الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نية الصيام
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
نية الصيام
3/2/1995
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة طاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: فيا إخوتي الكرام..
وعدت في الموعظة الماضية أن نجعل مواعظ شهر رمضان حول أحكام الصيام، وفي هذه الموعظة المباركة سنتدارس حكماً من هذه الأحكام الحسان ألا وهو "نية الصيام" وسيقوم البحث على ثلاثة أركان:
1.
على تعريف النية
2.
على منزلة النية ووجوب إخلاص النية لرب البرية.
3.
وقت النية في الصيام.
إخوتي الكرام: النية بالتشديد والتثقيل أفصح ن ويجوز التخفيف كما قرر علماء اللغة " النيَّة""والنِيَة " والنية هي الإرادة والعزم والقصد، وهي من أعمال القلب التي لا يطلع عليها إلا الرب سبحانه وتعالى ولذلك قال علماؤنا الكرام في تعريف النية على وجه العموم: هي انبعاث القلب نحو ما يراه نافعاً له في الحال والمال.. في العاجل والآجل.
إخوتي الكرام: ومع أن النية من الأعمال القلبية ولا يطلع عليها إلا رب البرية فقد قرر علماؤنا الكرام جواز التلفظ بها باللسان بل استحب ذلك جمهور أئمة الإسلام ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة رضوان الله عليهم أجمعين قالوا: يستحب التلفظ بالنية ليواطئ اللسان القلب وليكون الأمر أقوم قيلا وأشد تحقيقاً عند الإنسان لا سيما عند وجود الغفلة والسهو الذهول في بني الإنسان في آخر الزمان.
وهذا الذي قرره أئمتنا الكرام موجود في كتبهم إن شئتم أن تنظروا في المجموع شرح المهذب للإمام النووي 1/316 وانظروا المغنى للإمام ابن قدامة 3/26 وهكذا في سائر كتب أئمتنا –كما قلت- قالوا يستحب التلفظ بها ليواطئ اللسان القلب، وهذا الذي قرره أئمتنا يستند على فعل نبينا عليه الصلاة والسلام فقد صرح بنيته التي في قلبه الشريف عليه صلوات الله وسلامه صرح بها في لسانه في بعض المواطن.
ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لبى النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وحج فقال: " لبيك اللهم عمرة وحجاً " والتصريح بالعمرة والحج هذا تصريح بما نوى القلب بما عزم عليه القلب بما قصده القلب لبيك اللهم عمرة وحجا، قال بكر بن عبد اله المزني..وهو من أئمة التابعين الطيبين وقد لقي أنس بن مالك وابن عمر وابن عباس وغيرهم من الصحابة الأكياس وروى عنهم وهو ثقة جليل القدر فاضل كبير توفي سنة 106هـ وحديثه في الكتب الستة وقد قارنه أئمتنا بشيخ الإسلام بن سيرين وبسيد المسلمين الحسن البصري وكان سليمان التميمي يقول: الحسن البصري شيخ أهل البصرة وبكر بن عبد الله فتاها ذا شيخها وهذا فتاها وكان معروفاً بإجابة الدعوة يقول: فلقيت عبد الله بن عمر فحدثته بذلك أي بحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبّى بعمرة وحج فقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده يقول فعدت إلى أنس فأخبرته بقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهم فتأثر أنس وقال: ما تعدّوننا إلا صبياناً والله لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بعمرة وحج فقال لبيك بعمرة وحج، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ".
