الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أسباب سوء الخاتمة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
…
بسم الله الرحمن الرحيم
من أسباب سوء الخاتمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
أما بعد:
معشر الأخوة المؤمنين، من صفات المهتدين أنهم يخشون رب العالمين، وهم الذين يعمرون بيوت الله جل وعلا في هذه الحياة وقد نعتهم الله بأنهم رجال ووصفهم بأربع خصال:
- لا تلهيهم البيوع والتجارات.
- ويعظمون رب الأرض والسماوات.
- ويشفعون على المخلوقات.
- ويخافون الله ويستعدون للقائه في يومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار.
وصفة الخوف فيهم، كنا نتدارسها، وكنا نتدارس أسباب خوفهم من ربهم وقلت إن أسباب خوف المكلفين من رب العالمين كثيرة متعددة يمكن أن نجملها في ثلاثة أسباب:
أولها: إجلال الله وتعظيمه
ثانيها: الخشية من التفريط في حق الله جل وعلا، وقد مضى الكلام على هذين السببين وشرعنا في مدارسة السبب الثالث ألا وهو
ثالثها: خوف سوء الخاتمة، وقلت لسوء الخاتمة أسباب كثيرة أيضاً يمكن أن تجمل في أمرين اثنين.
أولهما: الأمن على الإيمان من الذهاب والفقدان، فمن أمن على إيمانه سلبه عند موته.
الأمر الثاني: الاغترار بالحالة الحاضرة، والعجب بما يصدر من المرء من طاعات ناقصة قاصرة، والغفلة عما في المكلف من آفات مهلكات وأبرز ذلك ثلاث بلايا مرويات.
أولها: النفاق.
وثانيها: البدعة.
وثالثها: الركون إلى الدنيا.
وقد مضى الكلام على السبب من أسباب سوء الخاتمة، كما مضى الكلام على البلية الأولى من السبب الثاني من أسباب سوء الخاتمة، ألا وهو النفاق في موعظتين ماضيتين وسنتدارس في هذه الموعظة البلية الثانية.
إخوتي الكرام: وسنتدارس هذه الرزية ضمن ثلاثة أمور.
أولها: تعريف البدعة.
وثانيها: التحذير منها والتنفير عنها.
وثالثها: أقسام البدعة.
ثم أبين بعد ذلك وجه كون البدعة سبباً لسوء الخاتمة، إما بأن يختم له على الكفر، نسأل الله تعالى العافية، وإما بأن يختم للإنسان إذا تلبس بالبدعة على الزيغ والضلال.
أما المبحث الأول: من هذه المباحث الثلاثة ألا وهو تعريف البدعة.
البدعة في اللغة = إخوتي الكرام، هي ما أحدث على غير مثال، شيءٌ جديد، شيءٌ حادث لا مثيل له في القديم، يقال له بدعة، هذا هو التعريف اللغوي للفظ البدعة، ما أحدث على غير مثال، أي على غير شيء يشبهه، إنما هذا مخترع جديد، سواء كان ذلك المحدث محموداً أو مذموماً يتعلق بأمر الدنيا أو بأمر الدين، فكل حادث لا مثيل له ولا شبيه، في الزمن القديم يقال له "بدعة" ولو جود هذا المعنى في لفظ البدعة، أعني الشيء الذي لا نظير له ولا مثيل، أطلق هذا اللفظ من مادة " بَدَعَ " أطلق هذا اللفظ على الله جل وعلا، وأنه يتسمى بذلك سبحانه وتعالى، فهو الذي لا نظير له ولا مثيل وهو الذي يبتدئ المخلوقات من غير مثال سبق على غير مثال سبق، ولذلك سمي نفسه بأنه {بديع السماوات والأرض} .
قال تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (1) .
ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبناتٍ بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولدٌ ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيءٍ وهو على بكل شيءٍ عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالقُ كل شيءٍ فاعبدوه وهو على كل شيءٍ وكيل} (2) .
