المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تذكير الكرام بتوديع شهر الصيام - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ٧٢

[عبد الرحيم الطحان]

الفصل: ‌تذكير الكرام بتوديع شهر الصيام

‌تذكير الكرام بتوديع شهر الصيام

(لقاء ديني)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

تذكير الكرام

بتوديع شهر الصيام

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا..

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويما، وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة، وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .

وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما وقلوباً غُلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3)

(1) سورة فاطر: 3

(2)

سورة النساء: 1

(3)

آل عمران: 102

ص: 1

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1)

أما بعد: معشر الإخوة الكرام..

لازلنا نتدارس ما يتعلق بشهر رمضان من فضائلَ وأحكام، وهذه آخر موعظة من شهر الصيام وسأذكر فيها بعض فضائل شهر رمضان بما يطرب قلوب أهل الإيمان.

إخوتي الكرام: هذا شهر عظيم كريم مَنَّ الله فيه على عباده بالخير العميم، فجعل الصيام طاعة مكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، بل جعل في شهر الصيام طاعاتٍ أخرى تكفر للعبد ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد أحصى أئمتنا الكرام الطاعات التي وردت عن خير البريات عليه الصلاة والسلام أنها تكفر الذنوب المتقدمات والمتأخرات فبلغت اثنتين وعشرين طاعة أحصاها حَذَاِمي المحدثين وأمير المؤمنين الإمام أبو الفضل ابن حجر العسقلاني في كتابه معرفة الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة.

وفي شهر رمضان ثلاث طاعات تكفر جميع ذنوب الإنسان ما تقدم منها وما تأخر، وبإمكانه أن يحرز في شهر الصيام طاعات أخرى يضم إلى تلك الفضائل أيضا، فضيلةً تساويها إخوتي الكرام سأذكر طاعتين اثنتين فيهما تكفير الذنوب المتقدمة والمتأخرة، ثم أنتقل بعد ذلك إلى الطاعات التي مَنَّ الله بها على عباده المؤمنين والمؤمنات في شهر رمضان، وتكفر عنهم الذنوب المتقدمات والمتأخرات، الطاعة الأولى من الطاعات التي لا ارتباط لها بشهر الصيام إنما ينبغي أن يحرص الإنسان على فعلها على الدوام وإذا قام بها غفرت له جميع الذنوب والآثام ما تقدم منها وما تأخر كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

(1) سورة الأحزاب 70، 71

ص: 2

ثبت في مسند الإمام أحمد، والحديث رواه أهل السنن الأربعة، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك، ورواه البخاري في التاريخ الكبير، ورواه الإمام ابن أبي السني في كتاب عمل اليوم والليلة -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين-، رووا هذا الحديث عن سيدنا معاذ بن أنس الجهني وهو من أصحاب حبيبنا النبي -على نبينا وآله وصحبه صلاة الله وسلامه- عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أكل طعاماً فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه] زاد الإمام أبو داود في روايته بسند حسن كما في الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة ورقم هذه الطاعة في هذا الكتاب الحادية والعشرون يقول الإمام ابن حجر.

زاد الإمام أبو داود في روايته: [غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] ، ومن لبس ثوباً فقال الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه] .

زاد أبو داود أيضا في روايته بإسناد حسن وما تأخر، هذه طاعة أولى ونفعلها باستمرار وكثير منا يغفل عن هذا الذكر الذي له أجر عظيم عند العزيز الغفار إذا أكلت الطعام فقل الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة تتبرأ من حولك وقوتك إلى ربك جل وعلا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا تحول لنا من حال إلى حال ولا قوة لنا على شيء من الأشياء في حال من الأحوال إلا بتقدير ذي العزة والجلال، وهكذا إذا لبست ثوبا فقل: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، والحديث إخوتي الكرام إسناده صحيح والزيادة ثابتة بإسناد حسن.

