكون فيك خصلتان الطمع والثناء. وأما معرفة عدو الله فأن تعلم أن عدوا لك لا يقبل الله منك شيئا إلا بمحاربته والمحاربة في القلب أن يكون محاربا مجاهدا نافيا للعدو.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الله بن محمد قال قال أبو تراب: سمعت محمد ابن شقيق بن إبراهيم وحاتما الأصم يقولان: كان لشفيق وصيتان إذا جاء رجل يوصيه بالعربية ويقول: توحد الله بقلبك ولسانك وسعيك وأن تكون بالله أوثق مما في يديك. والثالث أن ترضى عن الله. وإذا جاءه أعجمي قال له: بني احفظ مني خصالا أول خصلة أن تحفظ الحق ولا يكون الحق حقا إلا بالإجماع فإذا اجتمع الناس فقالوا إن هذا الحق تعمل ذلك الحق برؤية الثواب مع الإياس من الخلق ولا يكون الباطل باطلا إلا بالإجماع فإذا اجتمعوا وقالوا إن هذا باطل تركت هذا الباطل خوفا من الله مع الإياس من المخلوقين فإذا كنت لا تعلم هذا الشيء حق أو باطل فينبغي لك أن تقف حتى تعلم فإنه حرام عليك دخوله إلا أن يكون معك بيان ذلك الشيء وعلمه.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت جدي إسماعيل بن عبيد يقول كان أبو تراب إذا سمع من أصحابه ما يكره زاد في اجتهاده ويجدد ثوبه ويقول بشرى دفعوا إلى ما دفعوا لأن الله تعالى يقول: {(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)} وكان يقول لأصحابه من لبس منكم مرقعة فقد سأل ومن قعد فى لخانقاه أو في المسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآن في المصحف أو كيما يسمع الناس فقد سأل.

ص: 46

• حدثنا أبو محمد بن حبان ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ثنا أبو تراب ثنا أحمد بن نصير النيسابوري عن أبي غسان الكوفي ثنا مسلمة بن جعفر قال قال وهب بن منبه: ثلاث من العلم ورع يحجزه عن معاصى الله وخلق يداري به الناس وحلم يرد به جهل الجاهل. وثلاث من كن فيه أصاب البر: سخاوة النفس والصبر على الأذى وطيب الكلام. وثلاث من مناقب الايمان الاستعداد للموت والرضى بالكفاف، والتفويض إلى الله في حالات الدنيا، وثلاث من مناقب الكفر الغفلة عن الله والطيرة والحسد وللحاسد ثلاث علامات يتملق إذا شهد ويغتاب إذا غاب ويشمت بالمصيبة.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت عبد الله بن علي يقول سمعت الرقي يقول سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول لقيت ستمائة شيخ ما رأيت فيهم مثل أربعة أولهم ابو تراب. وحكى بن الجلاء عن أبي تراب أنه قال: لا بد للأستاذ من أربعة أشياء تمييز فعل الله عن فعل الخلق ومعرفة مقامات العمال ومعرفة الطبائع والنفوس وتمييز الخلاف من الاختلاف.

• سمعت محمد بن الحسن بن موسى يقول سمعت أبا العباس محمد بن الحسن البغدادي يقول سمعت أبا عبد الله الفارسي يقول سمعت أبا الحسن الرازي يقول سمعت يوسف بن الحسين يقول سمعت أبا تراب يقول ما تمنت علي نفسي قط إلا مرة تمنت علي خبزا وبيضا وأنا في سفر فعدلت من الطريق إلى قرية فلما دخلتها وثب إلي رجل فتعلق بي وقال: إن هذا كان مع اللصوص فبطحوني وضربوني سبعين جلدة فوقف علينا رجل فصرخ هذا أبو تراب. فأقاموني واعتذروا إلي وأدخلني الرجل منزله وقدم إلي خبزا وبيضا فقلت: كلها بعد سبعين جلدة.

• سمعت أحمد بن إسحاق يقول سمعت أبا بكر بن أبي عاصم يقول سمعت با تراب الزاهد يقول سمعت حاتما الأصم يقول عن شقيق قال: اصحب الناس كما تصحب النار خذ منفعتها واحذر أن تحرقك.

• سمعت أحمد بن أبي عمران الهروي يقول سمعت إسماعيل بن نجيد

ص: 47

يقول كان أبو تراب يقول: بيني وبين الله عهد ألا أمد يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه.

• سمعت أبا سعيد القلانسي يقول سمعت الرقي يقول سمعت أبا عبد الله ابن الجلاء يقول كان أبو تراب يقول: لا أعلم شيئا أضر من المريدين من أسفارهم على متابعة قلوبهم ونفوسهم وما فسد من فسد من المريدين إلا بالأسفار الباطلة.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا الحسين القزويني يقول سمعت علي بن عبدك يقول سمعت أبا عمران الطبرستاني يقول سمعت ابن الفرحي يقول: رأيت حول أبي تراب من أصحابه مائة وعشرين ركوة قعودا حول الأساطين ما مات أحد منهم على الفقر إلا ابن الجلاء وأبو عبيدة السري.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا قال سمعت أبا تراب يقول قال حاتم الأصم: أنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل فأما معرفة القضاء فأن تعلم أن القضاء عدل منه فلا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تتهم أو تسخط، ولكن ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالاياس من المخلوقين وعلامة الإياس من المخلوقين أن ترفع القضاء منهم وإذا رفعت القضاء منهم فقد استرحت منهم واستراحوا منك وإذا لم ترفع القضاء منهم فانه لا بدلك أن تزين لهم وتصنع لهم. فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم ووقعوا فى امر عظيم ونضع عليهم الموت فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم وأما التوكل فطمأنينة القلب لموعود الله فإذا كنت مطمئنا بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبدا.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الله بن محمد قال سمعت أبا تراب يقول قال حاتم الأصم: لا أدري أيهما أشد على الناس العجب أو الرياء؟ العجب داخل فيك والرياء يدخل عليك. العجب أشد عليك من الرياء ومثلهما أن يكون كلبك في البيت كلب عقور وكلب آخر خارج البيت فأيها أشد عليك؟ الداخل

ص: 48

معك أو الخارج؟ أما الداخل فهو العجب وأما الخارج فهو الرياء. وقال:

حاتم: الحزن على وجهين حزن لك وحزن عليك، فأما الحزن الذي عليك فكل شيء فاتك من الدنيا فتحزن عليه فهذا عليك وكل شيء فاتك من الآخرة فتحزن عليه فهو لك. وتفسيره إذا كان عندك درهمان فسقط منك درهم حزنت عليه فهذا حزن الدنيا، وإذا خرجت منك زلة أو غيبة أو حسد أو شيء فما تحزن عليه وتندم فهو لك.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول سمعت أبا عثمان الآدمي يقول سمعت إبراهيم الخواص يقول حدثني أخ لى كان يصحب أبا تراب أن أبا تراب نظر إلى صوفى مديده إلى قشور البطيخ فقال:

إنك لا يصلح لك التصوف، الزم السوق.

• سمعت أبا الفضل أحمد بن موسى الصارم ومحمد بن الحسين يقولان سمعنا منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا على الروزبادى يقول سمعت ابن الجلاء يقول سمعت أبا تراب النخشبي يقول: إذا ألفت القلوب الأعراض صحبتها الوقيعة في الأولياء.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول وحكى عن أبي عبد الله بن الجلاء قال: دخل أبو تراب مكة فرأيته طيب النفس فقلت له أين أكلت أيها الأستاذ؟ فقال: جئت بفضولك أكلت أكلة بالبصرة وأكلة بالنباج وأكلة هاهنا. وقال أبو عمرو الإصطخري: رأيت أبا تراب ميتا بالبادية قائما منتصبا لا يمسكه شيء

• سمعت محمد بن الحسن يقول سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت أبا عثمان الآدمي يقول سمعت إبراهيم الخواص يقول: مات أبو تراب بين مكة والمدينة نهشته السباع.

• سمعت أبي يقول حكي لي عن أبي عبد الله بن الجلاء قال سمعت أبا تراب قال قال حاتم الأصم: مثل الدنيا كمثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع قال وقال حاتم: ما من صباح إلا ويقول لي الشيطان: ما تأكل ما تلبس أين

ص: 49

تسكن؟ فأقول له آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر. وقال حاتم قال شقيق بن إبراهيم يوما لرجل: أيهما أحب إليك أن يكون لك على الملي أو يكون للملي عليك؟ فقال: بل يكون لي على الملي. فقال: إذا كنت فى الشره فأجرك على الله، وإذا كنت في النعمة يكون الشكر لله عليك. وقال أبو تراب: إذا رأيت القارئ منبسطا إلى الغلمان والأغنياء فاعلم أنه مخادع.

وقال أبو حاتم: اصرف أربعة أشياء إلى أربعة مواضع وخذ الجنة: النوم إلى القبر، والراحة إلى الصراط، والفخر إلى الميزان، والشهوات إلى الجنة.

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم قال سمعت أبا تراب يقول سمعت حاتما يقول: لي أربعة نسوة وتسعة من الأولاد ما طمع الشيطان أن يوسوس إلي في شيء من أرزاقهم.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا جعفر بن تركان يقول سمعت يعقوب بن الوليد يقول سمعت أبا تراب يقول: يا أيها الناس أنتم تحبون ثلاثة وليس هي لكم: تحبون النفس وهي لله، وتحبون الروح والروح لله، وتحبون المال والمال للورثة، وتطلبون اثنين ولا تجدونهما الفرح والراحة وهما في الجنة.

• أخبر عبد السلام بن محمد المخرمي قال سمعت ابن أبي شيخ يقول سمعت علي بن حسن التميمي يقول سمعت أبا تراب وقال له رجل: ألك حاجة؟ فقال: يوم يكون لي إليك وإلى أمثالك حاجة لا يكون لي إلى الله حاجة. وقال أبو تراب: حقيقة الغنى أن تستغني عمن هو مثلك: وحقيقة الفقر أن تفتقر إلى من هو مثلك وإذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله، وإذا أخلص فيه وجد حلاوته قبل مباشرته العمل. وقال: من شغل مشغولا بالله عن الله أدركه المقت من ساعته.

• ومما أسند حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا محمد بن عبد الله بن مصعب ثنا أبو تراب عسكر بن محمد الزاهد ثنا محمد بن ثابت عن شريك عن عبد الله عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 50

«لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن ربهم يطعمهم ويسقيهم» .

• حدثنا محمد بن إسماعيل الوراق ثنا عبد الصمد بن علي بن مكرم حدثني أحمد بن سليمان بن المبارك ثنا أبو تراب الزاهد البلخي ثنا واصل ابن إبراهيم ثنا أبو حمزة عن رقبة عن سلمة بن كهيل عن جندب بن سفيان قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يسمع يسمع، الله به ومن يرائى ترائى الله به» .

‌يحى بن معاذ

• ومنهم المادح الشكار القانع الصبار، الراجي الجآر يحيى بن معاذ الواعظ الذكار لزم الحداد توقيا من العباد واستلذ السهاد تحريا للوداد، واحتمل الشداد توصلا إلى الفناد.

• حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن عبيد الله بن عمرو - سنة اثنين وخمسين قال سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول - سنة أربع عشرة وثلاثمائة - قال سمعت يحيى بن معاذ يقول:

يا ليته لم يكن في اللوح مسطورا

ذنب على عبده قد كان مقدورا

كيف النجاة بعبد أنت خالقه

ماذا تريد به يا رب مفطورا

يا ويحه يوم يستدعي صحائفه

إليك من خمدة الأموات منشورا.

• حدثنا محمد بن محمد ثنا الحسن بن علوية قال سمعت يحيى بن معاذ يقول:

أنا مشغول بذنبى يا رجل

كف عنى إن قلبى فى شغل

كيف أرجو توبة تدركني

وأرى قلبي بويلي يشتغل

ذهبت نفسي بلا شك على

أنني أدفع دهري بالعلل.

• حدثنا محمد ثنا الحسن قال سمعت يحيى يقول: لست أبكي على نفسي إن ماتت إنما أبكي على حاجتي إن فاتت. قال وسمعت يحيى يقول: كيف أمتنع بالذنب من رجائك ولا أراك تمتنع للذنب من عطائك. قال وسمعت يحيى ابن معاذ يقول: إلهي ذنبي إلى نفسي فأنا معناه وحبي لك هو لك فأنت معناه

ص: 51

والحب أعتقده لك طائعا والذنب آتيه كارها، فهب كراهة ذنبي لطواعية حبي إنك أرحم الراحمين. قال وسمعت يحيى يقول: إلهي إن لم ترحمني رحمة الكرامة عليك فارحمني رحمة الإيقاع إليك. إلهي بكرمك غدا أصل إليك كما بنعمتك دللت اليوم عليك. قال وسمعت يحيى بن معاذ يقول: إن وضع عليهم عدله لم تبق لهم حسنة، وإن أنا لهم فضله لم تبق لهم سيئة.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا محمد بن أحمد بن محمد البغدادي ثنا عبد الله بن سهل الرازي قال سمعت يحيى بن معاذ يقول: مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب. قال وسمعته يقول: يا ابن آدم لا يزال دينك متمزقا ما دام القلب بحب الدنيا متعلقا. قال وسمعته يقول:

ما ركن إلى الدنيا أحد إلا لزمه عيب القلوب، ولا مكن الدنيا من نفسه أحد إلا وقع في بحر الذنوب. وسمعته يقول ورأى رجلا يوما يقلع الجبل في يوم حار وهو يغني فقال: مسكين ابن آدم قلع الأحجار أهون عليه من ترك الأوزار. قال وسمعته يقول: من لم يرض عن الله في الممنوع لم يسلم من الممنوع.

قال وسمعته يقول: طلبوا الزهد في بطن الكتب وإنما هو في بطن التوكل لو كانوا يعلمون. وسمعته يقول وسئل متى يعلم الرجل أنه قد أصاب الطريق وأمن هذا الخلق؟ قال: إذا استحلوه واستمرهم، وأحبو القاءه وكره لقاءهم. قال ونظر يوما إلى إنسان وهو يقبل ولدا له صغيرا فقال: أتحبه؟ قال نعم. قال هذا حبك له إذ ولدته فكيف بحب الله له إذ خلقه؟. قال وسمعته يقول: سبحوا في بحار البلايا حتى جاوزوها إلى العطايا ثم سبحوا فى بحار العطايا حتى جاوزوها إلى رب البرايا. قال وسمعته يقول وقيل له من أي شيء دوام غمك؟ قال: من شيء واحد قيل وما هو؟ قال خلقني ولا أدري لم خلقني. وسمعته يقول: من أشخص بقلبه إلى الله انفتحت ينابيع الحكمة من قلبه وجرت على لسانه.

• حدثنا محمد بن محمد بن زيد ثنا الحسن بن علوية الدامغاني قال سمعت يحيى بن معاذ يقول: قد غرق في بلائه وهو يريد أن ينجو من ربه بصفائه.

قال وسمعت يحيى يقول: أنا فى نصب المنابر وتعبية العساكر والناس لا يعلمون.

ص: 52

وقال يحيى: الأبدان في سجن النيات والناس ثلاثة. رجل تشاغل بالدنيا عن الله مذموما. ورجل تشاغل بالآخرة محمودا. ورجل تشاغل بالله عما دونه مقربا مرفوعا قال وسمعته يقول: لا يفلح من شمت منه رائحة الرياسة. وسمعته يقول: جماع الأمر كله في شيئين سكون القلب على رزق هذه الناحية، والاجتهاد في طلب رزق تلك الناحية. وسمعته يقول: إن لقيني القضاء بكيد من البلاء لقيت القضاء بكيد من الدعاء.

• سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا العباس بن حكويه الرازي يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقاتها بالذنوب. قال وسمعت يحيى يقول: اترك الدنيا قبل أن تترك. واسترض ربك قبل ملاقاته، وأعمر بيتك الذي تسكنه قبل انتقالك إليه - يعني القبر -.

• سمعت أبا الحسن يقول سمعت أبا العباس يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول إنما ينبسطون إليه على قدر منازلهم لديه. وسمعت يحيى بن معاذ يقول:

من كان قلبه مع الحسنات لم تضره السيئات ومن كان مع السيئات لم تنفعه الحسنات. قال وسمعت يحيى يقول: لو رأت العقول بعيون الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقا ولو أدركت القلوب كنه هذه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها إليه ولها عليه، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشا، فسبحان من أغفل الخليقة عن كنه هذه الأشياء وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأشياء. قال وسمعت يحيى يقول: لا تطلب العلم رياء ولا تتركه حياء. قال وسمعت يحيى يقول: أعظم المصيبة على الحكيم في اليوم أن يمضي عنه لا يأتيه فيه هدية من ربه - يعني حكمة جديدة -.

• حدثنا محمد بن محمد قال سمعت الحسن بن محمد الرازي المذكر يقول سمعت أبي يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: الدنيا أمير من طلبها، وخادم من تركها، الدنيا طالبة ومطلوبة فمن طلبها رفضته ومن رفضها طلبته، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على

ص: 53

الجسور، الدنيا عروس وطالبها ماشطتها، وبالزهد ينتف شعرها ويسود وجهها ويمزق ثيابها. ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته. فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضي عدتها أبدا، فخل الدنيا ولا تذكرها، واذكر الآخرة ولا تنسها، وخذ من الدنيا ما يبلغك الآخرة، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة.

• حدثنا محمد قال سمعت الحسن يقول سمعت أبي يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: تمام المغفرة في ثلاث: حسن القبول، وتقليد العلم، وبذل الفضل. وتفسير حسن القبول أن تسمع بينة الاستفادة وتنظر الإرادة لا تهز رأسك كأنك عالم بما تسمعه، فهذا يدخله في الكبر ويفسد العمل.

قال وسمعت يحيى يقول: عدم التواضع من فاته خصال علمه بما خلق له وما خلق منه وما يعود إليه. قال وسمعت يحيى يقول: علامة من اتقى الله ثلاثة خصال: من آثر رضاه وقارن تقاه وخالف هواه - يعني رضى الله على رضى نفسه، وقارن تقاه يعني جعل التقى قرينه فلا يزايله في حال عسره ويسره وسروره ورضاه وغضبه. وخالف هواه يعني فيما يبعده عن الله وينقصه حظ الجزاء.

• حدثنا أبو الحسن بن عمرو ثنا الحسن بن علوية قال سمعت يحيى يقول:

إن أعرضت عنا بوجهك الكريم استعطفناك بقول لا إله إلا الله. قال وسمعت يحيى يقول: إن تلقاني بمكر منه اقتدارا تلقيته بذل مني افتقارا. قال وسمعت يحيى يقول: التائب يبكيه ذنبه، والزاهد يبكيه غربته، والصديق يبكيه خوف زوال الإيمان. قال وسمعت يحيى يقول: فكرتك في الدنيا تلهيك عن ربك وعن دينك فكيف إذا باشرتها بجميع جوارحك. قال وسمعت يحيى يقول: اتق على جراب إيمانك لا يقرضه الفأر. قال وسمعت يحيى يقول. تضاحكت الأشياء إلى أولياء الله العارفين بأفواه القدرة عن مليكهم لما يرون من آثار صنعه فيها ويعاينون من بدائع خلقه معها، فلهم في كل شيء معتبر، وعند كل شيء مدكر. وقال في دعائه: إلهي ضمن أعمالي غنيمة عقباها، وامنع نفسى لذاذة دينها. قال وسمعت يحيى يقول سبحان من يبيع الحبيبة بالبغيضة - يعني الدنيا - قال وسمعت يحيى

ص: 54

يقول الجنة حبيبة المؤمن يبيعها منه بالبغيضة - يعني الدنيا - قال وسمعت يحيى يقول ربما رأيت أحدهم يقول: عشرين سنة أطلب ربي، ويحك ربك لا تجبره على تضييع نفسك أبدا، اطلب نفسك حتى تجدها فإذا وجدتها فقد وجدت ربك. قال وسمعت يحيى يقول: وا عجبا كل من جاءني بكبة وقد ضاع رأسه طلبتها في ساعة فدفعتها إليه، ورأس الكبة من غزلي قد ضاع منذ عشرين سنة وأنا في طلبه فلا أقدر عليه. وسمعته يقول: الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة وهو لا يسألك منها جناح بعوضة».

• أخبر محمد بن أحمد البغدادي أبو بكر - في كتابه - وحدثنى عنه عثمان ابن محمد العثماني ثنا عبد الله بن سهل الرازي قال سمعت يحيى بن معاذ يقول:

أيها المريدون طريق الآخرة والصدق، والطالبون أسباب العبادة والزهد اعلموا أنه من لم يحسن عقله لم يحسن تعبد ربه، ومن لم يعرف آفة العمل لم يحسن يحترز منه، ومن لم تصح عنايته في طلب الشيء لم ينتفع به إذا وجده، واعلموا أنكم خلقتم لأمر عظيم وخطر جسيم، وأن العلم لم يرد ليعلم إنما أريد ليعلم ويعمل به لأن الثواب على العمل بالعلم يقع لا على العلم، ألا ترى أن العلم إذا لم يعمل به عاد وبالا وحجة وانظروا ألا تكونوا معشر المريدين ممن قد تركوا لذة الدنيا ونعيمها ثم لا يصدق طلبكم الآخرة فلا دنيا ولا آخرة، وفكروا فيما تطلبون فإن من لم يعرف خطر ما يطلب لم يسهل عليه الجهل في جنب طلبه واعلموا أنه من لم يهن عليه الخلق لم يعظم عليه الرب ومن لم يكن طلبه في طريق الرغبة والرهبة والشوق والمحبة كان متحيرا في طلبه مخلطا في عمله لا يجد لذة العبادة ولا يقطع طريق الزهادة، فاتقوا الله الذي إليه معادكم وانظروا ألا تكونوا ممن يعرفهم جيرانهم وإخوانهم بالخير والإرادة والزهادة والعبادة وحالكم عند الله على خلاف ذلك، فإن الله إنما يجزيكم على ما يعرف منكم لا على ما يعرفه الناس، ولا تكونوا ممن يولع بصلاح الظاهر الذي إنما هو للخلق ولا ثواب له بل عليه العقاب، ويدع الباطن الذي هو لله وله الثواب ولا عقاب عليه.

ص: 55

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن قارن الرازى قال سمعت ابن معاذ يقول: من الدنيا لا ندرك آمالنا، وللآخرة لا نقدم أعمالنا وفي القيامة غدا لا ندري ما حالنا؟.

• حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ثنا عباس بن يوسف الشكلي ثنا محمد بن الحسن بن العلاء البلخي قال سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول:

الناس ثلاثة: فرجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الصالحين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه عن معاده فتلك درجة الهالكين.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا العباس بن حكويه الرازي يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: لا تسكن إلى نفسك وإن دعتك إلى الرغائب.

• سمعت أبا الحسن يقول سمعت أبا العباس يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: الدنيا بحر التلف والنجاة منها الزهد فيها.

• سمعت أبا الحسن يقول سمعت أبا العباس يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: يا جهول يا غفول لو سمعت صرير القلم حين يجري في اللوح المحفوظ بذكرك لمت طربا. قال وسمعت يحيى يقول: استشعرت الفقر فاتهمته، ووثقت بعبد مثلك فقير فائتمنته. ثم صرخ وقال: وا سوأتاه منك إذا شاهدتني وهمتي تسبق إلى سواك، أم كيف لا أضنى في طلب رضاك، قال:

وسمعت يحيى يقول: قلب المحب يهيم بالطيران وتكلمه لدغات الشوق والخفقان. قال وسمعته يقول: إلهي إن كانت ذنوبي عظمت في جنب نهيك فإنها قد صغرت في جنب عفوك. إلهي لا أقول لا أعود لما أعرف من خلقي وضعفي. إلهي إنك إن أحببتني غفرت سيئاتي وإن مقتني لم تقبل حسناتي.

ثم قال: أواه قبل استحقاق قول أواه. قال وسمعت يحيى يقول: لو سمع الخلق صوت النياحة على الدنيا في الغيب من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنا، ولو سمعت الخليقة دمدمة النار على الخليقة لتصدعت القلوب فرقا.

ص: 56

• أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان ثنا عبد الله ابن سهل الرازي قال سمعت يحيى بن معاذ يقول: لا تجعل الزهد حرفتك لتكتسب بها الدنيا، ولكن اجعلها عبادتك لتنال بها الآخرة. وإذا شكرك أبناء الدنيا ومدحوك فاصرف أمرهم على الخرافات. وقال: ترى الخلق متعلقين بالأسباب والعارف متعلق بولي الأسباب، إنما حديثه عن عظمة الله وقدرته وكرمه ورحمته يحترف بهذا دهره ويدخل به قبره. وسمعته يقول: من كانت الحياة قيده كان طلاقه منها موته. وسمعته يقول: الدنيا لا قدر لها عند ربها وهي له فما ينبغي أن يكون قدرها عندك وليست لك. قال: وسئل يحيى عن الوسوسة فقال: إن كانت الدنيا سجنك كان جسدك لها سجنا، وإن كانت الدنيا روضتك كان جسدك لها بستانا. وقيل ليحيى: كيف يتعبد الرجل من غير بضاعة تعينه على العبادة؟ قال: أولئك بضاعتهم مولاهم وزادهم تقواهم وشغلهم ذكراهم، ومن اهتم بعشائه لم يتهن بغذائه ومن أراد تسكين قلبه بشيء دون مولاه لم يزد استكثاره من ذلك إلا اضطرابا.

• حدثنا أبو الحسن محمد بن عمرو ثنا الحسن بن علوية سمعت يحيى بن معاذ يقول: لو لم يكن للعارفين إلا هاتان النعمتان لكفاهم منه، متى رجعوا إليه وجدوه، ومتى ما شاءوا ذكروه.

• حدثنا أبو الحسن ثنا الحسن قال سمعت يحيى يقول: من صفة العارف شيئان ما مضى وما كان وفيما هو وما أعلم وكيف أعمل، وبعده ما يكون فكيف تكون هذه الثلاثة الأيام أمس واليوم وغدا قد زل عن قلبه عجب عمله ولازمه خوف ذنبه. قال وسمعت يحيى يقول: من صفة العارف جسم ناعم وقلب هائم وشوق دائم وذكر لازم. قال وسمعت يحيى يقول عبادة العارف في ثلاثة أشياء معاشرة الخلق بالجميل، وإدامة الذكر للجليل، وصحة جسم بين جنبيه قلب عليل. وسمعته يقول: سبحان من طيب الدنيا للعارفين بمعرفته، وسبحان من طيب لهم الآخرة بمعذرته، فتلذذوا أيام الحياة بالذكر في مجالس معرفته وغدا يتلذذون في رياض القدس بشراب مغفرته فلهم في الدنيا زرع ذكر

ص: 57

ولهم في الآخرة ربيع بر، ساروا على المطايا من شكره حتى وصلوا إلى العطايا من ذخره، فإنه ملك كريم.

• سمعت محمد بن محمد بن عبيد الله يقول سمعت محمد بن محمد بن مسعود البدشي يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: العارف قد يشتغل بربه عن مفاخرة الأشكال ومجالس العطايا، وعن من منازعة الأضداد في مجالس البلايا. قال وسمعت يحيى بن معاذ يقول: أوثق الرجاء رجاء العبد ربه، وأصدق الظنون حسن الظن بالله.

• سمعت محمد بن محمد بن عبيد الله يقول سمعت أحمد بن محمد بن مسعود يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: طوبى لعبد أصبحت العبادة حرفته والفقر منيته. والعزلة شهوته والآخرة همته وطلب العيش بلغته وجعل الموت فكرته وشغل بالزهد نيته، وأمات بالذل عزته وجعل إلى الرب حاجته، يذكر في الخلوات خطيئته، وأرسل على الوجنة عبرته، وشكى إلى الله غربته، وسأله بالتوبة رحمته. طوبى لمن كان ذلك صفته، وعلى الذنوب ندامته جآر الليل والنهار، وبكاء إلى الله بالأسحار، يناجي الرحمن ويطلب الجنان ويخاف النيران.

• سمعت محمد بن محمد يقول سمعت محمد بن أحمد بن مسعود البدشي يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: الكيس من فيه ثلاثة خصال: من بادر بعمله وتسوف بأمله واستعد لأجله. قال وسمعت يحيى يقول: المغبون يوم القيامة من فيه ثلاثة خصال من قرض أيامه بالبطالات وبسط جوارحه على الحسرات، ومات قبل إفاقته من السكرات. قال وسمعت يحيى بن معاذ يقول: سبحان الله فلعل لا إله إلا الله تستوهبه من أهل لا إله إلا الله فليس ما أتى به من الذنب عصيانا أكثر مما أتى به من التوحيد إيمانا.

• سمعت محمد بن محمد بن عبيد الله يقول سمعت محمد بن أحمد - سنة خمس وثلاثمائة - يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: إن العبد على قدر حبه لمولاه يحببه إلى خلقه، وعلى قدر توقيره لأمره يوقره خلقه وعلى قدر

ص: 58

التشاغل منه بأمره يشغل به خلقه، وعلى قدر سكون قلبه على وعده يطيب له عيشه، وعلى قدر إدامته لطاعته يحليها في صدر، وعلى قدره لهجته بذكره يديم ألطاف بره، وعلى قدر استيحاشه من خلقه يؤنسه بعطائه، فلو لم يكن لابن آدم الثواب على عمله إلا ما عجل له في دنياه لكان كثيرا سوى ما يريد أن يصير إليه من جزيل جزائه وعظيم إعطائه ما لا يحيط به إحصاء ولا تبلغه منى إذ كان يعطي على قدر ما هو أهله إنه ملك كريم.

• أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي في كتابه وحدثني عنه عثمان بن محمد ثنا عبد الله بن سهل قال سمعت يحيى بن معاذ يقول: من سعادة المرء أن يكون خصمه فهما وخصمي لا فهم له. قيل له: من خصمك؟ قال. خصمي نفسي لا فهم لها تبيع الجنة بما فيها من النعيم المقيم والخلود فيها بشهوة ساعة في دار الدنيا. قال وسمعت يحيى يقول: لا تعرفه حتى تعمى عن الخلق. قال وسمعته يقول: يا ابن آدم إنك لا تشتاق إلى ربك إلا بالاستيحاش من خلقه. قال وسمعت يحيى يقول: للتائب فخر لا يعادله فخر في جميع أفخاره، فرح الله بتوبته قال وسمعت يحيى يقول: من ادعى حبه فهو طالب فإذا أحبه سكت. قال وسمعت يحيى يقول: إذا اصطفاهم لنفسه وأمكنهم من أنسه حجبهم عن خلقه بالمعروف من رفقه، قيل له وكيف يحجبهم؟ قال: يحجبهم عن أبناء الدنيا بأستار الآخرة وعن أبناء الآخرة بأستار الدنيا. وهذا مشهور. قال وسمعت يحيى يقول؟.

مجد إلهك يحيى إنه ملك

مهيمن صمد للذنب غفار

اشكر له حكما أتاكها مننا

تترى توافقها في الدين آثار

قال وسمعت يحيى يقول: لو لم يسكنهم ببلواه لطارت بهم نعماه، ولم يصل إليه من لم يرض بقسمه ولم يعرفه من لم يتمتع بنعمة ولم يحبه من لم يته في كرمه.

وسمعته يقول: حين خاطروا بالنفوس اقتربوا وهذا طعم الخبر فكيف طعم النظر.

• سمعت أبا الحسن محمد بن عمرو الجرجاني يقول سمعت أبا محمد الحسن

ص: 59

ابن محمد الرازي المذكر يقول سمعت أبي يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول أفواه الرجال حوانيتها وشفتاها مغاليقها، وأسنانها مخاليبها، فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين لك العطار من البيطار. قال وسمعت يحيى يقول: قد دعاك إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه؟ أمن الدنيا أم من قبرك؟ إنك إن أجبته من دنياك دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها. قال وسمعت يحيى يقول: إن الدرهم عقرب: فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه بيدك فإنه إن لدغك قتلك. قال وسمعته يقول: الدنيا سم الله القتال لعباده، فخذوا منها حسب ما يؤخذ السم في الأدوية لعلكم تسلمون.

• أخبرنا محمد بن الحسين بن موسى في كتابه قال سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت الحسن بن علوية يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول:

أولياؤه أسراء نعمه وأصفياؤه رهائن كرمه وأحباؤه عبيد مننه، فهم عبيد محبة لا يعتقون، ورهائن كرم لا يفكون، وأسراء نعم لا يطلقون.

• أخبرنا محمد بن الحسين قال سمعت محمد بن علي النهاوندي يقول سمعت موسى بن محمد يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: أهل المعرفة وحش الله في الأرض لا يأنسون إلى أحد، والزاهدون غرباء في الدنيا، والعارفون غرباء في الآخرة. قال وسمعت يحى يقول: ابن آدم ما لك تأسف على مفقود لا يرده عليك الغوث؟ وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت؟.

• أخبرنا عبد الواحد بن بكر حدثني أحمد بن محمد بن علي البردعي ثنا طاهر ابن إسماعيل الرازي قال قيل ليحيى بن معاذ: أخبرني عن الله ما هو؟ قال:

إله واحد. قال: كيف هو؟ قال ملك قادر. قال: أين هو؟ قال بالمرصاد. قال ليس عن هذا أسألك قال يحيى فذاك صفة المخلوق فأما صفة الخالق فقد أخبرتك.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال سمعت أبا بكر البغدادي يقول سمعت عبد الله بن سهل الرازي يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: عجبت لمن يصبر عن ذكر الله، وأعجب منه من صبر عليه كيف لا ينقطع؟ ثم قال:

ندافع عيشنا بالجهد جهدا

مدافعة إلى جهد المنايا

1

ص: 60

قال وسمعت يحيى يقول: من صفة العارف خصلتان ألا يذيع حاله لأحد، ولا يفتش أحد عن حاله. ومن علامة المريد الرضاء بالقضاء والثقة بالوعد والعمل بالإخلاص والشكر على البلاء والتوبة من كل ذنب وامتحان الإرادات. قال وسمعت يحيى يقول: سبحان من جعل الأرواح روحانية نورانية، والأنفاس جولانية هوائية فالأرواح تحن إلى عليين معدانها، والأنفاس تحن إلى سجين محبسها.

• حدثنا عثمان بن محمد قال قرئ على أبي حسن أحمد بن محمد بن عيسى قال سمعت إسماعيل بن معاذ يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: قوم على فرش من الذكر في مجلس من الشوق وبساتين من المناجاة بين رياض الأطراب وقصور الهيبة وفناء مجال الأنس، معانقي عرائس الحكمة بصدور الافهام، مناعى زفرات الوجد وجوه الآخرة بفنون الافراح تعاطون بينهم كئوس حبه، سقاهم فيها وغوتهم على شربها فرقان الشجى، تجرى فى الأكباد ثديم عليهم ذكر الحبيب، ويبلبلهم معها هيمان الوجود قال وأنشدني إسماعيل بن معاذ لأخيه يحيى بن معاذ:

طرب الحب على الحب

• مع الحب يدوم

عجبا لمن رأيناه

• على الحب يلوم

حول حب الله ما عشت

• مع الشوق أحوم

وبه أقعد ما عش

• ت حياتى وأقوم

وقال أيضا رحمه الله:

نفس المحب إلى الحبيب تطلع

وفؤاده من حبه يتقطع

عز الحبيب إذا خلا في ليله

بحبيبه يشكو اليه ويضرع

ويقوم في المحراب يشكو بثه

والقلب منه إلى المحبة ينزع.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الواحد بن بكر يقول سمعت أحمد بن أبي طلحة يقول سمعت محمد بن أحمد الجرجاني يقول سمعت ابن كمال الجرجاني يقول: سئل يحيى بن معاذ عن الرقص فأنشأ يقول:

دققنا الأرض بالرقص

• على غيب معانيك

ولا عيب على الرقص

• لعبد هائم فيك

وهذا دقنا الأر

ض إذا طفنا بواديك.

• سمعت: محمد بن محمد بن عبد الله يقول سمعت الحسن بن علوية يقول:

ص: 61

نظر يحيى بن معاذ إلى طاقات ريحان وضعها بعض الصبيان في حجرته وقد ذبلت فأتى بالماء يسقيها فقال له ما تصنع؟ قال رأيت هذا الريحان ذا بلا قد جففوه بترك سقيه فاعتصر به قلبي فسقيته لأنه هاجت لي فيه عبرة وكأني رأيته يستسقيني بذبوله خاضعا. وكان أبوه وأخوه يدعوانه إلى طلب الدنيا فأنشأ أخوه يقول:

أترحم أغصنا ذبلت ولانت

ولا ترحم أخاك إذا دعاك

فقال يحيى مجيبا له:

رأيت أخي يريد هلاك نفسي

ونفسي لا تريد له هلاكا

قال وسمعت يحيى بن معاذ يقول وأنشدنا.

أموت بدائي لا أصيب دوائيا

ولا فرجا مما أرى من بلائيا

إذا كان داء العبد حب مليكه

فمن دونه يرجو طبيبا مداويا

قال وأنشدنا يحيى رحمه الله:

رضيت بسيدي عوضا وأنسا

من الأشياء لا أبغى سواه

فيا شوقا إلى ملك يراني

على ما كنت فيه ولا أراه

خلا يستمطر النجم العطايا

فيعطى منه أكثر ما رجاه

وأنشدنا أيضا.

أنا إن تبت مناني

وإن أذنبت رجاني

وإن أدبرت نادانى

وإن أقبلت أدنانى

وإن أحببت والانى

وإن أخلصت ناجانى

وان قصرت عافانى

وإن أحسنت جازانى

حبيبى أنت رحمانى

اصرف عنى أحزانى

إليك الشوق من قلبي

على سري وإعلاني

فيا أكرم من يرجى

ويا قديم إحسانى

ما كنت على هذا

إله الناس تنسانى

لدى الدنيا وفي العقبى

على ما كان من شانى

ص: 62

قال وأنشدنى يحيى:

تبارك ذو الجلال وذو المحال

عزيز الشان محمود الفعال

سروري بالسؤال لكي أراه

فكيف أسر منه بالنوال

فيا ذا العز يا ذا الجود جدلى

وغير ما ترى من سوء حالي

قال وأنشدنى يحيى.

أشكو إليك ذنوبا لست أنكرها

وقد رجوتك يا ذا المن تغفرها

من قبل سؤلك لي في الحشر يا أملى

يوم الجزاء على الأهوال تذكرها

أرجوك تغفرها في الحشر يا أملى

إذ كنت سؤلي كما في الأرض تسترها

قال وأنشدنا يحيى:

سلم على الخلق وارحل نحو مولاك

واهجر على الصدق والإخلاص دنياك

عساك في الحشر تعطى ما تؤمله

ويكرم الله ذو الآلاء مثواك.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت الحسن ابن علوية يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه ويوم حشره ميزانه.

• أخبر محمد بن أحمد البغدادي - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ثنا عبد الله بن سهل قال سمعت يحيى بن معاذ يقول: القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها ومغارفها ألسنتها فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه. قال وسمعت يحيى يقول: إنما صار الفقراء أسعد على الذكر من الأغنياء لأنهم في حبس الله ولو أطلقوا من حصار الفقر لوجدت من ثبت منهم على الذكر قليلا. قال وسمعت يحيى يقول: من يستفتح أبواب المعاش بغير مفاتيح الأقدار وكل إلى المخلوقين. قال وسمعت يحيى يقول: ألق حسن الظن على الخلق وسوء الظن على نفسك لتكون من الأول في سلامة ومن الآخر على الزيادة. قال وسمعت يقول قال ابن السماك: حسبي من ثوابك النجاة من عقابك. قال وسمعت يحيى يقول: أبناء الدنيا يجدون لذة الكلام، وأبناء

ص: 63

الآخرة يجدون لذة المعاني.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا الحسن بن أبي الحسن البصرى ثنا على ابن جعفر بن أحمد الكاتب قال سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: الدرجات التي يسعى إليها أبناء الآخرة سبع: التوبة ثم الزهد ثم الرضا ثم الخوف ثم الشوق ثم المحبة ثم المعرفة. فبالتوبة تطهروا من الذنوب وبالزهد خرجوا من الدنيا وبالرضا ألبسوا قراطن العبودية وبالخوف جازوا قناطر النار، وبالشوق إلى الجنة استوجبوها، وبالمحبة عقلوا النعيم، وبالمعرفة وصلوا إلى الله وهو في البحر السابع، ولا يزالون فيه أبد الآبدين في الدنيا والآخرة.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال: قرأت في كتاب أبي الحسن الزهري البصري قال قال يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خزانة الله فما الذي يبغض منها وكل شيء من حجر أو مدر أو شجر يسبح الله فيها قال الله تعالى {(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)} وقال الله تعالى: {(ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين)} فالمجيب له بالطاعة لا يستحق أن يكون بغيضا في قلوب المؤمنين، ليعلم أن الذنب والذم زائلان عنها إلى بني آدم لو كانوا يعلمون.

• أخبرنا محمد بن أحمد وحدثني عثمان بن محمد ثنا عبد الله بن سهل الرازي ثنا يحيى بن معاذ قال: اعلموا أنه لا يصح الزهد والعبادة ولا شيء من أمور الطاعة لرجل أبدا وفيه للطمع بقية فإن أردتم الوصول إلى محض الزهد والعبادة فأخرجوا من قلبكم هذه الخصلة الواحدة وكونوا رحمكم الله من أبناء الآخرة وتعاونوا واصبروا وأبشروا تظفروا إن شاء الله. واعلموا أن ترك الدنيا هو الربح نفسه الذي ليس بعده أمر أشد منه، فإن ذبحتم بتركها نفوسكم أحييتموها، وإن أحييتم أنفسكم بأخذها قتلتموها، فارفضوها من قلوبكم تصيروا إلى الروح لراحة في الدنيا والآخرة وتصيبوا شرف الدنيا والآخرة، وعيش الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون. عذبوا أنفسكم في طاعة الله بترك شهواتها قبل أن تلقى الشهوة منها أجسامكم في دبار عاقبتها واعلموا أن القرآن قد ندبكم إلى وليمة الجنة ودعاكم إليها فأسرع الناس إليها أتركهم لدنياه وأوجدهم لذة لطعم

ص: 64

تلك الوليمة أشدهم تجويعا لنفسه ومخالفة لها فإنه ليس أمر من أمور الطاعة إلا وأنتم تحتاجون أن تخرجوه من بين ضدين مختلفين بجهد شديد، وسأظهر لكم هذا الأمر فإني وجدت أمر الإنسان أمرا عجيبا، قد كلف الطاعة على خلاف ما كلف سائر الخلق من أهل الأرض والسماء فأحسن النظر فيه وليكن العمل منك فيه على حسب الحاجة منك إليه، واستعن بالله فنعم المعين، واعلم أنك لم تسكن الدنيا لتتنعم فيها جاهلا وعن الآخرة غافلا ولكنك أسكنتها لتتعبد فيها عاقلا وتمتطي الأيام إلى ربك عاملا، فإنك بين دنيا وآخرة ولكل واحدة منهما نعيم وفي وجود إحداهما بطول الأخرى فانظر أن تحسن طلب النعيم، فقد حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: غلط الملوك طلبوا النعيم فلم يحسنوا. وعلى حسب اقتراب قلبك من الدنيا يكون بعدك من الله، وعلى حسب بعد قلبك من الدنيا يكون قربك من الله، وكما كان معدوما وجود نفسك في مكانين فكذلك معدوم وجود قلبك في دارين، فإن كنت ذا قلبين فدونك اجعل أحدهما للدنيا وأحدهما للآخرة، وإن كنت ذا قلب واحد فاجعله لأولى الدارين بالنعيم والمقام والبقاء والإنعام. واعلم أن النفس والهوى لا تقهران بشيء أفضل من الصوم الدائم، وهو بساط العبادة ومفتاح الزهد وطلع ثمرات الخير، وأجساد العمال من شجراته دائم الجذاذ دائم الإطعام، وهو الطريق إلى مرتبة الصديقين وما دونه فمزرعة الأعمال، فثمر غرسها وربيع بذرها في تركها وفقدها في أخذها وليس معنى الترك الخروج من المال والأهل والولد ولكن معنى الترك العمل بطاعة الله وإيثار ما عند الله عليها مأخوذة ومتروكة فهذا معنى الترك لا ما تدعيه المتصوفة الجاهلون. أنت من الدنيا بين منزلتين فان زويت عنك كفيت المؤنة، وإن صرفت إليك ألزمتها طاعة مولاك، وإن كانت طاعتك لله في شأنها تصلحها ومعصيتك لله في أمرها يفسدها، فدع عنك لوم الدنيا واحفظ من نفسك وعملك ما فيه صلاحها فإن المطيع فيها محمود عند الله إنما تلزمه التهمة وعيب الأخذ لها إذا خان الله فيها، لأن الدنيا مال الله والخلق عباد الله. وهم في هذا المال صنفان خونة وأمناء، فإذا وقع المال في

ص: 65

أيدي الخائنين فهو سبب دمارهم ولا عتب على المال إنما العتب على فعلهم بالمال وإذا وقع في أيدي الأمناء كان سبب شرفهم وخلاصهم، ولا معنى للمال إنما كسب لهم الشرف عند الله فعلهم بالمال أدوا أمانة الله في أموالهم فلحق بهم نفع المال. لا ذنب للمال الذنب لك الذنوب إنما تكتسب بالجوارح وليس للضيعة والحانوت جوارح، إنما الجوارح لك وبها تكتسب الذنوب فعلك بما لك أسقطك من عين ربك لا مالك، وفعلك بما لك يصحبك إلى قبرك لا مالك، وفعلك بمالك يوزن يوم القيامة لا مالك.

• حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد المقرئ ثنا الحسن بن علوية الدامغاني قال سمعت يحيى بن معاذ يقول: يا من أقام لي غرس ذكرى وأجرى إلى أنهار نجوى وجعل لي أيام عيد في اجتماع الورى، وأقام لي فيهم أسواق تقوى، أقبلت إليك معتمدا عليك ممتلئ القلب من رجائك، ورطب اللسان من دعائك، في قلبي من الذنوب زفرات ومعي عليها ندامات، إن أعطيتني قبلت وإن منعتني رضيت وإن تركتني دعوت، وإن دعوتني أجبت. فأعطني إلهي ما أريد، فإن لم تعطني ما أريد فصبرني على ما تريد. قال وسمعت يحيى يقول: من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير أولها المبادرة إلى التوبة، والثاني القناعة برزق يسير، والثالث النشاط في العبادة.

ومن حرص على الدنيا فإنه لا يأكل فوق ما كتب الله له ويدخل عليه من العيوب ثلاث خصال: أولها أن تراه أبدا غير شاكر لعطية الله له، والثاني لا يواسي بشيء مما قد أعطي من الدنيا. والثالث يشتغل ويتعب في طلب ما لم يرزقه الله حتى يفوته عمل الدين.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال سمعت أبا بكر البغدادي يقول سمعت عبد الله بن سهل يقول سمعت يحيى بن معاذ يقول: الصبر على الناس أشد من الصبر على النار قال وسمعت يحيى يقول: تأبى القلوب للاسخياء الاحبا وإن كانوا فجارا، وللبخلاء إلا بغضا وإن كانوا أبرارا. وقال: يحيى ليس على وجه الأرض أحد إلا وفيه فقر وحرص، ولكن من أخلاق المؤمنين أن يكونوا

ص: 66

حرصاء على طلب الجنة فقراء إلى ربهم. والمنافق حريص على الدنيا فقير إلى الخلق. قال وسمعت يحيى يقول: قال بعض الحكماء: من أصبح لم يكن معه هذه الخصال الثلاث لم يصب طريق العزم: أولها كما أن الله لم يعط رزقك اليوم غيرك فلا تعمل لغيره، وكما أن الله لم يشارك فيما أعطاك أحدا فلا تشارك في العمل الذى تعمل له - يعنى الرياء - وكما أن الله لم يكلفك اليوم عمل غد فلا تسأله رزق غد على جور حتى إذا لم يعطك شكوته. قال وسمعت يحيى يقول: إذا لاحظت الأشياء منه كان لها طعم آخر. قال وسمعت يحيى يقول: ليس بصادق من ادعى حبه ولم يحفظ حده. قال وسمعت يحيى يقول: سقوط رجل من درجة ادعاؤها. قال وسمعت يحيى يقول: إذا عملوا على الصدق انطلقت ألسنتهم على الخلق بالشدة، وإذا عملوا في التفويض انكسرت ألسنتهم عن الخلق مبهوتين، الأول من صفة الزاهدين والثاني من صفة العارفين. قال وسمعت يحيى يقول: إنما تلقى الزاهد في الدنيا أحيانا ليرفق بعباد الله إذا ذلوا. قال وسمعت يحيى يقول: من أقام قلبه عند الله سكن، ومن أرسله في الناس اضطرب.

• حدثنا عثمان بن محمد قال قرأ على أبي الحسن أحمد بن محمد بن عيسى ثنا إسماعيل بن معاذ عن أخيه يحيى بن معاذ قال: قسم الدنيا على البلوى والجنة على التقوى وجوع التوابين تجربة وجوع الزاهدين سياسة وجوع الصديقين تكرمة، والجوع طعام يشبع الله منه أبدان الصديقين، وإذا امتلأت المعدة خرست الحكمة وأشرف الجوع حالة ينظر إليك فيها العدو فيرحمك وأمقت الشبع حالة ينظر إليك معها، الصديق فيستثقلك، فالحزن يمنع الطعام والخوف يمنع الذنوب، والرجاء يقوي على أداء الفرائض، وذكر الموت يزهد في الشيء، وفي لقاء الإخوان مدافعة ما فضل من النهار وصلاح الأمر في ذلك كله أن يكون على نية.

• حدثنا محمد بن محمد بن زيد ثنا الحسن بن علوية: قال سمعت يحيى بن معاذ يقول: تولد الخوف في القلب من ثلاث خصال: إدامة الفكر معتبرا،

ص: 67

والشوق إلى الجنة مشفقا وذكر النار متخوفا. والورع من ثلاث خصال من عز النفس وصحة اليقين وتوقع الموت. وتمام المعرفة من ثلاث خصال: حسن القبول وتقليد العلم وبذل النصح. وقال: عدم التواضع من فاتته ثلاث خصال علمه بما خلق منه وما يعود إليه والمتواضع من ظن أنه من أذنب أهل الأرض.

ومن آثر صحبة المساكين. وقال لا تتخذوا من القرناء إلا ما فيه ثلاث خصال من حذرك غوائل الذنوب وعرفك مدانس العيوب وسايرك إلى علام الغيوب.

وقال: شرف المعاد من ثلاث احتمال الشدائد وإذلال النفس وكراهة المعرفة.

ومعنى كراهة المعرفة يكره أن يعرف في الناس لا يبتغي معرفة الناس إنما استئناسه بذكر الله فى الخلوة ومع الناس. وقال: غنيمة الآخرة في ثلاثة أشياء: الطاعة والبر والعصيان طاعة الرب وبر الوالدين وعصيان الشيطان.

وقال: الفارس في الدين من كان فيه ثلاث خصال حفظ لسانه وإمساك عنانه وصدق بيانه. حفظ لسانه لا يتكلم إلا بما له، وإمساك عنانه هو في حلبة الأعمال فيمسك عنان إرادته إذا كان لغير الله ويرسله إذا كان لله. وصدق بيانه إذا علم شيئا عمل به. وثلاثة من السعادة مقلة دامعة وعنق خاضعة وأذن سامعة.

ولا يجد حلاوة العبادة إلا من فيه ثلاث خصال أن يستأثر الرجلة ويستلذ العزلة ويترقب النقلة: الرجلة الإقلال، والعزلة الوحدة، والنقلة: الرحلة إلى القبر. وأغبط الناس من سلك طريق آخرته وأصلح شأن عاقبته، واجتهد في فكاك رقبته. وقال لم أجد السرور إلا في ثلاث خصال: التنعم بذكر الله، واليأس من عباد الله. والطمأنينة إلى موعود الله - يعني في الرزق - وقال:

المصيب من عمل ثلاثة أشياء يلقاه من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل ان وقال عجبت لثلاث وفرحت لثلاث واغتممت لثلاث: فالتي عجبت منها فتنة العالم وسرور الإنسان بما أصاب من الدنيا وهو تراث من تقدمه وتراث من يخلفه يسلبه ثم يؤخذ بحسابه. ومن رتع في أفواه أمانيه في مراتع الموت. وفرحت لثلاث إظهار الله آدم على إبليس وهذا ملك وهذا بشر، وإخراجه إيانا في هذه الأمة. والخصلة الثالثة

ص: 68

وهي أشرف الثلاث معرفة الله تعالى. واغتممت لثلاث: لذنوب أسلفتها، وأيام ضيعتها، والخصلة الثالثة وفيها الخطر العظيم وقوفي بين يدي الله عز وجل لا أدري ما يبدو لي منه، وذلك المقام الشديد يتوقع فيها المحاسب بماذا يختم له أيام ضيعها - يعني في الغفلة وترك الاستعداد -.

• حدثنا محمد بن عبيد الله ثنا الحسن بن علوية قال سمعت يحيى بن معاذ يقول: من لم يكن ظاهره مع العوام فضة ومع المريدين ذهبا ومع العارفين المقربين درا وياقوتا فليس من حكماء الله المريدين. قال: وسمعت يحيى يقول:

أحسن شيء كلام صحيح من لسان فصيح فى وجه صبيح، كلام دقيق مستخرج من بحر عميق على لسان رجل رفيق. وقال يحيى: ثلاثة من الأموال الدراهم والدنانير والدر والياقوت، فكلامى فى العظات الدراهم وفي الصفات الدنانير وفي المعرفة وكرم الله الدر والياقوت.

قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله: كلام يحيى بن معاذ يكثر ويطول اقتصرنا منه على ما أملينا.

• ومن مسانيد حديثه ما حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن عمرو ثنا الحسن بن علوية ثنا يحيى بن معاذ ثنا علي بن محمد الطنافسي عن يحيى بن آدم ثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة قال سمعت أبا تميم يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» .

• حدثنا أحمد بن يوسف ثنا الحارث بن أبي أسامة ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ثنا حيوة بن شريح مثله.

• حدثنا محمد بن محمد بن زيد ثنا الحسن بن علوية ثنا يحيى بن معاذ ثنا علي بن محمد الطنافسي عن أبي معاوية عن إسماعيل بن نفيع عن أبي داود عن أنس بن مالك. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من غني ولا فقير إلا يود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا» .

• حدثناه أبو بكر الطلحي ثنا عبيد بن عثمان ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الله بن نمير عن إسماعيل

ص: 69

ابن نفيع بن الحارث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

• حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد الجرجاني ثنا الحسن بن علوية ثنا يحيى ابن معاذ ثنا علي بن محمد عن محمد بن فضيل ووكيع عن سفيان عن ضرار بن مرة عن سعيد بن جبير قال. «التوكل على الله جماع الإيمان» .

• حدثناه أبو بكر ابن مالك ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا محمد بن فضيل ثنا ضرار عن سعيد مثله. وليس فيه ذكر سفيان وهو الصواب.

• حدثنا أبو الحسين ثنا الحسن بن علوية ثنا يحيى بن معاذ ثنا علي بن محمد الطنافسي عن أبي معاوية عن حجاج عن مكحول قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يخلص العبادة لله أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» .

‌سعيد بن العباس الرازي

ومنهم الواثق بالوصول، الناطق بالأصول، التارك للفضول، له البيان الشافي، والكلام الكافي، نبذ الآراء، وعدد الآلاء، عمل على تصفية الباطن فركن إلى لطف الضامن، أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي.

• حدثنا أبي ثنا إسحاق بن محمد الزجاج ثنا محمود بن الفرج ثنا أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي قال: أحذرك يا أخي شياطين الإنس والجن، كما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر، واعلم أن قائدهم إبليس، واعرف بقلبك من يدعوك إلى الهلكة، ومن يدعوك إلى النجاة، واستعن بالله فإن جميع الشر حب الدنيا، هل رأيت رجلا عصى الله في التهاون والزهد في الدنيا والرضى بالقليل؟ واحذر الدنيا وأهلها ومن يدعوك إليها فإن المحب للدنيا زعم بلسانه أنه يعبد ربه وهو يعبد هواه ودنياه بقلبه ونيته، وغدوه ورواحه، وطواعيته وغضبه ورضاه، واعلم أن العلماء هم أمناء الرسول عليه الصلاة والسلام، وورثه الأنبياء عليهم السلام، أما علمت أن النبي صلى الله

ص: 70

عليه وسلم في زمانه دعا إلى الزهد في فضول الدنيا والتهاون بها، ومن معه من العلماء كانوا يحذرون حلال الدنيا ويشفقون منها أشد من حذر الجهال من حرامها لأنه لا يسلم من الدنيا من ينالها، ولا يسلم من شرها من أحبها وأمن مكرها، هي حتف أهلها دون الحتف، واعلم أن العالم بالله الخائف من الله يهدم بحق الله باطل أهل الرغبة في الدنيا، وأن العالم المغتر يطفئ نور الحق بظلمة الباطل واعلم أن الله إذا أراد أن يغني فقيرا أو يفقر غنيا أو يرفع وضيعا أو يضع رفيعا فعل ما أراد من ذلك، فلا تغالب الله على أمره، ولا تلتمس شيئا من ذلك بغير طاعة الله، فان الذين التمسوا الأمور بغير طاعة الله خسروا خسرانا مبينا، فيما أصابوا بما طالبوا، وفيما أخطأهم مما أرادوا، فانظر إذا كنت إماما أي إمام تكون، فربما بحت الأمة بالإمام الواحد، وربما هلكت بالإمام الواحد، وإنما هما إمامان إمام هدى قال الله عز وجل:{(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا)} يعني على الدنيا. وإنما صاروا أئمة حين صبروا عن الدنيا، ولا يكون إمام هدى حجة لأهل الباطل فإنه قال:{(يهدون بأمرنا)} لا بأمر أنفسهم، ولا بأمور الناس، فقال:{(وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)} فهذا إمام هدى فهو ومن أجابه شريكان. وإمام آخر قال الله تعالى: {(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار)} ولا تجد أحدا يدعو إلى النار ولكن الدعاة إلى معصية الله، فهذان إمامان هما مثل من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين. واعلم أن باب الآخرة مفتوح فادخله تصل إلى رحمة الله، ولتكن فى كنف الله وحفظه وولايته وستره وأجره ورزقه وكفايته، فإن الله لا يخلف الميعاد، واعلم أنه ليس بين الله وبين العباد وسيلة إلا طاعته، فإنها وسيلة العباد إليه فلا تتوسلوا إلى الله بغير الوسيلة التي جعلها الله سبيلا وسببا إليه، فإن ديان الدين إنما يدين العباد غدا بأعمالهم، ولا يدينهم بمنازلهم في الدنيا. واعلم أنك قد كفيت مئونة من بعدك فلا تتكلف مئونة من قد كفيت بإفساد نفسك، واعلم أن الناس قبلك قد جمعوا لأولادهم فلم يبق ما جمعوا لهم ولا من جمعوا له. واعلم

ص: 71

أن لك في الدنيا ولباسها ونعيمها وشهوتها رغبة وإنك والله لئن طلبت النعيم بالتنعم في الدنيا والرغبة فيها ما أحسنت طلبه، فلزهد فيها تجد لليقين نورا، وترى للترك فضلا وسرورا، انظر إليها بالتصغير إذ كان قصيرا فانيا، التمس استصغار الدنيا بالتقلل منها، واستجلب حلاوة الترك بقصر الأمل فيها، قد استدبرت أمورا لك فيها معتبر ومنظر ومتعظ ومزدجر، وانظر ما صدر قوم عن معصية الله إلى غير عذاب الله عاجلا أو آجلا إلا من عصمه الله بالتوبة، كن عالما عاملا فقد علم أقوام ولم يعملوا ولم يكن علمهم إلا عليهم، والعلم والعمل قرينان لا ينفع أحدهما إلا بصاحبه، اختر القلة وارتع في رياض المقلين تدرك ثمرة قلبك، أما علمت أن النار حفت بالشهوات والجنة حفت بالمكاره، اختر ما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم، وادع إلى ما دعا إليه، تكن لله وليا والمرسول أمينا وللمتقين إماما. واعلم أن العبد المؤمن ليس بالذي يشكر في السراء فإذا أصابه شيء مما يكره ترك دينه، ومن لا خير له فيما يكره فليس له خير فيما يحب، فقد جعل الله في الكره خيرا لمن صبر على البلاء واحتسب المصيبة وأحسن الظن بالله وصدق التوكل عليه وآمن بما وعد الله الصابرين. كن داعيا إلى الله بما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمس الرفعة بالتواضع. والتمس الشرف بالدين، وليكن ذلك في ترك دنياك لآخرتك تدرك شرف الدنيا والآخرة، فإن أكمل إيمان العبد إذا آثر الآخرة على الدنيا، واطلب حقيقة الإيمان بردك نفسك عن الدنيا، وأجهد نفسك على طلب الآخرة فإن الكيس من دان نفسه وعمل لآخرته، والعاجز من تمنى على الله الأماني:.

قال الشيخ أبو نعيم: لأبي عثمان الكلام المبسوط في مصنفاته، وله من كثرة الأحاديث مسانيد وتفسير ما يقارب الأئمة في الكثرة، حدث عن الأعلام: عن أبي نعيم، وحسين المروزي، والقعنبي، وأحمد بن شبيب، والحميدي، وسلمة بن شبيب، ومكي، وقتيبة، وعلي الطنافسي، وأبي مسعود والحماني وسهل بن عثمان وابن كاسب وإبراهيم بن موسى

ص: 72

• سمعت عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الواعظ قال سمعت أحمد بن عيسى ابن ماهان قال سمعت سعيد بن العباس الرازي الصوفي - بمنى - يقول سمعت حاتما الأصم يقول: مؤمن عذر جور باشد، ومنافق عيب جور باشد».

• ومن مسانيد حديثه ما حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا خالي عبد الله بن محمود بن الفرج ثنا أبي محمود ثنا أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي ثنا أحمد بن عبد الله بن نافع بن ثابت حدثني أبي عن عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي الزبير: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فجذب عمامتي فالتفت إليه فقال لي: «يا زبير إن باب الرزق مفتوح من لدن العرش إلى قرار بطن الأرض يرزق الله كل عبد على قدر همته ونهمته» .

• حدثنا أبى إسحاق بن محمود بن الفرج ثنا سعيد بن العباس ثنا الحسن ابن محمد الطنافسي ثنا ابن فضيل ثنا أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالدنيا مصورة يوم القيامة فتقول يا رب اجعلني لرجل من أدنى أهل الجنة منزلة، فيقول الله: أنت أنتن من ذلك، بل أنت وأهلك في النار» .

• حدثنا أبي ثنا إسحاق ثنا محمود بن الفرج ثنا أبو عثمان سعيد بن العباس ثنا ابن كاسب ثنا عبد الله بن عبد الله عن الزبير بن الحارث عن عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يؤكل طعام المتباهين» .

‌الحارث بن أسد المحاسبي

• ومنهم المشاهد المراقبي والمساعد المصاحبي أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي.

كان لألوان الحق مشاهدا ومراقبا ولآثار الرسول عليه السلام مساعدا ومصاحبا. تصانيفه مدونة مسطورة، وأقواله مبوبة مشهورة، وأحواله

ص: 73

مصححة مذكورة، كان في علم الأصول راسخا وراجحا وعن الخوض في الفضول جافيا وجانحا، وللمخالفين الزائغين قامعا وناطحا، وللمريدين والمنيبين قابلا وناصحا.

وقيل إن فعل ذوي العقول. الأخذ بالأصول والترك للمفضول، واختيار ما اختاره الرسول. صلى الله عليه وسلم.

• أخبر جعفر بن محمد الخواص - في كتابه - وحدثني عنه أحمد بن محمد ابن مقسم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: كان الحارث المحاسبى يجئ إلى منزلنا فيقول: اخرج معي نصحن فأقول له: تخرجني من عزلتي وأمني على نفسي إلى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات؟ فيقول: اخرج معي ولا خوف عليك. فأخرج معه فكان الطريق فارغ من كل شيء، لا نرى شيئا نكرهه فإذا حصلت معه في المكان الذي يجلس فيه قال لي: سلني، فأقول له: ما عندي سؤال أسألك، فيقول لي: سلني عما يقع في نفسك، فتنثال علي السؤالات فأسأله عنها فيجيبني عليها للوقت ثم يمضى إلى منزله فيعملها كتبا.

• أخبر جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه أحمد بن محمد بن مقسم قال سمعت الجنيد يقول: كنت كثيرا أقول للحارث: عزلتي أنسي وتخرجني إلى وحشة رؤية الناس والطرقات؟ فيقول لي: كم تقول لي أنسي في عزلتي؟ لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا، ولو أن النصف الآخر نأى عنى ما استوحشت لبعدهم.

• أخبر جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه أبو الحسن قال سمعت الجنيد يقول: كان الحارث كثير الضر فاجتاز بي يوما وأنا جالس على بابنا فرأيت في وجهه زيادة الضر من الجوع فقلت له: يا عم لو دخلت إلينا نلت من شيء عندنا. فقال: أو تفعل؟ قلت نعم وتسرني بذلك وتبرني فدخلت بين يديه ودخل معي وعمدت إلى بيت عمي - وكان أوسع من بيتنا لا يخلو من أطعمة فاخرة لا يكون مثلها فى بيتنا سريعا - فجئت بأتواع كثيرة من الطعام فوضعته بين يديه فمد يده وأخذ لقمة فرفعها إلى فيه فرأيته يلوكها

ص: 74

ولا يزددها فخرج وما كلمني، فلما كان الغد لقيته فقلت: يا عم سررتني ثم نغصت علي فقال يا بنى أما الفاقة فكانت شديدة وقد اجتهدت أن أنال من الطعام الذي قدمته إلي، ولكن بيني وبين الله علامة إذا لم يكن الطعام عند الله مرضيا ارتفع إلى أنفي زمنه فورة فلم تقبله نفسي فقد رميت بتلك اللقمة فى دهليزكم وخرجت.

• أخبر جعفر وحدثني عنه أبو الحسن قال سمعت الجنيد يقول: مات أبو الحارث المحاسبي وإن الحارث لمحتاج إلى دانق فضة، وخلف أبوه مالا كثيرا وما أخذ منه حبة واحدة، وقال أهل ملتين لا يتوارثان وكان أبوه واقفيا.

سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا علي بن خيران الفقيه يقول رأيت أبا عبد الله الحارث بن أسد بباب الطاق في وسط الطريق متعلقا بأبيه والناس قد اجتمعوا عليه يقول: طلق امرأتك فإنك على دين وهي على غيره.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول حدثني محمد بن إسحاق بن الإمام حدثني أبي قال: سألت الحارث بن أسد المحاسبي: ما تفسير خير الرزق ما يكفي؟ قال: هو قوت يوم بيوم ولا تهتم لرزق غد.

• أخبر جعفر بن محمد الخواص - في كتابه - وحدثني عنه أبو على الحسين ابن يحيى بن زكريا الفقيه قال سمعت أبا العباس بن مسروق والجنيد بن محمد يقولان سمعنا الحارث المحاسبي يقول: فقدنا ثلاثة أشياء لا نكاد نجدها إلى الممات: حسن الصيانة وحسن القول مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة.

• أخبر جعفر - في كتابه - وحدثني عنه أبو طاهر محمد بن إبراهيم بن أحمد قال سمعت أبا عثمان البلدي يقول: بلغني عن الحارث المحاسبي أنه قال:

العلم يورث المخافة، والزهد يورث الراحة، والمعرفة تورث الانابة. قال وقال الحارث: من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص، زين ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة لقوله {(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)} .

• أخبر أبو جعفر - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول قال الحارث: لا ينبغي للعبد أن يطلب الورع بتضييع

ص: 75

الواجب. وقال قال الحارث: إذا أنت لم تسمع نداء الله فكيف تجيب دعى الله؟ ومن استغنى بشيء دون الله فقد جهل قدر الله. وقال: الظالم نادم وإن مدحه الناس، والمظلوم سالم وإن ذمه الناس. والقانع غني وإن جاع، والحريص فقير وإن ملك.

• أخبر جعفر بن محمد في كتابه وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول قال الحارث بن أسد: أصل الطاعة الورع، وأصل الورع التقوى، وأصل التقوى محاسبة النفس، وأصل محاسبة النفس الخوف والرجاء، وأصل الخوف والرجاء معرفة الوعد والوعيد، ومعرفة أصل معرفة الوعد والوعيد عظم الجزاء وأصل ذلك الفكرة والعبرة. وأصدق بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت حيث يقول.

ما حملت من ناقة فوق رحلها

أعف وأوفى ذمة من محمد ..

• أخبر أبو بكر محمد بن أحمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني بهذا عنه عثمان بن محمد العثماني حدثني أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن ميمون قال سمعت الحارث بن أسد يقول: إن أول المحبة الطاعة وهي منتزعة من حب السيد عز وجل إذ كان هو المبتدئ بها، وذلك أنه عرفهم نفسه ودلهم على طاعته ونحبب إليهم، على غناه عنهم، فجعل المحبة له ودائع في قلوب محبيه، ثم ألبسهم النور الساطع في ألفاظهم من شدة نور محبته في قلوبهم، فلما فعل ذلك بهم عرضهم سرورا بهم على ملائكته، حتى أحبهم الذين ارتضاهم لسكنى أطباق سماواته نشر لهم الذكر الرفيع عن خليقته قبل أن يخلقهم مدحهم، وقبل أن يحمدوه شكرهم، لعلمه السابق فيهم أنه يبلغهم ما كتب لهم، وأخبر به عنهم، اثم أخرجهم إلى خليقته وقد استأثر بقلوبهم عليهم، ثم رد أبدان العلماء إلى الخليقة، وقد أودع قلوبهم خزائن الغيوب فهي معلقة بمواصلة المحبوب، فلما أراد أن يحييهم ويحيي الخليقة بهم أسلم لهم هممهم ثم أجلسهم على كرسى أهل المعرفة فاستخرجوا من المعرفة بالأدواء ونظروا بنور معرفته إلى منابت الدواء، ثم عرفهم من أين يهيج الداء، وبما تستعينون على

ص: 76

علاج قلوبهم ثم أمرهم بإصلاح الأوجاع، وأوعز إليهم في الرفق عند المطالبات وضمن لهم إجابة دعائهم عند طلب الحاجات، نادى بخطرات التلبية من عقولهم في أسماع قلوبهم، أنه تبارك وتعالى يقول: يا معشر الأدلاء من أتاكم عليلا من فقدي فداووه، وفارا من خدمتي فردوه، وناسيا لأيادي ونعمائي فذكروه، لكم خاطبت لأني حليم، والحليم لا يستخدم إلا الحلماء، ولا يبيح المحبة للبطالين ضنا بما استأثر منها، إذ كانت منه وبه تكون فالحب لله هو الحب المحكم الرصين، وهو دوام الذكر بالقلب واللسان لله وشدة الأنس بالله، وقطع كل شاغل شغل عن الله، وتذكار النعم والأيادي، وذلك أن من عرف الله بالجود والكرم والإحسان اعتقد الحب له إذ عرفه بذلك أنه عرفه بنفسه وهداه لدينه، ولم يخلق في الأرض شيئا إلا وهو مسخر له وهو أكرم عليه منه، فإذا عظمت المعرفة واستقرت هاج الخوف من الله وثبت الرجاء.

قلت خوفا لماذا؟ ورجاء لماذا؟ قال: خوفا لما ضيعوا في سالف الأيام لازما لقلوبهم، ثم خوفا ثابتا لا يفارق قلوب المحبين، خوفا أن يسلبوا النعم إذا ضيعوا الشكر على ما أفادهم، فإذا تمكن الخوف من قلوبهم وأشرفت نفوسهم على حمل القنوط عنهم هاج الرجاء بذكر سعة الرحمة من الله، فرجاء المحبين تحقيق، وقربانهم الوسائل، فهم لا يسأمون من خدمته، ولا ينزلون في جميع أمورهم إلا عند أمره، لمعرفتهم به أنه قد تكفل لهم بحسن النظر، ألم تسمع إلى قول الله {(الله لطيف بعباده)} فدخلت النعم كلها في اللطف، واللطف ظاهر على محبته خاصة دون الخليقة، وذلك أن الحب إذا ثبت في قلب عبد لم يكن فيه فضل لذكر إنس ولا جان، ولا جنة ولا نار، ولا شيء إلا ذكر الحبيب وذكر أياديه وكرمه، وذكر ما دفع عن المحبين له من شر المقادير، كما دفع عن إبراهيم الخليل عليه السلام وقد أججت النار وتوعده المعاند بلهب الحريق، فأراه جل وعز آثار القدرة في مقامه، ونصرته لمن قصده، ولا يريد به بدلا. وذكر ما وعد أولياؤه من زيارتهم إياه وكشف الحجب لهم، وأنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر في يوم فزعهم إلى معونته على شدائد الأخطار،

ص: 77

والوقوف بين الجنة والنار. قال الحارث: وقيل إن الحب لله هو شدة الشوق وذلك أن الشوق في نفسه تذكار القلوب بمشاهدة المعشوق، وقد اختلف العلماء في صفة الشوق فقالت فرقة منهم: الشوق انتظار القلب دولة الاجتماع.

وسألت رجلا لقيته في مجلس الوليد بن شجاع يوما عن الشوق متى يصح لمن ادعاه؟ فقال: إذا كان لحالته صائنا مشفقا عليها من آفات الأيام، وسوء دواعي النفس، وقد صدق العالم في قوله، وذلك أن المشتاقين لولا أنهم ألزموا أنفسهم التهم والمذلة لسلبوا عذوبات الفوائد التي ترد من الله على قلوب محبيه.

قلت: فما الشوق عندك؟ قال: الشوق عندي سراج نور من نور المحبة غير أنه زائد على نور المحبة الأصلية. قلت: وما المحبة الأصلية؟ قال حب الإيمان وذلك أن الله تعالى قد شهد للمؤمنين بالحب له فقال {(والذين آمنوا أشد حبا لله)} فنور الشوق من نور الحب وزيادته من حب الوداد، وإنما يهيج الشوق في القلب من نور الوداد فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به، وليس يطفئ ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان، فإذا أمن على العمل من عدوه لم يجد لإظهاره وحشة السلب فيحل العجب وتشرد النفس مع الدعوى وتحل العقوبات من المولى وحقيق على من أودعه الله وديعة من حبه فدفع عنان نفسه إلى سلطان الأمان يسرع به السلب إلى الافتقاد وقالت امرأة من العوابد: والله لو وهب الله لأهل الشوق إلى لقائه حالة لو فقدوها لسلبوا النعيم. قيل لها:

وما تلك الحالة؟ قالت استقلال الكثير من أنفسهم ويعجبون منها كيف صارت مأوى لتلك الفوائد وهى وقيل لبعض العباد أخبرنا عن شوقك إلى ربك ما وزنه في قلبك؟ فقال العابد للسائل؟ لمثلي يقال هذا لا يمكن أن يوزن في القلب شيء إلا بحضرة النفس وإن النفس إذا حضرت أمرا في القلب من - ميراث القربة قذفت فيه أسباب الكدورات وقيل لمضر القارئ: الخوف أولى بالمحب أم الشوق؟ فقال هذه مسألة لا أجيب فيها، ما اطلعت النفس على شيء قط إلا أفسدته. وأنشدني عبد العزيز بن عبد الله فى ذلك يقول:

ص: 78

الخوف أولى بالمسى

ء إذا تاله والحزن

والحب يحسن بالمطيع

وبالنقى من الدرن

والشوق للنجباء والأبدا

ل عن ذوي الفطن

فلذلك قيل الحب هو الشوق لأنك لا تشتاق إلا إلى حبيب، فلا فرق بين الحب والشوق إذا كان الشوق فرعا من فروع الحب الأصلي وقيل إن الحب يعرف بشواهده على أبدان المحبين وفى ألفاظهم، وكثرة الفوائد عندهم الدوام الاتصال بحبيبهم، فإذا واصلهم الله أفادهم فإذا ظهرت الفوائد عرفوا بالحب لله ليس للحب شبح ماثل ولا صورة فيعرف بجبلته وصورته، وإنما يعرف المحب بأخلاقه وكثرة الفوائد التي يجريها الله على لسانه بحسن الدلالة عليه، وما يوحى، إلى قلبه، فكلما ثبتت أصول الفوائد في قلبه نطق اللسان بفروعها، فالفوائد من الله واصلة إلى قلوب محبيه فأبين شواهد المحبة لله شدة النحول بدوام الفكر وطول السهر بسخاء الأنفس على الأنفس بالطاعة وشدة المبادرة خوف المعالجة والنطق بالمحبة على قدر نور الفائدة، فلذلك قيل إن علامة الحب لله حلول الفوائد من الله بقلوب من اختصه الله بمحبته وأنشد بعض العلماء.

له خصائص يكلفون بحبه

اختارهم في سالف الأزمان

اختارهم من قبل فطرة خلقهم

بودائع وفوائد وبيان

فالحب لله في نفسه استنارة القلب بالفرح لقربه من حبيبه، فإذا استنار القلب بالفرح استلذ الخلوة بذكر حبيبه، فالحب هائج غالب والخوف لقلبه لازم لا هائج إلا أنه قد ماتت منه شهوة كل معصية وهدى لأركان شدة الخوف وحل الأنس بقلبه لله فعلامة الأنس استثقال كل أحد سوى الله، فإذا ألف الخلوة بمناجاته حبيبه استغرقت حلاوة المناجاة العقل كله حتى لا يقدر أن يعقل الدنيا وما فيها، ومن ذلك قول ضيغم العابد: عجبا للخليقة كيف استنارت قلوبهم بذكر غيرك؟ وحدثني أبو محمد قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود إن محبتي في خلقي أن يكونوا روحانيين وللروحانية علم

ص: 79

هو أن لا يغتموا وأنا مصباح قلوبهم يا داود لا تمزج الغم قلبك فينقص ميراث حلاوة الروحانيين. يا داود هممت للخبز أن تأكله وأنت تريدني وتزعم أنك منقطع إلى، تدعى محبتى وأنك قد احبتنى وأنت تسئ الظن بي أما كان لك علم فيما بيني وبينك أن كشفت لك الغطاء عن سبع أرضين حتى أريتك دودة في فيها برة تحت سبع أرضين، حتى تهتم بالرزق. يا داود أقر لى بالعبودية أبحك ثواب العبودية وهو محبتي. يا داود تواضع لمن تعلمه ولا تطاول على المريدين فلو يعلم أهل محبتي ما قدر المريدين عندي لكانوا للمريدين أرضا يمشون عليها، وللحسوا أقدامهم. يا داود إذا رأيت لي طالبا فكن لى خادما واصبر على المئونة تأتك المعونة. يا داود لأن يخرج على يديك عبد ممن أسكره حب الدنيا حتى تستنقذه من سكره ما هو فيه سميتك عندي جهبذا، ومن كان جهبذا لم تكن به فاقة ولا وحشة إلى أحد من خلقي. يا داود من لقيني وهو يحبني أدخلته جنتى.

• أخبر أبو بكر محمد بن أحمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني حدثني أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن ميمون قال سمعت الحارث بن أسد المحاسبي يقول: علامة أهل الصدق من المحبين غاية أملهم في الدنيا أن تصبر أبدانهم على الدون وأن تخلص لهم النيات من فسادها ومنهم من يريد في الدنيا شواهد الكرامات عند سرعة الاجابة وغاية أملهم فى بالآخرة أن ينعمهم بنظره إليهم، فنعيمها الأسفار وكشف الحجاب حتى لا يمارون في رؤيته، والله ليفعلن ذلك بهم إذا استزارهم إليه. وحدثني بعض العلماء قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وما يكابد المكابدون في طلب مرضاتي، فكيف إذا صاروا إلى جواري واستزرتهم للمقعد عندي، أسفرت لهم عن وجهي، فهنالك فليبشر المصفون للرحمن أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب أتراني أنسى لهم عملا؟ كيف وأنا ذو الفضل العظيم، أجود على المولين عني فكيف بالمقبلين علي وما غضبت على شيء كغضبي على من أخطأ خطيئة ثم استعظمها في جنب عفوي ولو

ص: 80

عاجلت أحدا بالعقوبة لعاجلت القانطين من رحمتي ولو يراني عبادي كيف أستوهبهم ممن اعتدوا عليهم بالظلم في دار الدنيا ثم أوجبت لمن وهبهم النعيم المقيم لما اتهموا فضلي وكرمي ولو لم أشكر عبادي إلا على خوفهم من المقام بين يدي لشكرتهم على ذلك، ولو يراني عبادي كيف أرفع قصورا تحار فيها الأبصار فيقال لمن هذه فأقول لمن عصاني ولم يقطع رجاء مني فأنا الديان الذى الاتحل معصيتي ولا حاجة بي إلى هوان من خاف مقامي. وحدثني بعض إخواني ممن يوثق به قال: عاتب الحسن إخوانه في ترك مجالستهم فقال الحسن: مجالسة الله أشهى من مجالستكم وذكر الله أشفى من ذكركم، أما بلغكم ما أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إنك خليلي فانظر لا أطلع عليك فأجدك شغلت قلبك بغيري فإني إنما أختار لخلتي من لو ألقي في النار وهو في ذكري لم يجد المس النار ألما، ومن إذا تراءت له الجنة وقد زخرفت وزينت بحورها وما فيها من النعيم لم يرها بعينه ولا شغل بها عن ذكري، فإذا كان كذلك تواترت عليه ألطافي وقربته مني ووهبت له محبتي، ومن وهب له محبتي فقد استمسك بحبلي. فأي نعمة تعدل ذلك وأى شرف اشرف منه؟ فو عزتى لأرينه وجهى ولا شفين صدره من النظر إلي. وقال إبراهيم بن أدهم: لو علم الناس لذة حب الله لقلت مطاعمهم ومشاربهم وحرصهم وذلك أن الملائكة أحبوا الله فاستغنوا بذكره عن غيره. وسمعت محمد بن الحسين يقول قال عتبة الغلام: من عرف الله أحبه: ومن أحب الله أطاعه ومن أطاع الله أكرمه ومن أكرمه أسكنه في جواره. ومن أسكنه في جواره فطوباه وطوباه. والمحب الصادق إذا استنار قلبه بنور حب الوداد نحل جسمه، لأن قليل المحبة يبين على صاحبها كثير النحول، فإذا وردت خطرات الشوق عليه علم أنه من الله تعالى على خلال أربع: إما أن يتقبل طاعته فيفوز بثوابها، وإما أن يشغله في الدنيا بطاعته عن الآثام فتقل خطاياه، وإما أن يتداركه بنظره فيلحقه بدرجة المحبين تفضلا، وإن لم يستحق ذلك. فإن فاتته الثلاث لم يفته الرابع إن شاء الله ثواب النصب لله، وذلك أن قليل القربة عند الكريم يعتق بها الرقاب من النار

ص: 81

فمن نجا من النار فماله منزلة غير الجنة، ألم تسمع إلى قوله تعالى {(فريق في الجنة وفريق في السعير)} فهل ترى لأحد منزلة بينهما ومن أراد الدخول في عز المحبة فعليه بمفارقة الأحباب والخلوة برب الأرباب. فإن قيل فمن أين؟ قلت: ذلك فقد حدثني بعض العلماء. قال قال إبراهيم بن أدهم لأخ له في الله: إن كنت تحب أن تكون لله وليا وهو لك محبا فدع الدنيا والآخرة ولا ترغبن فيهما، وفرغ نفسك منهما وأقبل بوجهك على الله يقبل الله بوجهه عليك، ويلطف بك، فإنه بلغني أن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام يا يحيى إني قضيت على نفسي أن لا يحبني عبد من عبادي أعلم ذلك منه إلا كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي يتكلم به وقلبه الذي يفهم به، فإذا كان ذلك كذلك بغضت إليه الاشتغال بغيري. وأدمت فكرته وأسهرت ليله وأظمأت نهاره.

يا يحيى أنا جليس قلبه وغاية أمنيته وأمله أهب له كل يوم وساعة فيتقرب مني وأتقرب منه أسمع كلامه وأجيب تضرعه فو عزتي وجلالى لابعثنه مبعثا يغبطه به النبيون والمرسلون. ثم آمر مناديا ينادى هذا فلان بن فلان ولي الله وصفيه وخيرته من خلقه دعاه إلى زيارته ليشفي صدره من النظر إلى وجهه الكريم، فإذا جاءني رفعت الحجاب فيما بيني وبينه فنظر إلي كيف شاء، وأقول: ابشر فو عزتي وجلالي لأشفين صدرك من النظر إلي، ولأجددن كرامتك في كل يوم وليلة وساعة، فإذا توجهت الوفود إليه أقبل عليهم فقال: أيها المتوجهون إلى ما ضركم ما فاتكم من الدنيا إذا كنت لكم حظا، وما ضركم من عاداكم إذا كنت لكم سلما. قال: وحدثني الحسين بن أحمد الشامي قال سمعت ذا النون المصري يقول: قرأت في التوراة أن الأبرار الذين يؤمنون والذين في سبيل خالقهم يمشون وعلى طاعته يقبضون أولئك إلى وجه الجبار ينظرون، فغاية أمل الآمل المحب الصادق النظر إلى وجه الله الكريم، فلا ينعمهم في مجلسهم بشيء أكبر عندهم من النظر إلى وجهه. وبلغني أنه ينعمهم بعد النظر بأصوات الروحانيين وبتلاوة داود عليه السلام الزبور، فلو رأيت داود وقد أتى بمنبر رفيع من منابر الجنة ثم أذن له أن يرقى وأن يسمع حمده وثناءه، وقد أنصت

ص: 82

له جميع أهل الجنة من الأنبياء والأولياء والروحانيين والمقربين، ثم ابتدأ داود بتلاوة الزبور على سكون القلب عند حسن حفظه وترجيعه وتسكينه الصوت، وحسن تقطيعه، وقد وكل بها زمعها، وفاح منها طربها، وقد بدت النواجذ من الضاحكين بحبرة السرور، وأجاب داود هواء الملكوت، وفتحت مقاصير القصور، ثم رفع داود عليه السلام من صوته ليتم سرورهم فلما أسمعهم الرفيع من صوته برز أهل عليين من غرف الجنة وأجابته الحور من وراء سترات الخدور بمفتنات النغم، وأطت رحال المنبر واصطفقت الرياح فزعزعت الأشجار، فتراسلت الأصوات وتجاوبت النغم، وزادهم المليك الفهم ليتم ما بهم من النعم فلولا أن الله كتب لهم فيها البقاء لماتوا فرحا. قلت: فهل قالت العلماء في صفة يوم الزيارة شيئا تصفهم به؟ قال نعم.

اجتمع جماعة من العباد فأتوا عابدا في بيته فقالوا له: قل خيرا وأوصنا بوصية.

فقال: اقطعوا الدهر إخوتي بمناجاة ربكم، واجعلوا لهم هما واحدا، فهو أهنأ لعيشكم. قيل له: فما ميراث ذلك إذا نحن فعلناه؟ فقال:

ترثوا العز والمنى

وتفوزوا بحظكم

فلعمري إن الملوك

لفي دون ملككم

قيل له: فمتى نكون ملوكا في الدنيا أو فى الآخرة؟ فقال:

إنما تجعلون ملوكا

فى الأخرى بزهدكم

حين يسنكم العزيز

على قدر شكركم

فتكونوا في القرب منه

على قدر حبكم

قالوا: فما الذي يقطع بنا عنه عز وجل؟ فقال: لأنكم تتمادون في المنى وتناسون فعلكم، وأنتم مع ذلك تتمنوا أماني ليس تصلح بمثلكم وذلك أنكم شغلتم عن الإله بإصلاح عيشكم. قالوا: فبم نستعين على الطاعة؟ قال: بذكر حبيب العابدين. إنكم لو سقيتم من حبه مثل ما ذاق غيركم لنفي عنكم الرقاد على طيب فرشكم، وارتياحا يقل عند المناجاة صبركم، ثم أرم ساعة - يعني سكت - ثم أقبل عليهم فقال: إخوتي لو وردتم في غد عند بعثكم، فوق نوق من

ص: 83

النجائب معكم نبيكم، لتزوروا ماجدا واحدا لا يملكم. قالوا له: فما حال الزوار عنده اذا قصدوه تبارك اسمه معهم نبيهم؟ قال. إنهم حين قاربوه تجلى لقربهم، فإذا عاينوا المليك تقضت همومهم، سمعوا كلامه وسمع كلامهم. قالوا فما علامة من سقاه الله بكأس محبته؟ فقال: علامته أن يكون عليل الفؤاد بذكر المعاد، بطيء الفتور في جميع الأمور، كثير الصيام شديد السقام، عفيفا كفيفا، قلبه في العرش جوال، والله مراده في كل الأحوال.

قلت: رحمك الله ما أقرب ما يتقرب به العبد المحب إلى الله؟ قال:

حدثني محمد بن الحسين قال سئل أبو سليمان الداراني عن أقرب ما يتقرب به إليه. قال: أن يطلع على قلبه وهو لا يريد من الدنيا والآخرة غيره ففي هذا دليل على أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله كل عمل عمله بالإخلاص لله والإشفاق عليه من عدوه، وإن قل ذلك فهو المقبول إذا كان على حقيقة التقوى معمولا، كما قال علي بن أبي طالب: عمل صالح دائم مع التقوى وإن قل، وكيف يقل ما يتقبل، وذلك أن المحب لله هو على الركن الأعظم من الإيمان الذي يمكن أن يستكمله العبد، ولا يحسن به ادعاؤه وهو ركن المعرفة بالنعم، وإظهار الشكر للمنعم، وذلك أن الله تعالى يقول لولي من أوليائه:

يا عبدي أما زهدك في الدنيا فطلبت به الراحة لنفسك، وأما انقطاعك إلي فتعززت بي فهل عاديت لي عدوا أو واليت لي وليا؟ فيخبرك أنه جعل الحب والبغض فيه أعظم عنده ثوابا من الزهد في الدنيا، والانقطاع إليه. قلت له:

صف لي زهد المحبين، وزهد الخائفين، وزهد الورعين، وزهد المتوكلين.

فقال: إن العباد زهدوا في حلال الدنيا خوفا من شدة الحساب إذ سئلوا عن الشكر فلم يؤدوا الشكر على قدر النعم، وفرقة من الخائفين زهدوا فى الحرام خوفا من حلول النقمة، فزهد الخائفين ترك الحرام البين. وزهد الورعين ترك كل شبهة، وزهد المتوكلين ترك الاضطراب فيما قد تكفل به من المعاش، لتصديقهم بوفاء الضامن. وزهد المحبين قد قالت فيه العلماء ثلاثة أقوال فقالت فرقة: زهد المحب في الدنيا كلها في حلالها وحرامها، لقلتها في نفسه. وقالت

ص: 84

فرقة أخرى: زهد المحب في الجنة دون الدنيا، حذرا من أن يقول له حبيبه:

يا محب أي شيء تركت لي؟ فيقول: تركت لك الدنيا. فيقول: وما قدر الدنيا؟ فيقول: يا رب قدرها جناح بعوضة. فيلحقه من الحياء من الله أن يقول له: تركت لك ما قدره جناح بعوضة، ولكن تعلم يا رب أني لم أعبدك إلا بثواب الجنة فقط لا أريد منك غير ذلك. وما الجنة مع ذكرك. فزهد المحب الصادق في الدنيا هو الزهد في الإخوان الذين يشغلون عن الله، فقد زهد فيهم لعلمه بما يلحقه من الآفات عند مشاهدتهم، فزهده فيهم على علم بهم.

• أخبرنا محمد بن أحمد وحدثني عنه عثمان بن محمد - قبل أن لقيته - ثنا أبو العباس بن مسروق قال سمعت الحارث بن أسد يقول: من عدم الفهم عن الله فيما وعظ لم يحسن أن يستجلب وعظ حكيم، ومن خرج من سلطان الخوف إلى عزة الأمن اتسعت به الخطا إلى مواطن الهلكة، فكشفت عنه ستر العدالة، وفضحته شواهد العزة، فلا يرى جميلا يرغب فيه، ولا قبيحا يأنف عنه، فتبسط نفسه إلى ري الشهوات، ولا تميل إلى لذيذ الراحات، فيستولي عليه الهوى فينقص قدره عند سيده، ويشين إيمانه ويضعف يقينه.

• أخبرنا محمد بن أحمد وحدثني عنه عثمان ثنا أبو العباس بن مسروق قال:

سئل الحارث بن أسد عن الزهد في الدنيا قال: هو عندي العزوف عن الدنيا ولذاذتها وشهواتها: فتنصرف النفس ويتعزز الهم، وانصراف النفس ميلها إلى ما دعا الله إليها بنسيان ما وقع به من طباعها، واعتزازا لهم الانقطاع إلى خدمة المولى، يضن بنفسه عن خدمة الدنيا مستحيا من الله أن يراه خادما لغيره، فانقطع إلى خدمة سيده، وتعزز بملك ربه، فترحل الدنيا عن قلبه، ويعلم أن في خدمة الله شغلا عن خدمة غيره، فيلبسه الله رداء عمله، ويعتقه من عبوديتها، واعتز أن يكون خادما للدنيا لعزة العزيز الذي أعزه بالاعتزاز عنها، فصار غنيا من غير مال، وعزيزا من غير عشيرة، ودرت ينابيع الحكمة من قلبه، ونفدت بصيرته، وسمت همته، ووصل بالوهم إلى منتهى أمنيته، فترقى وارتفع ووصل إلى روح الفرج من هموم الأطماع، وعذاب

ص: 85

الحرص. وقيل له: كيف تفاوت الناس في الزهد؟ قال: على قدر صحة العقول وطهارة القلوب، فأفضلهم أعقلهم، وأعقلهم أفهمهم عن الله، وأفهمهم عن الله أحسنهم قبولا عن الله، وأحسنهم قبولا عن الله أسرعهم إلى ما دعا الله عز وجل، وأسرعهم إلى ما دعا الله عز وجل أزهدهم في الدنيا، وأزهدهم في الدنيا أرغبهم في الآخرة. فبهذا تفاوتوا في العقول، فكل زاهد زهده على قدر معرفته، ومعرفته على قدر عقله، وعقله على قدر قوة إيمانه، فمن استولى على قلبه وهمه علم كشف الآخرة، ونبهه التصديق على القدوم عليها، وتبين بقلبه عوار الدنيا، ودله بصائر الهدى على سوء عواقبها، ومحبة اختيار الله في تركها، والموافقة لله في العزوف عنها، ترحلت الدنيا عن قلب هذا الموفق. وسئل عن علامة الصادق فقال: أن يكون بصواب القول ناطقا لسانه، محزون، ونطقه بالحق موزون، طاهر القلب من كل دنس، ومصافي مولاه في كل نفس.

• أخبرنا محمد في كتابه قال: أنبأنا أحمد بن عبد الله بن ميمون قال قال الحارث بن أسد: المنقطع إلى الله عز وجل عن خلقه ظاهره ظاهر أهل الدنيا وباطنه باطن المجلين الهائبين لربهم، لأنه صرف قلبه إلى ربه فاشتغل بذكر رضاه عن ذكر رضا خلقه، فطاب في الدنيا عيشه، وتطهر من آثامه، وأنزل الخلق بالمنزلة التي أنزلهم ربهم، عبيدا إذ لا يملكون له ضرا ولا نفعا، فآثر رضاء الله على رضاهم، فسخت نفسه بطلب رضى الله، وإن سخط جميع خلق الله يرضي الله بسخط كل أحد، ولا يسخط الله برضى أحد من خلقه، فملاك أمره في جميع ذلك ترك الاشتغال والتثبيت لمراقبة الرقيب عليه، فلا يعجل فيسخطه عليه. وقال: أسرع الأشياء عظة للقلب وانكسارا له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له، وأسرع الأشياء إماتة للشهوات لزوم القلب الأحزان. وأكثر الأشياء صرفا إزالة الاشتغال بالدنيا من القلوب عند المعاينة والمباشرة لها الاعتبار بها والنظر إلى ما غاب من الآخرة، وأسرع الأشياء هيجانا للتعظيم لله من القلب تدبر الآيات، والدلائل في التدبير المحكم، والصنعة المحكمة

ص: 86

المتقنة من السماء والأرض، وما بث بينهما من خلقه دلائل ناطقة وشواهد واضحة أن الذى دبرها عظيم قدره، نافذ مشيئته، عزيز في سلطانه. وأشد الأشياء للقلب عن التشاغل بالدنيا الكمد من بعد الحزن وأبعث الأشياء على سخاء النفوس بترك الشهوات الشوق إلى لقاء العزيز الكبير. وأشد الأشياء إزالة للمكابدات في علو الدرجات في منازل العبادات لزوم القلب محبة الرحمن.

وأنعم الأشياء لقلوب العابدين وأدومها لها سرورا الشوق إلى قرب الله، واستماع كلامه، والنظر إلى وجهه. وأظهرها لقلوب المريدين التوبة النصوح منهم للعرض على رب العالمين، فتلك طهارة المتقين، ومن بعدها طهارة المحبين، وهو قطع الأشغال لكل شيء من الدنيا عن محبوبهم فإذا طهرت القلوب من كل شيء سوى الله خلا من ذكر كل قاطع عن الله، وزال عنه كل حاجب يحجب عنه، فتم بالله سروره، وصفا ذكره في قلبه، واستنار له سبيل الاعتبار، فكانت الدنيا وأهلها عينا ينظر بها إلى ما سترته الحجب من الملكوت، فحينئذ دام بالله شغله، وطال إليه حنينه، وقرت بالله عينه، فالحزن والكمد قد أشغلا قلبه، والمحبة والشوق قد أشخصا إلى الله فؤاده، فشوقه إلى طلب القرب، والحزن أن يحال بينه وبينه.

• أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ثنا أحمد بن عبد الله بن ميمون قال قلت للحارث بن أسد: ما المزهود من أجله؟ قال: الذي تجانب الدنيا من أجله خمسة أشياء أحدها أنها مفتنة مشغلة للقلوب عنه، والثانية أنها تنقص غدا من درجات من ركن إليها فلا يكون له من الدرجات كمن زهد فيها. والثالثة أن تركها قربة وعلو عنده في درجات الجنة. والرابعة الحبس في القيامة وطول الوقوف والسؤال عن شكر النعيم بها، وفي واحدة من هذه الخصال ما يبعث المريد اللبيب على رفضها، ليشتري بها خيرا منها. والخامسة أعظم ما رفضوا من أجله موافقة الرب في محبته أن يصغروا ما صغر الله، ويقللوا ما قلل الله، ويبغضوا ما أبغض الله، ويرفضوا ما أحب الله رفضه، لو لم ينقصهم من ذلك

ص: 87

ولم يشغلهم في دنياهم عن طاعته، ولم يغفلوا عن شكره، وكان ثواب الرافض لها فى الآخرة، والراكن اليها واحدا، كان الله عز وجل أهلا أن يبغض ما أبغض، ويتهاون بما أهان عليه، وذلك زهد المحبين له، المعظمين المجلين.

وقد دل الله عز وجل على هذه الخمس خصال بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما نطق به أهل الخاصة من عباده الحكماء العلماء.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصر في كتابه وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت أبا عثمان البلدي يقول: بلغني عن الحارث بن أسد أنه قال: العلم يورث المخافة، والزهد يورث الراحة، والمعرفة تورث الإنابة، وخيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم، ولا دنياهم عن آخرتهم، ومن صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة، ومن اجتهد في باطنه ورثه الله حسن معاملة ظاهره، ومن حسن معاملته في ظاهره مع جهد باطنه ورثه الله الهداية إليه، لقوله تعالى {(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)} الآية.

• أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال قال الحارث بن أسد وسئل بم تحاسب النفس؟ قال: بقيام العقل على حراسة جناية النفس، فيتفقد زيادتها من نقصانها، فقيل له: ومم تتولد المحاسبة؟ قال: من مخاوف النقص وشين البخس والرغبة في زيادة الأرباح، والمحاسبة تورث الزيادة في البصيرة، والكيس في الفطنة والسرعة إلى إثبات الحجة واتساع المعرفة، وكل ذلك على قدر لزوم القلب للتفتيش. فقيل له: من أين تخلف العقول والقلوب عن محاسبة النفوس؟ قال: من طريق غلبة الهوى والشهوة لأن الهوى والشهوة يغلبان العقل، والعلم والبيان. وسئل: مم يتولد الصدق؟ قال: من المعرفة بأن الله يسمع ويرى، وخوف السؤال عن مثاقيل الذر من إرسال اللفظ وخلف الوعد، وتأخير الضمان. فالمعرفة أصل للصدق، والصدق أصل لسائر أعمال البر، فعلى قدر قوة الصدق يزداد العبد في سائر أعمال البر.