وهنا كما ترون إخوتي الكرام تصريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بما نواه أراه وعزمه وقصده في قلبه وهذا عمدة أئمتنا الكرام في جواز التلفظ بالنية بل استحباب ذلك، وعليه إذا أراد أن يصوم فيقول اللهم إني أريد الصيام فأعِنِّي عليه ويسره لي وتقبله مني كما يقول إذا أراد أن يحرم بحج أو غير ذلك ولا يشترط أن يرفع صوته إنما إذا أراد أن يعلم أهله هذه النية فهذا عمل صالح مبرور وهكذا إذا أراد أن يصلي يحرك لسانه بحيث يسمع نفسه، أنه يصلي صلاة كذا لله عز وجل فكل هذا قرره علماء الإسلام وعليه الجمهور من أئمتنا الكرام ومذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وأما ما ذهب إليه بعض المتأخرين من أئمة المسلمين كالإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية من |أن التلفظ بالنية بدعة وقد كتب ابن القيم رحمة الله عليه في ثلاث صفحات في إغاثة اللهفان 1/136 فما بعدها وهذا الكلام الذي صدر من هذين الإمامين المباركين له عندي تأويلان:
التأويل الأول: إن قصدا أن التلفظ بالنية بدعة حسبما شاع عند الموسوسين في العصور المتأخرة فإذا أراد أن يصلي يقول ديباجة طويلة بحيث تفوته تكبيرة الإحرام وأحياناً يعيد ديباجته بحيث تفوته الركعة فإذا ركع الإمام أسرع بعد ذلك في التلفظ بالنية ودخل مع الإمام هذه وسوسة وهذه بدعة والغلو في أي شيء كان مذموم، كما يقوله بعض العوام: نويت أن أصلي أربع ركعات فرض صلاة الظهر /فرض صلاة العصر حاضراً مستقبل القبلة الشريفة مقتدياً بهذا الإمام، ويقول هذه الديباجة ثم بعد ذلك يعيدها، يعيدها ويعيدها فلا شك أن التلفظ بذلك بحيث يشوش على الحاضرين ويقول هذه الديباجة الطويلة كما قلت هذا منكر وهذه بدعة وهذا مذموم وينبغي أن يمنع منه المسلمون. أما لو أن الإنسان قالها بلسانه عندما يريد أن يحرم بصلاته كما هو الحال عندما يريد أن يحرم بحجة..بصيامه..بغير ذلك قال بحيث يسمع نفسه ليستحضر ما يريد أن يفعله بقلبه وبلسانه وبجميع جوارحه باقتصاد دون تشويش على أحد من العباد فلا حرج، فإن قصد هذان الإمامان ومن تبعها هذا الأمر فهما على حق وصواب وهذا كما قلت مذموم ما ينبغي أن يقوله العباد.
وأما إن قصدا أن مجرد التلفظ بالنية بدعة فهذا كما قلت إخوتي الكرام يصادم ما عليه جماهير أهل الإسلام، وقد تقدم معنا مراراً أن القول إذا احتمله الدليل وقال به إمام جليل لا يجوز أن نحكم عليه بالبدعة والتضليل وهنا قول يقرره ثلاثة من أئمتنا الكرام وهذا القول يشهد له في الجملة حديث ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام فالقول بأنه بدعة لا يستقم حسب قواعد الإسلام والعلم عند ذي الجلال والإكرام.
النية نعم محلها القلب، وركنها الركين، ينبغي أن تكون في قلب الإنسان عندما يريد أن يقوم بعبادة رب العالمين ينبغي أن يريد ذلك العمل وأن يقصده وأن ينويه وان لا يفعله وهو غافل عنه فإذا حصل هذا بقلبه صح بعد ذلك عمله سواء تلفظ بلسانه أم لا، نعم يجوز بل يستحب التلفظ للأمرين اللذين ذكرتهما ليتواطئ اللسان مع القلب ولها أثر عن نبينا عليه الصلاة والسلام من تلفظ بالنية في بعض العبادات التي يتقرب بها إلى ربه الرحمن.
الأمر الثاني: منزلة النية وضرورة الإخلاص فيها خالصاً لوجه ربك، دون اعتبار من الاعتبارات الأخرى تصوم لأن الله أمرك بالصيام وهكذا كل عبادة تقوم بها لأن الله أمرك بها فهذه النية الصالحة ينبغي أن تحصل في قلبك ألا وهي: أنك تقوم بهذا العمل لله تعالى تعظيما له سبحانه وتعالى فالنية في العمل كالروح للجسد وروح الأعمال النيات الصالحة لذي العزة والجلال وعمل بلا نية ميت كما أن الجسد بلا روح ميت ولذلك إذا أردت أن تقوم بعمل فانْوِ التقرب إلى الله عز وجل وقد كان سلفنا الكرام يتعلمون النية قبل العمل كما يتعلمون العمل وذلك لأن العمل كم غير نية "عناء" والنية من غير إخلاص ضياع وهباء والأمر كما قال: أئمتنا الأتقياء رحمة الله عليهم أجمعين: "الناس كلهم هلكى إلا العالمين، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملين والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصين والمخلصون على خطر عظيم "وهذا الكلام إخوتي الكرام لا يصح دفعه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فليس هو من كلامه إنما هو كلام أئمتنا الكرام وقد نسبه الإمام أبو الليث السمرقندي في كتاب تنبيه الغافلين ص244 إلى سيد المسلمين الإمام العارف الرباني سهل بن عبد الله التستري المتوفي سنة 283هـ وكثير من العلماء يوردون هذا الكلام كما فعل الإمام الغزالي في الإحياء 4/351 بصيغة أخرى فيقولون: "الناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم".
