الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
19
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة طاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
أفضل شهور العام وأحبها عند ذي الجلال والإكرام شهر الصيام شهر رمضان كما أن أفضل البقاع وأحبّها إلى الله جل وعلا المساجد ففيها نوره وهداه وإليها يأوي المؤمنون الموحدون المهتدون، وذل النور الذي يكون في بيوت الله ترك في هذا الشهر الكريم "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".
عباد الله.. تكرم ربنا الأكرم على عباده في هذا الشهر بأعظم النعم فأنزل عليهم القرآن وبعث في هذا الشهر نبينا عليه الصلاة والسلام وفي هذا الشهر الكريم مكّن هذا الله للقرآن، ومكّن الله للنبي عليه الصلاة والسلام وأيد الله الحق الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام في معركتين اثنتين وموقعتين عظيمتين
الأولى: من العام الثاني من هجرة خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه في موقعة بدر حيث أظهر الله الحق على الباطل، أظهر القرآن على خرافات الشيطان.
الموقعة الثانية: من العام الثامن من الهجرة حيث أذن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ولصحبه الكرام بفتح مكة بلد الله الحرام، وتطهيرها من رجس الشيطان ن هذا الشهر العظيم أعظم نعم الله على عباده أغرقت عليهم فيه.
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وهذا الإنزال –إخوتي الكرام – تم على مرحلتين اثنتين كل منهما صحيحة ثابتة بالآثار الحسان.
المرحلة الأولى: في هذا الشهر الكريم نزل القرآن بأكمله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
ثبت ذلك في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، ومسند البزار وشعب الإيمان للإمام البيهقي بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما –وهذا الأمر موقوف عليه- ولا يمكن أن يقال من قِبَل الرأي البشري إنما هو مأخوذ عن رسولنا النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم قال هذا العبد الصالح –حبر الأمة وبحرها ترجمان القرآن – (فُصِل القرآن من الذكر من اللوح المحفوظ ثم نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا في شهر رمضان فجعل جبريل ينزل به على النبي –عليه الصلاة والسلام .
هذا النزول الأول للقرآن وفائدته التنويه بعظيم منزلة القرآن ورفعة شأنه وإخبار سكان السماء بأن هذا الكتاب هو أفضل كتب الله على الإطلاق وسينزل على آخر أمة على آخر الأنبياء والمرسلين على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وليكون في ذلك –بعد ذلك- إلهاباً لمشاعر النبي صلى الله عليه وسلم وتحريكاً لشوقه ليتطلع إلى نزول القرآن بتمامه وكماله. كما قال القائل:
وأقرب ما يكون الشوق يوماً
…
إذا دنت الخيام من الخيام
فالقرآن في السماء الدنيا قد استقر في شهر رمضان في ليلة الرابع والعشرين منه كما سيأتينا وسينزل عليه يا خير خلق الله – عليه صلوات الله وسلامه- فتطلع إلى إكماله وإتمامه وليشتد شوقك إليه (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..) .
والإنزال الثاني: كان في نفس الوقت أيضاً في تلك السنة في ذلك الشهر في نفس الوقت والزمن نزل جملةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل خمس آيات.. في ذلك الوقت على خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه وبعث نوراً لهذا الوجود في هذا الشهر الكريم – فأنزل الله عليه خمس آيات من سورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) .
ثبت هذا في المسند والصحيحين من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بُدِأ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبّب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد) ثم بعد ذلك تخبرنا أمنا عائشة رضي الله عنها – أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء فضمه ثم أرسله فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ، فضمه الثانية حتى بلغ منها الجهد ثم أرسله قال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فضمه الثالثة حتى بلغ منه الجهد ثم قال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال:(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان مالم يعلم) .
(اقرأ وربك الأكرم) الذي أفاض الجود على هذا الوجود لن ينساهم من نعمة الهداية والإرشاد فإذا أغدق عليهم نِعَم الخلق والإيحاء لن يتخلى عنهم سبحانه وتعالى فالبشرية عندما تتخبط في الظلمات والضلالات، وينقطع نور الرسالات السابقات لا بد لها من تدارك (اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان مالم يعلم) وكان ذلك الوقت في شهر رمضان –كما ورد ذلك في مغازي الإمام محمد بن اسحاق فنزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا كان في شهر رمضان ونزول أول شيء منه على نبينا عليه الصلاة والسلام كان في شهر رمضان. (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ، (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر) ، (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) .