ص: 88

وسئل عن الشكر ما هو؟ قال: علم المرء بأن النعمة من الله وحده وأن لا نعمة على خلق من أهل السموات والأرض إلا وبدائعها من الله، فشكر الله عن نفسه وعن غيره، فهذا غاية الشكر. وسئل عن الصبر قال: هو المقام على ما يرضي الله تبارك وتعالى بترك الجزع وحبس النفس في مواضع العبودية مع نفي الجزع. فقيل له: فما التصبر قال: حمل النفس على المكاره، وتجرع المرارات، وتحمل المؤن، واحتمال المكابدات لتمحيص الجنايات، وقبول التوبة، لأن مطلب المتصبر تمحيص الجنايات رجاء الثواب، ومطلب الصابر بلوغ ذرى الغايات، والمتصبر يجد كثيرا من الآلام، والصابر سقط عنه عظيم المكابدات لأن مطلبه العمل على الطيبة والسماحة لعلمه بأن الله ناظر إليه في صبره، وأنه يعينه وأن صبره لمولاه لما يرضى مولاه عنه فاحتمل المؤن وفيه يقول الحكيم:

رضيت وقد أرضى إذا كان مسخطي

من الأمر ما فيه رضى من له الأمر

وأشجيت أيامي بصبر حلون لي

عواقبه والصبر مثل اسمه صبر

قيل: فكيف السبيل إلى مقام الرضا؟ قال: علم القلب بأن المولى عدل في قضائه غير متهم، وأن اختيار الله له خير له من اختياره لنفسه، فحينئذ أبصرت العقول وأيقنت القلوب، وعلمت النفوس، وشهدت لها العلوم أن الله أجرى بمشيئته ما علم أنه خير لعبده في اختياره ومحبته، وعلمت القلوب أن العدل من واحد ليس كمثله شيء فخرست الجوارح من الاعتراض على من قد علمت أنه عدل في قضائه غير متهم في حكمه، فسر القلب من قضائه.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه أحمد بن محمد بن مقسم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت الحارث بن أسد يقول: اعلم بأنك لست بشيء إلا بالله، وليس لك شيء إلا ما نلت من رضوان الله، وأنك إن اتقيته في حقه وقاك شر من دونه، ولا يصلح عبد إلا أصلح الله بصلاحه سواه، ولا يفسد عبد إلا أفسد الله بفساده غيره، فأعداؤك من نفسك طبائعك السيئة، وأولياؤك من نفسك طبائعك الحسنة، فقاتل ما فيك من ذلك ببغض

ص: 89

وقاتل أعداءك بأوليائك، وغضبك بحلمك، وغفلتك بتفكرك، وسهوك يتنبهك، فإنك قد منيت وابتليت من معاني طبائعك، ومكابدة هواك، وعليك بالتواضع فالزمه، واعلم أن لك من العون عليه أن تذكر الذي أنت فيه، والذي تعود إليه، والتواضع له وجوه شيء، فأشرفها وأفضلها أن لا ترى لك على أحد فضلا، وكل من رأيت كن له بالضمير والقلب مفضلا، ومن رأيت من أهل الخير رجوت بركته والتمست دعوته، وظننت أنه إنما يدفع عنك به، فهذا التواضع الأكبر. والتواضع الذي يليه أن يكون العبد متواضعا بقلبه، متحببا إلى من عرفه، غير محتقر لمن خالفه، ولا مستطيلا على من هو بحضرته، وليس بقريب منه. وأما التواضع الثالث فهو اللازم للعباد، الواجب عليهم الذي لو تركوه كفروا، فالسجود لله، وبذلك جاء الحديث «إنه من وضع جبهته لله فقد برئ من الكبر» وقد من الله تعالى به علينا وعليكم. أبلغنا الله وإياكم التواضع الأكبر.

• أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه - وحدثني عنه أولا عثمان بن محمد ثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن ميمون قال سمعت الحارث بن أسد يقول:

افهم ما أقول لك، وفرغ للفكرة فيه عقلك، وأدم له توهمك، وتوهمه بذهنك، وأحضر لبك واشتغل بذكره وبقطع كل مذكور سواه، ومتوهم غيره، فإنا خلقنا للبلوى والاختبار، وأعد لنا الجنة أو النار، فعظم ذلك الخطر وطال به الحزن لمن عقل، واذكر حتى تعلم أين يكون المصير والمستقر، ذلك بأنه قد عصى الرب وخالف المولى، وأصبح وأمسى بين الغضب والرضا لا يدري أيهما قد حل به ووقع، فعظم لذلك غمه، واشتد به كربه، وطال له حزنه، حتى يعلم كيف عند الله حاله، فإليه فارغب في التوفيق، وإياه فسل العفو عن الذنوب، واستعن بالله في كل الأمور فالعجب كيف تقر عينك أو يزول الوجل عن قلبك وقد عصيت ربك والموت نازل بك لا محالة بكربه وغصصه ونزعه وسكراته فكأنه قد نزل بك وشيكا فتوهم نفسك وقد صرعت للموت صرعة لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربك، فتوهم ذلك بقلب فارغ وهمة

ص: 90

هائجة من قلبك بالرحمة لبدنك الضعيف وارجع عما يكره مولاك وترضا عسى أن يرضى عنك واعتبه واستقله عثراتك وابك من خشيته عسى أن يرحم عبراتك فإن الخطب عظيم والموت منك قريب ومولاك مطلع على سرك وعلانيتك، واحذر نظره إليك بالمقت والغضب وأنت لا تشعر فأجل مقامه ولا تستخف بنظره ولا تتهاون باطلاعه، واحذره ولا تتعرض لمقته فإنه لا طاقة لك بغضبه ولا قوة لك بعذابه.

• أخبرنا محمد بن أحمد وحدثني عنه عثمان ثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال سئل الحارث بن أسد عن مقام ذكر الموت ما هو عندك؟ مقام عارف أو مستأنف؟ فقال: ذكر الموت أولا مقام المستأنف وآخرا مقام العارف. قيل له: بين من أين قلت ذلك؟. قال: نعم أما المستأنف فهو المبتدئ الذي يغلب على قلبه الذكر فيترك الزلل مخافة العقاب، فكلما هاج ذكر الموت من قلبه ماتت الشهوات عنده. وأما العارف فذكره للموت محبة له اختيارا على الحياة وتبرما بالدنيا التي قد سلا قلبه عنها شوقا إلى الله ولقائه رجاء أمل النظر إلى وجهه، والنزول في جواره لما غلب على قلبه من حسن الظن بربه كما قيل.

طال شوق الأبرار إلى الله

والله إلى لقائهم أشوق

قيل له: فكيف نعت ذكر الموت في قلب المستأنف وقلب العارف؟ قال:

المستأنف إذا حل بقلبه ذكر الموت كرهه وتخير البقاء ليصلح الزاد ويرو الشعث ويهيئ الجهاز للعرض والقدوم على الله، ويكره أن يفاجئه الموت، ولم يقض نهمته في التوبة والاجتهاد والتمحيص، فهو يحب أن يلقى الله على غاية الطهارة. وأما نعته في قلب العارف فإنه إذا خطر ذكر ورود الموت بقلبه صادقت منه موافقة مراده وكره التخلف في دار العاصين، وتخير سرعة انقضاء الأجل وقصر الأمل، فقيرة إليه نفسه، مشتاق إليه قلبه، كما روي عن حذيفة بن اليمان حين حضره الموت قال:«حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللهم إن كنت تعلم أن الموت أحب إلي من الحياة فسهل علي الموت حتى ألقاك» . قال: وسئل الحارث عن قول أبي سليمان الداراني. ما رجع

ص: 91

من وصل، لو وصلوا ما رجعوا. فقال: قول أبي سليمان يحتمل أجوبة كثيرة. قبل اشرح منها شيئا. قال: يمكن أن يكون هذا من أبي سليمان على طريق التحريض للمريدين لئلا يميلوا إلى الفتور، ويحترزوا من الانقطاع، ويجدوا في طلب الاتصال والقربة إلى الله عز وجل، ويحتمل أن يكون أراد عاليا: ما رجع إلى الزلل من وصل إلى صافي العمل. ويحتمل: ما رجع إلى وحشة الفتور من تقحم في المقامات السنية من الأمور. ويحتمل: ما رجع إلى ذل عبودية المخلوقين من وصل إلى طيب روح اليقين، واستند إلى كفاية الواثقين واعتمد على الثقة بما وعد رب العالمين، فعلى هذه المعاني يحتمل الجواب في هذه المسألة على سائر المقامات. فبات السائل تلك الليلة عند الحارث، فلما أصبح قال الحارث: رأيت فيما يرى النائم كأن راكبا وقف وأنا أتكلم في هذه المسألة فقال - وهو يشير بيده -: ما رجع إلى الانتقاص من وصل إلى الإخلاص. قال: وسئل الحارث فقيل له: رحمك الله البلاء من الله للمؤمنين كيف سببه؟ قال: البلاء على ثلاث حجات على المخلطين نقم وعقوبات وعلى المستأنفين تمحيص الجنايات، وعلى العارفين من طريق الاختبارات.

فقيل له: صف تفاوتهم فيما تعبدوا به. قال: أما المخلطون فذهب الجزع بقلوبهم وأسرتهم الغفلة فوقعوا في السخط، وأما المستأنفون فأقاموا لله بالصبر في مواطن البلاء حتى تخلصوا ونجوا منه بعد مكابدة ومئونة، وأما العارفون فتلقوا البلاء بالرضا عن الله عز وجل فيما قضى، وعلموا أن الله عدل في القضاء فسروا بحلول المكروه لمعرفة عواقب اختيار الله لهم. قيل له: فما معنى هذه الآية {(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)} أو لم يعلم؟ قال: بلى قد علم ما يكون قبل أن يكون، ولكن معنى قوله {(حتى نعلم)} حتى نرى المجاهدين في جهادهم والصابرين في صبرهم. وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل إني لحفي بالمريدين لي وأن بعيني ما تحمل المتحملون من أجلي، وما يكابد المكابدون في طلب رضائي، أتراني أضيع لهم عملا، أو أنسى لهم أثرا، كيف وأنا ذو الجود أجود بفضلي على المولين عنى،

ص: 92

فكيف بالمقبلين إلي. قيل رحمك الله ما الذي أفاد قلوب العارفين وأهل العقل عنه في مخاطبة الآية؟ قال: تلقوا المخاطبة من الله بقوة الفهم عن الله حتى كأنهم يسمعون منه وأنه أقرب إليهم في وقت البلاء من أنفسهم إلى أبدانهم، فعلموا أنهم بعينه فقووا على إقامة الصبر والرضا في حالة المحن إذ كانوا بعين الله، والله تعالى يراهم، فحين أسقطوا عن قلوبهم الاختيار والتملك باحتيال قوة، ولجوا إليه وطرحوا الكنف بين يديه، واستبسلت جوارحهم في رق عبوديته بين يدي مليك مقتدر، فشال عند ذلك صرعتهم، وأقال عثرتهم، وأحاطهم من دواعي الفتور، ومن عارض خيانة الجزع، وأدخلهم في سرادق حسن الاحاطة من ملمات العدو ونزغانه وتسويله وغروره، فأسعفهم بمواد الصبر منه، ومنحهم حسن المعرفة والتفويض، ففوضوا أمورهم إليه وألجئوا إليه همومهم، واستندوا بوثيق حصن النجاة رجاء روح نسيم الكفاية، وطيب عيش الطمأنينة وهدو سكون الثقة، ومنتهى سرور تواتر معونات المحنة، وعظيم جسيم قدر الفائدة، وزيادات قدر البصيرة، وعلموا أنه قد علم منهم مكنون سرهم، وخفي مرادهم، ويكون ما حصل في القلوب من يقينهم وما شارت إليه في بواطن أوهامها، وسر غيبها، فعظم منهم حرص الطلب، وغاب منهم مكامن فتور الجد لمعرفة المعذرة فيهم. فهؤلاء في مقامات حسن المعرفة وحالات اتساع الهداية، وحسن بهاء البصيرة، فاعتزوا بعزة الاعتماد على الله. فقال له السائل: حسبي رحمك الله، فقد عرفتني ما لم أكن أعرف وبصرتني ما لم أكن أبصر، وكشفت عن قلبي ظلمة الجهل بنور العلم، وفائدة الفهم، وزيادات اليقين، وثبتني في مقامي، وزدتني في قدر رغبتي، وروحتني من ضيق خاطري. فأرشدك الله إلى سبيل النجاة، ووفقك للصواب بمنه ورأفته إنه ولي حميد.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني قال سمعت الجنيد يقول سمعت أبا عبد الله الحارث بن أسد يقول - وسئل عن المراقبة لله وعن المراقب لربه - فقال: إن المراقبة تكون على ثلاث خلال،

ص: 93

على قدر عقل العاقلين ومعرفتهم بربهم، يفترقون في ذلك، فإحدى الثلاث الخوف من الله، والخلة الثانية الحياء من الله، والخلة الثالثة الحب لله. فأما الخائف فمراقب بشدة حذر من الله تعالى، وغلبة فزع. وأما المستحيي من الله فمراقب بشدة انكسار وغلبة إخبات. وأما المحب فمراقب بشدة سرور وغلبة نشاط وسخاء نفس مع إشفاق، لا يفارقه ولن تكاد أن تخلو قلوب المراقبين من ذكر اطلاع الرقيب بشدة حذر من قلوبهم أن يراهم غافلين عن مراقبته.

والمراقبة ثلاث خلال في ثلاثة أحول أولها التثبت بالحذر قبل العمل بما أوجب الله، والترك لما نهى الله عنه مخافة الخطأ، فإذا تبين له الصواب بالمبادرة إلى العمل بما أوجب الله والترك لما نهى الله مخافة التفريط، فإذا دخل في العمل فالتكميل للعمل مخافة التقصير، فمن لم يثبت قبل العمل مخافة الخطأ فغير مراقب لمن يعمل له إذ كان لا يأمن من أن يعمل على غير ما أحب وأمر به، ومن لم يبادر ويسارع إلى عمل ما يحب الله بعد ما تبين له الصواب، فما راقب إذا بطأ عن العمل لمحبة من يراقبه، إذ يراه متثبطا عن القيام بما أمر به. ومن لم يجتهد في تكميل عمله فضعيف مقصر في مراقبة من يراقبه، إذا قصر عن إحكام العمل لمن يعمل وقد علم أن الله جل ثناؤه يحب تكميله وإحكامه. وقال: سبع خلال يكمل لها عمل المريد وحكمته: حضور العقل ونفاد الفطنة وسعة العمل بغير غلط وقهر العقل للهوى، وعظم الهم كيف يرضي الرب تعالى، والتثبت قبل القول والعمل وشدة الحذر للآفات التي تشوب الطاعات. وأقل المريدين غفلة أدومهم مراقبة مع تعظيم الرقيب، والدليل على صدق المراقبة بإجلال الرقيب شدة العناية بالفطنة لدواعي العقل من دواعى الهوى، والتثبت بالنظر بنور العلم، والتمييز بين الطاعة وما شابهها من الآفات، وقوة العزم على تكميل المراقبة في الحظوة في عين المليك المطلع، وشدة الفزع مما يكره خوف المقت، والدليل على قوة الخوف شدة الإشفاق مما مضى من السيئات أن لا تغفر، وما تقدم من الإحسان أن لا يقبل، ودوام الحذر فيما يستقبل أن لا يسلم، وعظم الهم من عظيم الرغبة، وعظيم الرغبة من كبر المعرفة بعظيم قدر المرغوب فيه،

ص: 94

وإليه، وسمو الهمة يخفف التعب والنصب، ويهون الشدائد في طلب الرضوان، ويستقل معه بذل المجهود بعظيم ما ارتفع إليه الهم والنشاط بالدوب دائم، والسرور بالمناجاة هائج، والصبر زمام النفس عن المهالك وإمساك لها على النجاة؛ فاليقين راحة للقلوب من هموم الدنيا، وكاسب لمنافع الدين كلها، وحسن الأدب زين للعالم وستر للجاهل، من قصر أمله حذر الموت، ومن حذر الموت خاف الفوت، ومن خاف الفوت قطع الشوق، ومن قطع الشوق بادر قبل زوال إمكان الظفر، فاجعل التيقظ واعظك، والتثبت وكيلك، والحذر منبهك، والمعرفة دليلك، والعلم قائدك، والصبر زمامك، والفزع إلى الله عز وجل عونك، ومن لم توسعه الدنيا غنى، ولا رفعة أهلها شرفا، ولا الفقر فيها صفة فقد ارتفعت همته وعزفت عن الدنيا نفسه. من كانت نعمته السلامة من الآثام، ورغب إلى الله في حوادث فوائد لمريد نقل عن الدنيا بقلبه ومن اشتد تفقده ما يضره في دينه وينفعه في آخرته، وذكر اطلاع الله إليه ومثل عظيم هول المطلع وأشفق مما يأتي به الخير فقد صدق الله في معاملته وحقق استعمال ما عرفه ربه. ومن قدم العزم لله على العمل بمحبته ووفاء لله بعزمه وجانب ما يعترض بقلبه من خطرات السوء ونوازع الفتن فقد حقق ما علم وراقب الله في أحواله، كهف المريد وحرزه التقوى، والاستعداد عونه وجنته التي يدفع بها آفات العوارض، وصور النوازل والحذر يورثه النجاة والسلامة، والصبر يورثه الرغبة والرهبة، وذكر كثرة سوالف الذنوب يورثه شدة الغم وطول الحزن، وعظم معرفته بكثرة آفات العوارض في الطاعات تورثه شدة الإشفاق من رد الإحسان.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: سأل سائل الحارث بن أسد: ما بالي أغتم على ما يفوتني من العلم ولا أعمل بما استفدت منه؟ قال: لأنك لا تخاف عظيم حجة الله عليك فيما علمت، وضيعت العمل لله فيما أوجبه عليك، ولم تقدم العزم أن تقوم بما تستفيد من العلم فيما تستزيد منه وكان يحق عليك أن تكون

ص: 95

بما علمت ولزمتك من الله أعظم الحجة لأنك إن تضيع حق الله وأنت لا تعلم خير من أن تضيع حق الله وأنت تعلم، لأن الجاهل لا يؤتى بتعمد من قلبه، ولا جرأة واستخفافا باطلاع ربه، والعالم بما يأتي متعمدا ترك حق ربه بقلة رهبة من الله، متهاون بنظر الله، متعرض لسخطه، وهو يعلم ويتشوق لحرمان جوار الله وهو يبصر، فآثر القليل الفاني على العظيم الباقي، وولى على النجاة من العذاب، وسلك الطريق إلى عذاب الجحيم، وسمحت نفسه بالجنة، وأسلمها لأيدي العقوبة قلت: إني لا أقوى على الحلم عند الشتم والأذى. فقال:

ثقل عليك كظم الغيظ، وخف عليك الاشتفاء. قلت: مم ثقل على كظم الغيظ وخف علي التشفي؟ قال: لأنك تعد الحلم ذلا، وتستعمل السفه أنفا.

قلت: فبم أقوى على كظم الغيظ؟ قال: بصبر النفس، وحبس الجوارح.

قلت: بم أجتلب صبر النفس وكف الجوارح؟ قال: بأن تعقل وتعلم أن الحلم عز وزين، والسفه ذل وشين. قلت: كيف أعقل ذلك وقد حل بقلبي ضده فغلب عليه أني إن صبرت على كظم الغيظ كان ذلك إذلالا لي ممن آذاني، ولزم قلبي الأنف أن يكون من شتمني قد قهرني وعجزت عن الانتقام منه وإشفاء غيظي؟ قال: إنما لزم قلبك ذلك لأنك لم تعقل ظاهر قبح السفه منك، وحسن ستر الحلم عليك، وجزيل مثوبة الله لك في آخرتك. قلت: وبم أعرف هاتين الخصلتين؟ قال: أما قبح السفه وزوال حسن رد الحلم فبما ترى من أحوال شاتمك ومؤذيك بالغيظ والغضب من لونه وفتح عينيه، وحمرة وجهه، وانقلاب عينيه، وكراهية منظره، واستخفافه بنفسه، وزوال السكينة والوقار عن بدنه، فأنت تبين ذلك منه، ويراه كل عاقل من فاعله، فإذا بليت بذلك فاذكر ما أعد الله سبحانه وتعالى للكاظمين الغيظ من إيجاب محبته، وجزيل ثوابه، فإن الاشتفاء ينقضي سريعا، ويبقى سوء عاقبته في آخرتك، وكظم غيظك يسكن سريعا، ويدخر ثواب الله بذلك في معاده، ولا ينبغي للعاقل أن يرضى بدناءة نفسه وسوء رغبته، بأن يكون ممن ترضيه

ص: 96

اللمحة، فيستشرق لها وجهه فرحا، وتغضبه الكلمة فيستطير من أجلها سفها حتى يظلم لها وجهه وتضطرب لها فرائصه، وإنما هي كلمة لم تعد قائلها إلى المشتوم بها، ولكنها أزرت بقائلها وأوجبت السفه عليه في آخرته، واستخف بنفسه ولم تضر من أسمعها في دين ولا دنيا، فقائلها والله يستحق أن يرحم لما قد أنزل بنفسه ووضع من قيمته وقدره، وعصى بها ربه، وعلى المشتوم بها الشكر لله إذ لم يسلمه الله ولم يخذله، حتى يصير مثل حال شاتمه مع ما قد صار له من التبعة في رقبته يأخذها منه في يوم فاقته وفقره. وأول ما يرث المريد العارف بربه معرفته بدائه ودوائه في عقله ورأيه والسليم القلب المتيقظ عن ربه الغافل عن عيوب العباد، المتفقد لعيوب نفسه. أنس المريد الوحشة من العباد، مع دوام الذكر لله بقلبه. وأكرم أخلاق المريد إكرامه نفسه عن الشر ودناءة الأخلاق وعظيم الهمة بالظفر بما يرضي الله، يطير معه النوم ويقل معه النسيان، ومن صدق العالم في علمه اهتمامه بمعرفة معاني الزوائد، ليقوم لربه بحسن الرعاية، وطلب الصمت مع الفكرة والأنس بالعزلة يبعث على طلب معاني الحكمة ودوام التوهم بنظر القلب إلى شدائد القيامة يزول به السرور بالدنيا، ويورث القلب الانكسار والبكاء به، ويعمل على الاستعداد للعرض الأكبر والسؤال الأعظم.

• أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه - أخبرني أحمد بن عبد الله بن ميمون قال قال الحارث بن أسد: أصفى الأشياء من كل آفة - بل أن لا تقاربها الآفات - النصح لله، لأن الناصح متى قبل خطرة من رياء أو عجب أو غير ذلك مما كره الله فقد خرج من النصح بقدر قبوله لما يكره ربه. وأهون الأشياء وأكسرها لدواعي الهوى ذكر عظيم سوء العاقبة في تعجيل اللذة الأشياء وأهون على التحمل للمكروه ذكر عظيم العاقبة في ثواب ما يحمله العبد من المكاره في التقرب إلى الله عز وجل. وأعون الأشياء على استجلاب الأحزان طول التوحش والانفراد من الخلق، مع طول الفكرة ودوامه فى عواقب الأمور ليوم العرض، فمن لم يمكنه الخلوة والانفراد وطول الصمت مع دوام الذكر للرقيب لما أحب من المحبوب والمكروه. وأجلب الأشياء لتيقظ القلب من

ص: 97

شهوة التقدم في إلزام القلب الحذر من الغفلة عن الرب عز وجل. وأجلب الأشياء للذكر وأطرده للنسيان شدة العناية بعمران القلب بذكر المولى، لأنه إذا قدم العناية وألزمها قلبه لا يغفل قلبه عن ذكر المولى، هاج للذكر وتفرغ عن النسيان. قال: وسئل الحارث عما ينال به الإخلاص فقال: ينال بثلاث خلال، والمخلص في بعضها أقوى من بعض. ودواعي الريا عليه أقل وأضعف، وهو في بعضها أضعف إخلاصا، والدواعي عليها أكبر وأقوى، فأعلاها التي يكون بها المخلص أقوى المخلصين؛ والخطرات عليه أقل وأضعف، تعظيم قدر الرب وإجلاله، واستصغار قدر المخلوقين أنهم لا يستأهلون أن يتقرب إليهم بطاعة الرب، حتى يضعهم العبد بحيث وضعهم الله من الحاجة والفاقة والمسكنة، إذ خلقهم المولى من ملك الضر والنفع، ولم يجعل لأحد من الخلق شركة في الأشياء، ولا يليق بهم ذلك، وذلك مستحيل أن يملك العبد المحدث مع القديم الأول مثقال ذرة لا أصغر ولا أكبر، ولا يملك ضرا ولا نفعا، فإن أعظم قدر الرب بقلبه وأنزل عباده بالمنزل الذي هم به، انصرف قلبه عن طلب حمد المخلوقين، إذ عرف قدرهم وانصرفت نفسه عنهم في طلب كل منفعة دنيا وآخرة، وارتاح قلبه لطلب حمد الله والتحبب إلى الله، إذ عرف قدره وأن إليه حاجته في الدنيا والآخرة. وأنه لا ينال منفعة فيهما إلا منه، وأنه أهل أن يرجى ويؤمل جوده وكرمه، فإن لم يقو على هذه الخلة فالخلة الثانية أن يذكر اطلاع الله على ضميره، وهو يريد بطاعته حمد عبد مملوك ضعيف يتحبب إليه بالمقت إلى مولاه، ويتقرب إليه بالتباعد من سيده، ويحظى في عين عبد مملوك ضعيف يبلى ويموت بالسقوط من عين الا له الذي لا يموت، فإنه حينئذ يستكين عقله ويخشع طبعه من قبول كل خطرة تدعوه إلى إرادة المخلوقين بطاعة ربه، فإن لم يقو على هذه الخلة فالخلة الثالثة أن يرجع إلى نفسه بالرحمة لها والإشفاق عليها من حبط عمله في يوم فاقته وفقره، فيبقى خاسرا قد حبط إحسانه وخسر عمله، ثم لا يأمن أن يكون ذلك لو أخلصه لرجحت حسناته على سيئاته قبحا لها إذا أراد به العباد، فتبقى حسناته خفيفة،

ص: 98

وسيئاته راجحة، فيؤمر به إلى عذاب الله، فيتلهف أن لا يكون أخلصه لربه، فنجا من عذاب الله مع سؤال الله والتوبيخ منه والتعيير إذا أراد به العباد، ولها عنه تعالى وتقرب إليهم بالتباعد منه.

• أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد - قبل أن لقيته - ثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال قال أبو عبد الله الحارث بن أسد - وسئل ما علامة محبة الله للعبد؟ - فقال للسائل. ما الذي كشف لك عن طلب علم هذا؟ فقال: قوله تعالى {(إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)} فعلمت أن علامة محبة العبد لله اتباع رسوله. ثم قال {(يحببكم الله)} فما علامة محبة الله للعبد؟ فقال: لقد سألت عن شيء غاب عن أكثر القلوب، إن علامة محبته الله للعبد أن يتولى الله سياسة همومه فيكون في جميع أموره هو المختار لها، ففي الهموم التي لا تعترض عليها حوادث القواطع، ولا تشير إلى التوقف لأن الله هو المتولي لها، فأخلاقه على السماحة، وجوارحه على الموافقة، يصرخ به ويحثه بالتهدد والزجر. فقال السائل: وما الدليل على ذلك؟ فقال:

خبر النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله عبدا جعل له واعظا من نفسه وزاجرا من قلبه، يأمره وينهاه» فقال السائل: زدني من علامة محبة الله للعبد قال ليس شيء أحب إلى الله من أداء الفرائض بمسارعة من القلب والجوارح، والمحافظة عليها. ثم بعد ذلك كثرة النوافل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«يقول الله تعالى: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته» فقال السائل: رحمك الله صف لي من علامات وجود قلبه. قال: محبوسة يافتى في سر الملاطفة، مخصوصة بعلم المكاشفة، مقلبة بتنعم النظر في مشاهدة الغيب، وحجاب العز، ورفعة المنعة، فهي القلوب التي أسرت أوهامها بعجب نفاذ إتقان الصنع، فعندها تصاعدت المنى، وتواترت على جوارحها فوائد الغنى، فانقطعت النفوس عن كل ميل إلى راحة، وانزعجت الهموم وفرت من

ص: 99

الرفاهة، فنعمت بسرائر الهداية وعلمت طرق الولاية، وغذيت من لطيف الكفاية وأرسلت في روضة البصيرة، وأحلت القلوب محلا نظرت فيه بلا عيان، وجالت بلا مشاهدة، وخوطبت بلا مشافهة. فهذا يافتى صفة أهل محبة الله من أهل المراقبة والحياء والرضا والتوكل. فهم الأبرار من العمال، وهم الزهاد من العلماء، وهم الحكماء من النجباء، وهم المسارعون من الأبرار، وهم دعاة الليل والنهار، وهم أصحاب صفاء التذكار وأصحاب الفكر والاعتبار، وأصحاب المحن والاختبار. هم قوم أسعدهم الله بطاعته وحفظهم برعايته، وتولاهم بسياسته، فلم تشتد لهم همة، ولم تسقط لهم إرادة همومهم في الجد والطلب، وأرواحهم في النجاة والهرب، يستقلون الكثير من أعمالهم، ويستكثرون القليل من نعم الله عليهم، إن أنعم عليهم شكروا، وإن منعوا صبروا، يكاد يهيج منهم صراخ إلى مواطن الخلوات، ومعابر العبر والآيات، فالحسرات في قلوبهم تتردد، وخوف الفراق فى قلوبهم يتوقد، نعم يافتى هؤلاء قوم أذاقهم الله طعم محبته ونعمهم بدوام العذوبة في مناجاته، فقطعهم ذلك عن الشهوات، وجانبوا اللذات، وداموا في خدمة من له الأرض والسموات، فقد اعتقدوا الرضا قبل وقوع البلا، ومنقطعين عن إشارة النفوس، منكرين للجهل المأسوس، طاب عيشهم ودام نعيمهم، فعيشهم سليم، وغناهم في قلوبهم مقيم، كأنهم نظروا بأبصار القلوب إلى حجب الغيوب، فقطعوا وكان الله المنا والمطلوب، دعاهم إليه فأجابوه بالحث والجد ودوام السير، فلم تقم لهم أشغال إذ استبقوا دعوة الجبار، فعندها يا فتى غابت عن قلوبهم أسباب الفتنة بدواهيها، وظهرت أسباب المعرفة بما فيها، فصار مطيتهم إليه الرغبة، وسائقهم الرهبة، وحاديهم الشوق، حتى أدخلهم في رق عبوديته، فليس تلحقهم فترة في نية، ولا وهن في عزم، ولا ضعف في حزم، ولا تأويل في رخصة، ولا ميل إلى دواعي غرة. قال السائل: أرى هذا مرادا بالمحبة. قال: نعم يا فتى هذه صفة المرادين بالمحبة. فقال: كيف المحن على هؤلاء؟ فقال: سهلة فى علمها، صبة فى اختيارها، فمحنهم على قدر قوة إيمانهم. قال: فمن أشدهم محنا؟ قال:

ص: 100

أكثرهم معرفة وأقواهم يقينا وأكملهم إيمانا كما جاء في الخبر «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» .

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد قال سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت أبا عبد الله الحارث بن أسد يقول - وسأله سائل - إن النعم من الله تعالى علي لا تحصى، ظاهرة وباطنة، وعامة وخاصة، صغيرة وكبيرة، في كل أحوالي ومع كل أسبابي، ومع كل شيء من بدني وجوارحي وعقلي وطبعي وحياتي وعيشي، وكل ما أتقلب فيه، وكل منفعة تحدث في ديني ودنياي، وكل ليل ونهار يختلف علي، وشمس وقمر وسائر الأشياء نعم علي، إلا أني أجدني في أكثرها غافلا عن شكره عليها، إلا النعمة العظيمة كالكرب ينزل بي فيفرج الله عني كربي، وينفس عني غمي، وكالمال الكثير يرزقني، فإن عظمت النعمة انتبهت لعظيم قدرها، وموقع منفعتها لي، فانتبهت للشكر وذكرت أنها من الله تفضل، وحمدته عليها، وسائر النعم لقلة قدرها أنسى أنها نعمة، فإن ذكرت أنها نعمة ذكرتها ذكرا بغير تعظيم لها، ولم تهج شدة الشكر عليها، حتى لقد نسيت الشكر عند أكثر النعم، إلا عند الفرج من الكرب، أو النعمة العظيمة في المنفعة. فقال الحارث: هذا فعل عامة العباد من الجاهلين، يعاملون الله على قدر عظيم إحسانه وقلته، وإن أكثر ما قل من النعم لربما كان أكثر منفعة من عظيمها، وربما كان عظيمها يعقب ضرارا في الدين أو في الدنيا، ولربما كان إحسان الله في النعمة الصغيرة أكثر من النعمة في كبيرها، لعاقبة منفعتها، ولربما عظمت النعمة من سعة الدنيا فيطغى صاحبها وتشغله حتى يعصي الله فيدخل النار، ولو كانت النعمة أقل من ذلك لما أطغته ولا ألزمته كثرة الفرائض فيها فلا يقوم بها، كمن كثرت الحقوق عليه لله في السعة، فلم يقم بحقه من أداء الزكاة في مواضعها بغير مكافأة ليد الفقير عنده، ولا اجتلاب حمد ولا ثناء، ولا مخافة ذم. وكذلك صلة القرابة والجار المحتاج البين حاجته وغير ذلك.

وربما ضرته السعة في الدنيا دون الدين، وربما قتله كثرة ماله من لصوص

ص: 101

يقتلونه عليه، وغير ذلك طيب الطعام كثرته قد تضره حتى تورثه الأوجاع والسقم. وكذلك يوهب له الولد الذكر فيعصي الله فيه، وربما ضره في الدنيا وغمه بما يصيبه من الأسقام، وربما كبر حتى يلجئه إلى الاختلاف إلى السجون ومخاصمة الجيران فيه، أو عداوتهم، وكذلك يكون في الكرب الشديد من المرض أو بمن يعنيه أمره من ولد وأهل، فيكثر دعاؤه وتضرعه، ويتصدق ويخشع قلبه، فإذا فرج عنه وعاد إلى العافية رجع إلى اللهو والشهوة والعصيان، وقل تضرعه إلى الله، فكان المرض أصلح لقلبه وأوفر لدينه، وكانت العافية إن استعملها فيما يضره في دينه أضر عليه من المرض، وكفاك بعلم الله تعالى في ابن آدم، ووصفه له إذ يقول {(وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض)} وقال:{(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)} ومثل ذلك في كتاب الله كثير، فإنما أتيت أنك نظرت إلى قدر النعم عند ورودها عليك، ولم تنظر في عواقبها في دينك ودنياك، ما تكون في العاقبة أتضر أم تنفع؟ ألم تسمع قول الله {(آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا)} والله ما تدري إذا وردت النعم عليك أيها أنفع لك؟ أقليلها أم كثيرها؟ فإذا وردت عليك النعمة فاحمد الله الذي من بها، وكن مشفقا من أدنى السلامة منها في دينك ودنياك، فإن كانت صغيرة فاستصغرها قلبك فاذكر عاقبتها وخيرة الله فيها، فلعل الله أن يكون قد خار لك فيها ونظر لك بأن قللها، ولم يجعلها أعظم مما هي، لعله قد علم أنها لو عظمت وزادك منها أنك تعصى بها فيغضب عليك، أو يعطيك في دنياك أو تورثك ضررا في دينك، ألا ترى أنك تعمل بظاهر النعم وتنسى عواقبها، وقد تبينت عواقبها بالتجارب فيك وفي غيرك، من كثير الضرر في عظيمها، وكثرة السلامة في أكثر ما صغر منها، والله لقد بين لك مولاك أن كثيرا منها كان زوالها نعمة عظيمة من الله على من زالت عنه، وأن بقاءها بلية عليه، من ذلك أن الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام قد كان نعمة في الظاهر عظمة غلام ذكر. وقد روى أن الخضر مرمع

ص: 102

موسى عليهما السلام بعشرة غلمان فأخذ غلاما أضوؤهم وأحسنهم وجها فقطف وجهه، فأخبرك العليم الخبير بعواقب ضرر النعم وبمنافع عواقبها، فقال:

{(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا)} فصرف عنهما بقتله إياه أن يدخلا النار. وقد قال مجاهد: قد علمنا أن أبويه قد فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، وكان في بقائه هلكتهما. وكذلك قلع الخضر لوحا من السفينة في لجج البحر وكان عند أصحابها أن في ذلك الغرق، وقد قال موسى {(أخرقتها لتغرق أهلها)} ؟ وإنما خرقها لينجو أهلها أن لا تمر بالملك الغاصب فيراها صحيحة فيأخذها، فالغلام قتله خيرة في الدين، والسفينة خرقها خيرة في الدنيا. فبهذا فاستدل أن النعم ليست في المنافع على قدر عظمها وصغرها، لأن الغلام لو كان ابنة لم يخش عليه عاقبة طغيان أبويه فيها، ومما يبين لك هذا قوله تعالى {(فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما)} قيل التفسير رزقا ابنة تزوجها نبي وخرج من نسلها سبعون نبيا.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: سئل الحارث بن أسد عن قول الله تعالى {(وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)} وعن قوله صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» .

ما السبيل أكرم الله وجهك إلى هذا التوكل الذي ندب الله المؤمنين إليه؟ صف لي كيف هو وكيف دخول الناس فيه. فقال الحارث رحمه الله: الناس يتفاتون فى التوكل، وتوكلهم على قد إيمانهم وقوة علومهم. قيل: ما معنى قوة إيمانهم قال: تصديقهم للعدة، وثقتهم بالضمان. قيل: فمن أين فضلت الخاصة منهم على العامة، والتوكل في اعتقاد الإيمان مع كل من آمن بالله! قال:

الذي فضلت به الخاصة على العامة دوام سكون القلب عن الاضطراب، والهدو عن الحركة، فعندها يافتى استراحوا من عذاب الحرص، وفلوا من أسر الطمع، وخرجوا من ضيق طول الأمل. قيل: فما الذي ولد هذا؟ قال:

حالتان: الأولى منهما دوام لزوم القلب المعرفة، والاعتماد على الله، وترك

ص: 103

الحيل. والثانية كثرة الممارسة حتى يألفها إلفا، ويختارها اختيارا.

قيل: فالتوكل في نفسه ما هو، وما معناه؟ قال: قد اختلف الناس فيه قيل له: اختصر منه جوابا موجزا. قال: نعم، التوكل هو الاعتماد على الله بإزالة الطمع من سوى الله، وترك تدبير النفوس في الأغذية، والاستغناء بالكفاية، وموافقة القلب لمراد الرب، والقعود في طلب العبودية، واللجأ إلى الله. قيل: فهل يلحق التوكل الأطماع؟ قال: يلحقه الأطماع من طريق الطباع خطرات، ولا يضره ذلك شيئا. قيل: فما الذي يقويه على إسقاط الطمع؟ قال اليأس مما في أيدي الناس حتى يكون بما معه من الثقة بما وعده سيده أغنى ممن يملك الدنيا بحذافيرها كما قيل لأبي حازم ألك مال؟ قال أكثر المال ثقتي بربي، ويأسي مما في أيدي الناس وكان أبو حازم يقول: الدنيا شيئان شيء لي وشيء لغيري، فما كان لى لو طلبته بحيلة من فى السموات والأرض لم يأتني قبل أجله، وما كان لغيري لم أرجه فيما مضى ولا أرجوه فيما بقي، يمنع رزقي من غيري كما يمنع رزق غيري مني، ففي أي هذين أفني عمري. وكان بعضهم يقول:

اترك الناس فكل مشغلة

وقد بخل الناس بمثل الخردلة

لا تسل الناس وسل من أنت له

قيل: فما الذي يقول المتوكل؟ قال ثلاث خصال الأولى منها حسن الظن بالله، والثانية نفي التهم عن الله، والثالثة الرضا عن الله تعالى فيما جرى به التدبير لتأخير الأوقات وتعجيلها. قيل: بم تلحق هذه المنزلة؟ قال: بصفاء اليقين وتمامه، فإن اليقين إذا تم سمي تمامه توكلا. وهكذا قال ذو النون المصري فهم بالحالة العالية والمقام الشريف كما قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري: ما من حالة من حالات المتعبدين إلا وشيخك هذا قد دخل فيها وعرفها. إلا هذا التوكل المبارك الذي ما أعرفه إلا بمشام الريح. وقال ذو النون المصري: المقامات سبع عشرة مقامة أدناها الإجابة وأعلاها صدق التوكل. قيل فما أجمل ما تراه القلوب في باطنها ويلحقها فكر خواطر الاطماع

ص: 104

قال: تنبيها من الله بحرص الجوارح عن إشارة الأرواح فيما طمعت حياء من الله تعالى أن يراهم يستريحون إلى غيره. كما قال الحكيم:

مريدوه يستحيون أن يراهم

يشيرون بالأرواح نحو سواه

قيل: هذا في الظاهر واليقظة فهل لهم زاجر في مناماتهم عند إشارة الأرواح ومطالعتها في خطرات الأطماع؟ قال: قد روي عن النباجى قال:

طمعت يوما في شيء من أمور الدنيا فحملتني عيناي ونمت فسمعت هاتفا في منامى وهو يقول: أو يجمل يافتى بالحر المريد إذا وجد عند مولاه كل ما يريد أن يركن بقلبه إلى العبيد؟ فهو عز وجل يزجرهم ويثبتهم ويريهم مواضع الشين والخلل، ليعملوا في شدة تمام اليقين، وكثرة السكون والاعتماد عليه دون خلقه، فتكون لهم الزيادة في مقامهم، وحسن اللجأ في افتقارهم إلى سيدهم، فمرهم يافتى على الاستواء. قيل: فما معنى قوله تعالى {(ومن يتوكل على الله فهو حسبه)} ؟ قال: أى سببه بمعنى حسبي من كل شيء أن أتوكل عليه. قيل:

فما الأسباب التي تشين توكله؟ قال: الأسباب التي فيها الحرص والمكابدة على الدنيا والأسباب التي تشغله عن دوام السكون وتزيد في الاضطراب وتقوي خوف الفوت، وهي الأسباب التي تستعبده وتتعبه، فتلك التي يؤمر بقطعها حتى يستريح بروح اليقين، ويتفرج بحياة الاستغناء. قيل: فما علامة سكون المتوكل؟ قال: تحركه ازعاج المستبطى فيما ضمن له من رزق ربه، ولا تخلفه فترة المتواني عن فرصته. قيل أيجد هذا فقد شيء منعه قال: لا يجد فقده إذا منعه لعلة معرفته بحسن اختيار الله له أملا من الله أن يعوضه في حسن العواقب أفضل من إرادته بالعاجل، كأنه يراه قريبا، فمن هاهنا لا يجد فقد شيء منعه قيل فما يقويه على هذه الحالة: قال: حسن علمه بحسن تدبير الله له، فعندها أسقط عن قلبه اختياره لنفسه ورضي بما اختار الله له.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد قال سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت الحارث بن أسد يقول: ونعت المختصين بالمعرفة والإيمان فقال: هم الذين جعلهم الحق أهلا لتوحيده وإفراد تجريده،

ص: 105

والذابين عن ادعاء إدراك تحديده، مصطنعين لنفسه مصنوعين على عينه، ألقى عليهم محبة منه له، واصطنعتك لنفسي، ولتصنع على عيني، وألقيت عليك محبة مني. فأخذ أوصاف من صنعه لنفسه والمصنوع على عينه والملقى عليه محبة منه له، أن لا يستقر لهم قدم علم على مكان، ولا موافقة كفاء على استقرارهم، ولا مناظرة عزم على تنفيذهم، هم الذين جرت بهم المعرفة حيث جرى بهم العلم إلى نهاية غاية، خنست العقول وبادت الأذهان، وانحسرت المعارف، وانقرضت الدهور وتاهت الحيرة في الحيرة عند نعت أول قدم نقلت لمرافقة وصف محل لمحة مما جرى عليهم العلوم التي جعلها لهم به له هيهات ذلك له ماله به عنده له فأين تذهبون. أما سمعت طبه لما أبداه، وكشفه ما رواه واختصاصه لسر الوحي لمن اصطفاه {(فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى)} شهد له أنه عبده وحده، لم يجر عليه استعبادا لغيره يخفي ميل همة ولا إلمام شهوة، ولا محادثة نظرة ولا معارضة خطرة، ولا سبق حق بلفظه، لا يسبق أهل الحق الحق بنطق ولا رؤية حظ بلمحة، أوحى إليه حينئذ ما أوحى، هيأه لفهم ما أولاه بما به تولاه واجتباه فحمل حينئذ ما حمل أوحى إليه حينئذ ما أوحى بالأفق الأعلى ضاقت الأماكن وخنست المصنوعات عن أن تجري فيها أو عليها أوحى ما أوحى إلا بالأفق الأعلى {(إذ يغشى السدرة ما يغشى)} انظر نظر من خلافى نظره من عين منظوره إلى السدرة حيث غشاها {(ما غشى)} فثبتت لما غشاها، وانظر إلى الجبل حيث تجلى له {(جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك)} أن أعود لمسألتك الرؤيا بعد هذا المقام، وإلى إكثاره ما فرط من سؤاله، وإلى أن العلم لو صادف حقيقة الرسم لا يليق به الكتم، وانظر إلى إخباره عن حبيبه {(ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى)} والعند هاهنا لا ينتهي مكان، إنما ينتهي وقت كشف علم لوقت، وانظر إلى فضل الوقتين ومختلف المكانين، وفرق ما بين المنزلتين في العلو والدنو وكذا فضلت عقول المؤمنين من العارفين، فمنها من يطيق خطاب المناجاة مع علم قرب من ناجاه وأدناه، فلا يستره في الدنو علم الدنو ولا في العلو علم

ص: 106

العلو ومنها من لا يطيق ذلك فيجعل الأسباب هي المؤدية إليهم الفهم، وبها يستدرك فهم الخطاب فيكون منه الجواب أن لا يقف عند قوله {(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم)} وهذه أماكن يضيق بسط العلم فيها إلا عند المفاوضة لأهل المحاضرة، وفي الاشتغال بعلم مسالك الطرقات المؤدية إلى علوم أهل الخاصة الذين خلوا من خلواتهم، وبرءوا من إرادتهم، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، عصفت بهم رياح الفطنة فأوردتهم على بحار الحكمة فاستنبطوا صفو ماء الحياة، لا يحذرون غائلة، ولا يتوقعون نازلة، ولا يشرهون إلى طلب بلوغ غاية، بل الغايات لهم بدايات، هم الذين ظهروا في باطن الخلق، وبطنوا في ظاهره، أمناء على وحيه، حافظون لسره، نافذون لأمره، قائلون بحقه، عاملون بطاعته {(يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)} جرت معاملتهم في مبادئ أمورهم بحسن الأدب فيما ألزمهم القيام به من حقوقه فلم تبق عندهم نصيحة إلا بذلوها، ولا قربة إلا وصلوها، سمحت نفوسهم ببذل المهج عند أول حق من حقوقه في طلب الوسيلة إليه، فبادرت غير مبقية ولا مستبقية، بل نظرت إلى أن الذي عليها في حين بذلها أكثر بحالها مما بذلت، لوائح الحق إليها مشيرة، وعلوم الحق لديها غزيرة، لا توقفهم لائمة عند نازلة، ولا تثبطهم رهبة عند فادحة، ولا تبعثهم رغبة عند أخذ أهبة بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصر - في كتابه - وحدثني عنه عثمان قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: سئل الحارث بن أسد وقيل له: رحمك الله، ما علامة الأنس بالله؟ قال: التوحش من الخلق. قيل له: فما علامة التوحش من الخلق؟ قال: الفرار إلى مواطن الخلوات، والتفرد بعذوبة الذكر، فعلى قدر ما يدخل القلب من الأنس بذكر الله يخرج التوحش، كما قال بعض الحكماء في مناجاته: يا من آنسني بذكره، وأوحشني من خلقه، وكان عند مسرتي ارحم عبرتي. وفي قول الله تعالى لداود عليه السلام: كن بي مستأنسا، ومن

ص: 107

سواي مستوحشا. وقيل لبعض المتعبدين: ما فعل فلان؟ قال: أنس فتوحش. وقيل لرابعة: بم نلت هذه المنزلة؟ قالت: بتركي ما لا يعنينى، وأنسى بمن لم يزل. وقال ذو النون في بعض كلامه: يا أنيس كل منفرد بذكرك، وجليس كل متوحد بحبك. وقال عبد الواحد بن زيد لراهب:

يا راهب لقد تعجلت الوحدة. فقال الراهب: يا فتى لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك، الوحدة رأس العبادة ما أنستها الفكرة. قال يا راهب: ما أقل ما يجد العبد في الوحدة؟ قال: الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم. قال: يا راهب متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله؟ قال:

إذا صفا الود وخلصت المعاملة. قال: يا عبد الله متى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهم فصار في الطاعة. قلت: متى تخلص المعاملة؟ قال: إذا اجتمع الهم فصار هما واحدا. وقال بعض الحكماء: عجبا للخلائق كيف أرادوا بك بدلا، وعجبا للقلوب كيف استأنست بسواك عنك، اللهم آنست الآنسين من أوليائك، وخصصتهم بكفاية المتوكلين عليك، تشاهدهم في ضمائرهم، وتطلع عليهم في سرائرهم، وستري عندك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، فإذا أوحشتني العزلة آنسني ذكرك، وإذا كثرت علي الهموم رجعت إلى الاستجارة بك، يا رب العالمين. وقال إبراهيم بن أدهم: جئت من أنس الرحمن وكما قال بعض الحكماء: لو أن معي أنسا لتوحشت. قيل: رحمك الله فما علامة صحة الأنس بالله؟ قال: ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم، واختيار القلب عذوبة الذكر. قيل: رحمك الله فما علامته في ظاهره؟ قال: منفرد في جماعة، ومستجمع في خلوة، وغريب في حضر، وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة، وغائب في حضور. قيل: اشرح عن وصف هذا، ما معنى منفرد في جماعة، ومستجمع في خلوة؟ قال: منفرد بالذكر مشغول بالفكر، لما استولى على القلب والهم من الشغل، وطيب عذوبة الذكر وحلاوته، وهو منفرد فيما هو فيه عن الجماعة، وهو شاهد معهم ببدنه، كما روي عن علي بن أبي طالب في حديث كهيل بن زياد فقال: «هجم بهم العلم عن حقيقة الأمر فباشروا

ص: 108

روح اليقين، فاستلانوا ما استوعده المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان قلوبها معلقة بالمحل الأعلى، وبأعلى العلى عند الملك العالي، فهذه صفة المنفرد في جماعة. قيل: فما المستجمع في خلوة؟ قال: مستجمع له بهمة قد جمع للهموم فصيرها هما واحدا في قلبه، فاستجمعت له الهموم في مشاهدة الاعتبار وحسن الفكر في نفاذ القدرة، فهو مستجمع لله بعقله وقلبه وهمه ووهمه كله، وكل جوارحه مستجمعة منتصبة لدوام الذكر إلى وجود لحوق البصيرة، وعوض الفطنة، وسعة المعونة، وليس شيء منه متفرقا ولا وهم معطلا، وهذه صفة المسجتمع في انفراده. قيل: فما معنى غائب في حضور؟ قال: غائب بوهمه، حاضر بقلبه، فمعنى غائب أي غائب عن أبصار الناظرين، حاضر بقلبه في مراعاة العارفين.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت الحارث بن أسد يقول: المحاسبة والموازنة فى أربع مواطن، فيما بين الإيمان والكفر، وفيما بين الصدق والكذب، وبين التوحيد والشرك. قال وسمعت الحارث يقول. الذي يبعث العبد على التوبة ترك الإصرار، والذي يبعثه على ترك الإصرار ملازمة الخوف. وقال الحارث:

العبودية أن لا ترى لنفسك ملكا وتعلم أنك لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا.

والتسليم هو الثبوت عند نزول البلاء من غير تغير منه ظاهرا وباطنا. والرجاء هو الطمع في فضل الله ورحمته. وأقهر الناس لنفسه من رضي بالمقدور. وأكمل العاقلين من أقر بالعجز أنه لا يبلغ كنه معرفته. والخلق كلهم معذورون في العقل مأخوذون في الحكم. ولكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر، والعمل بحركات القلوب في مطالعات الغيوب أشرف من العمل بالجوارح.

قال الشيخ رحمه الله تعالى: قد أتينا على طرف من كلام الحارث بن أسد مجتزيا من فنون تصانيفه وأنواع أقواله وأحواله بما ذكرنا إذ هو البحر العميق ورواياته عن المحدثين المشهورين في تصانيفه مدونة اقتصرنا من رواياته على ما.

ص: 109

• حدثناه محمد بن عبد الله بن سعيد ثنا أحمد بن القاسم الفرائضي ثنا الحارث بن أسد المحاسبي ثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة عن القاسم عن عطاء عن أم الدرداء عن أبي الدرداء. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ما يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن» القاسم هو محمد بن أبي بزة حدثناه أبو بكر بن خلاد ثنا محمد بن غالب تمتام ثنا عفان ثنا شعبة عن القاسم بن أبي بزة به. .

وحدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ثنا الحارث بن أسد ثنا محمد بن كثير الكوفي عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن ابن أسود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود. قال: «شغل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من أمر المشركين فلم يصل الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما فرغ صلاهن الأول فالأول، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف» .

‌علي الجرجاني

ومنهم المتخلي من الشهوات. والمتحلي بالخلوات، تخلى من الجزع والهلع واستحلى الفزع والضرع. علي الجرجاني

(1)

. من قدماء المتعبدين.

• حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوري - ببغداد - قال سمعت أبا حامد أحمد بن محمد بن حمدان النيسابوري يقول سمعت إسماعيل بن عبد الله الشامي يقول سمعت سريا السقطي يقول: خرجت من بغداد أريد الرباط إلى عبادان لأصوم بها رجبا وشعبان ورمضان، فلقيت في طريقي عليا الجرجاني وكان من الزهاد الكبار فدنا وقت إفطاري، وكان معى ملح مدقوق وأقراص، فقلت: هلم رحمك الله، فقال: ملحك مدقوق ومعك من ألوان الطعام. لن تفلح ولن تدخل بستان المحبين. فنظرت إلى مزود كان معه فيه سويق الشعير فيسف منها. فقلت: ما دعاك إلى هذ؟ قال: إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة، فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة. فلما دخلنا عبادان قلت: موعظة أحفظها عنك. قال: نعم إن شاء الله، احفظ عنى خمس

(1)

في: المصرية على الجرجرائى

ص: 110

خصال: إنك إن حفظتها لا تبالي ما أضعت بعدها، قلت: نعم. قال: عانق الفقر، وتوسد الصبر، وعاد الشهوات، وخالف الهوى، وافزع إلى الله في جميع أمورك. قلت: فإذا كنت كذلك؟ قال يهب الله لك خمسا: الزهد ومع الزهد القنوع ومع القنوع الرضا، ومع الرضا المعرفة، ومع المعرفة الشوق. ثم يهب لك خمسا: السباق، والبدار، والتخفف، وحسن البشارة، وحسن المنقلب إلى الله. أولئك أحباء الله. قلت: فأين ترى لي أن أسكن؟ قال:

ارحل نحو لكام. قلت: فهل شيء أعيش به؟ قال: فمقت في وجهي وقال:

تفر إلى الله من ذنبك، وتستبطئه في رزقك؟ فلا والله ما أدري دخل البحر أم لا.

وحكى جعفر بن نصير عن السرى بزيادة ألفاظ.

• أخبر جعفر بن محمد - في كتابه حاكيا عن السري السقطي - قال:

خرجت من بغداد أريد الرباط إلى عبادان فصحبني علي الجرجاني في الزورق، فلما حضر وقت إفطاري أخرجت قرصين من شعير وملح مدقوق وقلت لعلى: هلم يا أبا الحسن. قال: فجعل يطيل النظر إلى الرغيفين والملح، ثم إنه التفت إلي فقال: يا سري ملحك مدقوق! قلت: نعم. قال: يا سري ليس تفلح. قلت: ولم قال: يا سري أما علمت أن خبز الشعير والملح الجريش ينور القلب! فجعل يتردد في صدري، فلما قربنا من عبادان وأردنا أن نفترق قلت: رحمك الله كلمة أحفظها عنك. قال: أوتفعل؟ قلت: نعم أفعل فقال لي:

يا سري احفظ عني خمس خصال، إن أنت حفظتها لا تبالي ما ضيعت بعدهن.

قلت: وما هن يرحمك الله؟ قال: يا سري عانق الفقر، وتوسد الصبر، وعاد الشهوات، وخالف الهوى، واضرع إلى الله في جميع أمورك، فإذا كنت كذلك وهب الله لك خمسا. قلت: وما هن! قال: الشكر، والرضا، والخوف والرجاء، والصبر على البلاء. ثم تدفعك هذه إلى خمس: إلى الورع الخفي، وتصفية القلوب، وترك ما حاك في الصدور وترك ما لا يعنيك، وترك الفضول لحفظ الجوارح، ثم تمدك بخمس: بحياة القلوب، وصفاء الاعتبار، والفهم

ص: 111

عن الله، والتيقظ من الغفلة، ومساعدة الأوطان فى طاعة الله. فعندها يرديك الله بخمسة أردية: اللطف، والحلم، والرأفة، والرحمة للعالم، وهيبة النار إذا اطلعت عليها ذكرت الله بالربوبية. ويلزم قلبك خمسا: السباق، والبدار والتصبر عن الحرام، وصدق الانقطاع، وصحة الإرادة.

‌فديم

قال الشيخ: وممن عرف من متقدمي البغداديين بالنسك والتحقيق بالتصوف أبو هاشم فديم.

جلس إليه سفيان الثوري فحمد طريقته وملازمته للصفاء والوفاء. لا نحفظ من كلامه شيئا إلا ما حكاه

عنه الثوري أنه قال: ما زلت أرائي وأنا لا أشعر إلى أن جالست أبا هاشم فأخذت منه ترك الرياء، وبلغني أنه رأى شريك بن عبد الله القاضي خارجا من دار يحيى البرمكي يطرق بين يديه فقال أعوذ بالله من علم يورث هذا، ويفضي بصاحبه إلى ما أرى.

• سمعت عبد المنعم بن عمر يقول سمعت أبا سعيد بن زياد الأعرابي يقول:

ثنا محمد بن المؤمل القرشي ثنا أبو هاشم محمد بن سعيد أبو علي قال سمعت أبي يقول: بينا أنا أطوف بالكعبة ليلا اذا أنا بأعرابية تقود أعرابيا مكفوفا وهو يقول:

أنت في موضع البعيد قريب

من منيب إلى رضاك يئوب

تسمع الصوت حيث لا يسمع الص

وت ومن حيث ما دعاك تجيب

ليس إلا بك النفوس تطيب

يا شفاء السقام أنت الطبيب

كل وصل خلاف وصلك زور

كل حب خلاف حبك حوب

من يرد من جنان وجهك مرعى

يلقه من نك لد مرعى خصيب

أو حوى قلبه المحبة إلا

وهو لا شك عندك المحبوب

أنت روح القلوب أنت غناها

بك تحيى وتستريح القلوب

بك يدنو البعيد من كل أمر

بك ينأى عن الذنوب القريب

.

ص: 112

‌شريح بن يونس

قال الشيخ: ومن المشهورين بتحقيق العبادة والعبودية. والانقياد لتعظيم الألهية والربوبية. المأخوذ عنه الآداب الشريفة، والمقتبس منه الكثير من آثار الشريعة. أبو الحارث شريح بن يونس.

نقل عنه الأحوال السنية، وله الآيات البديعة. توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين.

• حدثنا إبراهيم بن عبد الله ثنا محمد بن إسحاق الثقفى قال سمعت أحمد ابن الضحاك الخشاب يقول - وكان من البكائين - رأيت فيما يرى النائم شريح ابن يونس فقلت: ما فعل بك ربك يا أبا الحارث؟ فقال: غفر لي، ومع ذلك جعل قصري إلى جنب قصر محمد بن بشير بن عطاء الكندي. فقلت: يا أبا الحارث أنت عندنا أكبر من محمد بن بشير. فقال: لا تقل ذاك فإن الله تعالى جعل لمحمد بن بشير حظا في عمل كل مؤمن ومؤمنة، لأنه كان إذا دعا الله قال: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والكائنين منهم.

• سمعت سليمان بن أحمد يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت شريح بن يونس يقول: رأيت رب العزة في المنام فقال لي: يا شريح سل حاجتك. فقلت: رحمال سر بسر.

• سمعت محمد بن إبراهيم يقول: سمعت حامد بن شعيب يقول: سمعت شريح يونس يقول: كنت ليلة نائما فوق المشرعة فسمعت صوت ضفدع فإذا ضفدعة في فم حية فقلت: سألتك بالله إلا خليتها. فخلاها.

ومما أسند:

حدثنا أبي ثنا محمد بن إبراهيم بن أبان السراج - ببغداد سنة ثلاثمائة - ثنا شريح بن يونس ثنا إسماعيل بن خالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر: «أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى {(قل هو الله أحد)} إلى آخرها» . غريب من حديث الشعبي

ص: 113

لم يروه إلا إسماعيل عن أبيه.

• حدثنا أبي ثنا محمد بن إبراهيم ثنا شريح بن يونس ثنا علي بن ثابت عن حمزة النصيبي عن أبي الزبير عن جابر. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«من نسي أن يسمي على طعامه فليقرأ قل هو الله أحد إذا فرغ» . لا أعلم أحدا رواه عن أبي الزبير إلا حمزة.

• حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن ثنا العباس بن أحمد الوشاء ثنا شريح بن يونس ثنا أبو حفص الأبار عمر بن عبد الرحمن ثنا محمد بن جحادة عن أبي صالح عن أبي هريرة «أن رجلا خرج من المسجد حين أخذ المؤذن في الإقامة فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» . لم يروه عن محمد بن جحادة إلا أبو حفص وعنه شريح.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن عبدوس بن كامل ثنا شريح بن يونس ثنا أبو حفص الأبار عن محمد بن جحادة عن عطية عن أبي سعيد. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر» . لم يروه عن محمد إلا أبو حفص وعنه شريح.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن هشام بن أبي الدميك ثنا شريح بن يونس ثنا أبو خالد الأحمر عن مجالد عن الشعبي عن الحارث عن علي: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استووا تستو قلوبكم، وتماسوا وتراحموا» .

لم يروه عن مجالد إلا أبو خالد وعنه شريح.

• حدثنا إبراهيم بن أحمد بن أبي حصين ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا شريح بن يونس أبو الحارث ثنا إبراهيم بن خيثم بن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس فى تهمة حبسا يسيرا حتى استبرأ» .

• حدثنا إبراهيم بن محمد بن حمزة ثنا حامد بن شعيب ثنا شريح بن يونس ثنا الوليد بن مسلم ثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمر السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية فسلمنا وقلنا: أتيناك

ص: 114

زائرين وعائدين ومقتبسين. فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى لنا صلاة الغداة وأقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا فانه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالتواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فان كل بدعة ضلالة» .

• حدثنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم ثنا حامد بن شعيب ثنا شريح بن يونس ثنا يزيد بن هارون أنبأنا عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتي عبد المطلب في المنام فقيل له احفر برة. قال وما برة؟ قال: مضنون ضن بها عن الناس وأعطيتموها. قال: فلما أصبح جمع قومه فأخبرهم فقالوا: ألا سألته ما هي؟ فلما كان من الليل أتي في منامه فقيل له: احفر قال: وما أحفر؟ قال: احفر زمزم بركة من الله عز وجل. ومغنما تسقي الحجيج، ومعشرا جما. فلما أصبح جمع قومه فقالوا له:

ألا سألت أين موضعها؟ فلما بات من الليل أتي فقيل له: احفر قال: أين؟ قيل موضع زمزم. قال: وأين موضعها؟ قال: مسلك الذر وموقع الغراب بين الفرث والدم. فلما أصبح دعا قومه فأخبرهم فقالوا: هذا موضع نصب خزاعة، ولا يدعونك. وكان ولده جميعا غيبا إلا الحارث. فقام هو والحارث فحفرا حتى استخرجا غزالا من ذهب فى أذنيه قرطان، ثم حفرا حتى استخرجا حلية من ذهب وفضة، ثم حفرا حتى استخرجا سيوفا ملفوفة في عباءة، ثم حفرا حتى استنبطا الماء، فأتاه قومه فقالوا: يا عبد المطلب خذ واغنم. فقال:

ائتوني بقداح ثلاثة أسود وأبيض وأحمر، فجعل الأسود لقومه والأحمر للبيت والأبيض له، فضرب بها فخرج الأسود على الغزال فصار لقومه، ثم ضرب فخرج الأحمر على الحلية للبيت وصار السيوف له.

1

ص: 115

‌السري السقطي

ومنهم العلم المنشور. والحكم المذكور. شديد الهدى، حميد السعي.

ذو القلب التقي. والورع الخفي. عن نفسه راحل. ولحكم ربه نازل. أبو الحسن السري بن المغلس السقطي. خال أبى القاسم الجنيد وأستاذه.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت السري بن المغلس يقول: لو أحسست بإنسان يريد أن يدخل علي فقلت بلحيتي كذا - وأمر يده على لحيته.

كأنه يريد تسويتها من أجل دخول الداخل - لخفت أن يعذبني الله على ذلك بالنار. قال وسمعت السري يقول: إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مرارا مخافة أن يكون وجهي قد اسود. قال: وسمعت السري يقول: ما أحب أن أموت حيث أعرف. فقيل له: ولم ذلك يا أبا الحسن؟ قال: أخاف أن لا يقبلني قبري فأفتضح. قال وسمعت السري يقول: إن نفسي تنازعني أن اغمس جزرة في دبس منذ ثلاثين سنة فما يمكنني. قال وسمعت السري يقول: إني أحب أن آكل أكلة ليس لله علي فيها تبعة، ولا لمخلوق فيها منة. فما أجد إلى ذلك سبيلا. قال وسمعت السري يقول: خرجنا يوما من مكة نريد بعض المواضع، فلما أصحرنا رأيت في مجرى السيل طاقة بقل فمددت يدي فأخذتها وقلت: الحمد لله، ورجوت أن تكون حلالا ليس لمخلوق فيها منة. فقال لي بعض من رآني وقد أخذتها: يا أبا الحسن التفت، فالتفت فإذا مثل تلك الطاقة.

فقال لي: خذ هذا من نائبك. فقلت له: الطاقة الأولى ليس لأحد فيها منة وهذا بدلالتك تريد لك علي فيه منة. إنما أريد ما ليس لمخلوق فيه منة ولا لله فيه تبعة. قال وسمعت السري يقول: كان أهل الورع في وقت من الأوقات أربعة: حذيفة المرعشي، وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط، وسليمان الخواص، فنظروا في الورع فلما ضاقت عليهم الأمور فزعوا إلى التقلل. قال وسمعت السري يقول: كنت بطرسوس وكان معي في الدار فتيان

ص: 116

متعبدون، وكان في الدار تنور يخبزون فيه، فانكسر التنور فعملت لهم بدله من مالي، فتورعوا أن يختبزوا فيه. قال وسمعت السري وذكر أن أبا يوسف الغسولي كان يلزم الثغر ويغزو، وكان إذا غزا ودخلوا بلاد الروم أكل أصحابه من طعام الروم وفواكههم، فيقول أبو يوسف: لا آكل، فيقال له: تشك أنه حلال، فيقول: لا أشك، هو حلال. فيقال له:

فكل من الحلال. فيقول: إنما الزهد في الحلال. قال وسمعت السري يذم من يأكل بدينه ويقول: من النذالة أن يأكل العبد بدينه.

• حدثنا عمر بن أحمد بن شاهين ثنا علي بن الحسين بن حرب قال: بعث بي أبي إلى السري بشيء من حب السعال - لسعال كان به - فقال لي: كم ثمنه؟ قلت له: لم يخبرني بشيء. فقال اقرأ عليه السلام وقل له: نحن نعلم الناس منذ خمسين سنة أن لا يأكلوا بأديانهم، ترانا اليوم نأكل بأدياننا.

• سمعت محمد بن إبراهيم بن محمد يقول سمعت علي بن عبد الحميد الغضائري الحلبي يقول سمعت سريا السقطي ودققت عليه الباب فقام إلى عضادتي الباب فسمعته يقول: اللهم اشغل من شغلني عنك بك، فكان من بركة دعائه أني حججت أربعين حجة من حلب على رجلي ماشيا ذاهبا وجائيا.

• سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني يقول ثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن حمدان ثنا إسماعيل بن عبد الله الشامي قال قال سري السقطي: خمس من كن فيه فهو شجاع بطل: استقامة على أمر الله ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، وتيقظ ليس معه غفلة، ومراقبة الله فى السر والجهر ليس معه رياء، ومراقبة الموت بالتأهب.

• سمعت أبا عبد الله يقول ثنا أبو حامد ثنا إسماعيل قال قال السري السقطي: للمريد عشر مقامات، التحبب إلى الله بالنافلة، والتزين عنده بنصيحة الأمة، والأنس بكلام الله، والصبر على أحكامه، والأثرة لأمره، والحياء من نظره، وبذل المجهود فى محبوبه، والرضاء بالقلة، والقناعة بالخمول.

• حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم ثنا أحمد بن محمد ثنا

ص: 117

إسماعيل بن عبد الله الشامي قال قال سرى السقطى: للخائف عشر مقامات:

الحزن اللازم، والهم الغالب، والخشية المقلقة، وكثرة البكاء، والتضرع في الليل والنهار، والهرب من مواطن الراحة، وكثرة الوله، ووجل القلب، وتنغص العيش، ومراقبة الكمد.

• [سمعت أبا الحسين محمد بن علي بن حبيش يقول سمعت القاسم بن عبد الله البزاز يقول سمعت سريا السقطي يقول: لو أن رجلا دخل إلى بستان فيه من جميع ما خلق الله من الأشجار عليها جميع ما خلق الله من الأطيار، فخاطبه كل طير منها بلغته وقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك كان في يديها أسيرا.

• حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى ثنا أبو العباس السراج قال سمعت إبراهيم بن السري السقطي يقول سمعت أبى يقول: عجبت لمن غدا وراح في طلب الأرباح وهو مثل نفسه لا يربح أبدا.

• حدثنا إبراهيم بن محمد ثنا أبو العباس السراج قال سمعت ابن السري يقول سمعت أبي يقول. لو أشفقت هذه النفوس على أبدانها شفقتها على أولادها للاقت السرور في معادها.

• حدثنا أحمد بن محمد بن مقسم يقول سمعت أبا القاسم المطرز يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت السري بن المغلس يقول: وددت أن حزن الخلق كلهم ألقي علي.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد يقول سمعت أبا القاسم يقول سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول. إن في النفس لشغلا عن الناس.

• حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن ثنا عباس بن يوسف الشكلي ثنا محمد بن إسحاق الأسلمي قال سمعت السري يقول: المغبون من فنيت أيامه بالتسويف والمغبون من تمنى الصالحون مقامه.

• حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان ثنا علي بن الحسين بن حرب القاضي - إملاء - قال سمعت السري يقول: سئل حكيم من الحكماء: متى يكون

ص: 118

العالم مسيئا؟ قال: إذا كثر بقباقه وانتشرت كتبه وغضب أن يرد عليه شيء من قوله. هذا أو معناه.

• أخبرنا جعفر - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: بعثني السري يوما في حاجة فأبطأت عليه، فلما جئت قال لي: إذا بعث بك رجل يتكلم في موارد القلوب في حاجة فلا تبطئ عليه فإنك تشغل قلبه. قال وسمعت السري يقول: احذر أن تكون ثناء منشورا وعيبا مستورا. وسمعته يقول: سمعت أبا جعفر السماك - وكان سيخا شديد العزلة فرأى عندي جماعة قد اجتمعوا حولي فوقف ولم يقعد ثم نظر إلي فقال لى: أبو الحسن صرت مناخا للبطالين، فرجع ولم يقعد وكره إلي اجتماعهم حولي. قال وسمعت السري يقول: إني أعرف طريقا يؤدي إلى الجنة قصدا.

فقيل له: ما هو يا أبا الحسن؟ فقال: أن تشتغل بالعبادة وتقبل عليها وحدها حتى لا يكون فيك فضل. قال وسمعت السري يقول: أعرف طريقا مختصرا يؤديكم إلى الجنة. فقلت ما هو؟ قال: لا تأخذ من أحد شيئا ولا تسل أحدا شيئا، ولا يكن معك ما تعطي منه أحدا شيئا. قال وسمعت السري يقول:

رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل. قال وكان إذا أراد أن يفيدني سألني، فقال لي يوما: ما الشكر؟ فقلت: أن لا يعصى في نعمة. فقال: ما أحسن ما أجبت ما أحسن ما تقول. قال الجنيد وهذا هو فرض الشكر أن لا يعصى في نعمة]

(1)

.

• أخبرنا جعفر بن محمد في كتابه - وحدثني عنه نصر بن أبي نصر قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: قال رجل لسري السقطي كيف أنت؟ فأنشأ يقول:

من لم يبت والحب حشو فؤاده

لم يدر كيف تفتت الأكباد.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول ثنا أحمد بن محمد بن صالح ثنا محمد بن عبدوس ثنا عبدوس بن القاسم قال سمعت السري يقول: كل الدنيا فضول إلا خمس خصال: خبز يشبعه. وماء يرويه. وثوب يستره. وبيت يكنه. وعلم يستعمله. وقال: التوكل الانخلاع عن الحول والقوة.

(1)

فى مغ مؤخر عن هذا الموضع.

ص: 119

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال، سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول: أربع خصال ترفع العبد: العلم والأدب، والعفة، والأمانة.

• أخبرنا جعفر بن محمد في - كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول: اللهم ما عذبتني بشيء فلا تعذبنى بذل الحجاب.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال سمعت أبا العباس القرشي يقول حدثني بكير بن مقاتل البغدادي قال حدثني العباس بن يوسف الشكلى حدثنى أحمد ابن محمد الصوفي قال سمعت السري بن المغلس يقول: انقطع من انقطع عن الله بخصلتين، واتصل من اتصل بالله بأربع خصال: فأما من انقطع عن الله بخصلتين فيتخطى إلى نافلة بتضييع فرض، والثاني عمل بظاهر الجوارح لم يواطئ عليه صدق القلوب. وأما الذي اتصل به المتصلون فلزوم الباب، والتشمير في الخدمة والصبر على المكاره، وصيانات الكرامات.

• حدثنا محمد بن أحمد بن يعقوب البغدادي - في كتابه ولقيته - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني حدثني عبد الله بن ميمون قال سمعت أبا الحسن السري بن المغلس يقول: معنى الصبر أن تكون مثل الأرض تحمل الجبال وبني آدم، وكل ما عليها، لا تأبى ذلك ولا تسميه بلاء، بل تسميه نعمة وموهبة من سيده، لا يراد فيها أداء حكم بها عليه.

• سمعت محمد بن علي بن حبيش يقول سمعت عبد الله بن شاكر يقول قال سري السقطي: صليت ليلة وردي ومددت رجلي في المحراب فنوديت: يا سري كذا تجالس الملوك؟ قال فضممت رجلي ثم قلت: وعزتك لا مددت رجلي أبدا.

• حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان ثنا جعفر ثنا أحمد بن خلف قال: دخلت يوما على السري فرأيت في غرفته كوزا جديدا مكسورا. فقال: أردت ماء مبردا في كوز جديد فوضعته على هذا الرواق ليبرد ونمت فرأيت فى منامى جارية مزينة فقالت: يا سري من يخطب مثلي يبرد ماء؟ ثم رفسته برجلها،

ص: 120

فاستيقظت من نومي فإذا هو مطروح مكسور.

• حدثنا أبو نصر ظفر بن أحمد الصوفي ثنا علي بن أحمد الثعلبي ثنا أحمد ابن فارس الفرغاني قال سمعت علي بن عبد الحميد الحلبي يقول سمعت سريا السقطي يقول: من ادعى باطن علم ينقض ظاهر حكم فهو غالط.

• سمعت أبا نصر النيسابوري الصوفي يقول سمعت علي بن أحمد الثعلبي يقول سمعت أحمد بن فارس يقول سمعت علي بن عبد الحميد يقول سمعت السري يقول: ينبغي للعبد أن يكون أخوف ما يكون من الله، آمن ما يكون من ربه.

• حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن العطار حدثني أبو الحسين بن أبي العباس الزيات حدثني جدي محمد بن المفضل قال سمعت سريا السقطي يقول:

لا تركن إلى الدنيا فينقطع من الله حبلك، ولا تمش في الأرض مرحا فإنها عن قليل قبرك.

• حدثنا أبو الحسن بن مقسم قال سمعت أبا القاسم المطرز يقول سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول: قال بعض الأنبياء لقومه: ألا تستحيون من كثرة ما لا تستحيون. وبه سمعت السري يقول: أصفى ما يكون ذكري إذا كنت محجوبا.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن الحسن قال سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول: قلوب المقربين معلقة بالسوابق، وقلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، هؤلاء يقولون بماذا يختم لنا، وأولئك يقولون ماذا سبق من الله لنا. وبإسناده قال سمعت السري يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد بن عمر ثنا سعيد بن عثمان قال سمعت السري يقول قال عبد الله بن مطرف: تخليص العمل حتى يخلص أشد من العمل والاتقاء على العمل بعد ما يخلص أشد من العمل.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد ثنا سعيد بن عثمان قال سمعت السرى يقول:

ص: 121

تصفية العمل من الآفات أشد من العمل.

• حدثنا أبي ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا أبو عثمان الخياط قال سمعت السري يقول: من اشتغل بمناجاة الله أورثته حلاوة ذكر الله تعالى مرارة ما يلقي إليه الشيطان.

• حدثنا أبو الحسن بن مقسم حدثني أبو الحسن بن العباس ثنا جدي محمد بن الفضل قال قال السري السقطي: تبقى الإخوان ولا تأمنهم على سرك، احذر أخدان السوء واتهم صديقك كما تتهم عدوك.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا بكر النساج يقول سمعت السري يقول: لو علمت أن جلوسي في البيت أفضل من خروجي إلى المجلس ما خرجت، ولو علمت أن جلوسي معكم أفضل من جلوسي في البيت ما جلست، ولكني إن دخلت اقتضاني العلم لكم، وإن خرجت ناقدتني الحقيقة، فأنا عند مناقدتى مستحيى، وأنا عند اقتضاء العلم محجوج.

• سمعت ابن مقسم يقول سمعت أبا بكر النساج يقول سمعت السري يقول:

من استعمل التسويف طالت حسرته يوم القيامة. وسمعت ابن مقسم يقول سمعت أبا القاسم المطرز يقول سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول: قال ابن المبارك للفضيل بن عياض. يا أبا علي خزن الناس علينا العلم وخزنت علينا الحكمة.

• حدثنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه ابن مقسم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت السري يقول: اعتللت بطرسوس علة الزرب، فدخل على ثقلاء القراء يعودونني، فجلسوا فأطالوا جلوسهم، فآذاني. ثم قالوا:

إن رأيت أن تدعو الله، فمددت يدي وقلت: اللهم علمنا أدب العيادة.

• حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عقيل الوراق النيسابوري قال سمعت أحمد بن محمد بن إبراهيم البلاذري يقول سمعت العمري يقول سمعت أبا بكر العطشي يقول قلت لسري السقطي: ماذا أراد أهل الجوع بالجوع؟ فقال: ماذا أراد أهل الشبع بالشبع؟ إن الجوع أورثهم الحكم، وإن الشبع أورثهم التخم.

ص: 122

• حدثنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه عمر بن أحمد بن عثمان قال أحمد بن خلف: دخلت يوما على السري فقال لى: ألا أعجبك من عصفور يجئ فيسقط على هذا الرواق فأكون قد أعددت له لقيمة فأفتها في كفي فيسقط على أطراف أناملي فيأكل، فلما كان في وقت من الأوقات سقط على الرواق ففتت الخبز في يدي فلم يسقط على يدي كما كان، ففكرت في سر العلة في وحشته مني، فوجدتني قد أكلت ملحا طيبا، فقلت في سري: أنا تائب من الملح، فسقط على يدي فأكل وانصرف.

• سمعت أبا حفص عمر بن أحمد بن شاهين الواعظ يقول قال عبد الله بن عبيد الله سمعت السري يقول: هذا الذي أنا فيه من بركات معروف الكرخي انصرفت من صلاة العيد فرأيت مع معروف صبيا شعثا فقلت: من هذا؟ قال:

رأيت الصبيان يلعبون وهذا واقف منكسر فسألته لم لا تلعب؟ فقال: أنا يتيم، فقلت: ما ترى أنك تعمل به؟ فقال: لعلي أخلو فأجمع له نوى يشترى به جوزا يفرح به. فقلت له: أعطينيه أغير من حاله. فقال لى:

أوتفعل؟ فقلت نعم. فقال لي: خذه أغنى الله قلبك، فساوت الدنيا عندي أقل من كذا.

• حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني ثنا أحمد بن محمد بن حمدان النيسابوري ثنا إسماعيل بن عبد الله الشامي قال قال سري السقطي: ثلاث من أخلاق الأبرار: القيام بالفرائض، واجتناب المحارم، وترك الغفلة. وثلاث من أخلاق الأبرار يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار، وخفض الجناح، وكثرة الصدقات. وثلاث من أبواب سخط الله اللعب، والمزاح والغيبة. والعاشر من هذه الثلاث عمود الدين وذروته وسنامه حسن الظن بالله.

• أخبر محمد بن عبد الله الرازي - في كتابه - وحدثنى عنه عبد الواحد ابن بكر قال سمعت أبا عمر الأنماطي يقول سمعت أحمد بن عمر الخلقاني يقول: خرج معي سري السقطي يوم العيد من المسجد فلقي رجلا جليلا

ص: 123

فسلم عليه سلاما ناقصا، فقلت له: إن هذا فلان. قال: قد عرفته. قلت: فلم نقصته في السلام؟ قال لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«إذا التقى المسلمان قسمت بينهما مائة رحمة تسعون لأبشهما» فأردت أن يكون معه الأكثر.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد يقول: ما أرى لي على أحد فضلا. قيل: ولا على المخنثين؟ قال: ولا على المخنثين. قال وسمعت السرى يقول: إذا فاتنى جزء من وردي لا يمكنني أن أقضيه أبدا.

• حدثني محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت الفضل بن حمدان يقول سمعت علي بن عبد الحميد الغضائري يقول سمعت السري يقول: من لم يعرف قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم، ومن هانت عليه المصائب أحرز ثوابها.

قال وسمعته يقول: اجعل فقرك إلى الله تستغن به عمن سواه. قال وسمعته يقول: الأدب ترجمان العقل، ولسانك ترجمان قلبك، ووجهك مرآة قلبك، يتبين على الوجه ما تضمر القلوب. وقال: القلوب ثلاثة: قلب مثل الجبل لا يزيله شيء، وقلب مثل النخلة أصلها ثابت والريح تميلها، وقلب كالريشة يميل مع الريح يمينا وشمالا. وقال: أقوى القوة غلبتك نفسك، ومن عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز، ومن أطاع من فوقه أطاعه من دونه.

وقال: لا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تدعه دون استعتاب، ومن علامة المعرفة بالله القيام بحقوق الله وإيثاره على النفس فيما أمكنت فيه القدرة، ومن علامة الاستدراج العمى عن عيوب النفس. ومن قلة الصدق كثرة الخطأ.

وخير الرزق ما سلم من خمسة: من الآثام في الاكتساب، والمذلة في الخضوع في السؤال، والغش في الصناعة، وإثبات آلة المعاصي، ومعاملة الظلمة.

وأحسن الأشياء خمسة: البكاء على الذنوب، وإصلاح العيوب، وطاعة علام الغيوب، وجلاء الرين عن القلوب، وأن لا تكون لما تهوى ركوب. وقال:

خمسة أشياء لا يسكن في القلب معها غيرها: الخوف من الله وحده، والرجاء

ص: 124

من الله وحده، والحب لله وحده، والحياء من الله وحده، والأنس بالله وحده.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول: إذا ابتدأ الإنسان ثم كتب الحديث فتر وإذا ابتدأ بكتبه الحديث ثم تنسك نفذ. وقال السري: لن يحمد رجل حتى يؤثر دينه على شهوته. ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه. قال وسمعت الجنيد بن محمد يقول: كنت أعود السري في كل ثلاثة أيام عيادة السنة، فدخلت عليه وهو يجود بنفسه فجلست عند رأسه فبكيت وسقط من دموعي على خده، ففتح عينيه ونظر إلي فقلت له: أوصني. فقال: لا تصحب الأشرار، ولا تشتغل عن الله بمجالسة الأخيار.

• أخبرنا جعفر - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني قال قال سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت السري يقول: من عرف السبب انقطع عن الطلب.

• أخبرنا جعفر - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال حدثني الجنيد قال سمعت السري يقول - وقد ذكر له أهل الحقائق من العباد - فقال أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم الغرقى.

• أخبرنا جعفر - في كتابه - وحدثني عنه محمد حدثني الجنيد قال سمعت السري يقول خفيت علي علة ثلاثين سنة وذلك أنا كنا جماعة نبكر إلى الجمعة ولنا أماكن قد عرفت بنا لا نكاد أن نخلو عنها، فمات رجل من جيراننا يوم جمعة فأحببت أن أشيع جنازته، فشيعتها وأضحيت عن وقتي، ثم جئت أريد الجمعة، فلما أن قربت من المسجد قالت لي نفسي: الآن يرونك وقد أضحيت وتخلفت عن وقتك. فشق ذلك علي، فقلت لنفسي: أراك مرائية منذ ثلاثين سنة وأنا لا أدري. فتركت ذلك المكان الذي كنت آتيه، فجعلت أصلى في أماكن مختلفة لئلا يعرف مكاني هذا أو نحوه. قال وسمعت السري وكان يعجب بهذا ويقول:

ما في النهار ولا في الليل لي فرح

فما أبالي أطال الليل أم قصرا.

• سمعت أبي يقول سمعت أبا عبد الله المقرى - بالكوفة - يقول قال

ص: 125

السري بن المغلس قال رجل لديراني: ما بالكم تعجبكم الخضرة؟ فقال: إن القلوب إذا غاصت في بحار الفكرة غشيت الأبصار، فإذا نظرت إلى الخضرة عاد إليها نسيم الحياة.

• حدثنا أحمد بن محمد بن مقسم قال سمعت أبا بكر بن الباقلاني يقول سمعت أبي يقول سمعت السري يقول: لا يقوى على ترك الشهوات إلا من ترك الشبهات.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت السري يقول إني إذا نزلت أريد صلاة الجماعة أذكر مجيء الناس إلي فأقول: اللهم هب لهم عبادة يجدون لذتها تشغلهم بها عني. قال وسمعت السري وقد ذكر الناس قال: لا تعمل لهم شيئا ولا تترك لهم شيئا، ولا تكشف لهم عن شيء. يريد بهذا القول أن تكون أعمالك كلها لله عز وجل. قال وسمعته يقول: كل من ذكرني بسوء فهو فى حل إلا رجل تعمدني بشيء هو يعلم مني خلافه. قال: وحدثني الجنيد قال سمعت الحسن البزاز يقول: كان أحمد بن حنبل هاهنا، وكان بشر بن الحارث هاهنا، وكنا نرجوا أن يحفظنا الله بهما، ثم إنهما ماتا وبقي السري، وإني أرجو أن يحفظنا الله بالسري. قال وسمعت أبا علي الحسن البزاز يقول: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن السري بعد قدومه من الثغر فقال أبو عبد الله: أليس الشيخ الذي يعرف بطيب الغذاء؟ قلت: بلى. قال: هو على سيره عندنا قبل أن يخرج. وقد كان السري يعرف بطيب الغذاء وتصفية القوت، وشدة الورع، حتى انتشر ذلك عنه، وبلغ ذلك أبا عبد الله أحمد بن حنبل، فقال:

الشيخ الذي يعرف بطيب الغذاء؟. قال: وحدثني الجنيد قال كان السري يقول لنا ونحن حوله: أنا لكم عبرة، يا معشر الشباب اعملوا فإنما العمل في الشبوبية. وكان إذا جن عليه الليل دافع أوله ثم دافع ثم دافع، فإذا غلبه الأمر أخذ في النحيب والبكاء. قال وسمعت السري يقول: من الناس ناس لو مات نصف أحدهم ما انزجر النصف الآخر، ولا أحسبني إلا منهم. وسمعت

ص: 126

السري وذكر له شيء من الحديث فقال: ليس من زاد القبر.

• أسند وسمع من الأعلام والمشاهير، وامتنع من التحديث، ولم يخرج له كثير حديث. روى عن هشيم وسفيان بن عيينة ومروان بن معاوية ومحمد ابن فضيل بن غزوان في آخرين.

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المفيد ثنا أبو عبد الله محمد بن عبيد - تلميذ بشر بن الحارث - ثنا السري بن مغلس السقطي ثنا هشيم ثنا عبد الله ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«يمينك على ما يصدقك به صاحبك» .

• حدثنا محمد بن علي بن سهل ثنا محمد بن الفضل بن جابر ثنا السري بن مغلس وداود بن عمرو قالا: ثنا مروان بن معاوية عن عبد الواحد بن أيمن المكى عن عبيد بن دفيعة عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ الكفار والمشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استووا حتى أثني على ربي فقال: اللهم لك الحمد كله، لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت» . وذكر الدعاء.

• وحدثت عن الحسن بن علي بن شهريار. قال حدثني السري بن المغلس ثنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي: «أن فاطمة بنت قيس قدمت على أخيها الضحاك بن قيس» فذكر حديث الجساسة.

• وحدثت عن الحسن بن علي ثنا السري بن مغلس ثنا ابن فضيل عن مختار بن فلفل عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولون: هذا الله خلق الخلق فمن خلقه» ؟.

• وحدثت عن الحسن بن علي ثنا السري بن مغلس ثنا عبد الله بن ميمون عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قابض على شيئين فقال: هذا كتاب من الله» . وذكر الحديث.

قال الشيخ: إيراد ذكر من أخلصهم الله تعالى بخالص ذكره، وأمدهم بمواد بره، فأطلعهم على مكنون سره، يكثر ويطول، لأن للحق تبارك وتعالى في كل قرن وعصر سباقا مشمرين للسباق لما أسمعهم من لذيذ خطابه إذ

ص: 127

يقول تعالى: {(فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا)} وقد تقدم في استيعاب أسامي بعضهم: أبو سعد أحمد بن محمد بن زياد بن الأعرابي في كتابه المترجم «بطبقات النساك» فكفى من بعده ممن يعتني بذكرهم وتسميتهم.

وسئلت إيراد تسمية بعضهم بأساميهم مجردا من ذكر أحوالهم وأقوالهم، مقتصرا عليه فاستعنت بالله سبحانه وتعالى. ذاكرا أسامي بعضهم ليجمع كتابي ذكرهم وهو خير المعين وبه الحول والقوة.

‌إبراهيم بن شماس

فممن لم يذكر إبراهيم بن شماس السمرقندي سكن بغداد، بالتعبد الدائم مشهور، وفي المحبة هائم مذكور أسند الحديث.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن على البر بهارى ثنا إبراهيم بن شماس ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن سليمان بن عامر عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم ما أعطي سليمان من ملكه فإن ذلك لم يزده إلا تخشعا، وما كان يرفع طرفه إلى السماء تخشعا من ربه» .

‌محمد بن عمرو المغربي

ومنهم محمد بن عمرو المغربي: كان في التعبد بمشاهدة معبوده طاعما وعن مشاركة المتطعمين غائبا.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا إسحاق بن أحمد الفارسي قال سمعت أبا زرعة يقول: كان يأتي على محمد بن عمرو المغربي ثمانية عشر يوما لا يذوق فيها ذواقا، لا طعاما ولا شرابا، ما رأيت بمصر أصلح منه.

• حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا محمد بن يحيى ثنا إبراهيم بن أبي أيوب ثنا محمد بن عمرو المغربي. وكان يأكل في شهر رمضان أكلتين من غير تكلف يأكل في كل خمسة عشر يوما.

ص: 128

أسند الحديث الكثير:

حدثنا محمد بن علي ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة ثنا محمد بن عمرو المغربي ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثتني مولاة أبي أمامة قالت: كان أبو أمامة يحب الصدقة ويجمع لها، وما يرد سائلا ولو ببصلة أو بتمرة أو بشيء مما يؤكل. فأتاه سائل ذات يوم - وقد افتقر من ذلك كله، وما عنده إلا ثلاثة دنانير - فسأله فأعطاه دينارا ثم أتاه سائل فأعطاه دينارا، ثم أتاه سائل فأعطاه دينارا. قالت فغضبت وقلت: لم تترك لنا شيئا. قالت: فوضع رأسه للقائلة، قالت فلما نودي للظهر أيقظته فتوضأ ثم راح إلى مسجده، قالت: فرفقت عليه - وكان صائما - فتقرضت وجعلت له عشاء وأسرجت له سراجا، وجئت إلى فراشه لأمهد له، فإذا بذهب فعددتها فاذا ثلاثمائة دينار. قالت قلت: ما صنع الذي صنع إلا وقد وثق بما خلف. فأقبل بعد العشاء، قالت: فلما رأى المائدة ورأى السراج تبسم وقال: هذا خير من عنده. قالت: فقمت على رأسه حتى تعشى فقلت: يرحمك الله خلفت هذه النفقة سبيل مضيعة ولم تخبرني فأرفعها.

قال: وأي نفقة؟ ما خلفت شيئا. قالت: فرفعت الفراش فلما أن رآه فرح واشتد تعجبه. قالت: فقمت فقطعت زناري وأسلمت. قال ابن جابر: فأدركتها في مسجد حمص وهي تعلم النساء القرآن والسنن والفرائض وتفقههن في الدين.

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن الحسن ثنا ابن عمرو المغربى ثنا عثمان ابن سعيد ثنا محمد بن مهاجر عن ابن حلبس ثنا أبو إدريس عائذ الله. قال قال موسى عليه السلام «رب من في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك؟ قال: الذين أذكرهم ويذكرونني، ويتحابون في جلالي، فأولئك في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي.

قال: يا رب من أصفياؤك من عبادك؟ قال: كل تقي القلب نقي الكفين، لا يأتي ذا قرابة، يمشي هونا، ويقول صوابا، نزول الجبال ولا يزول. قال: يا رب من يسكن حظيرة القدس عندك؟ قال: الذين لا تنظر أعينهم إلى الزنا ولا يضعون في أموالهم الربا، ولا يأخذون في حكمهم الرشا. في قلوبهم الحق، وعلى ألسنتهم الصدق، أولئك يسكنون حظيرة قدسي.

ص: 129

• حدثنا محمد بن علي ثنا أبو العباس بن قتيبة ثنا محمد بن عمرو المغربي ثنا عطاف بن خالد عن محمد بن أبي بكر بن مطرف بن عبد الرحمن بن عوف قال:

قالت عائشة: «بات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبي ثم استيقظ فاستوحشت له، فسمعت حسه يصلي، فتوضأت ثم جئت فصليت وراءه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله من الليل، فجاء نور حتى أضاء البيت كله فمكث ما شاء الله، ثم ذهب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فمكث ما شاء الله، ثم جاء نور هو أشد من ذلك كله ضوء حتى لو كان الخردل في بيتي فشئت أن ألتقطه للقطته، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت فقلت: يا رسول الله ما هذا النور الذي رأيت؟ قال: وقد رأيتيه يا عائشة؟ قالت قلت: نعم يا رسول الله. قال: إني سألت ربي في أمتي فأعطاني الثلث منهم، فحمدته وشكرته ثم سألته البقية فأعطاني الثلث الثاني، فحمدته وشكرته ثم سألته الثلث الثالث فأعطانيه فحمدته وشكرته» .

‌بشير الطبري

ومنهم بشير الطبري سكن الشام. كان محفوظا فيما امتحن به، مستسلما فيما ابتلي به.

• حدثنا محمد بن أحمد بن عمر قال حدثني أبي ثنا أبو بكر بن سفيان ثنا زياد ابن أيوب ثنا أحمد بن أبي الحواري قال حدثني أبو عمرو الكندي قال:

أغارت الروم على جواميس لبشير الطبري نحوا من أربعمائة جاموس، فركبت معه أنا وابن له، فلقينا عبيده الذين كانت معهم الجواميس، معهم عصيهم، فقالوا: يا مولانا ذهبت الجواميس. فقال: وأنتم أيضا فاذهبوا معهم فأنتم أحرار لوجه الله. فقال له ابنه: يا أبت أفقرتنا. قال: اسكت يا بني، إن ربي اختبرني فأحببت أن أزيده.

‌خزيمة العابد

ومنهم خزيمة أبو محمد العابد، بصري. كان الغالب عليه من الاحوال

ص: 130

ترك اختياره، ولزوم عجزه وافتقاره.

• حدثنا أبي ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا عبد الله بن محمد بن عبيد قال:

حدثني الحسين بن يحيى بن كثير العنبري عن خزيمة بن محمد العابد قال: مر نبي من الأنبياء برجل قد نبذه أهله من البلاء، فقال: يا رب هذا عبدك لو نقلته من حاله. فأوحى الله تعالى إليه: أن سله أيحب أن أنقله؟ قال: يا هذا ما تحب أن ينقلك من حالك هذه إلى غيرها؟ فقال الرجل: أتخير على الله؟ ذلك إليه.

‌قادم الديلمي

ومنهم قادم الديلمي. صحب الفضيل بن عياض وأقرانه، سلك مسلكه في الخضوع والخشوع.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد بن عمر ثنا أبو بكر بن سفيان حدثني محمد بن الحسين حدثني قادم الديلمي العابد قال قلت للفضيل بن عياض: من الراضي عن الله؟ قال: الذي لا يحب أن يكون على غير منزلته التي جعل فيها.

• حدثنا أبو بكر الآجري ثنا عبد الله بن محمد ثنا إبراهيم بن الجنيد حدثني أحمد بن همام ثنا محمد بن الحسين حدثني قادم الديلمي قال: حدثني عابد قدم علينا بخارى يكنى أبا الحسن، قال قال لي راهب يوما: بحق ما انقطعت أوصال العاملين المريدين لله على قدر معرفتهم بنكاله، وبحق ما خف عليهم الدءوب والكلال على ما أملوا من الدخول في مهيمنته، والرجاء لبلوغ رضوانه.

قال قلت: عظني. قال: المواعظ فينا وفيكم مجتمعة وإن اتعظنا. قال: قلت:

وكيف ذاك؟ قال: ضعف الأبدان بعد القوة، ووهن الأركان بعد الشدة. قال قلت: وما هذا مما سألتك؟ قال: فبكى ثم قال: انتقال الحالات لممر الساعات، فعند ذلك فناء الآجال، ومنقطع الأعمال.

‌أحمد بن الغمر

ومنهم أحمد بن الغمر، المحفوظ من اللهو والزمر، المؤيد بالثبات والصبر.

ص: 131

• حدثنا أبو بكر الآجري ثنا عبد الله بن محمد العطشي ثنا إبراهيم بن الجنيد ثنا عون بن إبراهيم بن الصلت قال: حدثني أحمد بن الغمر الحمصي قال: سمعت محمد بن المبارك الصوري قال قلت لراهب: متى يبلغ الرجل حقيقة الأنس بالله؟ قال: إذا صفا الود فيه، وخلصت المعاملة فيما بين العبد وبين الله.

قال قلت: فمتى يصفو الود وتخلص المعاملة؟ قال: إذ اجتمع الهم فصار في الطاعة. قلت: ومتى يجتمع الهم فيصير في الطاعة؟ قال: إذا اجتمعت الهموم فصارت هما واحدا. قلت: يا راهب بم يستعان على قلة المطعم؟ قال: بالتحري في المكسب، والنظر في الكسوة. قلت: عظني وأوجز. قال: كل من حلال وارقد حيث شئت. قال: قلت له: فأين طريق الراحة؟ قال: في خلاف الهوى قلت: فمتى يجد الرجل الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها فى الجنة. قال قلت: بماذا أقطع الطريق إلى الله؟ قال: بالسهر الدائم والظمأ فى الهواجر.

قلت: ما علامة العلم؟ قال: الخوف والشفقة. قلت ما علامة الجهل قال؟ الحرص والرغبة. قلت: ما علامة الورع قال: الهرب من مواطن الشبهة. قلت: فما الذي عقلك في هذه البيعة؟ قال: بلغني أنه من مشى على الأرض عثر، ففزعت فزعة الأكياس فتحصنت بمن في السماء من فتنة من في الأرض. وذلك أنهم سراق العقول فخشيت أن يسرقوا عقلي. قلت: فمن أين تأكل فى هذه الصومعة؟ قال: بذ من أبذره من بذر اللطيف الخبير. ثم قال: إن الذى خلق الرحا يجئ بالطحين. قال: وأما بيده إلى ضرسه ثم قال: من رزق حسن الظن بالله أفيد الراحة. قال إبراهيم بن الجنيد: وأنشدني شيخ من طلبة العلم لبعضهم:

وما عاشق الدنيا بناج من الردى

ولا خارج منها بغير غليل

وكم ملك قد صغر الموت قدره

فأخرجه من ظل عليه ظليل.

‌بشر بن بشار

ومنهم بشر بن بشار المجاشعي: كان من السائحين، مذكور في طبقة القائمين.

ص: 132

• حدثنا محمد بن أحمد بن عمر قال حدثني أبي ثنا أبو بكر بن سفيان حدثني محمد بن الحسين حدثني عمار بن عثمان حدثني بشر بن بشار المجاشعي - وكان من العابدين - قال: لقيت عبادا ثلاثة ببيت المقدس فقلت لأحدهم:

أوصني. قال: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك فهو أحرى أن يفرغ قلبك، وأن يقل همك، وإياك أن تسخط ذلك فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به. فقلت للآخر: أوصني. [قال: ما أنا بمستوص فأوصيك. قلت:

ذلك عسى الله أن ينفع بوصيتك. قال: أما إذ أبيت إلا الوصية فاحفظ عني:

التمس رضوانه في ترك مناهيه فهو أوصل لك إلا الزلفى لديه. وقلت للآخر:

أوصني]

(1)

فبكى فاستحد سفوحا - يعنى بالدموع - ثم قال: يا بن أخي لا تبتغ في أمرك تدبيرا غير تدبيره فتهلك فيمن هلك، وتضل فيمن ضل.

‌مجاهد الصوفي

ومنهم مجاهد الصوفي - كان من المستأنسين بذكره المستوحشين من غيره.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا أبو تراب الزاهد قال قال مجاهد الصوفي. اتخذ الله صاحبا، ودع الناس جانبا، وعانق الفقر. فمن كان القرآن محدثه، والدعاء رسوله، والملائكة جلساءه، والله أنيسه فلا تخف عليه الضيعة.

