الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح حديث
(يكون عليكم أمراء هم شر عند الله من المجوس)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
حديث
(يكون عليكم أمراء هم شر عند الله من المجوس)
"يكون عليكم أمراء هم شر عند الله من المجوس (1) " وأرشدنا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قتالهم، ومنابذتهم بما في وسعنا، ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (2) ".
(1) رواه الطبراني في الصغير: (20/90)، والأوسط أيضاً كما في مجمع الزوائد:(5/235) كتاب الخلافة – باب في أئمة الظلم والجور وأئمة الضلال – عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ورجاله رجال الصحيح خلا مؤمل بن إهاب وهو ثقة، وفي الحلية:(1/280) عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً: "ليكونن عليكم أمراء لا يزن أحدهم عند الله يوم القيامة قشرة شعيرة".
(2)
انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان –: (10/70) 80 وهو في مسند الإمام أحمد: (1/458، 461)، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر:(6/175، 187) ، (4379، 4402)، ورواه البيهقي في الاعتقاد:(122) .
.. وقد وردت الأحاديث كثيرة عن خير خلق الله – صلى الله عليه وسلم – بقتال الأئمة الضالين إذا لم يحكموا بشرع رب العالمين، وظهرت المجاهرة بالمنكر المبين، ففي الصحيحين وغيرهما عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت – وهو مريض – رضي الله تعالى عنه – فقلنا: حدثنا أصحك بحديث ينفع الله به، سمعْتَهُ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: دعانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبايعناه على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان (1)، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: هكذا هو لمعظم الرواة، وفي معظم النسخ "بواحاً" بالواو، وفي بعضها "براحاً" والباء مفتوحة فيهما، ومعناها: كفراً ظاهراً 10هـ، وقال الحافظ ابن حجر نقلا ً عن الإمام الخطابي – عليهما رحمة الله تعالى – مَنْ رواه بالراء فهو قريب مِنْ هذا المعنى، وأصل البراح الأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا بناء، وقيل:"البراح": البيان، قال الحافظ: ووقع في رواية الطبراني: "إلا أن يكون معصية الله بواحاً"، وعند أحمد:"ما لم يأمروك بإثم بواحاً (2) ".
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية:(4/1470)، وصحيح البخاري – كتاب الفتن – باب 2:(13/5) بشرح ابن حجر، والمسند:(5/314)، وفي:(5/321) بلفظ "ما لم يأمروك بإثم بواحاً".
(2)
انظر شرح الإمام النووي: (12/228)، وفتح الباري:(13/8)، وتقدمت رواية الإمام أحمد في المسند وقوله:"عندكم من الله فيه برهان" أي: نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل كما في فتح الباري:(13/8) .
.. قال مقيد هذه الصفحات – فرج الله عنه وعن المسلمين الكربات –: تقدمت قريباً رواية الصحيح أيضاً: "أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" وكل من الحديثين صريح في أن الإمام إذا أمر بالآثام، وضاد شرع الرحمن، ينبغي أن يزال بالحسام، وقد قرر الحافظ الهمام، الإمام ابن حجر شيخ الإسلام – عليه رحمة الله تعالى – أن الإمام ينعزل بالكفر بإجماع العلماء الكرام فيجب على كل مسلم عند ذلك القيام، فمن قوي على ذلك فله المثوبات العظام، ومن داهن فعليه الوزر والآثام، ومن عجز وجبت عليه الهجرة ومفارقة تلك الأوطان (1) .
(1) انظر فتح الباري: (13/8، 123)، ومثله في شرح الإمام النووي:(12/229) حيث نقل عن القاضي عياض – عليهما رحمة الله تعالى – أن الإمامة لا تنعقد لكافر إجماعاً، ولو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها، فيخرج عن حكم الولاية، وتسقط طاعته، ويجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونَصْبُ إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر 10هـ، وقد تقدم حديث يصرح باستمرار الهجرة وداوامها، وأشرت هنا إلى عدة كتب بحثت تلك المسالة بحثاً سديداً، وبيَّنَتْ أنواع الهجرة بياناً رشيداً، فانظر صفحة (36) من هذا البحث المبارك، قال الإمام ابن العربي في أحكام القرآن:(1/484) الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام: الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في أيام النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة.
.. قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له سائر الآثام –: ما قاله الأئمة الكرام، من وجوب مهاجرة دار الكفر إلى دار الإسلام، كان متحققا ميسوراً فيما مضى من الأزمان، عند وجود دارَيِ الكفر والإسلام، وأما إذا عم الظلام بلاد الأنام، ولم يكن هناك خليفة ولا إمام، فما على المكلف إلا مقارعة الكفر أينما كان، والعض بالنواخذ على هي النبي – صلى الله عليه وسلم – والحذر من مشاركة الطغام فيما يتهافتون فيه من الإجرام، مع السعي الحثيث لإعادة دولة الإسلام، فمن قام بذلك فهو من الناجين بسلام، المتقين الله حسب ما في الوسع والإمكان، وهذا كما ثبت عن حذيفة بن اليمان – عليه رضوان الرحيم الرحمن – أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يَسْتَنُّون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) .
3-
إمام جائز، وله حالتان:
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب المناقب – علامات النبوة في الإسلام –: (6/515)، وكتاب الفتن – باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟:(13/35) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال:(4/1475)، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العزلة –:(2/1317) .
الحالة الأولى: أن يكون متصفاً بالشروط المرضية، وتمَّت له البيعة، ثم طرأ عليه بعد ذلك مُفَسِّقٌ كأن جار، أو تلبس ببعض المعاصي الكبار، كشرب الخمر أو تعاطي عهر.
الحالة الثانية: أن يتغلب على الناس على كره منهم، ويقودهم بغير رضاهم، فهو مغتصب لسلطان الأمة معتدٍ على الذمة.
ولهاتين الحالتين حالتان:
أ) يجب خلعه إن أمكن بلا ظلم ولا فتنة، لأن ذلك من النصح له وللأمة، وهو ممكن دون ارتكاب محظور، فلا يترك (1) .
ب) إذا لك يمكن عزله إلا بالوقوع في فتنة عمياء، وجر الأمة إلى بلاء، فالواجب الصبر على طاعته، وعدم الخروج عن كلمته، وخالف المعتزلة في هذا، فالتزموا الخروج عليه بالسيف، ولو أدى ذلك إلى فتنة وحيف، ومعلوم ما في هذا القول من الفساد والإفساد، والشقاق والعناد، ولذلك حذرنا منه خير هاد – صلى الله عليه وسلم أبد الآباد – وقد تقدم حديث عوف بن مالك، وعبادة بن الصامت، ومعاوية – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وفيها التنصيص على أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن جاروا، وعصوا ما أقاموا الدين، ولم يظهروا الكفر المبين.
(1) وهذه تكاد تكون فرضية، وتتصور في إمام عاقل أُخبر بأن الأمة لا تريده لما جرى منه من فسق وجور فلم يعارض ذلك، واستجاب له.
.. وهذا إذا لم يقدروا على خلعه بلا فتنة وظلم وحرب كما قرر ذلك أئمة الدين ففي فتح الباري نقلا ً عن الداودي بواسطة ابن التين – عليهما رحمة رب العالمين – قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه فلا فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر 1هـ ونحوه في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار، وحاشيته رد المحتار، وحاصل ذلك أن الإمام إذا جار لا ينعزل إذا كان يترتب على عزله فتنة ومفسدة احتمالاً لأخف المضرتين وأدناهما أو كان له قهر وغلبة لعوده بالقهر والغلبة، فلا يفيد عزله، وإن لم يكن له قهر ومنعة، ولا يترتب على عزله مفسدة ومضرة ينعزل بجوره (1) .
…
واعلم- علمني الله وإياك - أنه بهذا التفصيل يظهر أنه لا تعارض بين قول بعض أهل السنة الكرام: تنفسخ إقامة الخليفة بفسقه الظاهر المعلوم، ويخلع، وبين قول من قال من أهل السنة الأبرار: لا يجوز القيام عليه، ولا خلعه إذا ارتكب فسقاً، فالقول الأول ينزل على الحالة الأولى والثانية على الثانية، ولا تعارض بينهما، والله تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: في حالة طاعة الإمام الذي طرأ عليه الفسق ينبغي ضرورة الالتزام بأمرين، فالتفريط بأحدهما هلاك:
(1) انظر فتح الباري: (13/8)، ورد المحتار:(4/264)، وانظر البحث في هذه المسألة في شرح الإمام النووي على صحيح مسلم:(12/229)، والجامع لأحكام القرآن:(1/271)، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن –:(1/271)، والأحكام السلطانية للماوردي:(17) .
أ) إذا أمر الإمام بمعصية فلا سمع له ولا طاعة، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية، فلا سمع له ولا طاعة (1)
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب السمع والطاعة للإمام –: (6/115)، وكتاب الأحكام – باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية –:(13/121) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية –:(4/1469)، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطاعة –:(3/93)، وسنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق –:(6/30)، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع –:(7/142)، وسنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب لا طاعة في معصية الله –:(2/956) والمسند: (2/17، 142)، وشرح السنة – كتاب الإمارة والقضاء – باب الطاعة في المعروف:(10/43) ..
