الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحب البقاع إلى الله المساجد
(الموعظة الرابعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة الرابعة
أحب البقاع إلى الله المساجد
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، وبيدك الملك كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب التوابين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله، أرسله اله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيوناً عميا، وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .
أما بعد معشر اخوة الكرام..
من المقرر عند المقرر عند عباد الله الأكياس أن الله جل وعلا خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص فهو الذي يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، ومن خواص الله تعالى في الأمكنة التي فضلها على غيرها من البقاع بيوت الله المساجد التي أمرنا الله جل وعلا برفعها ذكره فيها وتسبيحه بالغدو والآصال في تلك البيوت الجليلة المعتبرة وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر وأن الله فضل المساجد على غيرها من الأماكن والبقاع.
ثبت في صحيح مسلم وصحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أحب الله البلاد الله المساجد وإن أبغض البلاد إلى الله الأسواق] إن أحب البلاد إلى الله المساجد وإن أبغض البلاد إلى الله الأسواق، والحديث رواه الأمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه والأمام أبو يعلى والبزار رحمهم الله جميعاً عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله:[أي البلدان أحب إلى الله، وأي البلدان أبغض إلى الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أدري حتى أسأل جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فلما جاء جبريل إلى نبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه سأله أي البلدان أحب إلى الله أبغض البلدان إلى الله فقال جبريل يا محمد عليه صلوات الله وسلامه أحب البلدان إلى الله المساجد وأبغض البلدان إلى الله الأسواق] .
والحديث رواه بن حبان في صحيحه أيضا الطبراني في معجمه الكبير من رواية بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: [أي البقاع خير وأي البقاع شر فقال لا أدري حتى أسأل جبريل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فقال لا أدري حتى أسأل ميكائيل فسأل جبريل ميكائيل فأخبره أن أحب البلاد الله وأن خير البلاد عند الله المساجد وأن أبغض البقاع عند الله وشر البقاع الأسواق] .
والحديث إخوتي الكرام بطرقه الثلاث من رواية أبي هريرة وجبير بن مطعم وبن عمر رضي الله عنهم أجمعين صحيحٌ صحيح.
وروي من طريق رابع وفيه شيء من الضعف، وشهد له ما تقدم رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن أحب البلاد إلى الله وعن أبغض البلاد إلى الله فقال لا أدري فقال سل ربك فبكى جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فقال يا محمد ومن يستطيع أن يكلمه هو يأمرنا من أمره بما شاء فأوحى ربنا إلى جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أن أحب إلى الله وخير البقاع عند الله المساجد وأن أبغض البقاع إلى الله وشرها عند الله الأسواق] وهذه الرواية الرابعة يشهد لها ما تقدم إخوتي الكرام.
والجمع بين هذه الروايات [أن نبينا صلى الله عليه وسلم سأل عن أحب البلاد إلى الله وعن أبغض البلدان عند الله وعن خير البقاع وشرها فتوقف فسأل جبريل ميكائيل فأوحى الله إليهما بأن خير البقاع وأحبها عند الله المساجد وأن شر البقاع أبغضها عند الله الأسواق فأخبر جبريل النبي عليه الصلاة والسلام بذلك] وهذا هو الذي يجمع بين الرواية الأربعة المتقدمة.
عباد الله: هذه المساجد هي خير البقاع وأحبها عند الله كما أن الأسواق هي شر البقاع، فهذه المساجد تدعوا إلى عبادة الله جل وعلا وإلى الإقبال على الآخرة والدنيا بعكس ذلك هي مأوى الشياطين وتدعوا إلى الكرون إلى الدنيا، ليست الأسواق مذمومة إذا اتقى الإنسان فيها ربه لكنها معطل غفلة، وإذا حول الإنسان السوق إلى مكان شرعي يبيع فيه ويشتري حسب شريعة الله فلا حرج، لكن على الإنسان أن يتقي الله في سوقه فلا يكوننَّ أول داخل ولا آخر خارج، إنما ينبغي أن يكون أول داخل إلى بيوت الله وآخر خارج من بيوت الله، وأما الأسواق فأمرها كما قال الله:{فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور} والأسواق سميت بذلك لأن الأرزاق تساق إليها ولأن الناس يمشون إليها على سوقهم جمع ساق أي على أرجلهم فالأرزاق تأتي إليها من كل جهةٍ والناس يسعون إليها على سوقهم، فيقال لها الأسواق هي مواطن غفلة، وإذا ذكر الإنسان ربه في مواطن الغفلة واتقى الله له أجرٌ عظيمٌ عظيم، فذكر الله بين الغافلين كثابت عند التقاء الجيشين عند فرار الفارين، هو ثبت وأولئك فروا، وهكذا أهل السوق في غفلة، فمن ذكر الله في سوقه له أجر عظيم.
ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم والحديث رواه الإمام الترمذي وابن ماجة وسنده صحيح كالشمس ورواه الدارمي في مسنده والإمام ابن السن في العمل اليوم الليلة، وابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألفِ حسنة ومحا عنه ألف ألفِ سيئة، ورفع له ألف ألفِ درجة، وبنى له بيتاً في الجنة] والحديث صحيح إخوتي الكرام لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير إذا قال هذا الذكر في تلك البقاع التي يسيطر عليها الغفلة وتلوح فيها رايات الشياطين يكتب له ألف ألفِ حسنة، أي مليون حسنة، ويمحوا الله عنه ألف ألفِ سيئة، ويرفع له ألف ألفِ درجة، ويبني له بيتاً في الجنة.
وثبت في هذا الحديث عن أزهر القرشي رضي الله عنه وأرضاه وهو من أئمة التابعين أنه عندما ذهب إلى خرسان دخل على أمير خرسان قتيبة بن مسلم الباهلي فقال جئتك بهدية: قال وما هي: فروى له هذا الحديث فكان هذا الأمير الذي هو تابعي أيضاً أدرك عمران بن حصين وأبى سعيدٍ الخدري رضي الله عنهم أجمعين كان هذا الأمير يركب كل يوم في موكبه إلى السوق وليس له حاجة فإذا وصل إلى السوق قال هذا الذكر وانصرف إلى محل إمرته، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أما نذهب إلى الأسواق إخوتي الكرام باستمرار ألا نذكر الله في تلك المواطن، فإذا دخلنا السوق فنذكر هذا الذكر الذي علمنا إياه صلى الله عليه وسلم.
أحب البقاع إلى الله وخير البلدان عند الله المساجد، ولا غرَّ في ذلك ولا عجب فالمساجد هي محل نور الله جل وعلا ومكان هدايته وفيها المهتدون الذين أنعم عليهم وهداهم إلى صراطه المستقيم، وقد ذكر ربنا العزيز الغفور في سورة النور بعد آية النور مكان وجود النور فقال جل وعلا:{الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرة مباركة زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم * في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} .
الله نور السماوات والأرض أين يطلب ذلك النور وأين يوجد وفي أي مكان نحصل، ومن يهتدي به ومن يتنور به؟ في بيوت أذن الله أن ترفع
…
فإذا أرت أن نور الله فذهب إلى بيوت الله فهي مكان نوره وهي موضع هداه، وإذا أرت أن تتعرف على عباد الله المهدين الذين هداهم الله إلى صراطه المستقيم فبحث عنهم في بيوت رب العالمين، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال، فذكر الله بعد آية النور المكان الذي يوجد فيه نوره وهداه وذكر المهتدين مبيناً أعمالهم القلبية والقالبية، السرية والجلية كما سيأتينا في تفسير الآيات الكريمة إن شاء الله.
عباد الله: كيف لا تكون المساجد أحب البقاع إلى الله وخير البلدان عند الله وهي موضع نوره ومكان هداه، وفيها يجتمع عباده الذين رضي الله عنهم وهداهم إلى صراطه المستقيم، هذه المساجد وصفها الله جل وعلا بثلاثة أمور في آية النور ووصف بعد ذلك الذين هم فيها بصفات جليلة عظيمة.
أول هذه الصفات التي ينبغي أن تكون من العباد نحو بيوت الله جل وعلا ونحو المساجد، في بيوت أذن الله أن ترفع، أذن: الإذن في اللغة: الإعلام والترخيص في الشيء، رخص الله وأعلم أنه أباح للناس وجوز لهم رفع المساجد، أذن: الإذن معناه الإعلام والترخيص كما قال جل وعلا في آخر سورة النور: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفورٌ رحيم} .
إذا كان المؤمنون مع رسول الله عليه صلوات الله وسلامه أو مع وليَّ الأمر المسؤول عنهم لا يجوز لواحد منهم أن يتخلف ولا أن يفارق إلا بعد أن يستأذن وأن ترخص وأن يستأذن له النبي عليه الصلاة والسلام أو وليُّ أمره المسؤول عنه، {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} أعلمهم بالترخيص وأنك أحبت لهم الذهاب، ولكن هذا الذهاب مهما كان لضرورة ملجئة مهما كان في ذلك حرمان اجتماع بالنبي عليه الصلاة والسلام وحرمان هذا الخير العام الذي يكون عباد الرحمن وهم على خير جامعٍ إذاً هناك شيء من التقصير من المستأذن فأتبع الإذن بالاستغفار {فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفورٌ رحيم} الأذن معناه الأذن بالترخيص في الشيء. {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} رخص لهم في قتال أعدائهم بعد أن منعوا ذلك بقول الله جل وعلا {ألم تر الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} .