‌أبو الأبيض

ومنهم المكنى بأبي الأبيض، الوحيد عن الخلق أعرض، وماله قدم وأقرض، وألزم ما الحق عليه أوجب وفرض.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا سلمة ابن شبيب ثنا سهل بن عاصم ثنا علي بن غنام ثنا أبو حفص الجزري قال:

(1)

زيادة فى مغ.

ص: 133

كتب أبو الأبيض - وكان عابدا ورعا - كتابا إلى بعض إخوانه فقرأه فإذا فيه: سلام عليك ورحمة الله فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنك لم تكلف من الدنيا إلا نفسا واحدة، فإن أنت أصلحتها لم يضرك فساد غيرها، واعلم أنك لن تسلم من الدنيا حتى تبالي من أكلها من أحمر وأسود.

‌أحمد الميموني 488 - وأحمد الموصلي

ومنهم أحمد الميموني، وأحمد الموصلي. كانا من عباد الشاميين، كانا متواخيين، شربا شراب المشتاقين.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا إسحاق بن أبي حسان ثنا أحمد ابن أبي الحواري ثنا جعفر بن محمد عن أحمد الميموني قال: أتيت أحمد الموصلي فقلت: إني قد أهديت لك حديثا. قال: هات فإما أن يأتيني المزيد من الله سبحانه فأعمل عليه، وإما أن أشهق شهقة فأموت. فقلت له: بلغني عن أبي العالية أنه قال: قرأت في بعض الكتب حديثا طرد عني نومي وأذهب عني شهواتي، قرأت في بعض الكتب: يا معشر الربانيين [من أمة محمد انتدبوا لدار.

قال: فلما قلت: يا معشر الربانيين]

(1)

، اصفر ثم احمر، ثم اسود ثم غشي عليه، فقلت: انتدبوا لدار أرضها زبرجد أصفر متدلية عليها أشجار الجنة بثمارها. فلما غشي عليه قمت وتركته.

‌عريف اليماني

ومنهم عريف اليماني - فارق الأشقاص والأشخاص، احترازا من الإعراض والانتقاص.

• حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا أحمد بن محمود عن يوسف بن سعيد بن مسلم قال سمعت علي بن بكار يقول سمعت عريفا اليماني يقول: إن من إعراض الله عن العبد أن يشغله بما لا ينفعه.

(1)

زيادة فى مغ.

ص: 134

‌عرفجة الكوفي

ومنهم عرفجة الكوفي - مشهور في القانتين، معروف في العابدين.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا سلمة بن شبيب ثنا إبراهيم بن الجنيد عن خلف بن تميم قال: كان فتى من أهل الكوفة متعبد يقال له: عرفجة، وكان يحيي الليل صلاة، فاستزاره بعض إخوانه ذات ليلة فاستأذن أمه في زيارته فأذنت له، قالت العجوز: فلما كان من الليل وأنا في منامي، فإذا أنا برجال قد وقفوا علي فقالوا: يا أم عرفجة لم أذنت لامامنا الليلة؟.

‌عمر البجلي

ومنهم عمرو بن جرير البجلي - كان مجذوبا، ثم صار محبوبا.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثني أبو ثابت الخطاب قال: حدثني رجاء بن عيسى. قال قال لى عمرو ابن جرير: تدري أي شيء كان سبب توبتي؟ خرجت مع أحداث بالكوفة، فلما أردت أن آتي المعصية هتف بي هاتف: كل نفس بما كسبت رهينة.

‌محمد بن أبي القاسم

ومنهم محمد بن أبي القاسم الهاشمي مولاهم - كان من المؤانسين بذكره، والمشهورين بالإجابة في دعوته.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد بن عمر ثنا عبد الله بن محمد بن سفيان قال:

حدثني محمد بن أبي القاسم مولى بن هاشم - وكان قد قارب المائة - قال:

وعظ عابد جبارا فأمر به فقطعت يداه ورجلاه وحمل إلى متعبده فجاء إخوانه يعزونه، فقال: لا تعزوني ولكن هنئوني بما ساق الله إلي. ثم قال: إلهي

ص: 135

أصبحت في منزلة الرغائب، أنظر إلى العجائب. إلهي أنت تتودد بنعمك إلى من يؤذيك، فكيف توددك إلى من يؤذي فيك.

‌سباع الموصلي

ومنهم سباع الموصلي - له الحظ النفيس في التمتع برياض التأنيس.

• حدثنا محمد بن أحمد بن محمد العبدي حدثني أبي حدثني أبو بكر القرشي حدثني عون بن إبراهيم ثنا أحمد بن أبي الحواري. قال سمعت المضاء يقول لسباع الموصلي: يا أبا محمد، إلى أي شيء أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس بالله.

‌محمد النميري

• ومنهم محمد بن سباع النميري كان من المشتهرين بذكره، والمستأنسين بروحه.

• حدثنا أبو الحسن بن أبان ثنا أبو بكر بن عبيد قال حدثني المثنى بن معاذ العنبري قال حدثني محمد بن سباع النميري قال: بينما عيسى ابن مريم عليهما السلام يسيح في بعض بلاد الشام إذ اشتد به المطر والرعد والبرق، فجعل يطلب شيئا يلجأ إليه، فرفعت له خيمة من بعيد فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل، فأتاه فإذا في الكهف أسد، فوضع يده عليه ثم قال: إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى. فأجابه الجليل جل جلاله: مأواك عندي في مستقر من رحمتي، لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء خلقتهن بيدي، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام كل يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرن مناديا ينادي: أين الزهاد في دار الدنيا: زوروا عرس الزاهد عيسى ابن مريم.

‌مسكين الصوفي

ومنهم مسكين بن عبيد الصوفي - صحب أصحاب إبراهيم بن أدهم، فسلك مسلكه في التوحيد والزهد.

ص: 136

• حدثنا أبي ثنا أبو الحسن العبدي ثنا أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني محمد بن الحسين البرجلاني حدثني مسكين بن عبيد الصوفي قال: حدثني المتوكل بن الحسين العابد قال قال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف:

فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة. فالزهد الفرض الزهد في الحرام والزهد الفضل الزهد في الحلال، والزهد السلامة الزهد في الشبهات.

‌أبو أيوب

ومنهم أبو أيوب مولى بني هاشم - صحب الحكماء من العباد، وأخذ عنهم عدة المنقلب والمعاد.

• حدثنا أبي ثنا الحسن بن أبان ثنا أبو بكر بن عبيد ثنا أبو أيوب مولى بني هاشم. قال قال بعضهم: من نظر إلى الدنيا بعين العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة [ومن أنار الله قلبه بضوء مصابيح العبر لم يميل الفكر]

(1)

، ومن لم يملها لم تطفأ مصابيح عبره. وكان يقول: احذر إيثار الدعة والميل إلى الهوينا، واعلم أن النصب نصبان: أحدهما التفكر المؤلم، وإن أنزلت نفسك منازل الخفض والدعة، وقد أجمع علماء الدنيا وعمال المعاد على بذل النصب في الدعة فلا تشذن عن الفريقين، واعلم أن أولى الفريقين بك أن تكون به مقتديا بأعمال المعاد. وقد كان من بذلهم في طلب ما عند ربهم أنهم بذلوا أنفسهم بالدءوب في التفكير المؤلم وباشروا بأبدانهم الأعمال الشاقة على الجوارح، فإن ابتغيت سبيلهم فاجمع إليك همك ليحضر عقلك فيجول فى ملكوت السموات والأرض. واعلم أن بنية القلب بنية لا امتناع بها عن محاربة عدوها، ولا عجز بعدوها عن محاربتها، وقد أعطيت عدولا علماء بدائك ودوائك، وهو مسبب إليك الداء، وقاطع عنك معاني الشفاء.

‌أبو عبد الله البراني

ومنهم أبو عبد الله البراني من مشاهير المتعبدين، معدود فى جماهير المعتبرين.

(1)

زيادة من مغ.

ص: 137

• حدثنا محمد بن أحمد بن عمر قال حدثني أبي ثنا عبد الله بن محمد حدثني محمد بن الحسين البرجلاني قال حدثني حكيم بن جعفر قال سمعت أبا عبد الله البراثى يقول: لن يرد يوم القيامة أرفع درجة من الراضين عن الله على كل حال ومن وهب له الرضا فقد بلغ أفضل الدرجات، ومن زهد عن حقيقة كانت مئونته خفيفة، ومن لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه جميع الأحوال.

‌أحمد بن موسى الثقفي

ومنهم أحمد بن موسى الثقفي - كان شاعرا أديبا، فصار صابرا أريبا، رغب عن الدنيا بعد أن كان لها وامقا، وأقبل على المعاد وصار للتزود عاشقا. له الأبيات في ذم الدنيا والمغرورين بها. أنشدنيها

أبي قال أنشدني أبو الحسن الفهري قال أنشدنا أبو بكر القرشي قال: أنشدني أحمد بن موسى الثقفى.

جهول ليس تنهاه النواهي

ولا تلقاه إلا وهو ساهى

يسر بيومه لعبا ولهوا

ولا يدري وفي غده الدواهى

مررت بقصره فرأيت أمرا

عجيبا فيه مزدجر وناهى

بدا فوق السرير فقلت من ذا

فقالوا: ذلك الملك المباهى

رأيت على الباب سود الجوارى

ينحن وهن يكسرن الملاهى

تبين أي دار أنت فيها

ولا تسكن إليها وادر ما هي.

‌أبو محرز الطفاوي

• ومنهم أبو محرز الطفاوي - تشمر في العبادة، ولحق المتقدمين في الوفادة.

• حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر ثنا أحمد بن أبان ثنا أبو بكر ابن عبيد قال حدثني محمد بن الحسين البرجلاني ثنا عون بن عمارة قال قال أبو محرز الطفاوي: لما بان للأكياس أعلى الدارين منزلة طلبوا العلو بالعلو من

ص: 138

الأعمال، وعلموا أن الشيء لا يدرك إلا بأكثر منه فبذلوا أكثر ما عندهم، بذلوا والله لله المهج رجاء الراحة لديه، والفرج في يوم لا يخيب فيه الطالب.

وقال أبو محرز: كلف الناس بالدنيا ولم ينالوا منها فوق قسمتهم، وأعرضوا عن الآخرة وببغيتها يرجوا العباد نجاة أنفسهم.

‌خيثم العجلى

ومنهم خيثم بن جحشة العجلي العابد - نبه على خدع العاجلة فرغب عنها، وجلي له حقيقة الآجلة فبادر إليها، فوعظ خطاب الدنيا وذمها.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد بن عمر ثنا عبد الله بن محمد بن سفيان قال: حدثني أبو عبد الله التميمي قال حدثني شريح العابد قال سمعت خيثم بن جحشة العابد أبا بكر العجلى يقول:

يا خاطب الدنيا على نفسها

إن لها فى كل يوم حليل

ما أقتل الدنيا لخطابها

تقتلهم قدما قتيلا قتيل

تستنكح البعل وقد وطئت

في موضع آخر منه بديل

إنى لمغتر وإن البلا يعمل

في جسمي قليلا قليل

تزودوا للموت زادا فقد

نادى مناديه الرحيل الرحيل.

‌الحسن الحفرى

ومنهم المتعبد المقرى الحسن بن أبي جعفر الحفري - أيد في الدءوب والاجتهاد، وأمد بمؤانسة مؤمني الجن من العباد.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر [ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا سلمة ابن شبيب ثنا إبراهيم بن الجنيد]

(1)

ثنا القواريري ثنا أبو عمران التمار قال:

غدوت يوما قبل الفجر إلى مسجد الحفري، فإذا باب المسجد مغلق، وإذا

(1)

زيادة من مغ.

ص: 139

حسن جالس يدعو، وإذا ضجة في المسجد وجماعة يؤمنون على دعائه، والحسن يدعو، قال: فجلست على باب المسجد حتى فرغ من دعائه فقام فأذن وفتح باب المسجد فدخلت فلم أر في المسجد أحدا، فلما أصبح وتفرق عنه الناس قلت له: يا أبا سعيد! إني والله رأيت عجبا، قال: وما رأيت؟ فأخبرته بالذي رأيت وسمعت. فقال: أولئك جن من أهل نصيبين يجيئون فيشهدون معي ختم القرآن كل ليلة جمعة ثم ينصرفون.

‌حازم الحنفى

ومنهم حازم الحنفى - كان عند الذكر مغلوبا، وكان رأسه من الشجاج معصوبا.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا هيثم بن خلف الدوري قال حدثني محمد بن إسحاق البكائي ثنا خالد بن السفر. قال: كان حازم الحنفي إذا ذكر الله وهو إلى جنب الحائط نطح رأسه بالحائط حتى يدميه، ولقد رأيت رأسه معصبا بالخرق، ورأيته عند سليم المقرى، فأتى سليما رجل يقرأ عليه فقال له سليم:

انهض بنا فإن حازما إلى جنب الحائط لا يسمع القرآن فينطح برأسه الحائط.

‌قيس بن السكن

ومنهم قيس بن السكن. حبس نفسه ولسانه سجن.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الله بن محمد بن سوار ثنا أبو بلال الأشعري ثنا منصور بن حوشب. قال: قيل لقيس بن السكن: ألا تتكلم؟ قال: لساني سبع من السباع أخاف أن أدعه فيعقرني.

‌الحكم بن أبان

ومنهم الحكم بن أبان - كان في سؤدده مجتهدا، ومع السابحين مسبحا.

ص: 140

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا ابن ماهان الرازي ثنا إسحاق بن الضيف قال سمعت مشيخة من أهل عوف يقولون: كان الحكم بن أبان سيد أهل اليمن وكان يصلي الليل فإذا غلبه النوم ألقى نفسه في البحر وقال: أسبح الله مع الحيتان.

‌أبو إسحاق التيمي

ومنهم أبو إسحاق التيمي القرشي - كان بغرور الدنيا عارفا، وعنها راحلا وعازفا، ولها ذاما وواصفا.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن عمر ثنا عبد الله بن عبيد قال: أنشدني أبو إسحاق القرشي التيمي:

ننافس في الدنيا ونحن نعيبها

وقد حذرتناها لعمرى خطوبها

وما نحسب الأيام تنقص مدة

على أنها فينا سريع دبيبها

كأني برهط يحملون جنازتي

إلى حفرة يحثى على كثيبها

وكم ثم من مسترجع متوجع

ونائحة يعلو على نحيبها

وباكية تبكي علي وإنني

لفي غفلة من صوتها ما أجيبها

أيا هادم اللذات ما منك مهرب

تحاذر نفسى منك ما سيصيبها

وإني لممن يكره الموت والبلا

ويعجبه روح الحياة وطيبها

فحتى متى حتى متى وإلى متى

يدوم طلوع الشمس بى وغروبها

رأيت المنايا قسمت بين أنفس

ونفسي سيأتي بعدهن نصيبها.

‌أبو كريمة العبدي

ومنهم أبو كريمة العبدي - كان بأوقاته ضنينا، ويجد لفوتها منه حنينا.

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المؤذن ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا أبو بكر بن سفيان قال: بلغني عن أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني عيسى بن الهذيل قال سمعت أبا كريمة - وكان من عباد أهل الشام - يقول:

ص: 141

ابن آدم، ليس لما بقي من عمرك ثمن.

‌علي بن ثابت

ومنهم علي بن ثابت - كان من العمال، وكان يحث المريدين على رفض الأتقال، ونبذ الأشغال.

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا عبد الله بن محمد ابن عبيد قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثني محمد بن معاوية الأزرق قال:

قال علي بن ثابت الزيات - وكان من العاملين لله - إن استطعت أن لا تكون في كلا العمرين بمنزلة واحدة فافعل.

‌سليمان بن حيان الأحمر

ومنهم الراوي الأنور، الموصي أصفياءه بالحظ الأوفر، أبو خالد سليمان ابن حيان الأحمر.

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا عبد الله بن محمد ثنا أحمد بن إبراهيم ثنا سلمة بن غفار عن حجاج بن محمد قال: كتب إلي أبو خالد الأحمر فكان في كتابه إلي: «واعلم أن الصديقين كانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على منزلة أمس» .

‌محمد بن معاوية

ومنهم محمد بن معاوية الصوفي - التزم نصيحة الحكيم فصفي وعوفي.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد بن عمر ثنا عبد الله بن محمد بن سفيان قال حدثني محمد بن العباس بن محمد ثنا محمد بن معاوية الصوفي قال: مر حكيم من الحكماء بفتية من الحلماء وهم قعود على روضة معشبة فقال: يا معشر الأحياء ما يوقفكم بمدرجة الموتى؟ قالوا: قعدنا نعتبر. قال: فإني أعيذكم بالذى

ص: 142

أنالكم الحياة في زمن الموتى ألا تركنوا إلى ما رفضه من أنا لكم الحياة.

‌مغيث الأسود

ومنهم مغيث الأسود: الواعظ بالأجود، والمذكر بالأوكد.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن محمد ثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثني شيخ من قريش. قال: كان مغيث الأسود يقول: زوروا القبور كل يوم بفكركم، وتوهموا جوامع الخير كل يوم في الجنة بعقولكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار بهممكم، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم، ذكر النار ومقامعها وأطباقها.

‌محمد بن صالح التيمي

ومنهم محمد بن صالح التيمي، ذو القلب الحاضر، واللب الوافر.

• حدثنا أبي ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثني محمد بن صالح التيمي. قال: كان بعض العلماء إذا تلا: {(وفي الأرض آيات للموقنين)} قال: أشهد أن السموات والأرض وما فيهما آيات تدل عليك وتشهد لك بما وصفت به نفسك، وكل يؤدي عنك الحجة، ويقر لك بالربوبية، موسوما بآثار قدرتك، ومعالم تدبيرك، كالذي تجليت به لخلقك، فوسمت القلوب من معرفتك ما آنسها من وحشة الفكر، وكفاها رجم الاحتجاب، فهي على اعترافها بك شاهدة أنك لا تحيط بك الصفات، ولا تدركك الأوهام.

وأن حظ المتفكر فيك الاعتراف بك والتوحيد لك.

‌علي بن الحسن

ومنهم علي بن الحسن بن موسى - كان للحكم واعيا، وعن العمال راويا

• حدثنا أبي ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثني

ص: 143

علي بن الحسن قال: سئل بعض العلماء: ما الذي يفتح الفكر؟ قال: اجتماع الهم لأن العبد إذا اجتمع همه فكر، فإذا فكر نظر، فإذا نظر أبصر، فإذا أبصر عمل، فهو متنقل في العمل. قيل له: كيف التنقل؟ قال: تنقله الرغبة في الفضائل حتى يبلغ منها غاية يذيقه الله لطفه به، ويرديه باللطف. فقيل: وما رداء اللطف؟ قال: الخشوع والوقار والسكينة والبر والتواضع، فإذا كان العبد كذلك أوصله ذلك إلى التعظيم له به، فإذا كان لله معظما سقاه الله من حبه شربة فنقله في الأسباب، ثم أتبعه بالعمل له، فهو الذي يعطي ثواب سنة بفكر ليلة، وثواب ليلة بفكر سنة.

‌خطاب العابد

ومنهم خطاب العابد - عن الخطايا شارد. وللراحات طارد.

• حدثنا محمد بن أحمد بن عمر العبدي ثنا أبي ثنا عبد الله بن محمد ثنا إبراهيم بن سعيد ثنا موسى بن أيوب ثنا مخلد عن خطاب العابد قال: إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله فيجئ إخوانه فيرون أثر ذلك عليه.

‌أبو جعفر المحولي

ومنهم أبو جعفر المحولي الباكي الشاكي المعولي - كان من قدماء العارفين من أهل بغداد، سكن باب المحول فنسب إليه، كان له الحال الرفيع والقول الصحيح.

• حدثنا محمد بن أحمد بن عمر ثنا أبي ثنا عبد الله بن محمد قال: حدثني علي ابن أبي مريم عن عبد الله بن أبي حبيب. قال سمعت أبا جعفر المحولي يقول إليك أشكو بدنا غذي بنعمتك ثم توثب على معاصيك.

‌عمر الصوفي

ومنهم عمر الصوفي - قطع البوادي خاليا، واعتذر إلى مولاه باكيا.

ص: 144

• حدثنا محمد بن أحمد ثنا أبي ثنا عبد الله بن محمد ثنا محمد بن إدريس قال سمعت إسحاق بن عباد يقول: لقيت عمر الصوفي بمكة فقلت له: راكبا جئت أم راجلا؟ فبكى ثم قال: أما يرضى العاصى أن يجئ إلى مولاه راكبا.

‌العباس المجنون

ومنهم العباس المعروف بالمجنون. في الشوق مضنون، وعن الخلق مخزون، كان لمحبوبه ساهرا، وعن بني جنسه سائرا.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن جعفر بن هانئ قال: حدثني محمد بن يوسف البناء عن إبراهيم الهروي عن ابن المبارك قال: صعدت جبل لبنان فإذا برجل عليه جبة صوف مفتقة الأكمام، عليها مكتوب: لاتباع ولا تشترى. قد اتزر بمئزر الخشوع، واتشح برداء القنوع، وتعمم بعمامة التوكل. فلما رآني اختفى وراء شجرة فناشدته بالله فظهر، فقلت: إنكم معاشر العباد تصبرون على الوحدة، وتقاسون في هذه القفار الوحشة. فضحك ووضع كمه على رأسه وأنشأ يقول.

يا حبيب القلوب من لي سواكا

ارحم اليوم مذنبا قد أتاكا

أنت سؤلي وبغيتي وسروري

قد أبى القلب أن يحب سواكا

يا مناي وسيدي واعتمادي

طال شوقي متى يكون لقاكا

ليس سؤلى من الجنان نعيم

غير أني أريدها لأراكا

قال: ثم غاب عني فتعاهدت ذلك الموضع سنة لأقع عليه فلم أره. فلقيني غلام أبي سليمان الداراني فسألته عنه وأعطيته صفته، فبكى وقال: وا شوقاه إلى نظرة أخرى منه. فقلت: من هو؟ فقال: ذاك عباس المجنون، يأكل في شهر أكلتين من ثمار الشجر أو نبات الأرض، يتعبد منذ ستين سنة.

‌شداد المجذوم

ومنهم العابد المجذوم شداد. مشهور ومذكور في الراضين من العباد

ص: 145

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا سلمة ابن شبيب ثنا سهل بن عاصم ثنا محمد بن عيينة عن مخلد بن الحسين. قال: كان بالبصرة رجل يقال له شداد أصابه الجذام فانقطع فدخل عليه عواده من أصحاب الحسن. فقالوا: كيف تجدك؟ قال: بخير، ما فاتني حزبي من الليل منذ سقطت، وما بي إلا أني لا أقدر على أن أحضر صلاة الجماعة.

‌أبو سعيد البراقعي

ومنهم أبو سعيد البراقعي. من كبار العارفين بالشام.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا إسحاق بن أبي حسان ثنا أحمد ابن أبي الحواري ثنا أبو سعيد البراقعي ثنا عبيد الله بن زحر الحداد عن صالح المري عن حوشب عن الحسن. قال: تفقدوا الحلاوة في الصلاة وفى القرآن وفى الذكر، فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا، وإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق.

‌الكريم أبو هاشم

• ومنهم الكريم أبو هاشم للمال قاسم. وللبخل قاصم. وللغيظ كاظم.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا علي بن محمد العسكري قال: حدثنى إبراهيم ابن جعفر الحلوذاني قال حدثني محمد بن معاوية الأزرق قال قال أبو هاشم: لله عباد ينفقون على قدر بضائعهم، وله عباد ينفقون على حسن الظن به فأولئك أولئك.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى ثنا محمد بن أحمد بن سعيد ثنا عباس ابن حمزة ثنا أحمد بن أبي الحواري. قال سمعت أبا هاشم يقول: نظرنا في هذا الأمر فإذا الذين بلغوا منه الغايات المنفردون.

1

ص: 146

‌مسعود الجهمي

ومنهم مسعود بن الحارث الجهمي، العابد المجتهد المرضي.

• حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى ثنا محمد بن إسحاق الثقفي ثنا عبيد الله ابن جرير ثنا سليمان بن موسى عن رجل رأى مسعود بن الحارث أخا خالد في النوم فقال له: ما فعل بك ربك؟ قال: قربني وأدناني وقال لي: يا مسعود طال ما ترددت في طرقات الدنيا وأنا عنك راض.

‌زهير البابي

ومنهم الداعي المحابي، أبو عبد الرحمن زهير بن نعيم البابي - كان أغلب أحواله عليه الصبر واليقين. فأيد بالنصر والتمكين.

• أخبرنا عبد الله بن جعفر - فيما قرئ عليه وأذن لي فيه - ثنا أحمد بن عاصم. قال قال زهير بن نعيم: إن هذا الأمر لا يتم إلا بشيئين الصبر واليقين، فإن كان يقين ولم يكن معه صبر لم يتم، وإن كان صبر ولم يكن معه يقين لم يتم وقد ضرب لهما أبو الدرداء مثلا فقال: مثل اليقين والصبر مثل فدادين يحفران الأرض، فإذا جلس واحد جلس الآخر.

• أخبرنا عبد الله ثنا أحمد بن عاصم قال سمعت خالي عبد العزيز بن يوسف يقول: أردت الخروج من البصرة فبدأت بيحيى بن سعيد فودعته، ثم ودعت عبد الرحمن بن مهدي، ثم ودعت زهيرا فقلت: هل من حاجة؟ قال: نعم إلا أنها مهمة مهمة. اتق الله فو الله لأن يتقيه رجل - أو قال عبد - أحب إلي من أن تتحول لي هذه السواري كلها ذهبا. فلما وليت ردني فقال:

وحاجة أخرى: لا تدخل على قاض ولا على من يدخل على القاضي، فإني في هذا المصر منذ خمسين سنة ما نظرت إلى وجه قاض ولا وال.

• أخبرنا عبد الله ثنا أحمد بن عاصم قال: كان يدي في يد زهير أمشي معه، فانتهينا إلى رجل مكفوف يقرأ، فلما سمع قراءته وقف ونظر وقال:

ص: 147

لا تغرنك قراءته، والله والله إنه شر من الغناء وضرب العود - وكان مهيبا ولم أسأله يومئذ - فلما كان بعد أيام ارتفع إلى بني قشير فقمت وسلمت عليه فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنك قلت لي يومئذ كذا وكذا. فكأنه نصيب عينه فقال لي: يا أخي نعم، لأن يطلب الرجل هذه الدنيا بالزمر والغناء والعود خير أن يطلبها بالدين. ثم قال زهير: لا أعلم أني توكلت على الله ساعة قط. قال أحمد: وسمعت الحصين بن جميل يقول سمعت زهيرا يقول: إن قدرت أن تكون عند الله أخس من كلب فافعل. قال أحمد: وكتب إلينا - وكان بأصبهان الوباء والمجاعة - إن الموت كثير. وقال لي حصين: يا أبا يحيى تعالى حتى نرتفع إلى زهير فنخبره بما كتب إلينا فلعله يدعو لهم بدعوة. فأتيته فأخبرته بما كتب إلينا من كثرة الموت، فقال لي: لا تأمنن من الموت قلته، ولا تخافن كثرته ثم قال: حدثني معدي عن رجل يكنى بأبي البغيل - وكان قد أدرك زمن الطاعون - قال كنا نطوف في القبائل وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار قد مات أهلها فنسد بابها. قال فدخلنا دارا ففتشناها فلم نجد فيها أحدا حيا، قال فسددنا بابها، قال فلما مضت الطواعين كنا نطوف في القبائل وننزع تلك السدة التي سددناها فنزعنا سدة ذلك الباب التي دخلناها ففتشناها فلم نجد أحدا حيا. قال فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين كأنه خذ ساعتئذ من حجر أمه، قال ونحن وقوف على الغلام نتعجب منه. قال فدخلت كلبة من شق أو خرق في حائط. قال فجعلت تلوذ بالغلام والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها. قال زهير قال معدي رأيت هذا الغلام في مسجد البصرة قد قبض على لحيته. قال: وكان زهير كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:

حتى متى أنت في دنياك مشتغل

وعامل الله عن دنياك مشغول

قال أحمد: وبلغني عن الباهلي قال: كنت أقود زهيرا فلما أردت أن أفارقه قلت له: أوصني. قال: إذا رأيت الرجل لا ينصف من نفسه فإن قدرت أن لا تراه فلا تراه. قال أحمد وكان زهير أصيب ببصره في آخر عمره فبلغني أن بعض إخوانه استقبله بعد ما أصيب ببصره فسلم عليه فقال: من الرجل؟

ص: 148

فاسترجع الرجل فجزع جزعا شديدا. فلما رأى زهير جزع الرجل قال له:

أخي كانت معي كسرة فيها دانق فسقطت فكان فقدها أشد علي من ذهاب بصري. قال أحمد: وبلغني أنه كان شاكيا فذهب يحيى بن أكتم يعوده فقيل له: يحيى بن أكتم. فقال: وما أصنع به؟ لو كان على حش من حشوش الأرض بالبصرة يكون خيرا له. قال أحمد: ودخلت عليه يوما فقال لي: ألك أب؟ قلت: لا. قال: ألك أم؟ قلت: لا. قال: الله أكبر، كم ترى يبقى فرع بعد أصل؟ يا أخي عليك بالدعاء والابتهال لهما، فإنه بلغني أن الله يرفع الوالدين بدعاء الولد لهما هكذا - ورفع يديه - قال أحمد: وأخبرني عبد الرحمن ابن عمر. قال: انتهى إلينا يوما رجل من هؤلاء الخبثاء القدرية فقال له:

يا أبا عبد الرحمن بلغني أنك زنديق. فقال زهير: زنديق زنديق، أما زنديق فلا ولكني رجل سوء.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا سلمة بن شبيب ثنا سهل بن عاصم قال سمعت إبراهيم يقول سمعت رجلا يقول لزهير بن نعيم: ممن أنت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: ممن أنعم الله عليه بالإسلام.

قال: إنما أريد النسب. قال: {(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)} .

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا سلمة ابن شبيب ثنا سهل بن عاصم. قال: قلت لزهير بن نعيم: يا أبا عبد الرحمن ألك حاجة؟ قال: نعم. قلت: ما هي؟ قال: تتقى الله، فو الله لأن تتقي الله أحب إلي من أن يصير هذا الحائط ذهبا.

• وبه ثنا سهل ثنا إبراهيم بن سعيد بن أنس قال سمعت زهير بن نعيم يقول: لأن يتوب رجل أحب إلي من أن يرد الله إلى بصرى. ولأن يتوب رجل أحب إلي من أن يتحول سواري المسجد لي ذهبا. قال: وحدثنا سهل قال سمعت عمشط بن زياد يقول: سمعت زهير بن نعيم يقول: جالست الناس منذ خمسين سنة فما رأيت أحدا إلا وهو يتبع هواه، حتى إنه ليخطئ فيحب أن الناس قد أخطئوا. ولأن أسمع في

ص: 149

جاري صوت ضرب أحب إلي من أن يقال لي. أخطأ فلان. قال سهل:

وسمعت من سمع زهيرا يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لأنا بمن لا يؤمن بالله أشبه مني بمن يؤمن بالله. فذكرت هذا القول لعشرة من أهل الصفا فمنهم من بكى ومنهم من صاح، ومنهم من انتفض، ومنهم من بهت. قال سهل: وسمعت زهيرا يقول: وددت أن جسدي قرض بالمقارض وأن هذا الخلق أطاعوا الله.

قال سهل: وحدثنا عبد الله بن عبد الغفار الكرماني قال: صعدت إلى زهير ابن نعيم وقد سقط من سطحه - وذلك بعد ما ذهب بصره - وهو متهشم الوجه بحال شديدة فقلت له: يا أبا عبد الرحمن كيف حالك؟ قال: على ما ترى وما يسرني بأني أشد من هذا الخلق، هي الدنيا فلتصنع ما شاءت.

‌محمد بن إسحاق

ومنهم المتشمر للحاق، المتحرز من الفراق، المتجرد للسباق الكوفي أبو عبد الله محمد بن إسحاق.

كان على فوت الساعات ضنينا، ويجد من فوت وقته أنينا وحسرة وحنينا.

• حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر ثنا أبي ثنا عبد الله بن محمد الأموي قال حدثني محمد بن إسحاق. قال قال بعض الحكماء: الأيام سهام والناس أغراض والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويستخدمك بلياليه وأيامه، حتى يستغرق جميع أجزائك، فكم بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالى فى بدنك؟ لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص، وما هي عليه من هدم ما بقي منك لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك، واستثقلت ممر الساعات، ولكن تدبير الله فوق الاعتبار. وبالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها، وإنها لأمر من العلقم إذا عجمها الحكيم وأقل من كل شيء يسمى القليل، وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها، وما تأتي به من العجائب مما يحيط به الواعظ.

نستوهب الله رشدا إلى الصواب. قال: وحدثني محمد بن إسحاق قال: قيل لبعض الحكماء: صف لنا الدنيا ومدة البقاء. فقال: الدنيا وقتك الذى يرجع

ص: 150

إليك فيه طرفك، لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه، وما لم يأت فلا علم لك به يوم مقبل تنعاه ليلته، وتطويه ساعته، وأحداثه تتناضل في الإنسان بالتغيير والنقصان، والدهر موكل بتشتيت الجماعات، وانخرام الشمل وتنقل الدول والأمل طويل والعمر قصير، وإلى الله الأمور تصير. قال محمد بن إسحاق:

وقال رجل من عبد القيس: أين تذهبون؟ بل أين يراد بكم وحادي الموت في أثر الأنفاس حثيث موضع، وعلى احتياج الأرواح من منزل الفناء إلى دار البقاء مجمع، وفي خراب الأجساد المتفكهة بالنعيم مسرع.

• حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ثنا عبد الله بن محمد العطشي المقرى ثنا إبراهيم بن الجنيد. قال: وجدت هذه الأبيات على ظهر كتاب لمحمد بن الحسين البرجلانى:

مواعظ رهبان وذكر فعالهم

وأخبار صدق عن نفوس كوافر

مواعظ تشفينا فنحن نحوزها

وإن كانت الأنباء عن كل كافر

مواعظ بر تورث النفس عبرة

وتتركها ولهاء حول المقابر

مواعظ إن تسأم النفس ذكرها

تهيج أحزانا من القلب ثائر

فدونك يا ذا الفهم إن كنت ذا نهى

فبادر فإن الموت أول زائر

قال إبراهيم وحدثني محمد بن الحسين قال: حدثت عن عبد الله بن الفرج العابد أنه قال له رجل: يا أبا محمد! هؤلاء الرهبان يتكلمون بالحكمة وهم أهل كفر وضلالة فمم ذلك؟ قال ميراث الجوع متعت بك ميراث الجوع متعت بك.

‌القاسم بن محمد

ومنهم القاسم بن محمد بن سلمة الصوفي - كان لنفسه حافظا، وبحكم الرهبانية لافظا.

• حدثنا أبو بكر الآجري ثنا عبد الله بن محمد العطشي ثنا إبراهيم بن الجنيد ثنا أحمد بن همام قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثني القاسم بن

ص: 151

محمد بن سلمة الصوفي، قال قال لي راهب في بيعة بالشام: همة المحبين الوصول بإرادتهم، وهمة الخائفين الوصول من الخوف إلى مأمنهم، وكل على خير، وأولئك أنصب أبدانا وأعلى في الخير منصبا.

• حدثنا أبو بكر ثنا عبد الله ثنا إبراهيم قال: حدثني أبو أحمد بن همام قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثني القاسم بن محمد بن سلمة الصوفي العابد قال حدثني أبو صفوان العابد الشامي - الذي كان بمكة - قال: مروا براهب قد حدب من الاجتهاد فنادوه فأشرف عليهم كأنه قد نزع منه الروح، فقالوا له: على م تعمل وتنصب نفسك؟ قال: على الطمع والرجاء. قالوا: فهل تعتريك فترة؟ قال: إن ذاك قد كان. قالوا: فمم ذلك؟ قال عند الاياس والقنوط، والمخافة تعين على العمل. قالوا: فأدوم ما يكون العبد على العبادة وأنشط إذا كان ماذا؟ قال: إذا استولت المحبة على القلب لم تكن له راحة ولا لذة إلا الاتصال بها.

‌يزيد بن يزيد

ومنهم الساجد الحميد الحامد الشديد. يزيد بن يزيد.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا أبو يعلى ثنا عثمان بن عمرو بن أبي عاصم قال سمعت الخليل البصري يقول سمعت يزيد بن يزيد يقول في سجوده خبثنا أنفسنا بالذنوب فطيبنا بالمغفرة.

‌الخادم

ومنهم الخادم المخدوم. الحائد عن المعلوم. المكتفي بمن يوجد الموجود من المعدوم.

• حدثنا عبد الله بن محمد قال قرأت على شيخ ابن حاتم العكلي حدثت عن عبد الجبار بن عبد الله عن آدم بن أبي إياس، قال: كان شاب يكتب عني قال:

فأخذ مني دفترا ينسخه فنسخه فظننت عليه ظن سوء ثم جاء به وعليه ثياب

ص: 152

رثة فرفقت به، ثم أمرت له بدراهم فلم يقبلها، فجهدت فلم يفعل، ثم أخذ بيدي فمر بي إلى البحر ثم أخرج من كمه قدحا فغرف من ماء البحر ثم قال:

اشرب. فشربت أحلى من العسل، ثم قال: من كان في خدمة من هذه قدرته أي شيء يصنع بدراهمك؟ ثم غاب عنى قلم أره.

‌الفرار

ومنهم الفرار الجآر الذي لا يقر له قرار. خوفا من الغفلة والاغترار.

• حدثنا عبد الله بن محمد قال سمعت عمرو بن عثمان المكي يقول: لقيت رجلا فيما بين قرى مصر يدور فقلت له: ما لي أراك لا تقر في مكان واحد؟ فقال لي: وكيف يقر في مكان واحد من هو مطلوب؟ فقلت له: أولست في قبضته في كل مكان؟ قال: بلى ولكني أخاف أن أستوطن الأوطان فيأخذني على غرة الاستيطان مع المغرورين.

‌الديلمي

• ومنهم الديلمي المأسور المصلوب، المحبوس المحبوب، الوصيف المكروب.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عمر بن الحسن الحلبي ثنا محمد بن المبارك الصوري قال سمعت الوليد بن مسلم يقول: غزا المسلمون غزوة فيهم الديلمي فأسرته الروم فصلبوه على الدقل، فلما رآه المسلمون مصلوبا حملوا على الروم حملة فأخذوا المركب الذي فيه الشيخ فأنزلوه عن الدقل، فقال لهم: أعطوني ماء أصب علي، فقالوا: لم تصب عليك قال: إني جنب لأنهم لما صلبوني تجلت لي نعسة فرأيت نفسي كأني على نهر فيه وصائف فمددت يدى إلى واحدة منهن فافترعتها فأصابتنى جنابة.

ص: 153

‌أمية بن الصامت

ومنهم أمية بن الصامت. العابد القانت. في العوارض ثابت. ولنفسه عاتب ولشيطانه شامت.

• حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن عبيد الله الصوفي قال سمعت أخي أبا عبد الله محمد بن محمد يقول سمعت خيرا النساج الصوفى يقول: كنت مع أمية ابن الصامت الصوفي فنظر إلى غلام فقرأ {(وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير)} ثم قال: وأين الفرار من سجن الله وقد حصنه بملائكة {(غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)} ؟ تبارك الله فما أعظم ما امتحنتني به، من نظري إلى هذا الغلام، ما شبهت نظري إليه إلا بنار وقعت على قصب في يوم ريح، فما أبقت ولا تركت. ثم قال: أستغفر الله من بلاء جنته عيناي على قلبي وأحشائي، لقد خفت أن لا أنجو من معرته ولا أتخلص من إثمه، ولو وافيت القيامة بعمل سبعين صديقا. ثم بكى حتى كاد أن يقضي، فسمعته يقول في بكائه: يا طرفي لأشغلنك بالبكاء عن النظر إلى البلاء.

‌هلال بن الوزير

ومنهم هلال بن الوزير. المعتدل المستجير، إلى مولاه العليم الخبير.

• حدثنا محمد بن محمد قال سمعت أخي أبا عبد الله محمد بن محمد قال سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت خيرا النساج يقول: كنت مع هلال بن الوزير الصوفي فنظر إلى غلام فقرأ {(وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون)} ثم قال: اللهم أنت الشهيد على أفعالنا، والحفيظ لأعمالنا، والبصير بأمورنا، والسميع لنجوانا، وأنت على كل شيء حفيظ. قد علمت ما أخفاه الناظرون في جوانح صدورهم من أسرار كامنة، وشهوات باطنة، وأنت المميز بين الحق والباطل، وقد علمت أنه لا يجوز عليك ما خطر على القلوب، وما اشتملت عليه الضلوع من إعلان وكتمان، وأنت العليم

ص: 154

بذات الصدور فاغفر لهلال ما كدح على نفسه من سوء نظره.

‌محارب بن حسان

ومنهم محارب بن حسان. فتى الفتيان. المحفوظ عن النقص والخسران. المتحصن بحصن اليقين والإيمان.

• حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن عبيد الله قال سمعت أخي أبا عبد الله محمد بن محمد يقول سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت خيرا النساج يقول: كنت مع محارب بن حسان الصوفي في مسجد الخيف ونحن محرمون فجلس إلينا غلام جميل من أهل المغرب فرأيت محاربا ينظر إليه نظرا أنكرته، فقلت له - بعد أن قام - إنك حرام في شهر حرام، ويوم حرام، في بلد حرام، في مشعر حرام، في مسجد حرام، وقد رأيتك تنظر إلى هذا الغلام نظرا لا ينظره إلا المفتونون. فقال: إلي تقول هذا يا شهواني القلب والطرف؟ ألم تعلم أن قد منعني عن الوقوع في شرك إبليس ثلاث؟ قلت: وما هن رحمك الله؟ قال ستر الإيمان، وعفة الإسلام، وأعظمها عندي وأجلها في صدرى وأكبرها فى نفسى حسن الحياء من الله أن يطلع علي وأنا جاثم على منكر نهاني ربي عنه، ثم صعق حتى اجتمع الناس علينا.

‌أبو عمرو المروزي

ومنهم أبو عمرو المروزي الحكيم. المفوض أمره إلى السميع العليم.

• حدثنا محمد بن أحمد قال سمعت أبا العباس الثقفي يقول سمعت أبا عمرو المروزي يقول: من صفات الأولياء ثلاث: الرجوع إلى الله في كل شيء، والفقر إلى الله في كل شيء، والثقة بالله في كل شيء.

‌إبراهيم بن سعد

ومنهم المعروف بالآيات. الموصوف بالكرامات. إبراهيم بن سعد العلوي له الوصاية النبوية.

ص: 155

• حدثنا عبد المنعم بن عمرو بن عبد الله ثنا الحسن بن يحيى بن حمويه الكرمانى بمكة قال قال أبو الحسن التمارى قال أبو الحارث الأولاسي: خرجت من حصن أولاس أريد البحر فقال بعض إخواني: لا تخرج فإني قد هيأت لك عجة حتى تأكل. قال: فجلست وأكلت معه ونزلت إلى الساحل فإذا أنا بإبراهيم بن سعد قائما يصلي. فقلت في نفسي: ما أشك إلا أنه يريد أن يقول لي: امش معي على الماء، ولئن قال لي لأمشين معه. فما استحكمت الخاطر حتى سلم ثم قال: هيه يا أبا الحارث امش على الخاطر. فقلت: بسم الله فمشى هو على الماء وذهبت أمشي، فغاصت رجلي فالتفت إلي وقال: يا أبا الحارث العجة أخذت برجلك.

• حدثنا عبد المنعم بن عمرو ثنا الحسن بن يحيى قال محمد بن محبوب العماني سمعت أبا الحارث الأولاسي يقول: خرجت من مكة في غير أيام الموسم أريد الشام فإذا أنا بثلاثة نفر على جبل، وإذا هم يتذاكرون الدنيا، فلما فرغوا أخذوا يعاهدون الله أن لا يمسوا ذهبا ولا فضة. فقلت: وأنا أيضا معكم، فقالوا: إن شئت. ثم قاموا فقال أحدهم: أما أنا فسائر إلى بلد كذا وكذا. وقال الآخر: وأما أنا فسائر إلى بلد كذا وكذا. وبقيت أنا وآخر فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد الشام. قال: وأنا أريد اللكام. فكان إبراهيم بن سعد العلوي، فودع بعضهم بعضا وافترقنا. فمكئت حينا أنتظر أن يأتيني كتابه فما شعرت يوما وأنا بأولاس فخرجت أريد البحر وصرت بين الأشجار إذا برجل صاف قدميه يصلي، فاضطرب قلبي لما رأيته وعلاني له الهيبة، فلما أحس بي سلم ثم التفت إلي فإذا هو إبراهيم بن سعد، فعرفته بعد ساعة. فقال لي: هاه فوبخني وقال: اذهب فغيب عني شخصك ثلاثة أيام ولا تطعم شيئا ثم ائتني. ففعلت ذلك فجئته بعد ثلاث وهو قائم يصلي، فلما أحس بي أوجز في صلاته ثم أخذ بيدي فأوقفني على البحر وحرك شفتيه، فقلت في نفسي:

يريد أن يمشي على الماء، ولئن فعل لأمشين. فما لبثت إلا يسيرا فإذا أنا برف من الحيتان ملء البحر قد أقبلت إلينا رافعة رءوسها، فاتحة أفواهها. فلما

ص: 156

رأيتها قلت في نفسي: أين أبو بشر الصياد - إنسان كان بأولاس - هذه الساعة؟ فإذا الحيتان قد تفرقت كأنما طرح في وسطها حجر. فالتفت إلي فقال فعلتها؟ فقلت: إنما قلت كذا وكذا. فقال لي: مر لست مطلوبا بهذا الأمر، ولكن عليك بهذه الرمال والجبال فوار شخصك ما أمكنك، وتقلل من الدنيا حتى يأتيك أمر الله، فإني أراك بهذا مطالبا. ثم غاب عني فلم أره حتى مات.

وكانت كتبه تصل إلي فلما مات كنت قاعدا يوما فتحرك قلبي للخروج من باب البحر ولم تكن لي حاجة، فقلت: لا أكره القلب فيغمني. فخرجت فلما صرت في المسجد الذي على الباب إذا أنا بأسود قام إلي فقال لي: أنت أبو الحارث؟ فقلت: نعم. فقال لي: آجرك الله في أخيك إبراهيم بن سعد، - وكان اسمه واضحا مولى لإبراهيم بن سعد - فذكر أن إبراهيم أوصاه أن يوصل إلي هذه الرسالة، فإذا فيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، يا أخي إذا نزل بك أمر من فقرأ وسقم أو أذى فاستعن بالله، واستعمل عن الله الرضا، فإن الله مطلع عليك يعلم ضميرك وما أنت عليه، ولا بدلك من أن ينفذ فيك حكمه، فإن رضيت فلك الثواب الجزيل، والأمن من الهول الشديد، وأنت في رضاك وسخطك لست تقدر أن تتعدى المقدور، ولا تزداد في الرزق المقسوم، والأثر المكتوب، والأجل المعلوم، ففي أي هذه الأفعال تريد أن تحتال في نقضها بهمك، أو بأي قوة تريد أن تدفعها عنك عند حلولها أو تجتلبها من قبل أوانها؟ كلا والله لا بد لأمر الله أن ينفذ فيك، طوعا منك أو كرها، فإن لم تجد إلى الرضا سبيلا فعليك بالتحمل، ولا تشك من ليس بأهل أن يشكى، ومن هو أهل الشكر والثناء القديم، ما أولى من نعمته علينا فما أعطى وعافى أكثر مما زوى وأبلى، وهو مع ذلك أعرف بموضع الخيرة لنا منا، وإذا اضطرتك الأمور وكل صبرك فالجأ إليه بهمك، واشك إليه بثك، وليكن طمعك فيه، واحذر أن تستبطئه أو تسئ به ظنا فإن لكل شيء سببا، ولكل سبب أجل، ولكل هم في الله ولله فرج عاجل أو آجل، ومن علم أنه بعين الله استحى أن يراه الله يأمل سواه. ومن أيقن بنظر الله له أسقط الاختيار

ص: 157

لنفسه في الأمور. ومن علم أن الله هو الضار النافع أسقط مخاوف المخلوقين عن قلبه، وراقب الله في قربه، وطلب الأشياء من معادنها، فاحذر أن تعلق قلبك بمخلوق تعليق خوف أو رجاء، أو تفشي إلى أحد اليوم سرك، أو تشكو إليه بثك، أو تعتمد على إخائه، أو تستريح إليه استراحة تكون فيها موضع شكوى بث، فإن غنيهم فقير في غناه، وفقيرهم ذليل في فقره، وعالمهم جاهل في علمه، فاجر في فعله إلا القليل ممن عصم الله تعالى.

‌أبو محرز

ومنهم من سلك مسالك الأكياس، أبو محرز الحارس للخواطر والأنفاس.

• حدثنا محمد بن أحمد بن عمر ثنا أبي ثنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثني محمد بن الحسين ثنا عون بن عمارة. قال قال أبو محرز الطفاوي: لما بان للأكياس أعلى الدارين منزلة طلبوا العلو بالعلو من الأعمال، وعلموا أن الشيء لا يدرك إلا بأكثر منه، وبذلوا ما عندهم، بذلوا والله لله المهج رجاء الراحة لديه، والفرج في يوم لا يخيب فيه الطالب. وقال أبو محرز: كلفوا بالدنيا ولن ينالوا منها فوق قسمتهم، وأعرضوا عن الآخرة وببغيتها يرجوا العباد نجاة أنفسهم.

‌داود بن هلال

ومنهم النصيبي داود بن هلال. المنقطع إلى الجبال والتلال، كان من المقبلين رافعا، ومن فصول الدنيا واضعا.

• حدثنا أبي ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا أبو عبد الله محمد بن سفيان ثنا علي ابن مريم عن زهير بن عباد ثنا داود بن هلال النصيبي قال: مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصبحت لهم وتزينت لهم، إني قد قذفت في قلوبهم بغضك والصدود عنك، ما خلقت خلقا أهون علي منك. كل شأنك صغير وإلى الفناء تصيرين. قضيت عليك من يوم خلقتك أن لا تدومين لأحد ولا يدوم لك أحد وإن بخل صاحبك

ص: 158

وشح عليك. طوبى للأبرار الذين أطاعوني من خلقي، أطلعوني من قلوبهم على الرضا، وأطلعوني من ضميرهم على الصدق والاستقامة. طوبى لهم. ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم، النور يسعى أمامهم، والملائكة حافون بهم، حتى أبلغ بهم ما يرجون من رحمتي.

‌مسكين الصوفي

(1)

ومنهم مسكين بن عبيد الصوفي، حليف الأحزان، الناقل كلام الأئمة والإخوان.

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المؤذن ثنا أحمد بن أبان ثنا أبو بكر بن سفيان ثنا محمد بن الحسين ثنا مسكين بن عبيد الصوفي. قال: حدثنى المتوكل ابن الحسين العابد. قال قال إبراهيم بن أدهم: الحزن حزنان: فحزن لك وحزن عليك. فالحزن الذي هو لك حزنك على الآخرة وخيرها. والحزن الذي هو عليك فحزنك على الدنيا وزينتها.

‌العباس بن المؤمل

ومنهم أبو الوليد العباس بن المؤمل الصوفي. امتحن فصبر في محنته فعوفي، راحته في البكاء والأحزان. ومفزعه إلى المقابر والجبان.

• حدثنا أبو بكر المؤذن ثنا أحمد بن أبان ثنا أبو بكر بن سفيان ثنا محمد بن الحسين قال حدثنى زيد الخبرى قال حدثني أبو الوليد العباس بن المؤمل الصوفي - وكان أمر هارون بالمعروف فحبسه دهرا - قال: أتاني آت في منامي فقال: كم للحزين غدا في القيامة من فرحة تستوعب طول حزنه في دار الدنيا. قال: فاستيقظت فزعا فلم ألبث أن فرج الله وأخرجني مما كنت فيه من ذلك الحبس، ففرح بذلك أصحابنا وأهلونا. قال: ورأيت في المنام كأن ذلك الآتي أتاني فقال: بشر المحزونين بطول الفرح غدا عند مليكهم. فعلمت والله أن الحزن إنما هو على خير الآخرة لا على الدنيا. قال زيد: فكان أبو الوليد

(1)

كذا بالاصلين. والظاهر أنه هو الذى تقدم فى ص 136

ص: 159

بما هو دهره باكي العين، إنما يتبع جنازة أو يعود مريضا، أو يلزم الجبان وكان محزونا جدا.

‌مغيث الأسود

(1)

ومنهم مغيث الأسود، آثر الأدوم والأجود، وحبب إليه الأحمد والأعود.

• حدثنا أبو بكر المؤذن ثنا أحمد بن أبان ثنا أبو بكر بن عبيد قال:

حدثني محمد بن الحسين قال حدثني يوسف بن الحكم الرقي ثنا فياض بن محمد بن سنان قال قال لي مغيث الأسود - وكان من خيار موالي بني أمية - قال قال لي راهب بدير الخلق: ما لي أراك طويل الحزن؟ قال قلت له: طالت غيبتي، وبعدت شقتي، وشق علي السفر جدا. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد ظننت أنك من عمال الله في أرضه. قلت: وما أنكرت؟ قال: ظننت أن حزنك لنفسك، فإذا أنت إنما تحزن لغيرك، أما علمت أن المريد حزنه عليه جديد آناء الليل وآناء النهار، ساعات فرحه عند ساعات خلله، هو الدهر باك محزون، ليس له على الأرض قرار، إنما تراه والها يفر بدينه، مشغولا طويل الهم قد علا بثه، همته الآخرة والوصلة إليها بسبيل النجاة من شرها. ثم قال هاه وأسبل دموعه فلم يزل يبكي حتى غشي عليه.

‌القلانسي

• ومنهم المؤانسي، أبو عبد الله القلانسي، كان بالعهد وافيا، فكان الحق له في المعاطب ناجيا.

• حدثنا محمد بن الحسين ثنا عبد الواحد بن بكر أن أبا عبد الله القلانسي ركب البحر في بعض سياحته فعصفت به الريح في مركبهم، فدعا أهل المركب وتضرعوا ونذروا النذور. وقالوا: أي عبد الله كلنا قد عاهدنا الله ونذرنا نذرا إن نجانا الله، فانذر أنت نذرا وعاهد الله عهدا. فقلت: أنا متجرد من

(1)

كذا بالاصلين. والظاهر أنه الذى تقدم فى ص 142

ص: 160

الدنيا، مالي والنذر. فألحوا علي فقلت: لله علي نذر إن يخلصني الله مما أنا فيه لا آكل لحم الفيل. فقالوا: إيش هذا النذر؟ وهل يأكل لحم الفيل أحد؟ فقلت كذا وقع في سري وأجرى الله على لساني. فانكسرت السفينة ووقعت في جماعة من أهلها إلى الساحل فبقينا أياما لم نذق ذواقا. فبينما نحن قعود إذا بولد فيل فأخذوه وذبحوه فأكلوا لحمه وعرضوا علي أكله فقلت: أنا نذرت وعاهدت الله أن لا آكل لحم الفيل. فاعتلوا علي بأني مضطر ولى فسخ العهد لاضطرارى. فأبيت عليهم وثبت على العهد. فأكلوا وامتلئوا وناموا.

فبينما هم نيام إذ جاءت الفيلة تطلب ولدها وتتبع أثره، فلم تزل تشم الرائحة حتى انتهت إلى عظام ولدها فشمته ثم جاءت وأنا أنظر إليها، فلم تزل تشم واحدا واحدا، فكلما شمت من واحد رائحة اللحم داسته برجلها أو بيدها فقتلته، حتى قتلتهم كلهم، ثم أقبلت إلي فلم تزل تشمني فلم تجد مني رائحة اللحم، فادارت مؤخرها وأومأت بخرطومها، أي اركب، فلم أقف على ما أومأت فرفعت ذنبها ورجلها، فعلمت أنها تريد منى ركوبها، فركبتها فاستويت على شيء وطئ فسارت بي سيرا عنيفا إلى أن جاءت بي في ليلتي إلى موضع زرع وسواد، وأومأت إلي أن أنزل، فتدلت برجلها حتى نزلت عنها.

فسارت سيرا أشد من سيرها بي، فلما أصبحت رأيت زرعا وسوادا وناسا.

فجملونى إلى ملكهم وسألني ترجمانه فأخبرته بالقصة وما جرى على القوم فقال لى: تدري كم السير الذي سارت بك الليلة فقلت: لا. فقال. مسيرة ثمانية أيام.

سارت بك في ليلة. فلبثت عندهم إلى أن حملت ورجعت.

‌شبل المدري

(1)

ومنهم شبل المدري لوحظ باللطف فبرى.

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا عبد الواحد بن أحمد ثنا أبو الفرج بن بكر عن عبد العزيز بن أحمد عن أبي موسى الطويل البصري. قال: اشتهى شبل المدري لحما فأخذه ليحمله فانحطت عليه الحدأة فاختلسته منه، فنوى الصوم

(1)

فى مغ: شبل المروزى

ص: 161

ورجع إلى المسجد. قال: فأقبلت الحدأة ونازعتها حداة أخرى لتغلبها عليه بحزاء منزل شبل. فسقط منها ووقع في حجر امرأة شبل، فقامت وطبخته.

فلما رجع شبل إلى منزله ليفطر قدمت امرأته إليه اللحم فقال: من أين لك هذا اللحم: فأخبرته بالحدأتين وتنازعهما. فبكى شبل وقال. الحمد لله الذي لم ينس شبلا وإن كان شبل ينساه.

‌عبد الله بن دينار

ومنهم أبو محمد عبد الله بن دينار. صان الأسرار. وحفظ بالأنوارا.

• حدثنا محمد بن أحمد بن محمد البغدادي قال أخبرني جعفر بن عبد الله الدينوري قال سمعت أبا حمزة يقول قلت لابن دينار الجعفي: أوصني. قال:

اتق الله في خلواتك، وحافظ على أوقات صلواتك، وغض طرفك عن لحظاتك، تكن عند الله مقربا في حالاتك.

‌مساور المغربي

ومنهم مساور المغربي. مستوطن الفيافي الأبي.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا سلمة بن شبيب ثنا سهل بن عاصم عن كرد بن عنبسة. قال قال مساور بن لبيب المغربي:

وقفت على راهب ذكروا لي أنه لم يكلم أحدا منذ أربعين سنة، ولم ينزل فيها من صومعته. فلم أزل به حتى أشرف علي فراودته على الكلام فأبى أن يتكلم. فقلت له: بجلال من تركت له الكلام لما كلمتني. قال: فمال قليلا كهيئة المغمى عليه ثم انتبه كهيئة الفزع ثم قال: سل وأوجز. قلت: منذ متى أنت في هذا الأمر؟ قال: يوم واحد. قلت: وكيف ذاك؟ قال: سمعت الناس يقولون:

غدا واليوم، وبعد غد، فنظرت في أمري فإذا أنا لم أعط ما أعطوا، فنظرت فإذا أمس قد فاتني، واليوم هو لي، وغدا لا أدري أدركه أم لا. ثم أدخل رأسه.

‌الفرج بن سعيد

ومنهم أبو روح الفرج بن سعيد الصوفي: لزم طريق الأئمة والأوتاد.

ص: 162

ونقل عنهم ما يتعالج به العباد.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الله بن محمد ثنا سلمة بن شبيب ثنا سهل بن عاصم ثنا أبو روح الفرج بن سعيد الصوفي قال: حدثني عثمان بن عمار قال سمعت حماد بن زيد يقول: اجتمع أيوب السختياتى ويونس بن عبيد وابن عون وثابت البناني في بيت فقال ثابت: يا هؤلاء كيف يكون العبد إذا ادعا الله فاستجاب له دعاءه قال ابن عون: يكون البلاء في نفسه. قال ثابت: فإنه يعترضها العجب بما صنع الله به. فقال يونس بن عبيد: لا يكون العبد يعجب بصنع الله له إلا وهو مستدرج. فقال أيوب وما علامة المستدرج؟ فقال: إن العبد إذا كان له عند الله منزلة فحفظها وأبقى عليها ثم شكر الله أعطاه الله أشرف من المنزلة الأولى. وإذا هو ضيع الشكر استدرجه الله، فكان تضيعه للشكر استدراجا من الله له، فغلبه عن شكر العجب معرفة الاستدراج.

وإن العبد المستدرج إذا ألقي في قلبه شيء من الشكر حمله شكره على التفقد من أين أتي، فإذا عرف ذلك بصدق خضع، فإذا خضع أقال الله عثرته. قال حماد: إن ابن عمر سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكره بالعباد المضيعين.

قال فبكوا جميعا، ثم رفع أيوب من بينهم يده وقال: يا عالم الغيب والشهادة لا توفيق لنا إن لم توفقنا، ولا قوة لنا إن لم تقونا. فقال يونس به وجدنا طعم القوة من دعائك يا أبا بكر. قال. وكان أيوب يعرف أصحابه أن له دعوة مستجابة.

‌أبو اليمان

ومنهم أبو اليمان، قرين الخير الحبر ابن سليمان.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا إسحاق بن أبي حسان ثنا أحمد بن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان يقول: كان عندنا شيخ يزعمون أنه يعرف اسم الله الأعظم. فأتيته فقلت يا عم بلغنا أنك تعرف اسم الله الأعظم فقال: يا بن أخي تعرف قلبك؟ قلت: نعم. قال: فإذا رأيته رق وأقبل فسل الله حاجتك، فذلك اسم الله الأعظم.

ص: 163

‌حيان الأسود

ومنهم حيان الأسود.

• حدثنا عبد الله ثنا إسحاق ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا جعفر بن محمد عن حيان الأسود. قال: كان عندنا رجل مكث ثلاث عشرة سنة، يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، حتى أقعد من رجليه، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ثم قال: عجبت للخليقة كيف أرادت بك بدلا. بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك. بل عجبت للخليقة كيف آنست بسواك. ثم يسكت إلى المغرب.

‌أبو الفضل الهاشمي

ومنهم أبو الفضل الهاشمي.

• حدثنا محمد بن الحسين ثنا أبو جعفر الرازي قال سمعت زكريا بن دلويه يقول: دخل أبو العباس بن مسروق الطوسي على أبى الفضل الهاشمى وهو عليل - وكان ذا عيال ولم يعرف له سببا - قال: فلما قمت قلت في نفسي: من أين يأكل هذا الرجل؟ قال: فصاح: يا أبا العباس رد هذه الهمة الردية فإن لله ألطافا خفية.

‌إبراهيم المغربي

ومنهم إبراهيم المغربي.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت إبراهيم ابن الوليد يقول: دخلت على إبراهيم المغربي وقد رفسته بغلة فكسرت رجله فقال: لولا مصائب الدنيا لقد منا على الله مفاليس.

‌أبو تراب الرملي

ومنهم أبو تراب الرملي:

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: خرج أبو تراب الرملي سنة من السنين من مكة فقال لأصحابه: خذوا أنتم طريق

ص: 164

الجادة حتى آخذ طريق تبوك. فقالوا له: الحر شديد. قال: لا بد، ولكن إذا دخلتم رملة فانزلوا عند فلان صديق لي. قال: فدخلوا الرملة فنزلوا عليه فشوى لهم أربع قطع لحم، فلما وضع بين أيديهم جاءت الحدأة فأخذت قطعة منها، فقلنا: لم تكن رزقنا. فأكلنا الباقي، فلما كان بعد يومين خرج أبو تراب من المفازة فقلنا: هل وجدت في الطريق شيئا؟ فقال: لا، إلا يوم كذا رمى إلي حدأة بقطعة شواء حار. فقلنا له: قد تغذينا منه فإنه من عندنا أخذته الحدأة. فقال أبو تراب: كذا كان الصدق.

‌سعيد الشهيد

ومنهم سعيد الشهيد، المقنع في الحديد، المشتاق إلى رؤية المنعم المجيد.

• حدثنا محمد بن أحمد بن محمد وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ثنا عباس بن يوسف قال قال ميسرة الخادم: غزونا في بعض الغزوات فصادفنا العدو، فإذا بفتى إلى جانبي، وإذا هو مقنع في الحديد، فحمل على الميمنة حتى ثناها، وحمل على الميسرة حتى ثناها، وحمل على القلب حتى ثناها. ثم أنشأ يقول:

أحسن بمولاك سعيد ظنا

هذا الذي كنت له تمنى

تنح يا حور الجنان عنا

مالك قاتلنا ولا قتلنا

لكن إلى سيدكن اشتقنا

قد علم السر وما أعلنا

قال: فحمل فقاتل فقتل منهم عددا ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو، فإذا به قد حمل على الناس وأنشأ يقول:

قد كنت أرجو ورجائي لم يخب

أن لا يضيع اليوم كدى والطلب

يا من ملا تلك القصور باللعب

لولاك ما طابت ولا طاب الطرب

فحمل فقاتل فقتل منهم عددا ثم رجع إلى مصافه فتكالب عليه العدو فحمل الثالثة وأنشأ يقول:

يا لعبة الخلد قفي ثم اسمعي

مالك قاتلنا فكفى وارجعى

ص: 165

ثم ارجعي إلى الجنان فأسرعي

لا تطمعي لا تطمعي لا تطمعي

قال: فحمل فقاتل حتى قتل رحمه الله.

‌سيار النباجي

ومنهم سيار النباجي، الباكي النائح المناجي.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا أبو الحسن المذكر ثنا عمر بن يوسف ثنا أحمد بن مسروق. قال قال سيار النباجي - وكان قد بكى على الله ستين سنة - قال: نمت عن وردي ذات ليلة، فبينا أنا كذلك رأيت كأني دخلت الجنة وإذا نهر يجري على الدر والجوهر، حافتاه من المسك الأذفر وعلى شاطئ النهر قباب اللؤلؤ وقضبان الذهب والجوهر، وإذا بجوار على الساحل وهن يقلن: سبحان المسبح في كل مكان. سبحانه سبحانه سبحانه. فقلت: من أنتن؟ فقلن: نحن من خلق الرحمن. فقلت: لمن أنتن؟ فقلن:

برانا إله الناس رب محمد

لقوم على الأقدام بالليل قوم

يناجون رب العالمين إلههم

وتسري هموم القوم والناس نوم.

‌أحمد بن روح

ومنهم أحمد بن روح المستغيث بالمولى من حلول البلوى.

• أنشدني عثمان بن محمد العثماني قال أنشدني الحسين بن عبد الرحمن القاضي قال حدثني أبي قال سمعت أحمد بن روح ينشد:

إذا حلت البلوى صرخت لسيد

به تدفع البلوى وينكشف الضر

أؤمل مولى لا يخيب عبده

له العز والآلاء والخلق والأمر

قال: وأنشدني أيضا لبعض إخوانه:

ألوذ بباب من أدعوه فردا

وآمل أن أقرب من حبيبى

إذا نامت عيون الناس طرا

قرعت الباب بالقلب الكئيب.

‌جابر الرحبي

ومنهم جابر الرحبي - له الأحوال الرفيعة، والألطاف البديعة

ص: 166

• حدثنا محمد بن أحمد بن يعقوب قال سمعت الجنيد بن محمد يقول حدثني أبو جعفر الخصاف قال قال لي جابر الرحبي يوما وأنا أماشيه: مر بنا نتسابق، مر أنت هكذا حتى أمر أنا هكذا. قال: فمررت أنا على الجسر فلما أبعدت على الجسر التفت فإذا هو يمشي على الماء ينتضح من تحت قدميه مثل ما يخرج الغبار من تحت قدم الماشي. فلما التقينا قلت: من يحسن مثل هذا؟ أمشي على الجسر وتمشي أنت على الماء. قال فقال لي: أوقد رأيتني؟ قال قلت: نعم. قال: أنت رجل صالح.

‌ومنهم المستأنس بالحق، المستوحش من الخلق، اسمه

خفي، وحاله علوي.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال سمعت أبا الحسن محمد بن أحمد يقول ثنا عبيد البسرى. قال: سألت رجلا بالكام: ما الذي أجلسك في هذا الموضع؟ قال: وما سؤالك عن شيء إن طلبته لم تدركه، وإن لحقته لم تقع عليه؟ قلت: تخبرني ما هو؟ قال علمي بأن مجالسة الله تستغرق نعيم الجنان كلها. قلت: بم؟ قال: أواه، قد كنت أظن أن نفسي ظفرت، ومن الخلق هربت، فإذا أنا كذاب في مقامي، لو كنت محبا لله صادقا ما اطلع علي أحد.

فقلت: أما علمت أن المحبين خلفاء الله في أرضه، مستأنسون بخلقه، يبعثهم على طاعته. قال: فصاح بي صيحة وقال: يا مخدوع لو شممت رائحة الحب، وعاين قلبك ما وراء ذلك من القرب، ما احتجت أن ترى فوق ما رأيت.

ثم قال: يا سماء ويا أرض اشهدا على أنه ما خطر على قلبي ذكر الجنة والنار قط، إن كنت صادقا فأمتنى. فو الله ما سمعت له كلاما بعدها، وخفت أن يسبق إلي الظن من الناس في قتله فتركته ومضيت، فبينا أنا على ذلك إذا أنا بجماعة فقالوا: ما فعل الفتى فكنيت عن ذلك. فقالوا: ارجع فإن الله قد قبضه فصليت معهم عليه. فقلت، لهم: من هذا الرجل ومن أنتم؟ قالوا:

ويحك، هذا رجل به كان يمطر المطر، قلبه على قلب إبراهيم الخليل عليه السلام، أما رأيته يخبر عن نفسه أن ذكر الجنة والنار ما خطر على قلبه قط؟

ص: 167

فهل كان أحد هكذا إلا إبراهيم الخليل عليه السلام؟ قلت: فمن أنتم؟ قالوا:

نحن السبعة المخصوصون من الأبدال. قلت علموني شيئا. قالوا: لا تحب أن تعرف، ولا تحب أن يعرف أنك ممن لا يحب أن يعرف.

‌عبد الله بن خبيق

ومنهم الصادق الواثق، المشمر اللاحق، عبد الله بن خبيق. تذوق بالصفاء، وتحقق بالوفاء، تخرج على يوسف بن أسباط، فأعرض عن الشبهات وأماط. سكن من الثغور أنطاكية.

• حدثنا أبو يعلى الحسين بن محمد بن الحسين الزبيري ثنا محمد بن المسيب الأرغياني ثنا عبد الله بن خبيق بن سابق. قال قال لي يوسف بن أسباط: إياك أن تكون من قراء السوق.

• حدثنا أبو يعلى الحسين بن محمد بن المسيب ثنا عبد الله بن خبيق قال قال لي حذيفة المرعشي: كيف تفلح والدنيا أحب إليك من أحب الناس إليك؟ وقال فى حذيفة: إن لم تخش أن يعذبك الله على أفضل عملك فأنت هالك. قال وقال لفضل: رأس الأدب عندنا أن يعرف الرجل قدره.

• حدثنا الحسين ثنا محمد ثنا عبد الله. قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: لا تغضب على الحمقى فيكثر غمك. قال: وكان حبر من أحبار بني إسرائيل يقول: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني! فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، ألم أسلبك حلاوة مناجاتي

• وبه قال: قيل لابن السماك: ما أطيب الطيبات قال: ترك الشهوات.

وقال لي حذيفة المرعشي: ما ابتلي أحد بمصيبة أعظم عليه من قسوة قلبه. وقال لي حذيفة: إنما هي أربعة أشياء: عيناك، ولسانك، وهواك، وقلبك.

فانظر عينيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك. وانظر لسانك لا تقل به شيئا يعلم الله خلافه من قلبك. وانظر قلبك لا يكن فيه غل ولا دغل على أحد من المسلمين. وانظر هواك لا تهوى شيئا من الشر. فما دام لم تكن فيك هذه الأربع خصال فألق الرماد على رأسك.

ص: 168

• حدثنا الحسين ثنا محمد ثنا عبد الله قال: من عاتب نفسه فى مرضات الله آمنه الله من مقته. وأنشدني عبد الله بن خبيق.

أف لدنيا أبت تواتيني

إلا بنقضي لها عرى دينى

عينى لحينى تدبر مقلتها

تطلب ما سرها لترديني.

• حدثنا الحسين ثنا محمد ثنا عبد الله. قال مكتوب في الحكمة من رضي بدون قدره رفعه الناس فوق غايته. وقال عبد الله أنت لا تطيع من يحسن إليك فكيف تحسن إلى من يسئ إليك.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت محمد بن علي بن الخليل يقول سمعت محمد بن جعفر بن سوار يقول سمعت عبد الله بن خبيق يقول:

لا يستغني حال من الأحوال عن الصدق، والصدق مستغن عن الأحوال كلها.

ولو صدق عبد فيما بينه وبين الله حقيقة الصدق لاطلع على خزائن من خزائن الغيب، ولكان أمينا فى السموات والأرض. قال عبد الله: وحشة العباد عن الحق أوحش منهم القلوب، ولو أنسوا بربهم ولزموا الحق لاستأنس بهم كل أحد. وسئل عبد الله بماذا ألزم الحق في أحوالي؟ قال: بإنصاف الناس من نفسك، وقبول الحق ممن هو دنك. وقال عبد الله: طول الاستماع إلى الباطل يطفئ حلاوة الطاعة من القلب، ومن أراد أن يعيش حيا في حياته فليزل الطمع عن قلبه.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي ثنا عمر بن عبد الله الهجري قال سمعت عبد الله بن خبيق يقول: لا تغتم إلا من شيء يضرك غدا، ولا تفرح بشيء لا يسرك غدا. وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فاتك، وألزمك الفكرة في بقية عمرك.

• حدثنا أبي ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ثنا عبد الله بن خبيق قال حدثني موسى بن طريف قال لي سمعت يوسف بن أسباط يقول: أربعون سنة ما حاك في صدري شيء إلا تركته.

• حدثنا أبي ثنا إبراهيم ثنا عبد الله قال قال لي يوسف بن أسباط:

تعلموا صحة العمل من سقمه، فإني أتعلمه في اثنتين وعشرين سنة.

ص: 169

• حدثنا أبي ثنا إبراهيم ثنا عبد الله قال قال لي يوسف بن أسباط: إذا رأيت الرجل قد أشر وبطر فلا تعظه فليس للموعظة فيه موضع. قال: ونظر يوسف إلى رجل في يده دفتر فقال تزينوا بما شئتم فلن يزيدكم الله إلا اتضاعا.

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن جابر الطرسوسي ثنا عبد الله بن خبيق قال سمعت يوسف بن أسباط يقول: يرزق الصادق ثلاث خصال:

الحلاوة، والملاحة، والمهابة.

• حدثنا محمد ثنا عبد الله ثنا عبد الله بن خبيق. قال: دخل الطبيب على يوسف وأنا عنده، فنظر إليه فقال: ليس عليك بأس. فقال: وددت أن الذي تخاف علي كان الساعة.

أسند عبد الله الكثير: فمما تفرد به:

• حدثنا أبي ثنا عمر بن عبد الله بن عمر الهجري - بالأبلة - ثنا عبد الله ابن خبيق ثنا يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري عن محمد بن جحادة عن قتادة عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه:

هذه ثم هذه، ثم يغتسل منهن غسلا واحدا».

• حدثنا محمد بن علي بن حبيش ثنا يوسف بن موسى بن عبد الله المروزي ثنا عبد الله بن خبيق ثنا يوسف بن أسباط عن حبيب بن حسان عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما» فذكر الحديث. لم يروه عن حبيب إلا يوسف، ولا عنه إلا عبد الله.

• حدثنا إبراهيم بن محمد النيسابوري ثنا محمد بن المسيب ثنا عبد الله بن خبيق ثنا يوسف بن أسباط عن حبيب بن حسان بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر. قال: «كان قوتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا فلا أريد عليه حتى ألقى الله تعالى» . لم يروه عن حبيب إلا يوسف، ولا عنه إلا عبد الله.

• حدثنا أبي ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ثنا عبد الله بن خبيق ثنا

ص: 170

الهيثم بن جميل عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن النعمان بن بشير قال:

«صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: إن بين يدي الساعة فتنا يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع قوم أخلاقهم بعرض من الدنيا يسير» . قال الحسن: والله لقد رأيتهم صورا ولا عقول، أجساما ولا أحلام، فراش نار، وذبان طمع، يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز.

• حدثنا أبو يعلى الحسين بن محمد الزبيري ثنا محمد بن المسيب ثنا عبد الله ابن خبيق ثنا الهيثم بن جميل ثنا مبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس. قال:

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال:

«إنها قائمة، فما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل إلا أني أحب الله ورسوله. قال: فلك ما احتسبت وأنت مع من أحببت» .

• حدثنا أبو يعلى ثنا محمد ثنا عبد الله بن خبيق ثنا يوسف بن أسباط عن ابن أبي ذيب عن القاسم عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن مكرز - رجل من أهل الشام من بني عامر بن لؤي - عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يغزو في سبيل الله يريد أن يصيب من عرض الدنيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أجر له» .

فخرج أبو هريرة فأخبر الناس فأعظمهم ذلك فقالوا: لعلك لم تفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فرجع فسأله فقال: «لا أجر له، لا أجر له، لا أجر له» .

• حدثنا أبو يعلى ثنا محمد ثنا عبد الله ثنا يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .

قال الشيخ رحمه الله: وفي الخدم أولياء غيبهم الحق فيه عن الأعيان، ومحا أسماءهم وأنسابهم عن الاشتهار والادكار، جعلهم أمانا لسكان الممالك، وبإقسامهم عليه يدفع عنهم المهالك.

ص: 171

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا أبو العباس الهروى ثنا يونس ابن عبد الأعلى ثنا ابن زيد بن أسلم قال قال محمد بن المنكدر: إني لليلة مواجه هذا المنبر أدعو في جوف الليل إذا إنسان عند أسطوانة مقنع رأسه فأسمعه يقول أي رب إن القحط قد اشتد على عبادك وإني أقسم عليك يا رب إلا سقيتهم. قال فما كان إلا ساعة إذا سحابة قد أقبلت ثم أرسلها الله. وكان عزيزا على ابن المنكدر أن يخفى عليه أحد من أهل هذا الخير، فقال: هذا بالمدينة وأنا لا أعرفه؟ فلما سلم الإمام تقنع وانصرف واتبعه ولم يجلس للقاص حتى أنى دار أنس فأخرج مفتاحا ففتح ثم دخل. قال: ورجعت فلما سبحت أتيته فإذا أنا أسمع نجرا في بيته. فسلمت ثم قلت: أدخل؟ قال: ادخل، فإذا هو ينجر أقداحا يعملها. قال فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ قال:

فاستشهرها واستعظمها مني. فلما رأيت ذلك قلت: إني سمعت إقسامك البارحة على الله يا أخي، هل لك في نفقة تغنيك عن هذا وتفرغك لما تريد من أمر الآخرة؟ قال: لا، ولكن غير ذلك، لا تذكرني لأحد ولا تذكر هذا لأحد حتى أموت، ولا تأتنى يا بن المنكدر، فإنك إن تأتني شهرتني للناس. قلت:

إني أحب أن ألقاك. قال: القني في المسجد - وكان فارسيا - قال: فما ذكر ذلك ابن المنكدر حتى مات الرجل. قال ابن وهب: بلغني أنه انتقل من تلك الدار فلم ير، ولم يدر أين ذهب. فقال أهل تلك الدار: الله بيننا وبين ابن المنكدر، أخرج عنا الرجل الصالح.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا أبو أسيد ثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة ثنا سليمان بن حرب ثنا السري بن يحيى ثنا عبد الله بن عبيد بن عمير قال خرجت مع أبي من قرية نريد قرية فضللنا الطريق، فبينا نحن كذلك إذا نحن برجل قائم يصلي، فدنونا منه فإذا حوض يابسة وقربة يابسة، وقد انتظرناه لينفتل من صلاته فلم ينفتل، فأقبل عليه أبي فقال: يا هذا إنا قد ضللنا الطريق فأومأ بيده نحو الطريق. فقال له أبي: ألا تجعل فى قربتك ماء؟ فاومأ بيده أن لا. فما برحنا أن جاءت سحابة فأمطرت فإذا ذلك الحوض ملآن، فمضينا

ص: 172

حتى أتينا القرية فذكرنا لهم شأن الرجل فقالوا: ذاك فلان، لا يكون بأرض إلا سقوا. فقال لي أبي: الحمد لله، كم من عبد لله صالح لا نعرفه.

• أخبرنا أبو الأزهر ضمرة بن حمزة بن هلال المقدسي - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم بن أحمد قال: حدثني أبي ثنا عبيد الله بن سعيد الهاشمي البصري - قدم علينا - ثنا أبي ثنا عبد الله بن إدريس عن مالك بن دينار قال: احتبس عنا المطر بالبصرة فخرجنا يوما بعد يوم نستسقي فلم نر أثر الإجابة، فخرجت أنا وعطاء السليمي وثابت البناني ويحيى البكاء ومحمد بن واسع وأبو محمد السختياني وحبيب أبو محمد الفارسي وحسان بن أبي سنان وعتبة الغلام وصالح المري، حتى صرنا إلى مصلى بالبصرة، وخرج الصبيان من المكاتب واستسقينا فلم نر أثر الإجابة، وانتصف النهار وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت البناني في المصلى، فلما أظلم الليل إذا بأسود صبيح الوجه دقيق الساقين عظيم البطن عليه مئزران من صوف، فقومت جميع ما كان عليه بدرهمين فجاء إلى ماء فتمسح ثم دنا من المحراب فصلى ركعتين كان قيامه وركوعه وسجوده سواء خفيفتين، ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: سيدي إلى كم تردد عبادك فيما لا ينقصك؟ أنفد ما عندك؟ أم نفدت خزائن قدرتك؟ سيدي أقسمت عليك بحبك لي إلا سقيتنا غيثك الساعة الساعة. قال مالك: فما أتم الكلام حتى تغيمت السماء وأخذتنا كأفواه القرب، وما خرجنا من المصلى حتى خضنا الماء إلى ركبنا. قال: فبقيت أنا وثابت متعجبين من الأسود. ثم نصرف فتبعناه. قال: فتعرضت له فقلت له يا أسود أما تستحي مما قلت؟ قال فقال: وماذا قلت؟ قال فقلت له: قولك بحبك لى. وما يدريك أنه يحبك؟ قال: تنح عن همم لا تعرفها يا من اشتغل عنه بنفسه، أين كنت أنا حين خصني بالتوحيد وبمعرفته! أفتراه بدأني بذلك إلا بمحبته لي على قدره، ومحبتي له على قدري. قال: ثم بادر يسعى. فقلت له رحمك الله ارفق بنا. قال: أنا مملوك على فرض من طاعة مالكي الصغير. قال فجعلنا نتبعه من البعد حتى دخل دار نخاس، وقد مضى من الليل نصفه، فطال علينا النصف

ص: 173

الباقي. فلما أصبحنا أتيت النخاس فقلت له: عندك غلام تبينعيه للخدمة! قال: نعم عندي مائة غلام كلهم لذلك. قال: فجعل يخرج إلي واحدا بعد آخر وأنا: أقول غير هذا، حتى عرض علي تسعين غلاما، ثم قال: ما بقي عندي غيرها ولا واحد، قال فلما أردنا الخروج دخلت أنا حجرة خربة في خلف داره فإذا أنا بالأسود نائم، فكان وقت القيلولة. فقلت: هو هو ورب الكعبة، فخرجت إلى عند النخاس فقلت له: بعني ذلك الأسود. فقال لي:

يا أبا يحيى ذاك غلام مشئوم نكد، ليست له بالليل همة إلا البكاء، وبالنهار إلا الصلاة والنوم. فقلت له: ولذلك أريده. قال: فدعا به وإذا هو قد خرج ناعسا، فقال لي: خذه بما شئت بعد أن تبريني من عيوبه كلها، فاشتريته بعشرين دينارا بالبراءة من كل عيب. فقلت: ما اسمه! قال ميمون. قال فأخذت بيده فأتيت به إلى المنزل، فبينا هو يمشي معي إذ قال لي: يا مولاي الصغير لماذا اشتريتني وأنا لا أصلح لخدمة المخلوقين قال مالك: فقلت له:

حبيبي، إنما اشتريناك لنخدمك نحن بأنفسنا وعلى رءوسنا. فقال: ولم ذاك فقلت: أليس أنت صاحبنا البارحة في المصلى فقال وقد اطلعتما على ذلك فقلت:

أنا الذي اعترضت عليك في الكلام. قال: فجعل يمشي حتى صار إلى مسجد فدخله وصف قدميه فصلى ركعتين ثم رفع طرفه الى السماء فقال إلهى وسيدى سرا كان بيني وبينك أظهرته للمخلوقين وفضحتني فيه، فكيف يطيب لي الآن عيش وقد وقف على ما كان بيني وبينك غيرك؟ أقسمت عليك إلا قبضت روحي الساعة الساعة. ثم سجد فدنوت منه فانتظرته ساعة فلم يرفع رأسه فحركته فإذا هو ميت. قال: فمددت يديه ورجليه، فإذا وجه ضاحك وقد ارتفع السواد وصار وجهه كالقمر، وإذا بشاب قد أقبل من الباب فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعظم الله أجرنا في أخينا، هاكم الكفن فكفنوه فيه فناولني ثوبين ما رأيت مثلهما ثم خرج، فكفناه فيهما. قال مالك: فقبره يستسقى به وتطلب الحوائج إلى يومنا هذا.

• حدثنا أحمد بن إسحاق قال سمعت عمر بن بحر الأسدي يقول سمعت محمد

ص: 174

ابن المبارك الصوري يقول - سنة خمسين ومائتين - قال: خرجنا حجاجا فإذا نحن بشاب ليس معه زاد ولا راحلة، فقلت: حبيبي في مثل هذا الطريق بلا زاد ولا راحلة؟ فقال لي: تحسن تقرأ! فقلت: نعم. فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص، فشهق شهقة خر مغشياى عليه، ثم أفاق فقال: ويحك تدرى ما قرأت؟ كاف من كافى، وهامن هادى، وعين من عليم، وصاد من صادق فإذا كان معي كاف وهاد وعليم وصادق ما أصنع بزاد وراحلة! ثم ولى وهو يقول:

يا طالب العلم هاهنا وهنا

ومعدن العلم بين جنبيكا

إن كنت ترجو الجنان تسكنها

فمثل العرض نصب عينيكا

إن كنت ترجو الحسان تخطبها

فأسبل الدمع فوق خديكا

وقم إذا قام كل مجتهد

وادعوه كيما يقول لبيكا.

• حدثنا أحمد قال سمعت عمر بن بحر يقول سمعت أبا الفيض - با خميم - يقول - وهو في بلده سنة خمسين ومائتين - قال كنت في تيه بني إسرائيل أريد الحج، فرأيت غلاما أمرد ماتسيا أمامى على المحجة يؤم البيت العتيق بلا زاد ولا راحلة، فقلت لرفيقي: إنا لله، إن كان مع هذا الغلام يقين وإلا هلك.

فلحقته فقلت: يا فتى فقال: لبيك. فقلت: في هذا الموضع في هذا الوقت بلا زاد ولا راحلة! قال: فنظر إلي ثم قال: يا شيخ ارفع رأسك انظر هل ترى غيره. فقلت: يا حبيبي اذهب حيث شئت.

• حدثنا أبو العباس أحمد بن العلاء ثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال قال ذو النون: حججت سنة إلى بيت الله الحرام فضللت عن الطريق، ولم يكن معي ماء ولا زاد، وإني لمشرف على الهلكة وآيس من الحياة، فلاحت لي أشجار كثيرة، وإذا أنا بمحراب قد كان عهده من متعاهده قريبا، فطرحت نفسي تحت فيء شجرة متوقعا لنسيم برد الليل، فلما غربت الشمس إذا أنا بشاب متغير اللون نحيل الجسم، يؤم نحو المحراب، فركل برجله ربوة من الأرض فظهر عين أبيض بماء عذب، فشرب وتوضأ به وقام في محرابه، فقمت إلى العين

ص: 175

فشربت ماء عذبا وسويق السلت وسكر الطبرزد، فشبعت ورويت وتوضأت فقمت إليه أصلي بصلاته حتى برق عمود الصبح فلما رأى الصبح أقبل وثب قائما على قدميه ونادى بأعلى صوته: ذهب الليل بما فيه ولم أقض من خدمتك وطرا ولا من عذب ماء مناجاتك شطرا، إلهي خسر من أتعب لغيرك بدنه، وألجأ إلى سواك همته. فلما أراد أن يمضي ناديته: بالذي منحك لذيذ الرغب، وأذهب عنك ملال التعب إلا حففتني بجناح الرحمة، وأمنتني من جناح الذلة، فإني رجل غريب أريد بيت الله الحرام، فضللت عن الطريق وليس معي ماء ولا زاد ولا راحلة، وإني مشرف على الهلكة آيس من الحياة. فقال: اسكت يا بطال، وهل من موفود وفد إليه فقطع به دون البلاغ إليه! لو صححت له في المعاملة لصحح لك في الدلالة. ثم قال: اتبعني. فرأيت الأرض تطوى من تحت أرجلنا حتى رأيت الحجة وسمعت ضجة فقال هذه بكة، ثم أنشأ يقول:

من عامل الله بتقواه

وكان في الخلوة يرعاه

سقاه كأسا من صفا حبه

تسلبه لذة دنياه

فأبعد الخلق وأقصاهم

وانفرد العبد بمولاه.

• حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ثنا عبد الله بن محمد العطشي ثنا أبو حفص عمر بن محمد بن الحكم النسائي قال: حدثني محمد بن الحسين البرجلاني قال حدثني حسين بن محمد الشامي قال سمعت ذا النون يقول: ركبنا في البحر نريد مكة، ومعنا في المركب رجل عليه أطمار رثة، فوقع في المركب تهمة فدارت حتى صارت إليه، فقلت: إن القوم اتهموك. فقال: أنا تعني؟ فقلت: نعم. قال: فنظر إلى السماء. ثم قال: أقسمت عليك إلا أخرجت ما فيه من حوت بجوهرة. قال: فلقد خيل إلي أن ما في البحر سمكة إلا وقد خرجت في فيها لؤلؤة أو جوهرة، ثم رمى بنفسه في البحر فذهب.

• حدثنا أبو بحر محمد بن الحسن بن كوثر ثنا محمد بن يونس ثنا يوسف بن يعقوب المقرى ثنا مبارك بن فضالة عن ثابت البناني قال: كنت واقفا بعرفة فإذا أنا بشابين عليهما العباءة القطوانية، فقال أحدهما لصاحبه: كيف أنت

ص: 176

يا حبيب؟ فأجابه الآخر: لبيك يا محب. قال فقال: أترى أن الرب الذي تواددنا فيه وتحاببنا فيه يعذبنا غدا في القيامة؟ فسمعت قائلا يقول: سمعته الآذان ولم تره الأعين: ليس بفاعل، ليس بفاعل.

• سمعت أبا بكر محمد بن أحمد الدينوري الطوسي - بمكة - يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: خرجت حاجا فبينا أنا في برية تبوك إذا أنا بامرأة بلا يدين ولا رجلين ولا عينين، فتعجبت منها فقلت: يا أمة الله من أين أقبلت؟ قالت: من عنده. قلت: وما تريدين؟ قالت: إليه. قلت: يا سبحان الله بادية تبوك وليس فيها مغيث وأنت على هذه الحالة؟ فقالت: يا سبحان الله غمض عينيك، فغمضتهما، ثم قالت: افتح عينيك ففتحتهما فاذا أنابها متعلقة بأستار الكعبة ثم قالت: يا أبا عبد الله تتعجب من ضعيف حمله قوي؟ ثم سارت بين السماء والأرض.

حضرت عمر بن رفيل الشيخ الأمين بجرجان وسمعت منه وحدثني بهذا عنه أبو الحسن علي بن عبد الله الهمداني بمكة قال: حكى الشيخ الشبلي أن أبا حمزة كان من شأنه الجلوس في منزله لا يخرج إلا لعظيم لا يسعه القعود عنه، فدخل عليه بعض الفقراء يوما وليس عنده شيء فخلع قميصه ودفعه إليه فخرج الفقير فغلب على حمزة الوجد، فخرج مجردا، فبينا هو يمشي في صحراء إذ وقع في بئر، فأراد أن يصيح فذكر العقد بينه وبين الله - وكان قد عاهد الله أن لا يستغيث بمخلوق - فبينا هو في البئر مر رجلان على جادة الطريق فقال أحدهما للآخر: يا أخي هذا البئر في وسط الطريق لو مر به من لا يعلم به لهوى فيه، فامض أنت وجئني بقصب وأنا أنقل الحجارة والتراب، ففعلا وسدا رأس البئر ومضيا، فأردت أن أكلمهما لضعف البشرية أن أخرجاني ثم طموه، فمنعني العقد الذي بيني وبين سيدي. فقلت: سيدي وعزتك لا أستغيث بغيرك. فبينا أنا كذلك وقد مضى بعض الليل إذا التراب يتناثر علي من رأس البئر، كأن إنسانا ينبشه، فسمعت قائلا يقول: لا ترفع رأسك لا يسقط عليك التراب. ثم ناداني: يا أبا حمزة تعلق برجلي، فتعلقت برجله فاذا هو خشن

ص: 177

اللمس، فلما صعدت وصرت فوق البئر على الأرض إذا أنا بسبع عظيم الهيئة فالتفت إلي فسمعت قائلا يقول: يا أبا حمزة نجيناك من التلف بالتلف. وولى عني في الصحراء فأنشأت أقول:

أهابك أن أبدي إليك الذي أخفي

وطرفك يدرى ما يقول له طرفى

نهانى حيائي منك أن أكشف الهوى

وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف

تراءيت لي بالغيب حتى كأنما

تبشرني بالغيب أنك فى كفى

أراك وبي من هيبتي لك حشمة

فتؤنسني بالعطف منك وباللطف

وتحيي محبا أنت في الحب حتفه

وذا عجب كون الحياة من الحتف.

• حدثنا علي بن عبد الله قال حدثني محمد بن الحسن قال سمعت علي بن محمد الناقد يقول قال لي بعض شيوخنا: كنت ببعض سواحل الشام فرأيت شابا عليه طمران فأدمت النظر إليه فقال لي: شدة الشوق والهوى صيرتني كما ترى، فقلت له: زدنى فقال.

ما قر لي جنب على مضجع

كم يلبث الجنب على الجمر

والله لا زلت له عاشقا

وإن أمت أذكره في القبر

فمضى وتركني.

• سمعت أبا القاسم عبد السلام بن محمد المخرمي الصوفي - بمكة - يقول قال أبو بكر الجوهري: كنت بعسقلان على برج الخضر أحرس، فمر بي رجل عليه جبة صوف متخرقة، فقمت إليه مسلما وعانقته وأجلسته وجاريت معه في فنون من العلم، وكان قدماه حافيتين، فقلت له: لم لا تسأل أصحابنا في نعل يقيك الحفاء؟ فقال لى: يا أخى.

لرد أمس بالحبال

وحبس عين الشمس بالعقال

ونقل ماء البحر بالغربال

أهون على من ذل السؤال

واقفا بباب مثلي

أرتجي منه النوال

ثم أخرجني من باب المدينة فانتهى بي إلى صخرة منقورة فإذا عليها مكتوب:

كل بيمينك، من عرق جبينك، فإن ضعف يقينك، فسل المولى يعينك

ص: 178

• حدثنا محمد بن محمد بن عمر قال سمعت أحمد بن عيسى الوشاء يقول سمعت أبا عثمان سعيد بن الحكم يقول سمعت ذا النون يقول: خرجت في طلب المباحات فإذا أنا بصوت فعدلت إليه فإذا أنا برجل قد غاص في بحر الوله، وخرج على ساحل الكمد وهو يقول في دعائه: أنت تعلم أني أعلم أن الاستغفار مع الإصرار. الحكاية بطولها في ترجمة ذي النون. وكذلك التي تليها.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا أحمد بن محمد بن عيسى ثنا حيدرة ابن عبيدة بن عبيد قال: دخلنا على رجل من العباد نعوده فقلنا له: كيف تجدك؟ فقال. ذنوب كثيرة، ونفس ضعيفة، وحسنات قليلة، وسفرة طويلة، وغاية مهولة. قال قلنا: ما معك من الزاد لما ذكرته؟ قال: معي الأمل في السيد الكريم. ثم قال: اللهم لا تقطع بمؤملك في تلك الغمرات، وارحمه في تلك الحيرة والحسرات، إذا انخلعت القلوب يوم الندامات. وجعل يتشهد حتى مات.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا علي بن حمزة ثنا أبو العيناء قال حدثني الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: من عرف فضل من فوقه عرف فضله من دونه فإن جحد جحده، وذكر أن السري بن جابر دخل بلاد الزنج قال: فرأيت زنجية تدق الأرز وتبكي وأنشأت تقول بكلامها مالا أقف عليه. فقلت: ليتني أقف على ترجمتها. فلقيت شيخا فسألته عنها فقال هي تقول:

رمقت بعيني يمنة ثم يسرة

فلم أر غير الله يأمله قلبى

فجئت بإدلال إلى من عرفته

فبالفضل والإحسان يغفر لى ذنبى

أياديك لا تحصى وإن طال عهدها

وإحسانك المبذول في الشرق والغرب.

• حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثني عبد الرحمن بن محمد ثنا أحمد بن روح قال حدثني إبراهيم بن عبد الله قال حدثني عبد الرحيم بن يحيى الرازي عن أبي خالد بن سليم العامري قال: بلغني أن راهبا من رهبان القدماء سأل الله حاجة فبعد قضاؤها عليه، فرفع رأسه وقال: سيدي ومولاي حبستني في أضيق المحابس وجعلتني وحيدا لا أستطيع مذاكرة غيرك، فليس لي راحة

ص: 179

إلا عندك، وقد صحت لي الظنون فيك. إلهي فما بال حاجتي محتبسة وأنت لا تخلف الظنون. قال: فنودي: هاك حاجتك، فلهذا الكلام حبست حاجتك.

قال: فخر مغشيا فلم يفق أياما ثم رفع رأسه فقال: إلهى أكل هذا تفعل بالمذنبين. فصعق وخر ميتا.

• حدثنا عبد الله بن محمد حدثني أحمد بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الملك قال قال ذو النون المصري: وصف لي باليمن رجل قد برز على المجتهدين، وذكر لي باللب والحكمة، فخرجت حاجا إلى بيت الله، فلما قضيت نسكي أتيته لأسمع من كلامه وأنتفع بموعظته، فأقمت على بابه أياما حتى ظفرت به، وكان أصفر اللون من غير مرض، أعمش العينين من غير عمش، ناحل الجسم من غير سقم، يحب الخلوة ويأنس إلى الوحدة، تراه كأنه قريب عهد بمصيبة. قال: فخرج الشيخ ذات يوم إلى صلاة الجمعة فاتبعناه بأجمعنا لنكلمه، فبادر إليه شاب فسلم عليه وصافحه وأبدى له الترحيب والبشر، فقال له الشاب:

إن الله بمنه وفضله جعلك ومثلك أطباء لسقام القلوب، ومعالجين لأوجاع الذنوب، وبي جرح قد نغل، وداء قد استطال، فإن رأيت أن تتلطف ببعض مراهمك وتعالجني برفقك. فقال له الشيخ: سل عما بدا لك. قال: ما علامة الخوف من الله؟ قال: أن تؤمن نفسك من كل خوف إلا الخوف من الله.

فاضطرب الشاب كما تضطرب السمكة في شبكة الصياد والشيخ قائم بإزائه.

ثم إن الشاب رجع وأمر يده على وجهه وقال: رحمك الله متى يتبين للعبد خوفه من الله؟ قال: يا بني إذا أنزل نفسه في الدنيا بمنزلة السقيم وهو يحتمي من كل الطعام مخافة طول الأسقام. قال: فصاح الشاب صيحة ثم قال: أوه عاقبت فأوجعت. فقال الشيخ: بل داويت فأحسنت، وعالجت فرفقت.

فمكث الشاب ساعة لا يحير جوابا. ثم إن الشاب أفاق فأمر يده على وجهه وقال له: رحمك الله فما علامة المحب لله؟ قال فانتفض الشيخ فزعا وجرت الدموع على وجهه كنظام اللؤلؤ ثم قال: يا شاب إن درجة الحب درجة سنية بهية رفيعة. قال: فأنا أحب أن تصفها لي. قال: إن المحبين لله شق لهم عن قلوبهم

ص: 180

فأبصروا بنور القلوب عظمة الله جل جلاله، فصارت أبدانهم دنيوية. وقلوبهم سماوية، وأرواحهم حجبية، وعقولهم نورانية، تسرح بين صفوف الملائكة بالعيان، وتشاهد تلك الأمور بالتحقيق والبيان، فعبدوا الله بمبلغ استطاعتهم، لا لجنة ولا لنار. قال: فصاح الشاب صيحة خر مغشيا عليه، فحركناه فإذا هو قد فارق الدنيا. فانكب الشيخ يقبل بين عينيه ويبكي ويقول: هذا مصرع الخائفين، وهذه دجة المجتهدين. وهذه منازل المتقين.

• حدثنا عبد الله بن محمد قال سمعت عمر بن بحر الأسدى يقول سمعت أحمد ابن أبي الحواري يقول: بينا أنا ذات يوم فى بلاد الشام فى قبة من قباب المقابر ليس عليها باب إلا كساء قد أسبلته، فإذا أنا بامرأة تدق على باب الحائط فقلت: من هذا؟ قالت: ضالة دلني على الطريق رحمك الله. قلت: رحمك الله عن.