وقد قال الإمام الصغاني في موضوعاته هذا الكلام مفترىً ملحون، يريد أنه لم يثبت عن نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام وهو بهذه الصورة ملحون لأنه جاء الرفع في لفظ العالمين العاملين والمخلصين، وينبغي أن يكون ذلك بالنصب على أن الإمام السيوطي رحمه الله خرّج ضبط الرفع فقال: يجوز أيضاً الإبدال في الاستثناء الموجب وعليه يكون العالمون والعاملون والمخلصون بدل مما قبله يجوز الإبدال من الاستثناء الموجب عند العرب وإن كان المشهور في لغة العرب أن يكون بالنصب الناس كلهم هلكى إلا العالمين لكن يجوز الرفع على لغة بعض العرب كما قرر ذلك الإمام السيوطي وعليه لا لحن في الكلام بالرواية الثانية نعم لا يثبت مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام إن هذا من كلام العبد الصالح العارف سهل بن عبد الله التستري وقد نقل عنه الإمام الخطيب البغدادي في كتابه الجليل "اقتضاء العلم العمل ".
وهكذا الإمام أبو نعيم في الحلية نقلاً عن هذا العبد الصالح ما يشبه هذا القول فكان سهل بن عبد الله التستري يقول: العلم دنيا والعمل به آخره، العلم لذة من لذات الدنيا ولا يكون صاحبه من أهل الآخرة إلا إذا عمل بعلمه، وكان يقول كما في الكتابين المتقدمين: العلماء كلهم سكارى إلا من عمل بعلمه، والعاملون كلهم حيارى إلا من أخلص لربه وكان يقول: الدنيا موات وغفلة والعلم بينه وحجة والعمل من غير إخلاص هباء والإخلاص وعلى خطر حتى يختم لك به فيا أيها الإنسان أخلص النية لربك الرحمن في الصيام وفي غيره من طاعات الرحمن.
واعلموا إخوتي الكرام: أن الإنسان يعامل على حسب نيته فيصح عمله أو يبطل يثاب عليه أو يعاقب على حسب ما يقوم في نيته من معنى من تعظيم لله أو من إرادة لغير وجه الله فإن عظّم الله قبل العمل وإن أراد غير وجه الله عز وجل بطل العمل ولذلك كان أئمتنا الكرام يقولون: تخليص النيات على العمال أشق عليهم من سائر الأعمال وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا في أحاديثه الصحيحة الكثيرة الوفيرة منها الحديث المشهور بين المسلمين وهو في مسند الإمام أحمد والصحيحين والسنن الأربعة من رواية سيدنا عمر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
إنما الأعمال بالنيات صحة وفساد ثواباً وعقاباً قبولاً ورداً وإنما لكل امرئ ما نوى فمن هاجر صادقاً مخلصاً إلى الله ورسوله فأجره عند الله لن يضيع. ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهو خاطب وتاجر وليس بمهاجر فهجرته إلى ما هاجر إليه إنما الأعمال بالنيات. وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي هو ذروة سنام الإسلام وهو الجهاد في سبيل الله.
إذا أراد المجاهد بجهاده عرض الدنيا ولم يُرد وجه ذي الجلال والإكرام فليس عند الله من خلاف وليس له إلا ما يحصّله في هذه الحياة من متاع ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي والحديث رواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح أقره عليه الذهبي من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى".. قوله إلا عقالاً إلا حبلاً يربط به بعيره ودابته فليس له إلا ما نوى.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ملائكة الله عندما تصعد إلى الله تعالى بصحف أعمال العباد يقبل بعضها ويرد بعضها ويقول للملائكة اكتبوا لهذا العبد شيئاً نواه وما اطلعتم عليه ثبت الحديث بذلك وقد رواه الإمام الداراقطني وحسنه شيخ الإسلام الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء وانظروا في تخريج أحاديث الإحياء في المكان الذي أشرت إليه آنفا عند كلام الإمام الغزالي 4/351 يقول رواه الداراقطني بإسناد حسن ولفظ الحديث من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد الملائكة إلى الله جل وعلا بها (بهذه الأعمال) بصحف مختمة (مختومة) فتطرحها بين يدي الله عز وجل فيقول الله جل وعلا: ألقوا صحيفة كذا وصحيفة كذا، واكتبوا لعبدي فتقول الملائكة ربنا ما كتبنا إلا ما عمل، وذاك العمل ما عمله فيقول الله جل وعلا إنه لم يرد بما فيها وجهي نعم..صام وصلى وحج واعتمر وزكى وجاهد، لكن لم يرد ذلك بوجهي فما في هذه الصحف اطرحوه والله ما يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً وأما ذاك العمل الذي يعمل فيقول الله جل وعلا: إنه قد نوى ما في هذه الصحف مما عمله ما أراد به وجه ربه فاطرحوه واكتبوا له كذا وكذا لأنه نواه.