عباد الله: ولا يراد من الإذن هنا الترخيص وإعلام الله لعباده بأنه أجاز لهم بناء المساجد لا ثم لا. فقد قرر أئمتنا الكرام أن معنى أذن هنا بمعنى حكم وألزم، وأوجب وفرض، حكم الله وألزم عباده وفرض عليهم بناء المساجد ورفعها، فالإذن هنا بمعنى الأمر كقول الله جل وعلا:{وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليطاع بإذن الله} بأمره وحكمه وإيجاب الله على عباده ذلك إلا ليطاع بإذن الله {في بيوت أذن الله أن ترفع} أي أمر الله برفعها، وإنما أخبر الله جل وعلا وخبر الله جل وعلا عن الأمر بالإذن لنقطة لطيفة ذكرها أئمتنا وهي أن حال المأمورين وهم عباد الله المؤمنون ينبغي أن يكون حالهم، ينبغي أن يكون حالهم المسارعة إلى بيوت الله جل وعلا إلى بناء المساجد إلى تشيدها وإقامتها ورفعها قبل أن يوجه إليهم الأمر من ربهم جل وعلا بوصفهم عباداً لله لابد لهم من مكان يجتمعون فيه يعبدون الله، ويتدارسون الغاية التي من أجلها خلقوا وأن ينصح بعضهم بعضا، إذاً هذه الغاية من المفروض في حقهم أن يقوموا بها قبل أن يأمروا بها فينبغي على المأمور أن يتوجه إلى ذلك قبل أن يصدر إليه الأمر من الآمر من الله جل وعلا، فإذا أرادوا بناء المساجد قبل أن يأمروا يكون حالهم كحال المستأذن ربه جل وعلا، ربنا هل تأذن لنا في بيت نعبدك فيه ونتناصح فيه؟ فجاء الأمر على حسب حال عباد الله كأنهم يستأذنون الله في بناء المساجد، فقال الله لهم {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر اسمه} نعم إن مناجاة الله جل وعلا تحتاج إلى استئذان وإذا أردت أن تناجيَ الكريم المنان فينبغي أن تقول له عبد ربي هل تقبلني؟ أريد أن نبنيَ مكاناً أجتمع فيه مع عباد الله لعبادته والتناصح في دينه فهل يرضيك ذلك؟ فجاء الإخبار من الله مع بشارة عظيمة {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه} .
إخوتي الكرام:
وهذه البيوت هي المساجد قطعاً وجزما، وقد اقتصر كثير من المفسرين على ذلك كالإمام ابن كثير وغيره عليهم جميعاً رحمات ربنا الجليل، ولم يذكر قولاً آخر، وذكرت بعض كتب التفسير أقوال كثيرة مردها إلى أمرين.
الأمر الأول: بيوت غير المساجد ذكرت في تلك الأقوال لكنها لا تتعارض مع هذا وتدخل في القول الأول، فقال عدد من المفسرين، وهذا منقول من السلف.
{في بيوت أذن الله أن ترفع} في مسجد الكعبة، في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، في مسجد البيت المقدس في المسجد الأقصى {في بيوت أذن الله أن ترفع} هذه المساجد الثلاثة، بعضهم أضاف إليها مسجداً رابعاً مسجد دمشق، هذا كله لا يتعارض مع ما تقدم بل يدخل فيه، وهو من باب التفسير العام كما قال أئمتنا ببعض أفراده تمثيلاً على ما يدخل في هذا العام لا ما باب الحصر أي من البيوت التي أمر الله برفعها؟ المسجد الحرام، ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وبيت المقدس، ومسجد دمشق، وغير ذلك من المساجد، فهذا القول يدخل في القول الأول، إنما ذكر نوعاً خاصاً واللفظ أعم من ذلك، وهناك أقوالٌ يمكن أن تجمع في ضابط معين وهو أنه ذكر ما يتعارض مع القول الأول من حيث التفسير لكن مع ذلك إن عرضه من حيث الظاهر لا ينافيه ولا يلغيه.