أي الطريق تسألين؟ فبكت ثم قالت: يا أحمد على طريق النجاة. قلت:

هيهات إن بيننا وبين طريق النجاة عقابا، وتلك العقاب لا تقطع إلا بالسير الحثيث، وتصحيح المعاملة، وحذف العلائق الشاغلة، من أمر الدنيا والآخرة قال: فبكت بكاء شديدا ثم قالت: يا أحمد سبحان من أمسك عليك جوارحك فلم تتقطع، وحفظ عليك فؤادك فلم يتصدع. ثم خرت مغشيا عليها، فقلت:

لبعض النساء: انظروا أي شيء حال هذه الجارية؟ قال أحمد: فقمن إليها ففتشنها فإذا وصيتها في جيبها كفنوني في أثوابي هذه، فإن كان لي عند الله خير فهو أسعد لي، وإن كان غير ذلك فبعدا لنفسي. قلت: ما هيه؟ فحركوها فإذا هي ميتة. فقلت للخدام: لمن هذه الجارية؟ قالوا: جارية قرشية مصابة، وكان الذي معها يمنعها من الطعام، وكانت تشكو إلينا وجعا بجوفها، فكنا نصفها لمتطببي الشام والعراق، وكانت تقول: خلوا بيني وبين الطبيب الراهب - تعني أحمد - أشكو إليه بعض ما أجد من بلائي لعل أن يكون عنده شفائي.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن عمر ثنا عبد الله بن محمد بن سفيان ثنا هارون بن عبد الله ثنا محمد بن يزيد بن حبيش قال قال وهيب بن الورد قال رجل: بينا أنا أسير في أرض الروم ذات يوم إذ سمعت هاتفا فوق رأس الجبل وهو

ص: 181

يقول: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو أحدا غيرك. ثم عاد الثانية فقال: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يستعين على أمره أحدا غيرك. ثم عاد الثالثة: فقال: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يتعرض لشيء من غضبك برضاء غيرك. قال: فناديته فقلت: أجني أم إنسي؟ قال: بل إنسى اشتغل بنفسك بما يعنيك عما لا يعنيك.

• حدثنا محمد بن أحمد بن أبان ثنا أبي ثنا أبو بكر بن عبيد قال حدثني علي بن الحسن قال: كان رجل بالمصيصة ذاهب نصفه الأسفل لم يبق منه إلا روحه في بعض جسده، طريحا على سرير مثقوب، فدخل عليه داخل فقال:

كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: ملك الدنيا منقطع إليه ما لى إليه من حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عمر بن الحسن الحلبي قال حدثني أحمد بن سنان القطان قال سمعت عبد الله بن داود الواسطي يقول: بينا أنا واقف بعرفات إذا أنا بامرأة وهي تقول: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. فقلت: من أنت؟ فقالت: امرأة ضالة. فنزلت عن بعيري وقلت لها: يا هذه ما قصتك؟ فقرأت {(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا)} فقلت في نفسي:

حرورية لا ترى كلامنا. فقلت لها: فمن أين أتيت؟ فقالت {(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)} فأركبتها بعيرى وقدت بها أريد بها رحال المقدسيين، فلما توسطت الرحل قلت: يا هذه بمن أصوت؟ فقرأت {(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)} {(يا زكريا إنا نبشرك بغلام)} {(يا يحيى خذ الكتاب بقوة)} فناديت: يا داود، يا زكريا، يا يحيى.

فخرج إلي ثلاثة فتيان من بين الرحالات. فقالوا: أمنا ورب الكعبة ضلت منذ ثلاثة. فأنزلوها فقرأت {(فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة)} فغدوا فاشتروا تمرا وفستقا وجوزا وسألوني قبوله فقبلته. فقلت لهم: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: هذه أمنا لا تتكلم منذ ثلاثين سنة إلا بالقرآن مخافة أن تزل.

ص: 182

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عمر بن بحر الأسدي قال سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول قال أبو سليمان الداراني: رأيت زخلة العابدة في الموقف وهي تدعو وهي تقول: أثقلتنى الآثام ونهضتنى الأيام، يا سيدى الأنام.

كحلت عينى بكحول الحزن، فو عهدك لا نعمت بضحك أبدا. حتى أعلم أين محل قراري، وإلى أي الدارين داري. فلما رأت أيدي الناس مبسوطة بالدعاء قالت: يا رب أقامهم هذا المقام خوف النار، يا قرة عين الأبرار، يلتمسون نائلك ويرجون فضائلك، فاجعل زخرف الطاعة لي شعارا، ومرضاتك لي دثارا، وزد قلبي كمدا بخوفك، واعصمني من سخطك. فلما انصرف الإمام وضعت يدها على خدها فقالت: انصرف الناس ولم أشعر قلبي منك الإياس ثم صرخت وغشي عليها.

• حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد ثنا أبو بكر الدينوري المفسر ثنا محمد ابن أحمد الشمشاطي قال سمعت ذا النون المصري يقول: بينا أنا أسير على شاطئ نيل مصر إذا أنا بجارية تدعو وهي تقول في دعائها: يا من هو عند ألسن الناطقين، ويا من هو عند قلوب الذاكرين، ويا من هو عند فكرة الحامدين، ويا من هو على نفوس الجبارين والمتكبرين، قد علمت ما كان مني يا أمل المؤملين. قال: ثم صرخت صرخة خرت مغشيا عليها.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عمر بن بحر الأسدي قال سمعت عبد الله بن محمد البلوي ثم الأنصاري يقول: ثنا أبو إسحاق جماع بن سماعة الكتاني قال أخبرني ابن فارس قال: أخبرني أعرابي بنجد قال: كان لي جار فمرض فعدته فقلت: يا أبا نجيد كيف تجدك؟ قال: أجدني أسمع حادي الموت قد غرد، وهاتف النقلة قد ردد، ولي نفس تواقة تشره إلى الدنيا فهي تشغلني عن سماع النداء، وتثبطني بتطويل الأمل عن إجابة الداعي، ونذيراى شيبي وسقمي يؤيساني، وخادعاي حرصي وأملي يطمعاني، وأنا كذا نفسى نفس تكره الحمام وتحب المقام ونفس متوطنة بالارتحال ولهة بالانتقال، على أن الحق يغلب الباطل، كما يغلب حلم الحليم سفه الجاهل ثم أنشأ يقول:

ص: 183

صاح بي الشيب لا مقام

وبين الرجعة السقام

صوتان قد أزعجا وحثا

عمرى وراعنى الحمام

لا آمن الدهر والمنايا

إذ كل عمر له انصرام.

• حدثنا عبد الله بن محمد قال: قرأت فى كتاب ابن حاتم العكلى: حدثكم عبد الجبار عن المغيرة بن سهل عن الربيع بن صبيح عن الحسن. قال: كان في زمن عمر بن الخطاب فتى يتنسك ويلزم المسجد فعشقته جارية فجاءته فكلمته سرا فقال: يا نفس تكلمينها سرا فتلقين الله زانية؟ فصرخ صرخة غشي عليه، فجاء عم له فحمله إلى منزله، فلما أفاق قال له: يا عم الق عمر فاقرأ عليه مني السلام وقل له: ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فقال: وعليك السلام جزاؤه جنتان، جزاؤه جنتان.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا أبو بكر الدينوري المفسر ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي قال سمعت ذا النون يقول: بينا أنا في سواد مصر إذا أنا بأسود تقاس دقة ساقيه بالخلال في نحافته، فدنوت منه فسلمت عليه فقال: وعليك السلام يا ذا النون. قلت: عافاك الله كيف عرفتني ولم أتعاهدك قبل اليوم؟ قال: يا بطال اتصلت المعرفة بحركات العارفين، فعرفتك بمعرفة المحبوب، ثم أنشأ يقول:

إن عرفان ذي الجلال لعز

وبهاء وبهجة وسرور

وعلى العارفين أيضا بهاء

وعليهم من الجلالة نور

فهنيئا لمن أطاعك ربي

فهو في الخير كله مغمور

ليس للخائفين غيرك ربي

أنت سؤلي ومنيتي يا غفور.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا أبو بكر محمد بن أحمد المفسر ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي قال قال أبو عامر: كنت جالسا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بغلام أسود قد جاءني برقعة فنظرت فيها فإذا فيها مكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم. متعك الله بمسامرة الفكرة، ونعمك بمؤانسة العبرة أفردك بحب الخلوة، أنا رجل من إخوانك بلغني قدومك المدينة فسررت

ص: 184

بذلك فأحببت زيارتك، فحجبت عن ذلك، فالتمست مخرج العذر من كتاب الله، فوجدت الله قد منحني ثلاث خصال: أذهب عني حرج أهلها وبي من الشوق إلى مجالستك، والاستماع لمحادثتك، ما لو كان فوقي لأظلني، ولو كان تحتى لأقلنى، فأسألك إلا ألحفتنى جناح المتفضل علي بزيارتك والسلام. قال:

أبو عامر: فقمت مع الغلام حتى أتى بي منزلا رحبا خربا، فقال لي: قف حتى أستأذن لك. فوقفت حتى خرج فقال لي: لج. فدخلت فإذا أنا ببيت له باب من جريد النخل، فإذا أنا بكهل مستقبل القبلة تخاله من الورع مكروبا، ومن الخشية محزونا، قد ظهرت في وجهه أحزانه، وقد قرحت من البكاء عيناه، ومرضت أجفانه، فسلمت عليه فرد علي السلام ثم تخلخل فلم يطق القيام، فإذا هو أعرج أعمى مسقام، فقال لي: متع الله بالأحزان لبك، وغسل من ران الذنوب قلبك، لم تزل نفسي إليك مشتاقة، وقلبي إليك تواقا، وبي جرح قد أعيا الناس دواؤه، والمتطببين شفاؤه، فلا قاله أجود الترياق وإن كان مر المذاق، فإني ممن أصبر على مضض الدواء، مخافة ما يتوقع من عظيم البلاء.

قال: فسمعت كلاما حسنا ورأيت منظرا أفظعني، فأطرقت طويلا ثم تأتى من كلامي ما تأتى، فقلت: يا شيخ ارم ببصر قلبك في ملكوت السماء فتمثل بحقيقة إيمانك جنة المأوى، فسترى ما أعد الله فيه للأولياء. ثم أشرف بقلبك نارا تتلظى، فسترى ما أعد فيها للأشقياء، شتان ما بين المنزلتين والدارين شتان، أليس الفريقان في الموت سواء. قال: فأن أنة وزفر زفرة والتوى ثم قال: قد وقع دواؤك على دائي، وقد علمت أن عندك شفائي.

زدني يرحمك الله. فقلت: إنه عالم بخفياتك، مطلع على سرائرك. قال:

فصرخ صرخة خر ميتا. فإذا أنا بجارية قد رفعت العباءة عليها جبة من صوف قد أقرح السجود حاجبيها وأنفها، فلما نظرت إلي قالت: أحسنت يا هادي قلوب العارفين، ومثير أحزان المحزونين، لا أنسى لك هذا الموقف رب العالمين.

هذا أبي مبتلى منذ عشرين سنة: صلى حتى انحنى، وصام حتى أقعد، وبكى حتى عمي، وكان يتمناك على ربه عز وجل، ويقول. سمعت كلام أبي عامر

ص: 185

مرة فاحيى الله موات قلبي، فإن سمعته ثانيا قتلني. قال أبو عامر: فرأيته في المنام بعد ليال كأنه في روضة من رياض الجنة فقلت له: ما صنع الله بك؟ قال:

غفر لى وأنشا يقول:

أنت شريكي في الذي نلته

مستأهلا ذاك أبا عامر

وكل من أيقظ ذا غفلة

فنصف ما يعطاه للآمر

من رد عبدا آبقا مرة

كان كالمجتهد الصابر.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا إسحاق بن إبراهيم ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا أبو قرة قال: كان بعض التابعين يقول: اللهم أنت تعطيني من غير أن أسألك، فكيف تحرمني وأنا أسألك. اللهم إني أسألك أن تسكن عظمتك قلبي، وأن تسقيني شربة من كأس حبك. قال أحمد بن أبي الحواري: وحدثنا جعفر بن محمد قال: كان بعض التابعين يقول: اللهم أمت قلبي بخوفك وخشيتك، وأحيه بحبك وذكرك.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا الفضيل بن أحمد ثنا أبو حاتم ثنا محمد بن هشام قال: سمعت رجلا قام في مسجد الخيف ليالي منى ليلا فنادى: يا رب العالمين، أتاك الخاطئون طامعين في رحمتك راجين تائبين فاقبلنا وإياهم مغفورين، ولا تردنا وإياهم خائبين.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا أحمد بن نصر قال قال إبراهيم بن الجنيد:

كان بعض العباد يقول: أحيوا قلوبكم بذكر الله، وأميتوها بالخشية، ونوروها بحب الله، وفرحوها بالشوق إليه، واعلموا أنكم بالمحبة ترتفعون، وبالمغفرة ترهبون، وبالشوق ترغبون، وبحسن النية تقهرون الهوى، وبترك الشهوات تصفو أعمالكم، حتى يورثكم ملكوت السموات فى عليين، فمن أراد منكم الراحة فليعمل في منازل أهل المحبة. وإن من أخلاق أهل محبة الله كثرة الذكر في ساعات الليل والنهار بالقلب واللسان، فإن أمسك اللسان فالقلب، فإن ذكر القلب أبلغ وأنفع. قال إبراهيم بن الجنيد قال بعض العباد: وجدت الله غيورا بمنعنى من كل من أرجوه، وإذا سبح قلبي فى مودته أجرى

ص: 186

ذكره على لسانى، فوا شوقاه ثم وا شوقاه. ثم خر مغشيا عليه.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا أبو الطيب أحمد بن روح ثنا عبد الله ابن خبيق ثنا سعيد بن عبد الرحمن قال: كنت في مجلس يزيد بن هارون وقد نفذ بعض نفقتي في بعض الأسفار فقال بعض أصحاب الحديث: من تؤمل لما نزل بك؟ قلت: يزيد بن هارون. قال: إذا لا تقضى حاجتك، ولا تنجح طلبتك. قال: وما علمك؟ قال: لأني قرأت أن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي وجودي وكرمي وارتفاعي في مكاني، لأقطعن أمل كل مؤمل يؤمل غيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، ويرجو غيري ويقرع بالفقر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملني لنوائبه فقطعت به دونها؟ ومن ذا الذي رجاني لعظيم جرمه فقطعت رجاءه؟ ومن ذا الذي دعاني فلم أفتح له؟ جعلت آمال عبادي متصلة بي فقطعت من غيري، وجعلت رجاءهم مدخرا عندي فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يملون من تسبيحي وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي. ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد إلا بأذنى؟ فما لي أراه بآماله معرضا عنى؟ وما لى أراه لاهيا عني، أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته منه ولم يسألني رده وسأل غيري، أنا أبدأ بالعطية قبل أن أسأل، ثم أسأل فلا أخيب سائلي، أبخيل أنا فيبخلنى عبادى؟ أو ليس الدنيا والآخرة لى؟ أو ليس الفضل والرحمة بيدى؟ أو ليس الجود والكرم لى؟ أو ليس أنا محل الآمال، فمن يقطعها دونى:

أو ما يحسن المؤملون أن يؤملوني. ولو جمعت أهل سماواتي وأرضي فأعطيت كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع فقلت لهم أملوني فأملوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته لم ينقص مما عندي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟ فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، ويا سوأة من عصاني فلم يراقبني.

• حدثنا إبراهيم بن عبد الله ثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال سمعت أحمد

ص: 187

ابن موسى الأنصاري قال قال منصور بن عمار: حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة طخياء مطلخمة مستحلكة، فإذا أنا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل. ولكن خطيئتي عرضت وأعانني عليها شقائي، وغرني سترك المرخي علي، وقد عصيتك بجهدي وخالفتك بجهلي، فإلى من أحتمي ومن من عذابك يستنقذني، وبحبل من أتصل إذا أنت قطعت حبلك عنى؟ وا شباباه وا شباباه. فلما فرغ من قوله تلوت عليه آية من كتاب الله {(نارا وقودها الناس والحجارة)} الآية. فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حسا، فمضيت فلما كان من الغد، رجعت في مدرجتي فإذا أنا بجنازة قد أخرجت وإذا أنا بعجوز قد ذهب متنها - يعني قوتها - فسألتها عن أمر الميت ولم تكن عرفتني - فقالت: هذا رجل لا جزاه الله إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله فتفطرت مرارته فوقع ميتا

• قال إبراهيم بن أبي طالب النيسابوري حدث ابن أبي الدنيا عن محمد بن إسحاق الثقفي بهذه الحكاية وحدثنا أبي ثنا خالي أحمد بن محمد بن يوسف عن أبيه عن شيخ له قال منصور بن عمار: خرجت في ليلة من الليالي وظننت أن النهار قد أضاء فإذا الصبح علي فقعدت إلى دهليز مشرف، فإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي وهو يقول: اللهم وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لى نفسى فأعانتنى عليها شقوتي، وغرني سترك المرخي علي، فقد عصيتك وخالفتك بجهلي، فمن من عذابك يستنقذني، ومن أيدي زبانيتك من يخلصني؟ وبحبل من أتصل إذا أنت قطعت حبلك عنى؟ وا سوأتاه إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا، فيا ليت شعري مع المثقلين نحط أم مع المخفين نجوز وننجو، كلما طال عمري وكبر سنى وكثرت ذنوبي، وكثرت خطاياي. فيا ويلي كم أتوب وكم أعود ولا أستحي من ربي. قال منصور: فلما سمعت هذا الكلام وضعت فمي على باب داره وقلت أعوذ

ص: 188

بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {(قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة)} الآية. قال منصور: ثم سمعت للصوت اضطرابا شديدا وسكن الصوت. فقلت: إن هناك بلية. فعلمت على الباب علامة ومضيت لحاجتي، فلما رجعت من الغد إذا أنا بجنازة منصوبة وأكفان تصلح وعجوز تدخل الدار ونخرج باكية، فقلت: يا أمة الله من هذا الميت منك؟ قالت:

إليك عني لا تجدد علي أحزاني. قلت: إني رجل غريب أخبريني. قالت: والله لولا أنك غريب ما أخبرتك، هذا ولدي ومن زل عن كبدي. ومن كنت أظن به سيد عولى من بعدي، كان ولدي من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جن عليه قام في محرابه يبكي على ذنوبه، وكان يعمل هذا الخوص فيقسم كسبه أثلاثا، فثلث يطعمني، وثلث للمساكين، وثلث يفطر عليه. فمر علينا البارحة رجل لا جزاه الله خيرا، فقرأ عند ولدي آية فيها ذكر النار فلم يزل يضطرب ويبكي حتى مات رحمه الله. قال منصور فهذه صفة الخائفين إذا خافوا السطوة.

قال الشيخ رضي الله تعالى عنه: قد ذكرنا طرفا من أحوال من أخفاهم الحق عن الخلق، وخصهم بالأنس به، ولم ينصبهم أعلاما يقتدى بهم. ونعود إلى ذكر بعض من نصبهم الحق للقدوة والتعليم، والدعوة والتفهيم، وجعلهم خلفاء الأنبياء، وأئمة الأصفياء. مقتصرين على ذكر جماعة منهم. والله خير معين وموفق له إن شاء الله تعالى.

عدنا مستعينين بالله عز وجل مقتصرين على ذكر جماعة نصبوا وشهروا للقدوة، وطهروا من الأكدار، وجردوا من الأغيار، وهذبوا بصحبة السادة والأخيار، واقتبسوا عن الأئمة من اتباع الآثار وأيدوا بالأنوار، وحفظوا من تلوين الأسرار، وخصوا بصافي الأذكار، وعصموا من مسامرة الأشرار وملاحظة الأوزار.

‌سهل بن عبد الله

فمنهم الشيخ المسكين، الناصح الأمين، الناطق بالفضل الرصين،

ص: 189

أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله بن رفيع التستري تخرج عن خاله محمد بن سوار، ولقي أبا الفيض ذا النون المصري بالحرم عامة كلامه في تصفية الأعمال، وتنقية الأحوال عن المعايب والأعلال.

• سمعت أبي يقول سمعت أبا بكر الجوربي يقول سمعت أبا محمد سهل بن عبد الله يقول: أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق. وقال: من كان اقتداؤه بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في قلبه اختيار لشيء من الأشياء، ولا يجول قلبه سوى ما أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وسئل هل للمقتدي اختيار بالاستحسان؟ قال: لا، إنما جعل السنة واعتقادها بالاسم ولا تخلو من أربعة الاستخارة والاستشارة والاستعانة والتوكل فتكون له الأرض قدوة والسماء له علما وعبرة، وعيشته في حاله لأن حاله المزيد وهو الشكر. وقال: أيما عبد قام بشيء مما أمره الله به من أمر دينه فعمل به وتمسك به فاجتنب ما نهى الله تعالى عنه عند فساد الأمور، وعند تشويش الزمان، واختلاف الناس في الرأي والتفريق، إلا جعله الله إماما يقتدى به هاديا مهديا قد أقام الدين في زمانه وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الغريب في زمانه، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» وما من عبد دخل في شيء من السنة وكان نيته متقدمة في دخوله لله إلا خرج الجهل من سره شاء أو أبى بتقديمه النية، ولا يعرف الجهل إلا عالم فقيه زاهد عابد حكيم. وسئل كيف يتخلص العبد من خدعة نفسه وعدوه؟ قال: يعرف حاله فيما بينه وبين الله وبعد عرفان حاله فيما بينه وبين الله يعرض نفسه على الكتاب والأثر ويقتدي في الأشياء بالسنة وقال على هذا الخلق من الله أن يلزموا أنفسهم سبعة أشياء فأولها الأمر والنهي وهو الفرض ثم السنة ثم الأدب ثم الترهيب ثم الترغيب ثم السعة. فمن لم يلزم نفسه هذه السبعة ولم يعمل بها لم يكمل إيمانه ولم يتم عقله ولم يتهنأ بحياته ولم يجد لذة طاعة ربه. قال وسمعت سهلا يقول:

ص: 190

اعلموا إخواني أن العباد عبدوا الله على ثلاثة وجوه: على الخوف والرجاء والقرب. وكل علامة يعرف بها، وشهادة تشهد له بها بماله وعليه. فعلامة الخائف الاشتغال بالتخلص مما يخاف، فلا يزال خائفا حتى يتخلص، فإذا تخلص مما يخاف اطمأن وسكن، فهذه علامة الخائفين. وأما الراجي فإنه رجى الجنة وطلب نعيهما وملكها فأعطى القليل في طلب الكثير فبذل نفسه وخاف أن يسبقه أحد إليها فجد في البذل وتحرز من الدنيا ألا يقف غدا في الحساب فيسبق، فهذه علامة الراجي. وأما العارف الذي طلب معرفة الله وقربه فإنه بذل ماله فأخرجه ثم نفسه فباعه ثم روحه، فأباحه فلو لم تكن جنة ولا نار لما مال ولا زال، ولا فتر. فهذه علامة العارف. فانظروا الآن أيها العقلاء من أي القوم أنتم، أموتى لا حياة فيكم أم لا موتى ولا أحياء؟ أم أحياء حيو؟ بحياة الخلدا ويحك إن الخائف حي بحياة واحدة، وللراجي حياتان، وللعارف ثلاث حياءات: وهي الحياة التي لا موت فيها. فحياه الخائف إذا أمن النار فقد حيي بحياة ثم يتم بحياة ثانية ويدخل الجنة بغير حساب. والراجي أمن من العذاب ومن الحساب فمر إلى الجنة مع السابقين بغير حساب، فصار له أمانان.

وأما العارف فصار له أمان من النار والأمان الثاني صار إلى الرحمن وصار الراجي إلى الجنة فسبق هو إلى الرحمن فصار له ثلاث حياءات. فانظروا من أي القوم أنتم، واسلكوا طريق العارفين ولا ترضوا لربكم بهدية الدون. فبقدر ما تهدون تكرمون وتقربون، وبقدر ما تقربون تنعمون. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال:

أول ما ينبغي للعبد أن يتخلق به ثلاثة أخلاق وفيها اكتساب للعقل: احتمال المئونة والرفق في كل شيء، والحذر أن لا يميل في الهوى ولا مع الهوى ولا إلى الهوى، ثم لا بد له من ثلاث أحوال أخر، وفيها اكتساب العلم العالى والحلم والتواضع. ثم لا بد له من ثلاثة أخر وفيها اكتساب المعرفة وأخلاق أهلها السكينة والوقار والصيانة والإنصاف. ومن أخلاق الإسلام والإيمان الحياء وكف الأذى وبذل المعروف والنصيحة، وفيها أحكام التعبد. وقال: أركان الدين أربعة: الصدق، واليقين، والرضا. والحب. فعلامة الصدق الصبر

ص: 191

وعلامة اليقين النصيحة، وعلامة الرضا ترك الخلاف، وعلامة الإيثار.

والصبر يشهد للصدق. وقال: الجاهل ميت والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر ندمان.

• سمعت أبا عمر عثمان بن محمد العثماني يقول: سمعت أبا بكر محمد بن يحيى بن أبي بدر يقول سمعت أبا محمد سهل بن عبد الله يقول: الانقطاع من الشهوات الخروج من الجهل إلى العلم، ومن النسيان إلى الذكر، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الإصرار إلى التوبة. قال: وسمعت أبا محمد سهل بن عبد الله يقول في قوله تعالى {(ومن يتق الله يجعل له مخرجا)} قال: من يتق الله في دعواه فلا يدعى الحول والقوة ويتبرأ من حوله وقوته، ويرجع إلى حول الله وقوته، يجعل له مخرجا ويرزق من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. قال لا يصح التوكل إلا لمتق، ولا تتم التقوى إلا لمتوكل. لقوله تعالى {(وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)} قال إن كنتم مصدقين أنه لا دافع ولا نافع غير الله لقوله تعالى {(ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم)} قال: وسمعت أبا محمد يقول: أركان الدين النصيحة والرحمة والصدق والإنصاف والتفضل والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستعانة بالله على ذلك إلى الممات. قال وسمعت أبا محمد يقول: دخل قوم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من القوم؟ فقالوا مؤمنون. فقال: إن لكل قوم حقيقة فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم فقهاء علماء كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الأمر كما تقولون فلا تبنون ما لا تسكنون، ولا تجمعون ما لا تأكلون. واتقوا الله الذي إليه تصيرون». قال: أبو محمد ففسروا لا تبنون ما لا تسكنون - يعنى الامل - ولا تجمعون ما لا تأكلون - يعني الحرص - واتقوا الله الذي إليه تصيرون - يعني المراقبة -.

• حدثنا عثمان بن محمد ثنا العباس بن أحمد قال سهل بن عبد الله:

لا يفتح الله قلب عبد فيه ثلاثة أشياء حب البقاء وحب الغنى وهم غد. قال:

ص: 192

وسئل سهل بن عبد الله: متى يستريح الفقير من نفسه؟ قال: إذا لم ير وقتا غير الوقت الذي هو فيه.

[حدثنا عثمان بن محمد قال سمعت محمد بن أحمد يقول سمعت أصحابنا يقولون: إن أول ما حفظ من كلام سهل بن عبد الله أن قال: إن الله لم يبطل حسنات من أخذ الشهوات في هوى نفسه، ولا منعهم من الحسنات بجوده وكرمه، ولكن حرم عليهم أن يجدوا بقلوبهم شيئا مما يجده الصديقون بقلوبهم إلا في الضرورة من الحلال. وذلك أن الله أعز وأغير من أن يعطي آخذ الشهوات شيئا من مواجد القلوب إلا في حال الضرورة. قال: فقال له إبراهيم - كالمنكر عليه - يا أخي إيش هذا؟ فقال: حق لزمني. قال: وما هو؟ قال: مات ذو النون. قال متى؟ قال: أمس]

(1)

.

• حدثنا أبو القاسم عبد الجبار بن شيرياز بن زيد النهرجوطي - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني قال قال سهل بن عبد الله: لا تفتش عن مساوى الناس ورداءة أخلاقهم، ولكن فتش وابحث في أخلاق الإسلام ما حالك فيه حتى تسلم ويعظم قدره في نفسك وعندك.

• حدثنا عثمان بن محمد قال قرئ على أبي الحسن أحمد بن محمد الأنصاري قال سمعت محمد بن أحمد بن سلمة النيسابوري قال سمعت أبا محمد سهل بن عبد الله يقول: قال الله لآدم: يا آدم إني أنا الله لا إله إلا أنا، فمن رجا غير فضلي وخاف غير عدلي لم يعرفني، يا آدم إن لي صفوة وضنائن وخيرة من عبادى أسكنتهم صلبك، بعيني من بين خلقي أعزهم بعزي وأقربهم من وصلي، وأمنحهم كرامتي، وأبيح لهم فضلي، وأجعل قلوبهم خزائن كتبي، وأسترهم برحمتي، وأجعلهم أمانا بين ظهراني عبادي فبهم أمطر السماء، وبهم أنبت الأرض، وبهم أصرف البلاء. هم أوليائي وأحبائي، درجاتهم عالية، ومقاماتهم رفيعة، وهممهم بي متعلقة. صحت عزائمهم، ودامت في ملكوت غيبي فكرتهم فارتهنت قلوبهم بذكري، فسقيتهم بكأس الأنس صرف محبتي، فطال شوقهم إلى لقائي، وإني إليهم لأشد شوقا. يا آدم من طلبنى من خلقى وجدنى، ومن

(1)

زيادة من مغ

ص: 193

طلب غيرى لم يجدنى. فطوبى يا آدم لهم ثم طوبى لهم ثم طوبى لهم وحسن مآب. يا آدم هم الذين إذا نظرت إليهم هان علي غفران ذنوب المذنبين لكرامتهم علي. قلت: يا أبا محمد زدنا من هذا الضرب رحمك الله، فإنها ترتاح القلوب وتتحرك. فقال: نعم إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما. فكان داود يقول فى مزاميره: واها لهم يا ليتني عاينتهم، يا ليت خدي نعل موطئهم. ثم احمرت بعد أدمته أو اصفر لونه وجعل يقول: جعل الله نبيه وخليفته خادما لمن طلبه، لو عقلت - وما أظنك تعقل - قدر أولياء الله وطلابه، ولو عرفت قدرهم لاستغنمت قربهم ومجالستهم وبرهم وخدمتهم وتعاهدهم. قال وسمعت سهل بن عبد الله يقول: إذا خلا العبد من الدنيا وهرب من نفسه إلى الله، وسقط من قلبه أثر الخلائق لم يعجبه شيء ولم يسكن إلى شيء غير الله قط. فالله مؤنسه ومؤدبه وكالئه وحافظه وجليسه وأنيسه: إياه يناجي، وله ينادي، وبه يستأنس، وإليه يرغب، وإليه يستريح. قال الله جل ذكره: طوبى لمن خلقته فعرفني، ودعوته فأجابني، وأمرته فأطاعني، ورزقته فحمدني، وأعطيته فشكرني، وابتليته فصبر لي، وعافيته فذكرني ومدحني.

• سمعت عثمان بن محمد يقول سمعت أبا محمد بن صهيب يقول سمعت سهل وابن عبد الله يقول: الدنيا كلها جهل إلا العلم فيها، والعلم كله وبال إلا العمل به.

والعمل كله هباء منثور إلا الإخلاص فيه، والإخلاص فيه أنت منه على وجل حتى تعلم هل قبل أم لا. قال وسمعت سهلا يقول: شكر العلم العمل، وشكر العمل زيادة العلم.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال سمعت أبا محمد بن صهيب يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: ما من قلب ولا نفس إلا والله مطلع عليه في ساعات الليل والنهار. فأيما قلب أو نفس رأى فيه حاجة إلى سواه سلط عليه إبليس. قال وسمعت والنية سهلا يقول: الله قبلة النية، والنية قبلة القلب، والقلب قبلة البدن، والبدن قبلة الجوارح، والجوارح قبلة الدنيا.

ص: 194

• سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن مقسم يقول سمعت أبا بكر بن المنذر الهجيمي يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: من ظن أنه يشبع من الخبز جاع.

قال وسمعت سهلا يقول: البطنة أصل الغفلة. قال وسمعت سهلا يقول: لا يكون العبد مقيما على معصية إلا وجميع حسناته ممزوجة بالهوى لا تخلص له حسناته وهو مقيم على سيئة واحدة، ولا يتخلص من هواه حتى يخرج من جميع ما يعرف من نفسه مما يكرهه الله. قال وسمعت سهلا يقول وسئل عن معنى قوله تعالى:{(واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا)} قال: لسانا ينطق عنك لا ينطق عن غيرك. قال وسمعت سهلا يقول: ما أعطي أحد شيئا أفضل من علم يستزيد به افتقارا إلى الله. قال وسمعت سهلا يقول: إذا جنك الليل فلا تأمل النهار حتى تسلم ليلتك لك، وتؤدي حق الله فيها، وتنصح فيها لنفسك، فإذا أصبحت فكذلك.

قال وسمعت سهلا يقول: الصبر في الدنيا صنفان: أهل الدنيا يصبرون للدنيا حتى ينالوا منها. وأهل الآخرة يصبرون على آخرتهم حتى ينالوا منها. قال وسمعت سهلا يقول: لا يكمل للعبد شيء حتى يصل علمه بالخشية، وفعله بالورع وورعه بالاخلاص، وإخلاصه بالمشاهدة، والمشاهدة بالتبرى مما سواه.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا الحسن النحاس جارنا يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: الفترة غفلة، والخشية يقظة: والقسوة موت.

• سمعت أبا الحسن يقول سمعت محمد بن المنذر يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: من طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. ومن طعن في التكسب فقد طعن في السنة.

• سمعت أبي يقول سمعت أبا بكر الجوربي يقول سئل سهل بن عبد الله عن البلوى من الله للعبد قال: هو كاسمه: هو عبد والعبد لله والله للعبد. وإذا كان من العبد حدث فهو ثالث وهو حجاب فالعبد مبتلى بالله وبنفسه. وقال سهل:

أربعة للعباد على الله وهو حكم بها على نفسه: أولها من خاف الله أمنه الله، ومن رجاه بلغ به رجاءه وأمله. ومن تقرب إليه بالحسنات قبل منه وأثابه للواحدة عشرا. ومن توكل عليه قبله ولم يكله إلى نفسه وتولى أمره. وقيل: أى العمل

ص: 195

يعمل حتى يعرف عيوب نفسه؟ قال: لا يعرف عيوب نفسه حتى يحاسب نفسه في أحواله كلها. قيل: فأي منزلة إذا قام العبد بها أقام مقام العبودية؟ قال:

إذا ترك التدبير. قيل: فأي منزلة إذا قام بها أقام الصدق؟ قال: إذا توكل عليه فيما أمره به ونهاه عنه.

• سمعت أبي يقول سمعت أبا بكر يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول:

البلوى من الله على جهتين: فبلوى رحمة وبلوى عقوبة. فبلوى رحمة يبعث صاحبه على إظهار فقره وفاقته إلى الله، وترك تدبيره. وبلوى عقوبة يترك صاحبه على اختياره وتدبيره. وقيل مثل الابتلاء مثل المرض والسقم، يمرض الواحد مائة سنة فلا يموت فيه، ويمرض آخر ساعة واحدة فيموت فيه، كذلك يعصي الله عبد مائة سنة فيختم له بخير وينجو، وآخر يتكلم بكلمة معصية في ساعة فيجره إلى الكفر فيهلك. فمن ذلك عظم الخطر ودام الجد واشتد البلاء وقال: الغضب أشد في البدن من المرض: إذا غضب دخل عليه من الإثم أكثر مما يدخل عليه في المرض. قال وسمعت سهلا يقول: قال الله تعالى:

كل نعمة مني عليكم إذا عرفتموها صيرتها لكم شكرا، وكل ذنب كان منكم إذا عرفتموه صيرته غفرانا. وقال: ليس في خزائن الله أكبر من التوحيد.

وقال سهل بن عبد الله: تربة المعاصي الأمل، وبذرها الحرص، وماؤها الجهل، وصاحبها الإصرار. وتربة الطاعة المعرفة، وبذرها اليقين، وماؤها العلم، وصاحبها السعيد المفوض أموره إلى الله تعالى. وقال: من ظن ظن السوء حرم اليقين. ومن تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق. ومن اشتغل بالفضول حرم الورع. فإذا حرم هذه الثلاثة هلك وهو مثبت في ديوان الأعداء. وقال:

لا يطلع على عثرات الخلق إلا جاهل، ولا يهتك ستر ما اطلع عليه إلا ملعون.

وقال: من خدم خدم، ومعناه من ترك التدبير والاختيار وفق، ومن لم يوفق لم يترك التدبير، فإن الفرج كله في تدبير الله لنا برضاه. والشقاء كله في تدبيرنا، ولا نجد السلامة حتى نكون في التدبير كأهل القبور. وقال لسان الإيمان التوحيد، وفصاحته العلم، وصحة بصره اليقين مع العقل.

ص: 196

وقال: النية اسم الأسامي والطاعات أسامي. والنية الإخلاص. وكما يثبت حكم الظاهر بالفعل كذلك يثبت حكم السر بالنية. ومن لا يعرف نيته لا يعرف دينه. ومن ضيع نيته فهو حيران. ولا يبلغ العبد حقيقة علم النية حتى يدخله الله في ديوان أهل الصدق، ويكون عالما بعلم الكتاب وعلم الآثار، وعلم الاقتداء. وقال: المؤمن من راقب ربه، وحاسب نفسه وتزود لمعاده. وقال:

الهجرة فرض إلى يوم القيامة: من الجهل إلى العلم، ومن النسيان إلى الذكر، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الإصرار إلى التوبة. وقال: من اشتغل بما لا يعنيه نال العدو منه حاجته في يقظته ومنامه. وقال: ألم أقل لك دع دنياك عند أعدائك وضع سرك عند أحبائك؟ وقال: ليس من عمل بطاعة الله صار حبيب الله، ولكن من اجتنب ما نهى عنه الله صار حبيب الله. ولا يجتنب الآثام إلا صديق مقرب. وأما أعمال البر يعملها البر والفاجر.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا بكر محمد بن المنذر الهجيمي يقول قال سهل بن عبد الله: الخلق كلهم بالله يأكلون، وفي عبادته غيره يشركون. قال: وسئل سهل عن العقل فقال: احتمال المئونة والأذى من الخلق. وقال سهل: من دق الصراط عليه في الدنيا عرض عليه في الآخرة ومن عرض عليه الصراط في الدنيا دق له في الآخرة. قال وربما قال: لله في الخبز سر وسألت عنه أكثر من عشرة آلاف عابد وعابدة فما أحد منهم أخبرني بسر الخبز.

• سمعت أبا الحسن يقول سمعت محمد بن المنذر يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول وسأله رجل فقال: يا أبا محمد إلى من تأمرني أن أجلس؟ فقال له: إلى من تكلمك جوارحه لا من يكلمك لسانه. قال وسمعت سهل بن عبد الله يقول: من تخلى من الربوبية وأفرد الله بها واعترف بالعبودية وعبد الله بها استحق من الله الملك الأعظم في حياة الأبد. ومن نازع الله ربوبيته قصمه الله. ألا ترى أنهم يحبون الغنى والله هو الغني وهم الفقراء، ويحبون الأمر والنهي والله تعالى يقول {(ألا له الخلق والأمر)} ويحبون البقاء والله تعالى

ص: 197

يقول {(كل من عليها فان ويبقى وجه ربك)} ويحبون الدنيا والله يبغضها، ويريدونها والله لا يريدها، فهم ينازعون الله الربوبية ويعادونه فيما أحب.

قال سهل: والأمل أرض كل معصية، والحرص بذر كل معصية، والتسويف ماء كل معصية. والندم أرض كل طاعة، واليقين بذر كل طاعة، والعمل ماء كل طاعة. وبقدر ما تهدم من دنياك تبني لآخرتك، وبقدر ما تخالف نفسك وهواك وشهوتك ترضي مولاك. وبقد ما تعرف عدوك وعداوته - يعني إبليس - تعرف ربك. قال وسمعت سهل بن عبد الله يقول: من كان عمله لله جلا ذلك عن قلبه ذكر كل شيء سوى الله. قال وسمعته يقول: إن الناس دخلوا الجنة بالعمل فاجتهدوا أن تدخلوها بترك العمل. وسئل عن حقيقة التوكل فقال: نسيان التوكل. قال وسمعت سهل بن عبد الله يقول: إن الله أجاع الخلق فطلبوا من البعد فمنعهم إياه من القرب. وسمعته يقول: لزوم الباب طلب العبد إلى مولاه أن يثبته على الإيمان ويقبضه عليه.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا الفضل الشيرجي جعفر بن أحمد يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول وسئل عن قوله {(وذروا ظاهر الإثم وباطنه)} ظاهره الفعال وباطنه الحب له. قال وسمعت سهلا يقول: إن الله تعالى لا ينسب إلى الجهل في الأصل ولا ينسب إلى الظلم من الفرع ولاغنا بنا عنه فيما بين طرفة عين ولا أقل.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت أبا الحسن الفارسي يقول سمعت عباس بن عصام يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: لا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله، ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه. وقال سهل: العيش على أربعة أوجه: عيش الملائكة في الطاعة، وعيش الأنبياء في العلم وانتظار الوحي، وعيش الصديقين في الاقتداء، وعيش سائر الناس عالما كان أو جاهلا زاهدا كان أو عابدا في الأكل والشرب. وقال سهل: الضرورة للأنبياء، والقوام للصديقين، والقوت للمؤمنين، والمعلوم للبهائم والآيات والمعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء. والمعونات للمريدين. والتمكين

ص: 198

لأهل الخصوص. ومن خلا قلبه من ذكر الآخرة تعرض لوساوس الشيطان.

• سمعت أبي يقول سمعت خالي أحمد بن محمد بن يوسف يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: كفى الله العباد دنياهم فقال عز من قائل {(أليس الله بكاف عبده)} واستعبدهم بالآخرة فقال {(تزودوا فإن خير الزاد التقوى)} وسمعت سهلا يقول: أول العيش في ثلاث اليقين والعقل والروح. وقال {(وإياي فاتقون)} موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج {(وإياي فارهبون)} موضع اليقين ومعرفته. وقال على قدر قربهم من التقوى أدركوا اليقين وأصل اليقين ومباينة النهى، مباينة النهى، مباينة النفس، فعلى قدر خروجهم من النفس أدركوا اليقين، وتتفاضل الناس في القيامة على قدر يقينهم، فمن كان أوزن يقينا كان من دونه في ميزانه، ومن لم يكن تعبده لله كأنه يراه أو يعلم أنه يراه فهو غافل عن الله، وعلى قدر مشاهدته يتعرف الابتلاء، وعلى قدر معرفته بالابتلاء يطلب العصمة، وعلى قدر طلبه العصمة يظهر فقره وفاقته إلى الله. وعلى قدره فقر. وفاقته يتعرق الضر والنفع، ويزداد علما وفهما وبصرا. وقال سهل: ثلاثة أشياء احفظوها مني وألزموها أنفسكم: لا تشبعوا ولا تملوا من عملكم فإن الله شاهدكم حيثما كنتم. وأنزلوا حاجتكم به وموتوا ببابه. وقال: شيئان يذهبان خوف الله من قلب العبد: أصل الدعوى والمعصية.

وصاحب المعصية إذا خوفته واحتججت عليه بالأيمان ينقاد ويخضع ويقر بالخوف. وصاحب الدعوى لا يقر بالحق ولا ينقاد للخوف ألبتة. ولا يوجد قلب أخلى من الخير ولا أقصى ولا أبعد من خوف الله من قلب المدعي.

وقال: أصل الهلاك الدعوى وأصل الخير الافتقار. وقال حكم المدعي أنه تصحبه هذه الثلاثة الخصال تصحبه التزكية لنفسه، وقد نهي عن ذلك. وجهله بنعم الله عليه، وجهله بحاله.

• حدثنا عثمان بن محمد قال قرئ على أبي الحسن أحمد بن محمد بن عيسى سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن سلمة النيسابوري يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: استجلب حلاوة الزهد بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع

ص: 199

بصحة اليأس، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر، واستجلب نور القلب بدوام الحذر، واستفتح باب الحزن بطول الفكر، وتزين لله بالصدق في كل الأحوال، وتحبب إلى الله بتعجيل الانتقال. وإياك والتسويف فإنه يغرق فيه الهلكى. وإياك والغفلة فإن فيها سواد القلب. وإياك والتواني فيما لا عذر فيه فانها ملجأ النادمين، واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم وكثرة الاستغفار.

واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر، واستدم عظيم الشكر بخوف زوال النعم.

• حدثنا عثمان بن محمد قال قرئ على أبي الحسن قال يوسف بن الحسين سئل سهل بن عبد الله أي شيء أشق على إبليس؟ قال إشارة قلوب العارفين وأنشد.

قلوب العارفين لها عيون

ترى ما لا يراه الناظرونا.

• حدثنا عثمان بن محمد قال العباس بن أحمد سئل سهل متى يستريح الفقير من نفسه؟ قال: إذا لم ير وقتا غير الوقت الذي هو فيه.

• حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الرحمن الغزالي الأصبهاني بالبصرة ثنا علي بن أحمد بن نوح الأهوازي قال سمعت سهل بن عبد الله يقول: خلق الله الخلق ليسارهم ويساروا الخلق، فإن لم تفعلوا فناجوني وحدثوني، فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني، فإن لم تفعلوا فانظروا إلي، فإن لم تفعلوا فكونوا ببابي وارفعوا حوائجكم فإني أكرم الأكرمين. وقال سهل: طلب العلم فريضة على كل مسلم. قال علم حاله في الحركة والسكون إن أتاه الموت أي شيء حاله فيما بينه وبين الله، لأن الله هو المنعم فكيف شكره للمنعم، وأدنى ما يجب للرب على العباد ألا يعصوه فيما أنعم عليهم. وكيف حاله فيما بينه وبين الخلق على أي جهة: على الرحمة والنصيحة، أم على المكر والخديعة؟ وقال:

من أصبح وهمه ما يأكل ولم يكن همه هم قبره وحال لحده، لو ختم البارحة القرآن ويصلي اليوم خمسمائة ركعة أصبح في يوم مشئوم عليه، لهمة بطنه.

وقال تعالى {(يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)} قال ما في غيبكم لم تفعلوه ستفعلونه فاحذروه. قال فاصرخوا إليه حتى يكون هو الذي يلي الأمر، وهو الذي يصلح الشأن، وهو الذي يعصم، وهو الذي يوفق، وهو الذي يختم بخير.

ص: 200

وقوله عز وجل {(فاعلم أنه لا إله إلا الله)} قال ألا نافع ولا دافع غير الله.

• سمعت أبي يقول سمعت أبا بكر الجوني يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: معرفة النفس أخفى من معرفة العدو، ومعرفة العدو أجلى من معرفة الدنيا. وقال. إذا عرف العدو عرف ربه، وإذا عرف نفسه عرف مقامه من ربه وإذا عرف عقله عرف حاله فيما بينه وبين ربه، وإذا عرف العلم عرف وصوله، وإذا عرف الدنيا عرف الآخرة. وقال: هي نعمة ومصيبة فالنعمة ما دعا الله الخلق إليه من معرفته، والمصيبة ما ابتلاهم في أنفسهم ومخالفتها. وقال: لله ثلاثة أشياء في خلقه: المعرفة، والإحسان، والحكم. وثلاثة. للعبد مع الله:

تضعيف الحسنات، والعفو عن السيئات، ولا تضعف عليهم. وفتح باب التوبة إلى الممات وقال: ليس لأهل المعرفة همة غير هذه الثلاثة إذا أصلحوا:

الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والاستعانة بالله سبحانه وتعالى، - والاقتداء هو الافتقار - والصبر على ذلك إلى الممات. وقال: الأصل الذي أنا أدعو إليه قولي اتقوا يوما لا ليلة بعده، وموتا لا حياة بعده، والسلام.

وقال: النفس صنم والروح شريك فمن عبد نفسه فقد عبد صنما، ومن عبد روحه عبد شريكا. ومن آثر الله وعبده بالإخلاص وهدم دنياه وعبد الله في روحه ومع روحه فقد عبد الله وآثره. وقال: الأنفاس معدودة فكل نفس يخرج بغير ذكر الله فهي ميتة، وكل نفس يخرج بذكر الله فهي موصولة بذكر الله.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير الخلدي فيما كتب إلى قال سمعت أبا محمد الحريرى يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: من أخلاق الصديقين ألا يحلفوا الله لا صادقين ولا كاذبين، ولا يغتابون ولا يغتاب عندهم، ولا يشبعون بطونهم، وإذا وعدوا لم يخلفوا، ولا يتكلمون إلا والاستثناء في كلامهم، ولا يمزحون أصلا. قال وسمعت سهلا يقول: ذروا التدبير والاختيار فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال سهل: اعلموا أن هذا زمان لا ينال أحد فيه النجاة إلا بذبح نفسه بالجوع والصبر والجهد، لفساد ما عليه أهل الزمان.

ص: 201

• حدثنا محمد بن الحسن قال سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت أبا يعقوب البلدي يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: لقد أيس العقلاء الحكماء من هذه الثلاثة الخلال: ملازمة التوبة، ومتابعة السنة، وترك أذى الخلق.

• حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين الواعظ قال قرأت على جعفر ابن محمد بن يعقوب الثقفي سمعت أبا محمد سهل بن عبد الله يقول: ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من النعمة الأولى، لأن بالشكر يستوجب المزيد. قال وسمعت سهلا يقول: أول الحجاب الدعوى، فإذا أخذوا في الدعوى حرموا.

• أخبرنا عبد الجبار بن شيراز - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني قال سمعت سهل بن عبد الله يقول: من نظر إلى الله قريبا منه بعد عن قلبه كل شيء سوى الله، ومن طلب مرضاته أرضاه الله، ومن أسلم قلبه تولى الله جوارحه. وقال سهل: ما من أحد يسر الله له شيئا من العبادة إلا فرغه لتلك العبادة، ولا فرغ الله أحدا إلا أسقط عنه مئونة الرزق من أين يأخذه، وإلا جعل له مقاما عنده، وجعل هذا العبد يؤثره في كل حال وعلى كل حال، وما من عبد آثر الله إلا سلمه من الدنيا ولم يكله إلى غيره.

• سمعت أبا الحسن بن جهضم يقول حدثني طاهر بن الحسن قال سمعت إبراهيم البرجي يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: ما أظهر عبد فقره إلى الله في وقت الدعاء في شيء يحل به إلا قال الله لملائكته: لولا أنه لا يحتمل كلامى لأجبته لبيك.

• سمعت أبا الحسن يقول ثنا أبو بكر الدينوري قال سمعت سهل بن عبد الله يقول: المؤمن أكرم على الله من أن يجعل رزقه من حيث يحتسب، يطمع المؤمن في موضع فيمنع من ذلك ويأتيه من حيث لا يحتسب.

• سمعت أبي يقول سمعت خالي أبا بكر أحمد بن محمد بن يوسف يقول قال سهل بن عبد الله: لا يصح الإخلاص إلا بترك سبعة: الزندقة والشرك والكفر

ص: 202

والنفاق والبدعة: والرياء والوعيد وقال الأكل خمسة: الضرورة والقوام والقوت والمعلوم والفقر، والسادس لا خير فيه وهو التخليط. ومن لم يهتم للرزق سلم من الدنيا وآفاتها. وقال: ابتداء اليقين المكاشفة لقوله: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. ثم المعاينة ثم المشاهدة. وقال: اليقين نار والإقرار باللسان فتيله والعمل زيته. وقال من سعادة المرء قلة المئونة وتخفيف الحال وتسهيل الصلوات، ووجدان لذة الطاعة. وسئل عن ذكر اللذات قال: إذا امتلأ القلب صار روحا، وقال من لم يمازج بره بالهوى شاهد قلبه وخلص عمله. وقال: طوبى لعبد أسر نفسه بعلمه بأن الله يشاهده بالاستماع منه، فوقع بصره على مقامه من إيمانه حتى استمكن مقامه من القرب منه، وأوصل علمه وصير لسانه رطبا، وأخدم جوارحه حتى أدركه المدد من ربه. وسئل بم يعرف العبد عقله؟ قال: إذا كان وقافا عند همومه حينئذ يعرف عقله، ولا يعرف ولا يستكمل إلا بعد هذا. وقال: أصل العقل الصمت وفرع العقل العافية، وباطن العقل كتمان السر، وظاهره الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: الإيمان بالفرائض وعلمها فرض والعمل بها فرض، والإخلاص فيها فرض، والإيمان بالسنن فرض بأنها سنة وعلمها سنة، والعمل بها سنة، والإخلاص فيها فرض. والإخلاص بالإيمان العمل به. وقال: المؤمنون الذين وعدهم الله الجنة على ثلاث مقامات: واحد آمن وليس له عمل فله الجنة وآخر آمن وليس له إثم وعمل صالحا وهذا في صفة قد أفلح المؤمنون.

والثالث آمن ثم أذنب ثم تاب وأصلح فهو حبيب الله فله الجنة، والرابع آمن وأحسن وأساء يتبين لهم عند لموازنة، ولله تعالى فيهم - مشيئة. وقال: لا يخرجنكم تنزيه الله إلى التلاشي، ولا يخرجنكم التشبيه إلى الجسد، الله يتجلى لهم كيف شاء. وقال: ليس لقول لا إله إلا الله ثواب إلا النظر إلى الله عز وجل والجنة ثواب الأعمال. وقال: أول الحق الله وآخر الحق ما يراد به وجه الله.

• سمعت أبا عمرو عثمان بن محمد العثماني يقول سمعت أبا محمد بن صهيب يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: لا يذنب المؤمن ذنبا حتى يكتسب معه

ص: 203

مائة حسنة فقيل يا أبا محمد وكيف هذا؟ قال: نعم يا دوست، إن المؤمن لا يكتسب سيئة إلا وهو يخاف العقوبة عليها، ولو لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا، وخوفه العقاب عليها حسنة، ويرجو غفران الله لها، ولو لم يكن هكذا لم يكن مؤمنا، ورجاؤه لغفرانها حسنة، وهو يرى التوبة منها، ولو لم يرها لم يكن مؤمنا، ورؤيته التوبة منها حسنة، ويكره الدلالة عليها، ولو لم يكره الدلالة عليها لم يكن مؤمنا، وكراهة الدلالة عليها حسنة. ويكره الموت عليها ولو لم يكره الموت عليها لم يكن مؤمنا، وكراهته للموت عليها حسنة. فهذه خمس حسنات وهي بخمسين حسنة، الحسنة بعشر أمثالها، لقوله تعالى {(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)} فهذه تصير مائة حسنة فما ظنكم بسيئة تعتورها مائة حسنة وتحيط بها، والله تعالى يقول {(إن الحسنات يذهبن السيئات)} وما ظنكم بثعلب بين مائة كلب أليس يمزقونه. ثم بكى سهل وقال: لا تحدثوا بهذا الجهال من الناس فيتكلوا ويغتروا، فإن هذه السيئة هي شيء عليه وحسناته هي أشياء له، وما عليه فلله أن يأخذه به ويكون عادلا بعقوبته عليه. وما له لا يظلمه الله عز وجل، بل يوفيه ثوابه وإن كان بعد حين. ومن يصبر على حر نار جهنم ساعة واحدة. ولكن بادروا بالتوبة من هذه السيئة حتى تأمنوا العقوبة وتصيروا أحباب الله، فإن الله يحب التوابين. قال وسمعت سهل بن عبد الله يقول: إن الأمراض والأسقام والأحزان والمصائب إنما هي كفارات للصغائر، وأما الكبائر فلا يسقطها إلا التوبة، ومثله كمثل حبر يصيب الثوب فلا يقلعه إلا الصابون الحاد، والمعالجات بالخل والأشنان وغيره. ومثل الصغائر كمثل قليل دبس يصيب الثوب فيذهبه الريق وقليل من الماء. فقيل: يا أبا محمد أليس قد روي أن المصائب كفارات وأجر. فضحك وقال: يا دوست إن المصائب إذا ضم إليها الصبر والاحتساب تكون كفارة وأجرا كلاهما، فأما إذا لم يصبر عليها ولم يحتسبها تكون كفارات وحططا لا أجر فيها ولا ثواب. وبيان ذلك أن المصائب فعل غيرك ولا تثاب على فعل غيرك، وصبرك واحتسابك فعل لك فتؤجر وتثاب.

ص: 204

• حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الرحمن الأصبهاني - الغزال بالبصرة - ثنا أبو بشر عيسى بن إبراهيم بن دستكوثا قال قال سهل بن عبد الله:

الحب هو الخوف لأن الكفار أحبوا الله فصار حبهم أمنا، وصار حب المؤمنين الخوف.

• أخبرنا عبد الجبار بن شيرياز - فيما كتب إلي - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني قال سمعت سهل بن عبد الله يقول: أصل الدنيا الجهل، وفرعها الأكل والشرب واللباس والطيب والنساء والمال والتفاخر والتكاثر، وثمرتها المعاصي. وعقوبة المعاصي الإصرار، وثمرة الإصرار الغفلة، وثمرة الغفلة الاستجراء على الله. وقال: أيما عبد لم يتورع ولم يستعمل الورع في عمله انتشرت جوارحه في المعاصي، وصار قلبه بيد الشيطان وملكه، فإذا عمل بالعلم دله على الورع، فإذا تورع صار القلب مع الله. وقال: العلم دليل، والعقل ناصح، والنفس بينهما أسير، والدنيا مدبرة، والآخرة مقبلة:

والعدو في ذلك منهزم فيصير العبد عند الله خالصا. وإنما سموا ملوكا لأنهم ملكوا أنفسهم فقهروها، واقتدروا عليها فغلبوها: وظفروا بها فأسروها.

فالعارفون ملكون لأنفسهم مستظهرون عليها. والغافلون قد ملكتهم أنفسهم واستظهرت عليهم: بتلوين أهوائها وبلوغ محابها ومناها في الأقوال والأحوال وسائر الأفعال. ولا يفلت من أسر نفسه على حقيقة معرفتها عرف باريه جل جلاله فإذا عرف نفسه ألزمته معرفتها شريطة العبودية بحق الربوبية، وإعطاء الوحدانية حقها.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه أبو الحسن بن جهضم قال حدثني أبو الفضل الشيرجي قال سمعت سهل بن عبد الله يقول:

إن الله يطلع على أهل قرية أو بلد فيريد أن يقسم لهم من نفسه قسما فلا يجد في قلوب العلماء ولا في قلوب الزهاد موضعا لتلك القسمة من نفسه، فيمن عليهم أن يشغلهم بالتعبد عن نفسه.

ص: 205

• أخبرنا عبد الجبار بن شيراز - في كتابه - وحدثني عنه أبو الحسن بن جهضم قال سمعت سهل بن عبد الله يقول: تظهر في الناس أشياء ينزع منهم الخشوع بتركهم الورع، ويذهب منهم العلم بإظهار الكلام، ويضيعون الفرائض باجتهادهم في النوافل، ويصير نقض العهود وتضييع الأمانة وارتفاعها من بينهم علما، ويرفع من بين المنسوبين إلى الصلاح في آخر الزمان علم الخشية وعلم الورع وعلم المراقبة، فيكون بدل علم الخشية وساوس الدنيا، وبدل علم الورع وساوس العدو، وبدل علم المراقبة حديث النفس ووساوسها. قيل: ولم ذلك يا أبا محمد؟ قال: تظهر في القراء دعوى التوكل والحب والمقامات: ترى أحدهم يصوم ويصلي عشرين سنة وهو يأكل الربا ولا يحفظ لسانه من الغيبة ولا عينه وجوارحه مما نهى الله عنه.

• سمعت أبي رحمه الله تعالى قال سمعت خالي أحمد بن محمد بن يوسف يقول قال سهل بن عبد الله: أخلاق الإسلام والإيمان الحياء وكف الأذى وبذل المعروف والنصيحة وفيها أحكام التعبد. وقال: الدنيا ثلاثة عبيد ورجال وفتيان: قوله تعالى {(وعباد الرحمن)} و {(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع)} {(إنهم فتية آمنوا بربهم)} و {(سمعنا فتى يذكرهم)} وقيل له: ما انشراح القلوب؟ قال: قبول الوحي: {(فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)} وهم المدعون الذين يدعون الحول والقوة والمشيئة والإرادة ويدعون الاستغناء عن الله.

والقلب يجول فإذا قلت الله وقف. والمحمود من الدنيا المساجد شاركنا فيها الملائكة، والمذموم البطن والفرج شاركنا فيها أهل الذمة، يقول الله تعالى: يا عبدي لا تذنب، يقول العبد لا بد لي. يقول الله فإذا أذنبت فتب إلي حتى أقبلك. قال العبد لا أفعل لأن الأصل هو البطن والفرج. قال الرب فكن مكانك حتى أجيئك. قال العبد. بأى شيء تجئ إلي؟ قال بالجوع والفقر والعري. وقال: خلق الله الإنسان على أربع طبائع طبع البهائم وطبع الشياطين وطبع السحرة وطبع الأبالسة. فمن طبع البهائم البطن والفرج قوله {(ذرهم يأكلوا ويتمتعوا)} الآية. وطبع الشياطين اللهو واللعب والزينة والتكاثر

ص: 206

والتفاخر قوله تعالى {(لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد)} ومن طبع السحرة المكر والخديعة {(ويمكرون ويمكر الله)} {(يخادعون الله وهو خادعهم)} ومن طبع الأبالسة الإباء والاستكبار قوله تعالى {(إلا إبليس أبى واستكبر)} واستعبد الله العباد بالتسبيح والتقديس والتحميد والشكر حتى يسلموا من طبع الشياطين اللهو واللعب يقول فى كتابه {(لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون)} وقوله {(يسبحون الليل والنهار لا يفترون)} ومن طبع السحرة استعبدهم الله بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة والرحمة والصدق والإنصاف والتفضل والاستعانة بالله والصبر على ذلك إلى الممات. ومن طبع الأبالسة استعبدهم الله بالدعاء والصراخ والتضرع والالتجاء. {(قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم)} يسلم به العباد إذ يعتصمون به. وقوله {(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)} {(ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)} حتى يسلموا من طبع الأبالسة. وقال: معرفة وإقرار وإيمان وعمل وخوف ورجاء وحب وشوق وجنة ونار. فالمعرفة خوف والإقرار رجاء والإيمان خوف والعمل رجاء والخوف رهبة. والحب رجاء والشوق خوف بعد. وقال هي نعمة ومصيبة فالنعمة ما دعا الله الخلق إليه من معرفته والمصيبة ما ابتلاهم في أنفسهم ومخالفتها وقال: الله معنا قريب إلينا فلا بد لنا من أن نكون معه نؤثره ونطيعه، فيكون إيثارنا له صدقنا بعلمنا فيه. وقال: العاصون يعيشون في رحمة العلم، والمطيعون يعيشون في رحمة القرب. وقال: ما خلق الله الخلق لأنفسهم ولا لغيرهم، إنما خلقهم إظهارا لملكه والملك لا يكون إلا بتول وتبر. فقال {(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)} وقال: لا بد للخلق أن يعبدوا شيئا فمن لا يعبد الله فلا بد له من عبادة شيء ومن لا يطيع الله فلا بدله من أن يطيع شيئا، ومن لم يتول الله فلا بدله من أن يتولى شيئا غير الله. وكذلك جميع الأشياء لذلك خلقهم. وقال: ليس وراء الله منتهى قال نهاية ينتهى إليه. وقال: ليس له وراء وليس وراء الله وراء هو وراء كل شيء جل الله وعز شأنه.

ص: 207

• سمعت محمد بن الحسن بن علي قال سمعت أحمد بن محمد بن سالم يقول كنت عند سهل بن عبد الله ودخل عليه رجل وقال: يا أستاذ أي شيء القوت؟ قال الذكر الدائم. قال الرجل لم أسألك عن هذا. إنما سألتك عن قوام النفس.

فقال: يا رجل لا تقوم الأشياء إلا بالله. فقال الرجل لم أعن هذا اسألتك عمالا بد منه. فقال يا فتى لا بد من الله.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله ابن شاذان يقول اسمعت بن سالم يقول: سئل سهل بن عبد الله عن سر النفس فقال: للنفس سر ما ظهر ذلك السر على أحد من خلقه إلا على فرعون فقال أنا ربكم الأعلى. ولها سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية، فكلما يدفن العبد نفسه أرضا سما قلبه سماء، فإذا دفنت النفس تحت الثرى وصل القلب إلى العرش. قال: وسمعت سهلا يقول: القلب رقيق يؤثر فيه الشيء اليسير فاحذروا عليه من الخطرات المذمومة، فإن أثر القليل عليه كثير. قال وسمعت سهلا يقول:

كل شيء دون الله فهو وسوسة. قال وسئل سهل عن قوله: من عرف نفسه فقد عرف ربه. قال: من عرف نفسه لربه عرف ربه لنفسه.

• سمعت أبي يقول سمعت أبا بكر الجوربي يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: الطهارة على ثلاثة أوجه: طهارة العلم من الجهل، وطهارة الذكر من النسيان، وطهارة الطاعة من المعصية. وقال: جناية الخاص أعظم عند الله من جناية العام، وجناية الخاص السكون إلى غير الله تعالى والأنس بسواه. وقال تستأنس الجوارح أو لا بالعقل، ثم يستأنس العقل بالعلم، ثم يستأنس العبد بالله. وقال: من اهتم للخير لا يكون للرب عنده قدر. وقال: كل عقوبة طهارة إلا عقوبة القلب فإنها قسوة. قال وسمعت سهلا يقول: يا معشر المسلمين قد أعطيتم الإقرار من اللسان، واليقين من القلب، وإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وإن له يوما يبعثكم فيه ويسألكم عن مثاقيل الذر من أعمالكم، من خير يحزيكم به أو شر يعاقبكم عليه إن شاء أو يعفو عنه. قال تعالى {(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل)} فإن الخردلة إذا

ص: 208

كسرت يكون البعض منها شيئا. قال: {(إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير)} قيل: فكيف الحيلة يا أبا محمد؟ قال حققوها بالأعمال الصالحة المرضية. قيل وكيف لنا تحقيقها بالأعمال الصالحة؟ قال في خمسة أشياء لا بد لكم منها: أكل الحلال، ولبس الحلال الذين تؤدون بهما الفرائض وحفظ الجوارح كلها عما نهاكم الله عنه، وأداء حقوق الله عز وجل كما أمركم بها، وكف الأذى لكي لا تذهب أعمالكم في القيامة وتسلم لكم أعمالكم، والخامسة الاستعانة بالله وبما عنده واليأس عما في أيدى الناس، وذكره آناء الليل والنهار كي يتم لكم ذلك، فاجتهدوا في ذلك إلى الممات. قيل: كيف تصبح للعبد هذه الخصال؟ قال: لا بد له من عشرة أشياء يدع خمسا ويتمسك بخمس: يدع وساوس العدو والقبول منه، ويتبع العقل فيما ينصحه ويكون فيه رضى الله، ويدع اهتمامه للدنيا واغتباطه بها لأهلها، ويدع اتباع الهوى ويؤثر الله على كل حال من أحواله، ويدع المعصية والاستعانة بها ويشتغل بالطاعة ويرغب فيها، ويجتنب الجهل والقيام عليه، ولا يدنو من شيء من أمر الدنيا حتى يحكم عليه فيه، ويطلب بدل الجهل العلم والعمل به فهذه عشرة أشياء. قيل له: كيف له بفهم هذا ويعلم إيش عليه ويعمل به؟ قال: لا بد له من خمسة أشياء: لا يتعنى ولا يتعب نفسه، ولا يفني عمره في جمع مال يصير آخره إلى الميراث، ولا يتعب نفسه ولا يشتغل ببناء يصير آخره إلى الخراب، ولا يرغب في أكل ما يصير آخره إلى التفل والكنيف، ولا في لباس يصير آخره إلى المزابل، ولا يتخذ أحبابا يصير آخرهم إلى التراب، ويخلص وده وحبه لله الواحد القهار الذي لم يزل ولا يزال حيا قيوما فعالا لما يشاء. قيل. وكيف يقوى على هذا وبم يقوى عليه؟ قال:

بإيمانه. قيل: كيف بإيمانه؟ قال بعلمه أنه عبد الله وأن الله مولاه وشاهده، عالم به وبضمائره، قائم عليه. قال الله عز وجل {(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت)} ويعلم أن مضرته ومنفته بيده، قادر على فرحه وسروره قادر على غمه وأنه به رؤف رحيم. فهذه خمسة أشياء لا بد له منها، وخمسة أخر لا بد له منها

ص: 209

لزوم قلبه على مشاهدة الله إياه، وقيامه عليه مطلع على ضميره، قال الله عز وجل {(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)} فيراه بقلبه قريبا منه فيستحى منه ويخافه ويرجوه ويحبه ويؤثره ويلتجئ إليه ويظهر فقره وفاقته له، وينقطع إليه في جميع أحواله. فهذه ما لا بد للخلق أجمعين منها أن يعملوا بها، بعث الله تعالى أنبياءه عليهم الصلاة والسلام بهذا ولهذا وفي هذا، وأنزل الكتاب لهذا، وجاءت الآثار عن نبينا صلى الله عليه وسلم على هذا، وعن أصحابه والتابعين وعملوا به حتى فارقوا الدنيا، وكانوا على هذا، لا ينكره إلا جاهل.

• سمعت محمد بن الحسن بن موسى يقول سمعت جدي يقول بلغني أن يعقوب بن الليث اعتقل بطنه في بعض كور الأهواز فجمع الأطباء فلم يغنوا عنه شيئا، فذكر له سهل بن عبد الله فأمر بإحضاره في العماريات فأحضر، فلما دخل عليه قعد على رأسه وقال: اللهم أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة:

ففرج عنه من ساعته، فأخرج إليه مالا وثيابا فردها ولم يقبل منه شيئا. فلما رجع إلى تستر قال له بعض أصحابه: لو قبلت ذلك المال وفرقته على الفقراء.

فقال له: انظر إلى الأرض، فنظر فإذا الأرض كلها بين يديه ذهبا. فقال: من كان حاله مع الله هذا لا يستكثر مال يعقوب بن الليث.

• سمعت أبا الفضل أحمد بن عمران الهروي يحكي عن بعض أصحاب أبي العباس الخواص قال: كنت أحب الوقوف على شيء من أسرار سهل بن عبد الله فسألت بعض أصحابه عن قوته فلم يخبرني أحد منهم عنه بشيء، فقصدت مجلسه ليلة من الليالي فإذا هو قائم يصلي، فأطلت القيام وهو قائم لا يركع، فإذا أنا بشاة جاءت فرجمت باب المسجد وأنا أراها، فلما سمع حركة الباب ركع وسجد وسلم وخرج وفتح الباب، فدنت الشاة منه ووقفت بين يديه، فمسح ضرعها - وكان قد أخذ قدحا من طاق المسجد - فحلبها وجلس فشرب ثم مسح بضرعها وكلمها بالفارسية فذهبت فى الصحراء ورجع هو إلى محرابه. وقال أبو

ص: 210

الحسن بن سالم: عرفت سهلا سنين من عمره كان يقوم الليل بفرد رجل يناجي ربه حتى يصبح.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا نصر عبد الله بن علي يقول سمعت أحمد بن عطاء يقول سمعت محمد بن الحسن قال قال سهل: أعمال البر يعملها البر والفاجر، ولا يجتنب المعاصي إلا صديق. وقال سهل: من أحب أن يطلع الخلق على ما بينه وبين الله فهو غافل.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت عباس بن عصام يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول: البلوى من الله على وجهين: بلوى رحمة، وبلوى عقوبة، فبلوى الرحمة تبعث صاحبها على إظهار فقره إلى الله تعالى وترك التدبير. وبلوى العقوبة تبعث صاحبها على اختياره وتدبيره.

• أسند سهل بن عبد الله.

وأخبرني يوسف بن عمر بن مسرور أبو الفتح القواس ثنا عبيد الله أبو القاسم الصنعاني ثنا ابن واصل ثنا سهل بن عبد الله التستري قال أخبرني خالي محمد بن سوار عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو ومعه عدة من نساء الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى» .

[حدثناه محمد ابن علي أبي يعلى ثنا قطن بن بشير ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو بأم سليم ومعها نسوة يسقين الماء ويداوين الجرحى]

(1)

.

• حدثنا محمد بن المظفر - إملاء - ثنا أبو علي محمد بن الضحاك بن عمرو ثنا سهل بن عبد الله الزاهد ثنا سليمان بن عبد الرحمن ثنا محمد بن عبد الرحمن القشيري ثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت في علي خمسا أما إحداها فيواري عورتي، والثانية يقضي ديني، والثالثة أنه متكاي في طول الموقف، والرابعة فإنه عوني على حوضي، والخامسة فإني لا أخاف عليه أن يرجع كافرا

(1)

زيادة من مغ.

ص: 211

بعد إيمان، ولا زانيا بعد إحصان». كذا حدثناه ابن المظفر. وقال سهل لزاهد هو التستري. فقلت له: ببلدنا سهل بن عبد الله أبو طاهر أهو ذاك؟ فأبى إلا التستري

‌سهل بن عبد الله بن الفرحان

قال الشيخ رضي الله تعالى عنه: ومنهم الطاهر المطهر أبو طاهر سهل بن عبد الله الفرحان الأسفهرديري - قرية من ربض المدينة، مدينة أصبهان - رحمة الله تعالى عليه، كان مجاب الدعوة

لقى أحمد بن عصام الأنطاكي وأحمد بن أبي الحواري وأبا يوسف الغسولي وعبد الله، بن خبيق ونظراءهم بالشام فأقام بالثغر مدة وكتب بمصر والشام الحديث الكثير. كان أهل بلدنا مفزعهم إلى دعائه عند النوائب والمحن، كان سبب طهارته إذا دخل الحمام للتنظف ورأى بعض الناس عراه سأل ربه أن يكفيه أمر التنظف ودخول الحمام. فسقطت شعرته فلم تنبت بعد دعوته.

وكانت له شجرة جوز تحمل كل سنة كثيرا، فسقط منها رجل فاستعظم ذلك وقال: اللهم أيبسها. فيبست فلم تحمل بعد ذلك. وله آثار كثيرة في إجابة أدعيته مشهورة، اقتصرنا منها على ما ذكرنا

فأما رفيع حاله من إدمان الذكر والمشاهدة والحضور والمسامرة والتعري من حظوظ النفس والموافقة، والتبري من رؤية الناس والمخالطة، فشائع ذائع. حكى ذلك عنه مشايخنا من إخوانه وزواره، ولقي من الجهال فيما نقل من مذهب الشافعي - فإنه أول من حمل من علم الشافعي - مختصر حرملة ابن يحيى عن الشافعي، فاستعظم ذلك الجهال الذين كانوا على مذهب أهل العراق فصبر على أذاهم لم ويعارضهم بشيء محتسبا في ذلك، إلى أن مضى حميدا رشيدا رحمه الله. توفي سنة ست وسبعين ومائتين، تقدم موته على موت أبي محمد سهل بن عبد الله التستري.

• فمما رواه ما حدثناه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن يوسف ثنا أبو طاهر سهل بن عبد الله ثنا أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ثنا الوليد بن

ص: 212

مسلم ثنا عفير بن معدان أبو كامل عن سليم بن عامر عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء فمن نزل به كرب أو شدة فليتحين المنادي، فإذا كبر كبر، وإذا تشهد تشهد، وإذا قال حي على الصلاة قال حي على الصلاة، وإذا قال حي على الفلاح قال حي على الفلاح، ثم قال: اللهم رب هذه الدعوة الصادقة الحق المستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى أحينا عليها وأمتنا عليها وابعثنا عليها واجعلنا من خيار أهلها محيا ومماتا. ثم سل الله حاجتك» . غريب من حديث سليم وعفير لا أعلم رواه عنه إلا الوليد.

• حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا سهل بن عبد الله ثنا هشام بن عمار ثنا بقية بن الوليد حدثني يوسف بن كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من السرف أن تأكل كلما اشتهيت» .

غريب من حديث الحسن عن أنس لا أعلم رواه عنه إلا نوح.

• حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا سهل بن عبد الله ثنا محمد بن أبي السري ثنا بقية عن بن الهيعة عن دراج عن ابن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يوم القيامة أين جيراني؟ فتقول الملائكة: ومن ينبغي أن يكون جارك؟ فيقول عمار مسجدي» :. غريب من حديث أبي الهيثم سليمان بن عمرو العتواري لا أعلم رواه له راويا إلا دراجا.

‌أحمد بن مسروق

قال الشيخ: ومنهم المستأنس بالحق، المستوحش من الخلق، أبو العباس الطوسي أحمد بن محمد بن مسروق. من ساكني بغداد. صحب الحارث بن أسد المحاسبي ومحمد بن منصور الطوسى والسرى بن المفلس السقطي ومحمد بن الحسين البرجلاني.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول سمعت أبا العباس بن مسروق يقول: من ترك التدبير عاش في راحة.

ص: 213

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا سعيد بن عطاء يقول: إن الجنيد ابن محمد رأى فيما يرى النائم قوما من الأبدال فسأل هل ببغداد أحد من الأولياء؟ فقالوا: نعم أبو العباس بن مسروق من أهل الأنس بالله تعالى.

• أخبرنا جعفر بن محمد الخلدي - في كتابه - وحدثني عنه الحسين بن يحيى الفقيه أبو علي قال: سئل ابن مسروق عن التوكل فقال: اشتغالك عما لك بما عليك، وخروجك مما عليك لمن ذاك له وإليه. قال وسئل عن التصوف فقال: خلو الأسرار مما منه بد، وتعلقها بما ليس منه بد.

• أخبر جعفر بن محمد وحدثني محمد بن الحسين قال سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت جعفرا يقول: سألت أبا العباس بن مسروق مسألة في العقل فقال لي: يا أبا أحمد من لم يحترز بعقله من عقله لعقله هلك بعقله.

• أخبر جعفر - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال قال أبو العباس بن مسروق: مررت مع الجنيد بن محمد في بعض دروب بغداد وإذا مغن يغنى.

منازل كنت تهواها وتألفها

أيام كنت على الأيام منصورا

• فبكى الجنيد بكاء شديدا ثم قال: يا أبا العباس ما أطيب منازل الألفة والأنس؟ وأوحش مقامات المخالفات؟ لا أزال أحن إلى بدء إرادتى وجدة سعى، وركوبي للأهوال طمعا في الوصول، وها أنا في أيام الفترة أتلهف على أوقاتي الماضية. فقال أبو العباس: من يكن سروره بغير الحق فسروره يورث الهموم، ومن لم يكن أنسه في خدمة ربه فهو من أنسه فى وحشة.

• أخبر جعفر وحدثني عنه محمد بن الحسين قال سمعت أبا بكر الرازي يقول قال أبو العباس بن مسروق: شجرة المعرفة تسقى بماء الفكرة، وشجرة الغفلة تسقى بماء الجهل، وشجرة التوبة تسقى بماء الندامة، وشجرة المحبة تسقى بماء الإنفاق والموافقة والإيثار. ومتى طمعت في المعرفة ولم تحكم قبلها مدارج الإرادة فأنت في جهل، ومتى ما طلبت الإرادة قبل تصحيح مقام التوبة فأنت في غفلة. مما تطلبه.

ص: 214

قال الشيخ رضي الله تعالى عنه: أسند الكثير ولقينا جماعة من الرواة عنه

• حدثنا أبو إسحاق بن حمزة ثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق الصوفي ثنا عبد الأعلى ثنا حماد بن سلمة عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب وأيوب بن سيرين عن عمران بن حصين وقتادة وحميد عن الحسين عن عمر أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ليس له مال غيرهم «فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين ورد أربعة في الرق» .

• حدثنا أبو مخلد بن جعفر ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ثنا محمد بن بكار ثنا حفص بن سليمان عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان ابن عفان سمعته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له سريره صالحة أو سيئة ألبسه الله عز وجل منها رداء يعرف به» .

• حدثنا مخلد بن جعفر ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ثنا محمد ابن بكار ثنا قيس بن الربيع عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» .

• حدثنا حبيب بن الحسن ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ثنا محمد بن حسان السمتي ثنا عبد الله أبو عثمان الحمصي عن الأوزاعي عن عبيدة بن لبابة عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل عبادا خصهم بالنعم لمنافع العباد يقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها حولها منهم وجعلها فى غيرهم» .

• حدثنا حبيب بن الحسن ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ثنا شيبان ابن فروخ ثنا محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من شتم الأنبياء ثم أصحابى ثم المسلمين» .

• حدثنا حبيب بن الحسن ثنا محمد بن أحمد بن مسروق ثنا يعقوب بن إسحاق ثنا أحمد بن عبيد الله الغزانى ثنا محمد بن السماك عن عائد عن عطاء عن

ص: 215

عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال للعاق اعمل ما شئت من الطاعة فإني لا أغفر لك. ويقال للبار اعمل ما شئت فإني أغفر لك» .

• حدثنا حبيب بن الحسن ثنا أبو العباس بن مسروق ثنا خالد بن عبد الصمد ثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي قال حدثني القاسم بن سلام مولى الرشيد أمير المؤمنين - وكان من أهل الدين والأدب - عن الرشيد عن المهدي عن أبيه عن محمد بن علي عن أبيه عن ابن عباس: قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن الزبير إمساك «فأخذ بعمامته فجبذها إليه وقال: يا ابن العوام أنا رسول الله إليك وإلى الخاص والعام، يقول الله عز وجل: أنفق أنفق عليك، ولا ترد فيشتد عليك الطلب، إن في هذه السماء بابا مفتوحا ينزل منه رزق كل امرئ بقدر نفقته أو صدقته ونيته، فمن قلل قلل عليه، ومن كثر كثر عليه» . فكان الزبير بعد ذلك يعطي يمينا وشمالا.

‌محمد بن منصور

ومنهم الطوسي محمد بن منصور رضي الله تعالى عنه كان قلبه باليقين معمورا، وفي محبته بمأموله مسرورا، وعن كل من سواه مأخوذا ومأسورا.

• حدثنا زيد بن علي المغربي ثنا الحسين بن مصعب ثنا محمد بن منصور الطوسي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: مرني بشيء حتى ألزمه قال: «عليك باليقين» .

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا محمد بن العباس ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا الحسن بن الربيع قال سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول سمعت حبيبي الفضيل بن عياض يقول: خمسة من السعادة: اليقين في القلب، والورع في الدين، والزهد في الدنيا، والحياء والعلم.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت الحسن بن علوية يقول قال محمد بن منصور: ست خصال يعرف بها الجاهل الغضب في غير شيء، والكلام في غير نفع، والعظة في غير موضعها، وإفشاء السر،

ص: 216

والثقة بكل أحد، ولا يعرف صديقه من عدوه.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت أبا الحسين يقول سمعت الحسن يقول:

للمؤمن أربع علامات: كلامه ذكر، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعلمه بر.

وقال: العبد لا يستحق اليقين حتى يقطع كل سبب بينه وبين العرش إلى الثرى حتى يكون الله عز وجل مراده لا غير، ويؤثر الله على كل ما سواه.

• سمعت أحمد بن أبي عمران الهروي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت الحسين بن عبد الرحمن يقول أنشدني محمد بن منصور.

كفلت لطالب الدنيا بهم

طويل لا يؤول إلى انقطاع

وذل في الحياة بغير عز

وفقر لا يدل على انتفاع

وشغل ليس يعقبه فراغ

وسعي دائم مع كل ساعى

وحرص لا يزال عليه عبدا

وعبد الحرص ليس بذي اقتناع.

• سمعت أبا الفضل أحمد بن أبي عمران يقول سمعت منصورا يقول سمعت الحسين بن محمد يقول: أنشدني محمد بن منصور.

إنما الدنيا وإن سرت

قليل من قليل

ليس تعدو أن تبدى

لك في زي جميل

ثم ترميك من المأ

من بالخطب الجليل

إنما العيش جوار لل

هـ في ظل ظليل.

• قال الشيخ رضي الله تعالى عنه: أسند محمد بن منصور الكثير.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن العباس بن أيوب ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا صالح بن إسحاق الجهبذي - دلني عليه يحيى بن معين - ثنا معروف ابن واصل عن يعقوب بن أبي نباتة عن عبد الرحمن الأغر عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم فيقول لهم أهل اللات العزى: ما أغنى عنكم قولكم لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار. فيغضب الله وعز وجل فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة فيبرءون من حروقهم كما يبرأ القمر من كسوفه، فيدخلون الجنة

ص: 217

ويسمون فيها بالجهنميين». فقال رجل: يا أنس أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» . نعم أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن العباس ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا يحيى بن إسحاق السبحي ثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم عن أبي سلمة عن أم حبيبة قالت: «دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه - وحلق سبعين - فقلت:

يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم اذا كثر الخبث.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن زهير التستري ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا علي بن ثابت ثنا المفضل بن صدقة عن سعيد بن مسروق عن المسيب بن رافع عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلت يا رسول الله ما هذه الأربع ركعات التي تصليها عند الزوال؟ قال هذه الساعة تفتح فيها أبواب السماء فلا ترتج حتى تصلى الظهر فأحب أن أقدم خيرا».

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن العباس ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا يونس بن محمد المؤدب ثنا حماد بن زيد عن سعيد الثوري عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«أيما إهاب دبغ فقد طهر» .

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن زهير ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا هاشم بن القاسم ثنا محمد بن طلحة عن زبيد قال حدثني جامع بن أبي راشد - ودموعه تنحدر عن أم بشر عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله عز وجل بأسه بأهل الأرض. قلت يا رسول الله وإن كان فيهم صالحون؟ قال نعم وإن كان فيهم صالحون يصيبهم ما أصاب الناس ثم يرجعون الى رحمة الله» .

ص: 218

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن زهير ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي عن محمد بن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري وهشام بن عروة كلاهما عن عروة عن عائشة قالت: كانت بربرة تحت مملوك فخيرها فعتقت «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بيدها» .

• حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا محمد بن الحسن الصوفي ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا حمزة بن زياد الطوسي ثنا ثويب أبو حامد - قال حمزة سألت عنه بقية فقال: هذا مرابط منذ ستين سنة - عن خالد بن معدان عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل أنا لشرار أمتي. فقالوا: فكيف أنت لخيارهم؟ قال: أما خيارهم فيدخلون الجنة بصلاحهم.

وأما شرارهم فيدخلون الجنة بشفاعتي».

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد ثنا محمد بن هارون الحضرمي ثنا محمد ابن منصور الطوسي ثنا أبو الجواب ثنا عمار بن رزيق عن قطن عن القاسم بن أبي بزة عن عطاء الخراساني عن عمران قال سمعت عبد الله بن عمر يقول:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله كتب له بكل حرف عشر حسنات، ومن أعان على خصومة باطل لم يزل فى سخط الله حتى ينزع، ومن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره. ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة حبسه الله فى ردغة الخبال يوم القيامة حتى يخرج مما قال وليس بخارج» .

• حدثنا محمد بن أحمد ثنا محمد بن هارون ثنا محمد بن منصور ثنا يعقوب ابن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني يحيى بن سعيد وغيره عن القاسم عن عائشة أنها كانت تقول: «قد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ثم لم يذهب من طلاقهن شيء» .

‌أبو تراب

ومنهم أبو تراب عسكر بن الحصين وقيل ابن محمد بن الحصيني النخشبى

ص: 219

صاحب حاتم الأصم ولقي أبا حمزة العطار البصري. معروف بالتوكل والسياحة والفتوة. توفي بالبادية ونهشته السباع سنة خمس وأربعين ومائتين. صحبه أبو بكر بن أبي عاصم النبيل، وأبو عبد الله بن الجلاء وأبو عبيدة البسري.

• سمعت أبا عبد الله أحمد بن إسحاق يقول سمعت أبا بكر أحمد بن أبي عاصم يقول سمعت أبا تراب الزاهد يقول سمعت حاتما الأصم يقول: عن شقيق قال: اصحب الناس كما تصحب النار خذ منفعتها واحذر أن تحرقك.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا قال سمعت أبا تراب الزاهد يقول قال حاتم الأصم: الزهد اسم والزاهد الرجل وللزاهد ثلاث شرائع، أولها الصبر بالمعرفة والاستقامة على التوكل، والرضا بالقضاء.

وأما تفسير الصبر بالمعرفة فإذا نزلت الشدة أن تعلم بقلبك أن الله يراك على حالك وتصبر وتحتسب وتعرف ثواب ذلك الصبر. ومعرفة ثواب الصبر أن تكون مستوطن النفس في ذلك الصبر وتعلم أن لكل شيء وقتا والوقت على وجهين إما يجئ بالفرج وإما يجئ بالموت فإذا كان هذان الشيئان عندك فأنت حينئذ عارف صابر. وأما الاستقامة على التوكل فالتوكل إقرار باللسان وتصديق بالقلب، فإذا كان مقرا مصدقا أنه رازق لا شك فيه فإنه مستقيم، والاستقامة على معنيين: أن تعلم أن مالك لا يفوتك فتكون واثقا ساكنا. وما لغيرك لا تناله فلا تطمع فيه. وعلامة صدق هذا اشتغاله بالمفروض. وأما الرضا بالقضاء فالقضاء ينزل على وجهين قضاء تهواه فيجب عليك الشكر والحمد، وأما القضاء الذي لا تهواه فيجب عليك أن ترضى وتصبر.

• سمعت والدي يقول سمعت أبا عبد الله بن الجلاء - بمكة - يقول لقيت زيادة على خمسمائة شيخ ما لقيت مثل أربعة، أولهم أبو تراب النخشبي توفي بالبادية فأكلته السباع. قال وكان أبو تراب يقول لأصحابه أنتم تحبون ثلاثة أشياء وليست لكم: تحبون النفس وهي لله، وتحبون الروح والروح لله. وتحبون المال والمال للورثة، وتحبون اثنين ولا تجدونهما: الفرح والراحة وهما في الجنة.

• حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا أبو بكر بن أبي عاصم ثنا عسكر

ص: 220

ابن الحصين السائح قال رئي إبراهيم بن أدهم في يوم صائف وعليه جبة فرو مقلوبة في أصل ميل مستلقيا رافعا رجليه يقول: طلب الملوك الراحة فأخطئوا الطريق.

• سمعت أبا القاسم عبد السلام بن محمد البغدادي بمكة يقول: قال رجل لأبي تراب يوما: ألك حاجة؟ فقال: يوم يكون لي إليك حاجة وإلى أمثالك لا يكون لي إلى الله حاجة. وقال: الذي منع الصادقين الشكوى إلى غير الله الخوف من الله. وقال: حقيقة الغنى أن تستغني عمن هو مثلك، وحقيقة الفقر أن تفتقر إلى من هو مثلك.

• سمعت أحمد بن إسحاق يقول ثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم قال سمعت أبا تراب يقول سمعت حاتما يقول: لي أربع نسوة وتسعة من الأولاد ما طمع شيطان أن يوسوس إلي في شيء من أرزاقهم.

• حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ثنا أبو تراب عسكر بن الحصين قال: جاء رجل إلى حاتم الأصم فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد؟ فقال: رأس الزهد الثقة بالله، ووسطه الصبر، وآخره الإخلاص.

أسند أبو تراب غير حديث.

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا محمد بن عبد الله بن مصعب ثنا أبو تراب الزاهد عسكر بن الحصين ثنا محمد بن نمير ثنا محمد بن ثابت عن شريك ابن عبد الله عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن ربهم يطعمهم ويسقيهم» .

• حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ثنا أبو تراب ثنا نعيم ابن حماد المصري ومعاذ بن أسد قالا: عن الفضل بن موسى السيانى عن الحسين ابن واقد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن لي قرصة بيضاء ملبكة بالسمن واللبن؟ فقام رجل

ص: 221

فجاء به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «في أي شيء كان؟ فقال فى عكة ضب.

فلم يأكله النبي صلى الله عليه وسلم».

• حدثنا محمد بن إسماعيل بن العباس الوراق ثنا عبد الصمد بن علي بن مكرم قال حدثني أحمد بن سليمان بن المبارك ثنا أبو تراب الزاهد البلخي ثنا واصل بن إبراهيم ثنا أبو حمزة عن رقية عن سلمة بن كهيل عن جندب ابن سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به» .

• حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ثنا أبو تراب ثنا أحمد بن نصر ثنا عبد المنعم بن إدريس عن أبيه قال قال وهب بن منبه:

أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام يا موسى لا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلي ونعمتي، فإن الحاسد عدو لنعمتى، مضل لفضلى، ساخط لقسمي الذي قسمت بين عبادي. ومن يكن كذلك فليس مني ولست منه.

• حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوري قال سمعت أبا عبيد حازم ابن أبي حازم يقول سمعت أخي أحمد بن محمد يقول قال أبو تراب النخشبي:

وقفت ستا وخمسين وقفة، فلما كان من قابل رأيت الناس بعرفات ما رأيت قط أكثر منهم ولا أكثر خشوعا وتضرعا ودعاء فأعجبني ذلك وقلت: اللهم من لم تتقبل حجته من هذا الخلق فاجعل ثواب حجتي له. فأفضنا وبتنا بجمع فرأيت في منامي هاتفا يهتف بي: تتسخى علي وأنا أسخى الأسخياء؟ وعزتي وجلالي ما وقف هذا الموقف أحد قط إلا غفرت له. فانتبهت فرحا بهذه الرؤيا فرأيت يحيى بن معاذ الرازي فقصصت عليه الرؤيا فقال: إن صدقت رؤياك فإنك تعيش أربعين يوما. فلما كان يوم أحد وأربعين يوما جاءوا إلى يحيى بن معاذ فقالوا: إن أبا تراب قد مات فقمنا فغدونا رحمه الله،.

قال الشيخ ذكر جماعة من جماهير العارفين من العراقيين اقتصرنا على ذكرهم من دون كلامهم وأخبارهم. منهم من تنسب إليه الكتب المصنفة كأبي سعيد الخزاز وطبقته، ومنهم من رفع الله رايته بما انتشر عنه من كثرة أصحابه وتلامذته رحمة الله علينا وعليهم أجمعين.

ص: 222

‌أبو إسحاق الآجري

فمنهم أبو إسحاق الآجري إبراهيم بغدادي، له الآيات العجيبة، والكرامات اللطيفة.

• أخبرنا جعفر بن محمد الخلدي - في كتابه - وحدثني عنه أبو عمر العثماني ثنا أبو العباس بن مسروق وأبو محمد الحريرى وأبو أحمد المغازلي وغيرهم عن إبراهيم الآجري قالوا: جاء يهودى يقتضيه شيئا من ثمن قصب فكلمه فقال له: أرني شيئا أعرف به شرف الإسلام وفضله على ديني حتى أسلم. قال:

فقال له: وتفعل؟ قال: نعم. فقال له: هات رداءك. قال فأخذه فجعله في رداء نفسه ولف رداءه عليه ورمى به في النار - نار تنور الآجر - ودخل في أثره فأخذ الرداء وخرج من الباب ففتح رداء نفسه وهو صحيح وأخرج رداء اليهودى حراقا أسود من جوف رداء نفسه فأسلم اليهودي.

• أخبرنا جعفر بن محمد في كتابه قال: سمعت الجنيد بن محمد يقول سمعت عبدون الزجاج يقول قال لي إبراهيم الآجري: يا غلام لأن ترد إلى الله عز وجل من همك ذرة خير لك مما طلعت عليه الشمس.

‌القاسم الجريري

ومنهم القاسم الجريري، كان في حاله مسددا، ومن أسباب الدنيا مجردا، كان بشر بن الحارث يزوره فيما أخبرت

عن عبد الله بن مسلم قال دخل بشر بن الحارث على القاسم الجريري عائدا في مرضه فوجد تحت رأسه لبنة طارحا نفسه على قطعة بازية خلقة، فلما خرج عن عنده قال جيرانه: قد جاورنا ثلاثين سنة فما سألنا حاجة قط.

‌أبو يعقوب الزيات

ومن أقرانه أبو يعقوب الزيات: كان مغتنما لوقته، مشتغلا بنفسه، يراعي خطراته، ويشتغل بخلواته. كان جماعة النساك يعظمون حاله.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه أبو طاهر محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: دققت على أبي يعقوب الزيات بابه في

ص: 223

جماعة من أصحابنا فقال: ما كان لكم شغل في الله يشغلكم عن المجيء إلي؟ قال الجنيد: فقلت إذا كان مجيئنا إليك من شغلنا به لا ننقطع عنه. ففتح الباب فسألته عن مسألة في التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني فأعطى التوكل حقه ثم قال: استحييت من الله عز وجل أن أجيبك وعندي شيء. فقلت له:

ما قولك في رجل له في كل علم من العلوم حظ ويحسن القيام بصفات الحق وصفات الخلق؟ ترى مجالسة الناس؟ فقال: إن كنت أنت وإلا فلا. وذكر يوما لبعض المريدين تحفظ القرآن فقال لا. فقال وا غوثا بالله. مريد لا يحفظ القرآن كأترجة لا ريح لها. فبما يتنعم فبما يترنم فبما يناجي ربه أما تعلم أن عيش العارفين سماع النغم من أنفسهم وغيرهم.

‌أبو جعفر بن الكوفي

ومنهم أبو جعفر بن الكوفي رحمه الله تعالى.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يرفع منه جدا وأنه فاق أقرانه في الاجتهاد وكثرة الأوراد. أكثر نساك بغداد تأدبوا به وتوارثوا منه شريف الآداب وحميد الأخلاق.

• وحدثني عنه جعفر بن محمد بن نصير قال: ذهب إليه يوما الجنيد ابن محمد بصرة دراهم عرضها عليه فأبى أن يأخذها منه، وذكر غناه عنها. فقال له الجنيد: إن وجدت غنى عنها ففي أخذها سرور رجل مسلم. فأخذها ثم سألته فقلت: يرحمك الله الرجل يتكلم في العلم الذي لم يبلغ استعمال كل عمله.

كلامه أحب إليك أم سكوته؟ فسكت ساعة مطرقا رأسه ثم رفع رأسه إلي فقال: إن كنت هو فتكلم.

قال الشيخ: وكان أبو جعفر بن الكوفي ممن تخرج بأبي عبد الله البراثي الزاهد ومن تلامذته

• حدثني أبو عمرو العثماني ثنا محمد بن علي البغدادي ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ثنا محمد بن الحسين البرجلاني ثنا حكيم بن جعفر. قال: كنا نأتي أبا عبد الله بن أبي جعفر الزاهد وكان يسكن براثا، وكانت له امرأة متعبدة

ص: 224

يقال لها جوهرة، وكان أبو عبد الله يجلس على جلة خوص نجرانية، وجوهرة جالسة حذاءه على جلة أخرى مستقبل القبلة في بيت واحد. قال: فأتيناه يوما وهو جالس على الأرض ليس تحته الجلة. فقلنا: يا أبا عبد الله ما فعلت الجلة التي كنت تقعد عليها؟. قال: إن جوهرة أيقظتني البارحة فقالت:

أليس يقال في الحديث: «إن الأرض تقول لابن آدم: تجعل بيني وبينك سترا وأنت غدا في بطني؟» قال قلت: نعم. قالت: فأخرج هذه الجلال لا حاجة لنا فيها. قال فقمت والله فأخرجتها.

‌أبو هاشم الزاهد

ومنهم أبو هاشم الزاهد - كان إلى الحق وافدا، وعن الخلق حائدا، وفيما سوى الحق زاهدا. من أقران أبي عبد الله بن أبى جعفر البرائى.

• أخبرنا محمد بن أحمد البغدادي - فيما كتب إلي وقد رأيته - وحدثني بهذا عنه عثمان بن محمد العثماني ثنا أحمد بن مسروق ثنا محمد بن الحسين قال: حدثني بعض أصحابنا. قال قال أبو هاشم الزاهد: إن الله تعالى وسم الدنيا بالوحشة ليكون أنس المريدين به دونها، وليقبل المطيعون إليه بالإعراض عنها. فأهل المعرفة بالله فيها مستوحشون، وإلى الآخرة مشتاقون.

• أخبرنا محمد بن أحمد وحدثني عنه أبو عمرو العثماني ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ثنا محمد بن الحسين البرجلاني ثنا حكيم بن جعفر. قال: نظر أبو هاشم إلى شريك - يعني القاضي - يخرج من دار يحيى بن خالد فبكى وقال: أعوذ بك من علم لا ينفع.

قال محمد بن الحسين: وحدثني سعيد بن صبيح المؤدب قال قال أبو هاشم: لفلح الجبال بالإبر أيسر من إخراج الكبر من القلوب. وقال أبو هاشم: لو أن الدنيا قصور وبساتين والآخرة أكواخ، لكانت الآخرة أهلا أن تؤثر على الدنيا، لبقاء تلك ونفاد هذه.

‌العباس بن مساحق

ومنهم العباس بن مساحق المخرومى.

كان في المحبة محمولا، وإلى المحبوب مرتحلا ومنقولا.

ص: 225

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال: قرئ على أبى الحسن أحمد بن محمد ابن عيسى الرازي: ثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الرازى قال سمعت الوضاح ابن حكيم يقول: رأيت على العباس بن مساحق المخزومي عباءة شديدة البلا، فقلت: رحمك الله ما هذه العباءة التي أراها عليك؟ قال: وما أنكرت منها؟ قلت: شدة بلاها. قال: يا ابن حكيم! أولا يمكن في هذه التبلغ إلى الله عز وجل؟ بلى والله لقد خرج محبو الله من الدنيا في أشد من هذه الحالة، وما على رجل أن يكون لله محبا وأن عليه مدارع الحديد. والله يا ابن حكيم لقد ذاقوا من حلاوة طاعته والشوق إليه ما سلى قلوبهم عن الدنيا فلم ينظروا إليها إلا بعين المقت لها، ولم يرجعوا منها إلى طمع بعد معرفتهم بغرورها، إذ سمعوا الله يقول:{(إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد)} فجفوا والله مضاجعهم، وخربوا من العمارة فروشهم، وعملوا إلى الرحيل إلى سيدهم، وعمروا بالأبدان محاريبهم، وبالقلوب درجاتهم.

‌عبيد الله العمري

ومنهم المتخلي من الدنيا، المتزود فيها للعقبى، عبيد الله بن عبد الله العمري.