ولا يشكلن عليك أخي الكريم ما أخبر الله جل وعلا به في هذه الآيات من أن القرآن نزل في شهر رمضان مع أن الواقع أنه نزل في ثلاث وعشرين سنة على نبينا عليه الصلاة والسلام لا يشكلن عليك ذلك أبداً لأن المراد من الإنزال كما قلت أمران: إنزال جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا وكان ذلك في شهر رمضان. وابتُدِأ إنزاله على نبينا عليه الصلاة والسلام وكان ذلك في شهر رمضان ثم فرّق بعد ذلك حسب الحوادث التي تقع في مستقبل الزمان، منزل في ثلاث وعشرين سنة على نبينا عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام: فهذا الشهر الكريم خصه الله بهذه النعمة العظيمة وجعله ظرفاً لها – فأعظم نعم الله على عباده نعمة القرآن نعمة بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام وذلك حصل في شهر رمضان –نعم – إن هذه النعمة كريمة، كريمة، كريمة بها عاش الإنسان عزيزاً كريماً ولوها لكان حيوناً حقيراً مهيناً بل لكان شيطاناً رجيماً بهذه النعمة التي زكى الله بها قلوبنا وعقولنا، وأبداننا وحفظنا من الظلالات والجهالات بهذه النعمة العظيمة صرنا خير أمة أخرجت للناس يحصل المؤمن سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وهذه النعمة نزلت في هذا الشهر العظيم (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
إخوتي الكرام: وهذه النعمة هي أتم نعم الله على عباده، ونعم الله على عباده مهما تعددت وتنوعت لا تخرج عن نعمتين اثنتين ك نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد ونعمة الله علينا بعمته الثانية أعلى وأتم من نعمته علينا بالنعمة الأولى:
ومن عظيم منة السلام
…
ولطغة بسائر الأنام
أن أرشد الخلق إلى الوصول
…
مبيناً للحق بالرسول
(لقد من الله على المؤمنين إذ بعثت فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) .
إخوتي الكرام: وكما جعل الله هذا الشهر الكريم ومحلاً وزماناً لأكرم نِعَمِهِ على خلقه فقد جعل الله هذا الظرف أيضاً أعني شهر رمضان محلاً وظرفاً ووقتاً لإنزال هذه النعمة على الأمم السابقة فكل كتاب سماوي قبل القرآن الكريم نزل في شهر رمضان العظيم.
وقد ثبت هذا عن نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه أخرج الإمام أحمد في المسند والطبراني في معجمه الكبير والأوسط والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام ابن عساكر في تاريخ الشام والحديث لاينزل عن درجة الحسن كما قرر ذلك أئمتنا الكرام عن واثلة بن الأصقع رضي الله عنه وأضاه قال سمعت رسول الله صلى الله علية وسلم يقول: "أنزلت صحف إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة خلت من شهر رمضان وأنزلت التوراة في ستٍ خلت منه – وأنزل الإنجيل في ثلاث عشرة خلت منه – وأنزل الزبور في ثمان عشرة خلت منه وأنزل القرآن في أربع منه أي من شهر رمضان " فالكتب السماوية العظيمة وهي أعظم ما من الله به على عباده أنزلت في هذا الشهر الكريم في شهر رمضان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
إخوتي الكرام: والرواية المتقدمة عن واسلة كما قلت صحيحه ثابتة وقد أخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بنفس الرواية المتقدمة لكن خلافٌ في شيء واحد من الكتب السابقة ألا وهو الزبور ففي رواية أبي يعلى "إن الزبور نزل قسم منه في ليلة إحدى عشرة من رمضان وأكمل الباقي على العبد الصالح داود على نبينا عليه صلوات الله وسلامه في ثمان عشرة من رمضان. وأما أن نقول: وهو الجواب الثاني وهو أوجه وأرجح وأظهر: أن رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في مسند أبي يعلى فيها سفيان بن وكيع بن الجراح وسفيان وإن كان ثقة في نفسه كما قرر أئمتنا الكرام فقد ابتلى بكاتبه وورّاقه وكان يُدخل في كتبه ما ليس منها وقد حذره أئمتنا الكرام فما قبل تحذيرهم ولا طرد ورّاقه عنه من أجل ذلك سقطت أحاديثه ورواياته كما قال أئمتنا الكرام وإن كان صدوقاً ثقة في نفسه وهو من رجال الترمذي والإمام ابن ماجه في السنن عليه جميعاً رحمة الله فالرواية إذن لعله فيها شيء من الخلط فيما يتعلق بتحديد الوقت بالنسبة للزبور.
والرواية المعتمدة رواية واثلة بن الأصقع صحف إبراهيم تنزل في أول ليلة من شهر رمضان الكريم، والتوراة في الليلة السادسة، والزبور في الليلة الثامنة عشر والإنجيل في الثالثة عشر وهذا القرآن ينزل ليلة الرابع والعشرين على نبينا عليه الصلاة والسلام ولعلها بل إنها كانت ليلة القدر في تلك السنة وليلة القدر هي في العُشر الأخير وتتنوع وتدور فأحياناً تكون في ليلة الحادي والعشرين، في ليلة التاسع والعشرين، في ليلة الخامس والعشرين في ليلة الرابع والعشرين ففي تلك السنة كانت في هذا الوقت (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
إخوتي الكرام: وتذكيراً للعباد بهذه المنة العظيمة ألا وهي إنزال القرآن وسائر الكتب السماوية في شهر رمضان تذكيراً للعباد بهذه النعمة العظيمة – وتخليداً لذكرى نزول الكتب السماوية الجليلة في هذا الشهر الكريم فرض الله على هذه الأمة وعلى الأمم السابقة عبادةً في هذا الشهر المبارك لم يُعبَد بها أحد في الوجود، فسائر العبادات صرفت لغير رب الأرض والسماوات فالسجود صرف كثير من الطواغيت، وصرف لحجر وشجر وبقر وشمس وفمر وهكذا القَسَم، وهكذا سائر شعائر العبادات إلا عبادة الصيام فلم يُعبد بها غير ذي الجلال والإكرام فخصها الله في اشهر الذي نزل فيه القرآن وإلى ذلك أشار نبينا عليه الصلاة والسلام.
ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به فإنه لي وأنا أجزي به – والصيام جُنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يصخب فإن سابّه أحد فليقل إني صائم مرتين والذي نفسي بيده لَخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه) الصوم لي.. وسائر العبادات لله وما ينبغي أن نشرك أحداً مع الله فيها، (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) الصوم لي وأنا أجزي به..أكثَرَ أئمتنا الكرام في بيان هذه الجملة التي نقلها نبينا عليه الصلاة والسلام عن ذي الجلال والإكرام، أكثروا في بيان ما تحتمله من معنى وأوصلوها إلى عشر معانٍ حسان.
من المعاني المعتبرة التي قال بها بعض الأمراء الكرام في هذه الأمة الإسلامية المرحومة: أبو منصور قايماز بن عبد الله، وهو من الأمراء الصالحين توفي سنة 570 هـ ونقل قوله أئمتنا في شروح كتب الحديث في شروح السُند عند هذا الحديث. ونقل قوله الإمام ابن الأثير في جامع الأصول، وأخبر أنه سمع ذلك القول منه مباشرة وانظروه في جامع الأصول في الجزء التاسع ص454 وكما قلت إن قوله في سائر شروح السنة، أنظروه في فتح الباري وغيره يقول هذا الأمير الصالح قايماز بن عبد الله:(الصوم لي) يعني أن الصوم عبادة خالصة لله لم يُعبد أحدٌ سواه فسائر العبادات صرفت لغير الله عز وجل إلا هذه العبادة فما عُبد معبود على وجه الأرض بالصيام ولا تعبد مخلوق مخلوقاً بالصيام، إنما هذه العبادة خاصة بذي الجلال والإكرام لم يعبد بها سواه فأكرم الله بها المؤمنين في هذا الشهر الذي أنزل الله فيه هدايته ونوره على رسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) هذا شهر عظيم نزل فيه نور الله المبين.. " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ".
إخوتي الكرام: وهذه العبادة كما قلت أعني عبادة الصيام كما فرضت على هذه الأمة فرضت على سائر الأمم السابقة في هذا الشهر الكريم فهو شهر لنزول هدايات رب العالمين على الأولين والآخرين، وبه كلّف المتقدمون وهذه الأمة بصومه بصوم شهر رمضان، وقد دل على ذلك آيات القرآن والأحاديث الثابتة الحسان، أما آت القرآن فيقول ربنا الرحمن جل وعلا:"يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" وهذا التشبيه ينبغي أن يحمل على إطلاقه من كل وجه.. "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" في الوقت والكيفية والمقدار والحكم، ففرض عليكم صيام شهر رمضان وفرض على من قبلكم صيام شهر رمضان وكيفية الصيام عندكم ككيفية الصيام عندهم سواءً بسواء.
"كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" وقد وضح هذا الآثار الثابتة من أئمتنا الأبرار والمنقولة عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه أخرج الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والحديث رواه البخاري في التاريخ الكبير والإمام النحاس في تاريخه أيضاً والأثر رواه ابن عساكر في تاريخ الشام عن دغفل بن حنظلة رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام والأثر رواه الطبراني في معجمه الكبير عن دغفل بن حنظلة موقوفاً عليه من قوله فاختُلف في رفع الأثر ووقفه، كما اختلف في بيان حال دغفل بن حنظلة هل هو صحابي أو مخضرم من كبار التابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
والذي مال إليه الإمام ابن حجر في التقريب وغيره إلى أنه تابعي مخضرم قال وقيل صحابي ولم يثبت ذلك وعليه إذا كان تابعياً فسواء رفع الحديث أو وقفه على نفسه فله حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام فهو أثر مرسل لكن إسناده صحيح كالشمس كما قرر أئمتنا الكرام ولفظ الحديث عن دغفل بن حنظلة في الرواية المرفوعة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وفي الرواية الموقوفة عليه ولها حكم الرفع قال: " فرض الله على النصارى صوم شهر رمضان فمرِضَ ملك من ملوكهم فنذر لإن شفاه الله ليزيدن في الصيام عشرة أيام فصام النصارى بعد ذلك أربعين يوماً عندما شُفي ملكهم ثم جاء ملك ثان فمرض فنذر لإن شفاه الله ليزيدن في الصيام ثمانية أيام فما شفي صام النصارى ثمانية وأربعين يوماً ثم جاء ملك آخر فقال أرى أن نكمل العدة خمسين يوماً وأن ننقل الصيام من الأشهر القمرية في شهر رمضان وما بعده إلى فصل الربيع فلنصم في فصل الربيع خمسين يوماً ولا داعي بعد ذلك أن نتقيد بهذا الشهر الكريم فاستمر النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة على هذا –يصومون في فصل الربيع خمسين يوماً وصيامهم بعد ذلك تلاعبوا في كيفيته. يمتنعون عندما يصومون عما فيه دسم وزهومة من لحم وبيض وزُبد، أما أن يأكل الخبز والخضراوات فهذا ليس عليه حرج في نهار صومه أو في ليل صومه، إنما يمتنع في النهار فقط عن كل ما فيه دسم فنقلوا الصيام إلى فصل الربيع ثم غيروا كيفية الصيام.