ص: 3

والطاعة الثانية صلاة التسبيح أيضا تغفر للإنسان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد ثبت الحديث بذلك في السنن الأربعة إلا سنن النسائي والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك، وابن خزيمة في صحيحه، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، وفي شعب الإيمان، كما رواه الإمام الداراقطني وألف فيه جزءاً كما سيأتينا خبر ذلك -إن شاء الله- والحديث رواه الإمام البغوي في شرح السنة، وابن أبي شيبة في مصنفه -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين- والحديث إسناده صحيح صحيح ثابت ثبوت الشمس في رابعة النهار، عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسيدنا عمه العباس -على نبينا وآل بيته أصحابه الأخيار صلوات الله وسلامه- قال له: يا عم يا عماه؟ ألا أفعل بك؟ ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أثيبك؟ ألا أحبوك؟ ألا أجيزك؟ ألا أخبرك بأمر من الأمور؟ وفيه عطية وهبة ومنحة وجائزة وفضل عظيم؛ إذا أنت قمت بهذا الأمر أعطاك الله هذه الفضيلة وهي يغفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، سره وعلنه، خطأه وعمده، يغفر الله لك هذه الذنوب إذا قمت أنت بهذا الأمر الذي سأخبرك به، ثم علمه نبينا -عليه الصلاة السلام- صلاة التسبيح وهي باختصار أربع ركعات؛ إن شئت أن تصلي ركعتين وتسلم، وإن شئت أن تصلي الركعات ببعضها وتقول في كل ركعة خمساً وسبعين تسبيحة بهذا اللفظ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؛ وتوزع هذه التسبيحات على أفعال الصلاة، فإذا كبرت تكبيرة الإحرام وقلت دعاء الاستفتاح فقل، بعده: خمس عشرة مرة قبل أن تقرأ الفاتحة (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) ، ثم اقرأ سورة الفاتحة وسورة بعدها، وقبل أن تركع قل عشر مرات:(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) فهذه خمس وعشرون تسبيحة، فإذا ركعت وانتهيت من تسبيحات الركوع، زد عليها عشر مرات (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا

ص: 4

الله والله أكبر) فإذا نهضت إلى القيام فقل: (سمع الله لمن حمده) وانتهيت من أذكار الرفع من الركوع، ضم إليها عشر تسبيحات هذه: خمس وأربعون فإذا سجدت السجدة الأولى وانتهيت من تسبيح السجود فقل: عشر تسبيحات، ثم قل: الله أكبر واجلس بين السجدتين، فإذا انتهيت من الدعاء الوارد بين السجدتين ضم إليه عشر تسبيحات، هذه خمس وستون ثم اسجد السجدة الثانية وقل: بعد تسبيحات السجود: عشر تسبيحات هذه خمس وسبعون. افعل هذا في ركعاتك الأربع يكون مجموع التسبيحات ثلاث مائة تسبيحة، وهذه إحدى الكيفيتين المنقولة عن سيد الكونين عليه الصلاة والسلام.

وهناك كيفية ثانية لا تختلف عن هذه إلا بأمر يسير ألا وهو أنك تقول خمس عشرة مرة بعد الانتهاء من الفاتحة والسورة قبل الركوع، وتقول بعد السجدة الثانية وقبل القيام للركعة الثانية عشر تسبيحات، ثم قم وقد أورد الإمام المنذري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا الكيفيتين في كتاب النوافل في باب الترغيب في صلاة التسبيح من كتابه الترغيب والترهيب من فعل هذه الصلاة غفر الله ذنبه كله أوله وآخره، عمده وخطأه، سره وعلنه، قديمه وحديثه، صغيره وكبيره.

والحديث صححه الإمام الحاكم في المستدرك، والذهبي والمنذري في الترغيب، ونقل تصحيحه عن شيوخه وعن جم غفير من المحدثين، وإن عراق في تنزيه الشريعة، وتتابع أئمتنا على تصحيحه، بل ألفو فيه أجزاء مستقلة، ومن الذين ألفو فيها:

الإمام الدارقطني ـ وتوفي سنة 385هـ ـ

وبعده الخطيب البغدادي ألف كتابًا في طرقه ـ وقد توفي سنة 463هـ ـ

وبعده السمعاني ألف كتابًا فيها ـ وتوفي 562هـ ـ

وبعده الإمام أبو موسى المدني ـ ألف كتابًا في تصحيح صلاة التسابيح ـ توفي سنة 81هـ

وبعد هؤلاء حافظ بلاد الشام ابن ناصر الدمشقي ـ توفي سنة 842هـ ـ

وبعده الإمام ابن حجر العسقلاني ـ وتوفي سنة 852هـ ـ

وبعده السيوطي ـ وتوفي سنة 911هـ ـ

هؤلاء أئمة حفاظ كرام يؤلفون كتبًا مستقلة في هذا الحديث.

ص: 5

وقد قرر أئمتنا الكرام أنه مع صحة الحديث فقد عكف على فعلها علماء الإسلام، وكانوا يوصون أتباعهم والمسلمين بها على الدوام.