فقال مجاهد عليه رحمه الله {في بيوت أذن الله أن ترفع} هي بيوت النبي عليه الصلاة والسلام لقول الله جل وعلا لأمهاتنا أزواج النبي عليه وعليهم صلوات الله وسلامه {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} فهي بيوت مرفوعة حساً ومعنى ينبغي أن تكرم وأن تعظم وأن تحترم بيوت النبي عليه الصلاة والسلام وينبغي على من فيها أن يكثر من ذكر الله وقراءة القرآن.
ووسع الأمر عكرمة رحمه الله ورضا عنه فقال {في بيوت أذن الله أن ترفع} هي كل ما يبنى على وجه الأرض ينبغي أن يرفع من أجل الله وأن يذكر فيه اسم الله، وأن يسبح في تلك البيوت بالغدو والآصال. ولعله يريد بذلك أن بيوت الناس ينبغي أن تكون على غرار المساجد فيها نوراً وهدىً وذكرٌ لله وتسبيحاً له بالغدو والآصال. والتفسير الذي ينبغي أن يعتمد وأن يعول عليه فيه معنى الآية {في بيوت أذن الله أن ترفع} هي المساجد، والأمران حاصلان فيها، فهي التي أمر الله برفعها وتعظيمها حساً ومعنى كما سيأتينا، ولا يوجد مكان يحصل فيه من كثرة ذكر الله والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام كما يحصل في خير البقاع ألا وهي المساجد.
{في بيوت أذن الله أن ترفع} أذن الله أن ترفع: هذا الأمر الأول أعلم وحكم وألزم وفرض وأخبر عن هذا الأمر بالإذن تنبيهاً على المأمورين ينبغي أن يسارعوا إلى تنفيذ هذا الأمر قبل أن يوجه إليهم هذا الأمر من الآمر فيكون حالهم كحال المستأذن فالله يقول أذنت لكم برفع هذه البيوت وعمارتها.
والرفع إخوتي الكرام شامل لأمرين كل منها تدل عليه الآية الكريمة {أذن الله أن ترفع} أن ترفع حساً: أي أن تبنا وأن تشيد وأن ترفع على وجه الأرض كما قال جل وعلا {ءأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها} ، {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} أذن الله أن ترفع وأن ترفع وأن تكون بيوت الله في الأرض كالنجوم في السماء يهتدي إليها أهل الأرض فلا تكون كالمغارات والسراديب والمناجم والمخابئ لا يهتدي الناس إليها، لا هذه بيوت لها شأن ومنزلة وعظمة. {في بيوت أذن الله أن ترفع} ينبغي يتميز بناءها عن الأبنية الأخرى وأن تكون ظاهرة للأعين على مرأى الناس {في بيوت أذن الله أن ترفع} وإذا عمِّرت هذه البيوت ورفعت فهيئاً ثم هيئاً لمن يرفعها ويبنيها ويشيدها ويقيمها، ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان بن عفان ذو النورين الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه أنه عندما وسَّع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر الناس الكلام فيه قام رضي الله عنه ورقى النبر وقال يا أيها الناس إنكم أكثرتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة] من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة.
وفي بعض الروايات: [من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة] وعثمان رضي الله عنه هو ثاني من وسَّع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، الموسِّع الأول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما وسع المسجد لهيبة عمر وشدته في الحق رضي الله عنه وأرضاه ما تكلم المتكلم وما حرك أحدٌ شفتيه، فلما وسَّع عثمان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام كثر اللغط وأنه غيَّر معالم المسجد، وأنه زاد، وأنهُ وأنه، فقام رضي الله عنه كأنه يعتذر إليهم لحلمه ورحمته وعفوه وصفحه رضي الله عنه وأرضاه فقال إنكم أكثرتم، تكثيرون من الكلام واللغط، وتقعون في عرضي وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[من بنى مسجداً لله يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة] فماذا عمل ذو النورين إلا أن وسَّع مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام:
إذا قام الإنسان بهذا ببناء المساجد ورفعها حسا له هذا الأجر عند الله جل وعلا بنى الله له بيتاً في الجنة، بنى الله له مثله في الجنة، ولا يشكنَّ عليك أخي الأمر حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي فيه التصريح بالمثلية مع قول رب البرية:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وهنا بنى الله بيتاً في الجنة، بنى الله له مثله لما لم يقول عشر بيوت؟ إنَّ بيت الجنة وإن ساوى بيت الدنيا في الاسم فيخالفه في الحقيقة في السعة والمساحة، وفي الجودة والإتقان، فهو بيتٌ له سمى البيت لكن الفارق بين بيت الجنة والبيت الذي تبنيه وترفعه في هذه الحياة لعبادة رب الأرض والسماوات أعظم بكثير من الفارق بين بيت الأمير والفقير، فهو بيت وهذا بيت لكن ذاك بيتٌ فيه ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ومسافته ومساحته لا يعلمها إلا الكريم الذي يبني لك هذا البيت في جنات النعيم.