• حدثنا عمر بن أحمد بن شاهين ثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك ثنا عبد الله بن سفيان ثنا عمر بن عبد الله العمري قال: قرأت على باب دار عبيد الله بن عبد الله مكتوب:

اعمل فأنت من الدنيا على حذر

واعلم بانك بعد الموت مبعوث

واعلم بأنك ما قدمت من عمل

محصى عليك وما جمعت موروث.

• حدثنا عمر بن أحمد ثنا محمد بن موسى ثنا محمد بن الهيثم ثنا المثنى بن جامع ثنا أبو جعفر الحذاء. قال قال العمري: كما أحسنتم الظن بما لم يضمن، فأحسنوا الظن بما قد ضمن.

ص: 226

‌علي بن معبد

ومنهم المعاتب بالعتاب، لاستهانته بالتراب. علي بن معبد المنبه بالصواب.

• حدثنا عمر بن أحمد قال سمعت أحمد بن مسعود الزبيري يقول سمعت هارون بن كامل يقول سمعت علي بن معبد يقول: كتبت كتابا فأخذت طينا من حائط فوقع في نفسي منه شيء، فقلت: تراب، وما تراب فرأيت فيما يرى النائم كأني يقال لي: سيعلم الذي يقول: وما تراب.

‌ومنهم النازح عن الأناس والأشخاص، المادح لمؤنسه بما أولاه

من المحبة والإخلاص.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا محمد بن زيد السائح ثنا جعفر بن محمد ابن سهل أبو محمد السامري - بعسقلان - قال: سمعت ذا النون المصري يقول:

بينا أنا أسير في جبال لكام إذ مررت على واد كثير الأشجار والنبات، فبينا أنا واقف أتعجب من حسن زهراته، وخضرة العشب في جنباته، ومن تناغي الأطيار بحنين في أفنيته، ومن خرخرة الماء على رضراضه، ومن جولان الوحش في أنديته، ومن صوت عواصف الرياح الذارية في أغصان شجراته، إذ سمعت صوتا أهطل مدامعي، وهيج لما نطق به بلا بل حزني قال ذو النون: فاتبعت الصوت حتى أوقعني بباب مغارة في سفح ذلك الوادي فإذا الكلام يخرج من جوف المغارة، فاطلعت فيه فإذا أنا برجل من أهل التعبد والاجتهاد، وذوي العزلة والانفراد، فسمعته وهو يقول: سبحان من أمرح قلوب المشتاقين في زهرة رياض الطاعة بين يديه، سبحان من أوصل الفهم إلى عقول ذوي البصائر فهي لا تعتمد إلا عليه، سبحان من أورد حياض المودة نفوس أهل المحبة فهي لا تحن إلا إليه. ثم أمسك. قال ذو النون:

فقلت: السلام عليك يا حليف الأحزان، وقرين الأشجان، ويا من ألف السكن وطول الظعن عن مفارقة الصبر والعزاء. قال: فأجابني وهو يقول: وعليك السلام أيها الرجل ما الذي أوصلك إلى مكان من قد أفرده خوف المسألة عن

ص: 227

الأنام، ومن هو مشتغل بما فيه من محاسبته لنفسه عن التصنع في الكلام؟ فقلت: أوصلني إليك الآثار والرغبة في الصفح والاعتبار. فقال لي: يا فتى إن لله عبادا قدح في قلوبهم زند الشغف بنار الرمق، فأرواحهم بشدة الاشتياق إلى الله تسرح في الملكوت، وبأبصار أحداق القلوب ينظرون إلى ما ذخر لهم فى حجب الجبروت. قلت: يرحمك الله صفهم لي. فقال أولئك أقوام أووا إلى كنف رحمته. ثم قال: سيدي بهم فألحقني، ولأعمالهم فوفقني، فقد نالوا ما أرادوا لأنك كنت لهم مؤدبا، ولعقولهم مؤبدا. فقلت: يرحمك الله ألا توصنى بوصية أحفظها عنك؟ قال: أحب الله شوقا إلى لقائه، فإن له يوما يتجلى فيه لأوليائه. ثم أنشأ يقول:

قد كان لي دمع فأفنيته

وكان لي جفن فأدميته

وكان لي جسم فأبليته

وكان لي قلب فأضنيته

وكان لي يا سيدي ناظر

أرى به الحق فأعميته

عبدك أضحى سيدي مدنفا

لو شئت قبل اليوم داويته

ثم أنشأ يقول:

مدامعى منك قريحات

بالخوف والوجد نضيجات

أقلقها زرع نبات الهوى

أجفانها مرضى صحيحات

طوبى لمن عاش وأجفانه

من المعاصي مستريحات.

‌علي بن رزين

ومنهم الممكن المكين، أبو الحسن علي بن رزين.

كان عن الأطعمة والأشربة معدولا، وفي المشاهدة مقبولا ومحمولا تخرج به أبو عبد الرحمن المغربي أستاذ إبراهيم بن شيبان

• سمعت أبا بكر الطوسي الدينوري - بمكة - يقول سمعت شيخي إبراهيم يقول سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: كان لي شيخ أصحبه يشرب في كل أربعة أشهر شربة من ماء - يعني صاحبه علي بن رزين - عاش مائة وعشرين سنة، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين. قال الشيخ: وكان أبو عبد الله

ص: 228

لمغربى محمد بن إسماعيل تلميذ علي بن رزين. مات عن مائة وعشرين سنة وقبر مع أستاذه علي بن رزين على جبل طور سينا سنة تسع وتسعين ومائتين. وقيل: إن إبراهيم الخواص أخذ طريق التوكل من أبي عبد الله وكان أستاذه وأستاذ إبراهيم بن شيبان. ذكر ذلك لي أبو بكر الطرسوسي بمكة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.

وحكى عن إبراهيم بن شيبان أستاذه قال سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: المخصوصون من الله عز وجل على منازل ثلاثة: منهم من ضن بهم عن البلاء لكيلا يستغرق الجزع صبرهم فيجدون فى صدورهم حرجا من قضائه أو يكرهون حكمه. ومنهم من يضن بهم عن مجاورة العصاة ومخالطتهم لتسلم قلوبهم وصدورهم للعالم. ومنهم من صب عليهم البلاء صبا وأمدهم بالصبر والرضا، فما ازدادوا بالبلاء إلا حبا ورضاء بحكمه. ولله عباد أوجدهم نعما مجردة عليهم، وأسبغ عليهم ظاهر العلم وباطنه، وأخمل عن الناس ذكرهم. قال: وكان أبو عبد الله يقول:

يا من يعد الوصال ذنبا

كيف اعتذاري من الذنوب

إن كان ذنبي إليك حبي

فإنني منه لا أتوب.

‌عمرو النيسابوري

ومنهم أبو حفص عمرو بن سلمة النيسابوري. وقيل عمر.

كان أحد المتحققين له الفتوة الكاملة، والمروءة الشاملة، تخرج به عامة الأعلام النيسابوريون. منهم أبو عثمان النيسابوري. وشاه الكرماني. صحب عبيد الله الأباوردي. وكان من رفقاء أحمد بن خضرويه المروزي. توفي سنة سبع، وقيل أربع وستين ومائتين.

• سمعت أبا عمرو بن حمدان يقول سمعت أبي يقول قال أبو حفص:

المعاصي بريد الكفر، كما أن الحمى بريد الموت. قال: وكان لا يذكر الله إلا على الحضور وتعظيم الحرمة، فإذا ذكر الله عز وجل تغير عليه حاله، فإذا رجع قال: ما أبعد ذكرنا عن ذكر المحققين، فما أظن أن من ذكر الله عز وجل حاضرا من غير غفلة يبقى بعد ذكره حيا إلا الأنبياء، فإنهم مؤيدون

ص: 229

بقوة النبوة. وخواص الأولياء مؤيدون بقوة الولاية.

• سمعت أبا بكر بن حمدان يقول: كان أبو حفص حدادا، فكان غلامه يوما ينفخ عليه الكير فأدخل يده في النار وأخرج الحديد من النار، فغشي على غلامه. وترك أبو حفص الحانوت وأقبل على أمره.

• سمعت أبا عمرو بن حمدان يقول سمعت أبي يقول سمعت أبا حفص يقول:

تركت العمل فرجعت إليه، وتركني العمل فلم أرجع إليه.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبي يقول سمعت أبا علي الثقفي يقول: كان أبو حفص يقول: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال. وكان يقول: من نعت الفقير الصادق أن يكون في كل وقت بحكمه، فإذا ورد عليه وارد يشغله عن حكم وقته يستوحش منه وينفيه.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت عبد الرحمن بن الحسين يقول: اجتمع مشايخ بغداد عند أبي حفص وسألوه عن الفتوة فقال: تكلموا أنتم فإن لكم العبارة واللسان. فقال الجنيد: الفتوة إسقاط الرؤية وترك النسبة. فقال أبو حفص: ما أحسن ما قلت، ولكن الفتوة عندي أداء الإنصاف وترك مطالبة الإنصاف. فقال الجنيد: قوموا يا أصحابنا فقد زاد أبو حفص على آدم وذريته. قال: وكان أبو حفص يقول: من إهانة الدنيا أني لا أبخل بها على أحد، ولا أبخل بها على نفسي، لاحتقارها واحتقار نفسي عندي.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا أحمد بن عيسى يقول سمعت أبا حفص يقول: الكرم طرح الدنيا لمن يحتاج إليها، والإقبال على الله لاحتياجك إليه. وقال أبو حفص الحداد: حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» . وسئل أبو حفص: من الرجال؟ فقال: القائمون مع الله بوفاء العهود. قال الله تعالى:

{(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)} . وسئل أبو حفص عن العبودية فقال:

ترك ما لك والتزام ما أمرت به.

ص: 230

‌حمدون بن أحمد

قال الشيخ: ومن أقران أبي حفص من شيوخ نيسابور الشيخ الصالح أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة.

صحب أبا تراب النخشبي، وكان فقيها على مذهب الثوري. وهو شيخ الملامتيين.

• سمعت عبد الله بن أحمد بن فضالة - صاحب الخان بنيسابور - يقول سمعت عبد الله بن محمد بن منازل يقول: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضاء الرحمن. ونحن نتكلم لعز النفس، وطلب الدنيا، وقبول الخلق.

قال عبد الله: وسأله يوما أبو القاسم المنادي عن مسألة فقال له: أرى في سؤالك قوة وعزة نفس، تظن أنك قد بلغت بهذا السؤال الحال الذي تخبر عنه، أين طريقة الضعف والفقر والتضرع والالتجاء؟ وعندي أن من ظن نفسه خيرا من نفس فرعون فقد أظهر الكبر. وقال له عبد الله بن منازل يوما:

أوصني. قال: إن استطعت أن لا تغضب لشيء من الدنيا فافعل. وقال: من أصبح وليس له هم طلب قوت من حلال وهم ما جرى عليه في سابق العلم له وعليه، فإنه يتفرغ إلى كل شيء. وقال: كفايتك تساق إليك ميسرا من غير تعب ولا نصب، وإنما التعب في الفضول.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول سمعت أحمد بن حمدون يقول سمعت أبي يقول - وسئل عن طريق الملازمة - فقال: خوف القدرية، ورجاء المرجئة. وقال: لا يجزع من المصيبة إلا من اتهم ربه. وقال: لا أحد أدون ممن يتزين لدار فانية، ويتحمد إلى من لا يملك ضره ولا نفعه.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول سمعت عبد الله بن منازل يقول: سئل حمدون: من العلماء؟ قال: المستعملون لعلمهم، والمتهمون آراءهم، والمقتدون بسير السلف، والمتبعون لكتاب

ص: 231

الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لباسهم الخشوع، وزينتهم الورع، وحليتهم الخشية، وكلامهم ذكر الله، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وصمتهم تفكر في آلاء الله ونعمه. نصيحتهم للخلق مبذولة، وعيوبهم عندهم مستورة، يزهدون الخلق في الدنيا بالإعراض عنها، ويرغبونهم في الآخرة بالحرص على طلبها. قال: وتسفه عليه رجل فسكت حمدون وقال: يا أخي لو نقصتني كل نقص لم تنقصني كنقصي عندي. ثم قال: تسفه رجل على إسحاق الحنظلي فاحتمله وقال: لأي شيء تعلمنا العلم؟ وقال: أنت عبد ما لم تطلب من يخدمك، فإذا طلبت خادما خرجت من العبودية. وقال: للخلق في يوسف عليه السلام آيات، وليوسف في نفسه آية وهي أعظم الآيات: معرفته بمكر النفس وخدعها حين قال: {(إن النفس لأمارة بالسوء)} وقال: قد أخبر الله تعالى عن حقيقة طباع الخلق فقال: «لو ملكتم ما أملكه من فنون الرحمة وخزائن الخير لغلب عليكم سوء طباعكم في الشح والبخل» . وذلك في قوله تعالى: {(قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق، وكان الإنسان قتورا)}

• أسند الحديث: حدثنا أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن فضلويه النيسابوري ثنا عبد الله بن محمد بن منازل ثنا حمدون بن أحمد القصار ثنا إبراهيم الزراع ثنا ابن نمير عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله عن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وأين وضعه، وعن علمه ما عمل فيه» .

‌محمد بن الفضل

قال الشيخ: ومن حكماء المشرق من المتأخرين جماعة منهم أبو عبد الله محمد بن الفضل بن العباس. بلخي الأصل، سكن سمرقند. صحب أحمد بن خضرويه المروزي. وسمع الحديث الكثير من قتيبة بن سعيد ومن في طبقته.

• سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الرازي - بنيسابور - يقول سمعت محمد بن

ص: 232

الفضل يقول: الرحمن هو المحسن إلى البر والفاجر. وقال: ذهاب الإسلام من أربعة: أولها لا يعملون بما يعلمون. والثاني يعملون بما لا يعلمون.

والثالث لا يتعلمون ما لا يعلمون. والرابع يمنعون الناس من التعلم. وقال:

الدنيا بطنك، فبقدر زهدك في بطنك زهدك في الدنيا. وقال: العجب ممن يقطع الأودية والمفاوز والقفار ليصل إلى بيته وحرمه، لأن فيه آثار أنبيائه، كيف لا ينقطع نفسه وهواه حتى يصل إلى قلبه فإن فيه آثار مولاه؟.

• سمعت محمد بن الحسين يقول قال محمد بن الفضل: أنزل نفسك منزلة من لا حاجة له فيها ولا بد له منها، فإن من ملك نفسه عز، ومن ملكته نفسه ذل.

وقال محمد بن الفضل: ست خصال يعرف بها الجاهل: الغضب في غير شيء، والكلام في غير نفع، والعظة في غير موضعها، وإفشاء السر والثقة بكل أحد، ولا يعرف صديقه من عدوه. وقال: العارف يدافع عيشه يوما بيوم، ويأخذ عيشه يوما بيوم.

• أسند الحديث:

أخبرنا محمد بن الحسين ثنا علي بن القاسم الخطابي ثنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الزاهد - بسمرقند - ثنا قتيبة بن سعيد ثنا الليث ابن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . صحيح ثابت أخرجه مسلم عن قتيبة

• حدثنا أبو عمرو بن حمدان ثنا الحسن بن سفيان ثنا قتيبة بن سعيد مثله سواء.

‌محمد بن علي الترمذي

ومنهم أبو عبد الله الترمذي محمد بن علي بن الحسن

صحب أبا تراب النخشبي ولقي يحيى بن الجلاء. له التصانيف المشهورة.

كتب الحديث. مستقيم الطريقة. يرد على المرجئة وغيرها من المخالفين.

تابع للآثار.

• حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد العثماني ثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال

ص: 233

حدثني أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي قال: نور المعرفة في القلب وإشراقه في عيني الفؤاد في الصدر، فبذكر الله يرطب القلب ويلين. وبذكر الشهوات واللذات يقسو القلب وييبس. فإذا شغل القلب عن ذكر الله بذكر الشهوات كان بمنزلة شجرة إنما رطوبتها ولينها من الماء، فإذا منعت الماء يبست عروقها وذبلت أغصانها، وإذا منعت السقي وأصابها حر القيظ يبست الأغصان، فإذا مددت غصنا منها انكسر، فلا يصلح إلا للقطع فيصير وقود النار. فكذلك القلب إذا يبس وخلا من ذكر الله فأصابته حرارة النفس ونار الشهوة وامتنعت الأركان من الطاعة، فإذا مددتها انكسرت، فلا تصلح إلا أن تكون حطبا للنار. وإنما يرطب القلب بالرحمة، وما من نور في القلب إلا ومعه رحمة من الله بقدر ذلك. فهذا هو الأصل. والعبد ما دام في الذكر فالرحمة دائمة عليه كالمطر، فاذا قحط فالصدر فى ذلك الوقت كالسنة الجدباء اليابسة (وحريق الشهوات فيها كالسمائم، والأركان معطلة عن أعمال البر فدعا الله الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمة منه عليهم، وهيأ لهم فيها ألوان العبادة لينال العبد من كل قول وفعل شيئا من عطاياه. والأفعال كالأطعمة والأقوال كالأشربة، فهي عرس الموحدين هيأها رب العالمين لأهل رحمته في كل يوم خمس مرات، حتى لا يبقى عليهم دنس ولا غبار. فإن الله اختار الموحدين ليباهي بهم يوم الجمع الأكبر في تلك العرصات الملائكة، لأن آدم وولده ظهر خلقهم من يده بالمحبة، والملائكة ظهر خلقهم من القدرة، لقوله: كن فكان. فمن محبته للآدميين يفرح بتوبتهم.

خلقهم والشهوات والشياطين في دار الابتلاء، ليباهي بهم في ذلك الجمع ويقول يا معشر ملائكتي إن محاسنكم خرجت منكم، ومن النور خلقتكم، وأنتم في أعالي المملكة تعاينون عظمتي وحجتي وسلطاني، وقد عريتم من الشهوات والشياطين والآدميون خرجت منهم هذه المحاسن من نفوسهم الشهوانية، والشياطين قد أحاطت بهم في أداني المملكة، ومن التراب خلقتهم، فلذلك استوجبوا مني داري وجواري.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت منصور بن عبد الله

ص: 234

يقول قال محمد بن علي الترمذي: كفى بالمرء عيبا أن يسره ما يضره. وقال محمد:

ليس في الدنيا حمل أثقل من البر، لان من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت الحسن بن علي يقول سمعت محمد بن علي الترمذي يقول: من جهل أوصاف العبودية فهو بنعوت الربوبية أجهل. وقال: الدنيا عروس الملوك، ومرآة الزهاد، أما الملوك فتجملوا بها، وأما الزهاد فنظروا إليها وأبصروا آفتها فتركوها. قال: وسئل محمد بن علي عن الخلق فقال: ضعف ظاهر، ودعوى عريضة وقال: اجعل مراقبتك لمن لا يغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.

• أخبرنا محمد بن الحسين بن موسى ثنا يحيى بن منصور القاضي ثنا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي ثنا محمد بن رزام الآبلي ثنا محمد بن عطاء عن الهجيمي ثنا محمد بن نصر عن عطاء عن ابن عباس. قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {(رب أرني أنظر إليك)} قال: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات. ولا يابس إلا تدهده، ولا رطب إلا تفرق. إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم» .

‌أبو بكر الوراق

ومنهم الحكيم أبو بكر محمد بن عمر الوراق البلخي. له الكتب في المعاملات.

• أسند الحديث -

حدثني محمد بن الحسين قال سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت أبا بكر بن أحمد بن سعيد يقول سمعت أبا بكر الوراق يقول:

شكر النعمة مشاهدة المنة.

• أخبر محمد قال سمعت أبا الحسين يقول سمعت أحمد بن مزاحم يقول سمعت أبا بكر الوراق يقول: للقلب ستة أشياء: حياة، وموت، وصحة، وسقم، ويقظة، ونوم. فحياته الهدى، وموته الضلالة، وصحته الطهارة

ص: 235

والصفاء، وعلته الكدورة والعلاقة، ويقظته الذكر، ونومه الغفلة. ولكل واحد من ذلك علامة، فعلامة الحياة الرغبة والرهبة والعمل بها. والميت بخلاف ذلك. وعلامة الصحة اللذة، والسقم بخلاف ذلك. وعلامة اليقظة السمع والبصر، والنائم بخلاف ذلك.

• حدثنا أبو بكر الرازي قال سمعت غيلان السمرقندي يقول سمعت أبا بكر الوراق يقول: من اكتفى بالكلام دون الزهد تزندق، ومن اكتفى بالزهد دون الكلام والفقه ابتدع. ومن اكتفى بالفقه دون الزهد والورع تفسق. ومن تفنن في هذه الأمور كلها تخلص. قال: ودخل على أبي بكر الوراق رجل فقال: إني أخاف من فلان. فقال: لا تخف منه، فإن قلب من تخافه بيد من ترجوه.

• أخبر محمد بن موسى النجيدي قال سمعت أبا بكر بن أحمد البلخي يقول سمعت أبا بكر الوراق يقول: لو قيل للطمع: من أبوك؟ قال: الشك في المقدور. ولو قيل: ما حرفتك؟ قال اكتساب الذل. ولو قيل: ما غايتك قال: الحرمان. وقال أبو بكر: العبد لا يستحق اليقين حتى يقطع كل سبب بينه وبين العرش إلى الثرى حتى يكون الله مراده لا غيره، ويؤثر الله على ما سواه. واليقين نور يستضئ به العبد فى أحواله فببلغه إلى درجات المتقين.

• أسند الحديث -

أخبرنا محمد بن الحسين بن موسى ثنا علي بن الحسن البلخي ثنا محمد بن محمد بن حاتم ثنا أبو بكر محمد بن عمر الوراق البلخي ثنا أبو عمران موسى بن حزام الترمذي ثنا أبو أسامة عن عمر بن حمزة عن عبد الرحمن ابن أبي سعيد عن أبي سعيد الخدري. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الأمانة عند الله الرجل يفضى إلى امرأته وتفضى إليه ثم لا ينشر سرها» .

• [حدثنا أبو بكر الطلحي ثنا عبيد بن غنام ثنا أبو بكر بن شيبة ثنا عمر ابن معاوية عن عمر بن حمزة العمري ثنا عبد الرحمن بن سعد مولى آل بني سفيان قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن

ص: 236

من شرار الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته وتفضى إليه ثم ينشر سرها»].

‌شاه الكرماني

ومنهم أبو الفوارس الكرماني شاه بن شجاع.

تعرى من الأغراض، تحرزا من الاعرض، كان من أبناء الملوك وتشمر للسلوك تخفف للاستباق متحققا بالاشتياق.

صحب أبا تراب النخشبي وأبا عبيد البسري. كان ظريفا في الفتوة، عريفا في المروءة.

• سمعت أبا الفضل الصرام الهروي يقول سمعت أبا عمرو بن نجيد يقول قال شاه الكرماني: شغل العارف بثلاثة أشياء: بالنظر إلى معبوده مستأنسا به ملاحظا لمننه وفوائده، شاكرا له معترفا به، ومنيبا تائبا إليه.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت أبا علي الأنصاري يقول قال شاه الكرماني: من عرف ربه طمع في عفوه ورجا فضله. وقال: الفتوة من طباع الأحرار، واللؤم من شيم الأنذال. وما تعبد متعبد بأكثر من التحبب إلى أولياء الله بما يحبون، لأن محبة أولياء الله دليل على محبة الله.

• سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول:

كان شاه الكرماني بن شجاع حاد الفراسة، وقلما أخطأت فراسته، وكان يقول من شخص بصره عن المحارم وأمسك عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال لم تخطئ فراسته.

قال وكان يقول: من نظر إلى الخلق بعينه طالت خصومته معهم، ومن نظر إليهم بعين الله عذرهم فيما هم فيه، وقل اشتغاله بهم.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول سمعت محفوظا يقول: كان شاه يأمر أصحابه أن يظهروا له ما يجري على سرهم، ثم كان يداوي كل واحد منهم بدوائه ويقول: ليس بعاقل من كتم الطبيب علته.

ص: 237

• سمعت أحمد بن أبي عمران الهروي يقول سمعت ابن النجيد يقول قال شاه الكرماني: من صحبك ووافقك على ما تحب وخالفك فيما يكره فإنما يصحب هواه. ومن صحب هواه فهو يطلب راحة الدنيا.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا عمرو بن نجيد يقول قال شاه الكرماني: علامة الركون إلى الباطل التقرب إلى المبطلين.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت الحسين الفارسي يقول سمعت أبا علي الأنصاري يقول سمعت شاه بن شجاع يقول: الفضل لأهل الفضل ما لم يروه، فإذا رأوه فلا فضل لهم. والولاية لأهل الولاية ما لم يروها فإذا رأوها فلا ولاية لهم. وقال: المعجب بنفسه محجوب عن ربه.

• ذكر لي أبو عامر عبد الوهاب بن محمد عن أبي عبد الله محمد بن أحمد قال: كنت عند سهل بن عبد الله جالسا فسقطت بيننا حمامة فجعلت أنحيها.

فقال سهل أطعمها واسقها، فقمت ففتت لها خبزا ووضعت لها ماء، فلقطت الخبز وسقطت على الماء فشربت ومضت طائرة. فقلت لسهل: أي شيء هذا الطير؟ فقال لي: يا أبا عبد الله! مات أخ لى بكرمان فجاءت هذه تعزيني به.

قال أبو عبد الله: وأظنه ذكر شاه بن شجاع وكان من الأبدال. فكتبت تاريخ اليوم والوقت فقد قوم من أهل كرمان فغزونا فيه، وذكروا أنه مات في اليوم والوقت الذي سقطت عندنا الحمامة. وأنشد أبو عامر قال: أنشدنى عبد الله الاقرقوهى لشاه بن شجاع:

والله ما الله يبدو لكم وبكم

والله والله ما هذا هو الله

فهذه أحرف تبدو لكم وبكم

إذا تمعنيت معناها هو الله.

‌يوسف الرازي

ومنهم المتخلي من رؤية الناس، المتحلي بالإخلاص خيفة رب الناس، تارك للتزين والتصنع، مفارق للتلون والتمتع، أبو يعقوب يوسف بن لحسين الرازي.

كان وحيدا فريدا، وعلى المتنطعين شديدا. صحب ذا النون المصري،

ص: 238

وأبا تراب النخشبي، وأبا سعيد الخزاز

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول سمعت أبا جعفر الرازي يقول سمعت يوسف بن الحسين يقول: علم القوم بأن الله يراهم فاستحيوا من نظره أن يراعوا شيئا سواه، ومن ذكر الله بحقيقة ذكره نسي ذكر غيره، ومن نسي ذكر كل شيء في ذكره حفظ عليه كل شيء. إذ كان الله له عوضا من كل شيء. قال وقال رجل ليوسف: دلني على طريق المعرفة، فقال: أر الله الصدق منك في جميع أحوالك بعد أن تكون موافقا للحق، ولا ترق إلي حيث لم يرق بك فتزل قدمك، فإنك إذا رقيت سقطت، وإذا رقي بك لم تسقط. وإياك أن تترك اليقين لما ترجوه ظنا.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول قال يوسف ابن الحسين: عارضني بعض الناس في كلام وقال لي: لا تستدرك مرادك من علمك إلا أن تتوب. فقلت مجيبا له: لو أن التوبة تطرق بابي ما أذنت لها على أني أنجو بها من ربي. ولو أن الصدق والإخلاص كانا لي عبدين لبعتهما زهدا مني فيهما، لأني إن كنت عند الله في علم الغيب سعيدا مقبولا لم أتخلف باقتراف الذنوب والمآثم وإن كنت عنده شقيا مخذولا لم تسعدني توبتي وإخلاصي وصدقي. وإن الله تعالى خلقني إنسانا بلا عمل ولا شفيع كان لي إليه، وهداني لدينه الذي ارتضاه {(ويتبع غير سبيل المؤمنين)} الآية {(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)} الآية. فاعتمادي على فضله وكرمه أولى بي - إن كنت حرا عاقلا - من اعتمادي على أفعالي المدخولة، وصفاتي المعلولة، لأن مقابلة فضله وكرمه بأفعالنا من قلة المعرفة بالكريم المتفضل.

• سمعت أبا بكر الرازي بنيسابور يقول قال يوسف بن الحسين: في الدنيا طغيانان: طغيان العلم، وطغيان المال. والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال الزهد فيه. وقال: بالأدب يفهم العلم، وبالعلم يصح العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة يفهم الزهد ويوفق له، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا يرغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة ينال رضا الله عز وجل.

ص: 239

• سمعت أبا بكر الرازي يقول قال يوسف بن الحسين: إذا رأيت الله قد أقامك لطلب شيء وهو يمنعك ذلك فاعلم أنك معذب. وقال: يتولد الإعجاب بالعمل من نسيان رؤية المنة فيما يجري الله لك من الطاعات.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت أبا بكر الرازى يقول قال يوسف ابن الحسين: نظرت في آفات الخلق فعرفت من أين أوتوا. ورأيت آفة الصوفية في صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد وإرفاق النسوان.

• سمعت أبا الفضل أحمد بن أبي عمران الهروي يقول سمعت منصور بن عبد الله الهروي يقول سمعت يتيمك الرازي يقول: لما ورد كتاب يوسف بن الحسين على الجنيد اشتهيت أن أراه - من حسن كلامه - فخرجت من بغداد زائرا له، فلما جئت الري سألت عن دار يوسف فقالوا: أيش تعمل به؟ هو رجل زنديق. فسألت حتى دللت عليه، فدخلت عليه، فلما وقعت عيني عليه امتلأت هيبة من رؤيته - وكان بين يديه مصحف يقرأ فيه - فسلمت عليه فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من بغداد. قال: وإلى أي شيء جئت؟ قلت:

زائرا إليك. فقال لي: لو قال لك بحلوان أو بقرميسين أو بهمدان رجل تقيم عندي حتى أقوم بكفايتك، فأشتري لك جارية ودارا كان ذلك يمنعك من زيارتي؟ قلت: ما ابتليت بشيء من هذا، ولو كان بدا لي لا أدري كيف كنت في ذلك الوقت. قال: أعيذك بالله، أنت كيس، عسى تقول شيئا قلت: نعم. قال: غن لى. فابتدأت فقلت:

رأيتك تبني دائبا في قطيعتي

ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبنى

كأني بكم واللبث أفضل قولكم

ألا ليتنا نبني إذا اللبث لا يغني

قال: فبكى حتى ابتل المصحف الذي بين يديه ثم قال: يا بني ألوم أهل الري أن يقولوا: يوسف بن الحسين زنديق، أنا من الغداة أقرأ في كتاب الله ولا أبكي. وقلت أنت ذين البيتين، أبصر أي شيء وقع.

• سمعت أبا الحسن علي بن هارون صاحب الجنيد يقول: قرأت في جواب يوسف بن الحسين إلى الجنيد: من تفتت عذاره، وانقطع حزامه

ص: 240

وساح في مفاوز الخطرات يلاحظ عنها أحكام السعادات يقول فى حدائه:

كيف السبيل إلى مرضات من غضبا

من غير جرم ولم نعرف له سببا

وأقول:

لتعرف نفسي قدرة الخالق الذي

يدبر أمر الخلق وهو شكور

وأشكركم في السر والجهر دائبا

وإن كان قلبى فى الوثاق أسير.

قال: وسمعت أحمد بن أبي الحواري يقول سمعت أبا سليمان الداراني يقول:

ليس أعمال الخلق بالذي ترضيه ولا تسخطه، إنما رضي عن قوم فاستعملهم باعمال الرضى، وسخط على قوم فاستعملهم بأعمال السخط. وإني ربما تمثلت بهذه الأبيات:

يا موقد النار في قلبي بقدرته

لو شئت أطفأت عن قلبى بك النار

لا عار إن مت من شوقي ومن حزني

على فعالك بى لا عار لا عارا.

قال: وسمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم يقول: من جهل قدره هتك ستره.

• سمعت أبا عمرو العثماني يقول أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى قال سمعت يوسف بن الحسين يقول سمعت ذا النون يقول تكلمت خدع الدنيا على ألسنة العلماء، وأماتت قلوب القراء فتن الدنيا، فلست ترى إلا جاهلا متحيرا، أو عالما مفتونا، فيا من جعل سمعي وعاء لعلم عجائبه، وقلبي منبعا لذكره، ويا من من علي بمواهبه اجعلني بحبلك معتصما، وبجودك متمسكا، وبحبالك متصلا.

وأكمل نعمتك عندي بدوام معرفتك في قلبي، كما أكملت خلقى، وسددنى للتي تبلغني إليك، واجعل ذلك مضموما إلى نعمائك عندي، واهدني للشكر حتى أعلم مكان الزيادة منك في قلبي، ولا تنزع محبتك من قلبي يا ذا الجلال والإكرام والجمال والنور والبهاء. والحمد لله أولا وآخرا.

• حدثنا عثمان بن محمد ثنا أحمد بن محمد بن عيسى ثنا يوسف بن الحسين قال: سألت ذا النون: من أجالس؟ قال: جالس من الناس من تقهرك هيبته وتخوفك في السر والعلانية رؤيته، ويخبرك عن نفسك بالذي هو أعلم به منك.

ص: 241

ونحو هذا. إلا أن كلامه دلني على مجالسة من تقع علي هيبته. قال يوسف:

وقيل لذي النون: أين مجلس الآمنين؟ فقال: في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

قال يوسف: وسألت ذا النون يوما من الأيام: من أصحب؟ قال: لا تصحب من ينخدع بغيرك. قال يوسف: فعرضت هذه الكلمة على طاهر المقدسي فقال: نهاك عن صحبة الخلائق بأسرها. قال وسمعت يوسف يقول: زار ذو النون أخا له في شقة بعيدة، فقال ذو النون: ما بعد طريق أدى إلى صديق، ولا ضاق مكان من حبيب. قال وسمعت ذا النون وقيل له: مالك إذا رأيت العاصي لا تحقد عليه، وتقبح فعله وتهجره؟ فقال: لأني أنظر إلى الصانع في الصنع فيهون علي المصنوع. قال وسمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت الفتح بن شخرف يقول قال لي ذو النون: من قطع الآمال من الخلق وصل إلى الخالق. ولن يصل عبد إلى محبوبه دون قطع الآمال ممن دونه، فمن أحب لقاء الله فليرم بكنفه عنده، وليخلص وليشمر وليصبر ويرضى ويستسلم مخاطرا بنفسه فتؤديه مخاطرة نفسه إلى نفسه. قال وسمعت يوسف بن الحسين يقول: حدثني محمد بن يحيى السرخسي الناسك قال: سمعت أبا يزيد البسطامي يقول: الحب لله على أربعة فنون: ففن منه وهو منته. وفن منك وهو ودك. وفن له، وهو ذكرك له. وفن بينكما وهو العشق. قال يوسف:

فذكرت ذلك لذي النون فقال: هذا الكمال. الزاهد يقول: كيف أصنع؟ والعارف يقول: كيف يصنع بي؟ ثم قال: تاه القوم في جماله وجلاله. قال: وسمعت يوسف بن الحسين يقول قال ذو النون: مقامات الرجال تسعة عشر مقاما أولها الإجابة، وأعلاها التوكل. وقال ذو النون: الناس أعداء ما جهلوا، وحساد ما منعوا من جهل قدره هتك ستره. قال: وأتاه رجل يوما فقال: يا أبا الفيض أوصني فقال: بم أوصيك؟ إن كنت ممن قد أيدت منه في علم الغيب بصدق التوحيد فقد سبق لك قبل أن تخلق إلى يومنا هذا دعاء النبيين والمرسلين والصديقين وذلك خير من وصيتي. وإن يكن غير ذلك فلن ينفعك النداء. قال وسمعته يقول: استعبدنا بالعناء فلا بد من الانقياد له. قال: وسئل: لم أحب الناس

ص: 242

الدنيا؟ قال: لأن الله تعالى جعل الدنيا خزانة أرزاقهم، فمدوا أعينهم إليها.

قال: الحبيب يسبق الاغتفار قبل الاعتذار. وقال: من يسكن قلبك عليه فلا تفش سرك إليه. وسئل: من دون الناس غما؟ قال أسوؤهم خلقا. قيل: وما علامة سوء الخلق؟ قال: كثرة الخلاف. وقال: صدور الأحرار قبور الأسرار. وسئل يوما أفيم يجد العبد الخلاص؟ قال: الخلاص في الإخلاص، فإذا أخلص تخلص. قيل: فما علامة الإخلاص؟ قال: إذا لم يكن في عملك محبة حمد المخلوقين ولا مخافة ذمهم فأنت مخلص إن شاء الله.

• أسند الحديث

• حدثنا عثمان بن محمد ثنا أبو الحسين الصوفي محمد بن عبد الله الرازي - بدمشق - حدثني أبو يعقوب يوسف بن الحسين الصوفي الرازي ثنا أحمد بن حنبل ثنا مروان بن معاوية ثنا هلال بن سعيد أبو المعلى عن أنس بن مالك قال: «أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم طوائر ثلاث فأكل طيرا واستخبأ خادمه طيرين فردهما عليه من الغد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم أنهك أن ترفع شيئا لغد؟ إن الله يأتي برزق كل غد» . قال يوسف: كنت أتيت أبا عبد الله في أيام المتوكل فسألني عن بلدي وقال: ما حاجتك، وفي أي شيء جئت إلي؟ فقلت: لتحدثني. فقال:

أما بلغك أني قد أمسكت عن الحديث؟ فقلت بلى ولكن حدثني بشيء أذكرك به، وأترحم عليك. فحدثني بهذا الحديث، ثم قال: هذا من بايتك يا صوفي.

تسألني عن شيوخ الري، فقال: إيش خبر أبي زرعة حفظه الله؟ فقلت:

يخير. فقال: خمسة أدعو الله لهم في دبر كل صلاة: أبواي، والشافعي، وأبو زرعة، وآخر ذهب عني اسمه.

قال الشيخ: وحدث بهذا الحديث عن يوسف بن الحسين شيخنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم - فيما أملاه - ثنا يوسف بن الحسين الرازي الصوفي ثنا أحمد بن حنبل بإسناده مثله، ولم يذكر الكلام.

• حدثنا أبو محمد بن حيان - إملاء - ثنا أحمد بن عصام الرازي حدثني يوسف بن الحسين ثنا عامر بن سيار ثنا محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: من اشترى ما لا يحتاج إليه أوشك أن يبيع ما يحتاج إليه.

ص: 243

‌سعيد بن إسماعيل

ومنهم العارف الفاصح. والعابد الناصح. كان بالحكم منطيقا فصيحا وللمريدين شفيقا نصيحا، علمهم الآداب الرفيعة ونبههم على ملازمة الشريعة. كان إلى موافقة الحق مجذوبا وعن حظوظ النفس مطهر مسلوبا، أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد الحيري.

رازي المولد، خرج زائرا إلى أبي حفص النيسابوري مع شيخه شاه الكرماني فقبله أبو حفص وحسه عنده، وصار له سكنا، وعلى ابنته ختنا.

كان حميد الأخلاق. مديد الأرفاق. بقيت بركته وآثاره على أهل نيسابور.

وتوفي بها سنة ثمان وتسعين ومائتين، فيما ذكره لي أبو عمرو بن حمدان، وأنه حضر الصلاة عليه ودفن بمقبرة الحيرة عند قبر أستاذه أبي حفص النيسابوري، وزرت قبريهما سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.

• سمعت أبا عمرو بن حمدان يقول سمعت أبا عثمان الحيري يقول: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لقوله تعالى {(وإن تطيعوه تهتدوا)} .

• سمعت عبد الله بن محمد المعلم - صاحب الخان - يقول سمعت أبا عمر بن نجيد يقول قال محمد بن الفضل البلخي: إن الله تعالى زين أبا عثمان بفنون عبوديته وأبرزه للناس ليعلمهم آداب العبودية.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت جدي أبا عمر بن نجيد يقول سمعت أبا عثمان يقول: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخطته.

• سمعت محمد بن أحمد بن عثمان يقول سمعت أبا عثمان يقول: موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم.

• سمعت أبا عمرو بن حمدان يقول: قرأت بخط أبي أحمد بن حمدان:

سمعت أبا عثمان يقول: صلاح القلب من أربع خصال: التواضع لله، والفقر إلى الله، والخوف من الله [والرجاء لله. قال: وسمعت أبا عثمان يقول: لا يكمل

ص: 244

الرجل حتى يستوي قلبه في أربعة أشياء. في المنع، والعطاء، والعز والذل.

قال وسمعت أبا عثمان يقول: أهل العداوة من ثلاثة أشياء: من الطمع في المال، والطمع في إكرام الناس والطمع في قبول الناس. قال وسمعت أبا عثمان يقول: الخوف من الله] يوصلك إلى الله، والكبر والعجب في نفسك يقطعك عن الله، واحتقار الناس في نفسك مرض لا يداوى. وقال أبو عثمان: سرورك بالدنيا أذهب سرورك بالله عن قلبك. وخوفك من غير الله أذهب خوفك من الله عن قلبك. ورجاؤك ممن دونك أذهب رجاءك له عن قلبك. وقال أبو عثمان: حق لمن أعزه الله بالمعرفة أن لا يذل نفسه بالمعصية. وقال أبو عثمان:

أصل التعلق بالخيرات قصور الأمل. وقال أبو عثمان: أنت مسجون ما تبعت مرادك وشهوتك. فإذا فوضت وسلمت استرحت.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله الرازي يقول: لما تغير الحال على أبي عثمان وقت وفاته مزق ابنه أبو بكر قميصا كان عليه، ففتح أبو عثمان عينيه وقال: يا بنى خلاف السنة فى الظاهر رياء باطن في القلب.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن أحمد الملامتي يقول سمعت الحسين الوراق

(1)

يقول: سألت أبا عثمان عن الصحبة فقال: الصحبة مع الله عز وجل بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة. والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، ولزوم ظاهر العلم. والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والحرمة. والصحبة مع الأهل والولد بحسن الخلق. والصحبة مع الإخوان بدوام البشر والانبساط ما لم يكن إثما. والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم والرحمة عليهم. ورؤية نعمة الله عليك أن عافاك مما ابتلاهم به.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت محمد بن أحمد بن يوسف يقول سمعت أبا عثمان يقول: تعززوا بعز الله كي لا تذلوا. وقال أبو عثمان: العاقل من تاهب للمخاوف قبل وقوعها. والتفويض ردما جهلت علمه إلى عالمه. والتفويض مقدمة للرضا، والرضا باب الله

(1)

سقط من ز

ص: 245

الأعظم. والذكر الكثير أن تذكره في ذكرك له أنك لم تصل إلى ذكره إلا به وبفضله.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول سمعت أبا الحسين الوراق يقول سئل أبو عثمان: كيف يستجيز للعاقل أن يزيل للأئمة عمن يظلمه؟ قال: ليعلم أن الله سلطه عليه. وقال محفوظ: سئل أبو عثمان:

ما علامة السعادة والشقاوة؟ فقال: علامة السعادة أن تطيع الله وتخاف أن تكون مردودا. وعلامة الشقاوة أن تعصي الله وترجو أن تكون مقبولا.

أسند الحديث: فمن مسانيد حديثه:

• أخبرنا محمد بن الحسين ثنا سعيد بن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل قال: وجدت في كتاب جدي أبي عثمان بخطه: حدثني أبو صالح حمدون القصار صاحب أبي محمد بن يحيى النيسابوري ثنا قتيبة بن سعيد ثنا عبثر عن أشعث عن محمد عن نافع عن ابن عمر. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«من مات وعليه صوم شهر رمضان أطعم عنه وليه كل يوم مسكينا» .

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا عبدان بن محمد المروزي ثنا قتيبة بن سعيد ثنا عبثر بن القاسم عن أشعث بن سوار عن محمد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر يوما من رمضان فمات قبل أن يقضيه فعليه بكل يوم مد لمسكين» . قال سليمان: لم يروه عن أشعث إلا عبثر. ومحمد الذي يروي عنه أشعث هذا الحديث: محمد بن سيرين. وقيل محمد بن أبى ليلى.

‌أحمد بن عيسى

• ومنهم العارف المعروف الكامل. بالبيان موصوف. له الكتب المذكورة والأجوبة المشهورة. أبو سعيد الخزاز أحمد بن عيسى.

صحب ذا النون ونظراءه. انتشرت بركاته على أصحابه ومتبعيه. سيد من تكلم في علم الفناء والبقاء.

ص: 246

• سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول ثنا العباس بن أحمد الرملى قال قال أبو سعيد الخزاز: المعرفة تانى القلب من وجهين: من عين الجود، ومن بذل المجهود.

• سمعت أبا الحسن علي بن عبد الله الجهضمي يقول سمعت يحيى بن المؤمل يقول سمعت شيخي أبا بكر الدقاق يقول سمعت أحمد بن عيسى يقول: فارقوا الأشياء على الإحكام والوداع تفرغ قلوبكم لما تستقبلون، فإنه من فارق شيئا ولم يحكمه فإنه راجع إليه وقتا لا محالة، لما بقي عليه منه. وفيما تستقبلون شغل عما تخلفون.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت عمر بن علي الفرغاني يقول سمعت ابن الكاتب يقول سمعت أبا سعيد الخزاز يقول: إن الله عجل لأرواح أوليائه التلذذ بذكره، والوصول إلى قربه. وعجل لأبدانهم النعمة بما نالوه من مصالحهم، وأجزل لهم نصيبهم من كل كائن، فعيش أبدانهم عيش الجانين وعيش أرواحهم عيش الربانيين. لهم لسانان، لسان في الباطن يعرفهم صنع الصانع في المصنوع. ولسان في الظاهر يعلمهم علم المخلوقين. فلسان الظاهر يكلم أجسامهم. ولسان الباطن يناجي أرواحهم.

• سمعت أبا الفضل الهروي سمعت أبا بكر الدقاق يقول: انتبه يوما أبو سعيد الخزاز من غفوته وقال: اكتبوا ما وقع لي في هذه الغفوة: إن الله جعل العلم دليلا عليه ليعرف. وجعل الحكمة رحمة منه عليهم ليؤلف. فالعلم دليل إلى الله، والمعرفة دالة على الله، فبالعلم تنال المعلومات، وبالمعرفة تنال المعروفات. والعلم بالتعلم، والمعرفة بالتعرف. فالمعرفة تقع بتعريف الحق. والعلم يدرك بتعريف الخلق، ثم تجري الفوائد بعد ذلك.

• سمعت أبا الفضل الطوسي يقول سمعت غلام الدقاق يقول سمعت أبا سعيد السكري يقول سمعت أبا سعيد الخزار يقول: كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول سمعت

ص: 247

محمد بن علي الكتاني يقول سمعت أبا سعيد الخزاز يقول: للعارفين خزائن أودعوها علوما غريبة، وأنباء عجيبة، يتكلمون بها بلسان الأبدية، ويخبرون عنها بعبارة الأزلية.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت علي بن عبد الله يقول سمعت أبا العباس الطحان يقول قال أبو سعيد الخزاز: المحب يتعلل إلى محبوبه بكل شيء، ولا يتسلى عنه بشيء، ويتبع آثاره ولا يدع استخباره وأنشدنا:

أسائلكم عنها فهل من مخبر

فما لي بنعم مذ نأت دارها علم

فلو كنت أدري أين خيم أهلها

وأي بلاد الله إذ ظعنوا أموا

إذا لسلكنا مسلك الريح خلفها

ولو أصبحت نعم ومن دونها النجم

• سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول ثنا أبو بكر الكتاني وأبو الحسن الرملي قالا: سألنا أبا سعيد الخزاز فقلنا: أخبرنا عن أوائل الطريق إلى الله.

فقال: التوبة وذكر شرائطها، ثم ينقل من مقام التوبة إلى مقام الخوف.

ومن مقام الخوف إلى مقام الرجاء، ومن مقام الرجاء إلى مقام الصالحين.

ومن مقام الصالحين إلى مقام المريدين، ومن مقام المريدين إلى مقام المطيعين ومن مقام المطيعين إلى مقام المحبين، ومن مقام المحبين إلى مقام المشتاقين، ومن مقام المشتاقين إلى مقام الأولياء، ومن مقام الأولياء إلى مقام المقربين.

وذكروا لكل مقام عشر شرائط، إذا عاناها وأحكمها وحلت القلوب هذه المحلة أدمنت النظر في النعمة، وفكرت في الأيادي والإحسان، فانفردت النفوس بالذكر، وجالت الأرواح في ملكوت عزه بخالص العلم به واردة على حياض المعرفة، إليه صادرة، ولبابه قارعة، وإليه في محبته ناظرة. أما سمعت قول الحكيم وهو يقول:

أراعي سواد الليل أنسا بذكره

وشوقا إليه غير مستكره الصبر

ولكن سرورا دائما وتعرضا

وقرعا لباب الرب ذي العز والفخر

فحالهم أنهم قربوا فلم يتباعدوا، ورفعت لهم منازل فلم يخفضوا، ونورت قلوبهم لكي ينظروا إلى ملك عدن بها ينزلون فتاهوا بمن يعبدون،

ص: 248

وتعززوا بمن به يكتفون، حلوا فلم يظعنوا، واستوطنوا محلته فلم يرحلوا، فهم الأولياء وهم العاملون، وهم الأصفياء وهم المقربون، أين يذهبون عن مقام قرب هم به آمنون؟ وعزوا في غرف هم بها ساكنون، جزاء بما كانوا يعملون، فلمثل هذا فليعمل العاملون.

• سمعت أبا عمرو العثماني يقول سمعت أبا الحسن الرازي يقول قال أبو سعيد الخزاز: كل ما فاتك من الله سوى الله يسير، وكل حظ لك سوى الله قليل. وقال: الناس في الفرح بالله على أربع طبقات: إنما هو المعطي والمعطى والإعطاء والعطاء، فمن الناس من فرح بالمعطي، ومنهم من فرح بالمعطى - وهو نفسه - ومنهم من فرح بالإعطاء ومنهم، من فرح بالعطاء. فينبغي أن يكون فرحك في العطاء بالمعطي، ولذتك في اللذات بخالق اللذات، وتنعمك في النعم بالمنعم دون النعم، لأن ذكر النعمة عند ذكر المنعم حجاب، ورؤية النعمة عند رؤية المنعم حجاب.

• أسند الحديث: فمن مسانيده:

• أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس ثنا علي بن محمد المصري ثنا أبو سعيد أحمد بن عيسى الخزاز البغدادي الصوفي ثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري ثنا جابر بن سليم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سوء الخلق شؤم وشراركم أسوؤكم خلقا» .

‌أحمد النوري

ومنهم أبو الحسين أحمد بن محمد المعروف بالنوري أحد الأئمة، له اللسان الجاري بالبيان الشافى عن أسرار المتوجهين إلى الباري، لقي أحمد بن أبي الحواري وصحب سريا السقطي. يعرف بابن البغوي

• سمعت عبد المنعم بن حيان يحكي عن أبي سعيد الأعرابي محنته وغيبته عن إخوانه في أيام محنة غلام الخليل، وأنه أقام بالرقة سنين متخليا عن الإيناس، ثم عاد بعد المدة المديدة إلى بغداد، وفقد أناسه وجلاسه

ص: 249

وأشكاله، وانقبض عن الكلام لضعف في بصره وانحلال في جسمه وقوته.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني ثنا أبو بكر محمد بن حمدان ثنا محمد ابن أحمد أبي سفيان ومحمد بن علي القحطبي قالا: قدم أبو الحسين النوري وكان صوفيا متكلما في بعض قدماته من مكة في غير أوان الحج فخرجنا فاستقبلناه فوق بغداد، فرأينا في وجهه تغيرا، فقلنا: يا أبا الحسين تغير الأسرار من تغير الأبشار. فقال: لا إن الحق تحمل كل كل وثقل عن قلوب أوليائه ثم أنشدنى:

أخرجنى من وطنى كما ترى

صيرنى صيرنى كما ترى.

أسكن قفر الدمن

إذا تغيبت بدا

وإن بدا غيبنى

وافقته حتى إذا

وافقنى خالفنى وقال لا

تشهد ما تشهد أو تشهدني.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول رئي النوري في رجوعه من الحرم ولم يبق منه إلا خاطره. فقال له رجل: هل يلحق الأسرار ما يلحق الصفات؟ فقال: لا، إن الحق أقبل على الأسرار فحملها، وأعرض عن الصفات فمحقها.

ثم أنشأ يقول:

أهكذا صيرنى

أزعجنى عن وطنى

غربنى شردنى

شردنى غربنى

حتى إذا غبت بدا

وإن بدا غيبني

واصلنى حتى إذا

واصلته فاصلنى

يقول لا تشهد ما

تشهد أو تشهدني.

• سمعت عمر البناء - البغدادي بمكة - يحكي لما كانت محنة غلام الخليل ونسب الصوفية إلا الزندقة أمر الخليفة بالقبض عليهم فأخذ في جملة من أخذ النوري في جماعة، فأدخلوا على الخليفة فأمر بضرب أعناقهم، فتقدم النوري مبتدرا إلى السياف ليضرب عنقه، فقال له: السياف: ما دعاك إلى الابتدار إلى القتل من بين أصحابك؟ فقال: آثرت حياتهم على حياتي هذه اللحظة فتوقف السياف والحاضرون عن قتله، ورفع أمره إلى الخليفة. فرد أمرهم إلى قاض القضاء - وكان يلي القضاء يومئذ إسماعيل بن إسحاق - فقدم إليه النوري فسأله عن مسائل في العبادات والطهارة والصلاة. فأجابه ثم قال له:

ص: 250

وبعد هذا لله عباد يسمعون بالله وينظرون بالله ويصدرون بالله، ويردون بالله، ويأكلون بالله، ويلبسون بالله. فلما سمع إسماعيل كلامه بكى بكاء طويلا ثم دخل على الخليفة فقال: إن كان هؤلاء القوم زنادقة فليس في الأرض موحد فأمر بتخليتهم. وسأله السلطان يومئذ من أين يأكلون؟ فقال: لسنا نعرف الأسباب التي يستجلب بها الأرزاق، نحن قوم مدبرون. وقال: من وصل إلى وده أنس بقربه، ومن توصل بالوداد فقد اصطفاه من بين العباد.

• حدثنا أبو الفضل الهروي قال حكى لي عن جعفر بن الزبير الهاشمي أن أبا الحسين النوري دخل يوما الماء فجاء لص فأخذ ثيابه، فبقي فى وسط الماء فلم يلبث إلا قليلا حتى رجع إليه اللص معه ثيابه، فوضعها بين يديه وقد جفت يمينه، فقال النوري: رب قد رد علي ثيابي فرد عليه يمينه فرد الله عليه يده ومضى.

• سمعت أبا الفرج الورثاني يقول سمعت علي بن عبد الرحيم يقول:

دخلت على النوري ذات يوم فرأيت رجليه منتفختين، فسألته عن أمره فقال طالبتني نفسي بأكل التمر فجعلت أدافعها فتأبى علي، فخرجت فاشتريت، فلما أن أكلت قلت لها: قومي حتى تصلي فأبت فقلت لله علي وعلي إن قعدت على الأرض أربعين يوما فما قعدت.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول سمعت أبا الحسين النوري يقول: كان في نفسي من هذه الآيات شيء فأخذت من الصبيان قصبة وقمت بين زورقين وقلت: وعزتك لئن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي. قال: فخرجت لي سمكة فيها ثلاثة أرطال. قال: فبلغ ذلك الجنيد فقال: كان حكمه أن يخرج له أفعى فتلدغه.

• سمعت محمد بن موسى يقول حكى فارس الجمال عن النوري قال: كانت المراقع غطاء على الدر، فصارت مرابل على جيف.

• سمعت أبا الفضل نصر بن أبي نصر الطوسي يقول سمعت علي بن عبد الله

ص: 251

البغدادي يقول سمعت فارسا الجمال يقول: لحق أبا الحسين النوري علة والجنيد علة فالجنيد أخبر عن وجده، والنوري كتم. فقيل للنوري لم تخبر كما أخبر صاحبك؟ فقال: ما كنا نبتلى ببلوى فنوقع عليه الشكوى. ثم أنشأ يقول:

إن كنت للسقم أهلا

فأنت للشكر أهلا

عذب فلم تبق قلبا

يقول للسقم مهلا

فأعيد على الجنيد ذلك، فقال الجنيد: ما كنا شاكين، ولكنا أردنا أن نكشف عن عين القدرة فينا. ثم بدأ يقول:

أجل ما منك يبدو

لأنه عنك جلا

وأنت يا أنس قلبي

أجل من أن تجلا

أفنيتني عن جميعي

فكيف أرعى المحلا

قال. فبلغ ذلك الشبلى. فأنشأ يقول:

محنتى فيك أننى

لا أبالي بمحنتي

يا شفائي من السقام

وإن كنت علتي

تبت دهرا فمذ عرفتك

ضيعت فيك توبتي

قربكم مثل بعدكم

فمتى وقت راحتي.

• سمعت علي بن عبد الله الجهضمي يقول سمعت علي بن عبيد الله الخياط يقول سمعت أبا محمد المرتعش يقول سمعت أبا الحسين النوري يقول - ويوصي بعض أصحابه - عشرة وأي عشرة، احتفظ بهن واعمل عليهن جهدك،.

فأولى ذلك من رأيته يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد علم الشرع فلا تقربن منه. والثانية من رأيته يركن إلى غير أبناء جنسه ويخالطهم فلا تقربن منه. والثالثة من رأيته يسكن إلى الرئاسة والتعظيم له فلا تقربن منه، ولا ترتفق به وإن أرفقك ولا ترج له فلاحا والرابعة. فقير رجع إلى الدنيا إن مت جوعا فلا تقربن منه ولا ترفق به إن أرفقك، فإن رفقه يقسي قلبك أربعين صباحا. والخامسة من رأيته مستغنيا بعلمه فلا تأمن جهله.

والسادسة من رأيته مدعيا حالة باطنة لا يدل عليها، ولا يشهد عليها حفظ ظاهره فاتهمه على دينه. والسابعة من رأيته يرضى عن نفسه ويسكن إلى وقته فاعلم أنه مخدوع، فاحذره أشد الحذر. والثامنة مريد يسمع القصائد ويميل إلى

ص: 252

الرفاهة لا ترجون خيره. والتاسعة فقير لا تراه عند السماع حاضرا فاتهمه، واعلم أنه منع بركة ذلك لتشويش سره، وتبديد همه. والعاشرة من رأيته مطمئنا إلى أصدقائه وإخوانه وأصحابه مدعيا لكمال الخلق بذلك فاشهد بسخافة عقله ووهن ديانته.

• سمعت أبا الحسن يقول حدثني عبد الواحد بن بكر حدثني علي بن عبد الرحيم قال: رأيت أبا الحسن النوري قائما حيال الكعبة يحرك شفتيه كأنه يسأل شيئا ثم أنشأ يقول:

كفى حزنا أني أناديك دائبا

كأني بعيد أو كأنك غائب

وأسأل منك الفضل من غير رغبة

ولم أر مثلي زاهدا فيك راغب.

• سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول قرأت على أبي محمد عبد الله بن محمد الرازي - بنيسابور - عن أبي الحسين النوري قال: أعلى مقامات أهل الحقائق انقطاعهم عن الخلائق، وسبيل المحبين التلذذ بمحبوبهم، وسبيل الراجين التأميل لمأمولهم، وسبيل الفانين الفناء في محبوبهم ومأمولهم، وسبيل الباقين البقاء ببقائه. ومن ارتفع عن الفناء والبقاء فحينئذ لا فناء ولا بقاء. وقال: إن المحبة للمحبوب تتزايد من لطائف المحبوب.

• حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال: قرأت على أبي محمد عبد الله بن محمد الرازي قال أنشدنا النورى.

كادت سرائر سري أن تسر بما

أوليتني من سرور لا أسميه

فصاح للسر سر منك يرقبه

كيف السرور بسر دون مبديه

فظل يلحظه سرا ليلحظه

والحق يلحظني ألا أراعيه

وأقبل السريغنى الكل عن صفتي

وأقبل الحق يغنيني ويغنيه.

• حدثني عثمان بن محمد قال أخبرني أحمد بن الحسين قال سمعت أبا الحسن القناد يقول: كتبت إلى النورى وأنا حديث.

إذا كان كل الكل في النور فانيا

أبن لي عن أي الوجودين أخبر

فأجابني فى الحال.

ص: 253

إذا كنت فيما ليس بالوصف فانيا

فوقتك في الأوصاف عندي تحير.

• حدثنا عثمان بن محمد قال أخبرنا الحسن بن أحمد أبو علي الصوفي قال كتب النوري إلى الجنيد يسأله عن السر ووصفه في شعره ثلاثة أوصاف.

يناجيك سر سائل عن ثلاثة

سرائرهم كتم وإعلانهم ستر

فتى ضاع كتم السر بين ضلوعه

عن إدراكه حتى كان لم يكن سر

فأسبل أستان التخفر صائنا

لكل حديث أن يكون هو السر

فكتام سر مدرك الكتم لم ينل

سوى حد كتم السر من ظنه ذكر

فكاتمه المكنون ثم تكاتمت

جوانحه فالكل من بته صفر

ضنين بما يهواه ما لاح لائح

يقاربه إلا احتمى صوبها الفكر

ومكتتم وافى الضمائر وامتطى

لمودعه جحدا وليس به غدر

لامهم تاج الفخار ذكرته

ومن شربه في حالة المنهل الغمر

فقال الجنيد: والله ما رميت بسري إلى أحدهما لأفضله على الآخر إلا جذبني إليه، وقد أرجأت أمرهما إلى الله.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الرزى يقول سمعت القناد يقول سمعت أبا الحسين النوري يقول: رأيت غلاما جميلا ببغداد فنظرت إليه، ثم أردت أن أردد النظر فقلت له: لم تلبسون النعال الصرارة وتمشون في الطرقات؟ قال: أحسنت أتحسن العلم. ثم أنشأ يقول:

تأمل بعين الحق إن كنت ناظرا

إلى صفة فيها بدائع قاطر

ولا تعط حظ النفس منها لما بها

وكن ناظرا بالحق قدرة فادر

. ومن مسانيد حديثه فيما أخبرنيه محمد بن عمر بن الفضل بن غالب في كتابه وقد لقيته وسمعت منه غير شيء.

• حدثنا محمد بن عيسى الدهقان قال: كنت أمشي مع أبي الحسين أحمد بن محمد النوري المعروف بابن البغوي الصوفي فقلت له: ما الذي تحفظ عن السري السقطي؟ فقال: ثنا السري عن معروف الكرخي عن ابن السماك عن الثوري

ص: 254

عن الأعمش عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قضى لأخيه المسلم حاجة كان له من الأجر كمن خدم الله عمره» قال محمد بن عيسى الدهقان: فذهبت إلى السري السقطي فسألته فقال: سمعت معروف بن فيروز يقول: خرجت إلى الكوفة فرأيت رجلا من الزهاد يقال له السماك فقال: حدثني الثوري عن الأعمش مثله.

‌الجنيد بن محمد الجنيد

ومنهم المربي بفنون العلم المؤيد بعيون الحلم، المنور بخالص الإيقان وثابت الإيمان العالم بمودع الكتاب والعامل بحلم الخطاب، الموافق فيه للبيان والصواب أبو القاسم الجنيد بن محمد الجنيد: كان كلامه بالنصوص مربوطا، وبيانه بالأدلة مبسوطا. فاق أشكاله بالبيان الشافي، واعتناقه للمنهج الكافي، ولزومه للعمل الوافي.

• سمعت أبا الحسن علي بن هارون بن محمد وأبا بكر محمد بن أحمد المفيد يقولان: سمعنا أبا القاسم الجنيد بن محمد غير مرة يقول: علمنا مضبوط الكتاب والسنة، من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به. وكان في أول أمره يتفقه على مذهب أصحاب الحديث مثل أبي عبيد وأبي ثور فأحكم الأصول وصحب الحارث بن أسد المحاسبي وخاله السري بن مفلس فسلك مسلكهما في التحقيق بالعلم واستعماله.

• سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن مقسم يقول سمعت أبا محمد الخواص يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول: كان الحارث بن أسد المحاسبى يجئ إلى منزلنا فيقول: اخرج معي نصحر. فأقول له: تخرجني من عزلتي وأمني على نفسي إلى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات. فيقول: اخرج معي ولا خوف عليك. فأخرج معه فكان الطريق فارغ من كل شيء لا نرى شيئا نكرهه.

فإذا حصلت معه في المكان الذي يجلس فيه قال لي: سلني. فأقول له ما عندي سؤال أسألك فيقول: سلني عما يقع في نفسك فتنثال علي السؤالات فأسأله عنها فيجيبني عليها في الوقت، ثم يمضي إلى منزله فيعملها كتبا. فكنت أقول

ص: 255

للحارث كثيرا: عزلتي وأنسي وتخرجني إلى وحشة رؤية الناس والطرقات؟ فيقول لي: كم تقول أنسي وعزلتي؟ لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا، ولو أن النصف الآخر تاوا عني ما استوحشت لبعدهم.

• قرأت على أبي الحسين محمد بن علي بن حبيش الناقد الصوفي صاحب أبي العباس بن عطاء ببغداد - سنة تسع وخمسين وثلاثمائة من كتابه فأقر به. قلت سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد يقول: إن أول ما يحتاج إليه من عقد الحكمة تعريف المصنوع صانعه، والمحدث كيف كان أحدثه، وكيف كان أوله، وكيف أحدث بعد موته، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدث، فيعرف المربوب ربه، والمصنوع صانعه، والعبد الضعيف سيده، فيعبده ويوحده، ويعظمه ويدل لدعوته، ويعترف بوجوب طاعته، فإن من لم يعرف مالكه لم يعترف بالملك لمن استوجبه، ولم يضف الخلق في تدبيره إلى وليه والتوحيد علمك وإقرارك بأن الله فرد في أوليته وأزليته، لا ثاني معه ولا شيء يفعل فعله، وأفعاله التى أخلصها لنفسه أن يعلم أن ليس شيء يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يسقم ولا يبرى، ولا يرفع ولا يضع، ولا يخلق ولا يرزق، ولا يميت ولا يحيي، ولا يسكن ولا يحرك غيره جل جلاله، فقد سئل بعض العلماء فقيل له: بين التوحيد وعلمنا ما هو. فقال: هو اليقين. فقيل له: بين لنا. فقال هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونها فعل الله وحده لا شريك له، فإذا فعلت ذلك فقد وحدته. وتفسير ذلك أنك جعلت الله واحدا في أفعاله، إذا كان ليس شيء يفعل أفعاله، وإنما اليقين اسم للتوحيد إذا تم وخلص. وإن التوحيد إذا تم تمت المحبة والتوكل وسمي يقينا. فالتوكل عمل القلب، والتوحيد قول العبد، فإذا عرف القلب التوحيد، وفعل ما عرف فقد تم. وقد قال بعض العلماء: إن التوكل نظام التوحيد، فإذا فعل ما عرف فقد جاء بالمحبة واليقين والتوكل، وتم إيمانه، وخلص فرضه لأنك إذا عرفت أن فعل الله لا يفعله شيء غير الله ثم تخاف غيره وترجو غيره لم تأت بالأمر الذي ينبغي فلو عملت ما عرفت لرجوت الله وحده حين عرفت أنه لا

ص: 256

يفعل فعله غيره فالقول فيمن يقصر علم قلبه أنه ناقص التوحيد، لأن القلب مشتغل بالفتنة التى هى آفة التوحيد. قلت: ما هو؟ قال: ظنك أن شيئا يفعل فعل الله، فاسم ذلك الظن فتنة. والفتنة هى الشرك اللطيف. قلت: أو ليس الفتنة من أعمال القلب؟ قال: لا ولكنها داخلة عليه ومفسدة له. قلت: وما هي؟ قال: ظنك بالله، إذ ظننت أن من يشاء يفعل فعله، والكلام في هذا يطول، ولكن من يفهم يقنع باليسير.

• سمعت الحسين بن موسى يقول سمعت أبا نصر الطوسي يقول سمعت عبد الواحد بن علوان يقول سمعت الجنيد يقول فيما يعظني به: يا فتى الزم العلم ولو ورد عليك من الأحوال ما ورد ويكون العلم مصحوبك، فالأحوال تندرج فيك وتنفد، لأن الله عز وجل يقول:{(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)} .

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - فيما كتب إلي - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال: رأيت الجنيد في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في الأسحار.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا الحسين بن الدراج يقول ذكر الجنيد أهل المعرفة بالله وما يراعونه من الأوراد والعبادات، بعد ما ألطفهم الله به من الكرامات فقال الجنيد: العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك.

• أخبر جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه الحسين بن يحيى الفقيه الأسفيعاني قال سمعت الجنيد يقول: الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته، ولزم طريقته، فان طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه. وقرأت على محمد بن علي بن حبيش فقلت سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد يقول: سألت عن المعرفة وأسبابها، فالمعرفة من الخاصة والعامة هي معرفة واحدة، لأن المعروف بها واحد، ولكن لها أول وأعلى، فالخاصة

ص: 257

في أعلاها وإن كان لا يبلغ منها غاية ولا نهاية، إذ لا غاية للمعروف عند العارفين، وكيف تحيط المعرفة بمن لا تلحقه الفكرة، ولا تحيط به العقول، ولا تتوهمه الأذهان، ولا تكفيه الرؤية. وأعلم خلقه به أشدهم إقرارا بالعجز عن إدراك عظمته، أو تكشف ذاته لمعرفتهم بعجزهم عن إدراك من لا شيء مثله، إذ هو القديم وما سواه محدث، وإذ هو الأزلي وغيره المبدأ، وإذ هو الإله وما سواه مألوه، وإذ هو القوي من غير مقو، وكل قوى فبقوته قوي، وإذ هو العالم من غير معلم، ولا فائدة استفادها من غيره، وكل عالم فبعلمه علم. سبحانه الأول بغير بداية، والباقي إلى غير نهاية، ولا يستحق هذا الوصف غيره، ولا يليق بسواه، فأهل الخاصة من أوليائه في أعلى المعرفة من غير أن يبلغوا منها غاية ولا نهاية. والعامة من المؤمنين في أولها ولها شواهد ودلائل من العارفين على أعلاها، وعلى أدناها. فالشاهد على أدناها الإقرار بتوحيد الله، وخلع الأنداد من دونه، والتصديق به وبكتابه وفرضه فيه ونهيه. والشاهد على أعلاها القيام فيه بحقه واتقاؤه في كل وقت، وإيثاره في جميع خلقه واتباع معالي الأخلاق، واجتناب ما لا يقرب منه. فالمعرفة التي فضلت الخاصة على العامة هي عظيم المعرفة في قلوبهم بعظيم القدر والإجلال، والقدرة النافذة والعلم المحيط، والجود والكرم والآلاء، فعظم في قلوبهم قدره وقدر جلالته وهيبته، ونفاذ قدرته، وأليم عذابه وشدة بطشه، وجزيل ثوابه وكرمه وجوده بجنته وتحننه، وكثرة أياديه ونعمه وإحسانه، ورأفته ورحمته. فلما عظمت المعرفة بذلك عظم القادر فى قلوبهم، فأجلوه وهابوه وأحبوه، واستحيوا منه وخافوه ورجوه، فقاموا بحقه واجتنبوا كل ما نهى عنه، وأعطوه المجهود من قلوبهم وأبدانهم. أزعجهم على ذلك ما استقر في قلوبهم من عظيم المعرفة بعظيم قدره وقدر ثوابه وعقابه، فهم أهل الخاصة من أوليائه. فلذلك قيل فلان بالله عارف، وفلان بالله عالم، لما رأوه مجلا هائبا راهبا راجيا طالبا مشتاقا ورعا متقيا باكيا حزينا خاضعا متذللا.

فلما ظهرت منهم هذه الأخلاق عرف المسلمون أنهم بالله أعرف وأعلم من

ص: 258

عوام المسلمين، وكذلك وصفهم الله فقال {(إنما يخشى الله من عباده العلماء)} وقال داود عليه السلام: إلهي ما علم من لم يخشك. فالمعرفة التي فضلت بها الخاصة العامة هي عظيم المعرفة، فإذا عظمت المعرفة بذلك واستقرت ولزمت القلوب صارت يقينا قويا فكملت حينئذ أخلاق العبد وتطهر من الأدناس، فنال به عظيم المعرفة بعظيم القدر والجلال، والتذكر والتفكر في الخلق كيف خلقهم، وأتقن صنعتهم، وفي المقادير كيف قدرها فاتسقت على الهيئات التي هيأها، والأوقات التي وقتها. وفي الأمور كيف دبرها على إرادته ومشيئته، فلم يمتنع منها شيء عن المضي على إرادته، والاتساق على مشيئته. وقد قال بعض أهل العلم: إن النظر فى القدة يفتح باب التعظيم لله في القلب. ومر بعض الحكماء بما لك بن دينار فقال له مالك: عظنا رحمك الله. فقال: بم أعظك؟ إنك لو عرفت الله أغناك ذلك عن كل كلام، لكن عرفوه على دلالة أنهم لما نظروا في اختلاف الليل والنهار، ودوران هذا الفلك، وارتفاع هذا السقف بلا عمد ومجاري هذه الأنهار والبحار، علموا أن لذلك صانعا ومدبرا لا يعزب عنه مثقال ذرة من أعمال خلقه فعبدوه بدلائله على نفسه، حتى كأنهم عاينوه، والله في دار جلاله عن رؤيته، ففي ذلك دليل أنهم بعظيم قدره أعرف وأعلم، إذ هم له أجل وأهيب.

• سمعت أبا الحسن علي بن هارون بن محمد السمسار يقول سمعت الجنيد ابن محمد يقول: اعلم يا أخي أن الوصول إذا ما سألت عنه مفاوز مهلكة، ومناهل متلفة، لا تسلك إلا بدليل، ولا تقطع إلا بدوام ورحيل، وأنا واصف لك منها مفازة واحدة، فافهم ما أنعته لك منها، وقف عند ما أشير لك فيها، واستمع لما أقول، وافهم ما أصف: اعلم أن بين يديك مفازة إن كنت ممن أريد بشيء منها، وأستودعك الله من ذلك وأسأله أن يجعل عليك واقية باقية، فإن الخطر في سلوكها عظيم، والأمر المشاهد في الممر بها جسيم، فإن من أوائلها أن يوغل بك في فيح برزخ لا أمد له إيغالا، ويدخل بك بالهجوم فيه إدخالا، وترسل في جويهنته إرسالا. ثم تتخلى منك لك، ويتخلى منك له، فمن أنت

ص: 259

حينئذ وماذا يراد بك، وماذا يراد منك؟ وأنت حينئذ في محل أمنه روع، وأنسه وحشة، وضياؤه ظلمة، ورفاهيته شدة، وشهادته غيبة، وحياته ميتة، لادرك فيه لطالب، ولا مهمة فيه لسارب، ولا نجاة فيه لهارب، وأوائل ملاقاته اصطلام، وفواتح بدائعه احتكام، وعواطف ممره احترام.

فإن غمرتك غوامره انتسفتك بوادره، وذهب بك في الارتماس، وأغرقتك بكثيف الانطماس، فذهبت سفالا في الانغماس إلى غير درك نهاية ولا مستقر لغاية، فمن المستنقذ لك مما هنالك، ومن المستخرج لك من تلك المهالك؟ وأنت فى فرط الإياس من كل فرج مشوه بك في إغراق لجة اللجج؟ فاحذر ثم احذر، فكم من متعرض اختطف، ومتكلف انتسف، وأتلف بالغرة نفسه، وأوقع بالسرعة حتفه، جعلنا الله وإياك من الناجين، ولا أحرمنا وإياك ما خص به العارفين. واعلم يا أخي أن الذي وصفته لك من هذه المفاوز وعرضت ببعض نعته إشارة إلى علم لم أصفه، وكشف العلم بها يبعد، والكائن بها يفقد، فخذ في نعت ما تعرفه من الأحوال، وما يبلغه النعت والسؤال، ويوجد في المقاربين والأشكال، فإن ذلك أقرب بظفرك لظفرك، وأبعد من حظك لحظك، واحذر من مصادمات ملاقاة الأبطال والهجوم على حين وقت النزال، والتعرض لأماكن أهل الكمال، قبل أن تمات من حياتك ثم تحيى من وفاتك، وتخلق خلقا جديدا، وتكون فريدا وحيدا، وكل ما وصفته لك إشارة إلى علم ما أريده.

• سمعت علي بن هارون يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول - وقرأه علينا في كتاب كتب به إلى بعض إخوانه -: اعلم رضي الله عنك أن أقرب ما استدعي به قلوب المريدين، ونبه به قلوب الغافلين، وزجرت عنه نفوس المتخلفين، ما صدقته من الأقوال جميع ما اتبع به من الأفعال، فهل يحسن يا أخي أن يدعو داع إلى أمر لا يكون عليه شعاره، ولا تظهر منه زينته وآثاره. وألا يكون قائله عاملا فيه بالتحقيق، وبكل فعل بذلك القول يليق، وأفك من دعا إلى الزهد وعليه شعار الراغبين، وأمر بالترك وكان من

ص: 260

الآخذين، وأمر بالجد في العمل وكان من المقصرين، وحث على الاجتهاد ولم يكن من المجتهدين، إلا قل قبول المستمعين لقيله، ونفرت قلوبهم لما يرون من فعله، وكان حجة لمن جعل التأويل سببا إلى اتباع هواه، ومسهلا لسبيل من آثر آخرته على دنياه. أما سمعت الله تعالى يقول وقد وصف نبيه شعيبا وهو شيخ الأنبياء، وعظيم من عظماء الرسل والأولياء، وهو يقول:

{(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)} وقول الله جل ذكره لمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم {(قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله)} وأمر الله له بالدعاء إليه بقوله عز من قائل {(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)} فهذه سيرة الأنبياء والرسل والأولياء. والذي يجب يا أخي على من فضله الله بالعلم به، والمعرفة له، أن يعمل في استتمام واجبات الأحوال، وأن يصدق القول منه الفعل بذلك أولا عند الله ويحظى به من اتبعه آخرا. واعلم يا أخي أن لله ضنائن من خلقه أودع قلوبهم المصون من سره، وكشف لهم عن عظيم أثرهم به من أمره فهم بما استودعهم من ذلك حافظون، وبجليل قدر ما أمنهم عليه علماء عارفون، قد فتح لما اختصهم به من ذلك أزهانهم، وقرب من لطيف الفهم عنه لما أراده أفهامهم، ورفع إلى ملكوت عزه همومهم، وقرب من المحل الأعلى بالإدناء إلى مكين الإيواء بحبهم، وأفرد بخالص ذكره قلوبهم، فهم في أقرب أماكن الزلفى لديه، وفي أرفع مواطن المقبلين به عليه، أولئك الذين إذا نطقوا فعنه يقولون، وإذا سكتوا فبوقار العلم به يصمتون. وإذا حكموا فبحكمه لهم يحكمون. جعلنا الله يا أخي ممن فضله بالعلم، ومكنه بالمعرفة، وخصه بالرفعة، واستعمله بأكمل الطاعة، وجمع له خيرى الدنيا والآخرة.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصر - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال قال أبو القاسم الجنيد بن محمد - وسئل عن ما تنهى الحكمة - فقال: الحكمة تنهى عن كل ما يحتاج أن يعتذر منه، وعن كل ما إذا غاب علمه عن غيرك أحشمك ذكره في نفسك. فقال له السائل فبم تأمر الحكمة؟

ص: 261

قال: تأمر الحكمة بكل ما يحمد في الباقي أثره، ويطيب عند جملة الناس خبره، ويؤمن في العواقب ضرره. قال: فمن يستحق أن يوصف بالحكمة؟ قال: من إذا قال بلغ المد او الغاية فيما يتعرض لنعته بقليل القول، ويسير الإشارة، ومن لا يتعذر عليه من ذلك شيء مما يريد، لأن ذلك عنده حاضر عتيد. قال: فبمن تأنس الحكمة وإلى من تستريح وتأوي؟ قال: إلى من انحسمت عن الكل مطامعه، وانقطعت من الفضل في الحاجات مطالبه، ومن اجتمعت همومه وحركاته في ذات ربه، ومن عادت منافعه على سائر أهل دهره،.

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن يعقوب قال سمعت أبا القاسم الجنيد ابن محمد يقول: إن لله عبادا صحبوا الدنيا بأبدانهم، وفارقوها بعقود أيمانهم، أشرف بهم علم اليقين على ما هم إليه صائرون، وفيه مقيمون وإليه راجعون، فهربوا من مطالبة نفوسهم الأمارة بالسوء، والداعية إلى المهالك، والمعينة للأعداء، والمتبعة للهوى، والمغموسة في البلاء، والمتمكنة بأكناف الأسواء، إلى قبول داعي التنزيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل إذ سمعوه يقول:{(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)} فقرع أسماع فهومهم حلاوة الدعوة لتصفح التمييز، وتنسموا بروح ما أدته إليهم الفهوم الطاهرة من أدناس خفايا محبة البقاء فى دار الغرور، فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب المراقبين معها، وهجموا بالنفوس على معانقة الأعمال، وتجرعوا مرارة المكابدة، وصدقوا الله في معاملته، وأحسنوا الأدب فيما توجهوا إليه، وهانت عليهم المصائب، وعرفوا قدر ما يطلبون، واغتنموا سلامة الأوقات وسلامة الجوارح، وأماتوا شهوات النفوس، وسجنوا همومهم عن التلفت إلى مذكور سوى وليهم، وحرسوا قلوبهم عن التطلع في مراقي الغفلة، وأقاموا عليها رقيبا من علم من لا يخفى عليه مثقال ذرة في بر ولا بحر، ومن أحاط بكل شيء علما وأحاط به خبرا، فانقادت تلك النفوس بعد اعتياصها، واستبقت منافسة لأبناء جنسها، نفوس ساسها وليها وحفظها بارئها، وكلأها كافيها. فتوهم يا أخي إن كنت ذا بصيرة ماذا يرد عليهم في وقت

ص: 262

مناجاتهم، وماذا يلقونه من نوازل حاجاتهم، تر أرواحا تتردد في أجساد قد أذبلتها الخشية، وذللتها الخدمة، وتسربلها الحياء، وجمعها القرب، وأسكنها الوقار، وأنطقها الحذار. أنيسها الخلوة، وحديثها الفكرة، وشعارها الذكر. شغلها بالله متصل، وعن غيره منفصل. لا تتلقى قادما، ولا تشيع ظاعنا. غذاؤها الجوع والظمأ، وراحتها التوكل وكنزها الثقة بالله، ومعولها الاعتماد، ودواؤها الصبر وقرينها الرضا. نفوس قدمت لتأدية الحقوق، ورقيت لنفيس العلم المخزون، وكفيت ثقل المحن {(لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} . {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم)} .

• سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول سمعت الجنيد يقول: ما من شيء أسقط للعلماء من عين الله من مساكنة الطمع مع العلم في قلوبهم. قال وسمعت الجنيد يقول: فتح كل باب وكل علم نفيس بذل المجهود.

• سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول سمعت أحمد بن عطاء يقول قال الجنيد:

لولا أنه يروى أنه يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم ما تكلمت عليكم.

• حدثنا عثمان بن محمد ثنا بعض أصحابنا قال قيل للجنيد: ما القناعة؟ قال: ألا تتجاوز إرادتك ما هو لك في وقتك.

• سمعت علي بن عبد الله الجهضمي يقول سمعت أحمد بن عطاء يقول سمعت محمد بن الحريض يقول لما قال الجنيد: إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئ بالمحسن. قال أبو العباس بن عطاء: متى تبدر؟ فقال له الجنيد:

هي بادية، قال الله: سبقت رحمتي غضبي.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير في كتابه وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: لو أن العلم الذي أتكلم به من عندي لفني، ولكنه من حق بدا وإلى الحق يعود، وربما وقع في قلبي أن زعيم القوم أرذلهم.

ص: 263

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا عبد الله الدارمي يقول سمعت أبا بكر العطوي يقول: كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ من البقرة فقرأ سبعين آية ثم مات رحمه الله.

• حدثنا أبو الحسن علي بن هارون قال سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد يقول وسأله جعفر: ما تقول أكرمك الله في الذكر الخفي ما هو الذي لا تعلمه الحفظة، ومن أين زاد عمل السر على عمل العلانية سبعين ضعفا؟ فأجابه فقال: وفقنا الله وإياكم لأرشد الأمور وأقربها إليه، واستعملنا وإياكم بأرضى الأمور وأحبها إليه، وختم لنا ولكم بخير. فأما الذكر الذى يستأثر الله بعلمه دون غيره فهو ما اعتقدته القلوب وطويت عليه الضمائر مما لا تحرك به الألسنة والجوارح، وهو مثل الهيبة لله والتعظيم لله والإجلال لله، واعتقاد الخوف من الله، وذلك كله فيما بين العبد وربه، لا يعلمه إلا من يعلم الغيب.

والدليل على ذلك قوله عز وجل {(ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون)} وأشباه ذلك وهذه أشياء امتدح الله بها فهي له وحده جل ثناؤه. وأما ما تعلمه الحفظة فما وكلت به وهو قوله: {(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)} وقوله. {(كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون)} . فهذا الذي وكل به الملائكة الحافظون ما لفظ به وبدا من لسانه. وما يعلنون ويفعلون هو ما ظهر به السعي، وما أضمرته القلوب، مما لم يظهر على الجوارح، وما تعتقده القلوب فذلك يعلمه جل ثناؤه، وكل أعمال القلوب ما عقد لا يجاوز الضمير فهو مثل ذلك والله أعلم. وما روي في الخبر من فضل عمل السر على عمل العلانية وأن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفا، فذلك والله أعلم لأن من عمل لله عملا فأسره فقد أحب أن ينفرد الله عز وجل بعلم ذلك العمل منه ومعناه أن يستغنى بعلم الله فى عمله عن علم غيره، وإذ استغنى القلب بعلم الله أخلص العمل فيه ولم يعرج على من دونه، فإذا علم جل ذكره بصدق قصد العبد إليه وحده وسقط عن ذكر من دونه أثبت ذلك العمل في أعمال الخالصين الصالحين المؤثرين الله على من سواه، وجازاه الله بعلمه بصدقه من الثواب

ص: 264

سبعين ضعفا على ما عمل من لا يحل محله والله أعلم.

• حدثنا علي بن هارون قال سمعت الجنيد بن محمد يقول - في كتابه إلى أبي العباس الدينوري -: من استخلصه الحق بمفرد ذكره وصافاه يكون له وليا منتخبا مكرما مواصلا، يورثه غرائب الأنبياء، ويزيده فى التقريب زلفى، ويثبته في محاضر النجوى، ويصطنعه للخلة والاصطفاء، ويرفعه إلى الغاية القصوى، ويبلغه في الرفعة إلى المنتهى ويشرف به من ذروة الذرى على مواطن الرشد والهدى، وعلى درجات البررة الأتقياء، وعلى منازل الصفوة والأولياء، فيكون كله منتظما وعليه بالتمكين محتويا، وبأنبائه خبيرا عالما، وعليه بالقوة والاستظهار حاكما وبإرشاد الطالبين له إليه قائما، وعليهم بالفوائد والعوائد والمنافع دائما، ولما نصب له الأئمة من الرعاية لديه به لازما وذلك إمام الهداة السفراء العظماء الاجلة الكبراء الذين جعلهم للدين عمدا وللأرض أوتادا جعلنا الله وإياك من أرفعهم لديه قدرا، وأعظمهم في محل عزه أمرا إن ربي قريب سميع.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانئ يقول سألت أبا القاسم الجنيد بن محمد عن قوله. {(لا أحب الآفلين)} قال: لا أحب من يغبب عن عياني وعن قلبي، وفي هذا دلالة أني إنما أحب من يدوم لي النظر إليه والعلم به حتى يكون ذلك موجودا غير مفقود. وكذلك رأينا أن أشد الأشياء على المحبين أن يغيب عنهم من أحبوه وأن يفقدوا شاهدهم.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر يقول سألت أبا القاسم الجنيد بن محمد عن الإيمان ما هو؟ فقال: الايمان هو والتصديق الايقان وحقيقة العلم بما غاب عن الأعيان، لأن المخبر لي بما غاب عني إن كان عندي صادقا لا يعارضني في صدقه ريب ولا شك أوجب علي تصديقي إياه إن ثبت لي العلم بما أخبر به ومن تأكيد حقيقة ذلك أن يكون تصديق الصادق عندي يوجب علي أن يكون ما أخبرني به كأني له معاين، وذلك صفة قوة الصدق في التصديق وقوة الإيقان الموجب لاسم الإيمان. وقد روي عن الرسول صلى

ص: 265

الله عليه وسلم أنه قال لرجل: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . فأمره بحالتين إحداهما أقوى من الأخرى، لأني كأني أرى الشيء بقوة العلم به وحقيقة التصديق له أقوى من أن أكون أعلم أن ذلك يراني، وإن كان علمي بأنه يراني حقيقة علم موجبة للتصديق، والمعنى الاول أولى وأقوى، والفضل بجمعهما على تقديم إحداهما على الأخرى. قال أحمد:

وسألته عن علامة الإيمان قال: الإيمان علامته طاعة من آمنت به، والعمل بما يحبه ويرضاه، وترك التشاغل عنه بشيء ينقضي عنده حتى أكون عليه مقبلا، ولموافقته مؤثرا، ولمرضاته متحيرا، لأن من صفة حقيقة علامة الإيمان ألا أوثر عليه شيئا دونه، ولا أتشاغل عنه بسبب سواه، حتى يكون المالك لسري والحاث لجوارحي بما أمرني من آمنت به، وله عرفت، فعند ذلك تقع الطاعة لله على الاستواء، ومخالفة كل الأهواء، والمجانبة لما دعت إليه الأعداء، والمتاركة لما انتسب إلى الدنيا، والإقبال على من هو أولى، وهذه بعض الشواهد والعلامات فيما سألت عنه، وصفة الكل يطول شرحه.

قل وسألته: ما الإيمان؟ فقال هذا سؤال لا حقيقة له ولا معنى ينبئ عن مزيد من علم، وإنما هو الإيمان بالله جل ثناؤه مجردا، وحقيقته في القلوب مفردا، وإنما هو ما وقر في القلب من العلم بالله، والتصديق، وبما أخبر من أموره في سائر سماواته وأرضه مما ثبت في الإيقان، وإن لم أره بالعيان، فكيف يجوز أن يكون للصدق صدق، وللإيقان إيقان، وإنما الصدق فعل قلبي، والإيقان ما استقر من العلم عندي، فكيف يجوز أن يفعل فعلي، وإنما أنا الفاعل، أو يعلم علمى ونما أنا العالم، والسؤال في الابتداء غير مستقيم، ولو جاز أن يكون للايمان إيمان ولتصديق تصديق، جاز أن يوالى ذلك ويكرر إلى غاية تكثر في العدد وجاز أن يكون كما عاد علي ثواب إيماني وثواب تصديقي أن يعود على إيمان إيماني ثواب، وعلى تصديق تصديقي جزاء، ولو أردت استقصاء القول فى واجب ذلك لا تسع به الكتاب، وطال به الخطاب، وهذا مختصر من الجواب.

ص: 266

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: أعلم الناس بالآفات أكثرهم بلاء وآفة.

• أخبرنا جعفر وحدثني عنه عثمان قال: كنت أمشي مع الجنيد فلقيه الشبلي فقال له: يا أبا القاسم ما تقول فيمن الحق حسبه نعتا وعلما ووجودا؟ فقال له: يا أبا بكر جلت الألوهية، وتعاظمت الربوبية، بينك وبين أكابر الطبقة ألف طبقة في أول طبقة منها ذهب الاسم. قال وسمعت الجنيد يقول:

من ظن أنه يصل ببذل المجهود فمتعن، ومن ظن أنه يصل بغير بذل المجهود فمتمن، ومتعلم يتعلم الحقيقة يوصله الله إلى الهداية قال صلى الله عليه وسلم:

«كل ميسر لما خلق له» .

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا القاسم المطرز يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول لرجل وهو يكلمه في شيء: لا تيأس من نفسك وأنت تشفق من ذنبك، وتندم عليه بعد فعلك.

[سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا الحسن المحلي يقول سمعت الجنيد يقول: كان التوكل حقيقة واليوم هو علم.]

(1)

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا محمد الخواص يقول سمعت الجنيد يقول: منذ عشرين سنة ما ناصيت أحدا إلى حق فعاد إلي. وقال الجنيد: إذا أصبت من يصبر على الحق فتمسك. به قال: قلت وأني به؟ هات من يصبر لي على سماع الحق لا يتعرض إليه.

• أخبر جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه أبو الحسن بن مقسم قال سمعت الجنيد يقول: لو بدت عين من الكرم لألحقت المسيئين بالمحسنين، وبقيت أعمال العاملين فضلا لهم.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا محمد المرتعش يقول سمعت الجنيد يقول: كتب إلي بعض إخواني من عقلاء أهل خراسان: اعلم يا أخى يا أبا

(1)

زيادة من ز

ص: 267

القاسم أن عقول العقلاء إذا تناهت تناهت إلى حيرة.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا القاسم المطرز يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول: أضر ما على أهل الديانات الدعاوى.

• [سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أحمد بن إسحاق الرازي يقول:

سمعت العباس بن عبد الله يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول: عليكم بحفظ الهمة فإن حفظ الهمة مقدمة الأشياء]

(1)

.

• [سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أحمد بن إسحاق الرازي يقول:

سمعت العباس بن عبد الله يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول: المروءة امتحان ذلل الإخوان]

(2)

.

• سمعت أبا الحسن علي بن هارون يقول سمعت الجنيد بن محمد أبا القاسم يقول ورأى رويما وقد تولى القضاء فقال: من أراد أن ينظر إلى من خبأ في سره حب الدنيا عشرين سنة فلينظر إلى هذا.

• سمعت أبا الحسن علي بن هارون يقول أخبرني بعض أصحابنا عن أبي القاسم الجنيد قال: إنه وقف علي سائل فسألته فقال. حركني فعل لي. فقال الجنيد لا ولكن فعل الله فيك يقتضي منك شكر ما جعله فيك.

• سمعت أبا بكر محمد بن أحمد المفيد يقول حضرت الجنيد يوما فسأله أصحابه فقالوا: يا أستاذ متى يكون الله عز وجل مقبلا على عبده؟ فلهى عنهم ولم يجبهم، فألحوا عليه - وكان ظريفا لا يحب أن يتبشع جوابه على أحد - فالتفت إليهم فقال: واعجباه يقف بين يدي ربه بلا حضور ويقتضي بهذه الوقفة إقبالا.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت محمد بن سعيد يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول - وسئل عن حقيقة الشكر - فقال. ألا يستعان بشيء من نعمه على معاصيه.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا بكر بن سعيد وأبا بكر

(1)

زيادة من ز.

(2)

زيادة من مغ.

ص: 268

ختن الجنيد يقولان سمعنا الجنيد يقول: الورع في الكلام أشد منه في الاكتساب. أنشدني، أبو الحسن بن مقسم قال: أنشدني أبو بكر ختن الجنيد قال: أنشدني الجنيد بن محمد:

تحمل عظيم الجرم ممن تحبه

وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم

قال وأنشدنى:

أناس أمناهم فنموا حديثنا

فلما كتمنا السر عنهم تقولوا

ولم يحفظوا الود الذي كان بيننا

ولا حين هموا بالقطيعة أجملوا.

• سمعت أبا الحسن يقول سمعت أبا القاسم المطرز يقول سمعت الجنيد يقول لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها لك في طاعة ربك.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا القاسم النقاشي الصوفي يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول: متى أردت أن تشرف بالعلم وتنسب إليه وتكون من أهله قبل أن تعطى العلم ما له عليك احتجب عنك نوره وبقي عليك وسمه وظهوره. ذلك العلم عليك لا لك، وذلك أن العلم يشير إلى استعماله وإذا لم يستعمل العلم في مراتبه رحلت بركاته.

• سمعت أبا الحسن يقول سمعت أبا القاسم النقاشي يقول سمعت الجنيد يقول: الإنسان لا يعاب بما في طبعه إنما يعاب إذا فعل بما في طبعه.

• أنشدني أبو الحسن بن مقسم قال أنشدني علي بن الحسن القرشي قال انشدنى الجنيد بن محمد.

هل من سبيل إلى حبيب

أوقفنى موقف العبيد

والله والله لو بدأني

بكل ضرب من الصدود

ما كان لي من هواه بد

ولو تقطعت بالوجود.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا القاسم الحفار يقو ل سمعت الجنيد - وقد سأله رجل: كيف الطريق إلى الله تعالى؟ - فقال: توبة تحل الإصرار، وخوف يزيل الغرة، ورجاء مزعج إلى طريق الخيرات، ومراقبة الله في خواطر القلوب.

• سمعت أحمد بن جعفر بن مالك يقول سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد

ص: 269

يقول - وسأله سائل: العناية قبل أم البداية؟ - فقال: العناية قبل الطين والماء.

قال وسمعت أبا القاسم الجنيد يقول: يا من هو كل يوم فى شأن اجعلنى من بعض شأنك.

• أخبرنا جعفر بن محمد - فيما كتب إلي - قال سمعت الجنيد يقول المريد الصادق غني عن علوم العلماء يعمل على بيان يرى وجه الحق من وجوه الحق ويتوقى وجوه الشر من وجوه الشر. قال وسمعت الجنيد يقول: اعتللت بمكة فقوي علي فيها الوجود حتى لم أقدر أن أقول سبحان الله والحمد لله. قال سمعت الجنيد يقول: مكثت مدة طويلة لا يقدم أحد البلد من الفقراء إلا سلبت حالي ودفعت إلى حاله فأطلبه حتى إذا وجدته تكلمت بحاله وكنت لا أرى في النوم شيئا إلا رأيته في اليقظة.

• سمعت أبا عمرو العثماني يقول سمعت أبا الحسن يقول سمعت الجنيد يقول:

ليس يتبشع علي ما يرد علي من العالم لأني قد أصلت أصلا وهو أن الدار دارهم وغم وبلاء وفتنة، وأن العالم كله شر، ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره فإن تلقاني بكل ما أحب فهو فضل وإلا فالأصل هو الأول.

• سمعت أبا الحسن الجهضمي يقول سمعت أبا الحسن يقول سمعت أبا عبد الله الفارسي يقول وقف أبو عبد الله المغربي على الجنيد وقد سئل عن قوله {(سنقرئك فلا تنسى)} قال الجنيد: سنقرئك التلاوة فلا تنس العمل. وسئل عن قوله {(ودرسوا ما فيه)} قال: تركوا العمل بما فيه. فقال المغربي: حرجت أمة أنت بين ظهرانيها لا تفوض أمرها إليك. قال ووقف الشبلي عليه فقال ما تقول يا أبا القاسم فيمن وجوده حقيقة لا علما؟ فقال: يا أبا بكر بينك وبين أكابر الناس سبعون قدما أدناها أن تنسى نفسك.

• حدثنا الجهضمي ثنا محمد بن الحسن ثنا أبو القاسم بردان الهاوندي قال سمعت الجنيد يقول: جئت إلى أبي الحسن السدي يوما فدققت عليه الباب فقال: من هذا؟ فقلت: جنيد. فقال ادخل فدخلت فإذا هو قاعد مستوفز وكان معي أربعة دراهم فدفعتها إليه فقال لي أبشر فإنك تفلح فإني

ص: 270

احتجت إلى هذه الأربعة دراهم فقلت اللهم ابعثها إلي على يدي رجل يفلح عندك.

• حدثنا علي بن عبد الله ثنا منصور بن أحمد ثنا جعفر الدئلي قال سمعت الجنيد بن محمد يقول البلاء على ثلاثة أوجه على المخلطين عقوبات وعلى الصادقين تمحيص جنايات، وعلى الأنبياء من صدق الاختيارات.

• سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول سمعت حكيم بن محمد يقول حضر الجنيد أبو القاسم موضعا فيه قوم يتواجدون على سماع يسمعونه وهو مطرق قيل له: يا أبا القاسم ما نراك تتحرك. قال: {(وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)} .

