الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجال يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
رجال يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..
أفضل بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد ففيها نوره وهداه، وإليها يأوي الموحدون المهتدون وقد نعت الله الذين يعمرونها بأنهم رجال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن الغاية التي خلقهم من أجلها رب الأرض والسماوات وهم الذين يصلون لله ويذكرونه في الغدو والعشيات وهم الذين يحسنون إلى عباد الله ويشفقون على المخلوقات وهم الذين يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
اخوتي الكرام: وقد عشنا في نور هذه الآية الكريمة مواعظ متعددة وتدارسنا الصفات الثلاثة الأولى من صفات هؤلاء الرجال الأبرار.
فتدارسنا الصفة الأولى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع} .
وتدارسنا الصفة الثانية: لهم يذكرون الله {عن ذكر الله وإقام الصلاة} .
وتدارسنا الصفة الثالثة لهم: {وإيتاء الزكاة} .
والصفة الرابعة: لهؤلاء العباد الطيبين {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} . وقد وقفنا عندها قبل شهر رمضان الكريم، وكانت مواعظ شهر رمضان حول منزلة شهر رمضان وفضائل شهر رمضان، ونرى أن نعود إلى هذه الآية لنكمل بدارستها وفهم معناها وبيان هذه الصفات التي نعت الله بها من يعمرون بيوته في هذه الحياة.
اخوتي الكرام: الصفة الرابعة لهؤلاء الرجال {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} وتقلب القلوب وحركتها واقترابها وتحويلها من أماكنها. نعم إن القلوب في ذلك اليوم العصيب الرهيب تصل إلى الحناجر من أماكنها فلا يستطيع الإنسان أن يخرجها من فيه ليستريح ويموت، ولا تعود هذه القلوب إلى أمكنتها ليستريح ويهدأ ويطمئن كما قال الله جل وعلا مقرراً هذا في سورة غافر {وأنذرهم يوم الآزفة إذِ القلوب لدى الحناجر كاظمين} ممتلئين غيظاً وهماً وغماً، {إذِ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يطاع} {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} والأبصار في ذلك الموقف لا تستطيع أن تغمض ولا أن يطبق الجفن على الجفن، إنما هي شاخصة زائغة تدور يمنةً ويسرةً ولا تدري ماذا يفعل بها.
كما قال الله جل وعلا: {ولا تحسبنَّ الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون إنما يخَّرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار} فالأبصار لا تغمض ولا يطبق الجفن على الجفن ثم هي زائغة تدور لا تعلم ماذا سيحل بها ولا تعلم أين مصيرها إلى جنة أو إلى نار، فهؤلاء الأخيار الذين يعمرون بيوت الله في هذه الحياة يستعدون لهذا اليوم الذي {تتقلب فيه القلوب والأبصار} وهذا المعنى لتقلب القلوب والأبصار هو أرجح ما قيل في تفسير الآية من أقوال أربع، وعليه اقتصر الإمام الجليل شيخ الإسلام الإمام ابن كثير في تفسير لهذه الآية فذكر هذا المعنى ولم يذكر سواه، وهو الذي رجحه شيخ الإسلام المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عليهم رحمة الله، والمعاني الثلاثة الآخرى لهذه الآية الكريمة {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} تتقلب القلوب انتقالها من حال إلى حال، فتارة تطمع في رحمة ذي العزة والجلال وترجوا النجاة في ذلك اليوم، وتارة تنقبض وتخاف، فالقلوب في ذلك اليوم بين رغبة ورهبة، ما بين أمل ووجل، وهكذا الأبصار أيضاً، تتقلب وهي زائغة لا تعلم هل ستأخذ الكتب من اليمين أو من الشمال ولا تعلم ماذا سيؤمر بها إلى جنة أو إلى نار {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} تتقلب القلوب وتحولها من حال إلى حال، ما بين أمل ووجل، وهكذا تتقلب الأبصار.
والمعنى الثاني:- من المعاني الثلاثة غير المعنى الأول {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} تتقلب القلوب يوم القيامة إلى يقين بعد شك، فالكفار الذين شكوا في هذه الحياة يوقنون بالحقيقة في ذلك الوقت على التمام، لكن ذلك إلا قال لا تنفعهم تقلبت قلوبهم بعد أن كفروا آمنوا، لكن الإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت، تقلبت القلوب وتغيرت، وأما الأبصار فهذه الأبصار التي كان فيه حدة وشدة في هذه الحياة وتلمز المؤمنين وتغمزهم هذه الأبصار تنكسر في ذلك الوقت وتتقلب وتكون ذليلة بطرقة خائفة، وهذا معنى ثانٍ أيضاً من معاني الآية من المعاني الثلاثة الأخرى، وآخر معنى وهو الثالث والرابع يكون مع المعنى الأول {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} تقلب القلوب والأبصار عندما تكون في النار كما قال العزيز الغفار {إنَّ الله لعن الكافرين وأعدَّ لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولاً *} .
وقال جل وعلا في سورة الأنعام: {ونقلب أفئدتهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون} على معناً من المعنى التي تحتمله هذه الآية الكريمة كما هو مقرر في كتب التفسير عليه تقلب أفئدتهم، عقولهم وقلوبهم وأبصارهم في النار، إنهم لم يؤمنوا وهذا لم يؤمنوا بالقرآن وبالرحمن وبنبينا صلى الله عليه وسلم في الحياة، {ونقلب أفئدتهم ونذرهم في طغيانهم يعمهون} .
وكما قلت هذا أحد المعاني الذي تحتمله هذه الآية في سورة الأنعام وأرجح المعاني ما قدمته وهو أن القلوب في ذلك الوقت تتطرب وتخفق خفقاً وفزعاً من هول ذلك اليوم وتتحول من أماكنها وتصل إلى الحناجر فلا تخرج ولا تعدد إلى مكانها وهكذا الأبصار تدور وتزيغ {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
اخوتي الكرام: إذا أردنا أن نستوعب الكلام على وجه الأختصار على الصفة الرابعة فسيكون الكلام عليها ضمناً مقامين وأمرين وبحثين:
أولهما:- في الخوف الذي يتصف به {يخافون} .
