المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محبطات الأعمال (2) - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ١٢٤

[عبد الرحيم الطحان]

الفصل: ‌محبطات الأعمال (2)

‌محبطات الأعمال (2)

(من خطب الجمعة)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

محبطات الأعمال (2)

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي صالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما {من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .

{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .

وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} .

أما بعد: معشر الإخوة الكرام..

ص: 1

تقدم معنا أن فرائض الله على كثرتها وتعددها وتنوعها تنقسم إلى قسمين اثنين فرض دائم على الدوام ينبغي أن يقوم به الإنسان في كل مكان وزمان وفرض مؤقت محدد بشروط في أمكنة وأزمنة وتقدم معنا أن الإنسان إذا ضيع الفرض الدائم فهو من الكافرين لرب العالمين ولا يقبل منه عمل عند الله عز وجل والفرض الثاني لا يقبل إلا إذا قام الإنسان بالفرض الأول.

وأما الفروض المؤقتة فقد تقدم معنا حالها وكنا نتدارسها وقلت إذا حقق الإنسان الفرض الأول وقام بالعبودية لرب البرية ولم ينقض عبوديته وتوحيده وإيمانه بربه جل وعلا، ففرائضه بعد ذلك إذا وقعت مستوفية للشروط ولا يوجد ما يبطلها فهي مقبولة وقد يوجد ما يبطلها ويحبطها وينقضها وإن لم يكن فاعلها من الكافرين وقد يمن الله على الإنسان بالقبول، وإن أتى بما يحبط العمل إذا لم يكن من الكافرين والأمر إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.

وتقدم معنا أن محبطات الأعمال ومبطلاتها كثيرة وفيرة سأقتصر على عشرة منها وكان في نيتي أن نتدارس هذه العشرة في الموعظة الأولى الماضية وقدر الله أن يطول الحديث فلعلني أكمل الكلام عليها في هذه الموعظة إن شاء الله.

إخوتي الكرام:

تدارسنا أربعة أمور من هذه الأمور العشرة التي تحبط العمل عند رب العالمين وإن لم يكن العامل من الكافرين برب العالمين.

أولها: الرياء عدم الإخلاص لرب الأرض والسماء.

ثانيها: الابتداع وعدم كون العمل على هدي نبينا عليه الصلاة والسلام.

ثالثها: المن باللسان على عباد الرحمن والمن بالجنان على ذي الجلال والإكرام.

ورابعها: رفع الصوت على نبينا عليه الصلاة والسلام فكيف سيكون الحال إذا قدم الإنسان رأيه وهواه واجتهاده على شرع النبي عليه الصلاة والسلام.

تقدم معنا الكلام على هذه الأمور الأربعة وبقي معنا ستة أمور لعلني أتكلم عليها في هذه الموعظة.

أولها: ترك صلاة العصر.

ص: 2

وثانيها: الوقوع في الزور والبهتان والآثام في شهر الصيام وعند الصيام.

وثالثها: الاحتيال على أكل الحرام.

ورابعها: أكل الحرام.

وخامسها: الوقوع في المسكرات.

وسادسها: إسبال الإزار وجر الثياب.

أمور عشرة تحبط الأعمال عند ذي العزة والجلال وإن لم يكن العامل من الكافرين عند رب العالمين.

أما الأمر الأول:

الذي سنتدارسه في هذه الموعظة وهو الأمر الخامس في ترتيب هذه الأمور العشرة فهو ترك صلاة العصر.

من ترك صلاة العصر متعمدا حبط عمله.

ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه والنسائي في سننه أيضا ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه، والحديث في صحيح ابن حبان والسنن الكبرى للإمام البيهقي وهو صحيح صحيح ولفظ الحديث من رواية بريدة بن الحصين رضي الله عنه وأرضاه أنه قال:[بكروا بصلاة العصر أيام الغيم فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من ترك صلاة العصر حبط عمله] .

والحديث رواه الإمام أحمد في المسند بسند صحيح كما نص على ذلك الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء 1/308 من رواية سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه بزيادة التعمد ولفظ حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من ترك صلاة العصر متعمدا فقد حبط عمله] .