يقول الإمام الحاكم في المستدرك: ويكفي في تصحيح حديث صلاة التسبيح فعل أئمة أتباع التابعين لها ومنهم شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك إمام الدنيا في زمانه، وأمير العلماء في وقته الحافظ الجهبذ الغازي المحدث حديثه في الكتب الستة محتج به في جميع دواوين السنة، وقد توفي سنة 181هـ عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال: ولم يزل عمل المسلمين على ذلك من زمنهم إلى زماننا، والحاكم توفي سنة 405هـ وهكذا قال الإمام الترمذي قبله في السنن، وقد توفي الترمذي سنة 179هـ يقول: وقد رأى شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك وغيره من العلماء صلاة التسبيح، واستحبوها وفعلوها، وأوصوا أتباعهم بها هذا في سنن الترمذي، وهكذا يقول الإمام البيهقي في السنن الكبرى وقد توفي سنة 458هـ، وبعده الإمام البغوي في شرح السنة وقد توفي سنة 510هـ، هؤلاء كلهم ينقلون فعل العلماء الكرام لها وفي مقدمتهم هذا الإمام المبارك شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا-، فالحديث صحيح وعمل به علماء الشريعة المطهرة وأوصوا أتباعهم به. وهذا الحديث المروي من طريق عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال الحاكم في المستدرك في المكان المشار إليه آنفا، وقد صح من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أوصى بصلاة التسبيح عمه العباس أوصى ابن عمه جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين- وهذا ثابت كما قلت في المستدرك وإنما ذكرت صلاة التسبيح في آخر موعظة من شهر رمضان لأمرين اثنين:

ص: 6

الأمر الأول: الذي أدركت عليه الصالحين منذ أن نشأت قبل البلوغ أنهم يصلون صلاة التسبيح في أواخر شهر رمضان لا لأنه ورد أثر في ذلك على الخصوص بأنها تصلى في أواخر شهر رمضان لا ثم لا إنما أواخر شهر رمضان أعني العشر الأخير منه لها شأن عظيم عند الرحمن ولذلك أئمتنا كانوا يفعلون هذا في أواخر شهر رمضان فيضمون إلى خيرات هذا الشهر، هذه الطاعة العظيمة المباركة وهذا مما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان وينبغي أن يفعل الإنسان صلاة التسبيح إن استطاع في كل يوم مرة، فإن لم يستطع ففي كل أسبوع مرة، فإن لم يستطع ففي الشهر مرة، فإن لم يستطع ففي السنة مرة، فإن لم يستطع ففي العمر مرة، فإن لم يفعلها مغبون مغبون خاسر عند لقاء الحي القيوم.

قال الإمام ابن عابدين في حاشيته الشهيرة -رد المحتار على الدر المختار في 2/27-: فيها ثواب لا يتناهى، ومن ثم قال بعض المحققين: لا يسمع بعظيم فضلها ثم يتركها إلا متهاون بالدين، وكثير من الناس في هذه الأيام ليس عنده خبر عنها، بل من سمع بها يكثر اللغط حولها0 -إخوتي الكرام - أردت أن أذكر نفسي وإياكم بها لنفعلها في هذا الشهر الكريم وما بقي منه إلا أيام.

والأمر الثاني: أنني كنت ذكرت هذه الصلاة وفضلها في موعظة كاملة، ومن أحب أن يسمع الشريط في شأنها فلعله يزداد خيرا في التعلق بها، كنت تكلمت عليها وسمعت كثيرا من كلام الناس لاسيما في إذاعة نور على الدرب، ممن يفتون فيتجرؤون ويقولون إنها بدعة وما عندهم في ذلك إلا التقليد المحض.

ص: 7

نعم ذهب شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- إلى عدم صحة حديث صلاة التسابيح، وقرر هذا في كتاب السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 7/434 وكلامه مذكور أيضا في مجموع الفتاوى في 11/579، لكن كلامه مردود عليه مع حبنا له، وتقربنا إلى الله جل وعلا بمحبته، لكن الحق أحق أن يتبع، وهو مجتهد فيما قال، معذور ومأجور، لكن الحديث صححه من قبله ممن هو أعلى منه، ومن بعده ممن هو في درجته، أو أعلى منه، ولا يعقل بحال أن نترك كلام جمهور أئمتنا الأبرار لقول عالم من العلماء، فعنده عذره ويغفر الله لنا وله، وكنت ذكرت هذا -إخوتي الكرام- في الشريط وبينت العذر الحامل له على هذا، وبينت أنه لا يصلح أن يعل به حديث صلاة التسابيح، وأن يرد من أجل تلك العلة التي توهمها هذا الإمام، وتبعه على ذلك الإمام الشوكاني فرأى أن حديث صلاة التسبيح لا يصح في السيل الجرار وهكذا في تحفة الذاكرين، وهكذا في الفوائد المجموعة للأحاديث الموضوعة، وهو في ذلك تابع للإمام ابن تيمية، وهؤلاء الذين يفتون في نور على الدرب يتبعون هذا، أو كليهما من غير بينة وحجة.

وقد قابل بعض الإخوة الكرام ممن هو معنا في هذه الموعظة بعض الشيوخ الذين يفتون في نور على الدرب، ويقولون إن الحديث لم يصح قال له إن الحديث صحيح، وفلان قد تكلم فيها بمقدار ساعتين، وكلامه موجود في شريط، قال ما عندي علم بما تقول إلا أنني أعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول إن حديثها ليس بصحيح، هذا علمه من السنة، لكن المسكين ما اطلع على حديثها في سنن الترمذي، ولا في سنن ابن ماجه، ولا في سنن أبي داود، وهي من دواوين السنة، ومن أصول الحديث، ومن باب أولى ما اطلع بعد ذلك على المستدرك وعلى غيره، ومن باب أولى ما اطلع على الكتب المفردة في شأنها، والحديث فيها لا ينزل عن درجة الصحة بحال.