والثاني:- في بين يوم القيامة وما يتعلق به.
أما الخوف فسأقصر الكلام عليه ضمن أربعة أمور:
أولها:- في تعريف الخوف.
وثانيها:- في منزلة الخوف.
وهذا ما سنتدارسه في هذه الموعظة إن شاء الله.
وثالث:- الأمور المتعلقة بالخوف في ثمرة الخوف.
ورابع:- الأمور في أسباب الخوف.
وأما ما يتعلق بيوم القيامة {يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} فالبحث في ذلك طويل وسيأخذ معنا مواعظ متعددة نسأل أن يمنَّ علينا بالفقه في دينه ومعرفة معنى كلامه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اخوتي الكرام: أما ما سنتدارسه كما قلت في هذه الموعظة في الأمرين المتعلقين بالخوف في بيان معنى الخوف وفي منزلة الخوف.
الخوف اخوتي الكرام حقيقة كما قرر العلماء الإسلام (احتراق القلب، وتألُّمه لتوقع مكروه في المستقبل عن أمارة أي علامة مظنونة أو معلومة فمن توقع مكروهاً سينزل به في المستقبل في هذه الحياة أو بعد الممات، يعتري قلبه حالة، هذه الحالة هي حالة الخوف هي حالة الوجل هي حالة الإشفاق، هذا هو الخوف، الخوف احتراق القلب، تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل عن أمارة مظنونة أو معلومة، وقد قرر علمائنا الكرام أن ما يعتري الإنسان في هذه الحياة من خير وشر من محمودٍ ومذمومٍ من شيءٍ يحبه أو شيءٍ يكرهه، ما يعتريه ينقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة في حلوله عليه وشعوره به.
إما أن يكون هذا الذي في الإنسان شيءٌ مضى وانقضى، إنما يتذكره في هذه الأيام، من خير أو شر، من محمود أو مذموم، حالة مرت عليه في الزمن الماضي، فإذا تذكرها يقال لهذه الحالة ذكر وتذكر للماضي، فإن كانت في أمر محمود فرح، وإن كانت في أمر مذموم حزن، حزن على شيءٍ فاته أو فرح بأمرٍ فاته مما يحبه أو يكرهه، هذه الحالة الأولى، حالة ماضيه تتذكرها الآن يقال لها ذكر وتذكر.
وشيء آخر يقع عليك مما تحبه أو تكرهه لكنه يقع عليك في الزمن الحاضر فهو يباشرك، ويقال لهذه الحالة التي تكون في الزمن الحاضر يقال لها ذوق وإدراك ووجد لأنك تجد هذا وتذوقه في هذا الوقت، وهذا الذي ينزل عليك إن كان محبوباً يعقب الرضا، وإن كان مكروهاً يعقب السخط، فتشعر بحالة الرضا بحالة السخط، تذوق هذا، تتلذذه، تكرهه، في هذا الوقت، بينما هناك كما قلت حزن أو فرح، وأما هنا رضا أو سخط.
والحالة الثالثة:- التي تعتري الإنسان ولا تخرج أحوال الإنسان عن ذلك حالة مستقبلة ستنزل به ويفكر فيها فيقال لها: توقع وانقطاع، يتوقع، فإن كانت في محمود أو محبوب سميت تلك الحالة رجاءً وأملاً، وإن كانت تلك الحالة المتوقعة في مذموم ومكروهٍ سميت تلك الحالة خوفاً وإشفاقاً ووجلاً، وهذا ما قررته في تعريف الخوف، تأمل القلب، احتراق القلب بسبب توقع مكروه، سينزل عليك في المستقبل عن أمارة يقينية معلومة أو مظنونة عليه، هنا ما تتوقع أنه سينزل بك إن كان محموداً يسرك، فرحت، وهذا يقال له أمل، يقال له رجاء، وإن كان سينزل بك وهو مكروه تخافه وتحزن يقال هذا خوف، إشفاق، وجل، وهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} فلنطبق تعريف الخوف على حالتهم كل واحد منا اخوتي الكرام يوقن يقيناً أنه سيموت وبعد الموت سيبعث وسيأتينا تقرير البعث بأدلته التي لا يماري فيها عاقل في المبحث الثاني من المباحث إن شاء الله، وإذا كان الأمر كذلك سنبعث كما نستيقظ، وسنموت كما ننام، إذا كان الأمر كذلك سنموت وسنبعث، لا يخلو واحد منا من تفريط وتقصير في حق الله جل وعلا وما يعلم هل سيغفر له أم لا، إذا علم أنه سيؤول إلى الله وهو صاحب تفريط وتقصير وعصيان، ماذا سيكون حاله، إذا توقع عقوبة من الله وغضباً من الله سيعتري قلبه في هذه الحياة الحالة التي ذكرتها وهي الخوف والوجل والإشفاق من الله عز وجل نعم من علم هذا سيخاف ولا بد، رضي الله عن الحسن البصري عندما يقول كما في حلية الأولياء (من علم أن الموت مورده وأن الساعة موعده وأن الوقوف بين يدي الله مشهده حقيق به أن يطول حزنه في هذه الحياة، وأن يخاف من رب الأرض والسموات) الموت سترده ولا شك في ذلك، والقيامة موعدك لا شك في ذلك، سيجمع الله الناس ليومٍ لا ريب فيه، ويحصي عليهم مثاقيل الذر {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره} ،
الموت موردنا والقيامة موعدنا والوقوف بين يدي الله مشهدنا ليحاسبنا على النقير والقطمير وعلى القليل والكثير، فمن استحضر هذا سيخاف ولا شك من الله الجلي {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} ويقو سيد المسلمين الحسن البصري أيضاً يقول عليه رحمة الله كما في الحلية (يكون الإنسان بين خوفين لا ينفك عنها وإن كان محسناً، إذا عاقلاً مهما وصل في درجة الإحسان وطاعة الرحمن هو بين خوفين لا ينفك عنها، ولا يفارقان قلبه طرفة عين، قيل له ما هما؟ خوفان يلازمان الإنسان قال ذنب مضى ما تدري بالله صانع فيه هل سيغفر لك أو ستعاقب عليه، وذنوب عملتها في ما مضى ونحن نخطئ في الليل والنهار، ونسأله أن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، إنه واسع الفضل والمغفرة، ذنب مضى لا تدري ما الله صانع فيه، وأجل بقى: أي من حياتك لا تدري ما أنت عامل فيه يا عبد الله، إذا كنت الآن في نعمة الإيمان هل تعلم أن هذه النعمة ثتثبت لك على الدوام.
نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولذلك إذا كان الأمر كذلك حقيقة الإنسان بين خوفين لا ينفك عنها لا يعلم ماذا سيعمل في المستقبل ولا يعلم بأي شيء سيعامله في ما جرى منه، ولذلك كان الحسن البصري عندما يقال له: أمؤمن أنت فيقول: أرجو، قيل له: أشك يا أبا سعيد؟ أتشك في إيمانك؟ قال ليس بشك، لكن ما يدريني أن الله اطلع علي ذنب من ذنوبي فقال: يا حسن اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني أن الله اطلع على عمل من أعمالي السيئة وعلى ذنب من ذنوبي وعلى عيب من عيوبي فمقتني، فقال: اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني بأي شيءٍ سيختم للك، لا تدري، ما جري منك ما حاله عند الله، ما تدري، أنت بين خوفين لا ينبغي أن يفارق قلبك طرفة عين، {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
اخوتي الكرام: أخبرنا ذو الجلال والإكرام أننا سنرد على النار وهذه قضية مفروغ منها وهل سننجو أم لا؟ لا يعلم هذا إلا الله {فوربك لنحشرهم والشياطين ثم لنحضرنَّهم حول جهنَّم جثيّاً * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً * ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها يصلياً * وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً *} هذه النجاة هل تضمنها لنفسك يا عبد الله.
ثبت في كتاب المصنف للإمام ابن أبي شيبة، وكتاب الزهد للإمام أحمد عن الحسن البصري رضي الله عنه وعن سلفنا أجمعين قال: (كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا ألتقيا يقول أحدهما لصاحبه: هل أخبرك أنك سترد على النار قال: نعم، أخبرنا بذلك، وأن الله أخبرنا أننا سنرد على النار فيقال له: هل أخبرت أنك ستصدر عنها وتخرج منها وعندك صك بذلك؟ فيقول: لا، فيقول كل واحد لصاحبه، فعلام نضحك؟ وعلام الضحك؟ عندنا الآن إثبات بالورود على النار لكن بالخروج منها والصدور عنها هل تجزم ذلك لأنفسنا أم لا، لا يعلم ذلك إلا الله {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً *} .
انظروا اخوتي الكرام لهذه القصص التفصيلية لهذا الإجمال الذي ذكره الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله وسأذكر قصتين فقط، قصة لصحابي وقصة لتابعي رضي الله عنهم أجمعين.
أما الصحابي فهو عبد الله بن رواحة استحضروا قصته وطبقوها على قول الله تعالى {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} روى الإمام أحمد في الزهد والأثر رواه وكيع وعبد الله بن المبارك، وهنَّاد بن السري في كتابه كتب الزهد لهم أيضاً، والأثر رواه عبد بن حميد في مسنده وابن أبي شيبة في المصنف ورواه الإمام الطبري في تفسيره ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ورواه البيهقي في دلائل النبوة والبعث، وإسناد الأمر صحيح لكن فيه إرسال كما سأوضح عن قيس بن حازم، وقيس تابعي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، لكن تكتحل عيناه لرؤية نبينا صلى الله عليه وسلم فما قدر له أن يلتقي به، لكنه كان في زمانه ولو ألتقى به لثبت له شرف الصحبة، وذلك يقال له: مخضرم، توفي سنة تسعين للهجرة 90هـ أو بعده أو قبلها وقد جاوز المائة وهو من أئمة التابعين الصالحين، حديثه مخرج في الكتب الستة، وهو من روي عن العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم، رواية قيس بن أبي حازم عن صاحب هذه القصة وهو عبد الله بن رواحة مرسلة فلم يلتقي به ولم يسمع ذلك منه، نعم قصة بكاء عبد الله بن رواحة المذكورة في هذه الآية، واردة من عدة طرق يتقوى بعضها ببعض، فالأثر صحيح وخلاصته أن عبد الله بن رواحة كان متكئاً في حجر زوجته وهي تفلي شعره كداعبة وهو في حجرها في حال معاشرة أباحها الله، فبكى رحمه الله ورضي عنه، فبكت زوجته لبكائه، فلما انتهت عنهم العبرة وانقطع بكاؤهم قال لزوجته على ما بكيت؟ قالت: رأيت بكيت فبكيت، فما أبكاك أنت؟ سبحان ربي العظيم يعاشر زوجته ورأسه وحجرها لكن قلبه {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} قلبه في الآخرة وإن كان البدن مع الزوجة، ما يعلم هل سيستقر في النار أو سيكون مع الأبرار في الجنة بجوار العزيز الغفار، بكيت فبكيت فما أبكاك؟ قال: ذكرت قول الله جل وعلا: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً} أخبرنا الله في هذه الآية أننا
سنرد على جهنم وأننا سندخلها ولكن ما أعلمها أنني سأخرج منها أو أصدر عنها أم لا فهذا الذي أبكاني، حقيقة الذي يتفكر في هذا يتفطر قلبه.
اخوتي الكرام: وهذا بين لنا معنى الورود ومعناها الدخول وهو أحد القول في تفسير الورود في قول ربنا المعبود {وإن منكم إلا واردها} أي داخلها.