إخوتي الكرام.. لابد من إخلاص النية لذي الجلال والإكرام وإذا كان إخلاص النية ضرورياً في جميع الأعمال فينبغي أن نخلص النية لذي العزة والجلال في الصيام على وجه الكمال لأن الصيام فيه شبه لتوحيد ذي الجلال والإكرام الصيام من بين سائر أركان وأمور الإسلام والإيمان هو الذي يشبه توحيد ذي الجلال والإكرام ولذلك أضافه إلى نفسه ربنا الرحمن فقال في الحديث الثابت في الكتب الستة وغيرها من دواوين الإسلام: الصيام لي وأنا أجزي به، وذلك لأنه سر بينك وبين ربك كحال الإيمان كم من إنسان يقول: آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين الإيمان ركنه الركين التصديق الجازم بالقلب الذي لا يطلع على ما فيه إلا رب العالمين وهكذا الصيام فيه شبه تام بتوحيد ذي الجلال والإكرام ولذلك أضافه الله إلى نفسه فإذا كنت تخلص النية لربك في جميع عملك فحقق النية على التمام في صيام إخوتي الكرام قد يزِل الإنسان في عمله ويقصّر لكن ما ينبغي أن يزل في نيته وما ينبغي أن يدنس نيته بوجه من الوجوه ولذلك إن جرت من المؤمن أخطاء وهفوات وزلاّت لا تتعدى عمله الظاهري بجوارحه وكل بني آدم خطّاء وأما من يزل في نيته وأن يدنس ما في قلبه فلا ثم لا.
وقد أشير إلى حال المؤمن في الحديث المرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام " نية المؤمن خير من عمله " والحديث رواه الإمام الطبراني في المعجم الكبير وأبو نعيم في الحلية والخطيب في تاريخ بغداد من رواية سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير أيضاً من رواية النواس بن سمعان رضي الله عنه ورواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام العسكري من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه ورواه الإمام الديمكي من رواية أبي موسى الأشعري ورواه أبو الشيخ في الأمثال من رواية ثابت البناني مرسلا إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهو من رواية أربعة من الصحابة سهل بن سعد والنواس بن سمعان وأنس بن مالك وأبي موسى وروى مرسلا أيضاً كما ذكرت والحديث من جميع طرقه ضعيف لكن كما قال الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة:"يتقوى بمجموع طرقه " ثم قال: ألفت فيه جزءاً في طرقه وفي بيان معناه نية المؤمن خير من عمله قد يزل الإنسان في العمل لكن نيته لا يمكن أن تنحرف عن الإخلاص لله عز وجل فالخطأ لا يتعدى أعماله الظاهرة للقصور والتقصير الذي جُبل عليه البشر أما أن ينحرف بقلبه عن ربه؟ لا ثم لا. قلبه مع الله في جميع الأوقات ومخلص له في جميع الحالات نعم قد يزل بجوارحه نية المؤمن خير من عمله.
والإمام ابن تيمية رحمة الله شرح هذه الجملة المأثوة في عدد من الصفحات وقررها انظروا كلامه على ذلك في مجموع فتاويه 10/670 وأعاد الكلام على هذا الأثر في مجموع الفتاوي أيضاً 22/242 وخلاصة كلامه بعد أن قرر وجودها كثيرة في أحقية وصدق هذا الكلام قال في تقرير معنى هذا الأثر وأنه حق وصواب وأن نية المؤمن خير من عمله يقول هذا الإمام المبارك: المؤمن يثاب على نيته المجردة وإذا نويت الخير ولو لم تعلمه بجوارحك تثاب عليه ولذلك نية المؤمن خير من عمله والوجه الثاني في تقرير هذه الجملة المأثورة: أن من نوى خيراً وبذلك ما في وسعه لتنفيذه فعمل بعضة وعجز عن باقيه يكتب له أجر عمله من أوله لآخره لأنه نواه، وعزم على فعله ولما أراد أن ينفذه ما استطاع أن يقوم بجميعه نية المؤمن خير من عمله.
والأمر الثالث يقول: النية لا يدخلها فساد، النية الخالصة لا يدخلها فساد عندما يخلص لكن العمل قد يشوبه ما يشوبه من الفساد والضعف والنقص والأمر الرابع يقول: النية هي عمل الملك وبقية الأعمال هي عمل الجوارح القلب هو مَلِك الأعضاء وعمل الملك أشرف من عمل الجنود نية المؤمن خير من عمله فالنية عمل قلبي كما تقدم معنا..لا يطلع عليه إلا اللطيف القوي سبحانه وتعالى، عمل قلبي.. إذ هي عمل أشرف ما عندك من أعضاء هي عمل رئيس الأعضاء هي عمل المشرف على الأعضاء ألا وهو القلب هي عمل الملك لا يدخل عليها فساد، إذا عملت شيئاً وعجزت عن باقيه يكتب لك لنيتك النية المجردة..ولم لم يصاحبها عمل..تكتب لك، لهذه الأمور ولغيرها نية المؤمن خير من عمله.