الشاهد إخوتي الكرام: أن الله فرض عليهم صيام شهر رمضان غيروا تلك الكيفية وتلاعبوا فيها فهذا الشهر الكريم فرض الله صيامه على جميع المؤمنين في الحديث وفي القديم لهذه الأمة والأمم السابقة كيف لا!! وهذا الظرف كما قلت هو وقت نزول هدايات الله جل وعلا على رسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام: وهذه الآية التي ذكرتها: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" أيام معدودات.. ينبغي أن تقف معها أربع وقفات على سبيل الاختصار أولها: "يأيها الذين آمنوا" ناداهم الله جل وعلا بهذه الصفة وأخبر عنهم بهذا العنوان ليسهل عليهم امتثال أمر الرحمن فهذه الصفة هي الباعثة على الالتزام على وجه التمام فمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا ينبغي أن يصدق الشرع المطهر فيما اخبر وأنه يطيعه فيما أمر وأن ينتهي عما عنه زجر وحذر.. "يأيها الذين آمنوا" تمهيداً للاستجابة لما سيكلفون به ويؤمرون به وفي ذلك هنا دلالة على وجه الخصوص إشارة إلى أمر يتعلق بموضوعنا ألا وهو " يأيها الذين آمنوا" يا من حصلت لكم نعمة الإيمان بسبب إنزالها في شهر رمضان..
انتبهوا لمنزلة هذا الشهر وصوموه لتتقربوا إلى الله عز وجل.. "يأيها الذين آمنوا " نُور الإيمان شاع في شهر رمضان ففيه أُنزل القرآن، وفيه بُعث خير الأنام عليه الصلاة والسلام "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " كُتب – فُرض عليكم الصيام وإنما أخبر الله عن فرضيته بلفظ الكتابة لأن هذا أبلغ ما يكون في الإيجاب والتوكيد وإذا أردت أن تؤكد الشيء وأن تؤكده تكتبه وتقيده.
ولذلك قال أئمتنا من أراد شيئاً هم به وأراده، ثم نطق به وقاله وإذا اشتدت منزلته عنده قيده وكتبه فالإرادة مبدأ والكتابة منتهى " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " أراد الله منكم الصيام وأمركم به وسجّله عليكم على وجه التمام "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم".
وهذه الكتابة كما قلت على سبيل الفرضية وبذلك تواترت الأحاديث عن نبينا خير البرية عليه صلوات الله وسلامه ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث رواه الترمذي والنسائي من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وروى مثله روايات كثيرة عن صحابة كثير من رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع له سبيلا".
وثبت في مسند أبي يعلى ومعجم الطبراني الكبير والأثر رواه الإمام اللالكائي في شرح أصول أهل السنة والجماعة وإسناد الحديث حسن كما قرر ذلك أئمتنا كما في الترغيب والترهيب للإمام المنذري ومجمع الزوائد للحافظ الهيثمي عليهم جميعاً رحمة الله من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد: ولا أعلمه إلا أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: "عُرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهُن أُسِّس الإسلام فمن ترك واحدة منهن فهو كافر حلال الدم لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً: شهادة ألا إله إلا الله-يعني وأن محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام فهذه الجملة عنوان على كلمتي الشهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله وإقام الصلاة وصوم رمضان.. شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وصوم رمضان –هذه أسس الدين وقواعده أُسّس عليها دين رب العالمين من ترك واحدة منهن فهو كافر حلال الدم لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة " يأيها الذين آمنوا كتب –فرض- عليكم الصيام وقد أجمع المسلمون الكرام على فرضية الصيام.
الوقفة الثالثة: إخوتي الكرام – "كما كتب على الذين من قبلكم" وتقدم المراد من وجه التشبيه هنا: كما كتب على الذين من قبلكم – في الحكم والكيفية والوقت والمقدار أي فُرض عليكم صيام هذا الشهر وألزمتم به كما ألزمت الأمم السابقة به على وجه التمام سواء بسواء. وإنما ذكر الله هذا الأمر ضمن فرضية الصيام – كما كتب على الذين من قبلكم- لِتُوحي هذه اللفظة بعدة دلالات معتبرة.