والإنسان إذا ترك صلاة العصر إما أن يتركها تعمدا والتعمد ليس من باب الجحود ولا الاستهزاء إنما التعمد تركها كسلا وأما إذا تركها بعد ذلك ذهولا عنها لاشتغاله بأمور الدنيا فله عقوبة أخرى مع شناعتها أخف من هذه العقوبة.

ص: 3

كما ثبت في مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي والحديث في الصحيحين والسنن الأربعة ورواه ابن خزيمة في صحيحه كما رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى وهو من أعلى الأحاديث درجة فهو في الصحيحين من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله] .

والحديث رواه النسائي والطبراني في معجمه الكبير والإمام أحمد في المسند والبيهقي في السنن الكبرى من رواية نوفل بن معاوية والحديث رواه الإمام الطبري في تهذيب السنن والآثار من رواية سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر عن أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام [من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله] : أي سلب وفقد أهله وماله وأصل الموتور في لغة العرب يدل على دلالتين اثنتين الدلالة الأولى إذا أصيب الإنسان بأهله في أهله وفي ماله ووقعت الإصابة أمام عينيه ولا يستطيع أن يثأر ممن أوقع البأس بأهله يقال إنه موتور فقد اجتمع عليه غمان غم وقوع المصيبة على أهله وماله وغم عدم أخذ الثأر ممن أوقع بأهله البأس والضر وهنا اجتمع وعقوبتان على من فاتته صلاة العصر لاشتغاله بأمور الدنيا الغم الأول فاته الثواب والغم الثاني سيحصل العقاب ولله در الإمام البخاري حيث بوب على هذين الحديثين بابين في صحيحه في الجزء 2/30 من فتح الباري في كتاب الصلاة فبوب على حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بابا فقال باب إثم من فاتته صلاة العصر، ثم ذكر الحديث.

ولما جاء بعد ذلك لحديث بريدة رضي الله عنه في الباب الذي بعده قال باب في ترك صلاة العصر، أي: هنا ترك تعمدا وهناك فاتته ذهولا لاشتغاله بما يضادها.

ص: 4

هناك كأنما وتر أهله وماله، وأما هنا فقد حبط عمله كما حقق ذلك حذامي المحدثين وأمير المؤمنين شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فقال لفظ الترك مشعر بأنه تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فإذا فعل الإنسان هذا في صلاة العصر حبط عمله.

ومعنى الحديث يحتمل أن يحبط عمله في ذلك اليوم أو أن يحبط عمله كله وعلم ذلك عند ذي الجلال والإكرام وهذا الحبوط لا يعني أن الإنسان كافر لا ثم لا على أن أئمتنا تكلموا في ثلاثة ألفاظ من الحديث وما تحتمله من معاني:

أولها: الترك

والثاني: الحبوط

والثالث: العمل

قال الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا من ترك صلاة العصر قال بعض العلماء أي جحودا وعنادا أو استهزاءًا واستخفافًا فهو كافر بالله حبط عمله وهنا نقض عبوديته لربه، فهو أتى بما يسقط عمله ويبطل عمله عند ربه جل وعلا.

والفرض المؤقت لا يقبل إلا إذا قام الإنسان بالفرض الدائم على الدوام وهو العبودية لذي الجلال والإكرام.

وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنه من ترك صلاة العصر متعمدا كسلا فقد حبط عمله قال هذا ورد مورد الزجر والتغليظ وأن العمل قد يحبط عند الله عز وجل دون أن يكون العامل من الكافرين ومال إلى هذا الحافظ ابن حجر.

والذي يظهر أنه لا تعارض بين هذه التوجيهات فمن ترك صلاة العصر جاحدا لفرضيتها مستخفا مستهزئا بها فلا شك في كفره وردته وليس كلامنا فيه لأنه نقض الفرض الدائم إنما لو تركها عامدا كسلا دون جحود لفرضيتها ودون استهزاء بها فقد عرض عمله للحبوط عند الله عز وجل.