"، وفي الصحيحين وغيرهما أيضاً عن علي – رضي الله تعالى عنه – قال: بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف" وفي رواية "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف (1) ".
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب 59: (8/58)، وكتاب الأحكام – باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية –:(13/122)، وأول كتاب أخبار الآحاد –:(13/233) بشرح ابن حجر في الجميع – وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية:(4/1469)، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطاعة –:(3/92)، وأشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد – باب لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – ق:(6/30)، وهو في سنن النسائي – كتاب البيعة – باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع –:(7/142)، والمسند:(1/82، 94، 124) وانظره من رواية أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – في سنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب لا طاعة في معصية الله –: (2/955)، والمسند:(3/67)، وانظر روايات متعددة عن عدة من الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – فيها البيان التام بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الرحمن في مجمع الزوائد:(/225-229) كتاب الخلافة – باب لا طاعة في معصية الله – عز وجل.
ب) ينبغي على الرعية نصح الإمام إذا جرى منه ما يوقعه في الفسق والعصيان، فذلك من الواجبات العظام، وعليه يقوم أمر الإسلام، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن تميم الداري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:"الدين النصيحة، قلنا لمن: قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) ".
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان أن الدين النصيحة –: (1/74)، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب النصيحة للإمام:(7/140)، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب في النصيحة:(5/233)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(2/519)، والمسند:(4/102) ، وكلهم من رواية تميم الداري، ورواه النسائي في المكان المتقدم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وعنه أيضاً الترمذي في كتاب البر والصلة – باب ما جاء في النصيحة –:(6/173)، وابن أبي عاصم في السنة:(2/90)، وأحمد في المسند:(2/297)، ورواه عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – الدارمي – في كتاب الرقاق – باب الدين النصيحة:(2/311)، وعنه رواه البزار مختصراً كما في مجمع الزوائد:(1/87) ورجاله رجال الصحيح، ورواه عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الإمام أحمد في المسند:(1/351) ، وعنه أيضاً رواه البزار، والطبراني في الكبير وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد:(1/87) ورواه عن ثوبان – رضي الله تعالى عنه – ابن أبي عاصم في السنة: (2/521)، والطبراني في الأوسط وفيه أيوب بن سويد وهو ضعيف لا يحتج به كما في مجمع الزوائد:(1/87)، والحديث علقه البخاري بصيغة الجزم – في كتاب الإيمان – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –:"الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم": (1/137) بشرح ابن حجر، قال الحافظ: أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسنداً في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة.
وقد بين لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن كلمة الحق عند الإمام الجائر، من أعظم ما يقرب إلى الرب القاهر، ففي السنن بإسناد صحيح حسن عن أبي عبد الله طارق ابن شهاب البجلي الأحمس أن رجلاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم –: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر (1) ".
(1) انظر سنن النسائي – كتاب البيعة – باب فضل من تكلم بالحق عند إمام جائر –: (7/144)، وسنده صحيح كما في الترغيب والترهيب:(3/225)، وهو في المسند:(4/314، 315)، ورواه عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – ابن ماجه في كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(2/1330) وإسناده صحيح أيضاً كما في الترغيب والترهيب: (3/225)، وهو في المسند:(251، 256)، ورواه ابن ماجه أيضاً في نفس المكان عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – وهو في المسند:(3/19، 61)، وكتاب العزلة للخطابي:(86)، وسنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر –:(6/338)، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي:(4/514) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وأشار إلى رواية أبي أمامة فقال: وفي الباب عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – 1هـ وفي سند حديث أبي سعيد – رضي الله تعالى عنه – عطية العَوْفي وهو صدوق ويخطئ كثيراً وهو مدلس أيضاً كما في التقريب: (2/24) ، وقد عنعن في السند، وحديث أبي أمامة، وطارق بن شهاب – رضي الله تعالى عنهم – يشهد له، ولأجل ذلك حسنه الترمذي، وانظر الترغيب والترهيب:(3/225)، وتعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول:(1/333) .
فليحذر المسلم المهتدي من التفريط في هذين الأمرين، ليفوز في الدارين، ثبت في المستدرك والسنن بإسناد صحيح حسن عن كعب بن عجرة – رضي الله تعالى عنه – قال: خرج إلينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن تسعة، وخمسة وأربعة، أحد العددين من العرب، والآخر من العجم فقال: "اسمعوا، هل سمعتم؟ إنه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم، فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليّ، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وراد على الحوض (1)
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب تحريم إعانة الحاكم الظالم –: (7/38)، وقال: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه إلى من حديث مسعر من هذا الوجه، وفي الباب عن حذيفة وابن عمر – رضي الله تعالى عنهم –، ورواه أيضاً في كتاب الصلاة – باب ما ذكر في فضل الصلاة –:(2/373)، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب الوعيد لمن أعان أميراً على الظلم –، ورواه في الباب الذي بعده – باب من لم يعن أميراً على الظلم –:(7/143)، والمستدرك – كتاب الفتن والملاحم:(4/422)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والمسند:(5/243)، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الإمارة – باب فيمن يدخل على الأمراء –:(378)، وحلية الأولياء:(7/249، 8/248)، وكتاب العزلة للخطابي:(86)، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند:(3/321، 399) عن جابر بن عبد الله، ورواه في:(4/267) عن النعمان بن بشير، وفي:(5/384) عن حذيفة، وفي:(2/95) عن ابن عمر، وهو في مسند ابن عمر للطرسوسي:(40) رقم 70، ورواه الإمام أحمد في:(3/24) عن أبي سعيد الخدري، وفي:(5/111) عن خباب بن الأرت، ورواه عن الأخيرين ابن حبان في المكان المتقدم، وانظر مجمع الزوائد – كتاب الخلافة – باب في أبوب السلطان والتقرب منها، وباب الكلام عند الأئمة، وباب فيمن يصدق الأمراء بكذبهم ويعينهم على ظلمهم –:(7/246-248) فقد أورد الإمام الهيثمي أحاديث كثيرة في ذلك المعنى – رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين – وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
".
وهذا الأمر – أي نصح الأئمة، والجهر بالحق عندهم – إذا لم تقم به الأمة، فقد تُوُدِّعَ منها ولا خير فيها، وسيحل البلاء بها، وينزل سخط الله عليها، كما ثبت هذا عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – ففي المسند والمستدرك بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا رأيت أمتي تهاب الظالم إن تقول له: إنك ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم (1) ".
(1) - انظر المسند: (2/63، 190)، والمستدرك – كتاب الأحكام –:(4/96)، والحديث رواه البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد:(7/262، 270)، وقد صححه الحاكم فقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والمنذري أيضاً في الترغيب والترهيب:(3/232)،وقال الشيخ شاكرفي تعليقه على المسند:(10/39) 6521 إسناده صحيح، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الكبير:(1/59) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى ابن عدي، والبيهقي في شعب الإيمان، والحديث رواه الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما كما في مجمع الزوائد:(7/270)، قال الهيثمي فيه: سنان بن هارون، وهو ضعيف، وقد حسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات، ونسب السيوطي في الجامع الكبير:(1/59) تخريجه أيضاً إلى الحاكم عن سليمان بن كثير بن أسعد بن عبد الله بن مالك الخزاعي عن أبيه عن جده.
وإذا قام المسلم بذلك فقد أدى ما عليه، وخرج من العهدة، وبرئت ذمته من جور الأئمة، ويا ويل الأئمة ثم يا وليهم، إذا لم يلتزموا بما نُصحوا، وانحرفوا عن شرع الله وقسطوا، قال الله – جل وعلا –:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (1) } وفي الصحيحين أن عبيد الله بن زياد أمير البصرة في زمن معاوية وولده يزيد عاد الصحابي الجليل معقل بن يسار – رضي الله تعالى عنهم – في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك حديثاً سمعته عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" وفي رواية في الصحيحين أيضاً: "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة (2) ".
(1) من سورة الجن: (15) ، والقاسطون هم الجائرون، من قسط إذا جار، أما أقسط فبمعنى عدل كما في تفسير غريب القرآن لابن قتيبة:(490)، ومدارك التنزيل:(5/273)، والجامع لأحكام القرآن:(19/16) وفتح القدير: (5/299)، والبحر المحيط:(8/350) .
(2)
انظر روايتي الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب الأحكام – باب من استرعى رعية فلم ينصح: (13/127) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار:(1/125-126) ، وكتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر –:(3/1460)، والمسند:(5/25)، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب العدل بين الرعية:(2/324) .
وفي المسند وسنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغض الناس إلى الله، وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر (1)
(1) انظر المسند: (3/22، 55)، وسنن الترمذي – كتاب الأحكام – باب ما جاء في الإمام العادل:(5/9)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن عبد الله بن أبي أوفى – رضي الله تعالى عنه – رواه الطبراني في الأوسط مختصراً كما في الترغيب والترهيب:(3/167) بلفظ: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام جائر" والحديث في سنده عطيه العَوْفي وهو صدوق ويخطئ كثيراً وكان يدلس كما في التقريب: (2/24) ، وقد عنعن، ولكن للحديث شواهد كثيرة، ولذلك حسنه الترمذي ونقل المنذري في الترغيب والترغيب تحسين الترمذي ولم يعقبه، وانظر تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول:(4/55) .