ص: 8

لذلك ـ إخوتي الكرام ـ أردت أن أنبه على هذا الأمر خشية أن يكون بعضكم قد سمع أحيانا إذاعة نور على الدرب فظن أن صلاة التسابيح بدعة، وهي سنة ثابتة عن نبينا -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه-.

هذان أمران إذا فعلهما الإنسان يغفر الله له بهما ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بعد هذا ندخل في فضائل هذا الشهر الكريم وما فيه من خيرات عظيمة تكفر عنا ما تقدم وما تأخر من ذنبنا.

إخوتي الكرام: الصيام طاعة مكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، وقد ثبت في المسند، والصحيحين، والسنن الأربعة، والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى، وهو في غير ذلك من دواوين السنة، ولفظ الحديث من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه] .

زاد الإمام أحمد في المسند في روايته وما تأخر، قال شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في 2/90 وإسناد الزيادة حسن، وقال الإمام ابن حجر -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- في فتح الباري في 4/115 وهذه الزيادة على شرط الصحيح، هذه الطاعة الأولى في شهر الصيام تكفر عنك جميع الذنوب والآثام، ما تقدم وما سيأتي في مستقبل الزمان، والطاعة الثانية التي في شهر الصيام هي: القيام.

ثبت في مسند الإمام أحمد، والصحيحين، والسنن الأربعة، والحديث في موطأ الإمام مالك، وسنن الدارمي، وهو في السنن الكبرى للإمام البيهقي، والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه] .

ص: 9

زاد الإمام النسائي في روايته، والإمام المروزي في روايته في كتاب قيام الليل، وهشام بن عمار في كتابه الفوائد [وما تأخر] ، وهذه الزيادة زيادة صحيحة، ثابتة كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في كتاب الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، ورقم هذه الطاعة في كتابه (السابعة) وقرر هذا في فتح الباري، هذه طاعة ثانية تكفر الذنوب المتقدمة والمتأخرة، والثالثة ليلة القدر.

ثبت في مسند الإمام أحمد، والصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي، والترمذي والحديث في السنن الكبرى للإمام البيهقي، ولفظ الحديث من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه] .

قال الحافظ ابن حجر وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه- من طريقين اثنين كل منهما حسن: [غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] .

هذه ثلاث روايات عن أبي هريرة رضي الله عنه فيها، أن من قام بهذه الطاعات الثلاث الصيام، والقيام، وقيام ليلة القدر، من قام بها غفر له بكل واحدة ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأما بخصوص الصيام فالروية في تاريخ بغداد لفظاً وما تأخر.

إخوتي الكرام: الإنسان إذا فعل هذه الطاعات الحسان في شهر رمضان ينال هذه الجائزة عند ذي الجلال والإكرام، ويصبح كأهل بدر الكرام فهذه الفضيلة ثبتت لأهل بدر رضي الله عنهم وأرضاهم- والله غفر لهم ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم، والحديث ثابت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود، والترمذي من رواية سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم] .

ص: 10

والحديث ثابت في المسند، وسنن أبي داود، ومستدرك الحاكم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وثابت في المسند، ومعجم الطبراني الكبير والأوسط من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وثابت من رواية أمير المؤمنين عمر وابنه عبد الله بن عمر ومن رواية جابر بن عبد الله ومن رواية حاطب بن أبي بلتعة فهو مروي من طريق سبعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين- باللفظ المتقدم.

إخوتي الكرام: وهذه المغفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، تُحمل على معنيين اثنين كما قرر ذلك حذامي المحدثين وأمير المؤمنين الحافظ ابن حجر -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا-.

المعنى الأول: من عمل طاعة من هذه الطاعات الثلاث وغيرها التي يغفر للإنسان بها ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما تقدم معنا في أول الموعظة، من عمل شيئا منها وقبلت طاعته عند الله، سيحفظ بعد تلك الطاعة من المعاصي والمخالفات والموبقات وله صك عند رب الأرض والسموات بأنه سيوافي ربه بالإيمان، ولن يحصل منه ارتداد وكفران، فإن قيل هل يلزم من هذا أن يكون معصوماً من الذنوب والأوزار؟ لا ثم لا وهذا يتضح في الجواب الثاني فإن جرى منك زلل حسبما لا تنفك عنه طبيعة البشر فذلك يقع مغفورا بفضل الله عز وجل إنما إذا قبلت الطاعة من هذه الطاعات التي بلغت ـ كما قلت ـ اثنتين وعشرين طاعة من فعل واحدة منها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إذا قمت بها وقبلت عند الله جل وعلا لوجود الشروط المعتبرة فيها فقد صار لك عند الله عهد وثيق وصك محكم بأنك ستوافي ربك بالإيمان ولن يحصل منك ارتداد وكفران كما هو الحال في أهل بدر الكرام بقي الأمر الثاني إن وقع منك زلل حسبما لا تنفك عنه طبيعة البشر يقع ذلك مكفرا مغفورا بفضل الله عز وجل ولذلك معنى قول نبينا عليه الصلاة والسلام لأهل بدر رضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم الله عن الإسلام وعنا خير الجزاء وملأ قبورهم نورا وقلوبهم بهجة وسرورا-.