والقول الثاني:- أن المراد من الورود هو المرور على الصراط المنصوب على متن جهنم وفوقها وظهرها وعليه لا يدخلون إلى داخلها، لكن يمرون فوقها، فمن كان تقياً يمر ولم يسقط، ومن كان مخلطاً مفرطاً سقط من الصراط إلى قعر جهنم، ولا تنافي بين التفسيرين وسيأتينا إيضاح هذا عند أحوال يوم القيامة، فمن فسر الورود بالدخول أخبر كما ورد في الآثار ولكما قلت سيأتينا تقرير هذا وتفسيره أن المؤمن إذا دخل النار تكون عليه كالحمام، لايتأذى بحرها ولا يصطلي بنارها وتكون عليه كحال النار التي كانت على خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في هذه الحياة ومن فسر الورود بالمرور فهذا أمر واضح لا يدخلون النار، إنما يمشون فوقها على الصراط الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف ومع ذلك لا يثبت هو ضمن مزلة، يمرون عليه، هذا المرور هو الورود وعلى الحالتين لا يقاسون العذاب فيها إن كانوا من المتقين، إذاً أخبرنا أننا سنرد لكن هل سنخرج ونصدر ما عندنا بعد ذلك يقينياً في ذلك، هل تتحقق فينا الصفات وهي التقوى لرب الأرض والسموات، وكل إنسان يعلم ما عنده من تفريط وكدر وذلك عندما يستحضر الإنسان هذا ينطبق عليه هذا الوصف {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
والقصة الثانية اخوتي الكرام: رواها الإمام أحمد أيضاً في الزهد وهناد بن السري في الزهد أيضاً ورواها عبد الله بن المبارك في الزهد، والإمام الطبري في تفسيره وابن أبي شيبة في المصنف ورواها الإمام أبو نعيم في الحلية ع التابعي الجليل وهو مخضرم أيضاً أدرك الجاهلية والإسلام ولم يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل من الأئمة الصالحين توفي سنة ثلاثة وستين للهجرة 63هـ حديثه مخرج في الكتب الستة إلا سنن الإمام ابن ماجة، هذا العبد الصالح تقول زوجته كان كلما دخل معها في الفراش يبكي ويقول: يا ليت أمي لم تلدني، فلما تكرر منه هذا قالت له زوجته علام تقول هذا؟ قد أنعم الله عليك بالإسلام وفعل وفعل وأنت من العلماء الربانيين في هذه الأمة، علام تقول هذا؟ قال: يا أمة الله أخبرنا الله جل وعلا أننا سنرد على النار {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً *} وما أعلم هل سأخرج منها أم لا كلما يضجع في فراشه يتذكر ذلك اليوم الذي لا يغيب عن المؤمنين طرفة عين {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} عشرة مع زوجته في الليل لكن قلبه مع ربه يفكر فيما سيؤول حله عندما سيرد النار، هل سيخرج منها أم لا.
اخوتي الكرام: وما جرى من هذا التابعي المخضرمي الجليل المبارك من قوله (يا ليت أمي لم تلدني) أثر هذا عن عدد من السلف الكرام من صحابة وتابعي رضوان الله عليهم وليس في ذلك اعتراض على تقدير رب العالمين، إنما في ذلك إتهام للنفس واعتراض بتقصيرها، وفي ذلك خشية من خالقها وفاطرها وبارئها وهو الله جل وعلا، وهذا معنى الأثر ولا أقول هذا اعتراضاً على الله عز وجل (يا ليت أمي لم تلدني) .
إذاً اخوتي الكرام: هذا حال الخوف وتعريفه، احتراق القلب، تألم القلب بتوقع مكروه يقع في المستقبل عن أمارة معلومة أو مظنونة، فمن علم ماذا سيكون بين يديه فما سيستقبله عند لقاء ربه، ينبغي أن يطول حزنه في هذه الحياة وأن يكثر خوفه من رب الأرض والسموات، وهذا هو نعت المؤمنين الذين يعمرون بيوت رب العالمين {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} . وبعد تعريف الخوف يحسن بنا أن ننتقل إلى بيان منزلة الخوف في الإسلام، ودرجة الخوف في الإسلام، وهل هو من أركان العظام أو هو من المستحبات والمندوب إليها في شريعة الإسلام.
اخوتي الكرام: لا بد من وعي هذه القضية، فالله جل وعلا ذكر في صفات هؤلاء العباد الطيبين الذين يعمرون، هذه الحياة لا تلهيهم تجارة لا بيع، وهذا واجب، ومن آله، هذه الحياة عن طاعة رب الأرض والسموات فهو في النار ثم بعد ذلك يقيمون الصلاة واجب ثم بعد ذلك يؤتون الزكاة يشفقون على عباد الله واجب، ثم يخافون هذا أوجب الواجب، ولا يمكن أن تقبل شيء من ذلك الاعتبارات والأمور والواجبات إلا بعد تحقيق الخوف من رب الأرض والسموات.
اخوتي الكرام: الخوف له منزلة عظمية في الإسلام والخوف مع الرجاء للإنسان كالجناحين للطائر من الحيوان، فإذا كان الطائر لا يمكن أن يطير بغير جناحه لا يمكن للإنسان أن يسير على هدىً وأن يعبد المولى جل وعلا في هذه الحياة إلا إذا اتصف برجاء الله والخوف منه. خوف ورجاء، وهما كما قلت للإنسان كالجناحين للطائر، وقد قرر هذا أئمتنا الكرام الأبرار، نقل هذا أئمتنا عن العبد الصالح أبو علي الروذباري وهو من العلماء الربانيين والصالحين في هذه الأمة توفي سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة للهجرة 323هوهو أبو علي الروذباري أحمد بن محمد بن القاسم، والروذباري يقول علماؤنا هذه كلمة تقال على أماكن اجتماع أنهار الكبار وكان هذا من الصالحين وكان شيخ المتصوفة الصادقين في بلاد مصر في القرن الرابع للهجرة، وكما قيل له: من الصوفي؟ قال: الصوفي هو من لبس الصوف على الصفا واتبع طريق النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأذاق الهوى طعماً الجفى، وكانت الدنيا منه على قفى، عبدٌ صالح من العلماء الصالحين، وأما ما يتعلق بمبحث التصوف وما دخله من خلط وتكرير، وهذا موجود في سائر الجماعات والفرق التي دخلها خلط وتكرير يأتينا الكلام بالتفسير عن هذه الفرقة بعون الله لنتبين الصادق من الكاذب ممن ينتسبون إلى التصوف.