إخوتي الكرام:
وهذا البيت الذي يبنيه الإنسان لله يبني الله له بيتاً في الجنة سواء صغر هذا البيت في هذه الحياة أو كبر، ثبت سنن الترمذي وغيره وإسناد الحديث حسن عن أنسٍ رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[من بنى مسجداً صغيراً كان أم كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة] من بنى مسجداً صغيراً كان أم كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة، والحديث رواه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وابن ماجة في السنن من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والحديث رواه أيضاً الإمام أبو يعلى والبزار الطبراني في معجمه الكبير وابن حبان من رواية أبي ذر رضي الله عنه ورواه البزار من رواية بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، من رواية جابرٍ وابن عباس وأبي ذر رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من بنى بيتاً لله ولو قدر مفحس قطاطٍ بنى الله له بيتاً في الجنة] ومفحس القطاط: مكان صغير تجسم فيه وتجلس فيه وتكون فيه، فإذا بنيت بيتاً لله بحجم مكان القطاط بنى الله له بيتاً في الجنة وهذا يكون إذا شارك الإنسان بريال واحد في بناء مسجد فيكون له هذا الضمان عند الكريم الرحمان، من بنى مسجداً بيتاً لله ولو قدر مفحس قطاط بنى الله له بيتاً في الجنة.
إخوتي الكرام:
ولا يشترط في الباني إلا أن يخلص النية لرب البرية في هذا البناء إذا كان من المؤمنين الموحدين ثبت في سنن النسائي وغيره عن عَمْرِ ابن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من بنى مسجداً لله ليذكر الله بنى الله له بيتاً في الجنة] من بنى بيتاً لله، حجَّ لله، صام لله، جاهد لله، فلا يقبل العمل من غير إخلاص ولا متابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام، لابد من إيمان وإخلاص ومتابعة للنبي عليه الصلاة والسلام، فعمل المساجد عمل صالحٌ، فإذا أخلص الباني لله من بنى بيتاً لله مسجداً لله يذكر فيه الله بنى الله له بيتاً في الجنة {في بيوت أذن الله أن ترفع} .
إخوتي الكرام:
ولا يلزم من هذا الرفع زخرفة وزركشة وألوان متعددة لا ثم لا، بل إن ذلك منهي عنه في شريعة الإسلام، ينبغي أن يكون بناءُ المساجد بدون زخرفة، والزخرفة مأخوذة من الزخرف، وهو الذهب الذي يلمع، ويطلق هذا على الألوان الزاهية التي تشتت البصر وتشغل القلب من حمرة وصفرة وألوان أخرى براقة، فما ينبغي أن يكون في هذا الرفع وهذا البناء زخرفة وزركشة فهذا مما نهينا عنه في شريعة ربنا جل وعلا، ثبت في سنن أبي داود والترمذي وسنن الإمام النسائي والحديث رواه الإمام ابن حبان في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد] حتى يتباهى الناس في المساجد: أي في زركشتها وفي تزينها وفي زخرفتها وفي وفي، لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد] فلتكن مساجد بصفة شرعية لعبادة رب البرية، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن القوم إذا انحرفوا عن شريعة الله بزخرفة المساجد وزينوها.