وأما الحبوط: فقال الحافظ ابن حجر: قال: بعض العلماء هذا كالتشبيه والتمثيل أي حاله كحال من حبط عمله والله عليم هل يحبط العمل أم لا وأورد قولا ثانيا لبعض العلماء قال أي كاد أن يحبط عمله.

ولا داعي لهذه التكلفات والتوجيهات، ولذلك المعني الثالث والمعتمد وهو ما قاله شيخ الإسلام الإمام أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي.

ص: 5

قال الحبوط قسمان: حبوط إسقاط بحيث يزول العمل الصالح عند الله ويكون فاعله من عداد الكافرين فهذا لا يكون إلا إذا كفر الإنسان بربه جل وعلا.

والثاني يقول حبوط موازنة وهي أن تجتمع الحسنات والسيئات فتغلب السيئات على الحسنات فهنا يحبط ثواب الحسنات بمعنى يضيع ويختفي حتى يعاقب الإنسان على تلك السيئات فإذا طهر عاد إليه ثواب الحسنات ودخل الجنة برحمة رب الأرض والسموات.

وهذا هو المعنى المراد من هذا الحديث وأما العمل فقد أورد الحافظ ابن حجر قولين في بيان المعنى الثاني منهما وهو متكلف بل باطل، والأول هو الحق المراد من العمل هنا العمل الصالح عند الله عز وجل.

أي: بطل أجره وضاع الثواب عليه، وقال بعض العلماء فقد حبط عمله، أي: عمله الدنيوي في ذلك اليوم فلا ينتفع به ولا يمتع به فإذا شغلته الدنيا عن أداء هذا الفرض يحرمه الله بركة ذلك العمل الذي قام به وشغله عن فرض ربه قول كما قلت متكلف.

إخوتي الكرام:

والسبب الذي من أجله خصت صلاة العصر من بين الصلوات الخمس بهذه الميزة العظيمة أمور كثيرة يمكن أن نجملها في أربعة أمور:

أولها:

صلاة العصر هي مظنة انشغال الناس عنها وقتها يقع بعد تعب في النهار وقيلولة ينام الإنسان فيها بعد الظهر فقد يشغل عن هذا الفرض العظيم الذي له أجر كريم عظيم عند ربنا الكريم من أجل هذا وقع هذا التغليظ والتشديد في ترك صلاة العصر.

والثاني:

صلاة العصر هي خاتمة الطاعات التي يتقرب بها الإنسان إلى رب الأرض والسموات في ذلك اليوم فهي آخر صلاة وجبت عليك في ذلك اليوم فإذا أذَّن المغرب دخلت في اليوم الثاني، واليوم يخرج يقينا بغروب الشمس.

وقد ورد ما يرشح هذا المعنى في نظائر هذا المعنى أيضا في أحاديث أخرى عن نبينا صلى الله عليه وسلم تبين أن شناعة المعصية بعد العصر أكثر من شناعتها قبل العصر ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين والسنن الأربعة والحديث رواه شيخ الإسلام عبد الرزاق في مصنفه.

ص: 6

كما رواه الإمام الطبري والبيهقي في السنن الكبرى والحديث صحيح صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل ورجل بايع بسلعة بعد العصر فحلف بالله أنه أعطي بها كذا وكذا فصدقه ولم يعط بها ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه وفى وإن لم يعطه لم يف] .

وفي بعض الروايات [فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط] .

فالأول: على ماء زائد في الصحراء فمر به ابن السبيل وطلب ماءا يشربه فمنعه لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم.

والثاني: يا عبد الله وقت صلاة العصر مؤذن بزوال النهار وزوال النهار مؤذن بانقضاء هذه الدار أما وعظك زوال النهار عن الكذب والافتراء والغش والتزوير، ففي آخر اليوم عصيت الله وكذبت وحلفت اليمين الغموس حالك كحال من يكذب ويعصي عند احتضاره فلك هذه العقوبة من الله عز وجل وهذا هو الشاهد وهنا كذلك صلاة العصر ختام عمل اليوم فمن تركها حبط عمله.