قال مقيد هذه الصفحات – غفر الله الكريم له سائر الزلات –: نظراً لانحراف أكثر الأئمة الذين جاؤوا بعد الخلافة الراشدة، وعدم قبولهم نصيحة الناصحين، اعتزلهم غالبية العلماء الصالحين، ومن اضطر منهم للمخالطة صدع بالحق المبين، وقد قرر الغزالي في إحياء علوم الدين أن الواجب الاعتزال عن السلاطين، إذ لا سلامة إلا فيه، وقال: فإن قلت: كان علماء السلف الصالح يدخلون على السلاطين، فأقول: نعم، تعلَّمِ الدخولَ منهم ثم ادخل، ثم سرد عدة قصص لعلماء السلف الطيبين في دخولهم على السلاطين ونصحهم لهم وزجرهم عن الباطل والجور، انظر هذا وما يتعلق به في الإحياء:(140-145)، وقال الخطابي في كتاب العزلة:(86) معلقاً على حديث كعب بن عجرة – رضي الله تعالى عنه – وقد تقدم في صفحة: (.....) ليت شعري الذي يدخل عليهم اليوم فلا يصدقهم على كذبهم، ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم، ومن الذي ينصح، ومن الذي ينتصح منهم؟ إن أسلم لك – يا أخي – في هذا الزمان، وأحوط لدينك أن تقل من مخالطتهم وغشيان أبوابهم، ونسأل الله – تبارك وتعالى – الغنى عنهم، والتوفيق لهم 10هـ وذكر نحو ذلك ابن الجوزي في صيد الخاطر:(286-288)، والسمرقندي في تنبيه الغافلين: 270-273، وانظر مسلك الإمام أحمد مع الخليفة المتوكل، ومع أمير خراسان ابن طاهر في مناقب الإمام أحمد:(375-379) وعقب ابن الجوزي على ذلك بقوله: وإنما امتنع الإمام أحمد من زيارة ابن طاهر لأنه كان سلطاناً، وإلا فقد كان يزور أهل العلم والتدين، وانظر كتاب الإسلام بين العلماء والحكام، ويقع في قرابة خمسين ومائتي صفحة، وركز النظر على فصل: العلماء ينصحون الحكام، وفصل: العلماء ومواجهة الحكام.
وانظر قصة أبي حازم مع سليمان بن عبد الملك عند لقائه إياه، واجتماعه به في سنن الدارمي – المقدمة – باب في إعظام العلم –:(1/125-126)، وانظر قول ابن أبي ذئب لأبي جعفر المنصور: إنك لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسوية، في آداب الشافعي ومناقبه:(320-321)، وانظر أخباراً أخرى له مع المنصور تشبه ما تقدم في تاريخ بغداد:(2/298-300) ، وانظر لزاماً معاتبة شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك لإسماعيل بن عُلَيَّة؛ لاتصاله بهارون الرشيد، وولايته له ديوان المظالم في ميزان الاعتدال:(1/218)، وتهذيب التهذيب:(1/277)، وجامع بيان العلم:(1/165)، والصواعق المحرقة:(309) .
واعلم – وفقك الله – أن ذينك المسلكين – الاعتزال، أو الدخول للنصح – من سلفنا الكرام تجاه الحكام، كان في ظل الخلافة الإسلامية، لكن أكثر أولئك الأمراء دخلوا في بعض الأمور الردية، وقد تغيرت الأمور تغييراً جذرياً بعد ضياع الخلافة الإسلامية، وبذل الكفار كل غالٍ ورخيص في القضاء عليها، وأصبح الذين يتقلدون الأمور هم حثالة الناس وسقطهم، وهم شياطين في صورة آدميين، إلا من عصم الله منهم ورحم، وقد أخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن وقوع ذلك واعتبره من علامات فساد الكون، وأشراط الساعة، فقال – صلى الله عليه وسلم –:"لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع". انظر سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب 37: (6/363) عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – وقال الترمذي: هذا حديث حسن، والمسند:(5/389)، ورواه الإمام أحمد في المسند أيضاً عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في:(2/326، 358)، وعن بعض أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – في:(5/430) ولم يرفعه، وعن أبي بردة بن نيار – رضي الله تعالى عنه – في:(3/466)، وروايته أخرجها الطبراني باختصار كما في مجمع الزوائد:(7/320)، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات، وعنون عليه باباً في كتاب الفتن، فقال: باب لا تذهب الدنيا حتى تكون للكع بن لكع، ثم قال: ويأتي لهذا الحديث طرق في أمارات الساعة من حديث عمر وأنس وأبي ذر رضي الله تعالى عنهم أجمعين –، وقد ذكر رواياتهم في مجمع الزوائد:(74/325-326) ، فرواية عمر أخرجها الطبراني في الأوسط بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات، ورواية أنس رواها أيضاً الطبراني في الأوسط ورجال السند رجال الصحيح غير الوليد بن عبد الملك بن مرح، وهو ثقة، ورواية أبي ذر رواها الطبراني في الأوسط أيضاً، ورجال السند وثقوا، وفي بعضهم ضعف 10هـ.
واللكع هو: اللئيم، والوسخ، والأحمق، قال النضر بن شُمَيْل: يقال للرجل إذا كان خبيث الفعال شحيحاً قليل الخير: إنه للكوع 1هـ من اللسان: (10/199)"لكع"، وقد فسره الأسود بن عامر أحد رواة الحديث في المسند:(2/326) بالمتهم بن المتهم، وانظر غريب الحديث:(2/233-234)، والفائق:(2/474) ، وقد اعتبر النبي – صلى الله عليه وسلم – من علامة حلول البلاء بالأمة كون زعيم القوم أرذلهم، كما في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء في علامة حلول المسخ والقذف:(6/363) ، عن علي – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً، وقال الترمذي: حديث غريب، ورواه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً أيضاً، وقال إنه غريب، نسأل الله الفرج، وحسن الخاتمة، إنه سميع مجيب.
".
التنبيه الثاني:
لا يجوز أن يكون للمسلمين في الدنيا إلا خليفة واحد، كما قرر ذلك الشرع المطهر، لئلا يتفرق شمل المسلمين، ويتشتت شملهم، وتضع منزلتهم، وتتلاشى مكانتهم، وتضمحل هيبتهم، وتذهب ريحهم وقوتهم، ويصيح بأسهم بينهم، ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما (1)
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب إذا بويع لخليفتين: (2/242) بشرح النووي، ورواه البيهقي في السنن الكبرى – كتاب قتال أهل البغي – باب لا يصلح إمامان في عصر واحد –:(8/144) والبغوي في شرح السنة – كتاب الإمارة والقضاء – باب من يخرج على الإمام والوفاء ببيعة الأول: (10/56)، وفي المستدرك:(2/156) ، وقد أخرج مسلم، ثم ذكر ما تقدم، والحديث رواه الطبراني في الأوسط، والبزار عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – وفيه أبو هلال وهو ثقة كما في مجمع الزوائد – كتاب الخلافة – باب النهي عن مبايعة خليفتين:(5/198)، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط بسند رجاله ثقات عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لمعاوية – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا كان في الأرض خليفتان، فاقتلوا أخرهما" انظر مجمع الزوائد: (5/198)، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد:(1/239) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – وورد في سنن البيهقي: (8/144) قال البيهقي: وروينا في حديث السقيفة أن الأنصار حين قالوا: منا رجل ومنكم رجل، قال عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – يومئذ: سيفان في غمد لا يصطلحان، وقال أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – في خطبته يومئذ: وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، هنالك تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح.
وقال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – إن تعدد الحكام في بلاد المسلمين، لا يقل خطورة وشناعة عن تعدد الأزواج لزوجة واحدة، ومعلوم ما في ذلك من الفساد المبين – حفظنا الله بمنه وكرمه من سائر الفتن أجمعين.
" قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام، أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه "الإرشاد" قال أصحابنا لا يجوز عقد لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد، وهذا مجمع عليه، قال: فإن بعد ما بين الإمامين، وتخلت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال، قال: وهو خارج من القواطع، وحكى المازري: هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل، وأراد به إمام الحرمين، وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف، لظواهر إطلاق الأحاديث، والله أعلم 10هـ (1) .