ص: 11

فإن قال قائل إذا فعلنا شيئا من تلك الطاعات فهل معنى ذلك أننا صرنا كأهل بدر ومن عدادهم؟ لا ثم لا، فإن قال لم يا عبد الله؟ أقول هذه الجائزة التي وعد بها أهل بدر مقطوع بها لكل فرد منهم وأما نحن فما الذي يدرينا أن الطاعة قبلت منا وما ضربت بها وجوهنا فنحن نأمل ونرجوا من ربنا أن يلحقنا بساداتنا أهل بدر الكرام وأن يقبل طاعاتنا مع ما فيها من نقصان فهو الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى لكن لا يمكن لواحد منا أن يقطع لنفسه بذلك نؤمل فضل الله ونرجو عفوه وأن يقبل منا ما وعدنا عليه أنه يكفر ما تقدم من ذنبنا وما تأخر.

وهذا المعنى –إخواتي الكرام- الذي ذكرته هو الذي قرره أئمتنا هو المعنى الحق المراد من حديث فضل أهل بدر ومن الطاعات التي ذكرتها وأن من قام بها غفرت له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر هذا المعنى الذي يدور على أمرين اثنين هو المراد ولما خفي هذا عن كثير من العلماء واستشكلوا ظاهر الحديث قالوا أقوالا مردودة منهم: الحافظ الإمام ابن الجوزي كما نقل عنه ذلك الإمام ابن القيم في كتابه الفوائد من صفحة 14 إلى 17 يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر صفحة 330 [اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم] .

ص: 12

يقول غفرت لكم أي ما تقدم وليس في ذلك دلالة على مغفرة الذنوب المتأخرة وليس في قوله اعملوا ما شئتم أن هذا سيعمل في المستقبل لأن هذا يكون من باب الإطلاق في الذنوب وأنه يعمل ما شاء من العيوب وعليه مهما عملتم من عمل سابق فقد غفرته لكم بعد موقعة بدر قال ولو كان المراد اعملوا في المستقبل ما ستعملون لقال فسأغفر لكم وهذا الكلام مع جلالة من قال به وإمامته وهو شيخ الإسلام لكن الكلام مردود مردود أما قوله غفرت للماضي فنقول اعملوا للمستقبل وهو لم يقل ما عملتم غفرته لكم إنما قال اعملوا فإن قال غفرت للماضي نقول يا عبد الله هذا من باب تحقيق هذه البشارة لهم والله جل وعلا يخبر عن المستقبل بلفظ المضي للإشارة إلى تحقق حصوله كما يستعمل هذا بكثرة في كتابه سبحانه وتعالى {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} أتى ثم قال فلا تستعجلوه إذن سيأتي فلا داعي لاستعجاله لكن مجيئه لما كان حتما وجزماً ولا خلف لوعد الله فأخبر الله عن المستقبل بلفظ المضي ولهذا نظائر كثيرة وعليه فقد غفرت لكم لم يقل فسأغفر لكم سبحانه وتعالى للإشارة إلى تحقق المغفرة وثبوتها وأنها متيقنة مقطوع بها ثم بعد ذلك نقول للإمام ابن الجوزي -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- أنت غفلت عن سبب ورود الحديث إن الحديث ورد بعد موقعة بدر بست سنين وقع في العام الثامن هذا الحديث وهذه البشارة ولم يبشر بها أهل بدر بعد موقعة بدر فموقعة بدر وقعت في العام الثاني للهجرة وهذه البشارة قالها نبينا عليه الصلاة والسلام في العام الثامن عند فتح مكة وسبب ورود الحديث أن سيدنا الصحابي المبارك حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما كاتب أهل مكة يخبرهم أن النبي عليه الصلاة والسلام يتجهز لفتح مكة وأراد أن يصنع يداً عندهم ليأمن على أسرته وعلى ماله وعلى أهله وما نافق في إيمانه وما تردد يقينه في صدره وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فلما أعلم الله نبيه عليه الصلاة والسلام-

ص: 13

بما حصل من حاطب واستحضر الكتاب الذي أرسله مع امرأة وقد وضعته في ضفائر شعرها قال له نبينا عليه الصلاة والسلام ما حملك على ما صنعت فقال له: كل واحد من أصحابك له أهل وعشيرة هناك، وأما أنا فكنت ملصقا فيهم وليس لي من يحمي أهلي فأردت أن أتخذ يداً عندهم لئلا يؤذوا أهلي فقال النبي عليه الصلاة والسلام صدقت فقال سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه: دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقد نافق فقال يا عمر وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم - فالنبي عليه الصلاة والسلام يبرر فعل حاطب، وأنه مغفور له، وأن هذه الزلة لا تضره لأنه شهد بدرا.