المعنى الثالث:

الذي من أجله صار لصلاة العصر تلك المنزلة ما قاله شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال إن صلاة العصر عرضها الله على الأمم السابقة وكلفهم بها فأبوا أن يتحملوها وما قاموا بها فكلفت بها هذه الأمة المباركة فلها شأن عظيم فمن قام بها أعطاه الله أجرين، وهذا الذي أشار إليه الإمام ابن تيمية ثبت ما يقرره في صحيح السنة في صحيح مسلم وسنن النسائي ومعجم الطبراني الكبير.

ص: 7

والحديث رواه الإمام أبو يعلى في مسنده أيضا والبيهقي في السنن الكبرى وابن قانع في معجم الصحابة كما رواه الإمام البارودي وهو حديث صحيح من رواية أبي بصرة الغفاري واختلف في اسمه فقيل حميد وقيل جميل الغفاري وهو من الصحابة الكرام قال: [صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق ثم قال إن هذه الصلاة قد فرضها الله على الأمم قبلكم فأبوا أن يحملوها فمن قام بها منكم أعطاه الله أجره مرتين] .

إذن لهذا الاعتبار لها منزلة عظيمة وهذا الحديث روي أيضا من رواية أبي أمامة الباهلي في معجم الطبراني الكبير والأحاديث الجياد المختارة للضياء المقدسي عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه.

والمعنى الرابع:

الذي من أجله صار لصلاة العصر تلك المنزلة أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى والله جل وعلا يقول في كتابه: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} .

وقد أكثر أئمتنا المفسرون رضوان الله عليهم أجمعين في بيان المراد من الصلاة الوسطى وخلاصة كلامهم يدور على ثلاثة أمور إما أن يكون المراد من الوسطى الوسطى في العدد وهذا لا يراد عند جماهير المفسرين.

وإذا كان المراد الوسطى في العدد فهي صلاة المغرب لأن الصلوات أربع ركعات أو ثلاث ركعات أو ركعتان والمغرب هي الوسطى في الأعداد وخصت بالذكر على هذا القول لضيق وقتها ولمنزلتها أيضا عند ربنا جل وعلا.

وإما أن يكون المراد من الوسطى هنا أي الصلاة الخيرة العظيمة الشأن الفاضلة التي لها منزلة قال الإمام ابن الجوزي وغيره من أئمة التفسير وهذا يصلح على كل صلاة فكأن المعنى حافظوا على الصلوات وحافظوا عليها واعتنوا بها وإياكم إياكم أن تفرطوا في شيء منها.

وإما أن يكون المراد من الوسطى هنا الوسطى في المحل وعلى هذا جمهور المفسرين واختلفوا في تعيين المحل الذي يراد منه الصلاة الوسطى على سبعة أقوال:

أولها:

ص: 8

المراد من الصلاة الوسطى الصلوات الخمس وعليه أعيدت بلفظ ثاني لبيان منزلة الصلاة ورفعة قدرها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى أي الصلاة الفاضلة التي هي في المحل وسط من بين الصلوات كيف تكون الصلوات الخمس وسطا بين الصلوات وكل واحدة وسط اسمعوا إلى توجيه أئمتنا في ذلك كل صلاة وسط من حيث المحل الفجر وسط بين الصلوات.

قال أئمتنا الكرام إن الليل يخرج يقينا بطلوع الشمس وإن النهار يدخل يقينا بطلوع الشمس وما بين الفجر وطلوع الشمس متردد هل هو من الليل أم من النهار وعليه هذا الوقت وسط بين الليل وبين النهار فيه شيء من ظلمة الليل وهو غلس الفجر وفيه شيء من ضوء النهار وهو الاصفرار الذي يكون في الفجر.

والظهر صلاة وسطى لأنها تكون وسط النهار.

والعصر تكون صلاة وسطى لأنه تقدمها فرضان في النهار الفجر والظهر ويأتي بعدها فرضان في الليل المغرب والعشاء.

والمغرب تكون وسطى لأن أول صلاة فرضت هي الظهر وتليها العصر فالمغرب هي وسطى من حيث المحل بين ترتيب الصلوات المفروضة أول ما فرضت ثم العشاء ثم الفجر.