(1) انظر شرح صحيح مسلم: (12/32) ، ونقل الأُبُّي في إكمال المعلم، والسنوسي في مكمل إكمال المعلم مطبوعان معاً الثاني منهما في الحاشية:(5/204) عن القاضي عياض رد قول إمام الحرمين والحكم عليه بأنه غير سديد، وهو مخالف لما عليه السلف والخلف، ولظاهر إطلاق الأحاديث 10هـ ومن العجيب أن يرد القرطبي في تفسيره:(1/274) قول الكرامية المجوزين نصب خليفتين في عصر واحد لجواز بعث نبيين في عصر واحد، كحال علي ومعاوية – رضي الله تعالى عنهما – بقوله: والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه، لقوله:"فاقتلوا الآخر منهما"، ولأن الأمة مجمعة عليه، وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه، وإنما ادعى ولاية الشام بتولية مَنْ َقْبَلُه من الأئمة، ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما، وما قال أحدهما: إني أمام، ومخالفي إمام، فإن قالوا: العقل لا يحيل ذلك، وليس في السمع ما يمنع منه، قلنا: أقوى السمع الإجماع، وقد وجد على المنع 1هـ من العجيب حقاً أن يرد القرطبي قول الكرامية، ويعلل المنع أيضاً بأن وجود إمامين يؤدي إلى النفاق والشقاق، وحدوث الفتن والافتراق، وزوال النعم، ثم يقول: لكن إن تباعدت الأقطار، وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك 1هـ كيف يجوز ذلك، والإجماع قام على منع التعدد مطلقاً كما قرر هو وما توهمه من مسوغ التعدد لتباعد الأقطار مجرد وهم، لأن الأمير من قبل الخليفة يدير أمر تلك البلدة مع ارتباطه بالخلافة، لتكون كلمة المسلمين واحدة، مرتبطة بقيادة واحدة، وبذلك تتم وحدتها، ويجتمع شملها.
ولزيادة البصيرة بالقول الحق، والثقة به انظر الأحكام السلطانية للماوردي:(9) وفيه: وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزره 1هـ وحكى الإمام الشافعي – عليه رحمة الله – في الرسالة:(419) أن مما أجمع عليه المسلمون أن يكون الخليفة واحداً وفي الأحكام السلطانية للفرَّاء: 25 ولا يجوز عقد الإمامة لإمامين في بلدين في حالة واحدة 1هـ وفي كتاب مراتب الإجماع لابن حزم وإقرار ابن تيمية له: (124) واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين ولا في مكان واحد 1هـ وفي المحلي:(9/360) ، ولا يصح أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد 1هـ والله تعالى أعلم.
وما ذكره الإمام النووي لا ينبغي التوقف في صوابه، كما لا ينبغي التوقف في بطلان قول إمام الحرمين، فالنص بخلافه، وإذا صادم القياس نصاً فهو فاسد الاعتبار، ومطروح لا يلتفت إليه ومع هذا فهو فاسد أيضاً من حيث النظر، فالمفاسد التي تنتج من تعدد الخلفاء جسيمة وخيمة أفظعها تفريق أوصال الأمة، وتشتيت شملها، هذا إذا لم يجر الأمر إلى التناحر والمنازعات بين الخلفاء، مع أن واقع تعدد الأمراء سينتج عنه الشقاق بلا نزاع، والواقع أكبر دليل على ذلك وصدق الله إذ يقول:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء22 فعند تعدد الخلفاء يصبح بأس الأمة فيما بينها، وتترك الأمة تبليغ دعوة ربها، وتهمل نشرها، مع أن ذلك هو عملها ووظيفتها.
والملاحظ أن تعدد الخلفاء مع دلالته على التفرق والتمزق، والتنافر والتناحر فيما بين أولئك فهو يدل دلالة واضحة على تشتيت أمر كل خليفة من أولئك الخلفاء في خلافته، وما تعدد الحكام إلا لتضعضع أمر الخلافة الأولى، وتشتت شملها، حيث أدى ذلك لانقسامات الداخلية، ولاستبداد الأمراء بحكم ولاياتهم، بحيث كان الخليفة صورة لا حقيقية، ولم يكن له من الخلافة إلا الاسم، مما أدى ذلك في النهاية إلى انفصال أجزاء عن بناء الدولة المسلمة، وانسلاخ بلدان عن جسمها، فالتشتت الداخلي أدى للانسلاخ الخارجي، وبذلك تعلم أن تعدد الخلفاء نذير بكل سوء، لدلالته على تفرق الكلمة، وتشتت الشمل داخلاً وخارجاً، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أسباب انتشار مذهب الاعتزال أهل الزيع والضلال:
.. بعد تلك الجولة المباركة، في بيان أسس مذهب الاعتزال الباطلة، وتقرير صحة أقوال أهل السنة الثابتة، سأكمل البيان في بيان سبب انتشار مذهب المعتزلة أهل الزيع والهذيان (1) ، وأستمد التوفيق من ربي الرحمن، فهو الجواد ذو الجلال والإكرام.
…
إن المتفحص في مذاهب المبطلين، يرى أن مذهب المعتزلة أكثرها انتشاراً في بلدان المسلمين ولذلك أسباب كثيرة، أبرزها:
1-
اتصالهم بالخلفاء والأمراء: واستطاعوا بدهائهم جلبهم إليهم، فتبنى عدد منهم أقوالهم وركنوا إليهم، وأسندوا إليهم مهام دولتهم، فعمرو بن عبيد المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال كان جليس الخليفة أبي جعفر المنصور، وصفيه، وأحمد بن أبي دؤاد كان قاضي القضاة لثلاثة من الخلفاء، المعتصم، ثم الواثق، ثم المتوكل، وفي عهده طرد من القضاء وحل به البلاء، وأبو الهذيل العلاف كان أستاذَ الخليفة المأمون (2) .
(1) وبذلك وصفهم هارون الرشيد كما في شرف أصحاب الحديث: (55) فقال: طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته في الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث، وقال كما في صفحة:(78) المروءة في أصحاب الحديث، والكلام في المعتزلة، والكذب في الروافض.
(2)
سيأتيك عما قريب ترجمة عمرو بن عبيد، وقد تقدمت ترجمة ابن أبي دؤاد في كتاب التوحيد، وكذلك أبو الهذيل العلاف، وهو إمام القدرية في زمانه، كما في درء تعارض العقل والنقل:(1/305) .
.. ذلك هو حال المعتزلة مع جهاز الحكم، وأهل السنة كانوا على نقيض ذلك تماماً، وسبب ذلك ما قدمته من وجود شيء من الخلل في جهاز الحكم، وتلبس الحكام بشيء من الظلم فآثر أهل السنة الابتعاد عنهم، ومن اضطر لمخالطتهم نصحهم ولم يركن إليهم، وما أرادوا بالأمرين إلا الاحتراز من الشين، وإرضاء رب الكونين، وفي سنن الدارمي عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان ولا يخاصمن أهل الأهواء (1) . وقد بلغ الأمر بأهل السنة الكرام أن يحترزوا ممن يخالط السلطان، قال سعيد بن المسيب – عليه رحمة الرحمن الرحيم –: إذا رأيتن العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه، فإنه لص، وقيل للأعمش – رحمه الله تعالى –: لقد أحييت العلم لكثرة من يأخذ عنك، فقال: لا تعجبوا، ثلث يموتون قبل الإدراك، وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهو شر الخلق والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل (2) .
(1) انظر سنن الدارمي – المقدمة – باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله: (1/77) .
(2)
انظر قول سعيد في الإحياء: (1/66، 74)، وقول الأعمش فيه أيضاً:(1/74)، وفي جامع بيان العلم وفضله:(1/185)، وفيه أيضاً قال الأعمش: شر الأمراء أبعدهم من العلماء، وشر العلماء أقربهم من الأمراء، وانظره في بهجة المجالس:(1/322)، وقد ورد معنى هذا في حديث رواه ابن ماجه في – المقدمة – باب الانتفاع بالعلم والعمل به:(1/94) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء" قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (1/74) : سنده ضعيف.