اخوتي الكرام: هذا من أئمة الصالحين الربانيين وأئمتنا يقولون كان ذا عقلٍ وفضل، ومن كلامه المحكم يقول في طيب الآخرة عز النفوس وفي طلب الدنيا مذلة النفوس فيا عجب لمن يكثر الذل في طلب الفاني على العز في طلب الباقي، ويروي عنه أبي نعيم في الحلية والإمام ابن كثير في البداية والنهاية، والإمام القشيري في الرسالة أنه قيل عمَّن يزعمون أنهم يستمعون الملاهي آلات العزف والغناء والموسيقى ويقول إنها لا تؤثر فيهم لأنهم وصلوا إلى حالة لا يؤثر فيهم اختلاف الأحوال، قال صدقوا، وصلوا إلى سقر، وصلوا ولكن إلى سقر لأن هذا ليس من طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، والتصوف الحق أن تتبع طريق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال، (ومن ادعى أنه وصل إلى حالة يسقط عنه فيها التكليف فهو أحط من البهيمة عند الله جل وعلا، وأولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) يستمع الملاهي ثم يقول لا يؤثر فيَّ اختلاف الأحوال وهي في حق حلال لأنه واصل، واصل ولكن إلى سقر، يقول هذا العبد الصالح (الخوف والرجال للإنسان كالجناحين للطائر فإذا استويا تم طيرانه، وإذا وقع النقص في أحدهما نقص الطيران بمقدار النقص الذي في هذا الجناح، فإذا عدم الجناحان وعدم الخوف والرجاء من الإنسان فالطائر في حكم الموت وهكذا من فقد الخوف والرجاء فكأنه خرج من الإيمان.
اخوتي الكرام: خوف ورجاء، خوف ورجاء للإنسان في هذه الحياة كالجناحين للطائر، وهذا ما أشار إليه الإمام الحسن البصري عندما قال:(الخوف والرجاء مطيتا المؤمن يركبهما في هذه الحياة ويركب مطية الخوف ليترك المحرمات ويركب مطية الرجاء ليفعل الطاعات ويركب مطية الرجاء ليرجوا نعيم الجنات، يركب مطية الخوف ليحذر جهنم والدركات)
إذاً الخوف والرجاء مطيتا المؤمن.
إخوتي الكرام: قرر علماء الإسلام أن عبادة الله جل وعلا واجبة على العبيد في هذه الحياة، والله خلقنا من أجله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وقال علماؤنا الكرام وروح العبادة وجوهرها محبة الله جل وعلا، وهذه المحبة لها دعامتان، ركنان لا يمكن أن تكون المحبة تامة كاملة إلا بهما، خوف ورجاء، وعليه الدين كله يقوم على هذه الأمور الثلاثة، لا يمكن أن يعبد الإنسان عبادة حقة بدونها، محبة الله، خوف منه، رجاء له، قرر هذا أئمتنا الكرام كما ذكر شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في كتابه القيم التحفة العراقية في مطبوع وموجود في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر من أول المجلد إلى نهاية الصفحة تسعين التحفة العراقية في الأعمال القلبية، وهذا قرره تلميذه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين أن أركان العبادة ثلاثة، حب، وخوف، ورجاء، مقرر هذا أيضاً في مدارج السالكين، وهذا منقول عن أئمتنا التابعين، يقول مكحول الدمشقي الذي توفي سنة بضع وعشر ومائة وهو من التابعين وقال أئمتنا إنه أفقه من الإمام الزهري يقول هذا العبد الصالح وهو من رجال مسلم والسنن الأربعة، ثقة عدل الرضا يقول:(من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق، ومن عبده بالحب فقط فهو شقي زنديق، ومن عبده بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي) وشرح كلامه أن من قامت فيه هذه الأمور الثلاثة محبة الله ووجد ركنا المحبة والخوف والرجاء فقد انضبط سلوكه في هذه الحياة وعبد الله كما يريد الله وكما يحب، فهذا موحد صديق، وسيأتينا تقرير هذا بكلام الله المجيد ن ومن عبد الله بالحب فقط دون خوف ولا رجاء فهذا زنديق، يدعوه الإدلال والبسط أن يعامل محبوبه وهو الله كما يعامل المحبوبة من البشر فيقول معه حالاً، ينبغي أن يقوله في حق الله جل وعلا، ويحمله الإدلال والبسط مع ربه أن ينزل الله كأنه مخلوق من المخلوقات، فمن عبد الله بالحب فقط فهو زنديق، ويأتي شيءٌ ضل
اليهود والنصارى عندما زعموا أنهم أبناء الله وأحباءه، وأن الله لن يعذبهم ومهما فعلوه فهو مغفور لهم، وهكذا من عبد الله بالحب دون خوف ورجاء فنهاية أمره إلى الزندقة سيستمع الملاهي ويقول إنها لا تؤثر فيه، نعم وصل ولكن إلى جهنم، ومن عبد الله بالخوف فقط، أي: دون محبة دون رجاء فهو حروري والحرورية هم الخوارج عندما اجتمعوا في بلدة حروراء في ظاهر الكوفة فنسبوا إليها، وهؤلاء دينهم واعتقادهم قائم على التخويف، فلا رجاء عندهم ولا محبة منهم لربهم جل وعلا ولو أخطأ الإنسان خطيئة في هذه الحياة حكموا بكفره وخلود في نار جهنم، من عبد الله بالخوف فقط فهو حروري، أي من الخوارج الضالين، ومن عبد الله بالرجاء والأمل، رجاء وأمل دون خوف ووجل فهو مرجئي، والمرجئة هم الذين يقولون لا يضر مع كلمة الشهادة خطيئة، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وعليه من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله درجته مع درجة الصدِّيقين مهما فعل بعد ذلك من إثم ومعصيته لرب العالمين، مرجئي، حروري، زنديق، صديق، أربعة أصناف ولا يخرج الناس عن هذا، من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق، ومن عبد الله بالحب فقط فهو شقي زنديق، ومن عبد الله بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئي، هذه الأمور الثلاثة وهي أركان العبادة قررها الله جل وعلا في كثير من آيات القرآن من ذلك قوله جل وعلا في سورة الأنبياء {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} يسارعون في الخيرات لحبهم لنا وبطلبهم المنزلة عندنا، ويدعوننا رغباً راجين، رهباً خائفين.