والأحاديث في أهل بدر كثيرة، وفيرة، فما قاله شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي مردود بعيد وأبعد منه ما قاله الإمام الرازي في تفسيره في 24/192 قال معنى الحديث اعملوا ما شئتم من النوافل والفضائل والمستحبات فقد غفرت لكم، وكما قلت غفلة عن سبب ورود الحديث إنما المراد اعملوا ما شئتم، أي مهما جرى منكم من زلات وهفوات لا تنفك عنها طبيعة المخلوقات، فذلك مغفور بفضل رب الأرض والسموات، وهكذا الصيام والقيام وقيام ليلة القدر إذا وقع شيء من ذلك عند الله مقبولا غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر تحفظ من الذنوب وتلقى بالإيمان علام الغيوب، وإذا وقع منك شيء من الهفوات والزلات فيقع ذلك مكفراً بفضل رب الأرض والسموات.

إخوتي الكرام: لكنَّ هذه الفضيلة كما قلت لا ينالها إلا من قبل صيامه وقيامه وقيامه لليلة القدر وأما إذا رد الصيام على الصائم وضرب به وجهه فهو لأن يعاقب أولى من أن يثاب وكل واحد منا يعرف صيامه ويعرف قيامه ويعرف تحريه لليلة القدر والإنسان على نفسه بصيرة، ونسأل الله أن يتوب علينا.

ص: 14

إخوتي الكرام: إن بني آدم يفرطون في جنب الحي القيوم، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، وطاعاتنا التي نقوم بها فيها من الشوائب والخلل والزلل ما لو تُقُرِّب بها إلى بشر لما قبلها فكيف نتقرب بها إلى الله عز وجل ولذلك نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نقول صمنا رمضان كله، وأن نقول قمنا رمضان كله سبحانك ربنا ما أفطرنا في يوم من أيام هذا الشهر الكريم ومع ذلك تأمر نبيك عليه الصلاة والسلام أن ينهانا عن ادعاء الصيام إياك ثم إياك أن تقول صمت رمضان كله خشية أن يقول الله لك من فوق عرشه فوق سمواته كذبت وما قبلت منك صيام يوم من الأيام.

ثبت في مسند الإمام أحمد، والحديث رواه أبو داود، والإمام الضياء المقدسي، ورواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، كما رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وهو في المسند، وسنن الترمذي، والنسائي وإسناد الحديث رجاله ثقات أثبات وما فيه إلا عنعنة سيدنا الإمام الحسن البصري -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- ومعنى الحديث صحيح ثابت ولفظ الحديث من رواية أبي بكرة رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يقولَن أحدُكم صمت رمضان كله ولا يقولَن أحدُكم قمت رمضان كله] قال أبو بكرة فلا أدري أكره التزكية أم قال لابد من رقدة أو نومة يعني ما سبب النهي كره لنا أن نزكي أنفسنا وبأي شيء نزكيها نعلم هل قبلت عند ربنا أم لا أو أنه قال لابد من رقدة وغفلة ونوم فحصل شيء من التفريط والتقصير في هذا الصيام فكيف تقول صمت رمضان كله وقمت رمضان كله وبوب عليه الإمام ابن خزيمة في صحيحه في كتاب الصيام فقال باب الزجر عن قول صمت رمضان كله وقمت رمضان كله.

ص: 15

إخوتي الكرام: تلك الجائزات الحسان ينالها من صام رمضان كما يحب الرحمن ومن قام كما يريد ذو الجلال والإكرام ومن وفق لليلة القدر وتقرب بها إلى الرحمن نعم إذا صدرت منك على وجه مقبول نلت تلك الجائزة عند العزيز الغفور وإلا فنسأل الله أن يتوب علينا، وأن يعفو عن تقصيرنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، والحديث رواه الإمام النسائي في سننه، ورواه الحاكم في مستدركه، وصححه وأقره عليه الذهبي، والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى، وفي كتاب شعب الإيمان، وإسناده صحيح صحيح من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه-، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند لا بأس به من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين-، وقد صحح حديث ابن عمر الإمام الهيثمي والمنذري في الترغيب والترهيب -عليهم جميعا رحمة الله- ولفظ حديث أبي هريرة وابن عمر متقارب لفظ الحديثين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال:[رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر] سبحان ربي العظيم، صام عن الطعام والشراب وما امتنعت جوارحه، عن الآثام، حكمه عند الله كحكم الكلب الجائع فإياك ثم إياك أن تقول صمت رمضان كله وإياك ثم إياك أن تتصف بالغرور وأن يغرك الغرور وأن تقول أنا غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر والتحقت بأهل بدر الكرام لأنني صمت شهر رمضان وما تعلم ستعاقب أم تثاب على الصيام فأمِّل فضل الله وهو واسع الفضل والمغفرة وإياك من الدعوى وإياك من الاغترار وكل واحد كما قلت يعلم حاله في طاعاته والله ثم والله لو حاسبنا الله على طاعاتنا لأكبنا على وجوهنا في نار جهنم ونسأله أن يعفو عنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