(1) - البقرة (116 – 117) .
(2)
- الأنعام (100 – 102) .
{بديع السماوات والأرض} هو المنفرد في هذا الكون في سماواته وأرضه بأنه لا مثيل له ولا شبيه، {قل هو الله أحد * الله الصمد} {هل تعلم له سميَّا} (1) هو المنفرد الذي لا مثال له {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير} (2) وهو الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سبق، وعلى غير صورة تقدمت، فهو المنفرد في هذا الكون فلا نظير له، وهو الخالق لهذا الكون من غير مثال سبق، وهو الذي يخلق الشيء من غير مادة، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، إذاً فيه هذا المعنى، ألا وهو الشيء الذي لا مثيل له ولا نظير، فالله لا مثيل له لملاحظة هذا المعنى في لفظ البدعة استعملت مادة هذه الكلمة (بَدَعَ) في النبي عليه السلام قال تعالى {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ وما أنا إلا نذير مبين} (3) .
وقوله {قل ما كنت بدعاً من الرسل} يحتمل أمرين اثنين كل منهما مراد، قل ما كنت بدعاً بمعنى اسم المفعول: أي مُبتَدَعاً مخترعاً لا مثيل لي في هذه الحياة، فالله قد أرسل قبلي رسلاً كثيرين، وما أنا إلا حلقة في سلسلة طويلة عدد أفرادها مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، جمَّاً غفيراً كلهم أنبياء الله ورسله، ويدعونه إلى توحيده جل وعلا، فلست بشيءٍ مخترع، لست بشيءٍ حادث، لا مثيل لي، إنما أنا على شاكلة من سبقني، فنبينا صلى الله عليه وسلم ما هو بأول رسول إلى أهل الأرض، وقد أرسل الله قبله رسلاً كثيرين متعددين.
وقد اخبرنا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة في الحديث الثابت في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري، وراه والإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من رواية أبي بن كعب رضي الله عنهم عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال:
(1) - مريم (65) .
(2)
- الشورى (11)
(3)
- الأحقاف (9)
[مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجلٍ بنى داراً فأجملها وأحسنها إلا موضع لبنة في زاوية من زواياها فجعل الناس يدخلون الدار ويقولون ما أجملها وموضع وما أحسنها لولا موضع هذه اللبنة، قال نبينا عليه الصلاة والسلام فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين]{قل ما كنت بدعاً من الرسل} لست بشيءٍ مخترعٍ جديد لا مثيل لي ولا نظير، تقدمني رسل كثيرون يدعون إلى عبادة الحي القيوم.
والمعنى الثاني: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} بمعنى بصيغة اسم الفاعل،
قل ما كنت مُبتَدَعاً مخترعاً دعوة ما دعاها أنبياء الله ورسله قبلي، فما دعوتكم إلا لما دعا إليه أنبياء الله ورسله فالله أمرني وأمر من قبلي بتوحيده وعبادته وحده لا شريك له {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (1) .
ففي هذه الدعوة التي بلَّغتها، لست بمبتدع، ولست بمنشئ شيئاً جديداً، إنما أنا أقرر ما أتى به أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهذا المعنى أيضاً الذي يحتمله الآية أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [الأنبياء إخوة لعلَاّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد] : أي هم نحو تبليغ رسالاتهم التي أمروا بتبليغها كالأخوة لأب في انتسابهم، أبوهم واحد ونسبتهم واحدة، وهكذا أنبياء الله دينهم واحد نسبتهم واحدة {إن الدين عند الله الإسلام} (2) .
نعم تختلف بعد ذلك فروع هذه الرسالات كما يختلف الاخوة لأب في الأمهات، فالأمهات متعددة، وفروع أنبياء الله ورسله مختلفة، لكن أصل الدين واحد {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} (3) .