والإمام الغزالي رحمة الله عليه في مبحث النية والإخلاص من كتابه الإحياء 4/355 قرر هذا المعنى في صفحات كثيرة وبوب عليها "باب نية المؤمن خير من عمله" أخي الصائم يا عبد الله إذا كنت تصوم لله وكما قلت صيامك فيه شبه بتوحيد ربك وصيامك أضافه الله إلى نفسه فأخلص النية ما استطعت لربك فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وله خالصاً "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة"(البينة /5) .
وأما الأمر الثالث إخوتي الكرام: وهو آخر الأمور وقت النية زمن النية الوقت الذي ينبغي أن تحصل فيه نية الصيام لذي الجلال والإكرام اتفق أئمة الإسلام على أنه إذا كان الصيام فريضة كصيام رمضان وقضاء رمضان وما شاكل هذا من أنواع وأقسام ينبغي على الصائم أن يبيت نية الصيام من الليل والوقت يمتد من الغروب إلى طلوع الفجر، إذا طلع عليك الفجر ولم تنو الصيام ما صح صومك ويجب أن تمسك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات لكن هذا الصيام لا يعتد به فلا بد من نية الصيام والنية وقتها مُوسّع من غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر ينبغي أن تنوي صيام رمضان صيام الغد، وعليه إذا أردت أن تفطر وتدعو بعد ذلك بالدعوات المأثورة عند الإفطار وتقول أسألك أن تقويني ربي على صيام الغد نويت صيام الغد عزمت على صيام الغد هذه نية وهكذا لو تسحرت بنية الصيام هذه نية ولا يضر أن تأكل بعد النية وتشرب لا يضر هذا على الإطلاق إنما نية الصيام في قلبك أنك ستصوم غداً لربك وإذا لم تبيت الصيام من الليل قبل أن يطلع الفجر فلا صيام لك وقد أشار إلى هذا نبينا صلى الله عليه وسلم.
ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة والحديث رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما ورواه الحاكم في المستدرك ورواه الداراقطني في سننه والدارمي في سننه وهكذا البيهقي في السنن الكبرى ورواه الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار والإمام ابن أبي شيبة في مصنفه والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ورواه الإمام ابن حزم بسنده في محلاه وهو في غير ذلك من دواوين الإسلام والحديث صحيحٌ صحيح نص على صحته عدد من أئمتنا الكرام منهم الترمذي والحاكم والذهبي وشيخ الإسلام الإمام النووي في المجموع والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ولفظ الحديث من رواية أمنا الطيبة الطاهرة المباركة سيدتنا حفصة بنت سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل".
وفي رواية: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل قوله يُجمع ويُجَمِّع كما قال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب، لا صيام لمن لم يُجمٍع /لمن لم يُجمِّع بالتخفيف والتشديد أي يستحضر هذا و
…
بقلبه لا صيام لمن لم يفرضه قبل طلوع.
ألفاظ واردة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل/ لا صيام لمن لم يُجمِع –لم يُجَمِّع الصيام من الليل لا صيام لمن لم يفرضه قبل طلوع الفجر. وأما رواية "لا صيام لمن لم ينو قبل طلوع الفجر " فقال الحافظ ابن حجر "لم أقف عليها " وأقول: لعل هذا الرفض رواه بعض من رواة في معناه لأنه صيام لمن ينو بمعنى لا صيام لمن لم يبيت والعلم عند الله جل وعلا. وثبت هذا المعنى عن عدة من الصحابة الكرام ثبت عن ابن عمر وأمنا عائشة وأمنا حفصة رضي الله عنهم كما في الموطأ للإمام مالك وشرح معاني الآثار للطحاوي والأثر أيضاً في سنن النسائي عمن تقدم ذكرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. أنهم قالوا " لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر".
وفي رواية إذا لم يجمع الرجل الصيام من الليل فلا يصم، وفي رواية أخرى:"لا يصومن إلا من أجمع الصيام قبل الفجر" فلابد من نية الصيام، لأن الصيام إمساك ولابد له من نية وهو عبادة خالصة محضة لرب البرية فلا بد له من النية وقد ثبت الحديث بذلك عن نبينا خير البرية عليه وآله صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام: وكما قلت على هذا اتفق أئمة الإسلام لكن اختلفوا بأمر فيه توسعة على عباد الرحمن ألا وهو: هو تشترط لكل يوم نية الصيام أو تكفي فيه الصيام في شهر رمضان في يوم منه فينوي أن يصوم شهر رمضان ولا داعي بعد ذلك كل ليلة قبل طلوع الفجر لأئمتنا الكرام في ذلك قولان كل منهما حسن مقبول وتعليله حق مبرور. القول الأول: قال به جمهور الحنفية والشافعية والحنابلة لا بد من نية كل يوم أن ينوي كما قلت من غروب الشمس إلى طلوع الفجر أنه سيصوم اليوم الذي بعد هذه الليلة لأن عبادة كل يوم مستقلة لا ارتباط لها بما قبلها ولا بما بعدها فقد يفسد ما قبلها وهي صحيحة وقد يفسد ما بعدها وهي صحيحة فليست عبادة الصيام كعبادة الصلاة نية واحدة لجميع الركعات إنا هنا كل يوم يستقل عما قبله وعما بعده فلا بد من نية خالصة له.