ففي سنن ابن ماجة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحديث في إسناده شيء من الضعف لوجود جبارة ابن المغلس فيه وهو ضعيف، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال [ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم] ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم: أي زينوها وموَّهُوهَا بالألوان التي تشتت النظر وتفرق القلب، ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم، وفي صحيح البخاري معلق بصيغة الجزم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى) أي ستتبعون آثر من قبلكم في معابدكم لعبادة ربكم فتجعلون فيها الألوان التي تشتت الأنظار وتفرق القلب فلا يجتمع حال عبادة الرب جل وعلا، (لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى) ، ونقل البخاري عن أنس معلقاً بصيغة الجزم أيضاً قال (يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) ونقل البخاري عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنهم أجمعين أنه قال: (كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مبنياً بلبن وسقفها من جريد النخل، فأمر عمر رضي الله عنه ببناءه وتوسعته وقال: أكِنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) أكنَّ الناس: إما أنه يريد أن يخاطب نفسه فجرد من نفسه شخصاً آخر يخاطبه فقال: أكنَّ الناس: أي أبنيَ لهم كنَّن يقيهم من المطر ومن حر الشمس، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، وإما أنه قال هذا لعامله الذي أمره بتوسيع مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أكنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
عباد الله: تشيد المساجد له حالتان الحالة الأولى أن يكون البناء محكماً قوياً متقناً متناسباً له فرشٌ جيد يريح المصلي إذا دخل إليه ليس فيه بعثرة ليس فيه ألوانٌ تشتت النظر فهذا مشروع جائز وهذا من الرفع الذي أمرنا به وهذا الذي فعله الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وهناك تشيدٌ منهيٌ عنه أن يكون هناك صورٌ وألوانٌ وزهورٌ وورود وغير ذلك تصبغ بها الجدران بحيث من نظر إليها تشتت ذهنه وتفرق قلبه فهذا منهي عنه ثبت في صحيح البخاري معلقاً والأثر وصله الإمام أبو داود بسند صحيح كالشمس في سننه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:(كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام مبني بلبن وهي البن التي تصنع من الطين، مبني بلبن وكان سقفه من جريد النخل، وكان عموده من خشب النخل، فبقيَ على ذلك في عهد أبي بكر رضي الله عنه ولم يغير فيه شيء،) وثبت في سنن أبي داود أن أبي بكر رضي الله عنه غير السواري فقط عندما دخل فيها السوس ونخرت فغيرها بمثلها، غيَّر السواري التي هي الأعمدة من خشب النخل بسواري أيضاً من خشب النخل، لكنه ما زاد في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام شيئا، السواري نخرت فغيَّرها، فلما جاء عمر رضي الله عنه وكثر الناس وسَّع المسجد مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لكن حافظ عليه كما كان بناءٌ بلبن والسام والأعمدة من خشب النخل وسقفه من جريد النخل، فلما كان عثمان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام أجمعين وكثر الناس وفي سنن أبي داود ونخرت أيضاً السواري بواسطة السوس الذي فيها وسَّع المسجد توسعة عظيمة وغيَّر البناء الذي كان عليه فبناه بالحجارة المنقوشة في سنن أبي داود بإسناد صحيح بالحجارة المنقوشة والقصة: وهي الجس في لغة أهل الحجاز وجعل أعمدته من حجارة منقوشة وجعل سقفه من خشب الساج.
فأكثر الناس من الكلام فنبههم وحذرهم، وإنما بناءه عثمان رضي الله عنه وأرضاه بحجارة منقوشة المرتبة بأشكال حسنة ليس فيها ألوانٌ تشتت الأذهان، النقش الذي فيها إما أن تكون الحجارة مربعةً، مستطيلةً، مثلثةً، مُسَدسةً بحيث تكون الحجارة في هذا المسجد متزنة متسقة مرتبة ليس في ذلك بعثرة ولا تشويش، ليس في ذلك حرج، هذا من باب الترتيب ببيوت الله وتعظيمها، بنها بحجارة منقوشة، ليست منقوشة بألوان وزخارف، إنما هي أشكال مرتبة في هذا المسجد لا يوجد ما يفرق النظر ولا ما يشغل القلب لكن إذا نظرت رأيت ترتيباً وإحكاماً وصنعاً عجيباً بديعا هذا من التعظيم الذي أمرنا رب العالمين نحو بيوته التي ينبغي أن نبينها له في هذه الأرض {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} أن ترفع حسا، أن تشيد وأن تبنا بهذه الصفة الحسنة المكرمة فإذا دخلت إلى بيت الله فرشه مريح، إذا كانت البلاد في بحاجة إلى تكييف التكييف فيه مريح الإضاءة فيه جميلة جليلة كافية، وهكذا كل ما فيه يريح المصلي ولا داع بعد ذلك بألوانٍ ولا لإشغال أذهان المصلين.
إذاً التشيد على نوعين تشيد فيه تعظيم لبيت الله وإحكام صُنْعَةٍ وإتقانها فحسنٌ لا محذور فيه، وتشيد يقصد منه زخرفة وزركشة وانشغال المصلي فهذا الذي جاءت أدلت الشرع بالنهي عنه والتحذير منه وهو الذي نهانا عنه نبينا صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود وغيره بإسناد صحيح من رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[إني لم أؤمر بتشيد المساجد] أي بزخرفتها وتزينها بحيث شتت ذلك ذهن الإنسان ويفرق قلبه، {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} ترفع حسا، تبنى تتميز عن بيوت الناس وترفع معنى {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} ورفع هذه البيوت معناً أن تعظم وأن تقدر وأن تحترم وأن تصان من كل دنس وقذر حسي ومعنوي وأن يجري فيها كل فضيلة وأن تحترم في حال الدخول والخروج والمكث فيها والبقاء فيها.