(1) - الأنبياء (25)
(2)
- آل عمران (19)
(3)
- الشورى (13)
{قل ما كنت بدعاً من الرسل،} ما كنت مُبتَدَعاً مخترعاً لا مثيل لي وما كنت مُبتَدَعاً دعوة ما بلَّغها من قبلي {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} وهكذا استعملت هذه المادة أيضاً فيما اخترعه بنو إسرائيل من عبادة لم يأذن بها ربنا الجليل، كما أشار إلى ذلك ربنا المجيد في سورة الحديد فقال جل وعلا:{ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون * ثم قفَّينا على آثارهم برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها * فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} (1) .
{ورهبانيةً ابتدعوها} نُصبَت بفعل محذوف يفسره المذكور، وليست معطوفة على محمول قوله {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً} : أي ما جعل الله هذا في قلوبهم ولا شرعه لهم ولا أمرهم به، إنما جعل في قلوبهم رأفةً ورحمةً، وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، أي اخترعوها وأنشأوها وما أمروا بها.
{ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم} لكن هم اخترعوا تلك الرَّهبانية {ابتدعوها ما كتبناها عليهم} لكن هم ابتدعوا ذلك واخترعوه تقرباً إلى الله جل وعلا على حسب زعمهم، {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} لكن {ابتدعوها ابتغاء رضوان الله} ، ثم ما وفوا بما ابتدعوه وبما اخترعوه وبما قصدوه، {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} .
وهذا أظهر القولين في تفسير هذه الآية، والآية تحتمل قولاً آخر وهو أن يعود {ابتغاء رضوان الله} ، وهذا الكتب كان بعد أن ألزموا أنفسهم بهذه العبادة، فشرعها الله لهم وأجاز لهم الترهب طلباً لرضوانه، ولكن هذا بعد أن شددوا فشدَّد عليهم.
(1) - الحديد (26 – 27)
روي في سنن أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والأثر في إسناده سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، وقد انفرد الإمام الترمذي بإخراج حديثه، وهو مقبول كما قال عنه الحافظ في التقريب مقبول، وقد وثقه ابن حبان، ولفظ الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[لا تشدِّدوا فيشدَّدَ عليكم، فإن من قبلكم شددوا فشدّد عليهم فانظروا على أنفسهم شُدِّد عليهم ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، بعد أن شَدَّدوا على أنفسهم عليهم وكتب ذلك عليهم] .
الشاهد في الآية الكريمة إخوتي الكرام {ورهبانية ابتدعوها} : أي اخترعوها هذا هو معنى البدعة في لغة العرب ما أحدث على غير مثال سبق، سواء كان محموداً أو مذموماً في أمر الدين وفي أمر الدنيا، وأما البدعة في الاصطلاح الشرعي وهي محل بحثنا، فهي:(ما أحد في دين رب العالمين، مما يدل عليه دليل مستقيم) عبارات أئمتنا الكرام المهتدين تدور حول هذا المعنى، أحدث في دين الله تعالى لأجل أن يتقرب به الناس إلى الله، ولا يوجد دليل يدل على هذا.
والإمام الغزالي رحمة الله عليه، في كتابه الإحياء عرف البدعة في عدة أماكن من كتابه بعدة تعريفات تعود إلى هذا، فقال:
البدعة: ما تضاد سنة ثابتة وتراغمها: أي تقابلها وتعارضها وترفعها وتزيلها، هذا هو حد البدعة وهذا هو رسمها، ويمكن أن يقال في تعريف البدعة أيضاً بتعريف جامع فنقول:
البدعة: هي الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، ولا يدل على ذلك دليل من أدلة الشرع الحسان، ويزعم الإنسان بذلك الحدث التقرب به إلى الرحمن.
وهذه البدعة المخترعة في الدين التي لا يشهد عليها دليل قويم، لا تكون إلا مذمومة باطلة ن والعامل بها مذموم ضالّ مبتدع، وعليها يتنزَّل ما في المسند والسنن الأربعة، إلا سنن النسائي، والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وسيأتينا الحديث بطوله عند التنفير من البدع والتحذير منها.