وللإمام ابن الجوزي – رحمه الله تعالى – نظرات سديدة، وأقوال محكمة رشيدة في هذا الموضوع فمن ذلك قوله في صيد الخاطر:(453) العجب ممن عنده مُسْكَةٌ من عقل، أو عنده قليل من دين كيف يؤثر مخالطتهم، فإنه بالمخالطة لهم، أو العمل معهم، يكون قطعاً خائفاً من عزل أو قتل أو سم ولا يمكنه أن يعمل إلا بمقتضى أوامرهم، فإن أمروا بما لا يجوز لم يقدر أن يراجع، فقد باع دينه قطعاً بدنياه إلخ، وقال في صفحة:(347) : طال تعجبي من مؤمن بالله، مؤمن بجزائه يؤثر خدمة السلطان مع ما يرى منه من الجور الظاهر إلخ، وقال في:(402-403) : وقد تغير الزمان، وفسد أكثر الولاة، وداهنهم العلماء، ومن لا يداهن لا يجد قبولاً للصواب فيسكت، وقد كانت الولايات لا يسألها إلا من أحكمته العلوم، وثقفته التجارب، فصار أكثر الولاة يتساوون في الجهل، فتأتي الولاية على من ليس من أهلها، ومثل هؤلاء ينبغي الحذر منهم، والبعد عنهم، وأخبر عما لقي بنفسه من المخالفة في:(110، 399) فقال: كنت قد رزقت قلباً طيباً ومناجاة حلوة، فأحضرني بعض أرباب المناصب طعامه، فما أمكن خلافه، فتناولت وأكلت منه فلقيت الشدائد، ورأيت العقوبة في الحال، واستمرت مدة، وغضبت على قلبي، وفقدت ما كنت أجده، فقلت: واعجباً، لقد كنت في هذا كالمكره، فتفكرت وإذا به قد يمكن مداراة الأمر بلقيمات يسيرة، ولكن التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمداراة، فلما تناولت بالتأويل لقمة، واستحليتها بالطبع لقيت الأمرين بفقد القلب فاعتبروا يا أولي الأبصار، ومما يشبه ما جرى لابن الجوزي ما في الإحياء:(2/20) أن بعض المزكين رد شهادة من حضر طعام سلطان، فقال: كنت مكرهاً، فقال: رأيتك تقصد الأطيب، وتكبر اللقمة، وما كنت مكرهاً عليه 10هـ وقد كرر ابن الجوزي الأخبار عن نفسه بما حصل له من تغير وتكدر حالٍ من مخالطة السلاطين، فقال في:(78-81) : كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاء بإدامة الصوم والصلاة وحبب إليّ الخلوة، فكنت أجد قلباً طيباً، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس وحلاوة ومناجاة، فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه، فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة ثم استمالني آخر، فكنت أتقي مخالطته، ومطاعمه لخوف الشبهات، وكانت حالي قريبة، ثم حال التأويل فانبسطت فيما يباح، فعدمت ما كنت أجده، وصارت المخالطة توجب ظلمة القلب إلى أن عدم النور كله، فكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طب نفسي، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهة مني، ورد قلبي على بعد نفوره مني، وأراني عجيب ما كنت أوثره، فأفقت من مرضي غفلتي، ثم ذكر أن أسلم شيء للإنسان العزلة، خصوصاً في زمن مات فيه المعروف، وعاش فيه المنكر، ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة، فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز، ولم يقدر على جذبهم مما هم فيه، ومن تأويل العلماء الذين يعملون لهم في الولايات يراهم منسلخين من نفع العلم، قد ساروا كالشرط فليس إلا العزلة عن الخلق، والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة، وقد اعترف كل من داخل السلاطين إن كان من الصالحين بما اعترف به الإمام ابن الجوزي، ولذلك قال الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر:(288) : ولما بليت أقوام بمخالطة الأمراء، أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها، فقال سفيان بن عيينة – رضي الله تعالى عنه –: منذ أخذت من مال فلان الأمير منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن، وأثر ابن عيينة رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع:(1/368) .
وقد قرر ابن الجوزي أن مداخلة السلاطين، ومساعدتهم في أعمالهم، تلحق فاعل ذلك بهم ففي صفحة:(422) يقول: قال السجان للإمام أحمد بن حنبل – عليه رحمة الله تعالى –: هل أ، امن أعوان الظلمة؟ فقال: لا، أنت من الظلمة، إنما أعوان الظلمة من أعانك في أمر 10هـ وفي الإحياء:(2/13، 20، 98، 149) آثار كثيرة عن سلفنا الصالح تشبه هذا القول، فمن ذلك قول سفيان بن عيينة – رحمه الله تعالى –: لا تخالط السلطان، ولا من يخالطه، وقال: صاحب القلم، والدواة وصاحب القرطاس بعضهم شركاء بعض، وقال رجل لابن المبارك – عليه رحمة الله تعالى –: أنا رجل خياط، وأخيط ثياب السلاطين، فهل تخاف عليّ أن أكون من أعوان الظلمة؟ قال: لا، إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الخيط والإبرة، أما أنت فمن الظلمة نفسهم.
ب- وجود عدد منهم من أهل اللسن والفصاحة في كل طبقة من طبقاتهم، فاستطاعوا بذلك استمالة الناس إليهم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "إن من البيان لسحراً (1)
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب النكاح – باب في الخطبة –: (9/201)، وكتاب الطب – باب إن من البيان لسحراً:(10/237) بشرح ابن حجر فيهما، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب ما جاء في المتشدق في الكلام:(5/275)، وسنن الترمذي – كتاب البر والصلة –: باب ما جاء في أن من البيان سحراً –: (6/30)، والموطأ – كتاب الكلام – باب ما يكره من الكلام بغير ذلك الله –:(2/986)، والمسند:(2/16، 59، 62، 94)، ورواه أحمد عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في:(1/269، 273، 303، 309، 327، 332)، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر:(4/138) رقم 2424 وعن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في: (1/397، 454) وإسناده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (5/293) 3778، ورواه عن معد بن يزيد السلمي – رضي الله تعالى عنه – في:(3/470)، وعن عمار بن ياسر – رضي الله تعالى عنهما – في:(4/263)، وعنه رواه مسلم في كتاب الجمعة:(6/158) بشرح النووي، وهو في سنن الدارمي – كتاب الصلاة – باب في قصر الخطبة –:(1/365)، والحديث رواه الطبراني عن أنس – رضي الله تعالى عنه – وفيه العباس بن الفضل وهو متروك كما في مجمع الزوائد:(8/123) .
وأحسن ما يقال في معنى الحديث أن الكلام، إذا وقع على أتم بيان، بأن دخلته الصنعة من الإنسان، بحيث يروق للسامعين، ويستميل قلوبهم، كحال السحر إذا خلب القلب، وغلب على النفس حتى يحول الشيء عن حقيقته، يصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره، وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح، وإذا صرف إلى الباطل يذم، انظر تفصيل ذلك في فتح الباري، وشرح النووي – في الأماكن المتقدمة، وعارضة الأحوذي:(8/182-183) .
" فمؤسس المذهب واصل بن عطاء الغزَّال مِنْطيق فصيح ذكي بليغ، وأبو الهذيل العلاف مناظر مفوه، وخطيب مِصْقَعٌ، كان يستشهد بثلاثمائة بيت من الشعر في مناظرته، وقد تقدم في كتاب التوحيد بيان قوة عارضته، وشدة ذكائه، وألمعيته.
…
ويضاف إلى ذلك الأمر، عنايتهم بالثرثرة، وعدم الاقتصار في الكلام على الضرورة، فمجالسهم قيل وقال، وشغب وجدال، وذلك مما يخدع به السذج الجهال، وقد شهد أمير المؤمنين هارون الرشيد، باتصافهم بذلك الحال، كما تقدم قريباً فكن منه على بال.
3-
تعاونهم فيما بينهم على نشر ما يدعون إليه وتساندهم في بث ما اتفقوا عليه، حتى استطاعوا في نهاية الأمر، إقناع المأمون بما يدعون إليه من وزر، فصبا إليهم ومال، وتقلد مذهب الخزي والعار، واضطهدوا أئمة السنة الأبرار، وتغيرت الأمور، وتكدرت الأحوال، وكثر البلاء واستطار، إذ تبع ذلك المذهب غفير من الأغمار، واستمر الحال على ذلك العار حتى أزاله العزيز القهار على يد المتوكل إمام الأبرار.
…
وقد ضرب المتقدمون الأمثال، بتعاون المعتزلة الضلال، فقالوا معبرين عن مدى الاحتفاء والإجلال: اعتد به، كاعتداد الشيعي بالشيعي، والمعتزلي بالمعتزلي (1) – جمعنا الله على الهدى، وحفظنا من الزيغ والردى.
نشأة تلك الفرقة المنكرة، وحكمها في شريعة الله المطهرة:
(1) انظر تفصيل الكلام على أسباب انتشار مذهب المعتزلة اللئام، في تقديم الأستاذ محمد محيى الدين عبد الحميد لكتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين:(21-22)، وفي كتاب التنبيه والرد:(40) يقول الإمام أبو الحسن الملطي – رحمه الله تعالى –: واعلم أن للمعتزلة سوى من ذكرناهم جماعة كثيرة قد وضعوا من الكتب والهوس ما لا يحصى، ولا يبلغ جمعه، وهي في كل بلدة وقرية، ولا تخلو منهم الأرض.
.. ظهر مذهب المعتزلة في أوائل المائة الثانية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق المِلِّي، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن؟ فقالت الخوارج: إنه كافر، وقالت الجماعة أهل السنة: إنه مؤمن، وقالت طائفة: نقول هو فاسق، لا مؤمن، ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه – رحمهم اله جميعاً – فسموا معتزلة (1) .
(1) انظر مجموع الفتاوى الكبرى: (3/182-183)، وأفاد في:(10/358) أن انتشارا أمر المعتزلة تم بعد موت الحسن البصري وابن سيرين – عليهما رحمة الله تعالى – وذكر في: (8/228) أن قتادة وغيره قالوا: أولئك المعتزلة.
.. وأول من قال إن مرتكب الكبيرة: لا مؤمن ولا كافر، إنما هو منزلة بين الإيمان والكفر في الدنيا ومخلد في النار في الآخرة هو: واصل بن عطاء الغزَّال، المتكلم البليغ المتشدق، وكان من تلاميذ الحسن البصري – رحمه الله تعالى – فلما قال ما قال، طرده من مجلسه، فاعتزل عنه، وجلس في ناحية من مسجد البصرة، وانضم إليه عمرو بن عبيد، فقيل لهما ولأتباعهما: المعتزلون، أو المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن البصري، ولاعتزالهم قول الأمة في دعواهم: إن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر 0 قال الذهبي – عليه رحمة الله – في الميزان: كان واصل من أجلاد المعتزلة، قال أبو الفتح الأزدي: هو رجل سوء كافر، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة (1) .