أولها: ليحصل لنا بهم الائتساء والأسوة والاقتداء فهذه الفريضة كما فرضت على الأمم السابقة فرضت على هذه الأمة وليكون في ذلك دلالة وإشارة إلى أن كتب الله نوره وهداياته نزلت في هذا الشهر عليكم وعلى الأمم السابقة ومن أجل ذلك أُلزمتم بالصيام في هذا الشهر تعظيماً لله جل وعلا – وهكذا أُلزمت الأمم السابقة بذلك وليكون في ذلك دلالة المنافسة فكأن الله جل وعلا يقول: فرضية الصيام فرضت عليكم وعلى المسلمين قبلكم فأروني من نفسكم جداً واجتهاداً في طاعتي.. "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
إن الأمم السابقة غيرت شريعة الله وتلاعبت في هذه الفريضة ومن تغييرها لأن الله صان كتابها من التغيير والتبديل "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وصانها الله من أن تجتمع على صلالة أو خرافة فلن يزال في هذه الأمة طائفة ظاهرون على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله. كرامتان أكرم الله بهما أمة نبيه عليه الصلاة والسلام ما حصلت منهما واحدة للأمم السابقة: حفظ الكتاب وعدم اجتماع الأمة على ضلالة "كما كتب على الذين من قبلكم".
الوقفة الرابعة: إخوتي الكرام بيان علية الصوم- بيان فائدة الصوم (كما كتب على الذين من قبلكم..لعلكم تتقون) هذه هي حكمة الصوم وهذه فائدته.. "تتقون" أن تجعلوا بينكم وبين ما يضركم وقاية وحاجزاً ومانعاً وحصناً وساتراً وفاصلاً وهذه الوقاية تكون بثلاثة أمور.. تكون عن طريق الحفظ والابتعداد والتحرز من الأخلاط الرديئة وعن طريق الوقاية من الأخلاق الرذيلة وعن طريق الاتصاف بصفة التقوى الجليلة " لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.. ولتتصفوا بصفة التقوى الجليلة الفضيلة.
أما الأولى: لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة -إخوتي الكرام لا يخفى على الإنسان – ما لمواصلة الطعام والشراب من أضرار على بدنه ولذلك قال أئمتنا القدماء –المتقدمون – وقال هذا العرب في جاهليتهم أيضاً المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء – وهذا الكلام نقل عن طبيب العرب وأطبهم على الاطلاق: الحارث بن كلدة وهو من الصحابة آمن بنبينا عليه الصلاة والسلام الحارث بن كلدة: المعدة بيت الداء، والحمية بيت الدواء، وكان هذا الطبيب يقول: ما أهلك البرية، وقتل الوحوش في البرّية، إلا إدخال الطعام على الطعام، وأنت عندما تصوم يحصل لبدنك نشاط وخفة، وارتياح من مواصلة الغذاء، وما عجّت المستشفيات بالمرضى إلا من إدخال الطعام على الطعام، وإذا التقى الطعام الثاني بالطعام الأول فهو سم قاتل للبدن، وإذا ما انهضم الطعام الأول قبل دخول الطعام الثاني مهلكة للبدن – ولذلك قال أئمتنا:
ثلاث مهلكات للأنام
…
ومدعاة الصحيح إلى السقام
دوام مُدامةٍ ودوام وطءٍ
…
وإدخال الطعام على الطعام
…
فأنت عندما تصوم تحفظ بدنك عندما يحصّل هذه الحمية النافعة فالحمية أصل الدواء..الحمية أصل الدواء..لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة. وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا..أخرج الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والحديث رواه أبو نعيم في كتاب الطب النووي وهكذا الإمام ابن السني في كتاب الطب النووي على نبينا صلوات الله وسلامه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغزوا تغنموا وصوموا تصحوا وسافرا تستغنوا" اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا وسافرا تستغنوا " والحديث إخوتي الكرام ضعيف من حيث السند كما قرر ذلك أئمتنا الكرام وضعفه لا يصل إلى درجة الترك لا النكارة ومعناه صحيحٌ صحيح لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة.. لأجل أن يحصل لكم حمية بهذا الصيام وصحة وجَلَد ونشاط على وجه التمام لعلكم تتقون الأخلاق الرذيلة.
إن الإنسان عندما يملأ بطنه من الشهوات –من الطعام- تتحرك بعد ذلك نوازعه الطبيعية وتثور بعد ذلك شهواته الغريزية والصوم فيه إذلال للنفس وفيه ترقيق للقلب فتبتعد عنه الشهوات وتبتعد عنه الوساوس الرديئات. من الذي أخرج أبانا آدم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؟! أكلةُ وشهوة إنها بلية أبيكم آدم، وهي بليتكم إلى يوم قيام الساعة، وقد تاب الله على أبينا آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان حاله بعد الخطيئة أحسن من حاله قبلها "ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" ولا يقال ما جرى منه تعييراً له إنما لنعتبر بهد.. من أجل شهوة أخرج من دار القرار إلى دار الذل والافتقار نعم ترتب على ذلك حِكم جليلة وآثار لا نزاع في ذلك، إنما هذه الشهوة هي التي تسببت في الخروج من تلك الدار.
إن الإنسان عندما يصوم ويضبط شهوته يتقي ربه، ويحصل بعد ذلك حمية من الأخلاق الرذيلة. وقد أرشد نبينا صلى الله عليه وسلم الشباب التي تتأجج شهوته إلى مواصلة الصيام – إلى كثرة الصيام من أجل أن يلزم نفسه وأن يحصنها بخشية الله جل وعلا.