والعشاء تكون وسطى بين الصلوات ووجه ذلك أنها بين فريضتين لا تقصران فصلاة المغرب لاتقصر أبدا وصلاة الفجر لا تقصر أبدا وعليه حافظوا على الصلوات وحافظوا عليها أيضا فكل واحدة منها صلاة وسطى.

والقول الثاني:

من الأقوال السبعة قالوا إن الله أبهمها ولم يعينها ليكون العباد على محافظة تامة على جميع الصلوات كما أبهم الله تعيين ليلة القدر في أي ليلة تكون في شهر رمضان وفي العشر الأخير منه.

ثم بعد ذلك هناك خمسة أقوال كل قول حدد صلاة من الصلوات الخمس كما تقدم معنا وأرجحها كما قال شيخ المسلمين الحافظ ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا الجليل قال: وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام تفسير الصلاة الوسطى بصلاة العصر فتعين القول إلى هذا والمصير إليه.

إخوتي الكرام:

ص: 9

وما أشار إليه شيخ الإسلام الإمام ابن كثير ثابت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة والحديث رواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة في مصنفه ورواه عبد بن حميد في مسنده والإمام الطبري في تفسيره وابن المنذر في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره والإمام البيهقي في السنن الكبرى عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه.

والحديث صحيح صحيح فهو في الصحيحين من رواية سيدنا علي عليه وعلى جميع الصحابة رضوان رب العالمين قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب في موقعة الخندق: [ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس] .

وفي رواية أخرى [شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر

] .

وثبت الحديث بذلك من رواية عبد بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ورواه الإمام الترمذي وابن ماجه في السنن ورواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه والطبري في تفسيره وابن المنذر في تفسيره والإمام البيهقي في السنن الكبرى والحديث صحيح صحيح أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا أو حشى الله أجوافهم وقبورهم نارا] .

والأحاديث في ذلك كثير وفيرة منها رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي ثابتة في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجه والحديث رواه عبد بن حميد في مسنده والطبري في تفسيره كما رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، وهكذا ابن الأنباري في كتاب المصاحف أيضا وفي السنن الكبرى للبيهقي عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت في قوله تعالى:{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} الصلاة الوسطى صلاة العصر سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 10

وقد ثبت نظير هذه الرواية أيضا عن أمنا حفصة رضي الله عنها وأرضاها في الموطأ والتاريخ الكبير للبخاري وهو في مصنف عبد الرزاق ورواه عبد بن حميد في مسنده والطبري في تفسيره.

كما رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف والأنباري في المصاحف أيضا، وأبو عبيد في كتاب فضائل القرآن، ورواه أبو يعلى في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى عن أمنا حفصة رضي الله عنها وأرضاها بنحو رواية أمنا عائشة وانظروا روايات متعددة عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في تفسير الصلاة الوسطى بصلاة العصر في الدر المنثور في الجزء 1/300 إلى 305.

فالصلاة الوسطى هي العصر فهي ختام أعمال اليوم هي فرضت على الأمم قبلنا فما تحملوها وبها أقسم الله جل وعلا على أحد أقوال ثلاثة قيلت في تفسير سورة العصر خلاصتها أن الله أقسم بالعصر والمراد منه ثلاثة أقوال:

القول الأول: هو الدهر هو الزمن.

ويدخل في هذا ثلاثة أقوال تدخل في هذا القول:

العصر: هو العشي.

وهو الوقت الذي يكون من زوال الشمس إلى غروبها العصر.

هو عصر الإنسان وزمن كل إنسان فأقسم الله بعمر كل إنسان وبما يوقع في عمره من أعمال ينال بها الفوز أو الخسران.

والقول الثالث: العصر هو عصر النبي صلى الله عليه وسلم ونقل هذا عن عدد من أئمتنا الكرام.