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المفيد قال سمعت أبا القاسم الجنيد يقول: ينبغي للعاقل ألا يفقد من إحدى ثلاثة مواطن موطن. يعرف فيه حاله أمزاد أم منتقص، وموطن يخلو فيه بتأديب نفسه وإلزامها ما يلزمها ويتقصى فيه على معرفتها. وموطن يستحضر عقله برؤيته مجاري التدبير عليه وكيف تقلب فيه الأحكام في آناء الليل وأطراف النهار، ولن يصفو عقل لا يصدر إلى فهم هذا الحال الأخير إلا بإحكام ما يجب عليه من إصلاح الحالين الأولين. فأما الموطن الذي ينبغي له أن يعرف فيه حاله أمزاد هو أم منتقص فعليه أن يطلب مواضع الخلوة لكي لا يعارضه مشغل فيفسد ما يريد إصلاحه، ثم يتوجه إلى موافقة ما ألزم من تأدية الفرص الذي لا يزكو حال قربه إلا بإتمام الواجب من الفرائض، ثم ينتصب انتصاب عبد بين يدي سيده يريد أن يؤدي إليه ما أمر بتأديته فحينئذ تكشف له خفايا النفوس الموارية فيعلم أهو ممن أدى ما وجب عليه أم لم يؤد، ثم لا يبرح من مقامه ذلك حتى يوقع له العلم ببرهان ما استكشفه بالعلم، فإن رأى خللا أقام على إصلاحه ولم يجاوزه إلى عمل سواه وهذه أحوال أهل الصدق في هذا المحل {(والله يؤيد بنصره من يشاء} {إن الله لقوي عزيز)} . وأما الموطن الذي يخلو فيه بتأديب نفسه ويتقصى فيه حال معرفتها فإنه ينبغي لمن عزم على ذلك وأراد المناصحة في المعاملة فإن

ص: 271

النفوس ربما خبت فيها منها أشياء لا يقف على حد ذلك إلا من تصفح ما هنالك في حين حركة الهوى في محبة فعل الخير المألوف، فإن النفس إذا ألفت فعل الخير صار خلقا من أخلاقها، وسكنت إلى أنها موضع لما أهلت له، وترى أن الذي جرى عليها من فعل ذلك الخير فيها هي له أهل، ويرصدها العدو المقيم بفنائها المجعول له السبيل على مجاري الدم فيها، فيرى هو بكيده خفي غفلتها، فيختلس منها بمساءلة الهوى ما لا يمكنه الوصول إلى اختلاسه في غير تلك الحال، فإن تألم لوكزته منه وعرف طعنته أسرع بالأمانة إلى من لا تقع الكفاية منه إلا به، فاستقصى من نفسه علم الحال التي منها وصل عدوه إليه فحرسها بلياذة اللجأ وإلقاء الكنف وشدة الافتقار وطلب الاعتصام كما قال النبى بن النبى بن النبى الكريم بن الكريم بن الكريم كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليهم السلام» . {(وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)} وعلم يوسف عليه السلام أن كيد الأعداء مع قوة الهوى لا ينصرف بقوة النفس {(فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم)} وأما الموطن الذي يستحضر فيه عقله لرؤية مجاري الأحكام وكيف يقلبه التدبير، فهو أفضل الأماكن وأعلى المواطن، فإن الله أمر جميع خلقه أن يواصلوا عبادته ولا يسأموا خدمته. فقال {(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)} . فألزمهم دوام عبادته وضمن لهم عليها في العاجل الكفاية، وفي الأخرى جزيل الثواب. فقال {(يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)} وهذه كلها تلزم كل الخلق. ووقف ليرى كيف تصرف الأحكام وقد عرض لرفيع العلم والمعرفة ألا يعلم أنه قال {(كل يوم هو في شأن)} - يعني شأن الخلق -. وأنت أيها الواقف أترى أنك من الخلق الذي هو في شأنهم أو ترى شأنك مرضيا عنده؟ ولن يقدر أحد على استحضار عقله إلا بانصراف الدنيا وما فيها عنه، وخروجها من قلبه، فإذا انقضت الدنيا وبادت وباد أهلها وانصرفت عن القلب خلا بمسامرة

ص: 272

رؤية التصرف واختلاف الأحكام وتفصيل الأقسام، ولن يرجع قلب من هذا وصفه إلى شيء من الانتفاع بما في هذه التي عنها خرج، ولها ترك ومنها هرب، ألا ترى إلى حارثة حين يقول: عزفت نفسي عن الدنيا. ثم يقول:

وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني بأهل الجنة يتزاورون، وكأني وكأني.

وهذه بعض أحوال القوم.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير في كتابه وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: كان يعارضني في بعض أوقاتي أن أجعل نفسي كيوسف وأكون أنا كيعقوب، فأحزن على نفسي لما فقدت منها كما حزن يعقوب على فقده ليوسف، فمكثت أعمل مدة فيما أجده على حسب ذلك.

• أخبرنا جعفر في كتابه وحدثنا عنه محمد قال سمعت الجنيد بن محمد يقول.

كنت يوما عند السري بن المغلس بن الحسين وهو متزر بمئزر - وكنا خاليين فنظرت إلى جسده كأنه جسد سقيم دنف مضنى وأجهد ما يكون. فقال انظر إلى جسدي هذا فلو شئت أن أقول إن ما بي هذا من المحبة كان كما أقول.

كان وجهه يصفر ثم اشرأب حمرة حتى تورد ثم اعتل فدخلت عليه وعوده فقلت له: كيف تجدك فقال.

كيف أشكو ما بي إلى طبيبي

والذي أصابني من طبيبي

فأخذت المروحة أروحه فقال: كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترف من داخل ثم أنشأ يقول.

القلب محترق والدمع مستبق

والكرب مجتمع والصبر مفترق

كيف القرار على من لا قرار له

مما جناه الهوى والشوق والقلق

يا رب إن كان شيء فيه لي فرج

فامنن علي به ما دام لي رمق.

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال سمعت الجنيد بن محمد يقول:

أعلى درجة الكبر وشرها أن ترى نفسك ودونها وأدناها في الشر أن تخطر ببالك.

• أخبر محمد بن أحمد بن هارون قال سمعت علي بن الحسين الغلاب

ص: 273

يقول قيل للجنيد: هل عاينت أو شاهدت؟ قال: لو عاينت تزندقت. ولو شاهدت تحيرت ولكن حيرة في تيه وتيه في حيرة. قال وسمعت الجنيد بن محمد يقول:

حرم الله المحبة على صاحب العلاقة. قال: وسئل الجنيد عن الدنيا ما هي؟ قال:

ما دنا من القلب وشغل عن الله.

• أخبرنا جعفر بن محمد في كتابه وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد يقول: دخلت يوما على سري السقطي فرأيت عليه هما فقلت: أيها الشيخ أرى عليك هما. فقال: الساعة دق علي داق الباب فقلت ادخل فدخل علي شاب في حدود الإرادة فسألني عن معنى التوبة فأخبرته، وسألني عن شرط التوبة فأنبأته، فقال: هذا معنى التوبة وهذا شرطها فما حقيقتها؟ فقلت: حقيقة التوبة عندكم أن لا تنسى ما من أجله كانت التوبة. فقال: ليس هو كذلك عندنا. فقلت: له فما حقيقة التوبة عندكم؟ فقال حقيقة التوبة ألا تذكر ما من أجله كانت التوبة. وأنا أفكر في كلامه.

قال الجنيد فقلت: ما أحسن ما قال. قال فقال لي: يا جنيد وما معنى هذا الكلام؟ فقال يا أستاذ إذا كنت معك في حال الجفاء ونقلتنى من حال الجفاء إلى حال الصفاء فذكري للجفاء في حال الصفاء غفلة. قال: ودخلت عليه يوما آخر فرأيت عليه هما فقلت: أيها الشيخ أراك مشغول القلب. فقال: أمس كنت في الجامع فوقف علي شاب وقال لي: أيها الشيخ يعلم العبد أن الله تعالى قد قبله؟ فقلت: لا يعلم. فقال بلى يعلم. وقال لي ثانيا بلى يعلم. فقلت له: فمن أين يعلم؟ قال: إذا رأيت الله عز وجل قد عصمني من كل معصية ووفقني لكل طاعة علمت أن الله تبارك وتعالى قد قبلنى.

• أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد قال سمعت الجنيد ابن محمد يقول: رأيت بعد أن أديت وردى ووضعت جنبى لأنام كأن هاتفا يهتف بي: إن شخصا ينتظرك في المسجد. فخرجت فإذا شخص واقف في سواء المسجد فقال لي: يا أبا القاسم متى تصير النفس داءها دواءها؟ قلت: إذا خالفت هواها صار داؤها دواءها. قال: قلت هذا لنفسي فقالت لا أقبل منك حتى تسأل

ص: 274

عنه الجنيد. فقلت: من أنت؟ قال أنا فلان الجني، وقد جئت إليك من المغرب. قال: وسمعت الجنيد بن محمد يقول: لا نكون عبد الله بالكلية حتى لا تبقى عليك من غير الله بقية. قال وسمعت الجنيد يقول: لا تكن عبد الله حقا وأنت لشيء سواه مسترقا.

• حدثنا أبو نصر محمد بن أحمد بن هارون قال سمعت عبد الواحد بن محمد الإصطخري أبا الأزهر يقول: سمعت إبراهيم بن عثمان يقول سمعت الجنيد ابن محمد يقول: دخلت البادية بعقد التوكل في وسط السنة فمضت علي أيام فانتهيت إلى مجمع ماء وخضرة فتوضأت وملأت ركوتي وقمت أركع فإذا بشاب قد أقبل بزي التجار كأنه قد غدا من بيته إلى سوقه أو يرجع من سوقه إلى بيته، فسلم علي فقلت: الشاب من أين؟ فقال من بغداد. فقلت: متى خرجت من بغداد؟ قال أمس. فتعجبت منه، وكنت قد مضت علي أيام حتى بلغت إلى ذلك الموضع، فجلس يكلمني وأكلمه، فأخرج شيئا من كمه يأكله فقلت له: أطعمني مما تأكل. فوضع. في يدي حنظلة فأكلته فوجدت طعمه كالرطب. ومضى وتركني فلما دخلت مكة بدأت بالطواف فجذب ثوبي من ورائي فالتفت فإذا أنا بشاب كالشن البالي عليه قطعة عباء وعلى عاتقه بعضه فقلت له: زدني في المعرفة.

فقال: أنا الشاب الذي أطعمتك الحنظل. فقلت له ما شأنك؟ فقال:

يا أبا القاسم ذرءونا حتى إذا أوقعونا قالوا استمسك.

• أخبرنا جعفر بن محمد - فيما كتب إلي - وحدثني عنه عثمان بن محمد قال سئل الجنيد أيما أتم، استغراق العلم في الوجود أو استغراق الوجود في العلم؟ قال: استغراق العلم في الوجود ليس العالمون بالله كالواجدين له. قال وسأله الحريري عن قول عيسى عليه السلام: {(تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك)} قال: هو والله أعلم تعلم ما أنا لك عليه وما لك عندي ولا أعلم ما لي عندك إلا ما أخبرتني به وأطلعتني عليه فهذا معناه.

• حدثنا محمد بن أحمد بن هارون قال سمعت أبا زرعة الطبرى يقول:

سمعت الحسين بن ياسين يقول سمعت الجنيد يقول: الأقوات ثلاثة: فقوت

ص: 275

بالطعام وهو مولد للأعراض. وقوت بالذكر فهذا يشممهم الصفات، وقوت برؤية المذكور وهو الذي يفنى ويبيد. قال ثم أنشد يقول:

إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها

فلم تلبث النفس التي أنت قوتها.

• أخبرنا محمد بن أحمد المفيد - في كتابه - وحدثنا عنه عثمان بن محمد قبل أن لقيته ثنا عبد الصمد بن محمد الجبلي قال: كتب الجنيد إلى أبي إسحاق المارستاني: يا أخي كيف أنت في ترك مواصلة من عرضك للتقصير، ودعاك إلى النقص والفتور، وكيف ينبغي أن تكون مباينتك له وهجرانك، وكيف إعراض سرك ونبو قلبك وعزوف ضميرك عنه، حقيق عليك على ما وهبه الله لك وخصك به من العلم الجليل والمنزل الشريف أن تكون عن المقبلين على الدنيا معرضا، وأن تكون لهم بسرك وجهرك قاليا. وأن تكون لهم في بلائهم إلى الله شافعا. فذلك بعض حقك لك. وحري بك أن تكون للمذنبين ذائدا، وأن تكون لهم بفهم الخطاب إلى الله رائدا، وفي استنقاذهم وافدا، فتلك حقائق العلماء وأماكن الحكماء، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، وأعمهم نفعا لجملة خلقه. جعلنا الله وإياك من أخص من أخلصه بالاخلاص إليه، وأقربتهم في محل الزلفى لديه، أيحسن بالعاقل اللبيب والفهم الأديب الطالب المطلوب المحب المحبوب المكلأ المعلم، المزلف المقرب، المجالس المؤانس أن يعير الدنيا طرفه، أو يوافقها بلحظه؟ وقد سمع سيده ومولاه وهو يقول لأجل أصفيائه وسيد رسله وأنبيائه {(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه)} ؟ الآية، أفشاهد أنت لفهم الخطاب وإمكان رد الجواب، فترك حظه من الله مما فاته ومصافاته ومكافأته ومكانه منه وموالاته أن يواد من لا يواده أو يألف من لا يوافقه.

غض يا أخي بصر سرك وبصيرة قلبك عن الإيماء إلى النظر إليهم دون المواصلة لهم، وصن بالمضمون من ضميرك عن أن تكون لك بالقوم مؤالفة، فو الله لا والى الله من يحاده ولا أقبل على من يبغضه، ولا عظم من يعظم ما صغره وقلله إلا أن ينزع عن ذلك، فكن من ذلك على يقين وكن لأماكن من أعرض عن

ص: 276

الحق مستهينا. وبعد يا أخي فتفضل باحتمالي إن غلظ عليك مقالي، وتجشم الصبر على أن يوافق قلبك ما في كتابي، فإن المناصحة والمفاصحة خير من الإغضاء مع المتاركة، وإني أختم كتابي وأستدعي جوابي بقولي {(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)} وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانئ يقول سألت أبا القاسم الجنيد بن محمد قلت: متى يكون الرجل موصوفا بالعقل؟ قال: إذا كان للأمور مميزا، ولها متصفحا، وعما يوجبه عليه العقل باحثا: يبحث يلتمس بذلك طلب الذي هو به أولى، ليعمل به ويؤثره على ما سواه، فإذا كان كذلك فمن صفته ركوب الفضل في كل أحواله بعد إحكام العمل بما قد فرض عليه، وليس من صفة العقلاء إغفال النظر لما هو أحق وأولى ولا من صفتهم الرضا بالنقص والتقصير، فمن كانت هذه صفته بعد إحكامه لما يجب عليه من عمله ترك التشاغل بما يزول وترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغل به والعمل له عن أمور الآخرة التي يدوم نعيمها ونفعها، ويتصل بقاؤها. وذلك أن الذي يدوم نفعه ويبقى على العامل له حظه وما سوى ذلك زائل متروك مفارق موروث يخاف مع تركه سوء العاقبة فيه ومحاسبة الله عليه. فكذلك صفة العاقل لتصفحه الأمور بعقله، والأخذ منها بأوفره. قال الله تعالى:{(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)} كذلك وصفهم الله وذو الألباب هم ذو والعقول.

وإنما وقع الثناء عليهم بما وصفهم الله به للأخذ بأحسن الأمور عند استماعها وأحسن الأمور هو أفضلها وأبقاها على أهلها نفعا في العاجل والآجل، وإلى ذلك ندب الله عز وجل من عقل في كتابه.

• حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت أبا محمد الجريري يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول: ما أخذنا

ص: 277

التصوف عن القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات. لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله، وأصله العزوف عن الدنيا، كما قال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا محمد الجريري يقول سمعت الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة. فقال الرجل: أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله. فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها، وإنه لأوكد في معرفتي وأقوى في حالي.

• أخبرنا جعفر بن محمد في كتابه وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: حاجة العارفين إلى كلاءته ورعايته، قال الله عز وجل:

{(قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن)} ونجح قضاء كل حاجة من الدنيا تركها، وفتح كل باب شريف بذل المجهود. قال ورأيت الجنيد في المنام فقلت:

أليس كلام الأنبياء إشارات عن مشاهدات؟ فتبسم وقال: كلام الأنبياء بناء عن حضور، وكلام الصديقين إشارات عن مشاهدات قال وكتب الجنيد إلى بعض إخوانه: من أشار إلى الله وسكن إلى غيره ابتلاه الله وحجب ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه، فان انتبه وانقطع عمن سكن إليه ورجع إلى من أشار إليه كشف الله ما به من المحن والبلوى، فإن دام نزع الله على سكونه من قلوب الخلق الرحمة عليه، وألبس لباس الطمع لنزداد مطالبته منهم مع فقدان الرحمة من قلوبهم، فتصير حياته عجزا وموته كدا ومعاده أسفا. ونحن نعوذ بالله من السكون إلى غيره. وقال الجنيد: لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة كان ما فاته أكثر مما ناله وقال رجل للجنيد: علام يتأسف المحب؟ قال: على زمان بسط أورث قبضا أو زمان أنس أورث وحشة وأنشأ يقول:

ص: 278

قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم

فكدرته يد الأيام حين صفا.

• كتب إلي جعفر بن محمد وأخبرني عنه يوسف بن محمد القواس قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: إن الله عز وجل يخلص إلى القلوب من بره حسبما خلصت القلوب به إليه من ذكره، فانظر ماذا خالط قلبك.

• كتب إلي جعفر بن محمد وأخبرني عنه محمد بن عبد الله قال سمعت الجنيد يقول: يا ذاكر الذاكرين بما به ذكروه، ويا بادئ العارفين بما به عرفوه ويا موفق العاملين لصالح ما عملوه، من ذا الذي يشفع عندك إلا بإذنك؟ ومن ذا الذي يذكرك إلا بفضلك؟.

• حدثنا علي بن هارون بن محمد قال سمعت الجنيد بن محمد يقول وكتب إلى بعض إخوانه: الحمد لله الذي استخلص لنفسه صفوة من خلقه، وخصهم بالعلم والمعرفة به، فاستعملهم بأحب الأعمال إليه وأقربها من الزلفى لديه، وبلغهم من ذلك الغاية القصوى والذروة المتناهية العليا، وبعد فإني أوصيك بترك الالتفات إلى كل حال ماضية، فإن الالتفات إلى ما مضى شغل عما يأتي من الحالة الكائنة، وأوصيك بترك الملاحظة للحال الكائنة وبترك المنازلة لها بجولان الهمة لملتقى المستقبل من الوقت الوارد بذكر مورده ونسق ذكر موجوده، فإنك إذا كنت هكذا كنت تذكر من هو أولى ولا تضرك رؤية الأشياء. وأوصيك بتجريد الهم وتفريد الذكر ومخالصة الرب بذلك كله، واعمل على تخليص همك من همك لهمك واطلب الخالص من ذكر الله جل ثناؤه بقلبك، وكن حيث يراك لما يراد لك، ولا تكن حيث يراد لك لما تريد لنفسك. واعمل على محو شاهدك من شاهدك حتى يكون الشاهد عليك شاهدا لك بما يخلص من شاهدك. واعلم أنه إن كنت كلك له كان لك بكل الكل فيما تحبه منه فكن مؤثرا له بكل من انبسط له منك ومنه بدا لك ومنه به يبسط عليك ما لا يحيط به علمك، ولا تبلغ إليه أمانيك وآمالك، وإذا بليت بمعاشرة طائفة من الناس فعاشرهم على مقادير أماكنهم وكن مشرفا عليهم

ص: 279

بجميل ما آتاك الله وفضلك به. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم:.

• سمعت محمد بن علي بن حبيش يقول سمعت الجنيد بن محمد وسئل عن الرضا فقال: سألتم عن العيش الهنيء وقرة العين. من كان عن الله راضيا، قال بعض أهل العلم: أهنأ العيش عيش الراضين عن الله. فالرضا استقبال ما نزل من البلاء بالطاقة والبشر وانتظار ما لم ينزل منه بالتفكر والاعتبار، وذلك أن ربه عنده أحسن صنعا به وأرحم به وأعلم بما يصلحه، فإذا نزل القضاء لم يكرهه وكان ذلك إرادته، مستحسنا ذلك الفعل من ربه، فاذا عدما نزل به إحسانا من الله عز وجل فقد رضى، فالرضى هو الإرادة مع الاستحسان أن يكون مريدا لما صنع، محبا راضيا عن الله بقلبه.

• سمعت أبا الحسن علي بن هارون بن محمد يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول وكتب إلى بعض إخوانه كتابا يقول فيه: إن الله جل ثناؤه لا يخلي الأرض من أوليائه، ولا يعريها من أحبائه، ليحفظ بهم من جعلهم سببا لحفظه، ويحفظ بهم من جعلهم سببا لكونه، وأنا أسأل المنان بفضله وطوله أن يجعلنا وإياك من الأمناء على سره، الحافظين لما استحفظوه من جليل أمره، تجميلا منه لنا بأعظم الرتب وإشرافا بنا على كل ظاهر ومحتجب. وقد رأيت الله تعالى وتقدست أسماؤه زين بسيط أرضه وفسيح سعة ملكه بأوليائه وأولي العلم به وجعلهم أبهج لامع سطع نوره، وعن لقلوب العارفين ظهوره، وهم أحسن زينة من السماء البهجة بضياء نجومها، ونور شمسها وقمرها، أولئك أعلام لمناهج سبيل هدايته، ومسالك طرق القاصدين إلى طاعته، ومنار نور على مدارج الساعين إلى موافقته، وهم أبين في منافع الخليقة أثرا، وأوضح في دفاع المضار عن البرية خيرا من النجوم التي بها في ظلمات البر والبحر يهتدى، وبآثارها عند ملتبس المسالك يقتدى. لأن دلالات النجوم تكون بها نجاة الأموال والأبدان، ودلالات العلماء بها تكون سلامة الأديان، وشتان ما بين من يفوز بسلامة دينه وبين من يفوز بسلامة دنياه وبدنه.

ص: 280

• سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول سمعت أبا بكر محمد بن أحمد البغدادي يقول سئل الجنيد بن محمد عن المحبة: أمن صفات الذات أم من صفات الأفعال؟ فقال: إن محبة الله لها تأثير في محبوبه بين، فالمحبة نفسها من صفات الذات، ولم يزل الله تعالى محبا لأوليائه وأصفيائه. فأما تأثيرها فيمن أثرت فيه فإن ذلك من صفات الأفعال. فاعلم أرشدك الله للصواب.

• أخبرنا محمد بن أحمد في كتابه وحدثني عنه عثمان بن محمد قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: اعلم أنه إذا عظمت فيك المعرفة بالله وامتلأ من ذلك قلبك وانشرح بالانقطاع إليه صدرك وصفا لذكره فؤادك، واتصل بالله فهمك ذهبت آثارك وامتحيت رسومك واستضاءت بالله علومك، فعند ذلك يبدو لك علم الحق.

• سمعت عبد المنعم بن عمر يقول سمعت أبا سعيد بن الأعرابي يقول سمعت أبا بكر العطار يقول: حضرت الجنيد أبا القاسم عند الموت في جماعة من أصحابنا، قال: وكان قاعدا يصلي ويثني رجله إذا أراد أن يسجد، فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجله فثقلت عليه حركتها، فمد رجليه فرآه بعض أصدقائه ممن حضر ذلك الوقت، يقال له البسامي، وكانت رجلا أبي القاسم تورمتا فقال: ما هذا يا أبا القاسم؟ قال: هذه نعم الله الله أكبر. فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: يا أبا القاسم لو اضطجعت. فقال: يا أبا محمد هذا وقت منة الله أكبر. فلم يزل ذلك حاله حتى مات رحمه الله.

قال الشيخ: كان الجنيد رحمه الله ممن أحكم علم الشريعة. فكان عنده اقتباس آثار الزريعة، وقبوله المدرجة البديعة، وكان القيام بحقائق الآثار يدفعه عن الرواية والآثار

ومن مسانيد حديثه ما حدثناه أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الحافظ بها

قال حدثني بكير بن أحمد الصوفي بمكة ثنا الجنيد أبو القاسم الصوفي ثنا الحسن بن عرفة ثنا محمد بن كثير الكوفي عن عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احذروا

ص: 281

فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». وقرأ {(إن في ذلك لآيات للمتوسمين)} قال للمتفرسين.

• حدثنا محمد بن عبد الله بن سعيد ثنا عبدان بن أحمد ثنا عبد الحميد بن بيان ثنا محمد بن كثير ثنا عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

• سمعت علي بن هارون بن محمد يقول سمعت الجنيد بن محمد يدعو بهذا الدعاء فجاءه رجل فشكا إليه الضيق فعلمه وقال قل: اللهم إني أسألك منك ما هو لك، وأستعيذك من كل أمر يسخطك، اللهم إني أسألك من صفاء الصفاء صفاء أنال به منك شرف العطاء، اللهم ولا تشغلني شغل من شغله عنك ما أراد منك إلا أن يكون لك. اللهم اجعلني ممن يذكرك ذكر من لا يريد بذاكره منك إلا ما هو لك: اللهم اجعل غاية قصدي إليك ما أطلبه منك اللهم أملأ قلبي بك فرحا ولساني لك ذكرا وجوارحي فيما يرضيك شغلا، اللهم امح عن قلبي كل ذكر إلا ذكرك، وكل حب إلا حبك، وكل ود إلا ودك، وكل إجلال إلا إجلالك، وكل تعظيم إلا تعظيمك، وكل رجاء إلا لك، وكل خوف إلا منك، وكل رغبة إلا إليك، وكل رهبة إلا لك، وكل سؤال إلا منك.

اللهم اجعلني ممن لك يعطي ولك يمنع، وبك يستعين وإليك يلجأ، وبك يتعزز ولك يصبر، وبحكمك يرضى. اللهم اجعلني ممن يقصد إليك قصد من لا رجوع له إلا إليك، اللهم اجعل رضائي بحكمك فيما ابتليتني في كل وقت متصلا غير منفصل، واجعل صبري لك على طاعتك صبر من ليس له عن الصبر صبر إلا القيام بالصبر، واجعل تصبرى عما يسخطك فيما نهيتني عنه تصبر من استغنى عن الصبر بقوة العصمة منك له، اللهم واجعلني ممن يستعين بك استعانة من استغنى بقوتك عن جميع خلقك، اللهم واجعلني ممن يلجأ إليك لجأ من لا ملجأ له إلا إليك، واجعلني ممن يتعزى بعزائك ويصبر لقضائك أبدا ما أبقيتني، اللهم وكل سؤال سألته فعن أمر منك لي بالسؤال فاجعل سؤالي لك سؤال محابك، ولا تجعلني ممن يتعمد بسؤاله مواضع الحظوظ بل يسأل القيام بواجب حقك.

ص: 282

• أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي في كتابه وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني قال سمعت عبد الرحمن بن أحمد يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول وهو يدعو بهذا الدعاء: الحمد لله إلهي حمدا كإحصاء علمك، حمدا يرقى إليك على الألسنة الطاهرة مبرأ من زيغ وتهمة، معرى من العاهات والشبهات، قائما في عين محبتك بحنين صدق إخلاصه، ليكون نور وجهك العظيم غايته، وقدس عظمتك نهايته، لا يستقر إلا عند مرضاتك، خالصا بوفاء إرادتك نصب إرادتك، حتى يكون لمحامدك سائقا قائدا، إلهى ليس فى أفق سماواتك ولا في قرار أرضك في فسحات أقاليمها من يحب أن يحمد غيرك إذ أنت منشئ المنشآت لا تعرف شيئا إلا منك وكيف لا تعرفك الأشياء ولم يقر الخلق إلا لك وبدؤه منك وأمره إليك وعلانيته وسره محصي في إرادتك؟ فأنت المعطي والمانع وقضاؤك الضار والنافع، وحلمك يمهل خلقك وقضاؤك يمحو ما تشاء من قدرك، تحدث ما شئت أن تحدثه وتستأثر بما شئت أن تستأثره وتخلق ما أنت مستغن عن صنعه وتصنع ما يبهر العقول من حسن حكمته لا تسأل عما تفعل، لك الحجة فيما تفعل. وعندك أزمة مقادير البشر وتصاريف الدهور، وغوامض سر النشور ومنك فهم معرفة الأشخاص الناطقة بتفريدك لا يغيب عنك ما في أكنة سرائر الملحدين، ولا يتوارى عن علمك اكتساب خواطر المبطلين ولا يهيم في قضائك إلا الجاهلون، ولا يغفل عن ذكرك وشكرك إلا الغافلون، ولا تحتجب عنك وساوس الصدور ولا وهم الهواجس ولا إرادة الهمم ولا عيون الهمم التي تخرج بصائر القلوب. إلهي فكيف أنظر إن نظرت إلا إلى رحمتك، وإن غضضت فعلي نعمك، فمن فضلك جعلت حكمك يحتمل على عطفك ومن فضلك جعلت نعمك تعم جميع خلقك، فهب لي من لدنك ما لا يملك غيرك مما تعلمه يا وهاب يا فعال لما يريد واجعلني من خاصة أوليائك يا خير مدعو وأكرم راحم إنك أنت على كل شيء قدير.

• سمعت أبا الحسن علي بن هارون يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول:

اعلم أن المناصحة منك للخلق والإقبال على ما هو أولى بك فيك وفيهم أفضل

ص: 283

الأعمال لك في حياتك وأقربها إلى أوليائك فى وقتك. واعلم أن أفضل الخلق وفد الله منزلة وأعظمهم درجة في كل وقت وزمن وفي كل محل ووطن أحسنهم إحكاما لما عليه في نفسه وأسبقهم بالمسارعة إلى الله فيما يحبه وأنفعهم بعد ذلك لعباده فخذ بالحظ الموفر لنفسك وكن عاطفا بالمنافع على غيرك واعلم أنك لن تجد سبيلا تسلكه إلى غيرك وعليك بقية مفترضة من حالك. واعلم أن المؤهلين للرعاية إلى سبيل الهداية والمرادين لمنافع الخليقة والمرتبين للنذارة والبشارة أيدوا بالتمكين وأسعدوا براسخ علم اليقين، وكشف لهم عن غوامض معالم الدين وفتح لهم في فهم الكتاب المستبين، فبلغوا ما أنعم به عليهم من فضله وجاد به من عظيم أمره إحكام ما به أمروا، والمسارعة إلى ما إليه ندبوا والدعاية إلى الله بما به مكنوا. وهذه سيرة الأنبياء صلوات الله عليهم فيمن بعثوا إليهم من الأمم وسيرتهم في تأدية ما علموه من الحكم. وسيرة المتبعين لآثارهم من الأولياء والصديقين وسائر الدعاة إلى الله من صالحي المؤمنين.

• كتب إلي جعفر بن محمد وقال أنشدني الجنيد بن محمد

سرت بناس في الغيوب قلوبهم

وجالوا بقرب الماجد المتفضل

ونالوا من الجبار عطفا ورأفة

وفضلا وإحسانا وبرا يعجل

أولئك نحو العرش هامت قلوبهم

وفي ملكوت العز تأوي وتنزل.

أنشدني عثمان بن محمد العثماني قال أنشدني الحسين بن أحمد بن منصور الصوفى للجنيد بن محمد

تريد مني اختبار سري

وقد علمت المراد منى

فليس لي من سواك حظ

فكيفما شئت فامتحنى

كل بلاء علي مني

يا ليتني قد أخذت عني.

• كتب إلي جعفر بن محمد بن نصير الخلدي وسمعت أبا طاهر المحتسب يقول قرأت على أبي محمد جعفر بن محمد بن نصير وهو يسمع قال: كان الجنيد ابن محمد يدعو بهذا الدعاء على ممر الأيام. الحمد لله حمدا دائما كثيرا طيبا مباركا موفورا لا انقطاع له ولا زوال ولا نفاد له ولا فناء كما ينبغي لكريم وجهك

ص: 284

وعز جلالك وكما أنت أهل الحمد في عظيم ربوبيتك وكبريائك ولك من كل تسبيح وتقديس وتمجيد وتهليل وتحميد وتعظيم ومن كل قول حسن زاك جميل ترضاه مثل ذلك. اللهم صل على عبدك المصطفى المنتخب المختار المبارك سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أشياعه وأتباعه وأنصاره وإخوانه من النبيين. وصل اللهم على أهل طاعتك أجمعين من أهل السموات والأرضين، وصل على جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ورضوان ومالك.

اللهم وصل على الكروبيين والروحانيين والمقربين والسياحين والحفظة والسفرة والحملة، وصل على ملائكتك وأهل السموات وأهل الأرضين وحيث أحاط بهم علمك في جميع أقطارك كلها صلاة ترضاها ونحبها وكما هم لذلك كله أهل. وأسألك اللهم بجودك ومجدك وبذلك وفضلك وطولك وبرك وإحسانك ومعروفك وكرمك وبما استقل به العرش من عظم ربوبيتك أسألك يا جواد يا كريم مغفرة كل ما أحاط به علمك من ذنوبنا والتجاوز عن كل ما كان منا وأد اللهم مظالمنا وقم بأودنا في تبعاتنا جودا منك ومجدا وبذلا منك وطولا، وبدل قبيح ما كان منا حسنا يا من يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. أنت كذلك لا كذلك غيرك اعصمنا فيما بقي من الأعمار إلى منتهى الآجال عصمة دائمة كاملة تامة، وكره إلينا كل الذي تكره، وحبب إلينا كل الذي ترضاه وتحبه، واستعملنا به على النحو الذي تحب وأدم ذلك لنا إلى أن تتوفانا عليه أكد على ذلك عزائمنا واشدد عليها نياتنا وأصلح لها سرائرنا وابعث لها جوارحنا وكن ولي توفيقنا وزيادتنا وكفايتنا. هب لنا اللهم هيبتك وإجلالك وتعظيمك ومراقبتك والحياء منك وحسن الجد والمسارعة والمبادرة إلى كل قول زكي حميد ترضاه، وهب لنا اللهم ما وهبت لصفوتك وأوليائك وأهل طاعتك من دائم الذكر لك وخالص العمل لوجهك على أكمله وأدومه وأصفاه وأحبه إليك. وأعنا على العمل بذلك إلى منتهى الآجال. اللهم وبارك لنا في الموت إذا نزل بنا اجعله يوم حباء وكرامة وزلفى وسرور واغتباط، ولا تجعله يوم ندم ولا يوم آسى وأوردنا من قبورنا على سرور وفرح وقرة عين، واجعلها رياضا من رياض

ص: 285

جنتك وبقاعا من بقاع كرامتك ورأفتك ورحمتك، لقنا فيها الحجج وآمنا فيها من الروعات واجعلنا آمنين مطمئنين إلى يوم تبعثنا يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، لا ريب في ذلك اليوم عندنا، آمنا من روعاته وخلصنا من شدائده واكشف عنا عظيم كربه واسقنا من ظمئه واحشرنا في زمرة محمد صلى الله عليه وسلم المصطفى الذي انتخبته واخترته وجعلته الشافع لأوليائك المقدم على جميع أصفيائك، الذى جعلت زمرته آمنة من الروعات أسألك يا من إليه لجؤنا إليه إيابنا وعليه حسابنا أن تحاسبنا حسابا يسيرا لا تقريع فيه ولا تأنيب ولا مناقشة ولا مواقفة، عاملنا بجودك ومجدك كرما واجعلنا من السرعان المغبوطين وأعطنا كتبنا بالأيمان وأجزنا الصراط مع السرعان وثقل موازيننا يوم الوزن ولا تسمعنا لنار جهنم حسيسا ولا زفيرا، وأجرنا منها ومن كل ما يقرب إليها من قول وعمل، واجعلنا بجودك ومجدك وكرمك في دار كرامتك وحبورك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، واجمع بيننا وبين آبائنا وأمهاتنا وقراباتنا وذرياتنا في دار قدسك ودار حبورك على أفضل حال وأسرها، وضم إلينا إخواننا الذين هم على ألفتنا والذين كانوا على ذلك من كل ذكر وأنثى بلغهم ما أملوه وفوق ما أملوه واعطهم فوق ما طلبوه واجمع بينا وبينهم في دار قدسك ودار حبورك على أفضل حال وأسرها، وعم المؤمنين والمؤمنات جميعا برأفتك ورحمتك الذين فارقوا الدنيا على توحيدك، كن لنا ولهم وليا كالئا كافيا وارحم جفوف أقلامهم ووقوف أعمالهم وما حل بهم من البلاء، والأحياء منهم تب على مسيئهم واقبل توبتهم وتجاوز عن المسرف منهم وانصر مظلومهم واشف مريضهم وتب علينا وعليهم توبة نصوحا ترضاها فإنك الجواد بذلك المجيد به القادر عليه، وكن اللهم للمجاهدين منهم وليا وكالئا وكافيا وناصرا وانصرهم على عدوهم نصرا عزيزا واجعل دائرة السوء على أعدائك وأعدائنا أسفك الله دماءهم وأبح حريمهم واجعلهم فيئا لإخواننا من المؤمنين، وأصلح الراعي والرعية وكل من وليته شيئا من أمور المسلمين صلاحا باقيا دائما، اللهم أصلحهم في أنفسهم وأصلحهم لمن وليتهم

ص: 286

عليهم وهب لهم العطف والرأفة والرحمة بهم وأدم ذلك لنا فيهم ولهم في أنفسهم.

اللهم اجمع لنا الكلمة واحقن الدماء وأزل عنا الفتنة وأعذنا من البلاء كله تقول ذلك لنا بفضلك من حيث أنت به أعلم وعليه أقدر ولا ترنا في أهل الإسلام سيفين مختلفين، ولا ترنا بينهم خلافا، اجمعهم على طاعتك وعلى ما يقرب إليك فإنك ولي ذلك وأهله، اللهم إنا نسألك أن تعزنا ولا تذلنا وترفعنا ولا تضعنا وتكون لنا ولا تكن علينا وتجمع لنا سبيل الأمور كلها أمور الدنيا التي هي بلاغ لنا إلى طاعتك ومعونة لنا على موافقتك. وأمور الآخرة التي فيها أعظم رغبتنا وعليها معولنا وإليها منقلبنا فإن ذلك لا يتم لنا إلا بك ولا يصلح لنا إلا بتوفيقك. اللهم وهب لنا هيبتك وإجلالك وتعظيمك وما وهبت لخاصتك من صفوتك من حقيقة العلم والمعرفة بك من علينا بما مننت به عليهم من آياتك وكراماتك واجعل ذلك دائما لنا يا من له ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير. اللهم وهب لنا العافية الكاملة في الأبشار وجميع الأحوال وفى جميع الأخوان والذريات والقرابات وعم بذلك جميع المؤمنين والمؤمنات أجر علينا من أحكامك أرضاها لك وأحبها إليك وأعونها على كل مقرب من قول وعمل يا سامع الأصوات ويا عالم الخفيات ويا جبار السموات صل على عبدك المصطفى محمد وعلى آل محمد أولا وآخرا ظاهرا وباطنا واسمع واستجب وافعل بنا ما أنت أهله يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

‌محمد بن يعقوب

ومنهم العارف بالأصول العازف عن الفضول، له القلب الخاشع والأذن السامع، أحكم علم الآثار وأتقنها وألف في المعاملات والأحوال وأوضحها: أبو جعفر محمد بن يعقوب بن الفرجي

صحب الحارث بن أسد المحاسبي وطبقته، له مصنفات في معاني الصوفية.

كتاب الورع وكتاب صفات المريدين. كان من الأئمة في علوم النساك، يرفع من الفقراء وينصرهم ويضع من المدعين ويزري عليهم.

• كتب إلي جعفر بن محمد بن نصير فيما أذن لي قال سمعت المرتعش يقول

ص: 287

قال أبو جعفر بن الفرجي: مكثت عشرين سنة لا أسأل عن مسألة إلا ومنازلتي فيها قبل قولي. وقال: إذا صح الود سقطت شروط الأدب. وحكى عبد المنعم بن عمر بن أبي سعيد بن الأعرابي أنه قيل لأبي جعفر بن الفرجي إنك تنكر الزعقة والصيحة فقال: إنما أنكرها على الكذابين. وقال: ما زعقت من عمري إلا ثلاث زعقات: فإني انتهيت ببغداد يوما إلى الجسر وأخرج رجل من الشطاحين من السجن يضرب ثم رد إلى السجن والناس يتعجبون من صبره على الجلد فجئت إليه فقلت مسألة فقال: أوسعوا له. ما مسألتك؟ قلت أسهل ما يكون الضرب عليكم أي وقت؟ قال: إذا كان من ضربنا له يرانا. قال: فصحت ولم أملك السكوت قال أبو سعيد بن الأعرابي أخبرني عمي يحيى بن أحمد قال أخبرني ابن المرزبان الصيقل قال: أردت الخروج إلى مكة فرافق الجمال بيني وبين إنسان لا أعرفه فقلت له بعد أن رافقنى: تحتاج من الزاد كذا وكذا ومن الزيت كذا وكذا فقال: قد اشتريت جميع ذلك فلا تشتر شيئا، وظننت أنه يحاسبني عليه كما يفعل الرفقاء، وكان في الطريق يسرف ويوسع النفقة، فأقول في نفسي كل هذا يحاسبني به فكنت أحتشمه أن أقول له أقصر وأحتمله، فلما صرت بمكة عزم على المقام بمكة فقلت له الحساب فقال سبحان الله تذكر مثل هذا؟ وأقبل ينكر علي ذلك فقلت لا بد منه فأبى ذلك وقال: من يفعل ذلك؟ فسألت عنه فإذا هو الفرجي.

• وروي عن أبي جعفر محمد بن الفرجي. قال: خرجت من الشام على طريق المفازة فوقعت فى التيه فمكثت فيه أياما حتى أشرفت على الموت قال:

فبينا أنا كذلك إذا أنا براهبين يسيران كأنهما خرجا من مكان قريب يريدان ديرا لهما قريبا، فقمت إليهما فقلت: أين تريدان؟ قالا لا ندري. قلت: أتدريان أين أنتما؟ قالا: نعم، نحن في ملكه ومملكته وبين يديه. فأقبلت على نفسي أوبخها وأقول لها راهبان يتحققان بالتوكل دونك؟ فقلت لهما: أتأذنان في الصحبة؟ قالا ذلك إليك. فاتبعتهما فلما جن الليل قاما إلى صلاتهما وقمت إلى صلاتي فصليت المغرب بتيمم فنظرا إلي وقد تيممت، فضحكا مني فلما

ص: 288

فرغا من صلاتهما بحث أحدهما الأرض بيده فإذا بماء قد ظهر وطعام موضوع فبقيت أتعجب من ذلك فقالا مالك، ادن فكل واشرب. فأكلنا وشربنا وتهيأت للصلاة ثم نضب الماء فذهب، فلم يزالا في الصلاة وأنا أصلي على حدة حتى أصبحنا وصلينا الصبح ثم أخذنا في المسير فمكثنا على ذلك إلى الليل، فلما جننا الليل تقدم الآخر فصلى بصاحبه ثم دعا بدعوات وبحث الأرض بيده فنبع الماء وحضر الطعام. فلما كانت الليلة الثالثة قالا: يا مسلم هذه نوبتك الليلة فاستخر الله قال فتعبت فيها واستحيت ودخل بعضي في بعض قال:

فقلت اللهم إني أعلم أن ذنوبي لم تدع لي عندك جاها ولكن أسألك ألا تفضحني عندهما ولا تشمتهما بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأمة نبيك. فإذا بعين خرارة وطعام كثير فأكلنا من ذلك الطعام وشربنا ولم نزل كذلك حتى بلغتني النوبة الثانية ففعلت كذلك فإذا بطعام اثنين وشراب، فكففت يدي وأريهما أني آكل ولم آكل فسكتا عني. فلما كانت النوبة الثالثة أصابني كذلك فقالا لي: يا مسلم ما هذا؟ قلت لا أدرى. فلما كان فى جوف الليل غلبتني عيناي فإذا بقائل يقول يا محمد أردنا بك الإيثار الذي اختصصنا به محمدا صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء والرسل فهى علامته وكرامتك وكرامة أمته من بعده إلى يوم القيامة. قال فبلغت نوبتي وكان الأمر على هذه الصورة فقالا لي: يا مسلم ما هذا ما لنا نرى طعامك ناقصا؟ قلت: أولا تعلمان ما هذا؟ قالا لا قلت هذا خلق خص الله به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وخص به أمته، إن الله عز وجل يريد به الإيثار فقد آثرتكما. قال فقالا: نحن نشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. لقد صدقت قولك هذا خبر نجده في كتبنا خص الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته فأسلما. فقلت لهما في الجمعة والجماعة قالا ذلك الواجب؟ قلت نعم قالا: فاسأل الله أن يخرجنا من هذا التيه إلى أقرب الأماكن من الشام قال فبينا نحن نسير إذ أشرفنا على بيوتات بيت المقدس.

ومما أسند:

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن يعقوب بن الفرجي الرملى ثنا إبراهيم ابن المنذر المجذمي ثنا عبد الله بن وهب ثنا قرة بن عبد الرحمن عن يزيد

ص: 289

بن أبي حبيب عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي قال:

«استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل تمرا فلما جاءه يتقاضاه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس عندنا اليوم، فإن شئت أخرت عنا حتى يأتينا فنقضيك فقال الرجل وا عذراه فتذمر عمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه يا عمر فإن لصاحب الحق مقالا انطلقوا إلى خولة بنت حكيم الأنصارية فالتمسوا لنا عندها تمرا فانطلقوا فقالت والله ما عندي إلا تمر ذخيرة فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: خذوه فاقضوه، فلما قضوه قبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: قد استوفيت؟ قال نعم قد أوفيت وأطبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خيار عباد الله الموفون المطيبون» . قال سليمان تفرد به قرة عن يزيد.

• حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم ومحمد بن أحمد بن شبويه قالا: ثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حكيم ثنا محمد بن يعقوب الفرجي ثنا محمد بن عبد الملك بن قريب الاحمر قال حدثني أبي ثنا أبو معشر عن سعد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمنين» .

• أخبرنا أبو مسعود محمد بن إبراهيم بن عيسى المقدسي في كتابه ثنا محمد بن يعقوب الفرجي ثنا خالد بن يزيد ثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع» .

• حدثنا عبد المنعم بن عمر ثنا أبو سعيد الأعرابي ثنا محمد بن يعقوب الفرجي ثنا علي بن المديني ثنا المعتمر بن سليمان عن سفيان الثوري عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بشر أمتي بالسناء والرافعة والتمكين وأن من عمل عمل الآخرة يريد به الدنيا فليس له في الآخرة من نصيب» .

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا أحمد بن عمرو بن جابر ثنا محمد بن يعقوب

ص: 290

الفرجي ثنا أحمد بن عيسى أبو طاهر ثنا ابن أبي فديك ثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر» .

‌عمرو بن عثمان المكي

ومنهم العارف البصير والعالم الخبير، له اللسان الشافي، والبيان الكافي، معدود في الأولياء محمود في الأطباء، أحكم الأصول وأخلص في الوصول أبو عبد الله عمر بن عثمان المكي

ساح في البلاد وباح بالوداد. وصحب الأصفياء من العباد.

• سمعت أبا محمد بن عبد الله بن محمد بن جعفر يقول سمعت أبا عبد الله عمرو بن عثمان المكي وأملى علي في جواب مسألة سئل عنها يخاطب السائل:

أقم على نفسك الموازنة بعقلك في تفقد حالك ومقامك هذا إن كل ما عارضك من الأشغال من كل شيء أعني من حق أو باطل أزالك عن مقامك هذا بانصراف اليسير من عقلك فذلك كله عذر، فاهرب وافزع إلى الله عند اعتراض الخواط وسورة العوارض وحيرة الهوى إلى مولاك وسيدك ومن بين يديه ضرك ونفعك الذي خلصت في نفسك وحدانيته وقدرته وتفريد سلطانه وتفريد فعل ربوبيته إذ لا قابض ولا باسط ولا نافع ولا ضار ولا معين ولا ناصر ولا عاصم ولا عاضد إلا الله وحده لا شريك له في سمائه وأرضه. وهذا أول مقام قامه أهل الإيمان من تصحيح القدرة في إخلاص تفريد أفعال الربوبية وهو أول مقام قامه المؤمنون وأول مقام قامه المخلصون وأول مقام قامه المتوكلون في تصحيح العلم المعقود بشرط التوكل في الأعمال قبل الأعمال. واعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو رسخ في مجاري فكرتك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو إشراف أو ضياء أو جمال أو شبح ماثل أو شخص متمثل فالله بخلاف ذلك كله، بل هو تعالى أعظم وأجل وأكمل ألم تسمع إلى قوله تعالى {(ليس كمثله شيء)} وقوله عز وجل {(ولم يكن له كفوا أحد)} أي لا شبه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل. وقف عند خبره عن نفسه مسلما مستسلما

ص: 291

مذعنا مصدقا بلا مباحثة التنفير ولا مفاتشة التفكير جل الله وعلا الذي ليس له نظير ولا يبلغ كنه معرفته خالص التفكير ولا تحويه صفة التقدير، السموات مطويات بيمينه والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الظاهر على كل شيء سلطانا وقدرة والباطن لكل شيء علما وخبرة خلق الأشياء على غير مثال ولا عبرة ولا تردد ولا فكرة تعالى وتقدس أن يكون في الأرض ولا في السماء وجل عن ذلك علوا كبيرا، أقام لقلوب الموقنين مدا يمسكه التسليم عن التيه في بحور الغيوب المضروبة دون ذي الجلال والكبرياء. فشكر لهم تسليمهم واعترافهم بالجهل بما لا علم لهم به وسمى ذلك منهم رسوخا وربانية أو إيمانا لقوله تعالى:

{(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)} وما خبر عن ملائكته إذ قالوا {(لا علم لنا إلا ما علمتنا)} عجزت الملائكة المقربون أن تحد أحسن الخالقين أو تكيف صفة رب العالمين فهم خشوع خضوع خنوغ فى حجرات سرادقات العرش محبوسون أن يتأملوا ساطع النور الأوهج فهم يضجون حول عرشه بالتقديس ضجيجا ويعجون بالتسبيح عجيجا باهتون راهبون خائفون مشفقون وجلون لما بدا لهم من عظيم القدرة ولما أيقنوا به وسلموا له من شموخ الرفعة، فكيف تطمع يا أخي نفسك أو تطلق فكرك في شيء من الاحتواء على صفة من هذا وصفه. وقانا الله تعالى وإياك اعتراض الشكوك، وعصمنا وإياك في كنف تأييده من التخطي بالأفهام إلى اكتناه من لا تهجم عليه الظنون ولا تلحقه في العاجلة العيون، جل وتعالى عن خطرات الهفوات وعن ظنون الشبهات علوا كبيرا: فبهذا فاعرف ربك ومولاك ومن لا تأخذه سنة ولا نوم، فيكون سلاحك وعظم عدتك ومجاهدتك وجنتك من عدوك عند من يلقى إليك في خالقك. فهذا الذي وصفت لك فإليه فالتجئ وبه فاستمسك ثم عد إليه بملق اللوذان، واستكانة الخضوع أن يعصمك الله ويثبتك فهو المثبت لقلوب أوليائه بصحة اليقين من الزوال كما أمسك أرضه بالجبال من الزلزال والسلام.

• سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد يقول سمعت عمرو بن عثمان يقول:

ص: 292

إن الله جعل الاختبار موصولا بالاختيار، والإجابة مؤداة إلى الأبرار، بتوفيق هدايته وابتداء رأفته، وجعل رحمته مفتاحا لكل خير في أرضه وسمائه.

فكان مما اختار لنفسه عبادا اتخذهم لنفسه ورضيهم لعبادته واصطنعهم لخدمته واجتباهم لمحبته ونصبهم لدعوته وأبرزهم لإجابته واستعملهم بمرضاته، فألطف لهم في الدعوة باختصاص المنة، فأظهر دعوته في قلوبهم بإظهار صنعه وصنعائه، وما غذاهم به من لطفه وألطافه وبره ونعمائه، فوطأ لهم الطريق، وكشف عن قلوبهم فسارعت قلوبهم بإجابة التحقيق، وذلك لما عرفوا واستبانوا مما به لله دانوا مما تعرف به إليهم من البر والتحف والكرامات والطرف والفوائد السنية والمواهب الهنية، فسارعت لإجابته بخالص موافقته والإعراض عن مخالفته والعطف على كل ما عطف به عليها والإقبال على كل ما دعاها إليه بلا تثبط في مسير ولا التفات في جد ولا تشمير، فوصلوا الغدو بالتبكير وقطعوا فيها العلائق وانفردوا به دون الخلائق، فساروا سير متقدمين، وجدوا جد معتزمين، وحثوا حث مبادرين، وداوموا مداومة ملازمين، وانتصبوا انتصاب خائفين للفوت والحرمان، وخوف السلب لما تقدم إليهم من الإحسان، فعبدوه بأبدان خفاف، وعاملوه بفطن لطاف، وقصدوه بإرادات صادقة، وهمم خالصة ورغبات طامحة، وقلوب صافية، فابتدءوا من معاملة الله فيما به ابتدأهم حين دعاهم إذ يقول تعالى {(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)} فطلبوا طيب الحياة بإخلاص الأجابة، وعملوا فى الظفر بالحياة إذ دعاهم الله إليها، ونبههم بلطفه عليها، فجعلوا إقامتهم وإرادتهم وأملهم ومناهم الظفر بالحياة فعملوا في تحقيق موجباتها في الأحوال الواردة بهم عليها.

• سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن جعفر يقول سمعت عمرو بن عثمان المكي يقول في وصف سياسة النفوس قال: يبتدئ بعد الإجابة بتوفيق النفوس لما كان منها من مخالفة الملك ومعصيته الجبار، فألزمها التوبة والتنصل والاعتذار وتكرير الاستغفار الاجتهاد في حل الإصرار باللجأ والاستئجار والاعتصام بمليكهم الجبار، فوافقوها موافقة على موازنة، وعاتبوها معاتبة على محاضرة

ص: 293

ووبخوها بما فرط منها من الجهل والتضييع والشرور والتمادي والتمرد في ركوب المعاصي، فوبخوها بين يديه وعاتبوها معاتبة من قد عرض عليه وقرروها تقرير مناقشة الحساب، وجرعوها ما توعده الله من أليم العذاب وشديد العقاب، ثم أقاموها مقام الخزي فأبدلوها بحال الرفاهات القشف والتقشف والضر والتخفف. فأبدلوها بالشبع جوعا، وبالنوم سهرا وبالراحة تعبا وبالقعود تصبا وبطيب المطاعم الخبيث الخشن وبلين الملابس الخشن الجافي، وبأمن الوطن خوف البيات. ثم أزعجوها عن توطن ما به ألزموها فمنعوها استواء الأوقات في بذل الاجتهاد، وأخذوها بدائم الازدياد على سبيل الموازنة، وأقاموها مقام التصفح والتفتيش والمحاسبة والتوقيف على كل لحظة وخطرة وهمة ولفظة وفكرة وأمنية وشهوة وإرادة ومحبة، فهكذا أبدا دأبهم، وفي هذه أبدا حالهم على هذه السياسة بشرط هذه المجاهدة وانتصاب هذه المكابدة وإحاطة هذه المراوضة ومع هذا فالهرب إلى الله فيها والاعتضاد بالله عليها والتأوي إلى الله منها، والاستعاذة بالله من شرها. والاستعانة بالله على كيدها والصراخ إلى الله عند شرودها. واستغث بالملك الأعلى الذي هو صريخ الأخيار ومنجأ الأبرار وملتجأ المتقين وناصر الصالحين لأن الله تعالى إذا شكر لوليه عظيم ما جاهد وجسيم ما كابد ومشقة ما احتمل وجهد ما انتصب تولاه بالنصرة والتأييد والعز والتأييد. ومن نصره لم يخذل، ومن أعزه لم يقهر، ومن تولاه لم يذل. فروحها روح اليقين وأضاء لها علامات التصديق من الله بالقبول وأنارت لها علامات التحقيق وتوالت عليها مداومة المزيد وعادت عليها تكرار التحف والبر والكرامات، وعطفت عليها عواطف الفضل بالرحمة والبذل، لأن الله تعالى المبتدئ عبده مما ابتدأ به العبد من بذل في قربة أو من اجتهاد في وسيلة أو من منافسة في فضيلة أو من مسارعة إلى خدمة أو من إخلاص في نية أو من تكامل في رغبة أو من تحقيق في محبة. فالله المبتدئ لها بذلك بما به أقامها وبما به إليها دعاها. فهذه كلها صفة الحياة ومشاربها وانبجاس أحوالها وتشعب مذاقاتها بكل ما وصفناه من غم وسرور

ص: 294

وراحة وجهد، ورفاهة وتعب، ومواقفة ونصب، وبكاء وحزن. وخوف وكمد فذلك كله من صفة الحياة التي دعا الله إليها ونبه قلوبهم عليها بقوله سبحانه وتعالى {(استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)} .

• سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد يقول سمعت عمرو بن عثمان يقول:

المخلصون من الورعين هم الذين تفقدوا قلوبهم بالأعمال والنيات في كل أحوالهم وأعمالهم وحركاتهم وسكونهم مواظبين للاستقامة المفترضة على طاعة الله، وله محافظين، ومن دخول الفساد عليهم مشفقين، فأورثهم الله مراقبته، فهنالك تنتصب قلوبهم بمداومة المحافظة لنظر الله إليهم ونظره إلى سرائرهم وعلمه بحركاتهم وسكونهم فهنالك تقف القلوب بعلم الله فلا تنبعث بخطرة ولا همة ولا إرادة ولا محبة ولا شهوة إلا حفظوا علم الله بهم في ذلك فلم تبرز حركات الضمير إلى تحريك الجوارح إلا بالتحصيل والتمييز لقوله تعالى {(إن الله كان عليكم رقيبا)} . ولقوله سبحانه {(وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه)} فإذا انتصبت المراقبة بدوام انتصاب القلوب بها فهنالك يكون تمام الإخلاص والحيطة في العمل وهنالك يورثهم الله الحياء. فدوام المراقبة يفشي الحياء ويمده ويزيد فيه. والحياء يعمر القلوب بدوام الطهارة ويخرج من القلوب حلاوة الماء ثم حلاوة الشهوات ودوام الحياء يوجب على القلوب إعظام حرمات الله باعظام مقام الله حياء من جلال الله، لأن إجلال حرمات الله في القلوب غاسل للقلوب بماء الحياة الوارد عليها من فوائد الله، فتخلق الدنيا في قلوبهم وتصغر الأشياء فيها، وتقوى حركات اليقين بصفاء النظر إلى الموعود، فيوصلها بالمعروف ويرجع عليها اليقين بالتوبيخ في إعظام الدنيا والسعي لها ولجمعها.

• سمعت أبا محمد يقول سمعت عمرو بن عثمان يقول: اعلم أن حد الشكر في القلوب خارج من الاشتغال بالفرح على النعم والاشتغال ببهجتها بما يغلب على النفوس من شرهها عليها وعظيم حظها فيها، فالشكر خارج من ذلك فإذا ما حل بالقلوب زهرات النعم ورونق صفوها، وخفض العيش فيما هاج في القلوب

ص: 295

ذكر المنعم بها والمتولي للامتنان بها، فاتصل فرحهم بشكره وأوصلتهم النعمة إلى الابتهاج بالمنعم والذكر له والثناء عليه. فهذا حد الشكر. فيما ذاقته القلوب.

فلما صرفت الأفراح عن حظوظ النفوس إلى مواضع الشكر ابتهاجا بالمنعم دون حظ النفوس بالنعمة، خلصت تلك الأفراح رضاء عن الله وبشاشة القلوب بمر الفضاء واختلاف الأحكام بمخالفة المحاب والسرور بمر القضاء، ويكون السرور مقرونا بالمحبة لله التي هي معقودة في عقود الإيمان، وموجودة في أصل العرفان، لأنه لا يصح إلا بثلاث حالات. إخلاص لتوحيده، ورضى به أنه رب، ومحبة له على كل شيء. إذ هو إلهه ومالك ضره ونفعه ورفعه ووضعه وحياته وموته، فولهت القلوب إليه بضر الفاقة فهذا معنى المحبة المفترضة في عقود الإيمان كفرض الإيمان

قال الشيخ رضي الله تعالى عنه: كان عمرو بن عثمان رحمه الله تعالى حظوظه في فنون العلم غزيرة، وتصانيفه بالمسانيد والروايات شهيرة.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عمرو بن عثمان ثنا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن عيينة عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وكل على خير واحرص على ما ينفعك ولا تعجر، فإن فاتك شيء فقل كذا قدر وكذا كان، وإياك ولو فاتها مفتاح عمل الشيطان» . غريب من حديث ابن عيينة عن ابن عجلان

‌رويم بن أحمد

ومنهم الفطن المكين، له البيان والتبيين، والرأي المتين، رويم بن أحمد أبو الحسن الأمين. كان بالقرآن عالما، وبالمعاني عارفا وعلى الحقائق عاكفا، قلد بفصل الخطاب، ولم تؤثر فيه العلل والأسباب. كان سمي جده رويم بن يزيد المقرئ الراوي عن ليث بن سعد وإسماعيل بن يحيى التميمى.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير في كتابه وحدثنى عنه الحسين بن يحيى الفقيه الاسفيد فانى قال سمعت رويما يقول: الإخلاص ارتفاع رؤيتك عن فعلك والفتوة أن تعذر إخوانك في زللهم ولا تعاملهم بما يحوجك إلى الاعتذار منهم.

ص: 296

• أخبر عبد الواحد بن بكر قال سمعت أحمد بن فارس يقول: حضرت رويما وسأله أبو جعفر الحداد: أيهما أفضل الصحو أو السكر؟ فانزعج رويم كالمغضب فقال: لا والله أو تهدأ هدو الصخر في قعور البحار، فإن هدأت استودعك، وإن انزعجت طالبك، أما سمعته يقول:{(فمستقر ومستودع)} وسأله بعض الناس أن يوصيه بوصية فقال: ليس إلا بذل الروح وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية فإن أمرها هذا مبني على الأصول.

• سمعت أبا الحسين محمد بن علي بن حبيش يقول كان رويم يقول: السكون إلى الأحوال اغترار. وكان يقول: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير في كتابه وحدثني عنه أبو عمرو العثماني قال سمعت رويم بن أحمد المقرئ يقول: لما رأيت الطالبين قد تحيروا والمريدين قد فتروا والمتعبدين والعلماء بما غلب عليهم من سلطان الهوى قد سكروا لما رأوا المنتسبين إلى علم المعرفة على طبقات مختلفة ومقامات متفاوتة من استصغار الأحوال وأهلها، والتراخي عن الأعمال والاعراض عنها، تسوروا على ذرى قصرت عنها مقاماتهم عجزا عن بلوغها، واغترارا بما سمعوه من علوها، احتجت أن أعلم السبب الذي أوقعهم في هذه الشبهة، وأوقفهم في هذه المنزلة قبل أوانها، والاستحقار للنزول فيها قبل حينها، فرأيته سببين كل سبب منهما على أصلين، أحدهما، استعجال المنزلة قبل وقتها عجزا عما عمل فيه الصادقون، وبذله المحققون والآخر الجهل بطريق السالكين إليها وإغفال التقوى عمالها وعليها. رضي منهم باسم لا حقيقة تحته تأويهم، ولا مكانا منه يغنيهم. فلما رأيت ذلك من أمرهم دعاني داع إلى التبيين لأمورهم، والنداء لمن سمع منهم، والكشف عن سببهم، والتحذير عن مثل غرتهم، ومن أين أتوا وعلى ماذا عولوا، وبما تعلقوا فيما إليه ذهبوا، فنقبت عن سرائرهم بالمساءلة لكبرائهم، والمباحثة لأئمتهم في تكوين المكونات على اختلافهم فى الاصول، والمقامات أصلين عظيمين تمسك كل فرقة منهم بأصل. ففرقة قالت: لما رأيت كل حادثة تحت الكون من الأفعال وغيرها من الأجسام

ص: 297

والأعراض لا تخلو من أحد أمرين: إما محدث ظهر إلى الكون بغير علة ولا سبب جعله مقدما لإجرائه فيكون ذلك المحدث عنه أو يكون حدثها ظهر عن علة وسبب تقدمها، فرأيت مدار قول هذه الفرقة فيما به تعلقت وإليه رجعت أن المخترعات أفعالها وأقوالها لله الواحد القهار، فلم أدفع الأصل فيما إليه أشارت ودخلت الشبهة عليهم، إذ لم يفرقوا بين ما أحدثه المحدث من الخير والشر والهدى لمن اهتدى والغي لمن غوى، فدخلت عليهم هذه العلة الجامعة من المختلفات من أفعاله المحدثات بين ذواتها وهيئاتها، والعذب للفرات والملح الأجاج والحسن والقبيح والعدل والجور والخبيث والطيب.

وما فرف بين ذلك إذ يقول {(وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج)} وقال. {(هل يستوي الأعمى والبصير)} . وقال.

{(أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)} وقال. {(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا)} وقال {(لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)} : فرأيت الله وإن كان هو منشئ الأشياء بسبب وبغير سبب، قد فضل خلقه بين منشآته، وبين ذلك في آياته، فذهب على هذه الفرقة ما فضل الله به بعض الأشياء على بعض، وكل ذلك بأمره قد نفذ فيه حكمه، وبرئ من عاره وإثمه، وغاب عنها إحداث الله للخلق على طبائع مختلفة، ودواع متباينة. إذ طبع النفوس أرضية بشرية مطالبة بحاجتها وشهواتها، وطبع الروح نزهة تطالب بصفائها وتقتضي شرف علوها. وجعل العقل سراجا بينهما كل ينازعه ويجذبه إليه ليستعين به فيما يطلبه من حظه، فمن غلب عليه منها أداه ذلك إلى ملك القلب، فمتى ملك القلب أحدهما فإن كان ذلك تأثير العقل انقادت له الجوارح. ثم رأيت النفس وإن كان طبعها العاجلة في فعل ذلك بها تأثيرا لها وما طبع عليه من قبول الانفعال. وكذلك للروح تأثير انفعالها فيما فعل فيه. ورأيت سلطان النفس الهوى، ووزيرها الجهل وفعلها الجور.

ورأيت ذلك كله وإن كان في قبضة التدبير وسلطان القهر خارجا من الجبر

ص: 298

ممكنا من النظر والتصفح والإقدام والإحجام، سببا للبلاء ومجري للاختبار الموجب للولاية المظهر للعداوة. ثم رأيت المقامات في ذلك مختلفة، والأحوال متباينة، والمعارف متفاوتة. فمن بين مقصر قد أحاطت به رؤية التقصير واعترف بتخلفه وأزرى على نفسه، وبين سابق قد بذل في العبادة لله جهده فلم يبلغ من ذلك إربه، متعلق بعبادته ناظر إلى مجاهدته وتحصيل محاسبته لنفسه. وآخر مع جهده مأخوذ عن أحواله، وقد وصل به آماله وصدقه في أعماله وأخلص في قصده واستفرغ جهده، فبلغ من ذلك حظه، فأعرضت عن ذكر هؤلاء أجمعين.

وفرقة أخرى من العارفين أشرفت على عجائبهم في مقاماتهم وعظيم طرقهم في سيرهم وسيرهم، وقطع مفازهم في تيه مضلة العقول، وتنسم عقاب الحيرة، وقطع لجة الهلكة وصراط الاستقامة، فرأيتهم بعين لا يستتر عنها متوار فى حجا به، قد خدع المغرور منهم بمكانه، فمن بين صريع تحت إشارته في بحر عميق بين علم الجمع والتفريق. فرأيته أسوأ حالا ممن خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح فى مكان سحيق

وفرقة أخرى قد أنس بالفناء في مكانه، واستبطن البقاء مع أهل زمانه، فلا هو بعلم الفناء يقوم، ولا على روح البقاء يدوم، فعمه في طغيانه ولم تختلف عليه أحكامه، ولم يعرف الحق من الباطل، ولا فرق بين المخلوق والخالق، ولا الفاعل، والمفعول، ولا الفعل من الانفعال ولا تميز له الظاهر من الباطن، ولا العاجز من القادر، فكان كمن {(اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله)} .

وفرقة منهم رأت أنه مكن في مقامه ولاحت له الأحكام فلم يكن عنده لها مكان إلا ما علق منها على الخلق، وإنما كانت الأحكام عندهم معلقة على الخلق لرؤية آثارهم وحضور إراداتهم واختلاف أحوالهم والمشاهدة منهم في أنفسهم من بين عقل متين وهوى مائل، فلذلك علق عليهم لأمره عندهم، وقصدوا بالنهي وبعثت إليهم الرسل فتمكن منهم الجهل واستوثق منهم العجب، فلم يمكن

ص: 299

فيها علاج العلماء، ولم يصل إليها لطيف حكمة الحكماء. لتعلقهم بفقد من الوجد ولو حلت من وجود الحق هذا المحل لأجرت الأحكام مجاريها، وسلمت من سكرة المعرفة ودواهيها

وأما الفرقة التي علت بها الإشارة إلى علم التوحيد فهم الذين صحبوا الأحوال في أوقاتها بالوفاء، والأعمال بالإخلاص والصفاء، فلم يرتقوا إلى مقام قبل إحكام المقام قبله، ولم يتعلقوا بعلم لم يحلوا منه مقام أهله، وينزلوه نزول المتحققين له حتى يعلو إلى غاية الأحوال الزاكية، وتفقهوا بعلمها إلى أن أداهم ذلك إلى علم المعرفة فأذعنوا لله إذ عان المحققين، وهم في ذلك كله خالون منها بعلاقة الحق التي عنها نشأت العلوم الزاكية، غلبت عليهم الحقيقة في كل ما أثبته عليهم من الأفعال فلم يحلوا منها من مقام رفيع ونفس مختلسة وطبع منتزع، إلا بعلاقة الحقيقة الأزلية والعين الألوهية والعلوم الربانية، بما منحت في ذلك من القوة، وأعطيت فيه من الصفوة وتجديد الوحدانية، وفناء البشرية، فكانت العلوم فيه والاختيارات بتلك العلاقة المبدية لتلك الحقيقة التي أبدعت الحق فأحقت الحق وأبطلت الباطل وبذلك أخبر الله أولياءه إذ يقول:

{(ليحق الحق ويبطل الباطل)} . وقال تعالى: {(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)} فلم يتجرد الحق على حقيقة لولي من أوليائه، ولا صفي من أصفيائه، إلا ظهر به على كل باطل فقهره ودفعه، وإن كان الحق أبدعه واخترعه، فلم يكن الحق في مكان فيبقى فيه أثر لباطل، أو سلطان لأن من أفنى الحق حركاته البشرية ونفسه الطبيعية وأهواءه النفسانية وأوهامه الآرائية استولى عليه من الحقيقة التى عنها وبها كان التصرف والاختيار والإقدام والإحجام، والسكون والحركات، فله علامة موجبة بصحة مقامه وعلو شأنه لا يختلف عليه منه الأفعال ولا تضطرب عليه الأقوال ولا تتفاوت منه الأفعال كاختلافها على من بقيت عليه آثاره في أفعاله، وغلب هواه بهاءه فأسر عقله جهله، فهو مغرور بما تعلق من اعتقاد علوم لم يسعه بالنزول في حقائقها، ولا تلحظ مثقال ذرة مما روى منها أهلها من علم التوحيد ومذاق التجريد، وهو غير موحد وطمع في التجريد وهو غير مجرد. قد اتخذ إلهه

ص: 300

هواه وأضله الله على علم. طمعا فيما لم يسعد به بحقيقة. هيهات إن أهل هذه الإشارة ناس لم تبق لهم همة تومى إلى ذكر فعل مذموم دون أن يجري ذلك عليهم بعلم من العلوم، إذ كانت حركاتهم عن الحق بالحق في جميع الأحكام لا تعترضها خواطر البشرية ولا يليق فيها فعل الأفعال الطبيعية، لا يقولون إلا بالحق ولا ينطقون عن الهوى. بذلك خبرنا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال {(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} .

فأما الفرقة التي اغترت بما لم تؤت ولم تفارق العلل المستولية عليهم من حركات طباعهم الداعية إلى حاجتها وشهواتها فأولئك مثلهم كما قال الله تعالى:

{(ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون)} وقوله: {(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء)} فهم رهائن أعمالهم لزم كل عبد منهم طائره في عنقه إذ يقول {(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)} الآية وقال: {(كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين)} . جعلنا الله وإياكم من أصحاب اليمين.

وهم أهل القوة.

• وفيما كتب إلي جعفر وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت رويما يقول:

الصبر ترك الشكوى، والرضاء استلذاذ البلوى، واليقين المشاهدة، والتوكل إسقاط رؤية الوسائط، والتعلق بأعلى الوثائق، والأنس أن تستوحش من سوى محبوبك. وسئل عن المحبة فقال: الموافقة في جميع الأحوال. وأنشد:

ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة

وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا

وقيل له: كيف حالك؟ فقال: كيف يكون حال من دينه هواه وهمته شقاؤه ليس بصالح نقي ولا عارف تقي.

قال الشيخ: ذكرنا لجده حديثا مسندا لموافقة اسمه اسمه

• حدثنا محمد بن جعفر بن الهيثم ثنا جعفر بن محمد الصائغ ثنا رويم بن يزيد المقرئ ثنا إسماعيل بن يحيى التيمى عن ابن جريج عن عطاء عن جابر قال:

«رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا الدرداء يمشي قدام أبي بكر فقال: يا أبا الدرداء

ص: 301

أتمشي قدام رجل ما طلعت الشمس على رجل مسلم خير عنه؟». قال: فما رئي أبو الدرداء بعد هذا يمشي إلا خلف أبي بكر.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن العباس الأخرم ثنا الحسن بن ناصح المخرمي ثنا رويم بن يزيد ثنا إسماعيل عن ابن جريج مثله.

‌أحمد بن محمد بن عطاء

• ومنهم العامل الظريف والكامل النظيف كان مودع القرآن شعاره، وظاهر البيان دثاره له اللسان المبسوط والبيان بالحق مربوط. أوقف على مراتب المأسورين ومقامات أهل البلاء من المأخوذين فتمنى ما خصوا به من الصفاء والاعتلاء فعومل بما تمنى من المحن والابتلاء، أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء

• سمعت أبا الحسين محمد بن علي بن حبيش - صاحب الجنيد بن محمد - يقول:

صحبت أبا العباس بن عطاء عدة سنين متأدبا بآدابه وكان له كل يوم ختمة وفي كل شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وبقي في ختمه يستنبط مودع القرآن بضع عشرة سنة يستروح إلى معاني مودعها فمات قبل أن يختمها. وسمعته يقول في قوله عز وجل، {(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة)} فقال في البيت مقام إبراهيم وفي القلب آثار رب إبراهيم، وللبيت أركان وللقلب أركان، فأركان البيت الصم من الصخور وأركان القلب معادن النور.

• سمعت أبا سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن نصير الرازى - بنيسابورى صاحب يوسف بن الحسين - يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول من ألزم نفسه آداب السنة غمر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه والتأدب بآدابه قولا وفعلا ونية وعقدا.

• سمعت محمد بن علي بن حبيش يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول: قرن ثلاثة أشياء بثلاث قرنت الفتنة بالمنية وقرنت المحنة بالاختيار وقرنت البلوى بالدعاوى. وسئل إلى م تسكن قلوب العارفين؟ قال إلى قوله: بسم الله الرحمن

ص: 302

الرحيم، لأن في بسم الله هيبته، وفي اسمه الرحمن عونه ونصرته، وفي اسمه الرحيم مودته ومحبته: ثم قال. سبحان من فرق بين هذه المعاني في لطافتها في هذه الأسامي في غوامضها.

• سمعت أبي يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول: إذا كانت نفسك غير ناظرة لقلبك فأدبها بمجالسة الحكماء فمن أراد أن يستضئ بنور الحكمة فليلاق بها أهل الفهم والعقل. وسمعته يقول: القلب إذا اشتاق إلى الجنة أسرعت إليه هدايا الجنة وهي المكروه لأن المكاره هدايا الجنة إلى أبدان الصادقين ومن فر بنفسه إلى حصن المكروه رحلت شهوات الطمع عن قلبه. وقال من علامة الصدق رضى القلب بحلول المكروه.

• سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن مقسم يقول قال أبو العباس بن عطاء من تأدب بآداب الصالحين فإنه يصلح لبساط الكرامة، ومن تأدب بآداب الأولياء فانه يصلح لبساط القربة، ومن تأب بآداب الأنبياء فإنه يصلح لبساط الأنس والانبساط، وسمعته يقول قال أبو العباس بن عطاء: لم تزل الشفقة بالمؤمن حتى أو فدته على خير أحواله، ولم تزل الغفلة بالفاجر حتى أوفدته على شر أحواله.

• سمعت محمد بن علي بن حبيش يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول:

أدن قلبك من مجالسة الذاكرين لعله ينتبه عن غفلته، وأقم شخصك في خدمة الصالحين لعله يتعود ببركتها طاعة رب العالمين. قال: وسئل أبو العباس وأنا حاضر عن أقرب شيء إلى مقت الله والعياذ بالله. فقال: رؤية النفس وأفعالها وأشد من ذلك مطالبة الأعواض عن أفعالها. قال وسمعته يقول: من علامات الأولياء أربعة صيانة سره فيما بينه وبين الله. وحفظ جوارحه فيما بينه وبين الله، واحتمال الأذى فيما بينه وبين خلق الله، ومداراته مع الخلق على تفاوت عقولهم.

• سمعت أحمد بن محمد بن مقسم يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول:

من شاهد الحق بالحق انقطعت عنه الأسباب كلها، وما دام ملاحظا لشيء فهو

ص: 303

غير مشاهد لحقيقة الحق، وهذا مقام من صفت له الولاية فلم يحجب عنه المنتهى والغاية. وسئل عن قوله تعالى {(تتجافى جنوبهم عن المضاجع)} فقال المضطجعون على مراتب: مضطجع على فراشه، ومضطجع في نفسه، ومضطجع في دنياه.

فالمضطجع على فراشه فهو الظالم متى انتبه ذكر الله تعالى أعطي ثوابه عشرة أمثالها. والمضطجع في دنياه فهو المقتصد متى انتبه وجل من مطالعة الدنيا واستغفر أعطي ثوابه سبعمائة ضعف. وأما المضطجع في نفسه فهو السابق متى شاهد نفسه ورأى ضلالتها ظن أنه من الهالكين. حينئذ يفتقر إلى الله بطلب السلامة من نفسه فهذا ممن ثوابه {(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)} قال أبو العباس: ذكر الثواب عن ذكر الله غفلة عن الله.

• أنشدني محمد بن علي بن حبيش قال أنشدنى أحمد بن سهل بن عطاء.

بالله أبلغ ما أسعى وأدركه

لابى ولا بشفيع الى الناس

إذا يئست وكاد اليأس يقلقنى

جاء الغنى عجبا من جانب اليأس

قال ابن حبيش: فزدته ثالثا بين يديه:

أعود في كل أمر جل مطلبه

عندي إلى كاشف الضر والبأس

ل: وأنشدنى ابن عطاء:

دبوا إلى المجد والساعون قد بلغوا

جهد النفوس وشدوا نحوه الازرا

وساوروا المجد حتى مل أكثرهم

وعانق المجد من وافى ومن صبرا

لا تحسب المجد تمرا أنت تأكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

قال وأنشدني رحمه الله:

ذكرك لي مؤنس يعارضني

يوعدني عنك منك بالظفر

فكيف أنساك يا مداهمي

وأنت مني بموضع من النظر

وسئل: ما العبودية؟ قال: ترك الاختيار، وملازمة الافتقار. وقال:

إياك أن تلاحظ مخلوقا وأنت تجد إلى ملاحظة الحق سبيلا.

قال الشيخ: كان كثير الحديث:

• حدثنا محمد بن علي بن حبيش ثنا أبو العباس بن عطاء الصوفي ثنا

ص: 304

يوسف بن موسى القطان ثنا الحسن بن بشر البلخى ثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أبي مليح عن واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم» .

• حدثنا محمد بن علي ثنا أبو العباس بن عطاء ثنا الفضل بن زياد ثنا ابن أبي ليلى قال حدثنى أبى عن الحكم بن مقسم عن ابن عباس قال: «قضم الملح فى جماعة خير من أكل الفالوذج في فرقة» .

قال الشيخ: ذكر جماعة من أعلام البغداديين كان المفزع إلى أدعيتهم عند المحن والنوازل لصفاء أحوالهم، ووفاء أقوالهم، فكانت آثارهم فى الاجابة مشهورة، وأوقاتهم بالمشاهد والمسامرة معمورة، صحبوا بشر بن الحارث الحافي وأصحاب معروف الكرخي. حماهم الحق عن التبدل، وحلاهم بخلوة الذكر والاشتهار. لقينا أصحابهم وكانوا على سمتهم مشتهرين بالذكر شاهدين مغتنمين، للوقت مجاهدين: منهم إبراهيم بن السري السقطي. وبدر بن المنذر المغازلي، وأبو أحمد القلانسي، وخير النساج، وأبو بكر بن مسلم بن حمزة البصري، عداده في البغداديين.

‌إبراهيم بن السري

• سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى يقول سمعت إبراهيم بن السري السقطي يقول سمعت أبى يقول: عجبت لمن غدا أو راح في طلب الأرباح وهو مثل نفسه نواح لا يربح أبدا.

• سمعت إبراهيم بن محمد يقول سمعت أبا العباس يقول سمعت إبراهيم ابن السري يقول سمعت أبي يقول: لو أشفقت هذه النفوس على أبدانها شفقتها على أولادها للاقت السرور في معادها.

‌بدر المغازلي

وأما بدر المغازلي فأطبقت الألسنة من الحنبلية وأصحاب الحديث أنه كان يعد من البدلاء، عرف له أحوال عجيبة.

ص: 305

• حدثنا عنه أبو بكر بن خلاد ثنا بكر بن المنذر أبو بكر المغازلي الشيخ الصالح ثنا معاوية بن عمرو ثنا زهير بن معاوية عن العلاء بن المسيب أن سهيلا بن أبي صالح حدثه عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبدا قال لجبريل: إني أحب فلانا فأحبه. فيحبه جبريل، ثم يقول لأهل السماء: إن الله يحب عبده فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول» قال العلاء: فقلت: ما القبول؟ قال: المودة في الأرض.

‌القلانسي

قال الشيخ: وأما أبو أحمد القلانسي فمخصوص بالتواضع والفتوة والاحتمال وطيبة القلب والابتذال. صحب أبا حمزة وتخرج عليه.

• سمعت عمر بن أحمد بن شاهين يقول: سمعت علي بن محمد المصري يقول سمعت عمرو بن سعيد القلانسي يقول سمعت يحيى بن الحسن القلانسي يقول:

رأيت ربي عز وجل في النوم فقلت: يا رب اغفر لي ما مضى، قال: إن أردت أن أغفر لك ما مضى فأصلح لي ما بقي. قال: قلت: يا رب فأعني عليه.

• سمعت عبد المنعم بن عمر يقول قال أبو سعيد بن الأعرابي سمعت الكتاني يقول قال منية البصري: سافرت مع أبي أحمد القلانسي فجعنا جوعا شديدا، ففتح علينا بشيء من طعام فآثرني به، وكان معنا سويق، فقال لي كالمازح:

تكون جملى؟ فقلت: نعم. فكان يوجرنى ذلك السويق يحتال بذلك أن يؤثرني على نفسه. وكان قد صحب أبا محمد الرباطي المروزي وسلك معه البادية، وورث عنه هذه الأخلاق الحميدة، وذلك أن أبا محمد اشترط عليه أن يكون هو الأمير في سفرهما. فحكى عنه أنه كان يطعمه ويجوع، ويسقيه ويعطش، ويؤثره بأسباب الرفق. وذكر أن مطرا أصابهما في رياح وظلمة شديدة بالبادية، فقال: يا أحمد اطلب الميل، فلما صرنا إلى الميل أقعدني في أصله ووضع يده عليه وهو قائم، وجللني بكساء كان معه فوق ظهره وعلى رأسه، حتى صرت كأني في بيت لا يصيبني المطر ولا الرياح. فكلما قلت له قال: لا تعترض علي

ص: 306

وأنا الأمير. وكان أبو حمزة وابن وهب وجماعة المشايخ يكرمونه ويقدمونه على غيره قال أبو سعيد بن الأعرابي: ولقد صحبته إلى أن مات فما رأيته قط يبيت ذهبا ولا فضة كان يخرجه من الليل ويذهب مذهب شقيق في التوكل وكان يقول: بناء مذهبنا على شرائط ثلاث: لا نطالب أحدا من الناس بواجب حقنا، ونطالب أنفسنا بحقوق الناس، ونلزم أنفسنا التقصير في جميع ما نأتي به.

‌خير النساج

وأما أبو الحسن خير النساج. كان من أهل سامرا، سكن بغداد وصحب أبا حمزة والسري السقطي. له الحظ الجسيم في الكرامات.

• سمعت علي بن هارون - صاحب الجنيد - يحكي عن غير واحد من أصحابه ممن حضر موته قال: غشي عليه عند صلاة المغرب ثم أفاق فنظر إلى ناحية من باب البيت فقال: قف عافاك الله، فإنما أنت عبد مأمور، ما أمرت به لا يفوتك، وما أمرت به يفوتني، فدعني أمضي لما أمرت به ثم امض أنت لما أمرت به. فدعا بماء فتوضأ للصلاة وصلى ثم تمدد وغمض عينيه وتشهد فمات رحمه الله، فرآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لا تسألني عن هذا ولكن استرحت من دنياكم الوضرة.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير في كتابه قال: سألت خيرا النساج: أكان النسج حرفتك؟ قال: لا. قلت: فمن أين سميت به؟ قال كنت عاهدت الله واعتقدت أن لا آكل الرطب أبدا، فغلبتني نفسي يوما فأخذت نصف رطل، فلما أكلت واحدة إذا رجل نظر إلى وقال: يا خير يا آبق هربت مني؟ - وكان له غلام هرب اسمه خير - فوقع علي شبهه وصورته، فخنقني فاجتمع الناس فقالوا: هذا والله غلامك خير. فبقيت متحيرا وعلمت بماذا أخذت، وعرفت جنايتي. فحملني إلى حانوته الذي فيه كان ينسج غلمانه وقالوا: يا عبد السوء تهرب من مولاك؟ ادخل واعمل عملك الذي كنت تعمل. وأمرني بنسج الكرباس، فدليت رجلي على أن أعمل فأخذت بيدي آلته، فكأني كنت أعمل من سنين، فبقيت معه شهرا أنسج له، فقمت ليلة فتمسحت وقمت إلى

ص: 307

صلاة الغداة، فسجدت وقلت في سجودي: إلهي لا أعود إلى ما فعلت.

فأصبحت وإذا الشبه ذهب عني وعدت إلى صورتي التي كنت عليها، فأطلقت فثبت علي هذا الاسم، فكان سبب النسج اتباعي شهوة عاهدت الله عز وجل أن لا آكلها، فعاقبني الله بما سمعت. وكان يقول: لا نسب أشرف من نسب من خلقه الله بيده فلم يعصمه، ولا علم أرفع من علم من علمه الله الأسماء كلها فلم تنفعه في وقت جريان القضاء عليه، ولا عبادة أتم ولا أكثر من عبادة إبليس فلم ينجه ذلك من أن صار إلى ما سبق له من الله تعالى. وقال: توحيد كل مخلوق ناقص بقيامه بغيره، وحاجته إلى غيره. قال الله تعالى:{(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)} المحتاجون إليه في كل نفس {(والله هو الغني)} عنكم وعن توحيدكم وأفعالكم {(الحميد)} الذي يقبل منك ما لا يحتاج إليه ويثيب على ما تحتاج إليه.

• أخبر الحسن بن جعفر قال أخبرني عبد الله بن إبراهيم الجريري قال قال أبو الخير الديلمي: كنت جالسا عند خير النساج فأتته امرأة وقالت: أعطني المنديل الذي دفعته إليك. قال: نعم. فدفعه إليها. فقالت: كم الأجرة؟ قال:

درهمان. قالت: ما معي الساعة شيء، وأنا قد ترددت إليك مرارا ولم أرك، آتيك به غدا إن شاء الله، فقال لها خير إن أتيتني به ولم ترني فارم به في الدجلة فإني إذا رجعت أخذته. فقالت المرأة: كيف تأخذ من الدجلة؟ فقال خير: التفتيش فضول منك، افعلي ما أمرتك. فقالت إن شاء الله.

فمرت المرأة. قال أبو الخير: فجئت من الغد - وكان خير غائبا - فإذا بالمرأة جاءت ومعها خرقة فيها درهمان، فلم ترخيرا فقعدت ساعة ثم قامت ورمت بالخرقة في الدجلة، فإذا بسرطان قد تعلقت بالخرقة وغاصت، فبعد ساعة جاء خير وفتح باب حانوته وجلس على الشط يتوضأ، وإذا بسرطان خرجت من الماء تمشي نحوه والخرقة على ظهرها. فلما قربت من الشيخ أخذها. فقلت له: رأيت كذا وكذا. فقال: أحب أن لا تبوح به في حياتي، فأجبته إلى ذلك وقلت: نعم.

1

ص: 308

‌أبو بكر بن مسلم

وأما أبو بكر بن مسلم فمن المستأنسين بالله لا ينفك عن مشاهدته ومذاكرته. كان الجنيد من تلامذته.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: عبرت يوما إلى أبي بكر بن مسلم في نصف النهار فقال لي: ما كان لك في هذا الوقت عمل يشغلك عن المجيء إلى؟ قلت: إذا كان مجيء إليك العمل فما أعمل.

• سمعت أبا عمرو العثماني يقول سمعت أبا الحسن محمد بن أحمد يقول سمعت الحسن بن علي بن خلف البربهاري يقول: مرض أبو بكر بن مسلم فعاده المروزي في خلق من الناس، فكأن أبا بكر بن مسلم كره ذلك لأجل الجماعة الذين جاءوا معه، فكتب إليه يعاتبه على ذلك. وكتب في آخر الرقعة:

يا من يريد بزعمه الاخمالا

إن كان حقا فاستعد خصالا

اترك التذاكر والمجالس كلها

واجعل خروجك للصلاة خيالا

بل كن بها حيا كأنك ميت

لا ترتجى عند القريب وصالا

وأنس بربك واعلمن بأنه

عون المريد يسدد العمالا

من ذا يريد مع الحبيب مؤانسا

من ذا يريد بغيره أشغالا؟

لا تأنسن مع الحياة بغيره

وابذل قواك وقطع الأوصالا

فلئن سلمت لأنت أكرم من يشا

ولئن هلكت فما ظلمت خلالا

من ذاق كأس الخوف ضاق بذرعه

حتى ينال مراده إن نالا

حاشا مؤمل سيدي من بخسه

جل الجواد إلهنا وتعالى.

‌سمنون بن حمزة

قال الشيخ: ومنهم سمنون بن حمزة أبو الحسن الخواص. وقيل أبو بكر بصري، سكن بغداد ومات قبل الجنيد، سمى نفسه سمنون الكذاب وكان سبب ذلك أبياته التي قال فيها:

ص: 309

فليس لي في سواك حظ

فكيف ما شئت فامتحني

فحصر بوله من ساعته، فسمى نفسه سمنون الكذاب

• أخبر عبد المنعم عن أبي بكر الواسطي قال قال سمنون: يا رب قد رضيت بكل ما تقضيه علي. فاحتبس بوله أربعة عشر يوما، فكان يلتوي كما تلتوي الحية على الرمل يتقلب يمينا وشمالا، فلما أطلق بوله قال: يا رب تبت إليك وأنشدت عن جعفر عن سمنون:

أنا راض بطول صدك عني

ليس إلا لأن ذاك هواكا

فامتحن بالجفا صبرى على

الود ودعني معلقا برجاكا

ومن أبياته التي امتحن فيها ما حدثناه عثمان بن محمد العثمان قال أنشدني علي بن عبد الله بن سويد قال أنشدنا محمد بن أحمد أن ابن الصباح قال أنشدنا علي بن غياث البزاز قال أنشدنا سمنون أبو الحسن أو أبو بكر البصرى

أفديك بل قل أن يفديك ذو دنف

هل فى المذلة للمشتاق من عار

بي منك شوق لو أن الصخر يحمله

تفطر الصخر عن مستوقد النار

قد دب حبك في الأعضاء من جسدي

دبيب لفظى من روحى وإضمارى

ولا تنفست إلا كنت مع نفسي

وكل جارحة من خاطري جاري

قال: وأنشدنا أيضا سمنون لنفسه:

شغلت قلبي عن الدنيا ولذتها

فأنت والقلب شيء غير مفترق

وما تطابقت الأحداق من سنة

إلا وجدتك بين الجفن والحدق

وأنشدني عثمان بن محمد قال أنشدنى أبو على الحسن بن أحمد الصوفى لسمنون:

ولو قيل طأ في النار أعلم أنه

رضى لك أومدن لنا من وصالكا

لقدمت رجلي نحوها فوطئتها

سرورا لأني قد خطرت ببالكا.

وأنشدني عثمان قال أنشدني علي بن عبد الله بن سويد قال حدثني محمد بن حمدان قال: رأيت سمنونا وقد أدخل رأسه فى زرنافقته وعليه جربان من أدم ثم أخرج رأسه بعد ساعة وزفر وقال

ص: 310

تركت الفؤاد عليلا يعاد

وشردت نومي فما لي رقاد.

• وأنشدني محمد بن الحسين بن موسى قال أنشدنا محمد بن عبد الله بن عبد العزيز قال أنشدنا أبو جعفر الفرغانى قال أنشدنا سمنون البصرى

أحن بأطراف النهار صبابة

وبالليل يدعوني الهوى فأجيب

وأيامنا تفنى وشوقي زائد

كأن زمان الشوق ليس يغيب.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا بكر العجان يقول سمعت سمنونا يقول: إذا بسط الجليل غدا بساط المجد دخل ذنوب الأولين والآخرين في حاشية من حواشيه، وإذا أبدى عينا من عيون الجود ألحق المسيئ بالمحسن.

• أخبرت عن عمر بن رفيل - وقد لقيته بجرجوايا - قال سمعت أبا القاسم الهاشمي يقول: كنت في بيت المقدس في برد شديد وعلى جبة وكساء وأخذ البرد والثلج يسقط، فرأيت شابا عليه خرقتان في صحراء يمشي، فقلت: يا حبيبي لو استترت ببعض هذه الأروقة فتكنك من البرد، فقال لي يا أخي سمنون:

ويحسن ظني أنني في فنائه

وهل أحد فى كنه يجد القرا.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال قال أبو أحمد القلانسي: فرق رجل ببغداد على الفقراء أربعين ألف درهم فقال لي سمنون: يا أبا أحمد ما ترى ما أنفق هذا وما قد عمله نحن ما نرجع إلى شيء ننفقه فامض بنا إلى موضع نصلي فيه بكل درهم أنفقه ركعة فذهبنا إلى المدائن فصلينا أربعين ألف ركعة وزرنا قبر سلمان وانصرفنا.

وكان يقول: أول وصل العبد هجرانه لنفسه وأول هجران العبد للحق تعالى مواصلته لنفسه. وكان يقول. مضى الوقت فصار الوقت مقتا وقتك خراب وقلبك في المحراب، ومن كانت عبادته عناء كانت ثمرته ضناء.

ومنهم المشهورون بالنسك والتعبد السالكون مسلك أوليائهم من المتعبدين، الذين تخرجوا على المتحققين، وراضوا أنفسهم رياضة العلماء

ص: 311

المتقين، كعلي بن الموفق، وأبي عثمان الوراق، وأيوب الحمال، وأبي عبد الله الجلاء رحمهم الله.

كانت بواطنهم بالمشاهدة عامرة، وظواهرهم عن المناظرة والمذاكرة شاغلة، فلم ينقل عنهم غير الأحوال المكنية اللطيفة:.

‌علي بن الموفق

• حدثنا إبراهيم بن محمد النيسابوري قال سمعت أبا عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدويه العبدي قال حدثني أبو عمر عبد الرحمن بن أبي قرصافة العسقلاني قال سمعت أبا القاسم البزاز يقول قال لي علي بن الموفق: حججت نيفا وخمسين حجة فجعلت ثوابها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولأبوي. وبقيت حجة فنظرت إلى أهل الموقف بعرفات وضجيج أصواتهم، فقلت: اللهم إن كان في هؤلاء أحد لم تقبل منه حجته فقد وهبت له هذه الحجة، ليكون ثوابها له. قال: فبت تلك الليلة بالمزدلفة فرأيت ربي عز وجل في المنام فقال لي: يا علي بن الموفق علي تتسخى؟ قد غفرت لأهل الموقف ومثلهم وأضعاف ذلك، وشفعت كل رجل منهم في أهل بيته وخاصته وجيرانه، وأنا أهل التقوى وأهل المغفرة.

• وحكي لي عن أبي عبد الله الخواص المصري قال سمعت علي بن الموفق يقول: خرجت يوم الجمعة إلى الرواح فسألتني أهلي حاجة فخرجت وأنا مغموم بها، فهتف بي هاتف: يا ابن الموفق تحزن وأنا لك؟.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: يحكى عن العباس بن يوسف الشكلي قال سمعت علي بن الموفق يقول: حججت سنة من السنين في محمل فرأيت رجالة فأحببت المشي معهم، فنزلت وأقعدت واحدا في محملي ومشيت معهم، فتقدمنا إلى البريد وعدلنا عن الطريق فنمنا فرأيت في منامي جواري معهن طسوت ذهب وأباريق فضة يغسلن أرجل المشاة، فبقيت أنا، فقالت إحداهن لصاحبتها:

ليس هذا منهم، هذا له محمل. فقالت: بل هو منهم لأنه أحب المشي معهم فغسلن رجلي فذهب عني كل تعب كنت أجده.

ص: 312

‌أبو عثمان الوراق

وأما أبو عثمان الوراق فله العبادة المشهورة. كان الإمام أحمد بن حنبل يحمد سيرته. كان للفقر معتنقا ولا يرى الإمساك والادخار. يتبع آثار ما درج عليه الصدر الأول من صفوة الصحابة وأهل الصفة، ويقول بالإيثار والمواساة. أكثر نجوم البغداديين به تخرجوا، وعنه أخذوا التجرد وسياسة النفوس ورياضتها. كان يجمع المتعبدين في مسجده يقرئهم القرآن ويعلمهم الأحكام، ويحثهم على الورع والتقلل، ويواخى بين أصحابه فيضيف الضعيف إلى القوى، ويواخى بين المتكسب ومن لا حرفة له، وبين البصير والضرير وبين القارئ وبين من لا يقرأ ليعلمه ويلقنه. لا يمنع المكتسب من الكسب. فإذا كان الليل اجتمع أمرهم واحد فأكلوا موضعا واحدا، وهو كأحدهم، إن كان عنده شيء أحضره، كان لا يبيت شيئا، كان إذا سافر وغزا هو وأصحابه ينزلون المساجد لا يحضرون الدعوات والاجتماع إن فتح عليهم في المسجد قبلوه وبذلوه، وكان يصون أصحابه عن التعرض والمسألة، فإن جاءه ممن تسكن إليه نفسه قبله لهم. كانت طريقته طريقة السلف المرضية.

‌أبو أيوب الحمال

وأما أبو أيوب الحمال فمن المجتهدين ومن الأسخياء، له كرامات عجيبة

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: أخبرني محمد بن وهب عن بعض أصحابه أنه حج مع أيوب الحمال. قال: فلما دخلنا البادية وسرنا منازل إذا بعصفور تحوم حولنا، فرفع أيوب رأسه إليه وقال له: قد جئت إلى هاهنا؟ فأخذ كسرة خبز ففتته فى كفه فانحط العصفور وقعد على كفه يأكل منها، ثم صب له ماء فشربه. ثم قال: اذهب الآن. فطار العصفور، فلما كان من الغد رجع العصفور ففعل أيوب مثل فعله في اليوم الأول. فلم يزل كل يوم يفعل به ذلك إلى آخر السفر، ثم قال أيوب: تدري ما قصة هذا العصفور؟ كان يجيئنى

ص: 313

في منزلي كل يوم فكنت أفعل به ما رأيت، فلما خرجنا تبعنا يقتضي مني ما كنت أفعل به في المنزل.

• وحكى جعفر بن محمد عن محمد بن خالد قال سمعت أيوب يقول: عقدت على نفسي أن لا أمشى غافلا ولا أمشى إلا ذكرا، فمشيت مشية غفلة فأخذتني عرجة فعلمت من أين أتيت، فبكيت واستغثت فتبت فزالت العلة والعرجة فرجعت إلى الموضع الذي غفلت فيه فرجعت إلى الذكر فمشيت سليما.

‌أبو عبد الله الجلاء

وأما أبو عبد الله الجلاء أحمد بن يحيى فهو بغدادي سكن الرملة.

صحب ذا النون وأبا تراب وأباه يحيى الجلاء. له النكت اللطيفة. أحد أئمة القوم. لم يكن بالشام في حاله له شبيه مذكور. تخرج به جماعة من المذكورين.

• سمعت والدي يذكر عن بعض أصحابه أنه كان يقول: يحتاج العبد أن يكون له شيء يعرف به كل شيء، وكان يقول: من استوى عنده المدح والذم فهو زاهد، ومن حافظ على الفرائض في أول مواقيتها فهو عابد. ومن رأى الأفعال كلها من الله فهو موحد.

• سمعت محمد بن الحسن بن علي اليقطيني يقول: حضرت أبا عبد الله فقيل له: هؤلاء الذين يدخلون البادية بلا عدة ولا زاد يزعمون أنهم متوكلة فيموتون. قال: هذا فعل رجال الحق، فإن ماتوا فالدية على القاتل.

• سمعت محمد بن الحسن بن موسى يقول سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت أحمد بن علي يقول: سئل أبو عبد الله الجلاء عن الحق فقال:

إذا كان الحق واحدا يجب أن يكون طالبه واحدانى الذات. وقال سمت همم المريدين إلى طلب الطريق إليه فأفنوا نفوسهم في الطلب. وسمت همم العارفين إلى مولاهم فلم تعطف على شيء سواه.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت أبا عمرو الدمشقي يقول سمعت أبا عبد الله الجلاء يقول: الحق استصحب أقواما للكلام واستصحب أقواما للخلة، فمن استصحبه الحق لمعنى ابتلاه

ص: 314

بأنواع المحن، فليحذر أحدكم طلب رتبة الأكابر. وكان يقول: من بلغ بنفسه إلى رتبة سقط عنها، ومن بلغ به ثبت عليها. وكان إذا سئل عن المحبة قال: ما لي وللمحبة، أنا أريد أن أتعلم التوبة. وسئل كيف تكون ليالى الاحباب فأنشأ يقول:

من لم يبت والحب حشو فؤاده

لم يدر كيف تفتت الأكباد.

• حدثنا محمد بن الحسين قال سمعت محمد بن عبد العزيز الطبري يقول سمعت أبا عمرو الدمشقي يقول سمعت ابن الجلاء يقول: قلت لأبي وأمي: أحب أن تهبانى لله قالا: قد وهبناك لله. فغبت عنهما مدة فرجعت من غيبتي - وكانت ليلة مطيرة - فدققت عليهما الباب فقالا: من؟ قلت: ولدكما. قالا: كان لنا ولد فوهبناه لله، ونحن من العرب لا نرجع فيما وهبنا. وما فتحا لي الباب.

‌ابن أبي الورد

• وأما محمد بن محمد بن أبي الورد، وقيل أحمد، فمن جلة المشايخ وكبارهم.