(1) انظر إيضاح ذلك وترجمة واصل في وفيات الأعيان: (3/130، 248، 5/61)، وميزان الاعتدال:(4/329) ولسان الميزان: (6/214-215)، وشذرات الذهب:(1/182-183)، والفرق بين الفرق:(20-21، 117-119)، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: 38، والملل والنحل: 1/53-57 واحذر ما جاء في طبقات المعتزلة للمعتزلي عبد الجبار: (234-241 من إسفاف ومجازفة في الثناء على واصل الضال، وما ذكره في صفحة: (234) من الحديث في فضل واصل: "سيكون في أمتي رجل يقال له واصل، يفصل بين الحق والباطل" فهو من لهو الحدث، ومن أشنع الكلام الخبيث، ولا يصدر إلا من رقيع خسيس.
.. وقد تبع عمرو بن عبيد واصل بن عطاء على تلك المقالة النكراء، وبلغ من شدة تعلقه به أن زوجه أخته، والطيور على أشكالها تقع، وقال له: زوجتك أختي إذ لم يكن لي بنت، وما بي إلا أن يكون لك عقب، وأنا خاله، فما حقق الله أمنيته، وقطع نسلهما، وماتا جميعاً، ولم يعقبا، وفي الميزان، وتهذيب التهذيب نقلا ً عن ابن حبان – عليه رحمة الرحيم الرحمن – كان عمرو بن عبيد من أهل الورع والعبادة، إلى أن أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – هو وجماعة معه، فمسوا بالمعتزلة – وكان يشتم الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – ويكذب في الحديث وَهْماً لا تعمُّداً، قال ابن حجر معلقاً على كلام ابن حبان وغيره: والكلام فيه، والطعن عليه كثيراً جداً وبذلك ختم ترجمته 0 وفي البداية والنهاية نقلا ً عن الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – قال: عمرو بن عبيد سيد شباب القراء ما لم يحدث، قالوا: فأحدث والله أشد الحدث، وقد قال عبد الله ابن المبارك – عليه رحمة الله تعالى –:
أيها الطالب علماً
…
ايتِ حماد بن زيدِ
فخذِ العلم بحلم
…
ثم قيده بقيدِ
وذر البدعة من
…
آثار عمرو بن عبيدِ
…
قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الرب الجليل –: وقد كان عمرو بن عبيد محظياً عند أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يحبه ويعظمه، لأنه كان يفد على المنصور مع القراء، فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئاً، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه، فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله، لأن المنصور كان بخيلا ً، وكان يعجبه ذلك منه وينشد:
كلكم يمشي رويد
…
كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد
.. ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمر بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد مال لا يطيقه عمرو، ولا كثير من المسلمين في زمانه، مات عمر سنة ثلاث وأربعين ومائة (1) .
حكم تلك الفرقة:
(1) انظر ما تقدم وغيره في ميزان الاعتدال: (3/273-280)، وتهذيب التهذيب:(/70-75) والبداية والنهاية: (10/78-80)، والفرق بين الفرق:(20، 120-121)، والملل والنحل:(1/56) وتاريخ بغداد: (12/166-188)، وفيه في:(183) عن سلام بن أبي مطيع قال: لأنا أرجي للحجاج مني لعمرو بن عبيد، إن الحجاج إنما قتل الناس على الدنيا، وإن عمرو بن عبيد أحدث فتنة، فقتل الناس بعضهم بعضاً، وانظر وفيات الأعيان:(3/130-133)، والمعارف:(212)، ومروج الذهب:(3/313-314) وشذرات الذهب: (1/211) .
.. الذي حط عليه كلام المحققين، الحكم عليهم بالضلال، وتفويض شأنهم إلى الكبير المتعال – جل جلاله – قال الإمام الذهبي في الميزان، وقال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين – عليهم جميعاً رحمة رب العالمين – يقول: كان عمرو بن عبيد من الدهرية، قلت: وما الدهرية؟ قال: الذين يقولون لا شيء، إنما الناس مثل الزرع، وكان يرى السيف، قال المؤلف – الإمام الذهبي – لعن الله الدهرية، فإنهم كفار، وما كان عمرو هكذا 10هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: نصوص الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم 10هـ ونقل عن السلف تكفير من نفى الكتاب والعلم من القدرية، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال، قال: وأقدم من بلغنا أنه تكلم في تعيين الفرق الهالكة وتضليلهم يوسف بن أسياط، ثم عبد الله بن المبارك – وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين عليهما رحمة رب العالمين – قالا: أصول البدعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فقيل لابن مبارك: والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، وقالوا: إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة، وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، ثم قال شيخ الإسلام: من أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله – صلى الله عليه وسلم –:"هم في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره كما قال – جل جلاله –:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} النساء10.
ومن أدخل الجهمية فيهم – أي: في الفرق الضالة البالغ عدد ثنتين وسبعين فرقة – منهم على قولين:
.. منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة، أو المتكلمين وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير "المرجئة" و"الشيعة المفضلة" ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص الإمام أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميعه أهل البدع – من هؤلاء وغيرهم – خلافاً عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة.
…
ومنهم من لم يكفر أحداً من هؤلاء إلحاقاً لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب، فكذلك لا يكفرون أحداً ببدعة، والمأثور عن السلف والأئمة: إطلاق أقوال بتكفير "الجهمية" المحضة (1) .
(1) انظر ما تقدم في ميزان الاعتدال: (3/280)، ومجموع الفتاوى:(23/348، 3/350-352) وكرر نحو ذلك في أماكن من مجموع الفتاوى: (28/50، 3/229، 282) .
.. وصفوة كلامه – رحمه الله تعالى – أن من عدا الجهمية لا يكفرون، وفي تكفير الجهمية نزاع، والمنقول عن السلف القول بكفرهم، وبناء على هذا فالمعتزلة ضلال وليسوا بكفار، وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن قدامة في رسالته إلى الشيخ محمد بن الخضر بن تيمية – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – ومما قاله في ذلك: ثم إن الإمام أحمد – الذي هو أشد الناس على أهل البدع – قد كان يقول للمعتصم: يا أمير المؤمنين، ويرى طاعة الخلفاء الداعين إلى القول بخلق القرآن، وصلاة الجمع والأعياد خلفهم ولو سمع الإمام أحمد من يقول هذا القول – تكفير أهل البدع، وتخليدهم في النار – الذي لم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أحد قبله – أي: قبل الإمام أحمد – لأنكره أشد الإنكار، فقد كان ينكر أقل من هذا (1) .
(1) انظر الذيل على طبقات الحنابلة: 2/156، والرسالة طويلة لخص منها ابن رجب قرابة أربع صفحات، وأشار إلى تأليف ابن قدامة إلى هذه الرسالة في ترجمة ابن قدامة:(2/139) فقال في عد تصانيفه، منها: رسالة إلى الشيخ فخر الدين بن تيمية في تخليد أهل البدع في النار. وانظر نحوه ما ذكره ابن قدامة عن الإمام أحمد في مجموع الفتاوى: (23/349) وفي: (8/430، 460) قرر عدم تكفير الأئمة للمعتزلة ولا لمقابلهم من الجبرية، إنما كفروا من نفى علم الله بالأشياء قبل وقوعها.
.. قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – إطلاق الكفر على الزائغين المبتدعين، من قبل بعض السلف الصادقين، محمول على واحد من أمور أربعة عن المهتدين، فاعلم ذلك ولا تكن من الغافلين، قال الإمام البغوي – عليه رحمة رب العالمين – بعد أن قرر وجوب هجر الزائغين المفسدين، وسير السلف على ذلك الهدي القويم –: ثم هم مع هجرانهم كفوا عن إطلاق اسم الكفر على أحد من أهل القبلة، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – جعلهم كلهم من أمته – أي في الحديث المتقدم في افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة –. وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن، روي ذلك عن الأئمة الكرام مالك، وابن عيينة، وابن المبارك، والليث بن سعد، ووكيع بن الجراح، وغيرهم – رحمهم الله جميعاً –. وناظر الشافعي – رحمه الله تعالى – حفصاً الفَرْدَ، فقال: حفص: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم (1) .
والأمور الأربعة التي يحمل عليها إطلاق الكفر على المبتدعين هي:
(1) انظر شرح السنة: (1/228)، وانظر مناقشة الشافعي لحفص الفرد المعتزلي وحكمه بالكفر على من قال بخلق القرآن في الأسماء والصفات:(252)، والسنن الكبرى:(10/206)، ومناقب الشافعي:(10/460) والانتقاء: (82)، وتبيين كذب المفترى:(339)، والمقاصد الحسنة:(304)، وفيه: تكفير الشافعي لحفص الفرد ثابت، وانظر كشف الخفاء:(2/94)، وتدريب الراوي:(216)، ومنهج ذوي النظر:(106)، والبداية والنهاية:(10/254)، ومجموع الفتاوى:(23/349)، وآداب الشافعي ومناقبه:(194)، وذلك الحكم قاله الإمام أحمد أيضاً ففي مسائل الإمام أحمد:(262) قال أبو داود: قلت لأحمد: من قال القرآن مخلوق أكافر هو؟ قال: أقول هو كافر.
1-
كفر لا يخرج عن الملة: فهو كفر دون كفر، قال الإمام البغوي وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع، والصلاة خلفهم مع الكراهة على الإطلاق، فهذا القول منه دليل على أنه إن أطلق عليه بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفراً دون كفر (1) .