والإمام مالك إمام دار الهجرة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا ألحق الصيام بالصلاة فقال: بما أن الصيام في هذا الشهر واجب وعليه لو نوى أن يصومه من أول يوم أجزأه، ولو لم يستحضر النية كل ليلة إلا إذا فسخ هذه النية، وأما إذا نوى أن يصوم هذا الشهر الكريم في أول ليلة منه أجزأه ذلك إلى نهاية الشهر سواء استحضر النية بعد ذلك أم لا، إلا إذا فسخ نية الصيام وقال: لا نصوم، فلا بد له بعد ذلك من نية ثانية لبقية الشهر.
وكما قلت إخوتي الكرام: القولان متقاربان بالتعليل ولا يوجد دليل خاص بالمسألة وإذا كان كذلك فالأمر فيه سعة والأحوط أن يبيت الإنسان فيه الصيام في كل ليلة من ليالي رمضان والعلم عند الله تعالى وهذا كله إخوتي الكرام في الصوم الواجب وأما صيام النافلة صيام التطوع فاتفق أئمتنا إلا الإمام مالكاً رحمه الله. ذهب الجمهور وهم الأئمة الثلاثة المتقدمة الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن النية فيه موسعة على الصائم في صيام النافلة والتطوع فله أن يبيّت الصيام من الليل وهذا أعظم لأجره عند ربه وله أن يمد النية إلى الزوال فإذا زالت الشمس ولم ينو قبل زوالها أي قبل الظهر لا يصح أن يصوم بعد ذلك عند الإمام أبي حنيفة وهو الأظهر من قولي الإمام الشافعي وهناك قول للإمام الشافعي وهو المعتمد عند الحنابلة يجوز للإنسان إذا صام نافلة أن ينوي الصيام في أي وقت كان ولو قل غروب الشمس بدقيقة لو قدّر أنه مر عليه اليوم من أوله إلى آخره وما أكل وبقي للمغرب ربع ساعة فقال إذاً أنا أنوي الصيام عند الإمام أحمد يصح يقول: لأنه أوقع الصيام في جزء من النهار الذي يصح فيه الصيام وعليه إذا وقعت النية في جزء من النهار سواء كان قبل الزوال أو بعد الزوال يصح صومه هذا عند الإمام أحمد لكنه قال: له اجر بمقدار الوقت الذي بقي من هذا اليوم وعليه: لو نوى من الزوال الصيام فله أجر من الزوال إلى الغروب وليس له أجر الصيام مما قبل الزوال إلى طلوع الفجر لأنه لم ينو هذا والأعمال بالنيات لو نوى الصيام عند العصر له أجر عند العصر أجر الصيام إلى غروب الشمس ليس له أجر الصيام من قبل العصر إلى طلوع الفجر.
فإن قيل: هل يتبعّض الصوم؟ يقول في الإجزاء لا يتبعض لكن في الأجر يتبعّض، لا بد أن تصوم يوما من أوله إلى آخره من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لكن ليس لك من الأجر إلا بمقدار ما نويت من صيام هذا اليوم فإذا نويت عند العصر فليس لك أجر، أجر إلا من العصر إلى غروب الشمس وهذا كما هو الحال في الجماعة إذا لم تدرك الجماعة فأنت ما صليت في جماعة لكن لو قدّر أنك جزءاً منها لك أجر بمقدار ما أدركت وليس أجر من أدرك تكبيرة الإحرام كأجر من أدرك الركعة الرابعة مع الصلاة فهم يتفاوتون مع أن الكل صلوا جماعة.