{أن ترفع} ، أن ترفع عن كل نقص بحيث يكون لها قدر لا يكون لمكانٍ آخر.
{في بيوت أذن الله أن ترفع} حسا ومعنى ورفع هذه البيوت معنى ينظم فيه أيضاً أمران رفعها معناً بأمرٍ محسوس، رفعها معناً بأمرٍ معنوي، أما رفعها حساً تقدم معنا أن نرفع بنائها، وأما هنا نرفع قدرها بشيء محسوس: أي نصونها عن كل قدرٍ حسي، فبيوت الله لا ينبغي لها أن يقع فيها شيء من الروائح المنتنة ولا شيء من النجسات والقذر ولا شيء من البصاق بحيث يكون عليها ويشوه منظرها ويجعل الناس يتأففون من بيوت رب العالمين، كل هذا مما نهينا عنه.
ولذلك ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه الإمام البخاري وأهل السنن الأربعة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الإمام مسلم من رواية أنسٍ رضي الله عنهم أجمعين [أن رجلاً دخل النبي مسجد النبي عليه الصلاة والسلام على عهد النبي عليه الصلاة والسلام فبال في ناحية من المسجد فزجره الصحابة ونهروه فقال النبي عليه الصلاة والسلام لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله، إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ثم دعا بسجل من الماء فصبه على بول الأعرابي وانتهى الأمر ثم قال أيها الرجل إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والنجاسات، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن إنما هي لذكر الله والصلاة قراءة القرآن]، إذاً تصان عن كل دنسٍ حسي هذا من باب رفع المساجد معنى ولذلك سنن ابن ماجة بإسناد قال عنه الإمام المنذرين قابلٌ لتحسين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أخرج من المسجد أذى بنى الله له بيتاً في الجنة] جعل إخراج الأذى من المسجد يعدل عمارة المسجد، من أخرج من المسجد أذى بنى الله له بيتاً في الجنة فهذا رفعٌ وذلك رفع، هناك رفعٌ له حسا وهنا رفعٌ لها معنىً عن طريق الحس، رفع قدرها بتنظيفها من النجاسات والقاذورات الحسية، من أخرج من المسجد أذى بنى الله له بيتاً في الجنة، والحديث إخوتي الكرام أصله ثابت في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ورواه ابن خزيمة وابن ماجة في سننه من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام [افتقد امرأة سوداء كانت تقم المسجد: أي تكنس وتنظفه، فلما سأل عنها قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت في الليل فكرهنا أن نؤذنك فأنت نائم عليه صلوات الله وسلامه، ماتت في الليل فكرهنا أن نؤذنك فقال دلوني على قبرها، فأتى على قبرها وصلى عليها عليه صلوات الله وسلامه] .
وفي رواية أبي الشيخ عن عبيد الله ابن مرزق بإسناد مرسلٍ صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام [رأى قبراً بين المقابر قال قبر من هذا قالوا قبر أم محجن التي كانت تقم المسجد وتكنسه فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا آذنتموني بموتها فقالوا ماتت بالليل فكرهنا أن نؤذنك فصلى عليها النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال لها يا أم محجن، يا أم محجن، يا أم محجن، فقال الصحابة الكرام يا رسول الله عليه الصلاة والسلام وهل تسمعك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام: قال ما أنتم بأسمع لما أقول منها يا أم محجن أي عملك وجدته أعظم أجراً عند الله فقالت قم المسجد] بعد موتها، قم المسجد، كنس المسجد، تنظيف المسجد، صون المسجد من القذر الحسي، هذا مما أمرنا به نحو بيوت ربنا {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} يرفع قدرها ومنزلتها بإخراج القاذورات منها وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بتنظيف المساجد، وكنسها وتطيبها.
ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربع باستثناء سنن النسائي والحديث رواه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحه عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب [أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب] قال سفيان بن عيينة عليه رحمة الله المراد من الدور: القبائل، وإنما أطلق على القبائل لفظ الدور لأن كل قبيلة كانت تسكن في بيوتٍ متعددة بحيث تكون تلك البيوت كأنها بيت واحدٍ، فأمر إذاً أن تبنى المساجد في الدور: أي كل قبيلة تبني لنفسها مسجداً بحيث لا يشق عليها أن تذهب إلي مسجدٍ آخر يبعد عنها ففي ذلك مشقة أو ضياعٌ للجماعة، أمر أن تبنى المساجد في الدور: أي في القبائل، أي أحياء الناس وقال الإمام البغوي في الدور: أي في محال الدور، أي في الأمكنة التي توجد فيه الدور وتبنى فيها المساكن، أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وأن تطيب، إذاً {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} حسا ببناءها، {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} معنىً يرفع قدرها ومكانتها بأمرٍ حسي فتصان من كل دنسٍ وقذرٍ ونجسٍ، {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} أن ترفع معنىً بأمرٍ معنوي فلا يجري فيها لغط ولا كلام خسيسٌ باطلٌ، ولا بذاءةٌ ولا خنا، هذه بيوت الله جل وعلا ينبغي أن يكثر فيها ذكر الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كلُ في ما فيها من دنسٍ معنوي ينفر وينبغي أن تنزه المساجد عنه.
ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، والحديث رواه أنسٌ وجابر وروايتهم في الصحيحين، والحديث رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم[من أكل بصلاً أو ثوماً، وفي بعض الروايات أو كراثاً فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم] أكل شيئاً له رائحة منتنة إذا جاء إلى هذه البيوت ما رفعها إنما وضعها وامتهناها واحتقرها، {أذن الله أن ترفع} وهكذا يقاس عليها كل ما له رائحة ممتنةٍ من دخانٍ فشا في هذه الأيام فلا يجوز لك أن تدخل بيت الله إذا شربت هذا الدخان الذي تؤذي فيه الملائكة الكرام وعباد الرحمان، [إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم] ، رفع الصوت في بيت الله ما ينبغي أن يقع ولا أن يحصل.
ثبت في صحيح البخاري عن السائب ابن يزيد رضي الله عنه قال [كنت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فحصبني رجلٌ أي رماه بحصاة يقول فالتفت فإذا هو عمر ابن الخطاب أيام خلافته فدعاني ثم قال اتني بهذين فآتيته بهما فلما وقف عليهما قال من أين أنتما من أهل الطائف من ثقيف، قال والله لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً ترفعان صوتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم] رفع الصوت يقع في بيت الله، لكن تعذران لبعدكما عن ساحة العلم وساحة الأدب والجاهل يرفق به ويعلم، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وثبت في سنن النسائي بإسنادٍ صحيح أن رجلاً رفع صوته في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه ويحك أتدري أين أنت، ويحك أتدري أين أنت، من جالس الملوك يجالسهم بالأدب فكيف من يجالس ملك الملوك رب العالمين في بيته الكريم، ويحك أتدري أين أنت، فبيوت الله جل وعلا ينبغي أن تصان عن كل لهوٍ ولغوٍ، ثبت في صحيح ابن حبان من رواية أنسٍ رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[سيكون في آخر الزما أقوامٌ حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة] .
والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسل عن الحسن البصري رحمه الله ورضى عنه قال [سيكون في آخر الزمان أقوامٌ يتحدثون في مساجدهم بأمور دنياهم فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة] وقوله وليس لله فيهم حاجة: أي ليسوا من عباده الأخيار وبرئت منهم ذمة العزيز القهار، ليس لله فيهم حاجة، إذاً بيوت الله جل وعلا ينبغي أن ترفع أمرنا الله برفعها حساً، وينبغي أن ترفع معنىً بكل أمرٍ حسي وبكل أمرٍ معنوي بهذا أمرنا الله جل وعلا عباده {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركع السجود} ، {وإذ بوئنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتيَ للطائفين والقائمين والركع السجود} فأذن الله جل وعلا برفع هذه البيوت ببناءها ورفعها حسا، بتعظيمها واحترامها بكل أمرٍ حسي، وبكل أمرٍ معنوي، هذا الأمر الأول الذي أمرنا به نحو بيوت ربنا جل وعلا.
وأما الأمر الثاني والثالث: {ويذكر فيه اسمه يسبحه له فيها بالغدو والآصال
رجال} وحال عباد الله الأخيار في بيوت العزيز الغفار يأتي الكلام عليه إن شاء الله في المواعظ الآتية إن أحيانا الله، أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صلي على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، وارضى اللهم عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، واقضي حوائجنا يا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم اغفر لآبائنا ولأمهاتنا ومشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، لمن أحسن إلينا، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد رب العالمين.