ومحل الشاهد في الحديث من رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة] والحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن ابن ماجة وسنن النسائي، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فيما كان يقوله نبينا صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة، وسيأتينا لفظ الحديث بطوله أيضاً، ولفظ الحديث كما قلت – من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[وكل محدث بدعة وكل بدعةٍ ضلالة] زاد الإمام النسائي في سننه بإسناد صحيح [وكل ضلالة في النار] .
فالمحدث في دين الله، ليتقرب به الإنسان إلى الله لا يكون إلا ضلالة بالتعريف المتقدم، ما أحدث في دين الله، فما لا يشهد له دليل، مما لا أصل له في الدين.
إخوتي الكرام: نحو تعريف البدعة ينبغي أن نقف وقفة مع فرقتين اثنتين حصل في الأمة منهما بلاء وشر مستطير، أما الفرقة الأولى: فقد وسعت مفهوم البدعة لتدخل فيها ما لا ينطبق عليها، وأما الفرقة الثانية فقد ضيقت مفهوم البدعة وقالت لا بدعة في الإسلام وكل ما يفعله الإنسان ويريد به وجه الرحمن فهو مشروع من الخيرات الحسان، أما الفرقة الأولى: فقد تشدَّدت وغلت وأفرطت، وأما الفرقة الثانية: فقد قصِّرت وأجحفت وفرطت، ودين الله بين الغالي والجافي، وإذا كان الأمر كذلك فلابد إخوتي الكرام من معالجة هذه القضية ومناقضة هاتين الفرقتين اللتين تفسدان في أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، فريق عن طريق الإفراط وفريق عن طريق التفريط.
أما الفرقة الأولى التي أفرطت وأدخلت في البدعة ما لا يدخل فيها ولا ينطبق التعريف عليها، فأفرطت من وجهين اثنين:
أولها: حكمت على أشياء بالبدعة وقد قام عليها الدليل وقال بها إمام جليل وما احتملته أدلته الشريعة المطهرة وقاله أئمتنا البررة لا يحكم عليه بالبدعية والتضليل إلا خبيث ضلّيل،
ثانيهما: (من الوجهين اللذين وسعا وأخطأ – كم قلت) الذي وسع هذا الفريق فيه مفهوم البدعة وأخطأ فيه، حكم على أمور بالبدعية، وقد قامت عليها نصوص صريحة شرعية.
1.
في الصورة الأولى أدلة شرعية احتملت هذا الفعل فخرج عن كونه بدعة، مع احتمال الدليل له قال به عدد من أئمتنا، لكن ما راعى احتمال الدليل له ولا اعتبر أقوال أئمتنا نحوه، وبدأ يصول ويجول على أمة نبينا عليه الصلاة والسلام ويبدع الكبير والصغير، ويرد على المتقدم والمتأخر.
2.
والحالة الثانية أفعال قامت الأدلة الشرعية على مشروعيتها، لكن ذلك الدليل ما قبله صاحب العقل الهزيل لما عمل حوله من قال وقيل، وقال هذا الفعل بدعة ولا بد إخوتي الكرام من التمثيل ليتضح الأمر.
أما الأمر الأول، ما احتمله الدليل الشرعي وقاله أئمتنا ونقل عن سلفنا لا يحكم عليه بالبدعة، من حكم عليه بالبدعة فهو المبتدع الضال المضل، هذا إخوتي الكرام لابد عليه من تمثيل، وليوضح الأمر سأذكر صورتين اثنتين:
صورة وقعت في سلفنا واحتلها الدليل الشرعي واختلفت الصحابة الكرام نحوها، لكن لما احتمل الدليل فهم كل منهم أقر كل واحد منهم صاحبه على فهمه، وقالوا نحن نريد بما نفعل وجه ربنا جل وعلا، فلا داعي أن يرد بعضنا على بعض ولا أن يضلل بعضنا على بعض.