إذاً هم يسارعون في الخيرات لمحبتهم لله، ويرجون رحمة الله، يخافون من عذاب الله، وضمير الجمع في قوله {إنهم} ذكر أئمتنا في بيان مرجعه قولان، يجمع بينهما ولا تعارض بينهما.
القول الأول: أن الضمير يعود إلى من تقدم ذكرهم من أول سورة الأنبياء إلى هذا الموطن، فذكر الله في سورة الأنبياء موسى وهارون، وذكر إبراهيم، وذكر لوطاً، وذكر إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وذكر أيضاً في سورة الأنبياء داود وسليمان وأيوب وذا الكفل وذا النون، ثم جاء إلى آخر من ذُكِرُوا في هذه الآية {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيي وأصلحنا له زوجه، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} فجمع من تقدم ذكرهم من أنبياء الله هذا وصفهم، وذهب بعض الأئمة الكرام إلى قصر الضمير إلى آخر المذكور وهو زكريا وولده يحيي وأهل زكريا {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيي وأصلحنا له زوجه} .
هؤلاء الأصناف الثلاثة من زكريا وزجه وولده {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} وتخصيص من تعميم، ففي القول الأول دخل هؤلاء الصالحون المباركون مع من ذكروا قبلهم، والقول الثاني قال أن الضمير خاص بهم والأمر يسير، ويفهم من كلام الإمام بن كثير الميل إلى القول الثاني حيث نقل خطبة أبي بكر ونقلها عن تفسير ابن أبي حاتم وهي مذكورة أيضاً في حلية الأولياء في ترجمة أبي بكر، أنه خطب المسلمين فقال في خطبته (أما بعد أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، أي الخوف بالرجاء، الأمل بالوجل،، وأن تجمعوا بين الإلحاف والمسألة، الإلحاف وهي الإلحاح في السؤال، وسؤال ذي العزة والجلال، فإن الله ذكر زكريا وأهله فأثنى عليهم بذلك فقال {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيي وأصلحنا له زوجه، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} .
والشاهد على القول {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} لمحبتهم لرب الأرض والسموات، ويدعون الله طامعين خائفين راغبين راهبين، {وكانوا لنا خاشعين} ، وهكذا قول الله أيضاً في سورة الإسراء يقول رب الأرض والسموات {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً} .
أولئك الذين يدعون، أي تدعونهم وتعبدونهم من دون الله يتصفون بهذه الصفات، {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب} هم يتنافسون في طاعة الله ويريدون الحضرة عنده والمنزلة لديه لحبهم لربهم {ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً} .
والآية نازلة كما صحيح البخاري، والأثر رواه الحاكم في المستدرك، وهو في صحيح البخاري كما علمتم، والأثر رواه الإمام ابن جرير في تفسيره، والإمام الطبراني في معجمه الكبير، وهو موجود في كتب التفسير المتقدمة كتفسير ابن المنذر وابن مردويه، وتفسير ابن أبي حاتم، ورواه الإمام أبو نعيم في دلائل النبوة، وإسناد الحديث صحيح فهو في صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال هذه الآية نزلت في ناس من الإنس كانوا يعبدون ناساً من الجن، فآمن الجن بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم فبقي أولئك الناس من الإنس يعبدون هذا الفريق من الجن وهؤلاء الجن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبدءوا يحبون الله ويخافونه ويرجونه، فأنزل الله هذه الآية يعيرهم بها فيقول {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً *} أي من تعبدون من دوني هم يتقربون إليَّ بحبي ويرجوني ويخافوني، فاعبدوني كما عبدني من تعبدوه {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً *} والأثر كما قلت في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعودٍ، واستشكال الإمام بن التين لما ورد من لفظ في هذا الأثر، وهو عبد الواحد ابن التين توفي سنة إحدى عشر وستمائة للهجرة 611هـ، استشكاله ورود لفظ الناس في حق الجن (كان ناساً من الإنس يعبدون ناساً من الجن) وقال: الجن يطلق على خلاف الإنس، فكيف يستعمل لفظ الناس في حق الجن؟ فقال: هذا مشكل، يقول الإمام ابن حجر عليهما رحمة الله راداً هذا الإشكال: إن لفظ الناس هذا لا يراد منه الناس الذي يقابل الجن، إنما يراد منه اشتقاق اللغة من الناس ينوس إذا تحرك، وصفة الحركة موجودة في الإنس والجن، فكان ناس من الإنس الذين فيهم صفة الحركة والحيوية يعبدون ناساً من الجن يتحركون أيضاً، وليس المراد أن الناي من الجن أن
أفضل الناس لا يطلق على الجن لأن الجن يقابل الإنس، لا ثم لا، ثم ختم الإمام ابن حجر كلامه فقال: ليت شعري على من يعترض ابن التين على من يعترض، يعترض على الصحابي حجة في الشرع وفي اللفظ على الجن مراعياً هذا المعنى من الناس الذي هو الحركة والتحرك والإضراب فكان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، في كل من هذين الصنفين كما قلت حركة واضطراب، فأنزل هذه الآية يعيرهم بها.