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث أخرجه أهل الكتب الستة الشيخان وأهل السنن الأربعة وهو في صحيح ابن حبان من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " له وجاء.. بمثابة الخصاء فخصاء هذه الأمة الصيام، فعليه بالصوم فإنه له وجاء..فإذا صام ابتعدت عنه نوازع الشهوة وحصن نفسه من نوازع الشيطان..لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة..لعلكم تتقون الأخلاط الرذيلة عندما تصومون..لتصلوا صفة التقوى الجليلة وكيف ذلك؟
إخوتي الكرام: إن هذا الشهر هو شهر الصبر كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام وسيأتي تقرير هذا في المواعظ الآتية إن شاء الله بكلام نبينا صلوات الله وسلامه هذا الشهر هو شهر الصبر ومنزلة الصبر من الدين كمنزلة الرأس من جسد الآدميين، إذن هذا الرأس لا يمكن للبدن أن يثبت ولا أن يحيي إلا برأس وهذا الدين لا يمكن أن يكتمل في بدنك وأن تقوم به وأن يحصل فيك إلا بصبر والصائم عندما يصوم يحصل هذه الصفة، هو شهر الصبر، شهر الصيام هو شهر الصبر فإذا صام الإنسان ملك نفسه وراقب ربه، ملك نفسه عندما ضبط شهوته (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) إذا امتنع عن الشهوات التي أحلها الله، امتنع عنها في نهار رمضان لأن الله أمره بالامتناع عنها سيمتنع عما حرمه الله عليه على الدوام من باب أولى، من امتنع عن الشهوة والشراب والطعام في نهار رمضان طاعة لذي الجلال والإكرام، سيمتنع عن الخمر والمخدرات والزنا وسائر الآثام في غير شهر رمضان من باب أولى إذا صام واتقى ربه في رمضان، إذن يملك الإنسان نفسه وهذا هو القوي وهذا هو الشجاع وهذا هو البطل، وهذا هو الرجل.
كما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث من موطأ الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله من روية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس الشديد بالصُرُعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ليس الشديد بالصُّرعة الذي يصرع الرجال ويلقيهم على الأرض – إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب والصائم قد ملك نفسه ملك غضبه، ملك شهوته، ملك رغبته ملك رهبته وهذه أركان الكفر لا يمكن أن يقع الإنسان في كفر أو في معصية إلا بغضب أو شهوة أو رغبة أو رهبة وكل هذه الأمور ضُبطت عند الصائم.
إن الذي يغضب يفقد عقله، ولعله سكر الغضب يفوق على سكر الشراب ولذلك قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: السكر نوعان، سكر غضب، وسكر طرب، فإذا شرب الخمر سَكِرَ وإذا غضب سَكِرَ، إذن الصائم حصّن نفسه من هذه الآفة وملك نفسه وزمها بزمام التقوى ووقف عند حدود الشرع المطهر..شهر الصبر. ثم بعد ذلك راقب الصائم ربه وملَك نفسه وراقب ربه فهو في خلوة لا يراه أحد لكنه يراقب الله الصمد فلا يأكل ولا يشرب والطعام بين يديه. خلق المراقبة الذي يستفيده الصائم من هذا الشهر، لو استدام عنده لكان من المتقين، لكان من المقربين عند رب العالمين، والمطلوب منك أيها الإنسان أمران:
1.
أن يكون الشرع على ظاهرك وأن تلزم ظاهرك المتابعة لنبيك عليه الصلاة والسلام.
2.
وأن تكون المراقبة في باطنك، لا يخرج دين الله عن هذا..ظاهر..تتابع فيه النبي عليه الصلاة والسلام..التزام بشرع الله القوي..باطن..يراقب الله الذي لا تخفى عليه خالفية في السر ولا في العلن، المراقبة أفضل وأعظم وأعلى درجات الإيمان عند ذي الجلال والإكرام.
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ورواه الإمام الترمذي في سننه وغيرهم من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أبي هريرة وعمر رضي الله عنهم أجمعين في حديث جبريل الطويل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فلما قال له: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك – الصائم يتصف بهذا الخلق، عندما ملك نفسه وضبط إرادته، وراقب ربه وصل لدرجة الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تراه فإنه يراك) .
وخلاصة الكلام إخوتي الكرام: أن الصائم يحصل الخيرات على وجه التمام والكمال إذا صام كما أمر ذو العزة والجلال فتحفظ شهوته وتبعد الشبهة عنه عندما يراقب ربه وهاتان الآفاتان شهوة وشبهات منبع جميع الآفات والصائم قد حصن نفسه بشهر الصبر بشهر التحصين بشهر الحمية بشهر التقى ثبت في مسند الإمام أحمد ومعاجم الطبراني الثلاثة الكبير والأوسط والصغير والحديث رواه البزار وإسناده صحيح، من رواية أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفرجكم ومضلات الهوى) إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفرجكم (فرض الشهوة) ومضلات الهوى (فرض الشبهة) والصائم قد حصّن نفسه من ذلك. إخوتي الكرام إن الشهوات توصل إلى أسفل الدركات وإن تحصين النفس عنها يوصل إلى أعلى الدرجات.