والصورة الثانية وقعت في هذه الحياة في هذه العصور المظلمة، وهي دون تلك بكثير وبدأ بعضنا ينبذ بعضاً بالبدع والضلال من أجلها، فاستمعوا إخوتي الكرام.
الصورة الأولى: ثبتت في صحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة] بعد أن انتهت موقعة الأحزاب، وكفى الله المؤمنين القتال وأرسل على المشركين ريحاً وجنوداً لم تروها، وعاد المشركون من قريش إلى مكة المكرمة وبنو قريظة من اليهود في المدينة المنورة قد نكثوا العهد وغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصحبه الكرام، واتفقوا مع المشركين على الانقضاض على الدولة الإسلامية من داخلها ومن خارجها فبعد أن انتهت المعركة وذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته أتاه جبريل عليه السلام قال [وضعتم أسلحتكم؟ قال نعم، قال لكنا نحن في السماء لم نضع أسلحتنا، إن الله يأمرك أن تتوجه إلى بني قريظة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلَّينَّ العصر إلا في بني قريظة] والحديث في الصحيحين فأسرع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، إلى اليهود الملعونين ليصفوا الحساب معهم، وهم في الطريق أدركتهم صلاة العصر، فانقسمت الصحابة إلى قسمين: قسم قالوا لم يُرَدْ منا ذلك، لم يرد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: لايصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة لم يُرَدْ منا التأخير، (لم يُرَدْ) ، (لم يُرِدْ) ضبط بصيغة المبني للمجهول والمعلوم وكل منهما صحيح، لم يُرِد’ منا النبي عليه الصلاة والسلام تأخير الصلاة بقوله، إنما أراد منا الإسراع، رد لم يُرَد من ذلك، لم يُرِد منا ذلك] وعليه ينبغي أن نصيلي العصر في الطريق، ثم نواصل سيرنا إلى بني قريظة، وقال الفريق الآخر النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة] فلا يضليها إلا في هناك، ولو صلينا بعد المغرب أو بعد العشاء هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فصلَّى فريق منهم في الطريق، وصلَّى فريق منهم بعد غروب الشمس، عندما وصلوا بني
قريظة، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة السلام فلم يعنِّف واحداً منهم، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند صحيح من رواية كعب بن مالك رضي الله عنه، وفيه أن الصحابة اقتسموا في الطريق، فقال فريق لم يُرد منا ذلك، إنما أريد منا الإسراع، وقال فريق آخر عزمة النبي صلى الله علية وسلم علينا، أى غرم علينا أن لانصلي إلا في بني قريظة فنحن في عزيمته، يقول كعب بن مالك: فصلى فريق منهم في الطريق، وصلى فريق منهم في بني قريظة، بعد غروب الشمس، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فلم يعنف واحدًا منهم.
إن هذه الصورة لو وقعت في زماننا لأراق بعضنا دماء بعض من أجلها ونحن نزعم أننا نعبد ربنا، تأخير الصلاة عن وقتها من غير سبب من الكبائر، ولا سيما صلاة العصر التي إذا فاتت الإنسان فكأوتر أهله وماله وقد حبط عمله،
ومع ذلك تؤخّر العصر وقوفا عند كلام نبينا عليه الصلاة والسلام [لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة] ، وأولئك يصلونها في الطريق تأويلاً لكلام النبي عليه الصلاة والسلام وفهما للمقصود من كلامه ألا وهو الإسراع، وقدا احتمل الدليل الفعلين فكل من الفعلين هدًى ولا يوصف واحد منهما بروًي.