صحب بشرا الحافي والحارث بن أسد المحاسبي، وسريا السقطي. محله في الورع محل شيوخه وأئمته.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال قال ابن أبي الورد: بساط المجد بسط للأولياء ليأنسوا به، وليرفع عنهم حشمة بديهة المشاهدة. وبساط الهيبة بسط للأعداء ليستوحشوا من قبائح أفعالهم ولا يشاهدوا ما يستريحون إليه في المشهد الأعلى. وقال أحمد ابن أبي الورد: وصل القوم بخمس: بلزوم الباب، وترك الخلاف، والنفاذ في الخدمة، والصبر على المصائب، وصيانة الكرامات. وقال: إن ولي الله إذا أراد ثلاثة أشياء زاد منها ثلاثة أشياء، إذا زاد جاهه زاد تواضعه، وإذا زاد ماله زاد سخاؤه، وإذا زاد عمره زاد اجتهاده. وكان يقول: طرح الدنيا إلى المقبلين عليها والإعراض عنها وعن المقبلين عليها من عمل الأكياس، لأن من عزفت نفسه عن محبة الدنيا أحبه أهل الأرض، ومن أعرض بقلبه عن محبة الدنيا أحبه أهل السماء.

ص: 315

• سمعت محمد بن الحسين اليقطيني يقول سمعت علي بن عبد الحميد يقول سمعت ابن أبي الورد يقول: آفة الخلق في حرفين: اشتغال بنافلة وتضييع فريضة، وعمل جوارح بلا مواطأة القلب، وإنما منعوا الوصول بتضييع الأصول.

أسند الكثير عن بشر بن الحارث وغيره.

• حدثنا أبو أحمد الغطريفي - من أصله - ثنا أبو إسحاق بن يزيد الهاشمي ثنا محمد بن محمد بن أبي الورد العابد قال سمعت بشر بن الحارث الحافي يقول ثنا المعافى بن عمران عن إسرافيل عن مسلم عن حبة العوفى عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الثوم نيئا فلولا أن الملك يأتينى لأكلته» .

• حدثنا أبو أحمد ثنا أبو إسحاق بن يزيد - إملاء - ثنا محمد بن أبي الورد قال سمعت بشر بن الحارث يقول: رحلت إلى عيسى بن يونس ماشيا على قدمي فأكرمني وأدناني وقال لي: ما الذي أقدمك؟ قلت: أحببت لقاءك والنظر إليك. قال: يا أخي ومن أنا وأي شيء عندي، وما أحسن؟ ثم قال:

معك شيء تسأل عنه؟ قلت: نعم، حديثان: حديث عبد الله بن عراك بن مالك، وحديث الحسن عن عائشة أم المؤمنين. فقال عيسى: نعم! حدثنا عبد الله بن عراك بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» . ثم قال عيسى: حدثنا عمرو بن عبيد المحدث المذموم عن الحسن عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله هل على النساء قتال؟ فقال: «نعم! جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» .

• حدثنا علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي - بمكة - ثنا علي بن عبد الحميد الجرجاني ثنا محمد بن محمد بن أبي الورد قال حدثني سعيد بن منصور ثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أن قل لفلان العابد: أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحة نفسك

ص: 316

وأما انقطاعك إلي فتعززت بي، فماذا عملت فيما لي عليك؟ قال يا رب وما لك علي؟ قال: هل واليت لي وليا، أو عاديت لى عدوا.

‌صدقة المقابري

وأما صدقة المقابري فمن أقران المتقدمين كبشر بن الحارث وطبقته وكان من التحقق والتحفظ بالمحل العالي.

• سمعت أبا الفضل نصر بن أبي نصر الطوسي يحكي عن بعض مشايخه قال:

كان صدقة المقابري من المبالغين فى التحقق، كان يقول: أتى علي عشرون سنة لم أكلم أحدا حتى أومر بكلامه، ولا تركت بكلامى أحدا حتى أو مر بترك كلامه.

• حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن مقسم ثنا عبد الله بن إسحاق ثنا سعدان قال قال صدقة المقابري لرجل كان يواخيه ويصحبه: كيف تجدك؟ فقال إن الذي بي من البلاء أقل مما أصبت من لذة الهوى، ولو أصابني من البلاء بقدر ما نلت من لذة الهوى إذا لاجتمع علي جميع البلاء. وكان كثيرا ينشد أبياتا للثقفى:

أما ترى الموت ما ينفك مختطفا

من كل ناحية نفسا فيحوبها

قد نغصت أملا كانت تؤمله

وقام في الحى ناعيها وباكيها

وأسكنوا الترب تبلى فيه أعظمهم

بعد النضارة ثم الله يحييها

وصار ما جمعوا منها وما دخروا

من الأقارب يحويه أدانيها

فامهد لنفسك في أيام مدتها

واستغفر الله مما أسلفته فيها.

‌طاهر المقدسى

ومنهم طاهر المقدسى: صحب ذا النون وأعلام النساك من الشاميين وغيرهم.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول سمعت طاهرا المقدسي يقول - وسئل لم سميت الصوفية بهذا الاسم؟ - فقال:

لاستتارها عن الخلق بلوائح الوجد، وانكشافها بشمائل القصد. وكان يقول:

حد المعرفة التجرد من النفوس وتدبيرها فى ما يجل أو يصغر. وكان يقول:

ص: 317

لا يطيب العيش إلا لمن وطئ بساط الأنس بالقدس، والقدس بالأنس. ثم غاب عن مشاهدتها بمطالعة القدوس.

• سمعت محمد بن الحسين قال أنشدني عبد الله بن محمد الدمشقي قال أنشدني طاهر المقدسي لبعضهم:

أراعي النجوم ولا علم لي

بعد النجوم بحيث الظلام

وكيف ينام فتى لا ينام

إذا نام عنه عيون الحمام

أسير يسير إليه هواه

فيضحى الأسير قتيل الغرام

فلم يبق منه سوى اسمه

يقال له عاشق والسلام

بفرط التحول وحب القليل

وحزن مذيب يطول السقام

وقال طاهر: المفاوز عنه منقطعة، والطريق إليه منطمسة، توق من علالاته واحذر أماكن الاتصال فإنها خدع، وقف حيث وقف القوم تسلم. وأنشد:

وكذبت طرفي فيك والطرف صادق

وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع

ولم أسكن الأرض التي تسكنونها

لكي لا يقولوا: إننى بك مولع

فلا كبدي تهدأ ولا لك رحمة

ولا عنك إقصار ولا فيك مطمع.

• سمعت محمدا يقول سمعت أحمد بن علي بن جعفر الفارسي يقول سمعت علي بن الحسين بن حمدان يقول سمعت أبي يقول قال طاهر المقدسي: لو عرفت الناس قدر أنوار العارفين لاحترقوا فى أنوارهم، ولو بدا الأهل الأحوال لاحترقت أحوالهم.

• سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول سمعت أبا الحسن محمد بن أحمد يقول قال أبو عبيد البسري: سألت رجلا بالكام: ما الذي أجلسك في هذا الموضع؟ قال: وما سؤالك عن شيء إن طلبته لم تدركه، وإن لحقته لم تقع عليه؟ قلت:

تخبرني ما هو؟ قال: علمي بأن مجالستي مع الله تستغرق نعيم الجنان كلها. ثم قال أوه، قد كنت أظن أن نفسي قد ظفرت، ومن الخلق هربت، فإذا أنا كذاب في مقامي، لو كنت محبا له صادقا ما اطلع علي أحد. فقلت: أما علمت أن المحبين خلفاء الله في أرضه مستأنسون بخلقه يبعثونهم على طاعته؟ قال: فصاح بى

ص: 318

صحية وقال: يا مخدوع لو شممت رائحة الحب وعاين قلبك ما وراء ذلك من القرب ما احتجت أن ترى فوق ما رأيت. ثم قال: يا سماء ويا أرض اشهدا على أنه ما خطر على قلبي ذكر الجنة والنار قط، إن كنت صادقا فأمتني. قال:

فو الله ما سمعت له كلاما بعدها وخفت. فخفت أن يسبق إلي الظن من الناس في قتله فتركته ومضيت، فبينا أنا كذلك إذا أنا بجماعة فقالوا: ما فعل الفتى؟ فكنيت عن ذلك فقالوا: ارجع فإن الله قد قبضه. فصليت معهم عليه، فقلت لهم: من هذا الرجل ومن أنتم؟ قالوا: ويحك هذا رجل كان به يمطر المطر، قلبه على قلب إبراهيم الخليل، أما رأيته يخبر عن نفسه أن ذكر النار ما خطر على قلبه قط، فهل كان أحد هكذا إلا إبراهيم عليه السلام؟ قلت: فمن أنتم؟ قالوا: نحن السبعة المخصوصون من الأبدال. قلت: علموني شيئا.

قالوا: لا تحب أن تعرف ولا تحب أن يعرف أنك ممن لا يحب أن يعرف.

قال الشيخ: كذا حدثناه العثماني عن البسري. ورأيت من رواية بعضهم عن طاهر المقدسي: سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر يقول: قال طاهر: إن الانقطاع إلى الله لا يكون بمشاركة الدنيا، ومن ألجأ نفسه إلى الانقطاع إليه اتخذ أنس الناس وحشة عند ما أنس بالانقطاع إلى نفسه.

• حدثنا عثمان بن محمد ثنا محمد بن أحمد البغدادي ثنا عباس بن يوسف عن طاهر قال: خرجت من عسقلان أريد غزة في طلب البدلاء فاذا أنا بفتى عليه أطمار رثة مارا على ساحل البحر، قال: فكأني لم أعبا به، فالتفت إلى فقال:

لا تنأ عني بأن ترى خلقي

فإنما الدر داخل الصدف

علمى جديد وملبسى خلق

ومنتهى اللبس منتهى الصدف.

‌نصر الصامت

ومنهم المبالغ في الرياضة المتابع في السياسة قمع هواه وكفي عناه العابد القانت المعروف بنصر الصامت.

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المعدل ثنا أحمد بن محمد بن عمر ثنا إسحاق

ص: 319

ابن سفيان ثنا نصر بن الحريش الصامت قال: حججت أربعين حجة ما كلمت فيها أحدا فسمي الصامت -.

أسند الحديث الكثير

• حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا الحسن بن علي بن الوليد الفسوي ثنا نصر بن الحريش الصامت ثنا المشمعل بن ملحان عن الحسن بن دينار عن أيوب عن أبي قلابة عن عائشة قالت. «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ويفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين» .

• حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد ثنا أبو الحسن بن أبان ثنا إسحاق بن سنين ثنا نصر بن الحريش الصامت ثنا المشمعل بن ملحان عن سويد بن عمر عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلوا على من قال لا إله إلا الله وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله» .

‌محمد بن إبراهيم البغدادي

• ومنهم المتوكل السابح والمتجرد الرائح، كان لفنون العلم جامعا وكلامه للقلوب نافعا، شيخ القوم ولسانهم في المحبة والشوق والأنس والقرب وموارد القلوب ومعاني الخطوب، وصفاء الذكر ونقاء السر، يحث على تصحيح الأعمال والتخفف عن الأثقال. جالس الإمام أحمد بن حنبل وبشر بن الحارث، وكان يقول لا يكون الصوفي صوفيا حتى لا يسمع له صوت ولا يوطأ له عقب ولا تكون له رئاسة. أبو حمزة محمد بن إبراهيم البغدادي. كان مولى عيسى بن أبان القاضي، عرف له آيات وكرامات تقدم له ذكر.

• حدثنا أحمد بن محمد بن مقسم حدثني أبو بكر الخياط الصوفي قال سمعت أبا حمزة يقول: سافرت سفرة على التوكل، فبينا أنا أسير ذات ليلة والنوم في عيني إذ وقعت في بئر فرأيتني قد حصلت فيها فلم أقدر على الخروج لبعد مرتقها وطولها فجلست فيها. فبينا أنا جالس إذ وقف على رأسها رجلان فقال أحدهما لصاحبه: لا نجوز ونترك هذه في طريق السابلة والمارة. فقال

ص: 320

الآخر فما نصنع؟ قال: نطمسها قال فبدرت نفسي أن تقول أنا فيها فتوقفت فنوديت تتوكل علينا وتشكو بلاءنا إلى سوانا؟ فسكت، فمضيا ثم رجعا ومعهما شيء جعلاه على رأسها غطوها به. فقالت لي نفسي: أمنت طمها ولكن حصلت مسجونا فيها فمكثت يومي وليلتي، فلما كان الغد ناداني شيء يهتف بي ولا أراه: تمسك بي شديدا، فظننت أنه جني فمددت يدي ألتمس ما أريد أن أتمسك به فوقعت يدي على شيء خشن فتمسكت فعلاها وطرحني فتأملت فوق الأرض فإذا هو سبع، فلما رأيته لحق نفسي من ذلك ما يلحق من مثله، فهتف بي هاتف: يا أبا حمزة استنقذناك من البلاء بالبلاء وكفيناك ما تخاف قال الشيخ هذه الحكاية قد تقدمت فيما رويته عن عمرو بن نفيل عن الشبلي وأعدتها لأن رواية ابن مقسم أعلى.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير في كتابه قال: حدثني أبو بكر الكتاني قال قال أبو الأزهر وجماعة من إخواننا: اجتمع نفر على باب يفتحونه فلم ينفتح فقال لهم أبو حمزة: تنحوا فأخذ الغلق بيده فحركه وقال بكذا إلا فتحته فانفتح. وكان يقول: اللهم إنك تعلم أني من أفقر خلقك إليك فإن كنت تعلم أن فقري إليك بمعنى هو غيرك فلا تسد فقري. وكان يقول: إذا صاح المحب للدنيا فإنما ذاك شيطان يصيح في جوفه.

وحكى لي عبد الواحد بن بكر قال حدثني محمد بن عبد العزيز قال سمعت أبا عبد الله الرملي يقول: تكلم أبو حمزة في جامع طرسوس فقبلوه فبينا هو ذات يوم يتكلم إذ صاح غراب على سطح الجامع فزعق أبو حمزة وقال: لبيك لبيك. فنسبوه إلى الزندقة وقالوا: حلولي زنديق فشهدوا وأخرج وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع: هذا فرس الزنديق. فذكر أبو عمرو البصرى قال اتبعته والناس وراءه يخرجونه من باب الشام فرفع رأسه إلى السماء وقال.

لك من قلبي المكان المصون

كل صعب علي فيك يهون.

• وأخبرني جعفر بن محمد بن نصير في كتابه عن أبي بكر الكتاني قال سمعت أبا حمزة يقول: لولا الغفلة لمات الصديقون من روح ذكر الله.

وحكى

ص: 321

عنه خير النساج قال قال أبو حمزة: إني لأستحي من الله أن أدخل البادية على شبع وأنا معتقد للتوكل فيكون شبعي زادا تزودته. وسئل عن الأنس فقال:

ضيق الصدر من معاشرة الخلق. وكان يقول: من استشعر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان. ومن استوحش من نفسه أنس قلبه بموافقة مولاه.

وقال لبعض أصحابه: خف سطوة العدل وارج دقة الفضل، ولا تأمن مكره وإن أنزلك الجنان، ففي الجنة وقع لأبيك آدم عليه السلام ما وقع وقد يقطع بقوم فيها فيقال لهم {(كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية)} فشغلهم عنه بالأكل والشرب، ولا مكر فوق هذا ولا حسرة أعظم منه. وسئل: أيفزع المحب إلى شيء سوى محبوبه؟ فقال لا إنه بلاء دائم وسرور منقطع وأوجاع متصلة لا يعرفها إلا من باشرها وأنشد:

يلاقي الملاقي شجوه دون غيره

وكل بلاء عند لاقيه أوجع

وكان يقول: من نصح لنفسه كرمت عليه، ومن تشاغل عن نصيحتها هانت عليه، ومن خصه الله بنظر شفقة فإن تلك النظرة تنزله منازل أهل السعادة، وتزينه بالصدق ظاهرا وباطنا، والعارف يخاف زوال ما أعطي، والخائف يخاف نزول ما وعد، والعارف يدافع عيشه يوما بيوم ويأخذ عيشه ليوم.

‌حسن المسوحي

ومنهم حسن المسوحي كان من العاملين بالتحقيق والقائمين بالتصديق أحكم علم الأصول وسهل له سبيل الوصول.

• سمعت أبا عمرو العثماني وذكر أنه كان يتكلم على الناس ولم يكن يجاوز علم الأصول في العبادات والأحوال. وحكى عن الجنيد بن محمد بن مسروق أنه لم يكن له منزل يأوي إليه. وكان يأوي باب الكناس في مسجد يكنه من الحر والبرد. وحكى عنه أنه استلقى يوما في مسجده فكظه الحر فغلبته عيناه فرأى كأن سقف المسجد انشق فنزلت منه جارية عليها قميص فضة يتخشخش، ولها ذؤابتان، فجلست عند رجلي فقبضت رجلي عنها فمدت يدها ومست رجلي فقلت لها: يا جارية أنت لمن؟ قالت: أنا لمن دام على مثل ما أنت عليه.

ص: 322

‌أبو عبد الله البراثي

ومنهم أبو عبد الله البراثي صاحب النكت المرضية والأحوال الزكية، من كبار المشايخ ومتقدميهم.

• أخبر أبو بكر محمد بن أحمد المفيد فيما كتب إلي وحدثني عنه العثماني ثنا أحمد بن مسروق حدثني البرجلاني قال سمعت أبا عبد الله البراثي يقول:

حملتنا المطامع على أسوأ الصنائع، نذل لمن لا يقدر لنا على ضر ولا نفع، ونخضع لمن لا يملك لنا رزقا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فكيف أزعم أني أعرف ربي حق معرفته، هيهات هيهات، للمعرفة تحقيق ولكن المؤمن على جملة معرفة التوحيد. وأهل التحقيق للمعرفة هم المجتهدون المجدون لله في طاعته.

• أخبرنا محمد في كتابه ثنا أحمد بن مسروق ثنا محمد بن الحسين حدثني حكيم بن جعفر قال سمعت أبا عبد الله البراثي يقول: بالمعرفة هانت على العاملين عبادتهم، وبالرضا عن تدبيره زهدوا في الدنيا ورضوا لأنفسهم بتدبيره. وكان يقول: كرمك سيدي أطمعنا في عفوك، وجودك أطمعنا في فضلك وذنوبنا تؤيسنا من ذلك وتأبى قلوبنا لمعرفتها بك أن تقطع رجاءها منك، فتفضل بها يا كريم وجد بعفوك يا رحيم. وكان يقول أما بينك وبين ملاقاة السرور ومجالسة الأبرار فى كل لذة وحبور إلا أن تحرج نفسك من بين جنبيك والمولى عنك راض.

ثم يبكي ويقول: وأنى لنا بالرضا ونحن نعلم ما عندنا من الخطايا والآثام ثم يبكي.

‌أبو شعيب البراثي

ومنهم أبو شعيب البراثي ذو الأحوال العالية من متقدمي شيوخ بغداد.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول: كان أبو شعيب البراثى أول من سكن براثى في كوخ يتعبد فيه فمرت بكوخه جارية من بنات الكبار من أبناء الدنيا، كانت ربيت في قصور الملوك فنظرت إلى أبي شعيب فاستحسنت حاله وما كان عليه، فصارت كالأسير له فعزمت على التجرد عن الدنيا والاتصال

ص: 323

بأبي شعيب، فجاءت إليه وقالت: أريد أن أكون لك خادما. فقال لها: إن أردت ذلك فغيري من هيئتك وتجردي عما أنت فيه حتى تصلحين لما أردت.

فتجردت عن كل ما تملكه ولبست لبسة النساك وحضرته فتزوجها، فلما دخلت الكوخ رأت قطعة خصاف وكان يجلس عليها أبو شعيب تقيه من الندى.

فقالت ما أنا بمقيمة فيها حتى تخرج ما تحتك لأني سمعتك تقول: إن الأرض تقول: «يا ابن آدم تجعل اليوم بيني وبينك حجابا وأنت غدا في بطني» فما كنت لأجعل بيني وبينها حجابا. فأخذ أبو شعيب الخصاف ورمى به فمكثت معه سنين كثيرة يتعبدان أحسن عبادة وتوفيا على ذلك متعاونين.

‌بنان البغدادي

ومنهم بنان البغدادي وقيل واسطي سكن مصر، كان بالمعروف أمارا وللاديان ذكارا، أمر أمير مصر ابن طولون بمعروف فوجد عليه فأغراه أبو عبد الله القاضي عليه حتى ضربه سبع درر وألقاه إلى السبع فدعا على أبي عبيد الله فحبسه ابن طولون بدل كل درة سنة.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول سمعت أبا علي الروذباري يقول: كان سبب دخولي مصر حكاية بنان وذلك أنه أمر ابن طولون بالمعروف فأمر أن يلقى بين يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره، فلما أخرج من بين يدى السبع قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع؟ قال كنت أتفكر فى اختلاف الناس فى سؤر السباع ولعابها.

واحتال عليه أبو عبيد الله القاضي حتى ضرب سبع درر فقال: حبسك الله بكل درة سنة، فحبسه ابن طولون سبع سنين. وحكى أبي عن أبي علي الروذباري قال سمعت بنانا يقول: دخلت بادية تبوك فاستوحشت فهتف بي هاتف نقضت العهد لم تستوحش أليس حبيبك معك؟.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله بن علي يقول سمعت محمد بن الفضل يقول سمعت الزبير بن عبد الواحد يقول سمعت بنانا يقول: الحر عبد ما طمع والعبد حر ما قنع.

ص: 324

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أحمد بن محمد بن زكريا يقول سمعت الحسين بن عبد الله القرشي يقول سمعت بنانا يقول: من كان يسره ما يضره متى يفلح.

• سمعت أحمد بن عمر ان الهروي يقول سمعت الرقي يقول سمعت بنانا يقول: إن أفردته بالعبودية أفردك بالعناية والأمر بيدك إن نصحت صافوك، وإن خلطت خلوك. وإن كان رؤية الأسباب على الدوام قاطعة عن مشاهدة المسبب والإعراض عن الأسباب جملة تؤدي بصاحبه إلى ركوب الفواضل.

أسند الحديث.

• حدثنا محمد بن علي بن حبيش ثنا إسحاق بن سلمة الكوفي ثنا بنان - بمصر - ثنا محمد بن الحكم من ولد سعيد بن العاص قال حدثني محمد بن خفتان ثنا يحيى بن أبي زائدة عن بنان عن قيس عن أبي بكر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سعد: «اللهم سدد رميته وأجب دعوته» .

• حدثنا محمد بن عبيد الله بن المرزبان ثنا علي بن سعيد ثنا بنان الصوفي ثنا عبيد الله بن عمرو الجشمي ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي ثنا يحيى بن أبي كثير قال: «خطب أبو بكر الصديق فقال: أين الوضأة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان؟ أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب: تضعضع بهم الدهر فأصبحوا في ظلمات القبور الوحا الوحا ثم النجاء النجاء» .

‌إبراهيم الخواص

ومنهم المتبتل المتوكل، تبتل عن الخلق وتوكل على الحق، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص له في التوكل الحال المشهور والذكر المنشور

• سمعت أبا محمد بكر بن أحمد بن المفيد يقول سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الأنصاري يقول سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص يقول:

من لم يصبر لم يظفر، وإن لإبليس وثاقين ما أوثق بنو آدم بأوثق منهما: خوف الفقر والطمع.

ص: 325

• وسمعت أبا بكر يقول سمعت محمدا يقول سمعت إبراهيم الخواص يقول:

من صفة الفقير أن تكون أوقاته مستوية في الانبساط لفقره صائنا له محتاطا لا تظهر عليه فاقة ولا تبدو منه حاجة، أقل أخلاقه الصبر والقناعة، راحته في القلة وتعذيبه في الكثرة، مستوحش من الرفاهات متنعم بالخشونات فهو بضد ما فيه الخليقة يرى ما هو عليه معتمده وإليه مستراحه ليس له وقت معلوم ولا سبب معروف، فلا تراه إلا مسرورا بفقره فرحا بضره، مئونته على نفسه ثقيلة وعلى غيره خفيفة يعز الفقر ويعظمه، ويخفيه بجهده ويكتمه، حتى عن أشكاله يستره. قد عظمت من الله تعالى عليه فيه المنة، وجل قدرها في قلبه من نعمة فليس يريد بما اختار الله تعالى عليه فيه المنة، وجل قدرها في قلبه من نعمة فليس يريد بما اختار الله له بدلا ولا يبغي عنه حولا، فمن نعوتهم اثنتى عشرة خصلة: أولها أنهم كانوا بوعد الله مطمئنين. والثانية من الخلق آيسين. والثالثة عداوتهم للشياطين. والرابعة كانوا من حيث الحق في الأشياء خارجين. والخامسة كانوا على الخلق مشفقين. والسادسة كانوا لأذى الناس محتملين. والسابعة كانوا لمواضع العداوة لا يدعون النصيحة لجميع المسلمين.

والثامنة كانوا في مواطن الحق متواضعين. والتاسعة كانوا بمعرفة الله مشتغلين.

والعاشرة كانوا الدهر على طهارة. والحادية عشر كان الفقر رأس مالهم.

والثانية عشر كانوا في الرضا فيما قل أو كثر وأحبوا أو كرهوا عن الله واحدا.

فهذه جملة من صفاتهم يقصر وصف الواصفين عن أسبابهم. وكان يقول:

أربع خصال عزيزة: عالم مستعمل لعلمه. وعارف ينطق عن حقيقة فعله، ورجل قائم لله بلا سبب، ومريد ذاهب عن الطمع. وقال: الحكمة تنزل من السماء فلا تسكن قلبا فيه أربعة: الركون إلى الدنيا، وهم غد، وحب الفضول، وحسد أخ. قال: ولا يصح الفقر للفقير حتى تكون فيه خصلتان: إحداهما الثقة بالله، والأخرى الشكر لله فيما زوى عنه مما ابتلى به غيره من الدنيا. ولا يكمل الفقير حتى يكون نظر الله له في المنع أفضل من نظره له في العطاء. وعلامة صدقه في ذلك أن يجد للمنع من الحلاوة ما لا يجد للعطاء، لا يعرفه غير بارئه الذي خصه بمعرفته وأياديه، فهو لا يرى سوى مليكه ولا يملك إلا ما كان من

ص: 326

تمليكه، فكل شيء له تابع، وكل شيء له خاضع. قال وسمعت أبا إسحاق يقول: من أراد الله لله بذل له نفسه وأدناه من قربه، ومن أراده لنفسه أشبعه من جنانه وأرواه من رضوانه. وقال:

عليل ليس يبرئه الدواء

طويل الضر يفنيه الشفاء

سرائره بواد ليس تبدو

خفيات إذا برح الخفاء.

• أخبر محمد بن نصير في كتابه وأخبرني عنه أبو الفضل الطوسي قال:

بت ليلة مع إبراهيم فانتبهت فاذا هو يناجى إلى الصباح وهو يقول

برح الخفاء وفى التلاقى راحة

هل يشتفى خل بغير خليله

قال وسمعت إبراهيم بن أحمد يقول: من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة له.

• سمعت محمد بن أحمد يقول سمعت أبا بكر الأنصاري يقول سمعت إبراهيم الخواص يقول: علم العبد بقرب قيام الله على العبد يوحشه من الخلق ويقيم له شاهد الأنس بالله. وعلم العبد بأن الخلق مسلطين مأمورين يزيل عنه خوفهم ويقيم في قلبه خوف المسلط لهم.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول سمعت الأزدي يقول سمعت إبراهيم الخواص يقول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين. وقال إبراهيم: على قدر إعزاز المؤمن لأمر الله يلبسه الله من عزه ويقيم له العز في قلوب المؤمنين. فذلك قوله تعالى: {(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)} وقال إبراهيم: عقوبة القلب أشد العقوبات، ومقامها أعلى المقامات، وكرامتها أفضل الكرامات، وذكرها أشرف الاذكار، وبذكرها تستجلب الأنوار عليها وقع الخطاب وهي المخصوصة بالتنبيه والعتاب.

• سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول سمعت محمد بن عبيد الله الأنصاري يقول سمعت إبراهيم بن أحمد الخواص يقول: الفقير يعمل على الإخلاص وجلاء القلب وحضوره للعمل، والغني يعمل على كثرة الوساوس وتفرقة القلب

ص: 327

فى مواضع الأعمال. والفقير ضعف بدنه في العمل قوة معرفته وصحة توكله، والفقير يعمل على إدراك حقيقة الإيمان وبلوغ ذروته، والغني يعمل على نقصان في إيمانه وضعف من معرفته. والفقير يفتخر بالله عز وجل ويصول به، والغني يفتخر بالمال ويصول بالدنيا، والفقير يذهب حيث شاء والغني مقيد مع ماله، والفقير يكره إقبال الدنيا والغني يحب إقبالها، والفقير فوق ما يقول والغني دون ما يقول. والناس رجلان رجل وعبد فالرجل مهموم بتدبير نفسه متعوب بالسعي في مصلحته، والعبد طرح نفسه في ظل الربوبية وكان من حيث العبودية، وعلى قدر حسن قبول العبد عن الله تكون معونة الله له. والمتوكلون الواثقون بضمانه غابوا عن الأوهام وعيون الناظرين فعظم خطر ما أوصلهم إليه وجل قدر ما حملهم عليه وعظمت منزلتهم لديه. فيا طيب عيش لو عقل ويا لذة وصل لو كشف ويا رفعة قدر لو وصف وفى ذلك يقول.

معطلة أجسامهم لا عيونهم

ترى ما عليهم من قضاياه قد يجرى

جوارحهم عن كل لهو وزينة

محجبة ما أن تمر إلى أمر

فهم أمناء الله في أهل أرضه

ملوك كرام فى البرارى وفى البحر

رءوسهم مكشوفة في بلادهم

وهم بصواب الأمر أسبابهم تجرى

عدول ثقات في جميع صفاتهم

أرق عباد الله مع صحة السر

هنيئا لمغبوط يصول بسيد

يعادل قرب الأمر والبعد فى الفكر

فيا زلفة للعبد عند مليكه

فصار كمن فى المهد ربى وفى الحجر

ويا حسرة المحجوب عن قدر ربه

بأدناسه في نفسه وهو لا يدري

قال: والعارف بالله يحمله الله بمعرفته، وسائر الناس تحملهم بطونهم، ومن نظر الأشياء بعين الفناء كانت راحته في مفارقتها ولم يأخذ منها إلا لوقته. قال والرزق ليس فيه توكل إنما فيه صبر حتى يأتي الله به في وقته الذي وعد، وإنما يقوى صبر العبد على قدر معرفته بما صبر له أو لمن صبر، والصبر ينال بالمعرفة وعلى الصابر حمل مئونة الصبر حتى يستحق ثواب الصابرين، لأن الله تعالى جعل الجزاء بعد الصبر قال الله تعالى:{(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}

ص: 328

{قال إني جاعلك للناس إماما)} فالجزاء إنما وقع له عليه السلام بعد ما أتم حمل البلوى. قال وسمعت أبا إسحاق يقول: الحركة للمريدين طهارة ولسائر الناس إباحة، وللمخصوصين عقوبة لهم إذا مالوا إلى ما فيه الحظ لأنفسهم لأن الأسباب إنما تبطئ على العارفين وتمتنع عن الحركة إليهم لما فيهم من الحركة إليها فإذا فنيت آثارها تحركت إليهم وأقبل الملك بكليته عليهم. وكفى بالثقة بالله مع صدق الانقطاع إليه حياطة من العبد لنفسه وأهله وولده. وكل مريد يتوجه إلى الله وهموم الأرزاق قائمة في قلبه فإنه لا يفلح ولا ينفذ في توجهه. قال وسمعت أبا إسحاق يقول: علامة حقيقة المعرفة بالقلب خلع الحول والقوة وترك التملك مع الله في شيء من ملكه، ودوام حضور القلب بالحياء من الله وشدة انكسار القلب من هيبة الله، فهذه الأحوال دلائل المعارف والحقيقة، فمن لم يكن على هذه الأحوال فإنما هو على الأسماء والصفات. قال وسمعته يقول: التوكل على ثلاث درجات على الصبر والرضى والمحبة، لأنه إذا توكل وجب عليه أن يصبر على توكله بتوكله لمن توكل عليه، وإذا صبر وجب عليه أن يرضى بجميع ما حكم عليه، وإذا رضي وجب عليه أن يكون محبا لكل ما فعل به موافقة له.

قال الشيخ: كان أبو إسحاق من المحققين في التوكل المنخلعين من حظوظهم التاركين لأحكام نفوسهم. فكان الحق يحملهم ويلطفهم بلطائف لطفه. من ذلك ما أخبرنيه

عبد الواحد بن بكر حدثني محمد بن عبد العزيز قال سمعت أبا بكر الحربي يقول قلت لإبراهيم الخواص: حدثني بأحسن شيء مر عليك فقال: خرجت من مكة عن طريق الجادة واعتقدت فيما بيني وبين الله تعالى ألا أذوق شيئا أو أنظر إلى القادسية، فلما صرت بالربذة إذا أنا بأعرابى يعدو وبيده السيف مسلول وبيده الاخرى قعب لبن. فصاح بي يا إنسان فلم ألتفت إليه، فلحقني فقال: اشرب هذا وإلا ضربت عنقك. فقلت: هذا شيء ليس لي فيه شيء فأخذت فشربته فلا والله ما عارضني شيء بعد ذلك إلى أن بلغت القادسية.

• وفيما حدث به عبد الواحد عن همام بن الحارث قال سمعت إبراهيم

ص: 329

الخواص يقول: ركبت البحر وكان معي في المركب رجل يهودي فتأملته أياما كثيرة لا أراه يذوق شيئا ولا يتحرك ولا ينزعج من مكانه ولا يتطهر ولا يشتغل بشيء وهو ملتف بعباء مطروح في زاوية ولا يفاتح أحدا ولا ينطق، فسألته وكلمته فوجدته مجردا متوكلا يتكلم فيه بأحسن كلام ويأتي بأكمل بيان.

فلما أنس بي وسكن إلي قال لي: يا أبا إسحاق إن كنت صادقا فيما تدعيه فالبحر بيننا حتى نعبر إلى الساحل - وكنا في اللجج - فقلت في نفسي: واذلاه إن تأخرت عن هذا الكافر، فقلت له: قم بنا، فما كان بأسرع بأن زج بنفسه في البحر ورميت بنفسي خلفه فعبرنا جميعا إلى الساحل، فلما أن خرجنا قال: يا إبراهيم نصطحب على شريطة ألا نأوي المساجد ولا البيع ولا الكنائس ولا العمران فنعرف. فقلت: لك ذلك حتى أتينا مدينة فأقمنا على مزبلة ثلاثة أيام فلما كان يوم الثالث أتاه كلب في فمه رغيفان فطرحهما بين يديه وانصرف فأكل ولم يقل لي شيئا، ثم أتاني شاب ظريف نظيف حسن الوجه والبزة طيب الرائحة ومعه طعام نظيف في منديل فوضعه بين يدي وقال لي: كل وغاب عني فلم ار له أثرا، فقلت لليهودى: هلم. فلم يفعل ثم أسلم وقال لي: يا إبراهيم أصلنا صحيح إلا أن الذي لكم أحسن وأصلح وأظرف. وحسن إسلامه وصار أحد أصحابنا المتحققين بالتصوف.

• حدثنا عبد الواحد ثنا أحمد بن العلاء قال سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت إبراهيم الخواص وقد سأله بعض أصحابنا وهو يتأوه: ما هذا التأوه؟ فقال: أوه، كيف يفلح من يسره ما يضره؟ ثم أنشأ يقول:

تعودت مس الضر حتى ألفته

وأحوجني طول البلاء إلى الصبر

وقطعت أيامى من الناس آيسا

لعلمي بصنع الله من حيث لا أدري

وذكر خير النساج قال قال لي إبراهيم الخواص: عطشت عطشا شديدا بالحاجر فسقطت من شدة العطش، فإذا أنا بماء قد سقط على وجهي وجدت برده على فؤادي ففتحت عيني فإذا أنا برجل ما رأيت أحسن منه قط على فرس أشهب عليه ثياب خضر وعمامة صفراء وبيده قدح - أظنه قال من ذهب

ص: 330

أو من جوهر - فسقاني منه شربة وقال لى: ارتدف خلفى فارتدفت، فلم يبرح من مكانه حتى قال لي: ما ترى؟ قلت: المدينة. قال: انزل واقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وقل له: أخوك رضوان يقرأ عليك السلام.

• يحكى عن أبي إسحاق لطائف من صنع الله للمتحققين المخلصين في التوكل اقتصرنا منها على ما ذكرنا. ومن وثق بالله وسكن إلى ضمانه فيما ضمن من الكفاية فالألطاف عنه لا تنقطع، ومواد إنعامه عليه غير ممتنع.

‌أبو الله عبد خاقان

ومنهم من يسبى بسره الفتيان، ويجذب بدعوته من الخسران إلى الرجحان وكان ذا بيان وبرهان أبو عبد الله خاقان.

• سمعت والدى قال سمعت جعفر الحذاء الشيرازي يقول - وذكر خاقان - فقال: إنه كان صاحب آيات وكرامات. وذكر أن ابن فضلان الرازي قال:

كان أبي أحد الباعة ببغداد، وكنت على سرير حانوته جالسا فمر إنسان فظننت أنه من الفقراء البغداديين - وأنا حينئذ لم أبلغ الحلم - فجذب قلبي وقمت إليه وسلمت عليه، ومعي دينار فدفعته إليه فتناوله ومضى ولم يقبل علي، فقلت في نفسي: ضيعت الدينار فإنه مهوس، فتبعته حتى انتهى إلى مسجد الشونيزية، فرأى فيه ثلاثة من الفقراء فدفع الدينار إلى أحدهم واستقبل هو القبلة يصلي، فخرج الذي أخذ الدينار وأنا أتبعه وراءه أراقبه، فاشترى طعاما وحمله، فأكله الثلاثة، والشيخ مقبل على صلاته يصلي. فلما فرغوا أقبل عليهم فقال: أتدرون ما حبسني عنكم؟ قالوا: لا يا أستاذ. قال: شاب ناولني الدينار فكنت أسأل الله أن يعتقه من رق الدنيا، وقد فعل. فلم أتمالك أن قعدت بين يديه وقلت: صدقت يا أستاذ. فلم أرجع إلى والدي إلا بعد حجتين، وكان هذا الشيخ خاقان.

‌إبراهيم المارستاني

• ومنهم المعلم المفهم، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المارستاني.

ص: 331

كان الجنيد له مواخيا، وعليه حاميا وحانيا. وذلك أن الجنيد بلغه أن بعض المتأولين زين له تأويلا فمال إليه فكتب إليه الجنيد رسالة:

• أخبرنا بها أبو بكر محمد بن أحمد بن المفيد وحدثنا بها عنه أبو عمرو العثماني ثنا عبد الصمد بن محمد الجبلي قال: كتب الجنيد إلى إبراهيم بن أحمد المارستاني رسالة فيها: يا أبا إسحاق لا ضيع الله ميلي إليك، ولا إقبالي عليك أنا عليك عاتب واجد، ولما تقدم من فعلك غير حامد، أرضيت أن تكون لبعض عبيد الدنيا عبدا؟ أو يكون بطاعتك له عليك مهيمنا وربا، يتخولك ببعض ما يعطيك، ويمتهنك بيسير ما يزريك مبتذلا لك، ثم يدنسك بأوساخ وضره ويجتذبك بمأثور ضرره؟ فسبحان من بسط إليك به رحمته ورأفته فاستنقذك بذلك من وبال ما اخترته لنفسك وملت إليه، لقد كدت أن تغرق في خلجان بحرها، أو تهلك في بعض مفاوزها. ولقد أوجب علي من الشكر لما جدد من النعمة عليك ووهب لي من السلامة فيك. ما لا أقوم به عجزا عن واجب حقه إلا أن يقوم به لي عني، وأنا أسأل المنان المتطول بفضله المبتدي بكرمه وامتنانه، أن يقوم لى عنى بما قصر له به شكري، بادئا في ذلك بالحمد والجود كما هو أهله، بل ما لا أحصيه من نعمه، فليت شعري أبا إسحاق كيف معرفتك بما جدد لك من نعمه وآلائه، وزوى عنك من عطب فرط بلائك، وكيف علمك بعد معرفتك فيما ألزمك المنعم عليك والمنان بفضله وإحسانه فيما أسدى إليك. ألك ليل ترقده، أم نهار تمهده أم مستراح عن الجد تجده، أم طعام تعهده، أم سبب من الأسباب دون ذلك تقصده؟ على أن ذلك غير نائب عنك في وجوب حق النعمة عليك فيما جدد به من عتيد البر لديك، لكنه الغاية الممكنة من فعلك، والاجتهاد في بلوغ الأجر من عملك، فكن له بأفضل ما هيأ لك عاملا، وعليه به في سائر أوقاتك مقبلا. ثم كن له بعد ذلك خاضعا مذعنا ضارعا معترفا، فان ذلك يسير من كثير وجب له عليك.

وبعد يا أخي فاحذر ميل التأويل عن الحقائق، وخذ لنفسك بأحكم الوثائق.

فإن التأويل كالصفاء الزلال الذي لا تثبت عليه الأقدام، وإنما هلك من

ص: 332

هلك من المنسوبين إلى العلم والمشار إليهم بالفضل بالميل إلى خطأ التأويل واستيلاء ذلك على عقولهم، وهم في ذلك على وجوه شتى، وإني أعيذك بالله وأستعينه لك، وأعيذك به من ذلك كله، وأسأله أن يجعل عليك جنة من جنته، وواقية من واقيته وإحسانه. وبعد يا أخي كيف أنت في ترك مواصلة من عرضك للتقصير ودعاك إلى النقص والفتور؟ وكيف ينبغي أن تكون مباينتك له وهجرانك، وكيف إعراض سرك ونبو قلبك وعزوف ضميرك عنه؟ وحقيق عليك ما وهبه الله لك وخصك به من العلم الجليل والمنزل الشريف أن تكون عن المقبلين على الدنيا معرضا، وأن تكون لهم في بلائهم إلى الله شافعا، فذلك بعض حقك لك، وحري بك أن تكون للمذنبين ذائدا وأن تكون لهم بفهم الخطاب إلى الله رائدا، وفي استنقاذهم وافدا، فتلك حقائق العلماء، وأماكن الحكماء. وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعباده، وأعمهم نفعا لجملة خلقه.

جعلنا الله وإياك من أخص من أخلصه بالإخلاص إليه وأقربهم في محل الزلفى لديه.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يحكي عن أبي محمد الجريري قال سمعت أبا إسحاق المارستاني يقول: رأيت الخضر عليه السلام فعلمنى عشر كلمات - وأحصاها بيده - اللهم إني أسألك الإقبال عليك، والإصغاء إليك، والفهم عنك، والبصيرة في أمرك، والنفاذ في طاعتك، والمواظبة على إرادتك، والمبادرة في خدمتك، وحسن الأدب في معاملتك، والتسليم والتفويض إليك.

‌أبو جعفر المجذوم

• ومن الأتقياء الأبرياء، والضعفاء الأقوياء، الأخفياء الأولياء المجذوم أبو جعفر. كان مسكينا خاضعا، فكان الحق له معينا صانعا.

• سمعت أبا الفضل أحمد بن عمران الهروي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا الحسين الدراج يقول: كان يصحبني كل سنة حججت جماعة من المشاة من الفقراء وغيرهم - لمعرفتي بالطرق والمياه - فكنت أتولى اليقام بأمرهم فعزمت سنة من السنين أن أحج منفردا لا يصحبني أحد ولا أصحب أحدا فخرجت فدخلت مسجد القادسية فرايت رجلا مجذوما مبتلى في المحراب فسلم

ص: 333

علي وقال: يا أبا الحسين عزمت الحج فأجبته مغتاظا عليه فقلت: نعم. فقال لي: فالصحبة فقلت في نفسي: هربت من الأصحاء الأقوياء ابتلى بمجذوم مبتلى فقلت: لا. فقال لي: افعل فقلت: والله لا فعلت. فقال لي: يصنع الله للضعيف حتى يتعجب القوي. فقلت نعم - كالمنكر عليه - فتركته فصليت العصر ومشيت نحو المغيثة فبلغتها من الغد ضحوة فدخلت مسجدها فإذا الشيخ جالس في المحراب فسلم علي وقال لي: يا أبا الحسين يصنع الله بالضعيف حتى يتعجب القوي. فاعترضني الوسواس فى أمره ولم أجلس وغدوت ماشيا حتى بلغت القرعاء مع الصبح فدخلت المسجد فإذا بالشيخ قاعد فقال لي:

يا أبا الحسين يصنع الله بالضعيف حتى يتعجب القوي. قال: فبادرت إليه ووقعت على وجهي بين يديه، وقلت: المعذرة إلى الله وإليك. فقال لى:

مالك؟ قلت: أخطأت. قال: وما هو؟ قلت؟ الصحبة قال: قد حلفت وأكره أن أحنثك. قلت: فأراك في كل منزل؟ قال: هذا نعم. قال: فطارعنى ما كان من التعجب والجزع، وما كان بي إلا أن يجمعني وإياه المنازل، فكنت ألقاه في المنازل إلى أن بلغت المدينة فغاب عني فلم أره، فلما قدمت مكة ذكرت ذلك لمشايخنا أبي بكر الكتاني وأبي الحسن المزين وغيرهما، فاستحمقوني وقالوا: ذاك أبو جعفر المجذوم ما منا أحد إلا ويسأل الله رؤيته ولقاءه منذ كذا. فقلت: قد كان ذاك، فقالوا: إن لقيته فتلطف له وأعلمنا لعلنا نراه. فقلت: نعم. فطلبته بمنى وعرفات فلم أره، فلما كان يوم النحر وأنا أرمي الجمرة جذبني إنسان وقال: السلام عليك أبا الحسين. فنظرت فإذا هو، فلحقني من رؤيته أن صحت وغشي علي وسقطت فذهب، فقصدت مسجد الخيف وأخبرت أصحابي فعاتبوني. فكنت أصلى يوم الوداع خلف المقام ركعتين رافعا يدي فجذبني إنسان من خلفي فالتفت فقال: يا أبا الحسين عزمت عليك أن لا تصيح. فقلت: نعم، لكن أسألك الدعاء لي. فقال: سل ما شئت.

فسألت الله ثلاثا فأمن على دعائي وغاب عني فلم أره. قال منصور: فسألت أبا الحسين الدراج عن سؤالاته قال: أحدهما قلت: رب حبب إلي الفقر. فليس

ص: 334

شيء أحب إلي منه، والثاني قلت: اللهم لا تجعلني أبيت عندي ما أدخره لغد، فأنا من تلك السنة أبيت وليس لي شيء أدخره. والثالثة قلت: اللهم إذا أذنت لأوليائك في النظر إليك فارزقني ذلك واجعلني منهم. فانا أرجو أن يمن الله على بالثالثة إن شاء الله.

‌أبو عبد الله المغربى

• ومنهم أبو عبد الله المغربى. كان من المعمرين. صحب علي بن رزين، قيل إنه توفي عن مائة وعشرين سنة وقبره بجبل طور سينا، عند قبر أستاذه علي بن رزين. كان من المحققين له النكت الوثيقة والاستغاثة على الطريقة.

• سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن دينار الدينوري - بمكة - يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: أهل الخصوص مع الله على ثلاث منازل: قوم ضن بهم عن البلاء لكيلا يستغرق البلاء صبرهم فيكرهون حكمه ويكون فى صدورهم حرج من قضائه. وقوم ضن بهم عن مجاورة العصاة لتسلم صدورهم للعالم فيستريحون ولا يغتمون. وقوم صب عليهم البلاء صبا فصبرهم ورضاهم، فازدادوا بذلك له حبا ورضى بحكمه. وله عباد منحهم نعما تجدد عليهم وأسبغ عليهم باطن العلم وظاهره وأخمل ذكرهم.

وكان يقول: أفضل الأعمال عمارة الأوقات في الموافقات. وكان يقول: الفقير الذي لا يرجع إلى مستند في الكون غير الالتجاء إلى من إليه فقره ليغنيه بالاستغناء به كما عززه بالافتقار إليه. وقال: أعظم الناس ذلا فقير داهن غنيا أو تواضع له. وأعظم الخلق عزا غني تذلل لفقير أو حفظ حرمته. وقال:

الراضون بالفقرهم أمناء الله في أرضه، وحجته على عباده، بهم يدفع البلاء عن الخلق.

• وأنشدني محمد بن الحسين قال أنشدني الورثاني لأبي عبد الله المغربى:

يا من يعد الوصال ذنبا

كيف اعتذاري من الذنوب

إن كان ذنبي إليك حبي

فإنني منه لا أتوب

.

ص: 335

‌عبد الرحيم بن عبد الملك

ومنهم عبد الرحيم بن عبد الملك: كان من المتحققين الواثقين. صحب المتقدمين من أصحاب السري وبشر.

• ذكر لي أبو بكر المفيد عن إبراهيم الخواص قال: دخلت مسجد التوبة فرأيت عبد الرحيم مستندا إلى سارية، فقلت للقيم: متى قعد هذا الرجل هاهنا؟ فقال: اليوم ثلاثة أيام قاعدا على ما تراه، لم يخرج ولم يتكلم. فقعدت بحذائه، فلما أمسينا قلت له: أي شيء تريد حتى أحمله ونأكل؟ فسكت عني فكررت عليه فقال: أريد مصلية معقدة وخبزا حارا. فخرجت إلى باب الشام فطلبت ذلك فلم أجده، فعاتبت نفسي وقلت: يا فضول من دعاك إلى أن تستدعي شهوته؟ لو اشتريت خبزا وإداما وحملت استغنيت عن ذلك. ورجعت مغتما إلى المسجد، فإذا رجل يدق باب المسجد فقلت: من؟ فقال: افتح، ففتحت فإذا على رأسه زنبيل فحطه وقال لي: أسألك أن يأكل أهل المسجد من هذ الطعام. فأخرج منه خبزا حارا ومصلية معقدة في قدر، فبهت وقلت لا نمسه حتى تخبرني به. فقال: أنا رجل صانع واشتهيت مصلية معقدة وخبزا حارا فاشتريت اللحم وما يصلحه، وأمرتهم بطبخه وأن يخبزوا خبزا حارا وجئت العتمة من الدكان. وبعد ما فرغ منه ما كان خبز الخبز، فحلفت بالطلاق أن لا يأكل من هذا الخبز أو المصلية أحد إلا من في مسجد التوبة، فأحب أن تأكلوه. قال إبراهيم: فرفعت رأسي وقلت: يا سيدي أنت أردت أن تطعمه لم غممتني في الوسط؟.

‌محمد السمين

ومنهم الفاتك الأمين، القوي المكين، المعروف بمحمد السمين.

• أخبر جعفر بن محمد في كتابه وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت الجنيد بن محمد يقول قال محمد السمين: كنت في وقت من أيامي محمولا أعمل على

ص: 336

الشوق وأنا أجد من ذلك وأنا مستقبل، فخرج الناس فى غزاة وخرجت معهم فاشتدت شوكة الروم على المسلمين والتقوا، ولحق المسلمين من ذلك خوف لكثرتهم، فرأيت نفسي مروعا تضطرب، فكبر ذلك على فوبخت نفسى ألومها وأقول لها: أين ما كنت تدعينه من الشوق؟ وأعاتبها أقول لها لما ظفرت بما كنت تؤملين تغيرت واضطربت؟ فبينا أنا في عتابي وتوبيخي لها وقع لي أن أنزل إلى هذا البحر وأغتسل وبحضرتنا نهر من أنهار الروم فخلعت ثيابي واتزرت ودخلت البحر فاغتسلت فأعطيت قوة وذهب عنى الروع والاضطراب بتلك القوة واشتدت بي العزيمة فخرجت ولبست ثيابي وأخذت سلاحي وأتيت الصف فحملت حملة لا أحس من نفسي شيئا، فخرقت صفوف المسلمين وصفوف الروم وصرت من وراء صفوف الروم، فكبرت تكبيرة فسمع العدو تكبيرتي وقدروا أن كمينا للمسلمين قد خرج عليهم من ورائهم فولوا منهزمين، وحمل عليهم المسلمون فقتل منهم نحو أربعة آلاف رجل، وجعل الله ذلك التكبير سببا للفتح والنصر.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول سمعت مؤملا المغازلى يقول:

كنت أصحب محمد السمين فسافرت معه حتى بلغنا ما بين تكريت وموصل، فبينا نحن في برية نسير إذا زأر السبع من قريب فجزعت وتغيرت وظهر ذلك على صفتي، وهممت أبادر، فضبطني محمد وقال: يا مؤمل، التوكل هاهنا ليس في مسجد الجامع.

‌محمد بن سعيد القرشي

ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد القرشي. ذو البيان الشافي واللسان الموافى.

• سمعت أبا عمرو عثمان بن محمد العثماني يقول قال أبو عبد الله القرشي - في كتابه شرح التوحيد في نعت المتحقق بالله في وجده به -: إن لله عبادا اختارهم من خلقه واصطفاهم لنفسه، وانتخبهم لسره وأطلعهم على غامض وحيه ولطيف حكمته، ومخزون علمه، أبانهم عن أوصافهم المنتشئة عن طبائعهم، ولم يردهم إلى علومهم المردودة إلى استخراجهم بحكم عقولهم، ولم يخرجهم إلى المرسوم من

ص: 337

حكمة حكمائهم، بل كان هو لسانهم الذي به ينطقون، وبصرهم الذي به يبصرون، وأسماعهم التي بها يسمعون، وأيديهم التي بها يبطشون، وقلوبهم التي بها يفكرون، وبه في جميع أوصافهم يتصرفون. بائن عن الحلول في ذواتهم وأبدأ الأشياء فيما بينه وبينهم. قهر كل موجود، وغمر كل محدود، وأفنى كل معهود. ظهر لأهل صفوته فلم يعترضهم الشك في ظهوره، وحققهم به فلم يطلبوا الإدراك في تحصيله، ألبس حقائقهم لبسة البقاء، وأشهدهم نفسه بعد الفناء. فلم يجعل للعلم إلى كيفيته سبيلا، ولا إلى نعت ذلك تمثيلا، بل جعل في الأصول وحكم العقول على صحة ذلك علما ودليلا، ليهديه الحق إلى ذي العقل الأصيل، والسالك في الوجه الجميل، وذلك قول السيد الجليل في ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:{(ما زاغ البصر وما طغى)}

(وقوله {ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى)} فقال ابن عباس - وهو من المختصين بالحكمة في التنزيل - وأسماء بنت أبي بكر: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه. وكذلك رواه أنس وغيره. وأقول فى ذلك:

لنعت لحاظ العين إن كان لحظها

إلى وصفها حقا يليق ويرجع

وأثبت لحظ العين منك بلبسة

إلهية يعنى بها الطبع أجمع

فأشهدنا مالا يحد ظهوره

وليس له علم به اللفظ يصدع

فلم يعترضها الشك فيما تحققت

ولم يبق منها ما يشك ويجزع

كذا من بجمع الحق كان ظهوره

يخلصه من طبعه ثم يجمع.

• أخبرنا عبد الواحد بن بكر قال حدثني أحمد بن سعيد قال سمعت أبا عبد الله القرشي وسئل عن البكاء الذي يعتري العبد من أي وجه يعتريه؟ فقال:

الباكي في بكائه مستريح إلى لقائه، إلا أنه منقطع راجع عما كان بينه وبينه، فدخل عليه استراحة وشفاء ثم أنشأ يقول:

بكيت بعين ليس تهدي دموعها

وأسعدها قلب حزين متيم

فنوديت كم تبكي فقلت لأنني

فقدت أوانا كنت فيه أكلم

ص: 338

وكان جزائي منكم غير ما أرى

فقد حل بى أمر جليل معظم

فقال كذا من كان فينا بحظه

إذا لحظ وصف قد يبيد ويعدم

ولكننا لا نشتكي ضر ما بنا

ونستره حتى يبين فيعلم

قال وسمعت أبا عبد الله القرشى وسئل عن شرط الحياء، فقال: شرط الحياء موافقة من أنت منوط بمعونته، فإذا استولى عليك من مشهد الحياء عين المشاهدة رجعت إليه به.

‌علي السامري

ومنهم القارئ التالي الساري إلى المعالي الموافق للباري، علي بن الحسين السامري: ثابت في قصده واف بعهده

• سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول:

ذكر عمر بن ملكان عن أبيه قال: كان بيني وبين علي السامري مؤاخاة، فلما قبض كنت أتمنى مدة أن أراه فأعلم حاله عند الله، فرأيته في بعض الليالي في زينة حسنة وهيئة جميلة وقد غمض إحدى عينيه فقلت له: يا أخي عهدي بك ولم يكن بعينك بأس، فارقتنا وعيناك صحيحتان فما بال التي أغمضتها؟ قال:

اعلم أني كنت في بعض الليالي أقرأ كتاب الله فمرت بي آية وعيد فأشفقت هذه - يعني عينه الناظرة - فبكت، وقنطت هذه فأمسكت، فلما أفقت عاتبتها فقلت لها: ما بالك لم تشفقي شفقة أختك هذه؟ وقلت لها في عتابي لها: وحبى لمحبوبى لئن أبا حنى منه مناى لأمنعنك ما لك منه. فغمضتها عند ذلك وفاء بما قلت. فقلت له: يا أخي فهل قلت في ذلك شيئا؟ فأنشأ يقول:

بكت عينى غداة البين حزنا

وأخرى بالبكاء بخلت علينا

فجازيت التي جادت بدمع

بأن أقررتها بالحب عينا

وعاقبت التي بخلت بدمع

بأن غمضتها يوم التقينا.

‌أبو جعفر الحداد

ومنهم أبو جعفر الحداد المتشمر في التزود والاجتهاد، صحب أبا تراب وأكابر العباد.

ص: 339

• أخبر عبد الواحد بن بكر ثنا محمد بن عبد العزيز قال حدثني أبو عبد الله الحضرمي قال: مكث أبو جعفر الحداد عشرين سنة يعمل في كل يوم بدينار وينفقه على الفقراء ويصوم، ثم يخرج من بين الصلاتين - المغرب والعشاء - فيتصدق ما يفطر عليه من الأبواب. وكان يقول: الفراسة هي أول خاطر فلا معارض، فإن اعترض فيها معارض بشيء يزيل المعنى فليست بفراسة، فإن ذلك خاطر أو محادثة النفس. وحكى عنه أحمد بن النعمان أنه قال: كنت جالسا على بركة بالبادية فيها ماء وقد مر علي ستة عشر يوما لم آكل ولم أشرب، فانتهى إلي أبو تراب فقال لي: ما جلوسك هاهنا؟ فقلت: أنا بين المعرفة والعلم أنتظر ما يغلب علي فأكون معه. فقال أبو تراب: سيكون لك شأن. وحكى عنه أبو الحسين العلوي، قال قال أبو جعفر: إذا رأيت ضر الفقير على ثوبه فلا ترج خيره.

‌614 أبو جعفر الكبير وأبو الحسن الصغير

ومنهم المعروفان بالمزينين: الكبير أبو جعفر، والصغير أبو الحسن.

جاورا الحرم سنين عدة، وماتا بمكة، كانا جميعا من الاجتهاد متمتعين، وبالعبادة متنعمين.

• سمعت والدي يقول سمعت أبا جعفر المزين الكبير يقول: سمعت أن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ولكن يرفعهم بقدر عظمته، ولم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ولكن بقدر جوده وكرمه، ولم يفرح المحزونين بقدر حزنهم ولكن بقدر رأفته ورحمته.

• سمعت أبا جعفر الخياط الأصبهاني - بمكة - يقول سمعت أبا جعفر المزين يقول محنتنا وبلاؤنا صفاتنا، فمتى فنيت حركات صفاتنا أقبلت القلوب منقادة للحق منصرفة لحالها.

• سمعت أحمد بن أبي عمران الهروي يقول حكى أبو نصر الهروى قال سمعت أبا الحسن المزين الصغير يقول: دخلت البادية على التجريد حافيا حاسرا وكنت قاعدا على بركة الربذة، فخطر بقلبي أنه ما دخل العام البادية أحد أشد

ص: 340

تجريدا مني، فجذبني إنسان من ورائي وجعل يقول: يا حجام كم تحدث نفسك بالأباطيل؟ فردني إلى المحسوسة.

• سمعت عبد المنعم بن عمر يقول سمعت المرتعش يقول قال أبو الحسن المزين: إن الذي عليه أهل الحق في وحدانيته أن الله تعالى غير مفقود فيطلب ولا ذو غاية فيدرك. فمن أدرك موجودا معلوما فهو بالموجود مغرور والموجود عندنا معرفة حال وكشف علم بلا حال، لأن الحق باق بصفة الوحدانية التى هى نعت ذاته، ليس كمثله شيء وهو شيء ليس كالأشياء.

والتوحيد هو أن تفرده بالأولية والأزلية دون الأشياء، جل ربنا عن الأكفاء والأمثال.

‌أبو أحمد القلانسي

(1)

ومنهم الحفي المؤانسي أبو أحمد القلانسي. كان ذا فتوة كاملة ومروءة شاملة.

• أخبرنا عبد المنعم بن عمر - فيما قرأت عليه - قال سمعت أبا سعيد بن الأعرابي يقول سمعت محمد بن علي الكتاني يقول قال منبه البصري: سافرت مع أبي أحمد القلانسي فجعنا جوعا شديدا ففتح علينا بطعام فآثرني به، وكان معنا سويق فقال لي كالمازح: تكون جملي؟ فقلت: نعم. فكان يؤجرني ذلك السويق يحتال بذلك ليوصله إلي ويؤثرني على نفسه.

وروي عن أبي أحمد قال: دخلت على قوم من الفقراء بالبصرة فأكرموني فقلت لبعضهم ليلة: أين إزاري؟ فسقطت من أعينهم. وقيل لأبي أحمد القلانسى علا م بنيت المذهب؟ قال: على ثلاث خصال: لا نطالب أحدا من الناس بواجب حقنا، ونطالب أنفسنا بحقوق الناس، ونلزم التقصير أنفسنا في جميع ما نأتي. وكان من دعائه لإخوانه: لا جعلنا الله وإياكم ممن يكون حظه الأسى والأسف على مفارقة الدنيا، وجعل أحب الأوقات إلينا وإليكم يوم اللقاء الذي يكون فيه دوام البقاء. وكان يقول: العبد مأخوذ عليه أن يراعى ظاهر أعمال وباطنها، فظاهرها بذل المجهود وخلع الراحة واحتمال مكاره النفس، والزهد في فضول الدنيا. وباطن الأعمال التقوى والورع الصادق والصدق والصبر

(1)

الظاهر أن هذا هو المذكور فى ص 306 وأعيد هنا لبسط الكلام عما تقدم

ص: 341

والرضا والتوكل والمحبة له وفيه والإيثار له وإجلال مقامه والحياء منه وحسن موافقته وإعزاز أمره. فهذه الأعمال الظاهرة والباطنة مطايا العابدين ونجائبهم وعليها يسيرون إلى الله ويسابقون بها إلى ثوابه وينزلون بها في قربه.

‌أبو سعيد القرشي

ومنهم أبو سعيد القرشي. كان بالعلل والآفات عارفا، وعنها ناهيا وواقفا.

• أخبرنا أبو الفرج بن بكر قال سمعت همام بن الحارث يقول سمعت أبا سعيد القرشي يقول: قلوب أهل الهوى سجون أهل البلاء، فإذا أراد الله أن يعذب البلاء حبسه في قلوب أهل الهوى فيضج إلى الله بالاستغاثة والخروج منها، من حر أجواف أهل الهوى. قال: وسمعت أبا سعيد يقول: الحرص موصول بالطمع، والطمع موصول بالأمل، والأمل موصول بالشهوة، والشهوة موصولة بالشبهة، والشبهة موصولة بالحرام والحرام موصول بالنار.

قال تعالى {(واتقوا النار التي أعدت للكافرين)} .

‌أبو يعقوب الزيات

ومنهم أبو يعقوب الزيات، خلع الراحة والسبات، احترازا من الفجيعة بالبيات.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - قال سمعت الجنيد بن محمد يقول قصدت أبا يعقوب الزيات في جماعة من أصحابنا فاستأذنا عليه فقال:

من؟ فقلت: الجنيد وجماعة. ففتح لنا وقال: لم يكن لكم من الشغل بالحق ما يقطعكم عن المجيء إلي؟ فقلت له: إذا كان قصدنا إليك من شغلنا بالحق نكون عنه منقطعين. فسألته في التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني وأعطى المسألة حقها. ثم قال: كان الحياء يحجزني عن الجواب وعندي شيء.

فقلت: ما قولك في رجل يرجع إلى فنون من العلم يحسن أن يصف صفات الحق وصفات الخلق للخلق، ترى له مجالسة الناس؟ قال: إن كنت أنت فنعم وإلا فلا.

ص: 342

• وحكى عنه أبو سعيد الخزاز قال: حضرت أبا يعقوب الزيات وقال لمريد:

تحفظ القرآن؟ فقال: لا. فقال: وا غوثاه بالله!! مريد لا يحفظ القرآن كأترجة لا ريح لها، فبم يتنغم؟ فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه؟ أما علمت أن عيش العارفين سماع النغم من أنفسهم ومن غيرهم؟.

‌أبو جعفر الكتاني

• ومنهم أبو جعفر الكتاني. كان بذكره متنعما، ولساعاته مغتنما، جاور الحرم سنين. ومكن من الخدمة للمقام المكين.

• سمعت عبد الواحد بن أحمد الهاشمي يحكي عن أبي عبد الله بن خفيف وأخبرنيه - في كتابه - قال: سألت أبا جعفر الكتاني: كم مرة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام؟ فقال: كثيرا. فقلت يكون ألف مرة فقال: لا.

فقلت: فتسعمائة؟ فقال لا. قلت: فثمانمائة مرة؟ فقال: لا قلت: فسبعمائة مرة فقال بيده هكذا - أي قريبا منه - وكان له كل يوم ختمة يختمها مع الزوال والمؤذنون يؤذنون للظهر إذا ختم فصعد غرفته يوما للتطهر - وكان قد كف بصره - فوقع في المستحم وانكسر رجله ولم يكن بالقوي فيصيح فتأخر رجوعه إلى المسجد حتى كادت الصلاة يفوت وقتها، فتعرف المؤذنون والمجاورن حاله فصعدوا غرفته فوجدوه قد انكسر رجله، فأصلحوا من شأنه ونظفوه ونزلوا به حتى صلى فمنعته علته عن زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة، فخرج بعض أصحابه زائرا فدفع إليه رقعة وأمره أن يلقيها في القبر فافتقد صاحبه الرقعة من جيبه فرأى من ليلته النبي صلى الله عليه وسلم فى نومه فقال: يا أبا جعفر وصلت الرقعة وقد عذرناك.

• وحدثني عبد الواحد بن بكر قال سمعت همام بن الحارث يقول سمعت الكتاني يقول: إنى لا عرف من اشتكت عينه فاعتقد فيما بينه وبين الله أن لا ترجع إلى شيء من منافع نفسه ومصالحه أو تبرأ عنه فعوفى فهتف به هاتف فقال: يا هذا لو عقدت هذا العقد في المذنبين الموحدين أن لا يعذبوا لعفي عنهم ورحموا. فانتبه فإذا عينه صحيحة ليس بها علة.

ص: 343

‌أبو بكر الزقاق

• ومنهم أبو بكر الزقاق. كان مؤيدا بالألطاف والأرفاق

• سمعت أبا الفضل أحمد بن أبي عمران الهروي يقول سمعت محمد بن داود الرقي يقول سمعت أبا بكر الزقاق يقول: كان سبب ذهاب بصري أني خرجت في وسط السنة أريد مكة وفي وسطي نصف جل وعلى كتفي نصف جل، فرمدت إحدى عيني فمسحت الدموع بالجل فقرح المكان فكانت الدموع والدم يسيلان من عيني وقرحتي، وأنا من سكر إرادتي لم أحس به، وإذا أثرت الشمس في يدي قلبتها ووضعتها على عيني، رضاء مني بالبلاء، وكنت فى التيه وحدي، فخطر بقلبي أن علم الشريعة يباين علم الحقيقة. فهتف بي هاتف من شجر البادية: يا أبا بكر! كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر.

• سمعت أبا سعيد القلانسي يقول قال أبو علي الروذباري يحكي عن أبي بكر الزقاق قال: بقيت بمكة عشرين سنة وكنت أشتهي اللبن فغلبتني نفسي فخرجت إلى عسفان واستضفت حيا من أحياء العرب، فوقفت علي جارية حسناء فنظرت إليها بعيني اليمنى فأخذت بقلبي، فقلت لها: قد أخذ كلي كلك فما في لغيرك فضل. فقالت: يا شيخ بك تقبح الدعاوى العالية، لو كنت صادقا لذهبت عنك شهوة اللبن. فقلعت عيني التي نظرت بها إليها. فقالت: مثلك من نظر لله. فرجعت إلى مكة فطفت سبعا فاريت في منامي يوسف الصديق عليه السلام فقلت له: يا نبي الله أقر الله عينك بسلامتك من زليخا فقال:

يا مبارك بل يقر الله عينك بسلامتك من العسفانية، ثم تلا يوسف {(ولمن خاف مقام ربه جنتان)} فصحت من رخامة صوت يوسف وقراءته فأفقت، وإذا عيني المقلوعة صحيحة. وكان يقول: ليس السخاء عطية الواجد للمعدوم، إنما السخاء عطية المعدوم للواجد، وكان يقول: منذ ثلاثين سنة ما عقدت عقدة واحدة مع الله خوف أن لا أفي به فيكذبني على لساني.

‌أبو عبد الله الحضرمي

ومنهم أبو عبد الله الحضرمي. كان للعلائق مفارقا، وبالحقائق ناطقا

ص: 344

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: سمعت المرتعش يقول: سألت أبا عبد الله الحضرمي عن التصوف - وكان منذ عشرين سنة صمت عن الكلام - فأجابني من القرآن فقال: {(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)} فقلت: فكيف صفتهم؟ فقال: {(لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء)} . قلت: فأين محلهم من الأحوال؟ قال {(في مقعد صدق عند مليك مقتدر)} قلت: زدني. قال {(إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا)} .

‌[عبد الله الحداد

ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد الرازي يعرف بالحداد. كان عن حظه حائدا، ولمشهوده شاهدا.

• سمعت نصر بن أبي نصر العطار الصوفي يقول سمعت محمد بن داود الدينوري يقول قال عبد الله بن الحداد: العبودية ظاهرا والحرية باطنا من أخلاق الكرام. وقال: العبادة يعرفها العلماء، والإشارة يعرفها الحكماء، واللطائف يقف عليها السادة من النبلاء. وكان يقول: علامة الصبر ترك الشكوى، وكتمان الضر والبلوى. ومن علامة الإقبال على الله صيانة الأسرار عن الالتفات إلى الأغيار، وأحسن العبيد حالا من رأى نعم الله عليه بأن أهله لمعرفته، وأذن له فى قربه، وأباح له سبيل مناجاته، وخاطبه على لسان أعز السفراء محمد صلى الله عليه وسلم، وعرف تقصيره عن القيام بواجب أداء شكره، إذ شكره يستوجب شكرا إلى مالا نهاية. وأحسن العبيد من عد تسبيحه وصلاته ويرى أنه لا يستحق به على ربه شيئا. فلولا فضله ورحمته لعاينت الأنبياء عليهم السلام في مقام الإفلاس، كيف وأجلهم حالا وأرفعهم منزلة، والقائم بمقام الصدق كيف عجز عنه الرسل، كلهم يقول:«ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» فمن رأى لنفسه بعد هذا حالا أو مقاما فهو لبعده عن طرقات المعارف]

(1)

.

(1)

زيادة من ز

ص: 345

‌أبو عمرو الدمشقي

• ومنهم أبو عمرو الدمشقي. مكن في الولاية، واتصلت له الرعاية.

كان للمكارم فاعلا، وعليها حافظا، أعرض عن المستروحين إلى الأرواح ونظر إلى صنع مالك الأجسام والأشباح.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول قال أبو عمرو الدمشقي: التصوف رؤية الكون بعين النقص، بل غض الطرف عن كل ناقص ليشاهد من هو منزه عن كل نقص.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا عمرو الدمشقي يقول - وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» - قال: إشارة إلى استواء الأحوال، أي لا ترجعوا عن الحق بإفطار، ولا تقبلوا عليه بصوم، ليكن صومكم كإفطاركم، وإفطاركم كصومكم عند دوام حضوركم. وكان يقول: الأشخاص بظلمتها كائنة، والأرواح بأنوارها مشرقة، فمن لاحظ الأشخاص بظلمتها أظلم عليه وقته، ومن شاهد الأرواح بأنوارها دلته على منورها.

• سمعت أبا القاسم عبد السلام بن محمد المخزومي يقول سمعت أبا عمرو الدمشقي يقول: خواص خصال العارفين أربعة أشياء: السياسة، والرياضة، والحراسة، والرعاية. فالسياسة والرياضة ظاهران، والحراسة والرعاية باطنان. فبالسياسة الوصول إلى التطهير، وبالرياضة الوصول إلى التحقيق. والسياسة حفظ النفس ومعرفتها. والرياضة مخالفة النفس ومعاداتها، والحراسة معاينة بر الله في الضمائر.

والرعاية مراعاة حقوق المولى بالسرائر. وميراث السياسة القيام على وفاء العبودية. وميراث الرياضة الرضاء عند الحكم. وميراث الحراسة الصفوة والمشاهدة. وميراث الرعاية المحبة والهيبة. ثم الوفاء متصل بالصفاء، والرضا متصل بالمحبة، علمه من علمه وجهله من جهله.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت أبا عمرو الدمشقي يقول: كما فرض الله على الأنبياء إظهار الآيات

ص: 346

والمعجزات ليؤمنوا بها، كذلك فرض على الأولياء كتمان الكرامات حتى لا يفتنوا بها.

‌أبو نصر المحب

ومنهم أبو نصر المحب - بغدادي - كان للعروض بذولا، وعن العوئق محمولا.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: كان أبو نصر المحب ذا فتوة وسخاء، ومروءة وحياء.

• أخبر جعفر بن محمد في كتابه وحدثني عنه أبو الحسن بن مقسم قال سمعت أبا العباس بن مسروق يقول: اجتزت أنا وأبو نصر المحب بالكرخ، وعلى أبى نصر إزار له قيمة، فإذا نحن بسائل يسأل ويقول: شفيعي إليكم محمد صلى الله عليه وسلم. فشق أبو نصر إزاره وأعطاه النصف، فمشى خطوتين فانصرف وأعطاه النصف الآخر وقال: هذا ندا له.

‌أبو سالم الدباغ

ومنهم أبو سالم الدباغ - كان من المتحققين والمجتهدين. صحب الكبار وكان يعد من الأبرار:

• سمعت جعفر بن محمد بن نصر في كتابه قال سمعت أبا سالم الدباغ يقول:

رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: أقرأ عليك يا رسول الله؟ فقال:

نعم. فاستفتحت واستعذت وقرأت عليه فاتحة الكتاب وعشرين آية من أول سورة البقرة، فلم يرد علي شيئا. فقلت: يا رسول الله لم ترد علي شيئا. أحب أن تأخذ علي كما أنزل. فقال: لو أخذت عليك كما أنزل لرجمك الناس بالحجارة.

‌أبو محمد الجريري

ومنهم أبو محمد الجريري - كان للأثقال حمولا، وعن القواطع ذبولا.

وكان للحكمة عن غير أهلها صائنا، وللمدعين والمكتسبين بها شائنا.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا محمد الراسبي يقول سمعت أبا

ص: 347

محمد الجريري يقول. رأيت في النوم كأن قائلا يقول لي: لكل شيء عند الله حق، ومن أعظم الحقوق عند الله حق الحكمة فمن وضع الحكمة في غير أهلها طالبه الله بحقها، ومن طالبه الله بحقها خصم.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت علي بن سعيد يقول سمعت أحمد بن عطاء يقول قيل لأبي محمد الجريري: متى يسقط عن العبد ثقل المعاملة؟ فقال:

هيهات ما منها بد، ولكن يقع الحمل فيها. وكان يقول: أدل الأشياء على الله ثلاثة: ملكه الظاهر، ثم تدبيره في ملكه، ثم كلامه الذي يستوفي كل شيء.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت أبا محمد الجريري يقول: قوام الأديان ودوام الايمان وصلاح الابدان فى خلال ثلاث: الاكتفاء والاتقاء، والاحتماء. فمن اكتفى بالله صلحت سريرته ومن اتقى ما نهي عنه استقامت سيرته، ومن احتمى ما لم يوافقه ارتاضت طبيعته. فثمرة الاكتفاء صفو المعرفة، وعاقبة الاتقاء حسن الخليقة، وغاية الاحتماء اعتدال الطبيعة. وقال أبو محمد الجريري: من توهم أن عملا من أعماله يوصله إلى مأموله الأعلى والأدنى فقد ضل عن طريقه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لن ينجي أحدا منكم عمله» . فما لا ينجى من المخوف كيف يبلغ إلى المأمول؟ ومن صح اعتماده على فضل الله فذلك الذي يرجى له الوصول.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الطبري يقول قال رجل لأبي محمد الجريري: كنت على بساط الأنس ففتح لي الطريق إلى البسط فزللت زلة فحجبت عن مقامي فكيف السبيل إليه؟ دلني على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال: يا أخى الكل فى قهر هذه لخطة، لكن أنشدك أبياتا لبعضهم، فأنشأ يقول:

قف بالديار فهذه آثارهم

تبكى الاحبة حسرة وتشوقا

كم قد وقفت بها أسائل مخبرا

عن أهلها أو صادقا أو مشفقا

فأجابني داعي الهوى في رمسها

فارقت من تهوى فعز الملتقى

.

ص: 348

‌ابن الفرغاني

ومنهم الواسطي محمد بن موسى أبو بكر المعروف بابن الفرغاني.

صحب الجنيد والنورى، وانتقل إلى خراسان، سكن مرو. عالم بالأصول والفروع، ألفاظه بديعة، وإشاراته رفيعة كان يقول: ابتلينا بزمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوي المروءة.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن عبد الله الواعظ يقول سمعت أبا بكر محمد بن موسى بن الفرغاني الواسطي بمرو يقول: شاهد بمشاهدة الحق إياك، ولا تشهده بمشاهدتك له. قال وسمعته يقول: الأسر على وجوه أسير نفسه وشهوته، وأسير شيطانه وهواه، وأسير ما لا معنى له لحظه أو لفظه هم الفساق. وما دام للشواهد على الأسرار أثر وللأعراض على القلب خطر فهو محجوب بعيد من عين الحقيقة. وما تورع المتورعون، ولا تزهد المتزهدون إلا لعظم الأعراض في سرائرهم، فمن أعرض عنها أدبا، أو تورع عنها ظرفا فذلك الصادق في ورعه، والحكيم في آدابه. وقال: أفقر الفقراء من ستر الحق حقيقة حقه عنه. وقال: الحب يوجب شوقا، والشوق يوجب أنسا، فمن فقد الشوق والأنس فليعلم أنه غير محب.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت عبد الواحد بن علي السياري يقول سمعت خالي أبا العباس السياري يقول سمعت أبا بكر الواسطي يقول: كائنات محتومة بأسباب معروفة، وأوقات معلومة، اعتراض السريرة لها رعونة.

قال: وسمعت الواسطي يقول: الرضا والسخط نعتان من نعوت الحق يجريان على الأبد بما جريا في الأزل، يظهران الوسمين على المقبولين والمطرودين فقد بانت شواهد المقبولين بضيائها عليهم كما بانت شواهد المطرودين بظلمتها عليهم. فأنى تنفع مع ذلك الألوان المصفرة، والأكمام المقصرة، والأقدام المنتفخة. وقال: كيف يرى للفضل فضلا من لا يأمن أن يكون ذلك مكرا.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا عبد الله الحضرمي يقول سمعت أبا العباس السياري يقول سمعت أبا بكر الواسطي يقول: الذاكرون في ذكره

ص: 349

أكثر غفلة من الناسين لذكره، لأن ذكره سواه. وكان يقول: مطالعة الأعواض على الطاعات من نسيان الفضل، وحياة القلوب بالله، بل بإبقاء القلوب مع الله، بل الغيبة عن الله بالله. قال وسمعت أبا أحمد الحسنونى يقول قال أبو بكر الواسطي: الناس على ثلاث طبقات: الطبقة الأولى من الله عليهم بأنوار الهداية، فهم معصومون من الكفر والشرك والنفاق.

والطبقة الثانية من الله عليهم بأنوار العناية فهم معصومون عن الكبائر والصغائر.

والطبقة الثالثة من الله عليهم بالكفاية، فهم معصومون عن الخواطر الفاسدة وحركات أهل الغفلة.

‌أبو علي الجورجاني

ومنهم الحبر الرباني، الحسن بن علي أبو علي الجورجاني - له البيان الشافي، والكلام الوافي.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا علي الجورجاني يقول: ثلاثة أشياء من عقد التوحيد: الخوف والرجاء والمحبة. فزيادة الخوف من كثرة الذنوب لرؤية الوعيد. وزيادة الرجاء من اكتساب الخير لرؤية الوعد، وزيادة المحبة من كثرة الذكر لرؤية المنة.

فالخائف لا يستريح من ذكر المحبوب، فالخوف نار منور، والرجاء نور منور والمحبة نور الأنوار.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول سمعت أبا علي الجورجاني يقول في البخل: هو على ثلاثة أحرف الباء وهو البلاء. والخاء وهو الخسران. واللام وهو اللوم. فالبخيل بلاء على نفسه، وخاسر في سعيه وملوم في بخله.

‌أبو عبد الله السجزي

ومنهم أبو عبد الله السجزي، المعتبر الفكري

• سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد المعلم النيسابوري - صاحب عبد الله بن

ص: 350

منازل - يقول سمعت أبا عبد الله السجزي يقول: العبرة أن تجعل كل حاضر غائبا، والفكرة أن تجعل كل غائب حاضرا. وقيل لأبي عبد الله: ما يدفعك عن لبس المرقعة؟ قال: من النفاق أن تلبس لباس الفتيان ولا تدخل في حمل أثقال الفتوة. فقيل له: وما الفتوة؟ قال: رؤية أعذار الخلق وتقصيرك، وتمامهم ونقصانك، والشفقة على الخلق كلهم: برهم وفاجرهم. وكمال الفتوة هو أن لا يشغلك الخلق عن الله.

‌محفوظ بن محمود

ومنهم المذعن للمعبود، الواثق بالودود. النيسابوري محفوظ بن محمود

• سمعت أبا عمرو محمد بن أحمد بن حمدان يقول سمعت محفوظ بن محمود يقول: من أبصر محاسن نفسه ابتلى بمساوى الناس، ومن أبصر عيوب نفسه سلم من رؤية مساوى الناس، ومن ظن بمسلم فتنة فهو المفتون.

• سمعت محمد بن الحسين يقول قال محفوظ: التائب الذي يتوب من غفلاته وطاعاته. وقال: لا تزن الخلق بميزانك وزن نفسك بميزان المؤمنين لتعلم فضلهم وإفلاسك. وقال: أكثر الناس خيرا أسلمهم صدرا للمسلمين.

‌ابن طاهر الأبهري

ومنهم الأبهري أبو بكر بن طاهر ظهر من حجابه الساتر، وغمر في جنابه العامر، رايات الكرام له مرفوعة وطوارق الإياس عنه موضوعة، بسط لسانه في وجود الموجود وكرم المنعم المحمود

• سمعت أبا نصر النيسابوري يحكي عن عبد العزيز الابهرى قال قال أبو بكر بن طاهر: رفع الله عن العالمين به حجب الأستار وأطلعهم على طويات مخزونات الأسرار، وأمدهم بمواد المعارف والأنوار، فهم بما ألبسهم من نوره إلى أسراره متطلعون، وبما كاشفهم من شواهد حقيقة معرفته على سائر الأمور مشرفون، لا يقدح في قلوبهم ريب بل كل ما أطلعهم عليه أثبت عندهم من العيان لأن بصائر الحقيقة لهم لامعة، وأعلام الحق لهم مرفوعة لائحة، ائتمنهم الحق

ص: 351

على معرفته إلهاما وتفضلا وإكراما، أجزل لهم عطاياه وجعل قلوبهم مطاياه، فدنا منها بلا مسافة ونزل أسرارهم بلا ممازجة، فحماهم من الغفلة والفتور، ففنيت صفاتهم بوجود شهوده، فليس لهم عنه مغيب، وعليهم في كل أحوالهم منه رقيب.

• سمعت أبا نصر يقول قال عبد العزيز بن محمد الأبهري: كان عبد الله بن طاهر يقول: إذا لاحظ كرمه إني لأرجو أن يكون توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر ولا يعجز عن محق ما بعده من ذنب. وكان يقول: ما أحببت أن تنجو منه بعملك فإلى حبك له تشير، وقال: ذنب يظهر به كرمه أحب إلي من عمل يظهر به شرفي. وقال: قوم سألوا الله بألسنة الأعمال، وقوم سألوه بألسنة الرحمة، فكم بين من سأل ربه بربه، وبين من رجا ربه بعمله. وليس من رجا ربه بجوده كمن رجا ربه بنفسه. وكان يقول: ما قدر طاعة نقابل بها نعمه، وما قدر ذنوب نقابل بها كرمه، إني لأرجو أن تكون ذنوبنا في كرمه أقل من طاعتنا في نعمه، إذ لا يذنب العبد من الذنوب ما يغمر به عفو مولاه.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا بكر ابن طاهر يقول: في المحن ثلاثة أشياء: تطهير وتكفير وتذكير. فالتطهير من الكبائر، والتكفير من الصغائر، والتذكير لأهل الصفا.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الواحد بن أبي بكر يقول سمعت بعض أصحابنا يقول: حضرت مع أبي بكر بن طاهر جنازة فرأى بعض إخوان الميت يكثرون البكاء فنظر إلى أصحابه وأنشد:

ويبكي على الموتى ويترك نفسه

ويزعم أن قد قل عنهم عزاؤه

ولو كان ذا رأي وعقل وفطنة

لكان عليه لا عليهم بكاؤه

وقال أبو بكر بن طاهر: من خاف على نفسه شق عليه ركوب الاهوال، ومن شق عليه ركوب الأهوال لا يرتقي إلى سمو المعالي في الأحوال.

‌أبو بكر الأبهري

• ومنهم المطوعي أبو بكر بن عيسى الأبهري. كان من المفوضين، وتعلو

ص: 352

أحواله على السالكين والسائحين.

• ذكر لي فيما أرى أبو الفضل أحمد بن أبي عمران الهروي عن إبراهيم بن أبي حماد الأبهري أن أبا بكر بن طاهر الأبهري حضر أبا بكر بن عيسى الأبهري وهو في النزع فقال له: أحسن بربك الظن. ففتح عينيه مقبلا عليه فقال:

لمثلي يقال هذا الكلام؟ إن تركنا عبدناه، وإن دعانا أجبناه.

‌أبو الحسن الصائغ

• ومنهم أبو الحسن الصائغ الدينوري. سكن مصر. كان في المعاملة مخلصا وعن النظر إلى سوى الحق معرضا.

• سمعت أبا سعيد القلانسي يقول فيما حكى لنا عن الرقي إن أبا الحسن كان يقول: حكم المريد أن يتخلى من الدنيا مرتين: أولهما ترك نعيمها ونضرتها ومطاعمها ومشاربها وما فيها من غرورها وفضولها. والثانى إذا أقبل الناس عليه مبجلين له مكرمين لتركه للدنيا أن يزهد في الناس المقبلين عليه، فيخالط أهل الدنيا وأبناءها، فإن إقبال الناس عليه وتبجيلهم له لتركه فضول الدنيا إذا سكن إليهم ولاحظهم ذنب عظيم، وفتنة عاجلة. وكان يقول: من فساد الطبع التمني والأمل. وكان يقول: المعرفة رؤية المنة في كل الأحوال، والعجز عن أداء شكر المنعم من كل الوجوه، والتبرؤ من الحول في كل شيء.

‌ممشاد الدينوري

ومنهم الدينوري ممشاد، حارس همته العالية، وغارس خطراته الآتية.

• سمعت أبي يقول - وكان قد لقيه وشاهده - قال سمعته يقول: الهمة مقدمة الأشياء فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراءها من الأعمال والأحوال. وكان يقول: أحسن الناس حالا من أسقط عن نفسه رؤية الخلق وكان صافي الخلوات لسره راعيا، واعتمد في جميع أموره على من كان له كافيا، واثقا بضمانه. وكان يقول: لو جمعت حكمة الأولين والآخرين، وادعيت أحوال السادة من الأولياء والصادقين لن تصل إلى درجات العارفين حتى يسكن سرك إلى الله وتثق به فيما ضمن لك. وكان يقول: ما أقبح الغفلة

ص: 353

عن طاعة من لا يغفل عن برك. وما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن ذكرك.

‌أبو إسحاق القصار

• ومنهم الرقي إبراهيم بن داود أبو إسحاق القصار. ذو الهم المخزون والبيان الموزون.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت الحسين بن أحمد يقول سمعت إبراهيم.

القصار الرقي يقول: قيمة كل إنسان بقدر همته، فإن كانت همته للدنيا فلا قيمة له. وإن كانت همته رضاء الله فلا يمكن استدراك غاية قيمته ولا الوقوف عليها.

• أخبرنا أبو الفضل نصر بن محمد الطوسي قال سمعت إبراهيم بن أحمد بن المولد يقول: سأل رجل إبراهيم القصار الرقي فقال: هل يبدي المحب حبه؟ أو هل ينطق به؟ أو هل يطيق كتمانه؟ فأنشأ متمثلا يقول:

ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم

بكتمان عين دمعها الدهر يذرف

حملتم جبال الحب فوقي وإنني

لأعجز عن حمل القميص وأضعف

وكان يقول: علامة محبة الله إيثار طاعته، ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وكان يقول: الأبصار قوية والبصائر ضعيفة، وأضعف الخلق من ضعف عن رد شهوته، وأقوى خلقه من قوي على ردها. وكان يقول: حسبك من الدنيا شيئان: خدمة ولي وصحبة فقير.

‌أبو عبد الله بن بكر

ومنهم الصبيحي أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن بكر.

له العقل الرصين، والكلام الواضح المبين. وصحبه والدي بالبصرة قبل انتقاله إلى السوس. له المصنفات في أحوال القوم بعبارات لطيفة، وإشارات بديعة. وبلغني أنه لزم سريا في داره بالبصرة ثلاثين سنة متعبدا فيها.

وكان يقول: النظر في عواقب الأمور من أحوال العاجزين، والهجوم على الموارد من أحوال السائرين، والخمود بالرضا تحت موارد القضاء من أفعال العارفين. وسئل عن أصول الدين فقال: إثبات صدق الافتقار إلى الله

ص: 354

ولزوم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفروعه أربعة أشياء: الوفاء بالعهود وحفظ الحدود والرضا بالموجود والصبر عن المفقود. وكان يقول:

الربوبية سبقت العبودية، وبالربوبية ظهرت العبودية، وتمام وفاء العبودية مشاهدة الربوبية. وكان يقول: ابتلى الخلائق بأسرهم بالدعاوى العريضة في المغيب، فإذا أظلتهم هيبة المشهد خرسوا وانقمعوا وصاروا لا شيء، ولو صدقوا في دعاويهم لبرزوا عند المشاهدة كما برز نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتقدم الخلائق بقدم الصدق حين طلب إليه الشفاعة فقال: أنا لها. لم ترعه هيبة الموقف لما كان عليه من قدم الصدق، وما أشبه هذه الدعاوى الباطلة إلا بقول بعضهم حيث يقول:

ينوي العتاب له من قبل رؤيته

فإن رآه فدمع العين مسكوب

لا يستطيع كلاما حين يبصره

كل اللسان وفي الأحشاء تلهيب

وليس يخرس الألسنة في المشاهدة إلا بعدها من الصدق. فمن صدق في المحبة تكلم عنه الضمير إذا سكت عن النطق باللسان.

‌المرتعش

ومنهم عبد الله بن محمد أبو محمد المعروف بالمرتعش - كانت المشاهدة باطنة، والمثابرة سابقة.

• سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: كان أبو محمد المرتعش له اللسان الناطق والخاطر الفائق، وكان يقول: أفضل الأرزاق تصحيح العبودية على المشاهدة ومعانقة الخدمة على موافقة السنة، ولا وصول إلى محبة الله إلا ببغض ما أبغضه الله وهي فضول الدنيا وأماني النفس، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، ولا سبيل إلى تصحيح المعاملة إلا بالإخلاص فيها والصبر عليها.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت الإمام أبا سهل محمد بن سليمان الفقيه يقول قال رجل للمرتعش: أوصني. فقال: اذهب إلى من هو خير لك مني، ودعني إلى من هو خير لي منك. وجاءه رجل فقال: أي الأعمال أفضل؟ فقال:

رؤية فضل الله. وأنشأ يقول:

ص: 355

إن المقادير إذا ساعدت

ألحقت العاجز بالحازم

وكان يقول. أصول التوحيد ثلاثة: معرفة الله بالربوبية، والإقرار له بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة.

‌النهرجوري

ومنهم أبو يعقوب إسحاق بن محمد النهرجوري. كان ذا نور زاهر، وحضور شاهر،

• سمعت أبا عمرو العثماني يقول سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول: الذي اجتمع عليه المحققون في حقائقهم أن الله تعالى غير مفقود فيطلب، ولا له غاية فيدرك، ومن أدرك موجودا فهو بالموجود مغرور، والموجود عندنا معرفة حال وكشف علم بلا حال. وكان يقول: من عرف الله لم يغتر بالله. وقال لرجل: يا دنيء الهمة، فقال الرجل: لم تقول هذا أيها الشيخ؟ فقال: لأن الله يقول: {(قل متاع الدنيا قليل)} ونصيبك من هذا القليل حقير، وما في يديك منه يسير، وأنت بها بخيل نزيد أن تكون بإمساكها نبيلا؟ فإن بذلت بذلت قليلا، وإن منعت منعت قليلا، فلا أنت بالمنع ملوم ولا بالبذل محمود. وكان يقول: مشاهدة الأرواح تحقيق، ومشاهدة القلوب تعريف، فإذا اقتضاني ربي بعض حقه قبلي فذاك أوان حزني، وإذا أذن في اقتضاء سره فذاك أوان سروري ونعمتي، إذ هو بالجود والوفاء معروف، والعبد بالضعف والعجز موصوف.

‌أبو علي الروذباري

ومنهم أبو علي الروذباري أحمد بن محمد بن مقسم له اللسان الفصيح والبيان النجيح. بغدادي انتقل إلى مصر وتوفي بها.

• سمعت أبا محمد بن أبي عمران الهروي يقول سمعت أبا عبد الله أحمد بن عطاء الروذبارى يقول سئل أبو على خالى الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول أبيح لي الوصول إلى المنزلة التي لا تؤثر في اختلاف الأحوال؟ فقال: نعم، قد وصل ولكن وصوله إلى سقر.

ص: 356

[سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول سمعت أبا علي الروذباري وسئل عن الإشارة قال: الإشارة الإبانة عما تضمنه الوجد من المشار إليه لا غير، وفي الحقيقة أن الإشارة تصحبها العلل والعلل بعيدة من عين الحقائق]

(1)

.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا علي الروذباري يقول: والاهم قبل أفعالهم. وعاداهم قبل أفعالهم، ثم جازاهم بأفعالهم. قال: وسمعت أبا علي يقول: من الاعتدال أن تسئ فيحسن إليك فتترك الإنابة والتوبة توهما أنك تسامح في الهفوات، وترى أن ذلك في بسط الحق لك. وقال: تشوقت القلوب إلى مشاهدة ذات الحق فألقيت إليها الأسامي فركنت إليها مشغوفين بها عن الذات إلى أوان التجلي، فذلك قوله تعالى:

{(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)} فوقفوا معها عن إدراك الحقائق، فأظهر الأسامي وأبداها للخلق لتسكين شوق المحبين له، وتأنيس قلوب العارفين به.

وقال: المشاهدات للقلوب والمكاشفات للاسرار والمعاينات للبصائر.

• أخبر أبو الفضل الطوسي نصر بن أبي نصر قال سمعت أبا سعيد الكازروني يقول قال أبو علي الروذباري: لا رضا لمن لا يصبر، ولا كمال لمن لا يشكر.

بالله وصل العارفون إلى محبته، وشكروه على نعمته.

• سمعت عبد الواحد بن بكر يقول سمعت همام بن الحارث يقول سمعت أبا علي الروذباري يقول: إن المشتاقين إلى الله يجدون حلاوة الوقت عند وروده لما كشف لهم من روح الوصول إلى قربه أحلى من الشهد. وقال أبو علي: من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات: بطن جائع معه قلب خاشع.

وفقر دائم معه زهد حاضر. وصبر كامل معه قناعة دائمة. وقال أبو علي: في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها، فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز فى طلب ما يبقى.

‌أبو بكر الكتاني

ومنهم أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتانى. بغدادى سكن مكة،

(1)

زيادة من مغ

ص: 357

يعرف بسراج الحرم. صحب الجنيد والخزاز والنوري.

• سمعت أبا جعفر الخياط الأصبهاني يقول: صحبته سنين فكان يزداد على الأيام ارتفاعا وفي نفسه اتضاعا. وسمعته يقول: روعة عند انتباه من غفلة وانقطاع عن حظ النفس وارتعاد من خوف القطيعة أعود على المريد من عبادة الثقلين. وكان يقول: إذا سألت الله التوفيق فابتدئ بالعمل. وكان يقول: وجود العطاء من الحق شهود الحق بالحق، لأن الحق دليل على كل شيء ولا يكون شيء دونه دليلا عليه.

• سمعت محمد بن موسى يقول سمعت أبا الحسن القزويني يقول سمعت أبا بكر الكتاني يقول: إذا صح الافتقار إلى الله صحت العناية، لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا بصاحبه.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول سمعت الكتانى يقول: الشهوة زمام الشيطان من أخذ بزمامه كان عبده. وسئل عن المتقي فقال: من اتقى ما لهج به العوام من متابعة الشهوات وركوب المخالفات، ولزوم باب الموافقة، وأنس براحة اليقين، واستند إلى ركن التوكل، أتته الفوائد في كل أحواله غير غافل عنها.

• سمعت عبد الرحمن بن أحمد الصائغ الأصبهاني بمكة يقول سمعت الكتاني يقول: عيش الغافلين فى حلم الله عنهم، وعيش الذاكرين في رحمته، وعيش العارفين في ألطافه، وعيش الصادقين في قربه. وكان يقول: حقائق الحق إذا تجلت لسر أزالت الظنون والأماني، لأن الحق إذا استولى على سر قهره ولا يبقى للغبر معه أثر. وكان يقول: العلم بالله أعلى وأولى من العبادة له.

‌ابن فاتك

ومنهم أبو عبد الله بن فاتك. من المراقبين.

لزم الثغور ملتزما للشهود والحضور.

سئل عن المراقبة فقال: إذا كنت فاعلا فانظر نظر الله إليك، وإذا كنت قائلا فانظر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكتا فانظر علم الله فيك قال الله تعالى:{(إنني معكما أسمع وأرى)} وقال

ص: 358

{(يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)} وكان يقول: الرجال ثلاثة: رجل شغل بمعاشه عن معاده فهذا هالك. ورجل شغل بمعاده عن معاشه فهذا فائز. ورجل اشتغل بهما فهذا مخاطر، مرة له ومرة عليه.

‌ابن علان

• ومنهم أبو عبد الله بن علان. محفوظ عن التلوين والنقلان.

• سمعت عبد الواحد بن بكر يقول سمعت عبد الله بن عبد العزيز يقول سمعت أبا عبد الله بن علان يقول: ما من عبد حفظ جوارحه إلا حفظ الله عليه قلبه، وما من عبد حفظ الله عليه قلبه إلا جعله الله أمينا في أرضه، وما من عبد جعله الله أمينا في أرضه إلا جعله الله إماما يقتدى به. وما من عبد جعله الله إماما يقتدى به إلا جعله حجة على خلقه.

‌سهل الأنباري

ومنهم سهل بن وهبان الأنباري، من أقران الجنيد.

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - قال علان البناء سمعت المثنى الأنباري يقول سمعت سهل بن وهبان يقول: لا تكونوا بالمضمون مهتمين فتكونوا للضامن متهمين، وبعدته غير واثقين.

‌عبد الله بن دينار

ومنهم عبد الله بن دينار. واعي الخطرات وراعي اللحظات.

• أخبرنا محمد بن أحمد بن الفيد في كتابه وقد رأيته وحدثني عنه أبو القاسم الهاشمي قال أخبرني جعفر بن عبد الله الدينوري قال سمعت أبا حمزة يقول قلت لعبد الله بن دينار الجعفي: أوصني. قال: اتق الله في خلواتك، وحافظ على أوقات صلواتك، وغض طرفك عن لحظاتك تكن عند الله مقربا في حالاتك.

‌أبو علي الوراق

ومنهم أبو علي الوراق. عارف بالآفات. مسلم من الشبهات.

ص: 359

• أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير في كتابه وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت أبا علي الوراق يقول: من جهل قدر نفسه عدل على نفسه وعدل على غيره. وآفة الناس من قلة معرفتهم بأنفسهم.

‌ابن الكاتب

ومنهم الحسن بن أحمد بن أبي علي المعروف بابن الكاتب. من شيوخ المصريين.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول سمعت أبا علي الكاتب يقول: إذا انقطع العبد إلى الله بالكلية أول ما يفيده الله الاستغناء به عمن سواه. وكان يقول قال الله: من صبر علينا وصل إلينا.