قال الإمام الرازي: وقد أقسم الله جل وعلا بعمر النبي عليه الصلاة والسلام وأقسم ببلد النبي عليه الصلاة والسلام وأقسم بزمن النبي عليه الصلاة والسلام فقال جل وعلا: {وهذا البلد الأمين} .

وقال: {فلا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} .

وقال في سورة الحجر: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} .

ص: 11

ثبت عن حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم ودلائل النبوة للبيهقي والأثر رواه ابن مردويه في تفسيره قال: [ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد عليه الصلاة والسلام وما سمعت الله أقسم بعمر إنسان إلا بنبينا عليه الصلاة والسلام] .

والثاني: أن الكلام من باب حذف والتقدير ورب العصر أقسم الله بذاته وبربوبيته لمخلوقاته.

والقول الثالث: وهو محل الشاهد أقسم الله بصلاة العصر لما لها من منزلة وشأن عند الله جل وعلا.

وهذه السورة مع وجازتها بليغة بليغة وكلام الله كله محكم بليغ يقول الإمام الشافعي لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم وقد بلغ من تذكير الصحابة بعضهم بعضا بها ما رواه الطبراني في معجمه الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان.

والحديث رجاله ثقات وإسناده صحيح ولفظ الحديث من رواية أبي مدينة رضي الله عنه وأرضاه قال: [كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على صاحبه والعصر إن الإنسان لفي خسر

] وأبو مدينة صحابي وحكى الطبراني في معجمه الأوسط أن اسمه عبد الله بن حصن وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة وتعجيل المنفعة إن كان الطبراني حفظ ذلك ففي التابعين من يسمى بعبد الله بن حصن السدوسي، أما هذا فعبد الله بن حصن الدارمي وعليه فقد اتفق الصحابي مع التابعي في الاسم واسم الأب والكنية واختلفا في النسبة قال: وإن لم يضبط الطبراني هذا في أبي مدينة فالذي يسمى بعبد الله بن حصن هو التابعي لهذه الأمور المتقدمة كان لصلاة العصر تلك المنزلة من ترك صلاة العصر حبط عمله.

والأمر الثاني:

الذي يحبط لعمل عند الله عز وجل الوقوع في الزور والبهتان والآثام في شهر الصيام فمن صام كذب ووقع في الزور وعمل الآثام فقد بطل صيامه عند ذي الجلال والإكرام.

إخوتي الكرام:

ص: 12

تقدم معنا ما للصيام من منزلة عند الله عز وجل وأن من صام شهر رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لكن هذا يكون للصيام المقبول الذي لا تأتي فيه بعمل مرذول تنقض به صيامك وتحبط أجره عند ربك جل وعلا.

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والسنن الأربعة، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه كما رواه البيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه] .

والحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط والصغير من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه بلفظ: [من لم يدع الكذب والخنا في صيامه فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه] .

وتقدم هذا معنا في مواعظ شهر الصيام وكنت ذكرت أن كثيرا من الصائمين لا يحصلون من صيامهم إلا الجوع والعطش كما أن كثيرا من القائمين لا يحصلون من قيامهم إلا السهر وهذا ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

ففي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه والنسائي ومستدرك الحاكم والسنن الكبرى وشعب الإيمان للبيهقي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش وربّ قائم حظه من قيامه السهر] فإذا وقعت في شيء من الآثام بطل الصيام عند ذي الجلال والإكرام.

أسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يحسن ختامنا أقول هذا القول وأستغفر الله.

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وخير خلق الله أجمعين اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا وارض، اللهم عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

إخوتي الكرام:

ص: 13

لولا أنني أواصل سلسلة المواعظ المتصلة حول هذا الموضوع لكان في نيتي أن أتكلم على أمر يتدارسه الناس في هذه الأيام وتتحدث عنه وسائل الإعلام ألا وهو الجامعة الغوية التي يقال لها الجامعة العربية وعلى تعبيرهم قد مضى عليها خمسون عاما، وقد أسست في الثاني والعشرين من شهر آزار والحمد لله لا ينتسبون إلى الأشهر القمرية ولا إلى السنة الهجرية فبينهم وبين خير البرية عليه الصلاة والسلام ما بين المشرقين الجامعة العربية التي أسست سنة 1945م وقد مضى عليها كما يقولون خمسون عاما تشتتا وفرقة وتناحرا وخصومة وتلاعنا هذه الجامعة التي يطنطن لها ويجرى كلام حولها مما يفري الكبد والأمة للآن ما وعت أمرها ولا طريقها وحالها كما قال القائل:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول

...