وأنت وأهل الأرض إذا أعملوا عقولهم لا يستطيع أحد أن يقف على الراجح والمرجوح من هذا الفعلين، وفي مناظرة ومدارسة جرت لي مع بعض إخواننا، فذكرت هذا الحديث، وقلت هذا مما يدلّ على أن الحق يتعدّد على حسب مراد فاعله والله رحمته واسعة، فهنا الآن اختلفوا وكل منهم أقره النبي عليه الصلاة والسلام وما أنكر عليه، فأنت في رأيك أي الفرقتين مصيبة؛ قال: من
…
(حقيقة غاب عنى قوله لغرابته) من أخر العصر وصلاها في بني قريظة أو لعله قال القول الذي يقابله أي من صلى العصر في الطريق، قلت له يا عبد الله؛ هبط عليك جبريل؟ وأخبرك بذلك أن هذا القول راجح وذاك مرجوح، نزل عليك جبريل؟ قال لا، قلت من أين تتكلم؟ أما تتقي الله في كلامك؟ يعنى
…
(غير واضح) أننا نحن بدأنا نحكم على أنفسنا ثم على صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، من أين علمت أن من صلى في الطريق أو في بني قريظة هو المصيب وذاك مخطئ، والله يغفر له خطأه ويثيب على اجتهاده، من أين علمت ونبينا صلى الله عليه وسلم عند ما عرض عليه الأمر أقر الفريقين ولم يعنف واحدا منهم.
نعم أخواتي الكرام: ماذا أراد من صلى في الطريق، وماذا أراد من أخر العصر؟
في رواية كعب بن مالك يقول: (فصلى فريق في الطريق إيمانا واحتسابا وأخر فريق صلاة العصر فصلوها بعد غروب الشمس إيمانا واحتسابا) أي هم يؤمنون بالله، وبأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينطق عن الهوى، وقد بذلوا ما في وسعهم لفهم مراد النبي عليه الصلاة والسلام، وأرادوا بعملهم وجه الله، فمن صلى في الطريق فهو مؤمن محتسب، ومن أخر العصر وصلاها في بني قريظة فهو مؤمن محتسب، {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} (1) وهى النبات الخالصة صلى لأنه فهم هذا وأراد به وجه الله، وأخر الصلاة فهم هذا وأراد به وجه الله، فعلام يضلّل بعضنا بعضًا وعلام يكفر بعضنا بعضا، والأمر احتمله الدليل وإذا كنا نريد بفعلنا وجه الله الجليل فعلام الاختلاف وعلام القيل والقال؟
أخوتي الكرام: ذكر الله لنا جل وعلا في كتابه خصومة وقعت وعرضت على نبيين كريمين على نبي الله داود وعلى نبي الله سليمان على نبينا وعليهما الصلاة والسلام وقد حكم النبيان في هذه القضية، فأثنى الله عليهما، ثم أشار إلى فرية الابن على الأب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن لا يعنف ذاك، بل أثنى عليه ومدح وأثيب، يقول الله جل وعلا:{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمنها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً} (2) .
(1) - الحج (37)
(2)
- الأنبياء (78)
والقصة مؤجزة مختصرة، رعت ماشية في حرث إنسان، قيل كان حبة، وقيل عنبا تدلّت عناقيده، رعته ونفشت فيه وأهلكته ليلا، ولم تبق منه شيئا، فرفعت القضية إلى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام فقال لصاحب البستان: خذ الغنم مقابل ما أتلفته الغنم من زرعك، خذ الغنم، فعرضت القضية على نبي الله سليمان، فقال: لو كان القضاء لي لقضيت بخلاف هذا، فقال والده بأي شيءٍ تقضي يا بني؟ قال: كنت أعطي البستان لصاحب الغنم ليصلحه إلى السنة الآتية حتى إذا صار فيه الحب أو العنب أعاده صاحب الغنم لصاحب البستان وأخذ غنمه، وأعطى الغنم لصاحب البستان لينتفع بدرها وصوفها ونسلها ولبنها، فبعد ذلك إذا عاد بستانه كما كان أعاد الغنم لصاحب الغنم، فهذا ينتفع بنتاج الغنم مقابل ما فاته من نتاج وثمر بستانه، ذاك لا نضيع الغنم، فقضى داود بهذا بعد ذلك، والله أثنى على عبده سليمان، وعلى نبيه داود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.
{ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكما وعلما} ثبت في صحيح البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن الحسن البصري والأثر وصله الإمام ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله) والإمام أبو نعيم في حلية الأولياء عن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه قال: (لولا هذه الآية لظننت أن القضاة هلكوا) فقد أثنى الله على سليمان بإصابته وعذر داود باجتهاده.
هذه الصورة الأولى: وقعت في السلف الأول في زمن الصحابة الكرام، لكن القلوب منورة والصدور منشرحة، والعقول زكية ذكية، فما حصل من جرَّاء هذا الخلاف أي مشكلة ردية، استمع بعد ذلك لمشاكلنا التي لا نهاية لها في عصرنا، وسأعرض نموذجاً صغيراً نحو هذه القضية، ليس فيه تأخير صلاة، إنما فيه هيئة من هيئات الصلاة المستجبات التي هي.. بإجماع.. إن تركتها عمداً لا يضرَّك وإن فعلتها فلا يضرك أيضاً فعلها على جميع الأقوال، سواء قلنا مشروعة أولاً، إن فعلتها لا تبطل صلاتك ولو لم تكن مشروعة عند من لا يقول بمشروعيتها، وإذا تركتها لا تبطل صلاتك ولا إثم عليك عند من يقول بمشروعيتها، ومع ذلك نختلف فيها ويضلل بعضنا بعضا، ونشتد في الكلام على سلفنا الكرام.
هذه القضية إخوتي الكرام قضية العقد، وضع اليمين على الشمال بعد الرفع عنا لركوع، إذا رفع الإنسان من الركوع وقال:(سمع الله لمن حمده) فما الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها البدان، هل يرسلهما ويسبل يديه؟ كما هو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمة الله عليهم، أو يعقدهما، كما كان يعقدهما قبل الركوع؟ فيضع اليمين على الشمال ويقبض على الشمال باليمين؟ كما كان قبل الركوع كما هو قول الإمام أحمد رحمة الله عليه، والإمام احمد خير المصلي وقال:(إن شاء عقد ووضع اليمين على الشمال، وإن شاء أرسل وأسبل يديه) لكن الحنابلة قالوا: العقد أفضل بعد الرفع من الركوع، يعني هذا قيام فيه ذكر مسنون، فيشرع فيه القبض، كما كان قبل الركوع، ولأن هذا آكد لخشوع الإنسان، والقلب هو محل الخشوع، والإنسان إذا أراد أن يحافظ على شيءٍ وضع عليه يديه، وقلبك إذا قمت ينبغي أن تضع يديك على قلبك من أجل المحافظة على خشوعك لئلا يكون في هذا القلب شيء من التسرب والوسوسة وحديث النفس، هذا مشروع وهذا مشروع، والكيفية التي ذكرها الإمام أحمد وقررها الحنابلة الكرام.
ورد الحديث محتملاً لها، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه يعني من الركوع وقال سمع الله لمن حمده ينتصب قائماً حتى يعود كل فقار إلى موضعه، كل عظم يعود إلى موضعه، قوله (إلى موضعه) هذا ينبغي أن ترسل اليدين.
1.
إلى موضعه الطبيعي وعليه ينبغي أن ترسل اليدين.
2.
إلى موضعه الذي كان عليه قبل الركوع فينبغي أن تعقد وأن تضع اليمين على الشمال وأن تقبض الشمال باليمين.
يحتمل هذا، ويحتمل هذا، ولذلك قال الإمام أحمد عليه رحمة الله ورضوان: المصلى مخير إن شاء عقد، وإن شاء أرسل.