هذا ما يقرره الإمام أحمد وأئمتنا عليهم جميعاً رحمة ربنا وأما الإمام مالك فعنده لا يجوز للإنسان في صيام النافلة أيضاً إلا أن يُبيّت الصيام من الليل كما هو الحال في الصيام الفريضة يقول إلا إذا كان الإنسان يصوم أياماً متتابعة درجا فتسقط عنه النية كما هو الحال في نية رمضان ينوي أول ليلة ثم ليس به حاجة إلى أن يكرر النية وأما إذا أراد أن يصوم بخصوصه وأن يفطر بعده وأن يصوم يوماً بعده فلا بد من أن ينوي الصيام لكل يوم وأن تكون النية في الليل قبل طلوع الفجر كما هو الحال في صيام الفريضة. فهذا القول مع جلالة من قال به وإمامته رضي الله عنه وأرضاه فيما يظهر والعلم عند الله أنه مرجوح وقول الجمهور أرجح وبه وردت الآثار الثابتة عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة الأبرار رضي الله عنهم أجمعين.
وإليكم بعضاً إخوتي الكرام: ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا ابن ماجه فالحديث في سنن الترمذي وسنن النسائي وأبي داود الطيالسي في مسنده كما رواه الإمام البيهقي في سننه والحديث صحيحٌ صحيح فهو في صحيح مسلم كما سمعتم ولفظ الحديث من رواية أمنا الطيبة المباركة عائشة قالت: "دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهار فقال هل عندكم شيء يعني من طعام؟ فقلت ما عندنا شيء يا رسول الله قال فإني إذاً صائم، ما عندكم شيء آكله أنوي الصيام، وقد نوى الصيام بعد طلوع الفجر قالت أمنا عائشة: فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم جاءتنا هدية وفي روية جاءنا زور أي ضيف، ضيوف وهؤلاء الضيوف عندما حلوا علينا معهم هدية فخبّأت شيئاً من هذه الهدية إلى النبي علية الصلاة والسلام فلما عاد ودخل بيته ثانياً قلت يا رسول الله قد جاءتنا هدية وقد خبّأت لك منها قال ما هي؟ قلت حَيسُ، والحيس هو الدقيق الذي يعجن بالتمر والسمن دقيق وتمر وسمن وقيل: أقط وسمن ودقيق حيسُ: خبّأته لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم هاتيه فلما وضعته بين يديه فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صوات الله وسلامه مدّ يده الشريفة المباركة إليه وبدأ يأكل، فقالت أمنا عائشة يا رسول الله أو لم تنو الصيام وقلت إني صائم هذا اليوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام يا عائشة مثل الصائم في غير رمضان كمثل من أخرج صدقة، فجادت نفسه منها بشيء فدفعه وبخلت نفسه بما بقي فأمسكه، أنت أخرجت مائة ريال لتتصدق بها ثم بعد ذلك حصل في قلبك ما حصل من الخواطر وأنك بحاجة إلى هذا المال فدفعت خمسين وأمسكت خمسين هل عليك إثم؟ لا ثم لا، صدقة تطوع وتريد أن تتقرب بها إلى الله تعالى ليس لك من الأجر إلا بمقدار ما تصدقت مثل الصائم في غير رمضان كمثل من أخرج صدقة.
وهذه رواية الإمام النسائي فلما أخرجتها جادت نفسه بشيء منها فدفعه وأمضاه وأعطاه إلى الفقير وبخلت في الباقي فأمسكته وعليه يجوز للإنسان أن يتم الصوم ويجوز أن يعدل عنه ولا حرج.
وقد ثبت في موطأ الإمام مالك وشرح معاني الآثار للإمام الطحاوي والأثر رواه الإمام النسائي في سننه والحاكم في مستدركه وصححه وأقره عليه الذهبي ورواه البيهقي في السنن الكبرى والحديث إسناده صحيح من رواية أم هانئ رضي الله عنها قالت: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وعن يمينه جالسة فجاءت البضعة الطاهرة سيدتنا فاطمة بن خير خلق الله فسلمت وجلست عن يساره تقول أم هانئ: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب قدمته إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فأخذه فشرب منه ثم ناول أم هانئ لتشرب فشربت، فبعد أن شربت قالت يارسول الله: كنت صائمة فأفطرت، أي عندما أعطيتني هذا الإناء لأشرب وكأنها تحرجت في نفسها ما حصل منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتقضين رمضان، أي تصومين الصيام الواجب؟ قالت لا. يا رسول الله قال: لا حرج عليك إن كنت تصومين تطوعاً أي إن شئت أن تصومي وإن شئت أن تأكلي تبطلي الصيام فلا حرج إنما التطوع أمير نفسه وفي رواية إنما التطوع أمين نفسه، فإن شاء صام وإن شاء أفطر إنما المتطوع أمير نفسه.