وهذا الأثر ثابت في نزول هذه الآية لا يتعارض مع ما رواه ابن جرير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود أيضاً، أن الآية نزلت في صنف من العرب كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة، ويزعمون أنهم بنات الله جل وعلا، فأنزل الله هذه الآية يعيرهم ويعيبهم بها فقال {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً *} أي من تعبدونهم من الملائكة هم يعبدوني، فاتركوا عبادتهم واعبدوني كما عبدني الملائكة الكرام، وهذا الأثر كما قال عن الحافظ بن حجر إن شبت فيجمع بأن الآية نزلت رداً على الفريقين، على من عبد فريقاً من الجن ثم آمن أولئك الجن، وعلى من كان يعبد الملائكة الكرام ثم استشكل بعد ذلك فقال ظاهر الأثر يدل على أن المعبودين كانوا راضين بعبادة العابدين، والملائكة لم يرضوا بعبادة ذلك فالله أعلم بحقيقة الأمر ن والذي يظهر والعلم عند الله، أن هذا الاعتراض لا يرن، وأنه لا يلزم من عبادة المعبود أن يكون المعبود راضياً بعبادة عابده، فإذا عبد واحد من البشر من نبيٍ أو ملك لا يلزم من هذا أن يكون راضياً، فإذا كان الجن كانوا يُعبدَون في الجاهلية ثم أسلم من كان يُعبَد منهم، ففي حال جاهليتهم كانوا يرضون العباد، وفي حال إسلامهم يرفضونها، لا يعني هذا أن الإنسان إذا عبد ينبغي أن يكون راضياً سابقاً بالعبادة، لا يلزم هذا على الإطلاق، وليس في اللفظ ما يشير إلى ذلك والعلم عند الله جل وعلا، ولا يتعارض هذا مع ما ثبت في تفسير الطبري عن عبد الله بن عباس أن الآية نزلت فيمن عبدوا عيسى وأمَّه والعزير والشمس والقمر، فيمكن أن يقال أن الآية نزلت فيمَّن عبد غير الله وكان ذلك المعبود يعبد الله، فالله أكبر العابدين، أن من تعبدونهم يعبدونني، فاتركوا عبادتهم واعبدوني {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً *} .
وخلاصة الكلام لابد من تحقيق هذه الأمور الثلاثة في عبادة الرحمن، محبة لله، ورجاء له، وخوف منه.
أما الخوف كما قلت والرجاء فهما للعبادة كالجناحين للطائر، وقد نوه الله جل وعلا بشأن الخوف الذين وصف الله عباده به في آية النور {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} يقول الله جل وعلا في سورة السجدة:{إنَّما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكِّروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون *} .
وهكذا يقول الله جل وعلا في سورة الأعراف {ادعوا ربكم تضرعاً وخُفْيةً وإنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً، إنَّ رحمة الله قريبٌ من المحسنين} فالخوف إذاً خصال أهل الإيمان، من خصال من يعمرون بيوت الرحمن {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
وهذه الصفة التي فيهم ينبغي أن تصرف نحو الله جل وعلا، ولا يجوز أن تصرف نحو أحد من خلق الله، فالمؤمن يخاف من الله وكفى، ولا يخاف من مخلوق مهما كان شأنه، وقد نهانا الله جل وعلا عن الخوف إلا منه وحذرنا من الخوف من غيره وأمرنا أن نخاف وأن نفرده بذلك سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا في سورة آل عمران {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا لهم أجرٌ عظيمٌ * الذين قال لهم الناس إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضلٍ عظيمٍ * إنَّما ذلكم الشيطان يخَوَّفُ أولياءه، فلا تخافوهم وخافوني إنَّ كنتم مؤمنين *} .
وهذه الآيات نزلت بعد ما حصل ما حصل في موقعة أحد، كما روى ذلك الإمام الطبري في تفسيره والإمام الطبراني في معجمه الكبير، والإمام النسائي في سننه الكبرى، وابن مردوية في تفسيره، وإسناد الأثر صحيح عن عبد الله بن عباس قال: لما انتهت موقعة أحد ورجع أبو سفيان الذي رضي كما يقال من الغنيمة بالإياب والسلامة والهرب، مال له المشركون ولأصحابه بئسما فعلتم، لا محمد صلى الله عليه وسلم قتلتم ولا الكواعب أردفتم، أم عملتم في هذه المعركة ما أتيتم بأسيرات من المؤمنات ولا قتلتم خير البريات، فبئسما فعلتم، جئتم تقولون انتصرنا، ما هو النصر الذي حصل لكم، لا محمد صلى الله عليه وسلم قتلتم ولا الكواعب أردفتم، وهي النساء التي تكعب ثديها في صدرها فبئسما ما فعلتم، فأخذت الحمية أبا سفيان وهم بالرجوع لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يأتي بالكواعب الحسان، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك استنفر الصحابة الكرام وشرط عليهم أن لا يخرج إلا من حضر موقعة أحد فقط ليعلم الكفار أننا إذا خسرنا في معركة لأمر من الأمور فما خسرنا الحرب في المعركة، كيف سينال شرف الشهادة {وتلك الأيام نداولها بين الناس} فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه من الصحابة الكرام وقد أصابهم القرح كما قال الله:{الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القَرح} وقرأ الأخوان حمزة والكسائي وخلف من العشرة وأبو بكر شعبة عن عاصم رضي الله عنهم، القرح بضم القاف {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القُرح} وقيل أن القراءتين بمعنى واحد كالضَعف والضُعف والفَقر والفُقر، وقيل أن القرح بالفتح هي الجراح والقتل، وبالضم الآلام الناتجة عن الجراح والقتل {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيمٌ *} خرجوا ووصلوا إلى حمراء الأسد، تبعد ثمانية