ص: 16

ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، والحديث في السنن الأربعة، ورواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه] .

والحديث رواه الإمام الطبراني في الأوسط والصغير من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من لم يدع الخنا والكذب فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه] .

إخوتي الكرام: ولذلك أوصى نبينا عليه الصلاة والسلام صديقة هذه الأمة أمنا الطيبة المباركة الطاهرة المطهرة سيدتنا الفاضلة عائشة رضي الله عنها وأرضاها- أن تسأل الله العفو والمغفرة إذا وافقت ليلة القدر، إذا عفا الله عنا وتجاوز عنا فهنيئا لنا فصيامنا فيه تقصير وقيامنا فيه تقصير وحالنا في جميع طاعاتنا لا يعلمه إلا اللطيف الخبير، ثبت في سنن الترمذي وقال حديث حسن صحيح والحديث رواه الإمام ابن ماجه، والحاكم في مستدركه عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها- أنها قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا أقول إذا وافقت ليلة القدر قال قولي الله إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا سبحان الله كأنها كانت مقصرة مفرطة. نعم هذا جميع حال العباد فإذا غفر لك زللك في صيامك وتقصيرك في قيامك فهنيئا لك، وأما الثواب فهذا محض كرم من الكريم الوهاب أما طاعاتنا التي كلفنا بها ونقوم بها لو حوسبنا على التفريط الذي فيها فنحن من أهل جهنم وبئس المصير، فإياك ثم إياك أن تبحث في الثواب إلا من باب التعويل على فضل وكرم وجود ورحمة الكريم الوهاب لكن من باب الاستحقاق لا نستحق إلا جهنم التي هي دار أهل التباب قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا يا أرحم الراحمين اللهم أدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوك يا واسع الفضل والمغفرة أقول هذا القول وأستغفر الله.

ص: 17

الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وخير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمَّن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

إخوتي الكرام: كان سلفنا الكرام -رضوان الله عليهم- يجعلون سَنَتَهم كُلَّهَا حول شهر رمضان قبل دخول شهر رمضان بستة أشهر يلجؤن إلى الله ويضجون إليه أن يبلغهم شهر الصيام ليصوموه فإذا دخل عليهم هذا الشهر من بدايته إلى ستة أشهر أخرى يضجون إلى الله ويجأرون أن يقبل صيامهم وأن يجعلهم من المقبولين الفائزين بخيرات هذا الشهر الكريم وهذا ينقله عن سلفنا الكرام شيخ الإسلام الإمام ابن رجب الحنبلي الذي توفي سنة 795 هـ في كتابه لطائف المعارف وما يتعلق بوظيفة شهر رمضان مطبوع على انفراده في صفحة 92 قبل دخول شهر رمضان بستة أشهر يسألون الله أن يبلغهم شهر رمضان، وإذا دخل عليهم هذا الشهر الكريم ضجوا إلى ربهم من بدايته إلى ستة أشهر أخرى يسألون الله أن يكونوا في شهر رمضان من المقبولين ولا غرو في ذلك فهو سيد الشهور وأفضلها عند العزيز الغفور. عبد الله إذا لم تقبل في شهر رمضان عبد الله إذا لم يغفر لك في شهر رمضان فليت شعري متى سنقبل ومتى سيغفر لنا.

ص: 18

ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح من رواية كعب بن عجرة، والحديث رواه الإمام ابن حبان في صحيحه من رواية مالك بن الحويرث، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية ابن عباس والبزار من رواية عبد الله بن الحارث، وهو في سنن الترمذي، وصحيح ابن خزيمة، والسنن الكبرى للإمام البيهقي، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه- أن نبينا صلى الله عليه وسلم رقى المنبر فقال: عند الدرجة الأولى آمين ثم رقى الدرجة الثانية فقال: عندها آمين ثم رقى الدرجة الثالثة فقال: عندها آمين فسئل من قبل الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- رأيناك تقول شيئا لم تكن تقوله قبل ذلك يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم فقال: [أتاني جبريل عند الدرجة الأولى فقال: يا محمد من دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له فأبعده الله وفي رواية فأبعده الله وأسحقه وفي رواية رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل آمين فقلت آمين وفي الدرجة الثانية يقول جبريل لنبينا عليه الصلاة والسلام: [من أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يغفر له ولم يدخلاه الجنة فأبعده الله فأبعده الله وأسحقه رغم أنفه فقل آمين فقلت آمين وعند الدرجة الثالثة من ذكرت عنده فلم يصلي عليك فأبعده الله فأبعده الله وأسحقه فرغم أنفه قل آمين فقلت آمين] .