وكان يقول: إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا القاسم المصري يقول قيل لأبى على بن الكاتب: إلى أي الجانبين أنت أميل، إلى الفقر أو إلى الغنى؟ فقال:

إلى أعلاهما رتبة وأسناهما قدرا. ثم أنشأ يقول

ولست بنظار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء فى جانب الفقر

وإنى لصبار على ما ينو بنى

وحسبك أن الله أثنى على الصبر

وكان يقول: الهمة مقدمة في الأشياء، فمن صحح همته بالصدق أتت توابعها على الصحة والصدق، فإن الفروع تتبع الأصول. ومن أهمل همته أتت عليه توابعها مهملة، والمهمل من الأفعال والأحوال لا يصلح لبساط الحق. وقال:

إن الله يرزق العبد حلاوة ذكره، فإن فرح به وشكره آنسه بقربه، وإن قصر في الشكر أجرى الذكر على لسانه وسلبه حلاوته به.

‌القرميسيني

ومنهم القرميسيني مظفر، له اللفظ المحبر. أحد مشايخ الجبل، عرف العلل واحترز من الزلل

• سمعت أبا بكر الدينوري الطرسوسي - شيخ الحرمة - يقول قال مظفر

ص: 360

القرميسيني وسئل ما خير ما أعطي العبد؟ قال: فراغ القلب عمالا يعنيه ليتفرغ إلى ما يعنيه.

• سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن دينار الدينورى بمكة يقول سمعت مظفر القرميسينى يقول: أفضل أعمال العبد حفظ أوقاتهم، وهو أن لا يقصروا في أمره ولا يتجاوزوا عن حده. وقال: العارف من جعل قلبه لمولاه وجسده لخلقه وأفضل ما يلقى به العبد ربه نصيحة من قلبه، وتوبة من ذنوبه.

[سمعت محمد بن الحسين يقول قال مظفر القرميسيني: من أفقره إليه أغناه ليعرفه بالفقر عبوديته وبالغنى ربوبيته. وقال: من قتله الحب أحياه القرب]

(1)

.

• سمعت محمد بن الحسين يقول قال مظفر: الجوع إذا ساعدته القناعة مزرعة الفكرة وينبوع الحكمة، وحياة الفطنة ومصباح القلب. وقال:

يحاسب الله المؤمنين يوم القيامة بالمنة والفضل، ويحاسب الكفار بالحجة والعدل.

• سمعت محمد بن الحسين يقول قال مظفر: ليس لك من عمرك إلا نفس واحدة فإن لم تفنها فيما لك فلا تفنها فيما عليك.

‌إبراهيم بن شيبان

ومنهم القرميسيني إبراهيم بن شيبان، أيد باليقين والإيقان، وحفظ من التصنع والتزين بالعرفان. كان من المتمسكين بالقرآن والبيان.

• سمعت أبا عبد الله بن دينار الدينوري بمكة يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: المتعطل من لزم الرخص معتنقا للملاذ والملاهي، وأخلى قلبه من الخوف والحذر، لأن الخوف يدفع عن الشهوات، ويقطع عن السلو والغفلات.

• سمعت أبا بكر بن أحمد الطرسوسي بمكة يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: من أراد أن يكون معدودا في الأحرار مذكورا عند الأبرار، فليخلص عبادة ربه، فإن المتحقق في العبودية مسلم من الأغيار. وكان يقول: الفناء والبقاء مداره على إخلاص الوحدانية والتحقق بالعبودية، وكل علم يعدو هذا ويخالفه فمرجعه إلى الأغاليط والأباطيل. ومن تكلم في الإخلاص ولم يقتض من نفسه

(1)

زيادة من مغ.

ص: 361

حقيقته ابتلاه الله بهتك ستره وافتضاحه عند أقرانه وإخوانه.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا علي القصير يقول سمعت إسحاق بن إبراهيم بن شيبان يقول قال لي أبي: يا بني تعلم العلم لآداب الظاهر، واستعمل الورع لآداب الباطن، وإياك أن يشغلك عن الله شاغل فقل من أعرض عنه فأقبل عليه.

‌أبو الحسين بن بنان

• ومنهم الواله السكران، أبو الحسين بن بنان شيخ مصر، مات في التيه والها. صحب أبا سعيد الخزاز.

• سمعت أبا عثمان سعيد بن سلام المغربي - بمكة ونيسابور - يقول قال أبو الحسين بن بنان: الناس يعطشون في المفاوز السحيقة، والبوادي المتلفة، وأنا عطشان وأنا على شط النيل والفرات. قال وسمعته يقول: آثار المحبة إذا بدت ورياحها إذا هاجت، تميت قوما وتحيي آخرين وأفنت أسرارا وأبقت آثارا، تؤثر آثارا مختلفة، وتثير أسرارا مكنونة، وتكشف أحولا كامنة.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول سمعت الزقاق يقول سمعت أبا الحسين بن بنان يقول: كل صوفي يكون هم الرزق في قلبه فلزوم العمل أقرب له إلى الله، وعلامة سكون القلب والركون إلى الله أن يكون قويا عند زوال الدنيا وإدبارها عنه، ويكون بما في يد الله أقوى وأوثق منه بما في يده. وكان يقول: ذكر الله باللسان يورث الدرجات، وذكره بالقلب يورث البركات.

‌علي الفارسي

• ومنهم الحاضر الفارسي، أبو الحسين علي بن هند الفارسى. صحب عمرا المكى والجنيد وجعفر الحذاء.

• سمعت أبا القاسم الهاشمي يقول قال أبو الحسين بن هند الفارسي:

القلوب أوعية وظروف. وكل وعاء وظرف لنوع من لمحمولات، فقلوب الأولياء أوعية المعرفة، وقلوب العارفين أوعية المحبة، وقلوب المحبين أوعية الشوق،

ص: 362

وقلوب المشتاقين أوعية الأنس. ولهذه الأحوال آداب من لم يستعملها في أوقاتها هلك من حيث يرجو به النجاة.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا الحسين بن هند يقول: استرح مع الله ولا تسترح عن الله، فإن من استراح مع الله نجا، ومن استراح عن الله هلك. والاستراحة مع الله تروح القلوب بذكره، والاستراحة عن الله مداومة الغفلة.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن إبراهيم يقول سمعت أبا الحسين ابن هند يقول: المتمسك بكتاب الله هو الملاحظ للحق على دوام الأوقات، والمتمسك بكتاب الله لا يخفى عليه شيء من أمر دينه ودنياه، بل يجري في أوقاته على المشاهدة لا على الغفلة، فيأخذ الأشياء من معدنها ويضعها فى معدنها. وكان يقول: اجتهد أن لا تفارق باب سيدك بحال فانه ملجأ الكل، فإن من فارق تلك السدة لا يرى بعدها لقدميه قرارا ولا مقاما. وقال:

كنت من كربتي أفر إليهم

فهم كربتي فأين المفر؟.

‌الحسين بن علي بن يزدانيار

ومنهم المتمسك بالتنصل والاعتذار، أبو بكر الحسين بن علي بن يزدانيار. له لسان في لزوم الظواهر وتحقق بمناجاته ما يعرض من الخواطر في السواتر.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت محمد بن شاذان الرازي يقول سمعت أبا بكر بن يزدانيار يقول: إياك والطمع فى المنزلة عند الله وكنت تحب المنزلة عند الناس.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر بن شاذان يقول سمعت ابن يزدانيار يقول: الروح مزرعة الخير لأنه معدن الرحمة، والجسد مزرعة الشر لانه معدن الشهوة، والروح مطبوع بالخير، والنفس مطبوعة بارادة الشر، والهوى مدبر الجسد، والعقل مدبر الروح، والمعرفة خاطرة فيما بين العقل والهوى، والمعرفة في القلب، والعقل والهوى يتنازعان ويتحاربان، والهوى

ص: 363

صاحب جيش النفس، والعقل صاحب جيش القلب، والتوفيق من الله مدد العقل، والخذلان مدد الهوى، والظفر لمن أراد الله سعادته أو شقاوته، ومن استغفر وهو ملازم للذنب محجوب عن التوبة والإنابة. والمعرفة صحة العلم بالله، واليقين النظر بعين القلب إلى ما وعد الله وادخره.

• أسند الحديث الكثير، ومن مسانيد حديثه.

• ما أخبرني محمد بن عبد الله بن شاذان الرازي - في كتابه وقد رأيته - قال: حدثني الحسين بن علي بن يزدانيار الصوفي ثنا محمد بن يونس الكديمي ثنا أبو عاصم ثنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن يأكل في معاء واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» .

‌إبراهيم بن أحمد المولد

ومنهم المثبت المؤيد إبراهيم بن أحمد المولد. صحب أبا عبد الله الجلاء وإبراهيم بن داود القصار الرقي.

وكان يقول: حلاوة الطاعات للمخلص مذهبة لوحشة العجب.

• سمعت عمرو بن واضح يقول سمعت إبراهيم بن المولد يقول: عجبت لمن عرف الطريق إلى ربه كيف يعيش مع غيره وهو تعالى يقول: {(وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له)} وكان يقول: من قال بالله أفناه عنه، ومن قال عنه أبقاه له.

وكان يقول من قام بلى الأوامر لله كان بين قبول ورد. ومن قام إليها بالله كان مقبولا بلا شك. وكان يقول: نفسك سائره بك، وقلبك طائر بك، فكن مع أقربهما وصولا.

• سمعت محمد بن الحسين يقول أنشدني منصور بن عبد الله قال: أنشدني إبراهيم بن المولد لبعضهم:

لولا مدامع عشاق ولوعتهم

لبان في الناس عز الماء والنار

فكل نار فمن أنفاسهم قدحت

وكل ماء فمن عين لهم جار

وكان يقول: ثمن التصوف الفناء فيه، فاذا فني فيه بقي بقاء الأبد، لأن الفاني عن محبوبه باق بمشاهدة المطلوب، وذلك بقاء الأبد.

ص: 364

• حدثنا أبو الفضل الطوسي نصر بن محمد بن أحمد بن يعقوب العطار - قدم نيسابور وكتبت عنه حديث إبراهيم بن أحمد بن المولد الصوفى - ثنا محمد ابن يوسف - بدمشق - ثنا سالم بن العباس الوليد الحمصي ثنا عبد الرحمن بن أيوب بن سعيد عن أيوب السكوني ثنا العطاف بن خالد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أذن الله لأهل الجنة بالتجارة لا تجروا بالبز والعطر» . تفرد به العطاف عن نافع.

• حدثناه عاليا محمد بن المظفر ثنا محمد بن سليمان ثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي ثنا العطاف بن خالد عن نافع عن ابن عمر. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن الله أذن لأهل الجنة فى التجارة بينهم لتبايعوا البز والعطر» .

• حدثنا أبو بكر محمد بن يحيى بن محمد بن المصري - قدم علينا رفيق ابن منده - ثنا أبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن برهان المقرئ ثنا إبراهيم ابن المولد الصوفي ثنا أحمد بن عبد الله بن علي الناقد - بمصر - ثنا أبو يزيد القراطيسي ثنا أسد بن موسى ثنا محمد بن حازم عن أبي رجاء عن أبي سنان عن واثلة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن ورعا تكن أعبد الناس» . تفرد به أبو رجاء واسمه محرز بن عبد الله عن يزيد ابن سنان.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا عبد الرحمن بن سلم ثنا سهل بن عثمان ثنا المحاربي عن أبي رجاء محرز بن عبد الله عن يزيد بن سنان عن مكحول عن واثلة ابن الأسقع عن أبي هريرة. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قانعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» .

ص: 365

‌علي بن عبد الحميد

ومنهم علي بن عبد الحميد العطائري، المجتهد الزائري، له الأحوال البديعة والاعمال الرفيعة.

• سمعت محمد بن الحسين اليقطيني ومحمد بن إبراهيم يقولان سمعنا علي بن عبد الحميد العطائري يقول: دققت على أبي الحسن السري بن المغلس السقطي بابه فسمعته يقول: اللهم من شغلني عنك فاشغله بك عني. فكان من بركة دعائه أني حججت من حلب ماشيا على قدمي أربعين حجة. وكان يعد من الأبدال.

• حدثنا محمد بن علي بن عاصم ثنا علي بن عبد الحميد العطائري - وكان من الأبدال - ثنا سوار بن عبد الله ثنا معتمر بن سليمان ثنا سفيان الثوري عن معاوية بن صالح عن محمد بن ربيعة عن عبد الله بن عامر قال سمعت معاوية يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» .

‌سعيد بن عبد العزيز

ومنهم سعيد بن عبد العزيز الحلبي - سكن دمشق، صحب سريا السقطى أحد الاوتاد، من علماء العباد. تخرج له عدة من الأعلام: إبراهيم بن المولد وطبقته، ملازم للشرع متبع له.

• حدثنا محمد بن المظفر ثنا سعيد بن عبد العزيز بن مروان أبو عثمان - بدمشق - ثنا أبو نعيم عبيد بن هشام ثنا حفص بن عمران الواسطي ثنا عمرو ابن كثير عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أولى رجلا من بني عبد المطلب معروفا في الدنيا فلم يقدر المطلبي على مكافأته فأنا أكافئه عنه يوم القيامة» .

‌أبو بكر الشبلي

• ومنهم المجتذب الولهان، المستلب السكران، الوارد العطشان. اجتذب

ص: 366

عن الكدور والاغيار، واستلب إلى الحضور والانوار، وسقى بالدنان، وارتهن ممتلأ ريان. أبو بكر الشهير بالشبلي.

• سمعت عمر البناء المزوق البغدادي بمكة يقول سمعت الشبلي يقول:

ليس من احتجب بالخلق عن الحق كمن احتجب بالحق عن الخلق. وليس من جذبته أنوار قدسه إلى أنسه كمن جذبته أنوار رحمته إلى مغفرته.

• سمعت محمد بن علي بن حبيش يقول: أدخل الشبلي دار المرضى ليعالج فدخل عليه علي بن عيسى الوزير عائدا، فأقبل على الوزير فقال: ما فعل ربك؟ فقال الوزير: في السماء يقضي ويمضي، فقال: سألتك عن الرب الذي تعبده لا عن الرب الذي لا تعبده - يريد الخليفة المقتدر - فقال علي لبعض حاضريه ناظره. فقال الرجل: يا أبا بكر سمعتك تقول في حال صحتك: كل صديق بلا معجزة كذاب، وأنت صديق فما معجزتك؟ قال: معجزتي أن تعرض خاطري في حال صحوي على خاطري في حال سكري، فلا يخرجان عن موافقة الله تعالى.

• سمعت أبا نصر النيسابوري يقول سمعت أبا زرعة الطبري يحكي عن خير النساج قال: كنا في المسجد فجاءنا الشبلي وهو سكران فنظرنا ولم يكلمنا فانهجم على الجنيد في بيته وهو جالس مع امرأته مكشوفة الرأس فهمت أن تغطي رأسها فقال لها الجنيد: لا عليك، ليس هو هناك. قال: فصفق على رأس الجنيد وأنشأ يقول:

عودونى الوصال والوصل عذب

ورمونى بالصد والصد صعب

زعموا حين عاتبوا أن جرمي

فرط حبي لهم وما ذاك ذنب

لا وحسن الخضوع عند التلاقي

ما جزى من يحب إلا يحب

ثم ولى الشبلي فضرب الجنيد رجليه وقال: هو ذاك. وخر مغشيا عليه.

• أنشدنا محمد إبراهيم بن أحمد قال أنشدني أبو محمد عبد الله بن محمد الحزبي قال سمعت الشبلى كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين:

والهجر لو سكن الجنان تحولت

نعم الجنان على العبيد جحيما

والوصل لو سكن الجحيم تحولت

حر السعير على العباد نعيما

.

ص: 367

• سمعت محمد بن إبراهيم قال سمعت أبا الحسن المالكي بطرسوس يقول: اعتل الشبلي علة شديدة فأرجفوا بموته فبادرنا إلى داره فاتفق عنده ابن عطاء وجعفر الخلدي وجماعة من كبار أصحاب الجنيد، قال فرفع رأسه فقال لهم: مالكم، إيش القصة؟ قال فقلت - وكنت أجرأهم عليه -: ما لنا، جئنا إلى جنازتك، فاستوى جالسا فقال: الجوار الجوار، أموات جاءوا إلى جنازة حي. ثم قال لهم: ويحكم: أحسب أنى قدمت فيكم من يقدر أن يحمل هيكلي.

• سمعت محمد بن إبراهيم يقول سمعت الشبلي يقول: وقفت بعرفة فطالبت الوقت فما رأيت أحدا له في التوحيد نفس، ثم رحمتهم فقلت: يا سيدي إن منعتهم إرادتك فيهم فلا تمنعهم مناهم منك.

• سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب الوراق يقول سمعت الشبلي يقول: ليس للمريد فترة ولا للعارف معرفة ولا للمعرفة علاقة ولا للمحب سكون، ولا للصادق دعوى، ولا للخائف قرار، ولا للخلق من الله فرار. قال وسمعته يقول: اللحظة كفر والخطرة شرك، والإشارة مكر. واللحظة حرمان والخطرة خذلان والإشارة هجران.

• سمعت عثمان بن محمد العثماني يقول قال الشبلي: من انقطع اتصل ومن اتصل انفصل.

• سمعت أبا القاسم عبد السلام بن محمد المخرمي يقول سمعت الشبلي وسئل عن قول الله {(ادعوني أستجب لكم)} قال: ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة.

• سمعت محمد بن إبراهيم يقول سمعت الشبلي يقول: اشتغل الناس بالحروف واشتغل أهل الحق بالحدود، فمن اشتغل بالحروف اشتعل بها خشية الغلبة، ومن اشتغل بالحدود اشتغل بها خشية الفضيحة.

• سمعت أبا نصر النيسابوري يقول سمعت أبا علي أحمد بن محمد يقول سمعت الشبلي يقول: قوم أصحاء جئتم إلى مجنون، أي فائدة لكم في؟ أدخلت المارستان كذا وكذا مرة، وأسقيت من الدواء كذا وكذا دواء، فلم أزدد إلا جنونا.

ص: 368

• سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب الوراق يقول سمعت الشبلي وسئل عن المحبة فقال: المحبة الفراغ للحبيب وترك الاعتراض على الرقيب. قال وسمعته يقول: إذا ظننت أني فقدت فحينئذ قد وجدت، وإذا ظننت أني وجدت فهناك فقدت. قال وسمعته يقول: صراط الأولياء المحبة. وقال المحبة الكاملة أن تحبه من قبله. وقال: من أحب الله من قبل بر الله فهو مشرك.

• سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن يعقوب الوراق يقول سمعت أبا بكر الشبلي يقول: صاحب الهمة لا يشتغل بشيء وصاحب الإرادة يشتغل بشيء. وقال الهمة لله وما دونه ليس بهمة. قال وسمعته يقول: ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مردود إليكم محدث مصنوع وقال من قال الله بالعادة فهو أحمق، ومن قال بالعرض فهو أخرق، ومن قال بالإخلاص فالشرك وطنه ومن قال الله على أنها حقيقة للحق جهل بالله ظنه ومن قال الله معتصما بها فقد جهل أوليته حتى يقول الله بالله. قال وسمعته ينشد فى مجلسه.

الغيب رطب ينادى

يا غافلين الصبوح

فقلت أهلا وسهلا

ما دام في الجسم روح.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت الشبلي يقول: الأرواح تلطفت فتعلقت عند لدغات الحقيقة فلم ترغير الحق معبودا يستحق العبادة فأيقنت أن المحدث لا يدرك القديم بصفات معلولة، فإذا صفاه الحق أوصله إليه لا وصل هو.

• سمعت محمد بن إبراهيم أبا طاهر يقول سمعت الشبلي يقول: تاهت الخليقة في العلم، وتاه العلم في الاسم، وتاه الاسم في الذات. وسمعته كثيرا ينشد:

ودادكم هجر وحبكم قلى

ووصلكم صرم وسلمكم حرب

وسمعته ينشد كثيرا.

لما بدا طالعا غابت لهيبته

شمس النهار ولم يطلع لنا قمر.

• سمعت أبا نصر النيسابوري يقول سمعت أحمد بن محمد الخطيب يقول سمعت

ص: 369

بكيرا تلميذ الشبلي يقول له: يا أستاذ أين أبغيه؟ فقال له: ثكلتك أمك، وهل يبغى من يأخذ السموات على أصبع والأرضين على أصبع فيهزهما ويقول أنا الملك أين الملوك؟ إن الله لم يحتجب عن خلقه، إنما الخلق احتجبوا عنه بحب الدنيا.

• سمعت أبا نصر يقول سمعت أحمد بن محمد النهاوندي يقول: مات للشبلي ابن كان اسمه غالبا، فجزت أمه شعرها عليه، وكان للشبلي لحية كبيرة فأمر بحلق الجميع فقيل له: يا أستاذ ما حملك على هذا؟ فقال: جزت هذه شعرها على مفقود، فكيف لا أحلق لحيتي أنا على موجود.

• سمعت أبا نصر النيسابوري يقول سمعت أحمد بن محمد الخطيب يقول سمعت الشبلي يقول: من اطلع على ذرة من علم التوحيد حمل السموات والأرضين على شعرة من جفن عينيه.

• سمعت أبا نصر يقول سمعت أحمد يقول: حضرت الشبلي وسئل عن قول بعضهم: لا تغرنكم هذه القبور وهدوها فكم من فرح مسرور، وداع بالويل والثبور. فقال: أيما هي القبور عندك؟ قال: قبور الأموات. فقال: لا، بل أنتم القبور: كل واحد منكم مدفون، فالمعرض عن الله داع بالويل والثبور، والمقبل على الله الفرح المسرور. ثم أنشأ يقول:

قبور الورى تحت التراب وللهوى

رجال لهم تحت الثياب قبور

فقلت له: يا سيدي ونعد فى الموتى؟ فقال:

يحبك قلبي ما حييت فإن أمت

يحبك عظم في التراب رميم.

• سمعت أبا سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الرازي - بنيسابور - يقول سمعت الشبلي وسئل عن الزهد فقال: تحويل القلب من الأشياء إلى رب الأشياء. وقال: من عرف الله خضع له كل شيء لأنه عاين أثر ملكه فيه. قال وسمعته يقول وقال له رجل: ادع الله لي، فأنشأ يقول:

مضى زمن والناس يستشفعون بي

فهل لي إلى ليلي الغداة شفيع

وقال له رجل: يا أبا بكر نراك جسيما بدينا والمحبة تضنى؟ فأنشأ يقول:

1

ص: 370

أحب قلبى ومادرى بدني

ولو درى ما أقام في السمن.

• سمعت أبا طاهر محمد بن إبراهيم يقول سمعت أبا بكر الشبلي يقول: إن الله تعالى موجود عند الناظرين في صنعه، مفقود عند الناظرين فى ذاته.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال سمعت أبا بكر الشبلي يقول: التصوف لا حال يقل، ولا سماء يظل.

• سمعت أبا بكر محمد بن أحمد المفيد يقول سمعت الجنيد بن محمد - وأقبل يوما على الشبلي - يقول: حرام عليك يا أبا بكر إن كلمت أحدا فإن الخلق غرقى عن الله وأنت غرق في الله،.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت الشبلي يقول في قول الله: {(يمحوا الله ما يشاء ويثبت)} قال: يمحو ما يشاء من شهود العبودية وأوصافها، ويثبت ما يشاء من شواهد الربوبية ودلائلها وسئل عن قوله تعالى:{(والذين هم عن اللغو معرضون)} فقال: كل ما دون الله لغو. وكان يقول: حفظ الأسرار صونها عن رؤية الأغيار. وكان يقول:

الغيرة غيرتان: غيرة البشرية وغيرة الألهية على الوقت أن يضيع فيما سوى الله.

• أخبر جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال:

حضرة وفاة الشبلى فأمسك لسانه عرق جبينه، فأشار إلى وضوء الصلاة فوضأته ونسيت التخليل، تخليل لحيته، فقبض على يدي وأدخل أصابعي في لحيته يخللها، فبكيت وقلت: أي شيء يتهيأ أن يقال لرجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء عند نزوع روحه وإمساك لسانه وعرق جبينه؟.

• سمعت عبد الواحد بن محمد بن عمرو يقول سمعت بندار بن الحسين يقول سمعت الشبلي يقول: وكان أكثر اقتراح الجنيد على القوالين هذه الأبيات:

فلو أن لي في كل يوم وليلة

ثمانين بحرا من دموع تدفق

لأفنيتها حتى ابتدأت بغيرها

وهذا قليل للفتى حين يعشق

أهيم به حتى الممات لشقوتي

وحولي من الحب المبرح خندق

وفوقي سحاب تمطر الشوق والهوى

وتحتي عيون للهوى تتدفق

.

ص: 371

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت الشبلي يقول: ما أحوج الناس إلى سكرة، فقلت يا سيدي أي سكرة؟ فقال: سكرة تغنيهم عن ملاحظة أنفسهم وأفعالهم وأحوالهم. وأنشأ يقول:

وتحسبني حيا وإني لميت

وبعضي من الهجران يبكي على بعض.

• سمعت أحمد بن محمد بن مقسم يقول سمعت أبا بكر الشبلي يقول: والله ما أعطيت فيه الرشوة قط ولا رضيت بسواه ولقد تاه عقلي فيه. وربما قال:

غلبت ثماني وعشرين مرة حتى قيل لي مجنون ليلى فرضيت. ثم أنشد:

قالوا: جننت على ليلى فقلت لهم

الحب أيسره ما بالمجانين

ثم أنشد وقال:

جننا على ليلى وجنت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

ثم أنشد:

ولو قلت طأ في النار بادرت نحوها

سرورا لأني قد خطرت ببالكا

ثم أنشد:

سألبس للصبر ثوبا جميلا

وأدرج ليلي ليلا طويلا

وأصبر بالرغم لا بالرضا

أعلل نفسي قليلا قليلا

ثم أنشد وقال:

تنقب وزر فقلت لهم

أشهر ما كنت حين أتنقب

إن عرفوني وأثبتوا صفتي

أصبحت درا والدر ينتهب.

• سمعت أحمد بن محمد بن مقسم يقول: حضرت أبا بكر الشبلي وسئل عن قوله تعالى {(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)} فقال: لمن كان الله قلبه. وأنشد.

ليس مني قلب إليك معنى

كل عضو مني إليك قلوب

وتلا قوله تعالى: {(فإذا برق البصر وخسف القمر)} إلى قوله {(إلى ربك يومئذ المستقر)} فلحقوا فهم ما أشار إليهم، فقال بعضهم: متى ما يصح ذا؟ قال: إذا كانت الدنيا والآخرة حلما والله تعالى يقظة. وأنشد:

دع الأقمار تغرب أو تنير

لنا بدر تذل له البدور

لنا من نوره في كل وقت

ضياء ما تغيره الدهور.

• أنشدني منصور بن محمد المقري قال أنشدني أحمد بن نصر بن منصور

ص: 372

الشاذابى المقرى قال قيل لأبي بكر الشبلي: مزقت وأبليت كل ملبوسك والعيد قد أقبل والناس يتزينون وأنت هكذا؟ فأنشأ يقول:

قالوا أتى العيد ماذا أنت لابسه

فقلت خلعة ساق حبه جزعا

فقر وصبر هما ثوباى تحتهما

قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا

الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي

والعيد ما كنت لى مرءا ومستمعا

أحرى الملابس ما تلقى الحبيب به

يوم التزاور في الثوب الذي خلعا.

• سمعت منصور بن محمد يقول: دخل أبو الفتح بن شفيع عليه عائدا في دار المرضى، قال فسمعت صياحه يقول:

صح عند الناس أني عاشق

غير أن لم يعلموا عشقي لمن.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا القاسم عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: وقفت يوما على حلقة أبي بكر الشبلي فوقف سائل على حلقته وجعل يقول: يا الله يا جواد. فتأوه الشبلي وصاح وقال: كيف يمكننى أن أصف الحق بالجود ومخلوق يقول فى شكله:

تعود بسط الكف حتى لوانه

ثناها لقبض لم تجبه أنامله

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذى أنت آمله

ولو لم يكن في كفه غير روحه

لجاد بها فليتق الله سائله

هو البحر من أي النواحي أتيته

فلجته المعروف والجود ساحله

ثم بكى وقال: بلى يا جواد، فإنك أوجدت تلك الجوارح وبسطت تلك الهمم، ثم مننت بعد ذلك على أقوام بالاستغناء عنهم وعما في أيديهم بك، فإنك الجواد كل الجواد، فإنهم يعطون عن محدود وعطاؤك لا حد له ولا صفة، فيا جواد يعلو كل جواد، وبه جاد من جاد.

• سمعت منصور بن محمد يقول سمعت أحمد بن منصور بن نصر يقول:

جاء ذات يوم الشبلي إلى أبي بكر بن مجاهد، وكان في مسجده غائبا، فسأل عنه فقيل له: هو عند علي بن عيسى، فقصد دار علي فاستأذن فقيل أبو بكر الشبلي يستأذنك. فقال أبو بكر بن مجاهد لعلي بن عيسى: اليوم أريك من

ص: 373

الشبلي عجبا. فلما دخل وقعد قال له أبو بكر بن مجاهد: يا أبا بكر، أخبرت أنك تحرق الثياب والخبز والأطعمة وما ينتفع به الناس من منافعهم ومصالحهم، أين هذا من العلم والشرع؟ فقال له: قول الله: {(فطفق مسحا بالسوق والأعناق)} أين هذا من العلم؟ فسكت أبو بكر بن مجاهد وقال لعلى: كأنى لم أقرأها قط وبلغني عن غيره أنهم عاتبوه في مثله فتلا هذه الآية: {(إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)} وتلا {(إنني براء مما تعبدون)} هذه الأطعمة وهذه الشهوات حقيقة الخلق ومعبودهم، أبرأ منهم وأحرقه.

• سمعت أحمد بن محمد بن مقسم يقول سمعت أبا بكر الشبلي يقول: نظرت في ذل كل ذي ذل فزاد ذلي عليهم، ونظرت في عز كل ذي عز فزاد عزي عليهم، فإذا عزهم ذل في عزي وتلا فى أثره:{(من كان يريد العزة فلله العزة جميعا)} وكان يقول: من اعتز بذي العز فذو العز له عز. وقال:

أظلت علينا منك يوما غمامة

أضاء لها برق وأبطأ رشاشها

فلا غيمها يجلو فييأس طامع

ولا غيثها يأتي فيروى عطاشها

فقال له رجل: يا أبا بكر أخبرني عن توحيد مجرد بلسان حق مفرد. فقال:

ويحك من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن أري أنه عتيد فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد. وسأله رجل عن مقام التوبة فقال له: يطرق سمعي من كتاب الله ما يحدوني على ترك الأشياء والإعراض عن الدنيا، ثم أرد إلى نفسي وإلى أحوالي وإلى الناس، ثم لا ألقى على هذا ولا على هذا، وأرجع إلى الوطن الأول مما كنت عليه من سماعي القرآن. فقال له: يقول الله: ما طرق سمعك من القرآن فاجتذبك به إلي فهو عطف مني عليك، ولطف مني بك، وما أردك به إلى نفسك فهو شفقة مني لك، لأنك لم يصح لك التبرؤ من الحول والقوة في التوجه إلي. وسئل عن حقيقة الذكر فقال: نسيان القوى. وسئل عن التوكل فقال: أن يحملك فيما حملك.

وسئل عن الخوف فقال: أن تخاف أن يسلمك إليك. وسئل عن الرجاء فقال:

ص: 374

ترجو أن لا يقطع بك دونه. وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعل رزقي تحت سيفي» فقال: سيفه الله، فأما ذو الفقار فهو قطعة حديد.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا العباس محمد بن الحسن الخشاب يقول سمعت بعض أصحاب الشبلي يقول: رأيت الشبلي في المنام فقلت له: يا أبا بكر، من أسعد أصحابك بصحبتك؟ فقال: أعظمهم لحرمات الله، وألهجهم بذكر الله، وأقومهم بحق الله وأسرعهم مبادرة فى مرضات الله، وأعرفهم بنقصانه، وأكثرهم تعظيما لما عظم الله من حرمة عباده.

قال الشيخ: ذكر جماعة من أعلام العارفين أدركنا أيامهم، انتشرت في العالم أحوالهم لاعتصامهم بالشرع المتين، فكانوا به عالمين وعاملين، وبمعالى الأحوال عارفين قائمين، وبمكارم الأخلاق متمسكين آخذين.

ذكرت عن كل واحد منهم نبذا مما نقل إلينا من أقوالهم الحميدة، وأحوالهم الشديدة.

‌ابن الأعرابي

فمنهم الأغر الأبلج، أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد، المعروف بابن الأعرابي. بصري نزيل مكة، توفي سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. له التصانيف المشهورة.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي - بمكة - ثنا الحسن بن علي بن عفان ثنا يحيى بن فضيل عن الحسن بن صالح عن أبي جناب الكلبي عن طلحة بن مصرف عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال. قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسح على الخفين يا رسول الله؟ فقال: «نعم، ثلاثة للمسافر ولا تنزع من غائط ولا بول ولا نوم، ويوما للمقيم» . غريب من حديث طلحة لا أعلم رواه عنه إلا أبو جناب.

• سمعت عبد المنعم بن عمر يقول سمعت أبا سعيد بن الأعرابي يقول:

إن الله طيب الدنيا للعارفين بالخروج منها، وطيب الجنة بالخلود فيها فلو قيل للعارف: إنك تبقى في الدنيا لمات كمدا. ولو قيل لأهل الجنة: إنكم تخرجون

ص: 375

منها لماتوا كمدا، فطابت الدنيا بذكر الخروج منها وطابت الجنة بذكر الخلود فيها. قال وسئل أبو سعيد: ما الذي ترضى من الأوقات؟ قال الأوقات كلها لله، فأحسن الأوقات وقت يجري الحق فيه على ما يرضيه عنى. وقال: إن الله أعار بعض أخلاق أوليائه أعداءه يستعطفهم بها على أوليائه.

‌أبو عمرو الزجاجي

ومنهم أبو عمرو الزجاجي محمد بن إبراهيم. نيسابوري الأصل، سكن مكة، حج قريبا من ستين حجة، لم يتغوط في الحرم أربعين سنة وهو مقيم بها، توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة.

• سمعت أبا بكر الرازي - ببغداد - يقول: قدم مع أبي إسحاق المزكي من مكة فسمعته يقول سمعت أبا عمرو الزجاجي يقول: كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه العقول والطبائع، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباع الشرائع، فالعقل الصحيح ما يستحسن محاسن الشريعة، ويستقبح ما تستقبحه. وسئل أبو عمرو عن الحمية فقال: الحمية في القلب تصحيح الإخلاص وملازمته. والحمية في النفوس ترك الدعوى ومجانبته. وكان يقول:

قسم الله الرحمة لمن اهتم لأمر دينه.

‌محمد بن عليان

ومنهم محمد بن علي النسوي يعرف بمحمد بن عليان. رفيع الهمة، له الكرامات الظاهرة.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول سمعت محمد بن عليان يقول: الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة وكان يقول: آيات الأولياء وكراماتهم رضاهم بما يسخط العوام من مجاري المقدور. وكان يقول: المروءة حفظ الدين وصيانة النفس، وحفظ حرمات المؤمنين، والجود بالموجود وقصور الرؤية عنك وعن جميع أفعالك. وكان يقول: كيف لا تحب من لا تنفك عن بره طرفة عين؟ وكيف تدعي محبة من لا توافقه طرفة عين؟.

ص: 376

‌أحمد بن أبي سعدان

ومنهم أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي سعدان. بغدادي الأصل، كان ذا لسان وبيان، كان في علوم الشرع أحد الأعلام، ينتحل للشافعي، وله في علم العمال والعباد اللسان الشافي، أقام بطرسوس مدة فبعث رسولا إلى الروم لكمال حاله وبيانه.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أبا القاسم الرازي يقول سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: من عمل بعلم الرواية ورث علم الدراية، ومن عمل بعلم الدارية ورث علم الرعاية، ومن عمل بعلم الرعاية هدي إلى سبيل الحق.

• سمعت محمد بن إبراهيم بن أحمد يقول سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: الصابر على رجائه لا يقنط من فضله، ومن سمع بأذنه حكى، ومن سمع بقلبه وعظ، ومن عمل بما علم هدي واهتدى. وقال: أول قسمة قسمت للنفس من الخيرات الروح ليتروح به من مساكنة الاغترار، ثم العلم ليدله على رشده، ثم العقل ليكون مشيرا للعلم إلى درجات المعارف، ومشيرا للنفس إلى قبول العلم، وصاحبا للروح في الجولان في الملكوت.

‌أبو الخير الأقطع

ومتهم أبو الخير الأقطع التيتانى له الآيات. توفى بعد الأربعين. كانت السباع والهوام يأنسون بمجالسته ويأوون إليه. كان ينسخ الخوص بإحدى يديه.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول سمعت أحمد بن الحسين الرازي يقول سمعت أبا الخير يقول: من أحب أن يطلع الناس على عمله فهو مرائى، ومن أحب أن يطلع الناس على حاله فهو كذاب. قال وسمعت جدى إسماعيل ابن نجيد يقول: دخل على أبي الخير جماعة من البغداديين يتكلمون بشطحهم بحضرته، فضاق صدره من كلامهم فخرج، فجاء السبع فدخل البيت فانضم بعضهم إلى بعض ساكتين، وتغيرت ألوانهم، فدخل أبو الخير فقال: يا سادتى

ص: 377

أين تلك الدعاوى؟ وكان يقول: ما بلغ أحد حالة شريفة إلا بملازمة الموافقة ومعانقة الأدب، وأداء الفريضة، ومحبة الصالحين وخدمه الفقراء الصادقين.

وكان يقول: القلوب ظروف، فقلب مملوء إيمانا وعلامته الشفقة على جميع المسلمين والاهتمام بما يهمهم، ومعاونتهم على مصالحهم. وقلب مملوء نفاقا وعلامته الحقد والغل والغش والحسد.

• سمعت أبا الفضل أحمد بن أبي عمران الهروي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا الخير الأقطع يقول: إن الذاكر لا يقوم له في ذكره عوض، فإذا قام له العوض خرج من ذكره.

• سمعت من غير واحد ممن لقي أبا الخير أن سبب قطع يده أنه كان قد عاهد الله أن لا يتناول بشهوة نفسه شيئا مشتهيا. فرأى يوما بجبل الكام شجرة زعرور فاستحسنها فقطع منها غصنا فتناول منها شيئا من الزعرور، فذكر عهده وتركه، ثم كان يقول: قطعت غصنا فقطع مني عضو.

‌أبو عبد الله البصري

ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سالم البصري.

صاحب سهل بن عبد الله التستري وحفظ كلامه، سلك مسلك أستاده سهل وابنه أبي الحسن. أدركته وله أصحاب ينتسبون إليه.

كان أبو عبد الله يقول: من عامل الله على رؤية السبق ظهرت عليه الكرامات. وكان يقول:

تزال عن القلب ظلم الرياء بالإخلاص، وظلم الكذب بنور الصدق، ومن صبر على مخالفة نفسه أوصله الله إلى مقام أنسه.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سأل رجل أبا عبد الله بن سالم وأنا أسمع: أنحن مستعبدون بالكسب أو بالتوكل؟ فقال: التوكل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته. واستن الكسب للضعفاء عن حال التوكل. ونزل عن درجة الكمال التي هي حاله، فمن أطاق التوكل فغير مباح له كسب يعتمد عليه، ومن ضعف عن التوكل أبيح له طلب المعاش فى كسبه لئلا يسقط عن درجة سننه، حيث سقط عن

ص: 378

درجة حاله. وكان يقول: رؤية المنة مفتاح التودد. وقال: يستر عورات المرء عقله وحلمه وسخاؤه. ويقومه في كل أحواله الصدق.

‌أبو الحسن البوسنجى

ومنهم أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسن البوسنجى. سكن نيسابور له البيان الشافي في المعارف والتوحيد، وله الفتوة والتجريد. توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة.

• حدثت عن محمد بن عبد الرحمن الشامي قال حدثني إسماعيل بن أبي إدريس ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من الأوجاع كلها أن نقول: بسم الله الكبير أعوذ بالله العظيم من شر عرق نفار، ومن شر حرق النار» .

• حدثناه سليمان بن أحمد ثنا علي بن المبارك الصنعاني ثنا إسماعيل بن أبي أويس به.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا العباس محمد بن الحسين الخشاب البغدادي يقول سمعت أبا الحسن البوسنجى وسألته عن السنة فقال البيعة تحت الشجرة وما وافق ذلك من الأفعال والأقوال. وسألته عن التصوف فقال: اسم ولا حقيقة، وقد كان قبل حقيقة ولا اسما. قال وسألته عن المروءة فقال: ترك استعمال ما هو محرم عليك مع إكرام الكاتبين.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا الحسن البوسنجى يقول: الناس على ثلاثة منازل: الأولياء وهم الذين باطنهم أفضل من ظاهرهم. والعلماء وهم الذين سرهم وعلانيتهم سواء. والجهال وهم الذين علانيتهم تخالف أسرارهم ولا ينصفون من أنفسهم، ويطلبون الإنصاف من غيرهم. وسئل عن المحبة فقال: بذل مجهودك مع معرفة محبوبك لأن محبوبك مع بذل مجهودك يفعل ما يشاء. وقال: التوحيد حقيقة معرفته كما عرف نفسه إلى عباده، ثم الاستغناء به عن كل ما سواه. وقال: أول الايمان منوط بآخره، ألا ترى أن عقد الإيمان لا إله إلا الله، والاسلام منوط

ص: 379

بأداء الشريعة بالإخلاص. قال الله تعالى: {(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)} .

سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا الحسن البوسنجى يقول: الخير منازلة، والشر لنا صفة. وسئل عن الفتوة فقال: حسن المراعاة ودوام المراقبة، وأن لا ترى من نفسك ظاهرا يخالفه باطنك.

‌القاسم السياري

• ومنهم أبو العباس القاسم السياري. الملقن تحف الباري. شيخ المراوزة ومحدثهم وفقيههم، توفي سنة اثنين وأربعين.

• حدثنا محمد بن أبي يعقوب ثنا القاسم بن القاسم السياري المروزي ثنا أبو الموجه محمد بن عمرو بغير حديث. وحدثنا محمد بن الحسين بن موسى ثنا عبد الواحد بن علي السياري ثنا خالي أبو العباس القاسم بن القاسم السياري ثنا أحمد بن عباد بن سلم - وكان من الزهاد - ثنا محمد بن عبيدة النافقاني ثنا عبد الله بن عبيدة العامري ثنا سورة بن شداد الزاهد عن سفيان الثوري عن إبراهيم بن أدهم عن موسى بن يزيد عن أويس القرني عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد، ما من عبد يدعو بهذه الأسماء إلا وجبت له الجنة، إنه وتر يحب الوتر، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام، إلى قوله الرشيد الصبور» مثل حديث الأعرج عن أبي هريرة. حديث الأعرج عن أبي هريرة صحيح متفق عليه. وحديث الثوري عن إبراهيم فيه نظر لا صحة له. .

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الواحد يقول سمعت خالي القاسم بن القاسم يقول: كيف السبيل إلى ترك ذنب كان عليك في اللوح المحفوظ محفوظا، وإلى صرف قضاء كان به العبد مربوطا. وكان يقول:

حقيقة المعرفة الخروج عن المعارف، وأن لا يخطر بقلبه ما دونه، وكان يقول

ص: 380

المعرفة حياة القلب بالله، وحياة القلب مع الله، ومن عرف الله خضع له كل شيء لانه عاين أثر ملكه فيه. ومن حفظ قلبه مع الله بالصدق أجرى الله على لسانه الحكمة. وكان يقول: ظلم الاطماع تمنع أنوار المشاهدات. وكان يقول الربوبية نفاذ الأمر والمشيئة والتقدير، والقضية والعبودية معرفة المعبود، والقيام بالعهود. وكان يقول: قيل لبعض الحكماء من أين معاشك؟ فقال:

من عند من ضيق المعاش على من شاء من غير علة. وكان يقول: ما أظهر الله شيئا إلا تحت ستره وستر شيئية الأشياء حتى لا يستوي علمان ولا معرفتان ولا قدرتان.

‌جعفر الخلدي

ومنهم جعفر بن محمد بن نصير الخلدي، أبو محمد الخواص السائح اللامح القوام. المزين بالأخلاق الحميدة، والآخذ بالوثائق الأكيدة. كتب الآثار، وصحب الأخيار: الجنيد والثوري ورويما. حج سنين. توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة.

• أخبر جعفر بن محمد بن نصير - فيما كتب إلي سنة ثلاث وأربعين - ثنا الحارث بن أبي أسامة ثنا عبد الله بن بكر السهمي ثنا حميد عن أنس «أن الرجل كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم لذلك ثم لا يمسي حتى يكون لاسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها» .

• أخبرنا جعفر بن محمد في كتابه ثنا موسى بن هارون ثنا عقبة بن مكرم ثنا يونس بن بكير عن خالد بن يسار عن المسيب بن دارم قال: قام لذى قتل عثمان في قتال العدو يستشعر المعركة رجاء أن يقتل فقتل من حوله ولم يقتل حتى مات على فراشه. قال جعفر: رجاء أن يقتل فيكفر عنه قتل عثمان. ولو قتل ألف مرة ما كفر عنه ذلك. وأخبرني جعفر قال: لا يجد العبد لذة المعاملة مع لذة النفس، لأن أهل الحقائق قطعوا العلائق التي تقطعهم عن الحق قبل أن تقطعهم العلائق. وقال جعفر: الفرق بين الرياء والإخلاص أن المرائي يعمل ليرى، والمخلص يعمل ليصل. وقال جعفر: الفتوة احتقار النفس وتعظيم

ص: 381

حرمة المسلمين. وقال جعفر لبعض أصحابه: اجتنب الدعاوى والتزم الأوامر فكثيرا ما كنت أسمع سيدنا الجنيد يقول: من لزم طريق المعاملة على الإخلاص أراحه الله عن الدعاوى الكاذبة. وسئل جعفر عن العقل فقال: ما يبعدك عن مراتع الهلاك. وسئل عن قوله تعالى: {(ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)} قال: من لا يجتهد في معرفته لا تقبل خدمته.

‌أبو بكر الطمستاني

ومنهم أبو بكر الطمستاني العالم الرباني. صحب الأعلام والأكابر، ونبه به الأعلام والأصاغر. قدم أصبهان وخرج منها إلى نيسابور وتوفي بها سنة أربعين وثلاثمائة.

• سمعت أبا حامد أحمد بن محمد بن رستة الجمال الصوفي يقول: إنه قدم فكان نازلا عليه فذكر من أحواله الرفيعة، واستصغاره الفانية الوضيعة وكان يقول: جالسوا الله كثيرا وجالسوا الناس قليلا. وكان يقول: الطريق واضح والكتاب والسنة قائمة بين أظهرنا، فمن صحب الكتاب والسنة وعزف عن نفسه والخلق والدنيا، وهاجر إلى الله بقلبه فهو الصادق المصيب المتبع لآثار الصحابة، لأنهم سموا السابقين لمفارقتهم الآباء والأبناء المخالفين، وتركوا الأوطان والاخوان، وهاجروا وآثروا الغربة والهجرة على الدنيا والرخاء والسعة وكانوا غرباء، فمن سلك مسلكهم واختار اختيارهم كان منهم ولهم تبعا. وكان يقول: لا يمكن الخروج من النفس بالنفس، وإنما يمكن الخروج من النفس بالله وبصحة الإرادة لله. وكان يقول: من استعمل الصدق بينه وبين ربه حماه صدقه مع الله عن رؤية الخلق والانس بهم. وكان يقول: من لم يكن الصدق وطنه فهو في فضول الدنيا وإن كان ساكنا. وكان يقول: العلم قطعك عن الجهل فاجتهد أن لا يقطعك عن الله. وكان يقول: النفس كالنار إذا أطفئ من موضع تأجج من موضع، كذلك النفس إذا هدأت من جانب ثارت من جانب. وكان يقول: كيف أصنع والكون كله لي عدو وإياك والاغترار بلعل وعسى، وعليك بالهمة فإنها مقدمة الأشياء وعليها مدارها وإليها رجوعها.

ص: 382

‌أبو العباس أحمد الدينوري

ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد الدينوري. صحب يوسف بن الحسين ولقي رويما وأبا العباس بن عطاء.

• سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول قال أبو العباس الدينوري: مكاشفات الأعيان بالأبصار، ومكاشفات القلوب بالاتصال. وكان يقول: إن أدنى الذكر أن ينفي ما دونه ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر في الذكر عن الذكر ويستغرق بمذكوره عن الرجوع إلى مقام الذكر. وهذا حال فناء الفناء. وكان يقول: لله عباد لم يستصلحهم لمعرفته فشغلهم بخدمته، وله عباد لم يستصلحهم لخدمته فأهملهم. وكان يقول:

لا بلاغ إلى مراتب الأخيار إلا بالصدق، وكل وقت وحال خلا عن الصدق فباطل. وكان يقول: المحب اختار المكروه والأثقال لرضا محبوبه يبتغي لذلك رضاه وهو غاية المنى. وأنشدوا:

رأيتك يدنينى إليك تباعدى

فباعدت نفسى لابتغاء التقرب.

‌أحمد بن عطاء

ومنهم أبو عبد الله أحمد بن عطاء بن أحمد الروذباري - له من فنون العلم الحظ الجزيل، توفي بصور سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. ورد علينا نعيه وأنا مقيم بمكة.

• سمعت أبا الفضل الهروي يقول: حضرت أحمد بن عطاء وسئل عن القبض والبسط وحال من قبض ونعته، وحال من بسط ونعته، فقال: القبض أول أسباب الفناء، والبسط أول أسباب البقاء، فحال من قبض الغيبة، وحال من بسط الحضور. ونعت من قبض الحزن، ونعت من بسط السرور.

وكان يقول: الذوق أول المواجيد، فأهل الغيبة إذا شربوا طاشوا، وأهل الحضور إذا شربوا عاشوا.

• سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا نصر الطوسي يقول سمعت أبا

ص: 383

عبد الله الروذباري يقول: رأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: أي شيء أصح في الصلاة؟ فقلت: صحة القصد، فسمعت هاتفا يقول: رؤية المقصود بإسقاط رؤية القصد أتم. وكان يقول: مجالسة الأضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح للعقول. وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة، وليس كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الأسرار، ولا يؤمن على الأسرار إلا الأمناء فقط. وكان يقول: الخشوع في الصلاة علامة الفلاح، قال الله تعالى. {(قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)} .

‌بندار بن الحسن

• ومنهم أبو الحسين بندار بن الحسن بن محمد بن المهلب. كان بعلم الأصول مهذبا، وفي الحقائق مقربا. كان له القلب العقول واللسان السئول.

وكان للمخلصين عضدا، وللمريدين مسددا. توفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وحضر مجلسه أبو زرعة الطبري، شيرازي المولد، سكن أرجان.

أسند الحديث.

• أخبرنا محمد بن الحسين في كتابه ثنا علي بن عبد الله بن مبشر الواسطي ثنا محمد بن سنان ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا مالك بن أنس عن سعيد المقبري عن أبي سلمة قال: سألت عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة. كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا مثلهن، ثم يصلي ثلاثا» قالت عائشة:

فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: «يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي» .

• حدثنا أبو بكر بن خلاد ثنا محمد بن غالب ثنا القعنبي عن مالك به.

• سمعت عبد الواحد بن محمد بن بندار يقول: سألت بندار بن الحسن عن الفرق بين المتصوفة والمتقرئة فقال: إن الصوفي من اختاره الحق لنفسه فصافاه وعن نفسه عافاه، ومن التكلف برأه - والصوفي على زنة عوفي، أي

ص: 384

عافاه. وكوفي أي كافاه، وجوزي أي جازاه الله، ففعل الله ظاهر في اسمه.

وأما المتقرى فهو المتكلف بنفسه، المظهر لزهده مع كمون رغبته وترئية بشريته، واسمه مضمر في فعله لرؤيته نفسه ودعواه. وسئل أيضا عن الفرق بين التقري والتصوف فقال: القارئ هو الحافظ لربه من صفات أوامره. والصوفي الناظر إلى الحق فيما حفظ عليه من حاله. وقال:

الصوفي حروفه ثلاثة، كل حرف لثلاث معان: فالصاد دلالة صدقه وصبره وصفائه. والواو دلالة وده ووروده ووفائه. والفاء دلالة فقره وفقده وفنائه. والياء للإضافة والنسبة، وأهل الحروف والإشارات يقيمون حرف الياء في الابتداء والانتهاء، ففي الابتداء النداء وفي الانتهاء النسبة والإضافة، ففي الابتداء يا عبد، وفي الانتهاء يا عبدي. ففي الأول للنداء وفي الانتهاء للإضافة والنسبة. وكان يقول: الجمع ما كان بالحق والتفرقة ما كان للحق. وكان يقول: لا تخاصم لنفسك فانها ليست لك، دعها لمالكها يفعل بها ما يشاء. وكان يقول: دع ما تهوى لما تؤمل. وقال: القلب مضغة وهو محل الأنوار، وموارد الزوائد من الجبار، وبها يصح الاعتبار. جعل الله القلب أميرا فقال:{(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)} ثم جعله لديه أسيرا فقال: {(يحول بين المرء وقلبه)} .

‌ابن حفيف

ومنهم أبو عبد الله محمد بن خفيف. الحنيف الظريف. له الفصول في النصول، والتحقق والتثبت في الوصول، لقي الأكابر والأعلام. صحب رؤيما وأبا العباس بن عطاء وطاهر المقدسي وأبا عمرو الدمشقي. وكان شيخ الوقت حالا وعلما. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.

• ومن مفاريد ما سمع منه ما أخبرنا في إجازته وكتابه إلي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن شاذ هرمز ثنا زيد بن أخرم عن أبي داود عن شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لما عرج بي إلى السماء سمعت تذمرا فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: موسى

ص: 385

يتذمر على ربه، فقلت: ولم ذلك؟ قال: عرف ذلك منه فاحتمله». هذا من حديث شعبة متكرر. أبو داود وزيد ثبتان لا يحتملان هذا. ولعل أدخل لابن شاذ هرمز حديثا في حديث عبد الله بن مسعود.

• حدثنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم ثنا شعيب بن أحمد الدارعي ثنا الخليل أبو عمرو وعيسى بن المساور قالا: ثنا مروان بن معاوية ثنا قنان بن عبد الله النهمي عن ابن ظبيان عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سمعت كلاما في السماء فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى. قلت: ومن يناجي؟ قال: ربه. قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال: إنه قد عرف له حدته» . ومن أجوبته فيما سئل عن السكر فقال: غليان القلب عند معارضات ذكر المحبوب. وقال: الخوف اضطراب القلب مما علم من سطوة المعبود. وسئل عن الرياضة فقال: كسر النفوس بالخدمة، ومنعها عن الفترة. وقال: التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله. وقال:

التوكل الاكتفاء بضمانه وإسقاط التهمة عن قضائه. وقال: اليقين تحقيق الأسرار بأحكام المغيبات. وقال: المشاهدة اطلاع القلوب بصفاء اليقين إلى ما أخبر الحق من الغيوب. وقال: المعرفة مطالعة القلوب لافراده عن مطالعة تعريفه. وقال: التوحيد تحقق القلوب بإثبات الموحد بكمال أسمائه وصفاته.

ووجود التوحيد مطالعة الأحدية على أرضات السرمدية، والإيمان تصديق القلوب بما أعلمه الحق من الغيوب ومواهب الإيمان بوادي أنواره والملبس لأسراره، وظاهر الإيمان النطق بألوهيته على تعظيم أحديته. وأفعال الإيمان التزام عبوديته والانقياد لقوله، والإنابة التزام الخدمة وبذل المهجة والرجاء ارتياح القلوب لرؤية كرم الموحد. وحقيقة الرجاء الاستبشار لوجود فضله وصحة وعده، والزهد سلو القلب عن الأسباب ونقض الأيدي عن الأملاك.

وحقيقة الزهد التبرم بالدنيا ووجود الراحة في الخروج منها، والقناعة الاكتفاء بالبلغة. وحقيقة القناعة ترك التشوف إلى المفقود والاستغناء بالموجود. وسئل عن الذكر فقال: اعلم أن المذكور واحد والذكر مختلف،

ص: 386

ومحل قلوب الذاكرين متفاوتة. فأصل الذكر إجابة الحق من حيث اللوازم لقوله عليه السلام: «من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته» . ثم ينقسم الذكر قسمين ظاهر وباطن، فأما الظاهر فالتهليل والتحميد والتمجيد وتلاوة القرآن. وأما الباطن فتنبيه القلوب على شرائط التيقظ على معرفة الله وأسمائه وصفاته، وعلى أفعاله ونشر إحسانه وإمضاء تدبيره ونفاذ تقديره على جميع خلقه، ثم يقع ترتيب الأذكار على مقدار الذاكرين، فيكون ذكر الخائفين على مقدار قوارع الوعيد وذكر الراجين على ما استبان لهم من موعده، وذكر المجتنبين على قدر تصفح النقباء، وذكر المراقبين على قدر العلم باطلاع الله إليهم، وذكر المتوكلين على قدر ما انكشف لهم من كفاية الكافي لهم، وذلك مما يطول ذكره ويكثر شرحه. فذكر الله منفرد وهو ذكر المذكور بانفراد أحديته على كل مذكور سواه، لقوله تعالى:

«من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» . والثاني إفراد النطق بألوهيته. لقوله عليه السلام: «أفضل الذكر لا إله إلا الله» .

• قال الشيخ: سألتم عن إيداع ذكر جماعة من نساك بلدنا وعبادهم ليكون الكتاب مختوما بذكرهم ونشر أحوالهم. واعلموا أن طريقة المتقدمين من نساك بلدنا القدوة والاتباع لمتقدميهم من العمال والعلماء الذين لحقوا الأئمة والأعلام.

وقد ذكرت جماعة منهم في كتابنا بطبقات المحدثين من الرواة من أهل بلدنا: منهم محمد بن يوسف المعداني المعروف بعروس الزهاد ومن ينحو نحوه في التنسك والتعبد، والغالب من أحوالهم اغتنام الوقت وعنايتهم بجمع الهم ومحافظة الأوراد والتشمر للارتياد، والتسارع إلى الاستباق. فأما بسط الكلام في الأحوال والمقامات قولا بلا فعل فيرونه دعاوى لا حقيقة لها، يحترزون منها غاية التحرز، لا يريدون عما حواليهم بدلا، ولا يبغون عنها حولا.

كانوا كما وصفهم به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، من أحوال المختارين من الصحابة والسالكين طريقتهم من التابعين فيما رواه عنه نوف البكالى وكميل

ص: 387

ابن زياد وغيرهما، وهو.

• ما حدثناه إبراهيم بن إسحاق ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ثنا على ابن حجر ثنا يوسف بن زياد عن يوسف بن أبي المتيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم. قال قال علي بن أبي طالب: «كونوا لقبول العمل أشد اهتماما بالعمل، فإنه لن يقبل عمل إلا مع التقوى، وكيف يقل عمل يتقبل» . كانوا بالله عالمين ولعباده ناصحين، كما حدثنا

محمد بن أحمد بن الحسين ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثنا أبو نعيم ضرار بن صرد ثنا علي بن هاشم ابن اليزيد عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن عمر بن علي عن حسين عن أبيه عن علي قال: أنصح الناس وأعلمهم بالله أشد الناس حبا وتعظيما لحرمة أهل لا إله إلا الله. وكما رواه عبد خير عن علي وهو ما حدثناه

عمر بن محمد بن عبد الصمد ثنا الحسين بن محمد بن غفير ثنا الحسن بن على السيسرى ثنا خلف ابن تميم ثنا عمر الرحال عن العلاء بن المسيب عن عبد خير عن علي قال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك وأن يعظم حلمك وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل أذنب ذنبا فهو يدارك ذلك الذنب بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات. ولا يقل عمل في تقوى، وكيف يقل عمل يتقبل.

كانوا بالصحابة مقتدين ولصعالكهم مشبعين يصبحون شعثا غبرا صفرا بين أعينهم مثل ركب المعزى، باتوا يتلون كتاب الله، يميدون عند ذكر الله كما تميد الشجرة في يوم ريح، كانوا مصابيح الهدى. لم يكونوا بالجفاة المرائين، خلق الثياب جدد القلوب. في الدنيا زاهدين وفي الآخرة راغبين وعن الله فهمين وفي قراءة كلامه متدبرين، وبمواعظه متعظين وبصنائعه معتبرين. تخذوا الأرض بساطا ورمالها فراشا والقرآن والدعاء دثارا وشعارا، عبدوه في بيوت بالقلوب الطاهرة والأبصار الخاشعة. هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فساموا لله بحجته وتبيانه، فاستلانوا ما استوعره المترفون؛

ص: 388

وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون. صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى.

فهذه نعوت الأصفياء من الأولياء، والنجباء من الأتقياء. من سلك مسلكهم مقتديا بأفعالهم مراعيا لأحوالهم المنتفع برؤيته، والمغبوط بمحبته وصحبته.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا إسحاق بن إبراهيم ثنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شمر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا:

بلى، قال: الذين إذا رأوا ذكر الله إذا تكلموا كان كلامهم لعز الإسلام ونجاة النفوس وصلاحها، لا لعز النفوس وطلب الدنيا وقبول الخلق، وكانوا لعلمهم مستعملين ولرأيهم متهمين، ولسبيل أسلافهم متبعين، وبكتاب الله وسنة نبيه متمسكين. الخشوع لباسهم، والورع زينتهم والخشبة حليتهم. كلامهم الذكر وصمتهم الفكر. نصيحتهم للناس مبذولة، وشرورهم عنهم مخزونة، وعيوب الناس عندهم مدفونة. ورثوا جلاسهم الزهد في الدنيا لإعراضهم وإدبارهم عنها، ورغبوهم في الآخرة لإقبالهم وحرصهم عليها.

‌النعمان بن عبد السلام

فمن المتقدمين الذين ذكرناهم في كتاب طبقات المحدثين والرواة من أهل أصبهان النعمان بن عبد السلام أبو المنذر. كان عبد السلام والده يلي أمر السلطان ومات عن ضيعة نفيسة ومال جم، فترك ذلك كله ورغب عنها زهدا فيها. صحب سفيان الثوري ومالك بن أنس.

• سمعت أبا محمد بن حيان يحكي عن أبى عبد الله الكسائى قال: بلغني أن رجلا رأى في المنام كأن ملكا يقول لآخر وهو على سور المدينة: اقلب، قال: كيف أقلب والنعمان بن عبد السلام قائم يصلي.

‌ابن معدان

• ويليه في الفضل والعلم والعبادة محمد بن يوسف بن معدان بن سليم

ص: 389

عروس الزهاد. وقد تقدم ذكره. وكذلك أخواه عبد الرحمن وعبد العزيز.

وتوفي محمد بن يوسف بالمصيصة ودفن إلى جنب مخلد بن الحسين. فارق ضياعه زاهدا فيها.

وكان يقول: لقد خاب من كان حظه من الله الدنيا. وكان يتمثل كثيرا بهذا البيت

إذا كنت في دار الهوان فإنما

ينجيك من دار الهوان اجتنابها.

‌عامر بن حمدويه

ومنهم عامر بن حمدويه الزاهد. سكن مسيلة. صحب سفيان الثوري وسمعته يروي عنه مسائل

‌عصام بن يزيد

ومنهم عصام بن يزيد بن عجلان أبو سعيد الملقب بخير. صحب سفيان الثوري ثلاث عشرة سنة وكان رسوله إلى أمير المؤمنين المهدي، فعرض عليه المهدي برا ومالا فلم يقبل، ثم رجع من عنده إلى سفيان فقال لسفيان: لو أتيتهم؟ فقال سفيان: أتراني أخاف هوانهم؟ إنما أخاف كرامتهم. فلما مات سفيان رجع إلى أصبهان وسكنها.

‌موسى بن مساور

ومنهم موسى بن مساور أبو الهيثم الضبي، روى عن سفيان بن عيينة ووكيع. وكان جيدا فاضلا، ترك ما ورثه عن أبيه لإخوته تورعا، ولم يتناول منه شيئا، لأن أباه كان يتولى للسلطان. له الآثار المشهورة في بناء الرباطات وإصلاح الطرق.

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول: بلغنى أنه رؤى في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. مررت يوما بامرأة تحمل جرابا ثقل عليها حمله فحملته معها فشكر الله لي ذلك فغفر لي.

‌محمد بن الوليد

ومنهم محمد بن الوليد الأموي، من أهل المدينة، سمع سفيان بن عيينة

ص: 390

يعد من الأبدال. له الدعوة المجابة.

‌محمد بن النعمان

• ومنهم محمد بن النعمان بن عبد السلام. صحب وكيعا وسفيان بن عيينة وأبا بكر بن عياش. له الورع الثخين والعقل الرصين. كان زيد بن أخرم يسميه عابد أهل أصبهان. كان دأبه المجاهدة والمكابدة الدائمة حتى ضعف وخيف على عقله. ثم رجع إلى الميسور وترك خشونة المطعم والملبس.

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول سمعت أحمد بن محمد بن صبيح يقول سمعت محمد بن النعمان يقول: دانقا تدفعه في مظلمة أحب إلي من مائة ألف تتصدق بها.

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول حدثني محمد بن الحسين بن المهلب ثنا محمد بن عاصم قال سمعت محمد بن النعمان يقول: المصر لا يقبل له عمل.

‌صالح بن مهران

• ومنهم أبو سفيان صالح بن مهران كان يقال له الحكيم. يكتب كلامه قال سليمان الشاذكوني: ما رأيت أورع من أبي سفيان.

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا أحمد بن علي بن الجارود ثنا محمد بن عاصم قال سمعت أبا سفيان يقول: ليستيقن الناس أنهم لا يرون في الإسلام فرحا.

وكان يقول: كل صاحب صناعة لا يقدر أن يعمل في صناعة إلا بآلة، وآلة الإسلام العلم، وإذا رأيت العالم لا يتورع في علمه فليس لك أن تأخذ عنه.

وكان يقول: وضعوا مفاتح الدنيا على الدنيا فلم تنفتح فوضعوا عليها مفاتح الآخرة فانفتحت.

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول ثنا محمد بن يحيى بن منده ثنا محمد بن عاصم قال سمعت أبا سفيان يقول: الورع ورعان: ورع صواب وورع أحمق فالصواب أن تقول للرجل: من أين جئت؟ فيقول: من السوق. والورع الأحمق أن تقول للرجل: من أين جئت؟ فيقول من المسجد إن شاء الله.

وكان يقول: كل عمل يعمل لغير الله فهو ذنب على عامله. والإخلاص اليقين.

ص: 391

‌عبد الله بن خالد

ومنهم عبد الله بن خالد. كان من التعبد والورع بالمحل الرفيع، فأكره على قضاء البلد. لقي سفيان بن عيينة وشعيب بن حرب وإبراهيم بن بكر الشيباني.

• سمعت أبا محمد بن حيان يحكي عن أبي عبد الله السليمي الفقيه قال سمعت يحيى بن مطرف يقول: مر عبد الله بن خالد يوما يريد مجلس الحكم وجونته على عنق غلام له، فوقع لرجل حمله عن حمار له فقال: أعينوني على حمل هذا.

فقال عبد الله لغلامه: ضع الجونة، ووضع عبد الله كساءه على عاتقه فحمل مع غلامه على حمار الرجل، ثم لبس كساءه وتوجه إلى المجلس. وجلس يوما بالمدينة للقضاء فحكم بشيء فقال المحكوم عليه: أيها القاضي حدا بترس؟ قال فوضع يده على رأسه وجعل يضرب بيده على رأسه ويقول: قاضى خاكس بسر قاضى خاكس بسر فختم جونته وديوانه وهرب، فلم ير بعده إلا يوما في الثغر حارسا.

‌رجاء بن صهيب

ومنهم أبو غسان رجاء بن صهيب الجرواني، أحد المعرضين عن الدنيا الراحلين عنها.

وكان يقول: نعم الدار الدنيا طريقا إلى الجنة، ومن اتخذ الدنيا طريقا لم يعرج على ما فيها. فالدنيا طريق الأكياس، غنموا فيها النفوس ورحلوا بها عنها.

‌عبد الله بن داود

ومنهم عبد الله بن داود - سنديلة، كان من المتعبدين خيرا فاضلا مجاب الدعوة.

أسند الكثير. يحدث عن الحسين بن حفص.

• سمعت والدي يحكي عن محمد بن يحيى بن منده أنه سمع عبد الله بن داود يقول: من علامات الحق البغض لمن يدين بالهوى، ومن أحب الحق فقد وجب عليه البغض لأصحاب الهوى - يعني بأصحاب الهوى الذين عدلوا عن الآثار وتبعوا الآراء.

1

ص: 392

‌إبراهيم بن عيسى

ومنهم إبراهيم بن عيسى الزاهد. صحب معروف الكرخي وسمع من أبي داود الطيالسي ومحمد ابن المقرئ.

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول ثنا حيوة بن أبي شداد - بنهاوند - حدثني أبو جعفر الداني قال: كنت في دار إبراهيم بن عيسى وكان إذا فرغ من صلاته وقت السحر يدعو لليهود والنصارى والمجوس ويقول: اللهم اهدهم. فإذا فرغ من دعائه يرفع يديه يقول: اللهم إن كنت مدخلي النار فعظم خلقتي حتى لا يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيها موضع. ومن كلامه: المؤمن حسن بالله ظنه واثق بوعده، اتخذ التقوى رقيبا والقرآن دليلا والخوف محجة والشوق مطية والوجل شعارا والصلاة كنزا والصبر وزيرا والحياء أميرا. لا يزداد لله برا وصلاحا إلا ازداد الله عليه خوفا. أحسن الظن بالله فأحسن العمل.

• حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر - إملاء - ثنا العباس أحمد بن محمد البزاز المدني ثنا إبراهيم بن عيسى الزاهد ثنا أحمد الدينوري ثنا عبد العزيز ابن يحيى ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن ابن عمر. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة. فطلع معاوية. ثم قال من الغد مثل ذلك فطلع معاوية، ثم قال من الغد مثل ذلك فطلع معاوية» .

‌عبد الوهاب الضبي

ومنهم عبد الوهاب بن المنذر الضبي. فقيه عابد صوام قوام، كان له كل يوم ختمة. كان هذا دأبه إلى أن مات. روى عن معتمر بن سليمان.

• سمعت أبي يقول: حكي لي عنه أنه قال: لكل شيء أول، وأول الخير الاستغفار، قال تعالى:{(استغفروا ربكم إنه كان غفارا)} يعني لا يزال يغفر للمستغفرين.

ص: 393

‌حامد شاذة

ومنهم حامد بن المسبور بن الحسين المؤذن - مؤذن الجامع - يعرف بشاذة. كان يعرف بالدعاء المجاب، من الأمناء والنصحاء. حدث عن سليمان ابن حرب وأزهر بن سعيد.

• حدثنا أبي ثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى ثنا حامد بن المسبور ثنا أزهر ابن سعيد عن محمد بن أبي هريرة. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» .

‌أسيد بن عاصم

ومنهم أبو الحسين أسيد بن عاصم بن محمد. كان هو وأخوه محمد بن علي ممن سلكوا مسلك أصحاب سفيان الثوري في العلم والعبادة ومكارم الأخلاق وفواضل الأعمال. يفزع إلى أدعيتهم عند نزول المحن والأعلال فترى الإجابة في الوقت. يقصدون من الديار والنواحي البعيدة يسألون الدعاء في عوارضهم فيدعون فيرون الإجابة.

• حدثنا عبد الله بن الحسين بن بندار ثنا أسيد بن عاصم ثنا الحسين بن حفص ثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن شعيب عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» .

• حدثنا عبد الله بن محمد ثنا أبو علي بن إبراهيم ثنا أسيد بن عاصم ثنا إسماعيل بن عمر ثنا قيس بن عمار الذهنى عن عطية عن أبي سعيد. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس، إنه لا دين لمن دان بجحود آية من كتاب الله يا أيها الناس، إنه لا دين لمن دان بفرية باطل ادعاها على الله يا أيها الناس، إنه لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله.

‌أبو جعفر الفريانى

ومنهم أحمد بن معاوية بن الهذيل أبو جعفر الفريانى وأخوه الهذيل

ص: 394

ابن معاوية. كان سمتهما في التعبد والاتباع والاقتداء سمعت البدلاء والأولياء.

سمعا الحديث من أصحاب الثوري والحسين بن حفص وغيره.

• حدثنا أبي ثنا محمد بن يحيى بن منده ثنا أحمد بن معاوية ثنا حسين بن حفص ثنا إبراهيم - يعني ابن طهمان - عن ابن سعيد - وهو عمر بن سعيد - عن الأعمش عن عمرو بن مرة الحمصي عن أبي البختري قال: جاء أعرابي فبال في المسجد فأخذوه فسبوه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فصب على مكان البول الماء ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم بعثتم هداة ولم تبعثوا مضلين، كونوا معلمين ولا تكونوا معاندين. أرشدوا الرجل» . قال ثم جاء من الغد فقال: اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد غيرنا. قال ففعلوا به مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنكم بعثتم هداة ولم تبعثوا مضلين، كونوا معلمين ولا تكونوا معاندين، أرشدوا الرجل» . عمرو بن سعيد هو أخو سفيان بن سعيد، لا أعلم رواه عن الأعمش بهذا اللفظ غيره.

• حدثنا أبي ثنا محمد بن يحيى بن منده ثنا أحمد بن معاوية ثنا الحسين ابن حفص ثنا أبو هانئ بن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال: إني ليأتي علي الشهر والشهران لا أطعم شيئا.

• حدثنا أبي وأبو محمد بن حيان قالا: ثنا محمد بن يحيى بن منده ثنا الهذيل بن معاوية ثنا إبراهيم بن أيوب ثنا النعمان بن سفيان عن منصور بن صفية عن أمه عن عائشة قالت: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الأموات وقال: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير» .

• حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن منده ثنا الهذيل بن معاوية ثنا إبراهيم بن أيوب عن ابن هانئ عن محمد بن الربيع عن الثورى عن حماد بن يحيى الأجج عن محمد بن واسع عن مطرف بن الشخير قال: من صفى صفي له، ومن خلط خلط له.

• حدثنا أبي ثنا محمد بن يحيى ثنا الهذيل بن معاوية ثنا إبراهيم بن أيوب ثنا النعمان عن سفيان عن يحيى بن أبي سعيد قال: ما أخوان في الإسلام أحدهما

ص: 395

يعرف والآخر لا يعرف وهو في مثل حاله إلا كان أفضلهما الذي لا يعرف.

‌أحمد بن محمد بن إسحاق

ومنهم المقرون تعبده وتقشفه بالبذل والسخاء، أبو عثمان أحمد بن محمد بن إسحاق بن يزيد بن عجلان. ختن ابن رجاء بن صهيب. كانت العبادة عنه مشهورة، والكرم عنه مأثور ومذكور. كان كثير الحديث:

• حدثنا أبي ثنا محمد بن أحمد بن يزيد الزهري ثنا أبو عيسى ثنا الأصمعي عن أبي طلحة عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة. قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بيت لا تمر فيه جياع أهله» .

‌موسى الخزاز

ومنهم الناسك النبيه ذو الفضل الكثير أبو عبد الرحمن موسى بن عبد الرحمن الخراز.

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول: كان له الفضل والعبادة والنسك الكثير، وكان تخلى في داره مستأنسا بذكره ومشاهدته. أسند الكثير.

• حدثنا عبد الله محمد بن جعفر ثنا محمد بن يحيى بن منده ثنا موسى بن عبد الرحمن عن أبيه عن النعمان عن سفيان عن عمرو بن دينار وأبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأى ولا يدعها للشيطان، ولا يمسحن أحدكم يده بالمنديل حتى يلعقها أو يلعقها فإنه لا يدري في أى طعامه البركة.

‌أحمد بن مهدى

ومنهم ذو الدين المتين، والمحدث الأمين. أنفق على العلم المال الكثير المنور المنير آثار الرسول البشير النذير، كان ذا سخاء وكرم، راقب المعبود وخدم، حليف العبادة والسهر، أليف السنة والأثر، أبو جعفر أحمد بن مهدى ابن رستم أسمعت أعلى أحمد بن محمد بن إبراهيم يقول قال أحمد بن مهدي:

جاءتني امرأة ببغداد ليلة من الليالي فذكرت أنها من بنات الناس،

ص: 396

وأنها امتحنت بمحنة، وقالت لي: أسألك بالله أن تسترني. فقلت: وما محنتك؟ فقالت أكرهت على نفسي وأنا حبلى، وذكرت للناس أنك زوجى أن وما بي من الحمل فمنك، فلا تفضحني واسترني سترك الله. فسكت عنها ومضت. فلم أشعر حتى وضعت وجاء إمام المحلة في جماعة الجيران يهنئوني بالولد الميمون النجيب، فأظهرت التهلل، ووزنت في اليوم التالي دينارين ودفعتهما إلى الإمام فقلت: أبلغ هذا إلى تلك المرأة لتنفقها على المولود فإنه سبق ما فرق بيني وبينها، فكنت أدفع في كل شهر دينارين أوصلهما إليها بيد الإمام وأقول: هذا نفقة المولود. إلى أن أتى على ذلك سنتان. ثم توفى المولود فجاءنى الناس يعزونني فكنت أظهر لهم التسليم والرضا. فجاءتني المرأة بعد ذلك ليلة من الليالي ومعها تلك الدنانير التي كنت أبعث بها إليها بيد الإمام فردتها وقالت: سترك الله كما سترتني. فقلت لها: هذه الدنانير كانت صلة مني للمولود وهي لك لأنك ترثينه فاعملي فيها ما تريدين.

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول: كان أحمد بن مهدي ذا مال كثير فأنفقه كله على العلم، نحو ثلاثمائة ألف درهم، وذكر أنه لم يعرف له فراش أربعين سنة.

• حدثنا أحمد بن جعفر بن سعيد ثنا أحمد بن مهدي ثنا عمر بن خالد المصري ثنا عيسى بن يونس عن سفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن الأغر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة يوما من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه» .

• حدثنا إبراهيم بن يوسف ثنا أحمد بن مهدي ثنا سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة عن عبيد الله ثنا أبي عن جدي عن موسى ابن طلحة عن أبيه قال: «لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد صعد على المنبر فتلا هذه الآية {(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)} الآية، فسأله رجل: يا رسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت وعلي ثوبان أخضران فقال:

أيها السائل هذا منهم».

ص: 397

‌محمد بن معروف العطار

قال الشيخ: ومن المشهورين بالنسك والعبادة والورع محمد بن معروف العطار، المعروف بمؤملة، كان إمام الجامع، سمع من يحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون، وهو الذي ينسب إليه المسجد، مسجد مؤملة بن معروف.

• حدثنا أبو عمر محمد بن عبد الله بن محمد بن معروف ثنا أبى ثنا يحيى ابن سعيد ثنا الهيثم بن حكيم قال سمعت أبا الدرداء يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله - أو قال لا يشرك بالله شيئا - دخل الجنة» .

‌هارون الراعي

ومنهم أبو عبد الرحمن الراعي هارون بن سعيد كان من الزاهدين والسائحين. لقي بالشام أبا سليمان الداراني ومحمد بن المبارك الصورى وأحمد ابن عاصم الأنطاكي. حدث عنه أبو مسعود الرازي في مسنده سمع من عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم ومحمد بن أبي السري العسقلاني وطبقتهم.

• حدثنا أبو محمد بن حيان - من أصله - ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا أبو عبد الرحمن الراعي ثنا دحيم ثنا ابن قديد ثنا يحيى بن أبي خالد عن ابن أبي سعيد الأنصاري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له» .

• حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا محمد بن عبيدة بن الوليد ثنا أبو عبد الرحمن الراعي ثنا هارون بن سعيد ثنا عبد العزيز بن عمران ثنا عبد الله بن صالح ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:

{(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)} قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.

‌العباس بن إسماعيل

ومنهم أبو الفضل العباس بن إسماعيل الطامدي، كان من العبادة

ص: 398

والخلوة بالمحل المكين مع ما كان يرجع إليه من العلم الواسع النافع.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانئ يقول سمعت محمد بن يوسف يقول سمعت عباس الطامدي وقد اعتل أياما فوجدته متأسفا فسألته فقال: أعقبتني هذه العلة ضعفا نقص من ختماتي في الشهر ثلاثين ختمة.

• حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن كوثة الأصبهانى - بمكة - قال سمعت عباس الطامدي يقول سمعت حسين بن الفرج يقول سمعت ابن المبارك يقول: إن كان الفضل في الجماعة فالسلامة في الوحدة.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن عبد الله بن خلة الصفار ثنا محمد بن يوسف الصوفي ثنا العباس بن إسماعيل الطامدي ثنا مكي بن إبراهيم بن موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن كعب القرظي قال: قرأت في التوراة - أو قال في صحف إبراهيم الخليل - فوجدت فيها: يقول الله يا ابن آدم ما أنصفتني خلقتك ولم تك شيئا وجعلتك بشرا سويا، خلقتك من سلالة من طين فجعلتك نطفة في قرار مكين، ثم خلقت النطفة علقة فخلقت العلقة مضغة فخلقت المضغة عظاما فكسوت العظام لحما ثم أنشأتك خلقا آخر. يا ابن آدم هل يقدر على ذلك غيري؟ ثم خففت ثقلك على أمك حتى لا تتبرم بك ولا تتأذى، ثم أو حيث إلى الأمعاء أن اتسعي، وإلى الجوارح أن تفرقي، فاتسعت الأمعاء من بعد ضيقها، وتفرقت الجوارح من بعد تشبكها. ثم أوحيت إلى الملك الموكل بالأرحام أن يخرجك من بطن أمك فاستخلصك على ريشة من جناحه فاطلعت عليك فإذا أنت خلق ضعيف ليس لك سن يقطع ولا ضرس يطحن فاستخلصت لك في صدر أمك عرقا يدر لبنا باردا في الصيف حارا في الشتاء، واستخلصته لك من بين جلد ولحم ودم وعروق، ثم قذفت لك في قلب والدك الرحمة وفي قلب أمك التحنن، فهما يكدان عليك ويجهدان ويربيانك ويغذيانك، ولا ينامان حتى ينومانك. يا ابن آدم، أنا فعلت ذلك بك لا لشيء استأهلت به مني، ولا لحاجة استعنت بك على قضائها. يا ابن آدم، فلما قطع سنك وطحن ضرسك أطعمتك فاكهة الصيف في أوانها وفاكهة الشتاء في أوانها، فلما أن عرفت أني ربك

ص: 399

عصيتني فادعني فإني قريب مجيب، واستغفرني فإني غفور رحيم.

‌زكريا بن الصلت

ومنهم زكريا بن الصلت، له الورع الوثيق والقلب الرفيق، مشهور بالتعبد والاجتهاد، والتوحد والانفراد.

وكان يقول: ما شافع أشفع للرجل المذنب من الخدمة لرب العالمين.

وكان يقول: من نظر إلى مبتدع بعينه فقد أعان النظر على العمى، ألا فجنبوا أشفار العيون بالإغماض عن نظر المبتدعين.

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا محمد بن العباس بن أيوب ثنا زكريا بن الصلت ثنا عبد السلام بن صالح ثنا عباد بن العوام ثنا عبد الغفار المدني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إن لله عند كل بدعة تكيد الاسلام وأهله من يذب عنه ويتكلم بعلاماته فاغتنموا تلك المجالس بالذب عن الضعفاء وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا» .

تفرد به عبد الغفار عن سعيد وعنه عباد.

‌الأخوان عبد الله وهمام

ومنهم الأخوان أبو بكر عبد الله وأبو عمرو همام ابنا محمد بن النعمان ابن عبد السلام. ورثا العلم والعبادة عن أسلافهما المشهورين. الغالب على أبي بكر القدوة والرواية، وعلى أبى عمر والعبادة والرعاية. حالهما في العلم والنسك مشهور، وفضلهما في الناس منشور.

• حدثنا جعفر بن معبد ثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ثنا فروة بن أبى العراء ثنا علي بن مسهر عن يوسف بن ميمون عن عطاء عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب» . غريب تفرد به يوسف عن عطاء.

• حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عمر القرظي ثنا همام بن محمد بن النعمان ثنا العباس بن يزيد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان

ص: 400

ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».

‌محمد بن الفرج الودنكاني

ومنهم المعد في الأبدال، المثبت في الأحوال، كانت دعوته مجابة، صحب أبا عثمان الرازي، سعيد بن العباس أبو بكر محمد بن الفرج الودنكانى.

كان الجهاد والرباط ميسرا له. كان من دعائه: اللهم اقبضني في أحب المواطن إليك. فخرج إلى طرسوس ثلاث مرات فمات بها سنة أربع وثمانين ومائتين.

• حدثنا أحمد بن جعفر بن معبد ثنا أبو بكر محمد بن الفرج ثنا محمد بن عاصم بن عمرو أبو الأزهر الصواف البصري ثنا أبو عاصم عمرو بن عثمان بن مقسم عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عمل أحب إلى الله من جهاد في سبيله وحجة مبرورة متقبلة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال» . حديث غريب من حديث نافع لا أعلم رواه عنه إلا عثمان.

• حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله عن ممشاد ثنا أبو بكر محمد بن الفرج ثنا عبد الجبار - يعني ابن العلاء - ثنا مروان - يعني ابن معاوية - عن أبي يعقوب عن الوليد بن العيزار عن أبي عمرو عن عبد الله بن مسعود قال قلت يا رسول الله: أي الأعمال أقرب إلى الجنة؟ قال: «الصلاة على مواقيتها.

ثم قلت: وماذا يا نبى الله؟ قال: بر الوالدين. قلت: وماذا يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله».

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول حدثنا جدي محمود بن الفرج قال -: أملاه علي - ثنا أبو حجر ثنا محمد بن عبيد ثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: «مرض أبي بن كعب مرضا فبعث النبي صلى الله عليه وسلم طبيبا فكواه على أكحله» .

• سمعت أبا محمد يقول وحكى عن جده محمود قال سمعت أبا عثمان سعيد بن العباس يقول: إذا تواضعت فقد أدركت جميع الفضائل، وإذا حفظت لسانك فقد حفظت جميع جوارحك، وإذا أخلصت الأعمال فقد أحكمت جميع عملك.

ص: 401

‌ابن معدان

ومنهم ذو القلب الرجيف واللب الثاقب الخصيف والنفس الذائب النحيف، عرف مالكه عظيما فخنع وخضع، وراقبه عليما فخشي وخشع، ولاحظه كريما فرضي وقنع، فابتهل إليه مستغفرا ومفتقرا، ولامح صنائعه معتبرا.

وتنصل إليه من زلله وهفواته معتذرا، موقنا أنه على قبوله مقتدرا.

أبو عبد الله محمد بن يوسف بن معدان المعروف بالبناء. كان للآثار حافظا ومتبعا، له التصانيف في نسك العارفين ومعاملة العاملين.

• سمعت أبا محمد بن حيان يقول: كان محمد بن يوسف ممن يقال إنه مستجاب الدعوة وكان رئيسا في علم التصوف، صنف في هذا المعنى كتبا حسانا، رأيته وسمعت من كلامه قال: اعلم أن قلوب العمال من أهل المعرفة بالله على أربع منازل: قلب مع الله، وقلب في ملك الله، وقلب في التمييز، وقلب في المكابدة. فأما القلب الذي مع الله فعلامته المناجاة والاشتغال بالله، وأما القلب الذي في ملك الله فمرة يجول في الجنة ومرة يجول فى النار، والصراط والحساب والميزان والعرض، وأما القلب الذي في المكابدة فهو الذي يرد على الشيطان خوف الفقر وهو مشغول بتصحيح الكبيرة. فهذه الأربع المنازل منازل العقلاء. والخامس قلب النقمة الشيطان.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانئ يقول سمعت محمد بن يوسف يقول: أسباب المعرفة أربعة: خصافة العقل، وكرم الفطنة، ومجالسة أهل الخبرة، وشدة العناية. وبسبب هذه الأمور الأربعة الرحمة. ومن أقرب الأمور إلى الرحمة التبرؤ من الحول والقوة، والمعرفة بأن التبرؤ منه، والمعرفة أيضا هبة. ومن أفضل الأشياء العلم. والمبتغى من العلم نفعه، فإذا لم ينفعك فحمل تمرة خير لك من حمل ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ منه فقال:«أعوذ بك من علم لا ينفع» . وقال: «خير العلم ما نفع» . والعلم يصاب من عند المخلوقين والنفع لا يصاب إلا بالله ومن عنده، ومنفعة العلم طاعته، وطاعته منفعته، والعلم النافع هو الذي به أطعته، والذى

ص: 402

لا ينفع هو الذي به عصيته. وكان يقول: قلوب العارفين مساكن الذكر وأفضل الأعمال رعاية القلب، والذكر غذاء القلب. وقال: همم العارفين تعالت عما فيه لذة نفوسهم واتصلت همومهم بما فيه المحبة لسيدهم، لأن الله تعالى معناهم ولدى الله مثواهم. وكان يقول: من آمن بالقدوم على معطي الخزائن والهدايا قبل ملاقاته. وقال: إذا كسى الله القلب نور المعرفة قلده قلائد الحكمة، ومن كان الصدق وسيلته كان الرضا من الله جائزته. وقال: إن من التوفيق ترك التأسف على ما فات والاهتمام بما هو آت. ومن أراد تعجيل النعم فليكثر من مناجاة الخلوة.

• حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا محمد بن يوسف بن معدان الصوفى ثنا عبد الله ابن محمد السندي - الأسدي بطرسوس - ثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم أن يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده» .

• حدثنا أحمد ثنا محمد بن يوسف ثنا عبد الله ثنا ابن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نصح العبد لسيده وأحسن عبادة ربه كان له الأجر مرتين» .

• حدثنا أحمد ثنا محمد ثنا إبراهيم بن سلام ثنا يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الحيات التي تكون في البيوت» .

• حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الواعظ ثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن معدان ثنا أبو صالح محمد بن زنبور ثنا الحارث بن عمير عن حميد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا فإن الصدقة فكاككم من النار» .

• حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن محمد ثنا محمد بن يوسف بن معدان ثنا نصر بن علي الجهضمي ثنا النعمان بن عبد الله ثنا أبو ظلال عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخل الناس. قالوا يا رسول الله بم بخل الناس؟

ص: 403

قال: بالسلام».

‌أبو الحسن بن سهل

ومنهم المحبر بالوصل، المحفوظ في الفضل، أبو الحسن علي بن سهل.

كان للحق مجيبا واصلا، وعن النفس مغيبا راحلا.

• سمعت أبا حامد أحمد بن رستم يقول: كان علي بن سهل ممن أيد على مخالفة النفس فارتاض نفسه رياضة هذبها بعد أن كان منشؤه نشء المترفين أبناء النعمة والرفاهة. فكان ربما يحبسه عن الأكل عشرين يوما يبيت فيها قائما هائما عن الخلق مشغولا وفيما يعانيه محمولا.

• سمعت أبا عبد الله أحمد بن إسحاق الشعار يقول سمعت علي بن سهل يقول: ما احتكمت قط إلا بولي وشاهدين. وسمعت أبا حامد وأبا جعفر المحلاوي يقولان - وكانا من أصحابه - قالا قال علي بن سهل: استولى علي الشوق فألهاني عن الأكل وقطعني عن العمل في ابتداء أمري، فرأيت في بعض الليالي في غفوتي أني دخلت الجنة فرأيت قصرا عظيما رفيعا، فقلت لمن هذا القصر؟ فقيل لمحمد بن يوسف، ثم أفضيت إلى قصر آخر مثله فقلت: لمن هذا؟ فقيل لي لك يا أبا الحسن، فاطلعت على لعبة غلب ضوء وجهها كل شيء فنظرت إليها فأدبرت وهي تقول: أنت لا ترغب فينا. وإذا أنا بصوت ما سمعت نغمة أشجى ولا أحزن منه وهى تقول:

مقيم للجليل بكل قلب

على الرضراض للخطر العظيم

فظننت أنها تعنيني. وكان رحمه الله له الحال المكين، والبيان المبين.

فقد حدثنا علي بن هارون - صاحب أبي القاسم الجنيد بن محمد - قال:

قرأت ما كتب به علي بن سهل إلى الجنيد في خطابه وصدر كتابه: توجك الله تاج بهائه وحلاك حلية أهل بلائه، وأودعك ودائع أحبائه، وجعلك من أخلص خلصائه، وأشرف بك على عظيم بنائه، وهداك وهدى بك إلى كل حال مع ما يرده عليك من دوام الإقبال، وحباك مع ذلك بالوصل والاتصال.

لتكون يا أخي لديه رضي البال، ورفعك بعلوه على كل حال.

ص: 404

• سمعت أبي وعنده أصحاب علي بن سهل أنه كان يقول: ليس موتي كموتكم بالأعلال والأسقام، إنما هو دعاء وإجابة، أدعى فأجيب. فكان كما قال. كان يوما قاعدا في جماعة فقال: لبيك ووقع ميتا، رحمة الله عليه وعلى أموات المسلمين.

• حدثنا سليمان بن أحمد ثنا علي بن سهل الصوفي الأصبهاني ثنا ابن مهدي ثنا علي بن صالح - صاحب المصلى - ثنا القاسم بن معن عن حميد الطويل عن أنس بن مالك. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قلت: يا رسول الله أنصره مظلوما كيف أنصره ظالما؟ قال: ترده عن الظلم فذاك نصرة منك له» .

‌أحمد بن جعفر بن هاني

ومنهم المملوء من المعاني، المكلوء من التواني، أحمد بن جعفر بن هانى. كان له الأحوال الرفيعة، والاستدلال بالأعمدة المنيعة، المتفكر في البراهين والآيات، والمعتبر بالمنصوب من الأدلة والعلامات. كان شأنه السباق والبدار مرتقبا لموارد القلوب من التحف والأنوار.

• سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر يقول: لا يأتي العبد المعونة من مولاه وهو يعتمد على غيره ووالاه. وإذا ناصح العبد مولاه في معاملته ألبسه خلعة من خلعه تظهر عليه نوره ومشاهدته. ومن لم يحكم فيما بينه وبين مولاه التقوى والمراقبة حجب عن الكشف والمشاهدة، ومن آثر مولاه حماه من رجس الدنيا ولم يكله إلى غيره. وكان يقول: من كانت الدنيا طريقه إلى الجنة نصب له منار الدلالة لئلا يضل عنها. وقال: إذا سكنت الخشية في القلب رأى علم التوفيق في الجوارح.

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن جعفر بن هاني ثنا محمد بن يوسف ثنا عبد الله بن عبد الوهاب عن أبي مسهر عن الحكم بن هشام عن يحيى بن سعيد ثنا أبو قرة عن أبي خلاد - وكانت له صحبة - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا وقلة منطق فاقتربوا منه فانه يلقن الحكمة» .

ص: 405

• حدثنا أبي ثنا أحمد بن جعفر ثنا محمد بن يوسف ثنا عبد الله بن عبد الوهاب ثنا عبد الله بن سابق ثنا موسى بن طريف. قال: جاء عيسى بن مريم إلى رجل نائم فقال له عيسى: قم. فقال له الرجل: قد تركت الدنيا لأهلها.

فقال له عيسى: نم مكانك إذا.

‌محمد بن الحسين الخشوعي

• ومنهم المزين بالخشوع، الممكن للخضوع، كانت العبادة حرفته، والتلذذ بالعبرة شهوته، له الكلام البليغ في تأديب النساك والعباد، تخرج به جماعة من السباق والرواد. منهم أبو الحسن علي بن أحمد بن المرزبان الأسواري وطبقته، وسليم بن عبد الله بن المرزبان أبو بكر الواعظ وشيعته وبعدهما من المذكورين والمشهورين عبد الله بن محمد بن صالح، وأبو عثمان بن أبي هريرة، ومن نحا نحوهم في النسك والعبادة، تمسكوا بالشرع المشروع، والمنهج المتبوع. اقتدوا بالآثار، وتخلقوا بأخلاق العباد والأبرار من الصيام الدائم، والقيام اللازم، والقلب الفارغ الهائم. أبو عبد الله بن الحسين الخشوعي

• فمما نقل عنه من كلامه أنه كان يقول: حياة الصديقين في المراعاة، وروح حياتهم القدوة والاقتداء بأوامر الأنبياء وأحوالهم، وحياة أرواحهم بالطاعة وذوق تصحيح سلوك سبيل الأئمة، وتواتر اللطف والمبار. وكان يقول: من لزم الخدمة ورث منازل القربة، ومنازل القربة تورث حلاوة الأنس.

• حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الواعظ ثنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الخشوعي ثنا جعفر بن أمية ثنا محمد بن أيوب الرازي ثنا الأصمعي ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال: همان لا بد للمؤمن منهما: هم المعاش وهم المعاد.

• حدثنا أبو مسلم محمد بن إبراهيم الغزال - في داره قراءة عليه - قال حدثني محمد بن الحسين الخشوعي العابد ثنا الحسين بن عبد الله بن الحسن ثنا أبو بكر ابن خلاد ثنا يحيى ثنا عبيد الله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي عن

ص: 406

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا يسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» .

ومن المشهورين بالنسك والعبادة من عباد الشام واقتصرنا على تسميتهم.

فمنهم: عامر بن ناجية، والحسن بن محمد بن مزيد، لقي ذا النون وأحمد بن أبي الحواري. والحسن بن علي بن سعيد أبو علي السنبلاني، يعد من الأبدال.

وزيد بن بندار البجاى أبو جعفر، صام هو وابنه وامرأته أربعين سنة.

ويسار بن مسهر من العباد، ومحمد بن جزي العابد. ومحمد بن العباس بن خالد. وأبو عبد الله المحدث. ومحمد بن عيسى بن يزيد السعدي. وأبو بكر الطرسوسي. ومسعود بن يزيد. وأبو عمران موسى بن إبراهيم الصوفي.

وعمر بن عبد الرحيم بن شبيب المقرى. وعبيد الله بن أحمد بن عقبة المحدث ومحمد بن الحسين الجوربي، صحب سهل بن عبد الله، كان من التعبد والاقتداء والاتباع للسلف الماضين بالمحل الرفيع.

سمعوا الآثار واستعملوها في مدى الأيام والساعات فعمروها. عدوا من البدلاء. كانت أدعيتهم مجابة، ولهم يد في قلوب الولاة مهابة.

• وبعدهم طائفة تخرجوا بمحمد بن يوسف البنا، وإن كانوا اختاروا التجرد والتخلي من فضول الدنيا ورفضها وحذف العلائق والعوائق ونبذها، ومداومة التشمير والاستباق.

• ومنهم أبو عبد الله الصالحاني الفقيه. وأحمد بن جعفر القطان، وأحمد بن ميمون وأبو جعفر أحمد بن قادة وأبو بكر بن خارج وعبيد الله بن يحيى أبو عبد الرحمن المديني. وأحمد بن محمد بن عمر بن أبان العبدي. كانوا يرجعون إلى أحوال حميدة وبيان وبصيرة.

• وممن أدركناهم وأدركنا أيامهم وصحبوا محمد بن يوسف وسمعوا منه:

محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن سياه المذكور. ومحمد بن جعفر بن حفص المعدل المغازلي. وأبو بكر محمد بن عبد الله بن ممشاذ المعروف بالقنديل القوال. وأحمد بن بندار بن إسحاق الفقيه الشعار. وأبو عبد الله محمد بن أحمد

ص: 407

ابن الحسن الكسائى المقرى. وعبد الرحمن بن محمد بن ششتاه القرطمى المؤذن وسمعت أبا محمد بن حيان يقول وحكى لي عنه حكايات وذكر أنه كان يزوره مع والده محمد بن جعفر في الجمعات وقال سمعته يروي عن سليمان بن شبيب وعبيد الله ابن يزيد أخي رستم. وأبي مسعود، ولم أكتب عنه. فلما رأى في تصانيفه روايته عن حسين المروزي وعبد الجبار بن العلاء كان يتحسر لما فاته من حديثه. هؤلاء قد صحبوه ورووا عنه الآثار.

وأما الذين تخرجوا بعلي بن سهل وأبي عبد الله الصالحاني فجماعة يكثر تعدادهم، غير أن المتقدمين الذين لهم الحال المكين: أبو بكر عبد العزيز بن محمد بن الحسن الخفاف الواعظ، وأبو بكر عبد الله بن إبراهيم بن واضح وأخوه عمر، وأبو جعفر محمد بن الحسين بن منصور وأخوه علي بن الحسين.

وختم التحقيق بطريقة المتصوفة بأبي الحسن علي بن ماشاذه، لما أولاه الله من فنون العلم والسخاء والفتوة، وسلوكه مسلك الأوائل في البذل والعطاء والانفاق، والتبرى والتعدى من التملك والإمساك. وكان عارفا بالله عالما، وفقيها عاملا، عالما بالأصول وبارعا في الفروع، له من الأدب الحظ الجزيل، والخلق الحسن الجميل. رزقنا الله تعالى ما رزقهم من الإقبال عليه والانقطاع إليه، وجمعنا وإياهم بطوله في سائر أرضه وبحبوحة جنته، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال المؤلف: هذا آخر ما أمليته يوم الجمعة سلخ ذى الحجة سنة اثنين وعشرين وأربعمائة.

والحمد لله وحده أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 408

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وبعد فقد تم بحمد الله طبع هذا السفر الجليل، والدليل النابه الأمين والأنيس الذى لا يمل جليسه، ولا يسأم من حديثه. الذى تحلى به شرفات مكاتب الاسواق، وتزين به صدور مكتبات أفاضل العلماء. وهو كتاب «حلية الأولياء وطبقات الاصفياء للحافظ أبى نعيم» وذلك فى غرة شهر رمضان المكرم من سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية.

وقد قام بطبعه على نفقتهما حضرتا المحترمان الحاج محمد إسماعيل صاحب مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر، ومحمد أمين أفندى الخانجى الكتبى بشارع عبد العزيز بمصر. فعلى كل محب للعلم أن يطلبه من المكانين المذكورين بعد الدعاء لصاحبيهما بالتوفيق والإعانة على نشر مثل هذا.

ص: 409