وقد ثبت في المسند والحديث في الصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حُفّت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكروهات" السور الذي يحيط بالجنة ما تكرهه النفس والسور الذي يحيط بالنار تحبه النفس وتهواه ولفظ البخاري "حُجبت النار بالشهوات فمن رفع فيها هوى في الدركات، وحجبت الجنة بالمكروهات عندما تصوم وإن شق ذلك عليك تركت شهوتك وطعامك وشرابك من أجل ربك لكن ذلك يوصلك إلى نعيم عظيمٌ عظيم في يوم الدين بجوار رب العالمين حفت النار بالشهوات، حفت الجنة بالمكاره فالذي يصبر على هذه المكاره في هذه الحياة يؤدي به ذلك إلى نعيم الجنات.
إخوتي الكرام: أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن خطر الشهوات التي يتهافت عليها المخلوقات والصائم قد حصّن نفسه منها ثبت في سنن أبي داود والنسائي والترمذي والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك وإسناده صحيح من رواية أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لما خلق الله الجنة دعا جبريل فقال يا جبريل إذهب فانظر إليها –أنظر إليها وما أعد الله لأوليائه فيها –فذهب ونظر إليها –ورأى ما فيها من النعمة والبهجة والنعيم العظيم فعاد فقال الله له كيف رأيت؟! قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد من خلقك إلا دخلها – إذا سمعوا تشويقك لهم إليها كلهم يتنافسون في طاعتك من أجل دخولها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فحفها الله بالمكروهات والمكاره ثم قال لجبريل " إذهب فانظر إليها فذهب ثم عاد ثم قال وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يدخلها أحد " لقد خشيت ألا يدخلها أحد ولما خلق الله النار قال لجبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إذهب فانظر إليها فذهب ورأى ما فيها من العذاب والنكال يحطم بعضها بعضاً ثم عاد قال: كيف رأيت قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها أي إذا سمع بها لا يريد أن يدخلها وينفر منها نفوراً بعيدا فحفها الله بالشهوات قال: إذهب فانظر إليها فنظر إليها ثم عاد قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا ينجوا منها أحد – أيها الصائم الذي امتنعت عما أحل الله في هذا الشهر الكريم طاعة لرب العالمين امتنع عما حرّم الله عليك في كل حين واستفد من هذا الدرس الذي تتلقاه في هذا الشهر الكريم، الذي نزل فيه القرآن العظيم " يأيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يصومون صياماً يقبله ويرضى به عنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام: وعدتكم في الموعظة الماضية أن أتكلم عن فضل الصدقة على الأرحام في هذه الموعظة وكان في نيتي أن أتكلم عليها إن شاء الله لكنني رأيت أن الأمر قد طال وإذا طال لا بد أن أُذَكِّر نفسي وأذكركم بأمر ينبغي أن نعتني به في هذا الشهر وأما ما يتعلق بالصدقة على الرحم لعلني أتكلم عليه إن شاء الله في الموعظة الآتية إن شاء الله.
إخوتي الكرام: هذا الشهر كما قلت هو شهر الجود جاد الله على عباده بجميع نعمه وإحسانه وفضله فنعمة الخلق والإيجاد كثرت في شهر رمضان، ورزق المؤمنين يكثر ويزداد في هذا الشهر المبارك ونعمة الهداية والإرشاد نزلت في هذا الشهر الكريم وحقنا أن نستفيد من ذلك عبرة وأن نتخلق بأخلاق ربنا العظيم، فنكثر من الجود والصدقات والإحسان في هذا الشهر كما فعل ربنا ذو الجلال والإكرام، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يواظب على ذلك ويعتبر بهذا ويفعله عليه صلوات الله وسلامه وفي ذلك حث لنا على الاقتداء في ذلك.
ثبت في المسند والصحيحين والحديث رواه الإمام النسائي في سننه ورواه البيهقي في السنن الكبرى وفي دلائل النبوة وبوّب عليه في سننه باب فضل الجود والإفضال في شهر رمضان ولفظ الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) ريح مرسلة تعم الخلق بهبوبها ونفعها..
وهكذا أفضل الخلق عليه صلوات الله وسلامه يعم الناس بخيره ومعروفه وإحسانه في هذا الشهر الكريم فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وهي بعض روايات الإمام أحمد:(ما سئل شيئاً عليه الصلاة والسلام – خير في هذا الشهر فمنعه ما سئل شيئاً إلا أعطاه) .
وهذا هو خلق نبينا عليه الصلاة والسلام على الدوام لكنه يزداد جوداً في شهر رمضان، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا قال الحافظ ابن حجر: إن كان عنده أعطاه وإلا سكت. أما كلمة لا – ما ينطق بها خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه وقد قيل في أحفاده رضوان الله عليهم أجمعين وعلى نبينا وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامة:
ما قال لا قط إلا في تشهده
…
لولا التشهد كانت لاؤه نَعَمُ
فكيف يكون الحال في نبينا عليه الصلاة والسلام في خير خلق الرحمن وأكرمهم على الإطلاق إخوتي الكرام الجود كما قال أئمتنا الكرام إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي –ولا يراد من الجود الصدقة كما يتوهم بعض الناس لا.