2-
فعل المبتدعين، يشابه فعل الكافرين، ولوجود ذلك الاتفاق بينهما، صح إطلاق لفظ الكفر على المبتدعة منهما، ولم تطبق على المبتدعين أحكام الكفر، لقيام شبهة عندهم لهم فيها شائبة عذر، قال الإمام ابن تيمية: وكذلك الإمام الشافعي لما قال لحفص الفَرْد حين قال: القرآن مخلوق، كفرت بالله العظيم، بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك، لأنه لا يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرح في كتبه بشهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم (2) .
(1) انظر شرح السنة: (1/228)، وانظر نحو ذلك التعليل في الذيل على طبقات الحنابلة:(2/156) .
(2)
انظر مجموع الفتاوى: (23/349)، وقال قبل ذلك:(23/346) : وحقيقة الأمر في ذلك – أي في تكفير أهل البدع – أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، ولم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله فيها، ونحو ذلك في:(7/619) .
3-
إن ذلك الزيغ سيؤدي إلى الكفر في نهاية المطاف، لما يتلبس به المبتدع من شنيع الأوصاف وإذا كانت المعاصي بريد الكفر، فإن البدع بريدها السريع، مع الضمان الوثيق، لذلك الوصف الشنيع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر، وآيلة إليه (1) .
4-
إطلاق الكفر على المبتدعين، من باب التغليظ والردع للزائغين، زجراً لهم عن إفكهم المبين وتنفيراً لغيرهم من ذلك المسلك الوخيم (2) .
(1) انظر قول العلماء الكرام: الصغيرة تجر إلى الكبيرة، وهي تجر إلى الكفر، لأن المعاصي بريد الكفر في الفتح المبين لشرح الأربعين:(118)، وكشف الخفاء:(2/213)، ونحو ذلك في الإحياء:(4/32)، وانظر مجموع الفتاوى:(6/359)، كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر ، وآيلة إليه
…
(2)
انظر توجيه إطلاق لفظ الكفران، ونفي الإيمان، عن أهل الفسوق والعصيان في فتح الباري:(1/112)، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم –:(2/57)، ومجموع الفتاوى:(7/524-525)، ومدارج السالكين:(1/395-397)، وأجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المشكاة:(3/1778-1779) .
وبهذه التحقيقات العلية، يتبين الوجه في إطلاق لفظ "المجوس" على القدرية، في قول خير البرية – عليه صلوات الله وسلامه بكرة وعشية –: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم (1)
(1) رواه أبو داود في سننه – كتاب السنة – باب في القدر –: (5/66)، والحاكم في المستدرك – كتاب الإيمان –:(1/85) وأحمد في المسند: (2/86، 125)، وابن أبي عاصم في كتاب السنة:(1/149-150)، والآجري في الشريعة:(190)، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد:(7/205)، كلهم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواية الحاكم وأبي داود وإحدى روايات ابن أبي عاصم من طريق أبي حازم سلمة بن دينار عن ابن عمر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر، وأقره الذهبي، قال الهيثمي في تهذيب السنن:(7/58) : هذا منقطع، أبو حازم لم يسمع من ابن عمر، ووصله الآجري وفيه زكريا بن منظور، ومن طريقه أخرجه الطبراني: قال الهيثمي: زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح وغيره، وضعفه جماعة 10هـ والذي حط عليه كلام ابن حجر في التقريب:(1/261) أنه ضعيف، ورواية أحمد الأولى، وإحدى روايات ابن أبي عاصم عن طريق عمر بن عبد الله، وعمر مولى غفرة لم يسمع أحداً من الصحابة كما في تهذيب التهذيب:(7/472) نقلا ً عن ابن معين، فالسند منقطع. ومع هذا فقد حكم ابن حجر عليه في التقريب:(2/59) بالضعف..ورواه أحمد في المكان الثاني متصلا ً عن مولى غفرة عن نافع عن ابن عمر، وقد علمت حال مولى غفرة، ومع ذلك فقد مال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(8/279) 6077 إلى ترجيح الحكم عليه بالصحة، وأن علة الانقطاع في الرواية الأولى قد زالت، وقد ورد في بعض روايات ابن أبي عاصم، والآجري والطبراني في الصغير:(2/14) من طريق الحكم بن سعيد عن الجعيد بن عبد الرحمن عن نافع به، وساقه البخاري في التاريخ الكبير:(2/341) في ترجمة الحكم بن سعيد، وحكم عليه بالنكارة، وكذلك عَدَّ الذهبيُّ في الميزان:(1/570) هذا الحديثَ من مناكير الحكم بن سعيد، وأقر ذلك ابن حجر في اللسان:(2/332) ، ونقله أيضاً عن العقيلي، وابن عدي، والحديث رواه ابن أبي عاصم أيضاً من طريق إسماعيل بن داود عن سليمان بن بلال عن أبي حسين عن نافع به، وإسماعيل ضعفه أبو حاتم كما في الميزان:(1/226)، وقال البخاري في التاريخ الكبير:(1/374) : إنه منكر الحديث، وانظر حديث ابن عمر أيضاً في الميزان:(2/79)، والمجروحين لابن حبان:(1/314) .
وقد روي الحديث عن حذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهما – بنحو الحديث المتقدم في سنن أبي داود في المكان المتقدم، وفي المسند:(5/406-407)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/144) كلهم عن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة، وتقدم الكلام في مولى غفرة، والرجل الأنصاري مجهول كما في تهذيب السنن:(7/61) .
وروي الحديث أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – في سنن ابن ماجه – المقدمة – باب في القدر –: (1/35)، ومعجم الطبراني الصغير:(1/221)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/144) والشريعة للآجري: (190) بزيادة: "وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم" ورجال السند ثقات إلا أن أبا الزبير محمد بن مسلم بن تدردس المكي مدلس كما في التقريب: (2/207) وقد عنعن.
وري الحديث عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في كتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/146) بنحو ما تقدم، وسنده ضعيف كما قال الشيخ الألباني في تعليقه عليه.
وروي عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في كتاب السنةلابن أبي عاصم –: (1/151) والشريعة للآجري: (191) وهو من رواية مكحول عن أبي هريرة، وروايته عنه مرسلة، لأنه لم يسمع عنه كما في تهذيب التهذيب:(10/290-292) وفي بعض أيضاً مع انقطاعه عطاء الخرساني صدوق يهم كثيراً، ويرسل ويدلس كما في التقريب:(2/23) وقد عَنْعَنَهُ، وفيه أيضاً جعفر به الحارث الواسطي صدوق كثير الخطأ كما في التقريب:(1/130)، وانظر الحديث في تاريخ بغداد:(14/114) من رواية سهل بن سعد – رضي الله تعالى عنه – ورواه عنه الطبراني في الأوسط واللالكائي في السنة كما في تنزيه الشريعة: (1/317) وانظره في الميزان: (4/377)، واللآليء المصنوعة:(1/259) .
وروي الحديث عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – في المعجم الأوسط للطبراني ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي، وهو ثقة كما في مجمع الزوائد:(7/205)، وانظر ترجمة هارون في تهذيب التهذيب:(11/13-14) ولفظ الحديث: "القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم".
وهذه الرواية الأخيرة ورد ما يشبهها وبعضها في سنن الترمذي – كتاب القدر – باب ما جاء في القدرية –: (6/321)، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب في الإيمان –:(1/24، 28)، والشريعة للآجري:(148، 193)، والسنة لابن أبي عاصم:(1/147، 2/461-462) ، كلهم عن ابن عباس وزاد ابن أبي عاصم وابن ماجه عن جابر، وزاد الآجري روايته عن أبي هريرة وزاد ابن أبي عاصم ورايته عن أبي يعلى، ورواه عنه إسحاق بن راهُوْيَهْ كما في المطالب العالية:(3/88) ورواه إسحاق عن أبي بكر – رضي الله تعالى عنه – أيضاً كما في المطالب العالية، وانظره عن معاذ – رضي الله تعالى عنه – في التاريخ الكبير للبخاري:(1/375)، والعلل المتناهية:(1/144)، ورواه أبو نُعيم في الحلية عن أنس:(9/254) – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وأمثل طرقه طريق الترمذي وقد حسنه وفي بعض النسخ ضم إلى التحسين الحكم عليه بالصحة فقال: هذا حديث غريب حسن صحيح.
انظر الطبعة الحمصية: (6/321)، والمصرية:(4/54)، وعارضة الأحوذي:(8/316)، وتنزيه الشريعة:(1/318) ، وفي سنده علي بن نزار، ووالده نزار بن حيان الأسدي وكل منهما ضعيف كما في التقريب:(2/45، 2/298)، ولذلك حكم الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول:(10/130) عليه بالضعف، ولفظ الحديث:"صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية".