أميال 8 ميل من المدينة المنورة على منورها صلى الله عليه وسلم ينتظرون الجنان الذي يريد أن يسأر من النبي صلى الله عليه وسلم {من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم * الذين قال لهم الناس} وهم المنافقون ونعيم بن مسعود الأشجعي وكان على شركه وفريق من المسافرين قابلوا النبي الأمين صلى الله عليه وسلم وصحبه الطيبين فقالوا: كيف خرجتم للقاء أبي سفيان والمشركين جمعوا لكم جموعهم وأنتم لم تخرجوا إلا بمن بقي عندكم من موقعة أحد، ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والأثر مروي في غير صحيح البخاري عن هذا الصحابي الجليل (وعندما ألقي إبراهيم في النار قال (حسبي الله ونعم والوكيل) وعندما قال الناس لمحمد صلى الله عليه وسلم إن الناس قد اجمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) وهكذا قال صحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين {فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ} أما النعمة حصلوا أجر غزوة أخرى وحصلوا العافية لما جاء أبو سفيان ولَّى من معه من المشركين، والفضل بأعواد اشتروا وغنموا سرية في طريقهم للمشركين {فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله والله ذو فضلٍ * إنَّما ذلكم الشيطان يخَوِّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين *} {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} تحت من معنيين معتبرين يخوفكم أولياءه، يخوفكم بأوليائه، يخوفكم من أوليائه، الشيطان يخوفكم من المشركين فلا تخافوهم، أن لا يلقي الرعب إلا في قلوب أوليائه المشركون، وأما المؤمنون فيستعينون بالحي القيوم، فلا يخاف إلا من كان منافقاً ليس في قلبه خشية من خالقه، إنما ذلكم الشيطان يلقي الخوف في قلوب أوليائه من المنافقين {فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين *} نهى عن الخوف من غيره، وأمر بالخوف منه، وأوجب وجعل ذلك شرطاً للإيمان {وخافوني إنَّ كنتم مؤمنين} .
اخوتي الكرام: فينبغي أن نفرد الله جل وعلا بخوفنا كما نفرده برجائنا كما نفرده بحبنا، كما نفرد بسائر عباداتنا، فهو المعبود الذي تصرف جميع أشكال العبادة إليه، لا إله إلا الله وحده لا شريك، {فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين} وهذا المعنى التي دلت عليه الآية قبل أن أنتقل إلى تقريره بآيات أخرى تكملة الأثر الذي نقلته عن بن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية أيضاً وقال أبو سفيان بعد موقعة أحد (موعدكم يا محمد صلى الله عليه وسلم موسم بدر في العام القادم حيث قتلتم إخواننا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام إلى بدر في موسم بدر، وثبتوا هناك لكن أبا سفيان ومن معه ما أتوا، ولذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه (أما الشجاع وقد أعد أهبته وعدته، وأما الجبان فقد جلس في بيته) .
إذاً خرجوا لحمراء الأسد بعد موقعة أحد مباشرةً وعندما حدد ذاك موعداً في موقعة بدر في العام القادم خرجوا أيضاً وقابلوه في موسم بدر فما استطاع أن يقابل المسلمين في هذين المكانين بعد أن أصاب المسلمين ما أصابهم من قرح وقُرحٍ، الخوف ينبغي أن نفرد به ربنا ولا يجوز أن نخاف أحداً من غيره، دل على هذا آيات كثيرة في القرآن منها قول الله جل وعلا في سورة البقرة:{ومن حيث خرجت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون*} .
وهكذا قول الله جل وعلا في سورة المائدة: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم به النبيُّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون*} .
ونظيرها قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتيَ التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم وإياي فارهبون} .
وهكذا أمرنا الله جل وعلا أن نفرده بالخشية والخوف وأخبر أن هذا هو نعت العلماء العاملين الذين يدعون على بصيرة إلى رب العالمين، فقال ربنا الكريم في سورة الأحزاب {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً} .
اخوتي الكرام: هذا الأمر ينبغي أن نعيه تمام الوعي وأن نضبطه، ينبغي أن نفرد الله جل وعلا بحبنا وخوفنا ورجائنا، ويجمع أشكال العبادة فلا يستحق ذلك إلا هو سبحانه وتعالى قال شيخ الإسلام الإمام بن تيمية قال (من الناس من يقول أنا أخاف الله وأخاف من لا يخاف من الله لأن من لا يخاف من الله ظالم لا يردعه شيء عن ظلمه فأنا أخاف الله وأخاف ممن لا يخاف الله) قال: هذا غلط وهذا كلام باطل، نخاف الله ولا نخاف غيره، لا إن كان ذلك الغير يخاف من الله أولاً يخافه، نفرد الله جل وعلا، فإن من قيل إن من لا يخاف الله لا يتقي الله فقد يظلمنا ويبطش بنا ويوقع القوبة علينا؟ فالجواب: نقول كما قال الإمام ابن تيمية (لو اتقيت الله وعبدته حق العبادة، ولم تخف أحداً دونه لكفاك شر هذا الظالم ورد كيده في نحره سبحانه وتعالى وأنت ما أوتيت أي ما سلط عليك هذا الظالم إلا لتفريطك في طاعة ربك وإلا لخوف من غير ربك جل وعلا، فلما خفت هذا المخلوق سلطه الله عليك، ولو أفردت الله جل وعلا بالخوف ولن تخف غيره لكفاك ما عداه {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إنَّ الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيءٍ قدراً} .
اخوتي الكرام: هذه النقطة تحتاج إلى شيءٍ من التقرير والتوكيد أيضاً والإيضاح، وكان في نيتي أن أكمل الكلام عليها في هذه الموعظة وأكمل ما يتعلق بهذه القضية أننا نفرد الله بخوفنا إن شاء الله في أول الموعظة الآتية ثم أكمل مراحل البحث إن شاء الله.
أقول هذا القول واستغفر الله.