الجود: أن توسع على عيالك في شهر الجود والكرم، أن توسع على أصحابك وأحبابك أن تتصدق على المساكين والمحتاجين..إعطاء ما ينبغي إلى ما ينبغي هذا شهر الجود والكرم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في شهر رمضان ويتضاعف جوده عندما يلقاه جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فيدارسه القرآن.
قال شيخ الإسلام الإمام النووي (نوّر الله مرقده وفي غُرف الجنة أرقده) يقول هذا الإمام المبارك: في هذا الحديث دلالة على أن أفضل أذكار شهر رمضان قراءة القرآن، فقد كان خير مخلوق في السماء يجلس مع خير مخلوق في الأرض عليهما صلوات الله وسلامه يتدارسان القرآن. قال هذا الإمام المبارك: ولا يقال إن المدارسة من أجل الحفظ فهذا كان حاصلاً قبل ذلك، وهذا يحصل ببعض مدارسةٍ إنما هذا من أجل أن هذه العبادة هي أعظم ما يقول به الإنسان من أنواع عبادة الذكر: قراءة القرآن كيف لا؟! وهذا الظرف كما قلت محلاً ووقتاً وزمناً لنزول هذه العبادة فأكثروا من قراءة القرآن، وتدارسوه مع أهلكم الكرام.
وقد كان جبريل يعرض القرآن على نبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه –كل سنة مرة في شهر رمضان، وأما في السنة التي قبض فيها نبينا عليه الصلاة والسلام فعرض عليه القرآن مرتين في شهر رمضان كما في المسند والصحيحين والسنن الأربعة والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (لما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وجد في الصباح خفه عليه صلوات الله وسلامه ونشاطاً فتفرق عنه أصحابه فجاء نساؤه لم يغادر منهن واحدة –كلهن حَضَرْنَ- واجتمعن حوله عليه وعلى آل بيته وأزواجه صلوات الله وسلامه ثم جاءت البَضْعةُ الطاهرة فاطمة رضي الله عنها تمشي إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت عليه صلوات الله وسلامه تقول أمنا عائشة رضي الله عنها ما تخطئ مِشيتُها مِشْيَة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً وكانت أشبه الناس به ولاً وسمتاً وهدياً ومشية عليها وعلى أبيها وعلى آل بيت نبينا صلوات الله وسلامه فجاءت وسلمت على النبي عليه الصلاة والسلام فرحب بها وقال: مرحباً يا ابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله عليه صلوات الله وسلامه ثم أسرّ إليها شيئاً فبكت رضي الله عنها وأرضاها فلما طال بكاؤها وكثر أسر إليها شيئاً آخر فضحكت رضي الله عنها وأرضاها تقول أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها عجبت لهذه تبكي من أجل السرار خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرار- أي بسر – من بين نسائه ثم تبكي رضي الله عنها وأرضاها قالت: فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لحاجته قلت لها أخبريني ما الذي أبكاكي وماذا أسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكي؟ وقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم إني إذاً لَبَذِرَة أي مغشية للسر لا تحافظ على السر ولا تضبطه تقول أمنا عائشة رضي الله عنها بعد ذلك أسألك بمنزلتي عندك لما أخبرتيني بما حدثك به رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالت فاطمة رضي الله عنها أما الآن فنعم ثم قالت هذه البَضْعة الطاهرة: أما المرة الأولى فأسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فاطمة كان جبريل يعارضني القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان وقد عارضني القرآن هذه السنة مرتين في شهر رمضان ولا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري، فاتّق الله واصبري، فنعم السلف أنا لك، فنعم السلف أنا لك وأنت أول أهلي لحوقاً بي قالت فبكيت وكثر بكائي عليها وعلى نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه.
ثم أسر إليّ ثانية فقال: يا فاطمة أنت أول أهلي لحوقاً بي وأنت سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء أهل الجنة –فضحكت – على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه عندما اقترب أجله عليه صلوات الله وسلامه نزل جبريل يدارسه القرآن مرتين على التمام في شهر رمضان فكان جود نبينا عليه الصلاة والسلام يزداد ويزداد ويزدادْ من غير نقصان وقد لقي ربه بعد ذلك بأحسن حال (اللهم إنا نحتسبه عندك يا رب العالمين ونسألك أن تجمعنا في جنات النعيم إنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين اللهم صل على نبنيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة وأوسطه مغفرة ولآخره عتقاً لرقابنا من النار اللهم ارزقنا صياماً وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا يارب العالمين اللهم تقبل الصلاة والصيام والقيام اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقاء شهر رمضان، اللهم أدخلنا الجنة بسلام بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين اللهم إنا نسألك في أول يوم من هذا الشهر الكريم أن تفرج عن أمة نبيك الكريم عليه صلوات الله وسلامه اللهم فرج عن المسلمين يا أرحم الراحمين اللهم ردهم إليك رداً جميلاً اللهم أعزّهم ومكن لهم إنك على كل شيء قدير.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا اللهم أغفر لمشايخنا ولمن علّمنا وتعلّم منا، الله أحسن لمن احسن إلينا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان، الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) .