قال عبد الرحيم: وصفوة الكلام أن كلاً من الحديثين لا ينزل عن درجة الحسن إن شاء الرحيم الرحمن، وإليك البيان:
أما الحديث الأول: "القدرية مجوس هذه الأمة" إلخ فقد تقدم بيان كثرة طرقه، وغالب تلك الطرق فيها شيء من الضعف إما بسبب الانقطاع، أو بسبب عَنْعَنَةِ المدلسين، وقد أطلق الذهبي في تهذيب السنن:(7/58) أن حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – روي من طرق ليس فيها شيء يثبت، وقال العقيلي كما في لسان الميزان:(2/332) يروى من طرق ضعاف بغير هذا الإسناد، أي إسناد الحكم بن سعيد المتقدم، ولا يصل الحديث إلى درجة الوضع، أو الترك والنكارة، وما أصاب ابن الجوزي في الحكم على الحديث بالوضع وإيراده في الموضوعات:(1/275) والعلل المتناهية: (1/144-154) ، لان مجيء الحديث الضعيف من طرق ترفعه إلى درجة الحسن، مع أن بعض تلك الطرق لها تلك الصفة على انفرادها كرواية الإمام أحمد في المسند حسبما رأى الشيخ أحمد شاكر، وكحديث أنس – رضي الله تعالى عنه – عند الطبراني في الأوسط.
وعلى التسليم بعدم وصول كل رواية على انفرادها مرتبة القبول فبمجموعها تبلع ذلك بلا ريب، ولذلك تتابع الأئمة الحفاظ على رد كلام الإمام ابن الجوزي، وحكموا على الحديث بأنه في درجة الحسن على أقل تقدير، فالإمام السيوطي ينقل عن الحافظ صلاح الدين العلائي تحسين الحديث ويقره على ذلك قال في اللآليء المصنوعة:(1/258-259) ما حاصله: قال الحافظ العلائي: إخراج ابن الجوزي الحديث في الموضوعات ليس بجيد، لأن له طرقاً أخرى لا يحكم عليها بالوضع، فلا فائدة إذن في إخراجه في الموضوعات، لأنه يوهم أن الحديث من أصله موضوع، وليس كذلك، وهكذا إخراجه هذا الحديث في كتاب الأحاديث الواهية، لأنه ليس كذلك بل ينتهي بمجموع طرقه إلى درجة الحسن الجيد المحتج به إن شاء الله تعالى 1هـ ونص الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المصابيح:(3/1779) على أن الحديث من شرط الحسن 10هـ ونقل الحافظ ابن عَرَّاق كلام الحافظ العلائي المتقدم وأقره في تنزيه الشريعة: (1/317) – الفصل الثاني من كتاب السنة – وحكم الشيخ الألباني بحسنه في تعليقه على أحاديث المشكاة: (1/38) 107، وحكم عليه بالحسن، وبالصحة أيضاً في تعليقه على كتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/150، 151) .
وهكذا حال الحديث الثاني: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب" إلخ فقد تقدم تحسين الترمذي له، بل وتصحيحه في بعض النسخ، ومع التنبيه على وجود راوٍ فيه فيه ضعف، ولعل حكم الترمذي عليه بالحسن هو الصواب، وذلك لكثرة طرقه كما هو مقرر عند أولي الألباب، وما حالف ابنَ الجوزيِّ الصوابُ في إيراده الحديث في العلل المتناهية – المكان السابق – ولذلك رد عليه الحافظ العلائي كما في تنزيه الشريعة – المكان المتقدم أيضاً – وأقر ابن عَرَّاق ذلك، وحاصل الكلام: أن تحسين الترمذي ووجود المتابعات له تُخرجه عن كونه موضوعاً أو واهياً 1هـ ثم نقل ابن عراق عن الحافظ العراقي الحكم على الحديث بالحسن 1هـ وهكذا مال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المصابيح: (3/1778) إلى تحسين الحديث، وذكر أن الخبر إذا جاء من طريقتين قوى أحدهما بالآخر، ومن ثم حسنه الترمذي 1هـ.
والحكمة من قرن القدرية بالمرجئة ما قاله الإمام ابن العربي – رحمه الله تعالى - في العارضة: (8/297) من أن القدرية أبطلت الحقيقة، والمرجئة أبطلت الشريعة 1هـ ولشيخ الإسلام – عليه الرحمة والرضوان – كلام محكم متين في حكمة اقتران القدرية بالمرجئة الزائغين، وعبارته في مجموع الفتاوى:(8/105) قرنت القدرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف، وروي في ذلك حديث مرفوع، لأن كلاً من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي، والوعد والوعيد، فالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم، والقدري إن احتج كان عوناً للمرجئي، وإن كذب كان هو والمرجئي قد تقابلا، هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به، وترك ما نهي عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى 10هـ.
".
…
قال ابن الأثير – عليه رحمة الملك الكبير – في جامع الأصول: القدرية في إجماع أهل السنة والجماعة: هم الذين يقولون: الخير من الله، والشر من الإنسان، وإن الله لا يريد أفعال العصاة، وسموا بذلك، لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله – جل وعلا – ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه، وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون هذا الاسم إلى مخالفيهم من أهل الهدى، فيقولون: أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله، وأنكم أولى بهذا الاسم منا، وهذا الحديث يبطل ما قالوا، فإنه – صلى الله عليه وسلم – قال:"القدرية مجوس هذه الأمة" ومعنى ذلك: أنهم لمشابهتهم المجوس في مذهبهم، وقولهم بالأصلين، وهما: النور والظلمة، فإن المجوس يزعمون: أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة فصاروا بذلك ثَنَوِيَّةً، وكذلك القدرية، لما أضافوا الخير إلى الله، والشر إلى العبيد أثبتوا قادِرَيْنِ خالِقَيْنِ للأفعال، كما أثبت المجوس، فأشبهوهم، وليس كذلك غير القدرية، فإن مذهبهم أن الله – عز وجل – خالق الخير والشر، لا يكون شيء منهما إلا بخلقه ومشيئته، فالأمران معاً مضافان إليه خلقاً وإيجاداً، وإلى العباد مباشرة واكتساباً (1) .
(1) انظر جامع الأصول: (10/128) نحوه في مجموع الفتاوى: (8/452)، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم:(1/154) وقد استدل الإمام الآجري في الشريعة: (168) على شقاء القدرية بالحديث الوارد عن خير البرية – صلى الله عليه وسلم – في تشبيههم بشرذمة المجوس الردية، فقال: فإن قال قائل: هم عندك أشقياء؟ قلت: نعم، فإن قال قائل: بماذا؟ قلت: كذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم –، وسماهم "مجوس هذه الأمة" 10هـ وتلك التسمية لا تستلزم كفرهم كما تقدم، قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المشكاة:(3/1779) : المراد أنهم كالمجوس في إثبات فاعِلَيْنِ، لا في جميع معتقد المجوس، ومن ثم ساغت إضافتهم إلى هذه الأمة 1هـ.
فائدة علية هي خاتمة الكلام على تلك الفرقة الردية الغوية:
أفاد شيخ الإسلام – عليه رحمة الرحيم الرحمن – أن القدرية ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قدرية مشركة:
وهو الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي قال الله – عز وجل –:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَاّ تَخْرُصُونَ} الأنعام148، مثلها في سورة النحل35:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .
…
وهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق، وقد ابتلي بهذا الجهميةُ وطوائفُ من الفقراء والصوفية، ولن يستتب لهم ذلك، وإنما يفعلونه عند موافقة أهوائهم كفعل المشركين من العرب، وإذا خولف هوى أحد منهم قام في دفعه متعدياً للحدود غير واقف عند حد كما كانت تفعل المشركين أيضاً قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، إذ هذه الطريقة تتناقض عند تعارض إرادات البشر فهذا يريد أمراً، والآخر يريد ضده، وكل من الإرادتين مقدرة، فلابد من ترجيح إحداهما، أو غيرهما.
القسم الثاني قدرية مجوسية:
.. وهم الذين يجعلون لله – جل وعلا – شركاء في خلقه، كما جعل الأولون لله – جل وعلا – شركاء في عبادته، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشر ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست بمشيئة الله – عز وجل – وربما قالوا: ولا يعلمها أيضاً فيجحدون مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة، ولهذا قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن وحد الله، وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله، وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. ويزعمون أن هذا هو العدل، ويضمون إلى ذلك سلب الصفات، ويسمونه: التوحيد، كما يسمي الأولون التلحيد: التوحيد، فيلحد كل منهما في أسماء الله وصفاته، وقد وقع بذلك المعتزلة، والمتأخرون من الشيعة.
القسم الثالث قدرية إبليسية:
…
وهم الذين صدقوا الله بأن الله – جل وعلا – صدر عنه الأمران، لكن عندهم هذا تناقض، وهذا حال الزنادقة الملاعين، كالمعري وشيعته المجرمين (1) .
…
هذه هي أصناف الزائغين في قدر رب العالمين، وقد تكرم الله الكريم، بهداية عباده المخلصين إلى صراطه المستقيم، فأثبتوا أمر الله ونهيه، كما أثبتوا قدره وحكمته، وعولوا على القدر في المصائب، واستغفروا ربهم ولاذوا به عند المعايب – جعلنا الله العظيم من حزبه المفلحين، وختم لنا بالحسنى آمين.
(1) انظر تفصيل ذلك وإيضاحه في مجموع الفتاوى: (8/256-261، 3/111-128، 8/107)، وأثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – رواه الآجري في الشريعة:(215) وانظره في شرح الطحاوية: (225) .