وقد ثبت في صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله في كتاب الصيام باب من نوى الصيام نهاراً ثم علق بصيغة الجزم عن أم الدرداء أن أبا الدرداء كن يدخل عليها في النهار فيقول: هل من طعام يا أم الدرداء؟ تقول أم الدرداء: فإن قلنا لا قال: "فإني صائم يومي هذا" قال الإمام البخاري: وقد فعله أبو هريرة وأبو طلحة وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس ومعهم كما قلت أبو الدرداء فهؤلاء خمسة من الصحابة الكرام وهذه الآثار التي أوردها الإمام البخاري معلقة بصيغة الجزم في صحيحه انظروها إخوتي الكرام في فتح الباري لتعرفوا من وصلها انظروا أيضاً وصلها في السنن الكبرى للإمام البيهقي 4/275.
وعليه إخوتي الكرام: إذا كان الصيام واجباً لا بد من تثبيت نية الصيام في الليل لكن هل لابد من تكرار النية في كل يوم أو تجزئ نية واحدة عن الشهر الأمر فيه سعة إن شاء الله. وإما إذا كان الصيام نافلاً فالمعتمد كما قلت أنك يجوز أن تنوي الصيام إلى الزوال ووسّع الإمام أحمد الأمر فقال: يجوز أن تنوي ولو قبل الغروب بقليل، وليس لك من الأجر إلا بمقدار ما نويت، نسأل الله نعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام: عندما نبحث النية في الصيام يرد إشكال حاسم أن التروك لا يشترط في تركها النية، نعم يشترط للثواب على تركها النية وأما إذا تركت ما حرمه عليك دون أن تريد بذلك التقرب إلى الله تركته فقط ما خطر هذا ببالك لا تعاقب عليه وأما الأفعال فلابد لها من نيات فمن ترك النظر الحرام والغيبة والنميمة والزنا وشرب الخمر إما أنه لم يخطر بباله إو هكذا دون نية صالحة لا عقاب عليه عندما ترك هذا من غير نية صالحة ولا يثاب إلا إذا ترك متقرباً إلى الله عز وجل التروك لا تحتاج إلى نية فإذا ترك وهو يعزم على فعلها لكن ما تمكن منها يعاقب عليها وإذا تركها
…
.ما خطرت بباله لا ثواب وعقاب وإذا تركها خشية من الكريم الوهاب يثاب عليها عند هذا المبحث يرد إشكال ألا وهو أن الصيام ترك. فهو إمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات فلم اشترطت النية لصحته باتفاق أئمتنا.
والجواب عن هذا كما قرره شيخ الإسلام الإمام النووي نور الله مرقده وفي غرف الجنان أرقده، يقول: "الصيام وإن كان إمساكاً وتركاً يراد منه حبس النفس على الهوى وحثها على طاعة المولى فالتحق بالأفعال ولا يقصد منه الترك المجرد كما هو الحال في ترك الكذب في ترك الزنا في ترك شرب الخمر، لا
…
يراد من هذا الترك أن تتربى النفس على الأخلاق الكريمة والشيم الحميدة وأن تتقرب من الله عز وجل فترك يراد منه عمل ولذلك اشترطت النية فيه لتثاب على هذا الترك فهو وإن كان تركاً يشترط لصحته حصول النية باتفاق أئمتنا.
وأما التروك الأخرى فكما قلت إذا تركتها من غير نية لا ثواب ولا عقاب "وإذا تركتها لعجزك عنها فعليك العقاب " وإذا تركتها خشية من الكريم الوهاب فلك الثواب " وقد أشار إلى هذه الأقسام نبينا عليه الصلاة والسلام.
ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث قال عنه الترمذي حسن صحيح من رواية أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة أقسم عليهن وأحدثهم حديثاً فاحفظوه وكنت ذكرت هذا الحديث في المواعظ السابقة فلا بأس من إعادته لمحل الشاهد معنا في موعظتنا ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ومن فتح على نفسه باب مسئلة فتح الله عليه باب فقر.
هذه الأمور الثلاثة يقسم نبينا عليه الصلاة والسلام على صحتها وتحققها وأما الحديث الذي ينبغي أن نحفظه وأن نعيه وهو أن الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً فهو يعمل في ماله بعلمه فيتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم أن لله فيه حقاً فهو في أعلى المنازل ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فقال يا ليت لي مثل فلان حتى أعمل بمثل عمله قال نبينا عليه الصلاة والسلام فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله فلا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم أن لله فيه حقاً فهو أخبث المنازل. ورجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً فقال يا ليت لي مثل فلان حتى أعمل بمثل عمله فهما في الوزر سواء. لم يفعل المعاصي لكن عزم عليها وما منعه من فعلها إلا العجز عنها فعليه العقاب كما أن العقاب على ذلك الذي فعل تلك المعاصي أسأل الله برحمته التي وسمعت كل شيء أن يجعل أعمالنا صالحة لوجهه خالصة وأن يرزقنا حبه وحب نبيه عليه الصلاة والسلام وأن يجعل ذلك أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا، وأحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ومحبتك يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا عليه حتى نلقاك به اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.