إخوتي الكرام: إذا لم يغفر لنا في شهر رمضان فمتى سننال الغفران عند ربنا الرحمن.

إخوتي الكرام: الشهر قارب على الانصراف وكم من قريب لنا وعزيز علينا أدرك معنا شهر رمضان في العام الماضي ولم يهيأ له أن يدرك شهر رمضان في هذا العام وما ندري هل سندرك هذا الشهر في السنة الآتية أم لا.

ص: 19

إخوتي الكرام: اغتنموا ما بقي من أيام شهر رمضان واعلموا أننا عما قريب سنلقى في حفرة لا أنيس لنا فيها إلا عملنا الصالح رحمة الله على العبد الصالح داود بن نصير الطائي أبي سليمان الذي توفي سنة 162هـ وهو من رجال سنن الإمام النسائي وكان سيدنا سفيان الثوري -عليهم جميعا رحمة ال-له يعظمه ويقول أبصر أمره وكان شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك يقول وهل الأمر إلا ما عليه داود يقول اًلإمام الذهبي في ترجمته لم يخلف مثله في الكوفة سبب استقامته استقامة تامة كاملة رحمة الله ورضوانه عليه- أنه مر بامرأة تزور قبر حبيب لها وتقول:

مقيم إلى أن يبعث الله خلقه

لقاؤك لا يرجى وأنت قريب

تزيد بلى في كل يوم وليلة

وتُنْسَى كما تَبْلى وأنت حبيب

نعم يشتد حزن الأهل والأصحاب على الميت عندما يوسد التراب ويقل حزنهم كلما امتدت الأيام حتى يذهب الحزن كما أن البِلى يسري في بدن الميت على بطئ هكذا نسيان هذا الميت يكون على بطئ إخوتي الكرام: اغتنموا ما بقي من أيام شهر رمضان.

اللهم ارحمنا إذا فارقنا الأصحاب اللهم ارحمنا إذا نسينا الأحباب اللهم ارحمنا إذا افترشنا التراب اللهم اجعل قبورنا نورا اللهم املأ قلوبنا بهجة وسرورا اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا اللهم إنا نتوب إليك وهذه نواصينا بين يديك فإن قبلتنا فبفضل منك علينا وإن طردتنا فلا حول ولا قوة إلا بك اللهم إن أطعناك فبفضلك والمنة لك، وإن عصيناك فبعلمك وعدلك والحجة لك، اللهم إنا نسألك بحق قيام حجتك علينا وانقطاع حجتنا أن تغفر لنا يا أرحم الراحمين.

ص: 20

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، كثيراً اللهم لنا آباء وأمهات منهم الأحياء والأموات اللهم من كان حياً من آبائنا وأمهاتنا فألهمه رشده وسدده وتب عليه واختم له بخاتمة الخير يا رب العالمين، ومن كان ميتاً من آبائنا وأمهاتنا فنسألك أن ترحمه وأن تتجاوز عنه وأن تجعل قبره روضة من رياض الجنة يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين هذا شهر الجود والكرم، نتوسل بك إليك أن تغفر لآبائنا وأمهاتنا الحيين والميتين، وأن تجزيهم عنا خير الجزاء يا رب العالمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.

اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة وأوسطه لنا مغفرة وآخره عتقاً لنا من النار، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم تقبل منا الصلاة والصيام والقيام اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقاء شهر رمضان اللهم، أدخلنا الجنة من باب الريان بسلام بفضلك ورحمتك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم أدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوك، يا واسع الفضل والمغفرة، سبحانك سبحانك لا نحصي ثناءا عليك تتحبب إلينا بالنعم وأنت الغني عنا، ونتبغض إليك بالمعاصي ونحن الفقراء إليك، إلهي وعزتك وعظمتك وجلالك ما عصيناك استخفافا بحقك، إنما لضعفنا وغلبة نفوسنا علينا، فارحم ضعفنا، وتب علينا يا رب العالمين، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

ص: 21

اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء، نسألك في هذا الشهر الكريم أن تؤلف بين المؤمنين، وأن تنصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين، إلهي أمة نبيك عليه الصلاة والسلام لا يخفى حالها عليك، اللهم فرج عن أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

اللهم انصر أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (1)

والحمد لله رب العالمين..

(1) ((1 سورة القدر

ص: 22