إخوتي الكرام:

السبب في تأسيس هذه الجامعة دولتان ملعونتان الدولة الأولى بريطانيا وهم كما قال عنهم أئمتنا الكرام أخدع من الضب وأمكر من الثعلب وأعيث من الذئب وأخبث من الشيطان والدولة الثانية فرنسا وقد لعب مندوب الدولة الأولى دورته الفظيعة حول تأسيس الجامعة العربية وأسسها هؤلاء بإيحاء من هؤلاء لأمرين اثنين:

الأول: القضاء على الخلافة الإسلامية وتشتيت المسلمين فلا بد من إثارة النعرات الوطنية والقومية وما قضي على آخر خلافة إسلامية عثمانية إلا بسلاحين بسلاح الإلحاد ونشر الفساد وبإثارة النعرات بين العباد عربية وكردية تورانية وما شاكل هذا وهنا كذلك جامعة عربية لتتخلص على تعبيرهم من الاستعمار العثماني.

الثاني: المراد من إنشائها: أن لا يفكر مسلم ما دامت الروح تتحرك فيه بإعادة الخلافة اَلإسلامية ولا بإعادة الوحدة بين المسلمين بهذا التخدير الذي يجري بينهم فهم في اتحاد ولكن كما قال الله: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} .

ص: 14

.. ومن سمع المقابلات التي تجري بين المسؤولين في تلك المنظمة يتذكر حديث خير البريات عليه الصلاة والسلام [سيأتي عليكم سنوات خداعات يؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين ويصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق وينطق فيها الرويبضة قالوا وما الرويبضة يا رسول الله قال الرجل التافه في أمر العامة] .

وفي بعض الروايات [وينطق فيها الفويسق][وينطق فيها الفاسق][وينطق فيها السفيه][وينطق فيها من لا يؤبه له] .

والحديث صحيح روي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأنس بن مالك وأمنا أم سلمة وعمرو بن عوف وعوف بن مالك الأشجعي وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين أما رواية أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواها الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وابن ماجه في السنن والخرائطي في مكارم الأخلاق.

وأما رواية أنس بن مالك رضي الله عنه فقد رواها الإمام أحمد في المسند وأبو يعلى في مسنده أيضا والطبراني في معجمه الأوسط وانظروا هذه الرواية في مجمع الزوائد في الجزء 7/284 وأما رواية أمنا أم سلمة رضي الله عنها فهي في معجم الطبراني الأوسط والكبير في المكان المشار إليه آنفا في مجمع الزوائد وأما رواية عمرو بن عوف فقد رواها البزار في مسنده وأما رواية عوف بن مالك فهي في معجم الطبراني الكبير انظروها في المجمع في الجزء 7/330.

وأما رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في معجم الطبراني الكبير كما في المجمع في الجزء 6/324 وألفاظ رواياتهم متقاربة إخوتي الكرام خمسون عاما نصف قرن مرت عليها والأمة لا تجد منها إلا الذل ومن كلامهم أن الميزانية التي تصرف عليها في كل عام سبعة وعشرون مليون دولارا ينبغي أن نعي أين نسير في هذه الأيام وقد اتفق أعضاء الجامعة العربية على أن لا يتفقوا إلا في أمر واحد ألا وهو عدم الرجوع إلى رب العالمين والأمة الإسلامية في هذه الأيام حالها يفطر الأكباد ونشكوا أمرنا رب العباد.

ص: 15

.. اللهم صلي على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم.

اللهم ارحم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً.

اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف وهذا المكان المبارك.

اللهم اغفر لمن عبد الله فيه اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريباً سميعاً مجيباً للدعوات، والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر *} .

ص: 16