وثبت في سنن النسائي بسند صحيح كالشمس من رواية وائل بن حجر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يصلي وهو قائم بقبض شماله بيمينه، إذا كان يضع يمينه على الشمال ويقبض باليمين على الشمال إذا كان قائماً، وهذا القيام عام، ما خصصه بالقيام الذي فيه قراءة وهو قبل الركوع، وعليه.. عموم هذا اللفظ وإطلاقه يشمل القيام الذي بعد الركوع وقبل الركوع والكيفية احتملها دليل شرعي وقال به إمام من أئمتنا، احتملها دليل وقال به إمام جليل. وهي هيئة من هيئات الصلاة مستحبة عند من قال بها، لو تركتها عند الحنابلة لا يضرك، وعند الجمهور لو فعلتها لا يضرك ولا حرج على صلاتك.. طيب.. إذا كانت المسألة في هذه السهولة علام نضخمها في هذا الوقت، وينبذ بعضنا بعضا بالبدعة والضلال، ونفرق بين أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟
أريد أن أقول لماذا يقال في هذه الأيام في التعبير عن هذه القضية فيقول: (وأما من قال، إن حديث أبي حميد رضي الله عنه يحتمل العقد والقبض بعد الركوع، فهذا قول باطل، من قال هذا هو قول باطل) ثم يقول: ولست أشك في أن هذه الكيفية أي وضع اليمين على الشمال بعد الرفع من الركوع لست أشك في أنها بدعة ضلالة، وإن قال بها الإمام أحمد، وقول الإمام أحمد بها لا يخرجها عن بدعيتها) .
علام يا عبد الله؟ علام رمي كلام أئمتنا بالتبدع والتضليل وقد احتمله الدليل.. قال به إمام جليل، الأمة من أولها إلى آخرها ستحتكم إلى فهمك، ألا تتقي ربك فيما تقول: لا تشك في أنها بدعة ضلالة لو قلت: إن هذه الكيفية فيما يظهر لي أنها مرجوحة، لقلنا جزاك الله خيراً، هذا ما ظهر لك، ومع ذلك نقول: تأدب مع الأئمة وقل هذا وهذا مقرّر عند أئمتنا ولا حرج على الفاعل بكل منهما، لكن (لا تشك) هي قضية قطعية؟ كأنها لا إله إلا الله محمد رسول الله، ليس هناك شك في المسألة، لا تشك يا عبد الله هذه كلها بنيت على أدلة أستنبط منها هذا الأمر، هي ظنية في القولين.
ثم أقول لهذا القائل، ما الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل يديه بعد الرفع من الركوع، لا دليل على ذلك، إذاً بقي هذا فهم من حديث، وذالك فهم من حديث، فعلام يقدَّم أحدُ الفهمين ويحكم له بالسنة والسلفية ويرد الفهم الثاني ويحكم عليه بالخطأ والبدعية، علام، هذه مسألة.. هيئة من هيئات الصلاة نختلف فيها – وكما قلت – لو أن المسألة الأولى وقعت فينا لضرب بعضنا رقاب بعض، تؤخر الصلاة عن وقتها، ولأراق دمك، بسم الله عز وجل، ولا يريق دمك إلا باسم الشيطان، سبحان ربي العظيم: هيئة من هيئات الصلاة على القول بمشروعيتها مستحبة، من أجل تتنابد الأمة بالبدعة والضلال؟ إن هذا والله حقاً من العار وهذا هو الانحطاط الذي تعيشه الأمة في هذه الأوقات.
إخوتي الكرام: لابد أن ننتبه لقضية قررها علماء الإسلام، وهذه القضية يذكرها الإمام أبن قدامة في كتابه المغني في المقدمة، وينقلها شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً في مجموع فتاويه 30/80 وهي (إن اتفاق أئمتنا وإجماعهم حجة قاطعة وأما اختلاف أئمة الإسلام رحمة واسعة) .
قال الإمام ابن قدامة في مقدمة المغني: (تحيا القلوب بذكرهم، وتحصل الخيرات والبركات باقتفاء آثارهم) .
إجماع أئمتنا حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، قلوبنا تحيا عندما نذكرهم ونترحم عليهم، يحصل لنا السعادات والخيرات والبركات عندما نقتفي آثارهم فالإجماع حجة والأختلاف بين أئمتنا رحمة واسعة تتسع له صدورنا ونقول كل يريد وجه ربنا، وعليه إذا قبضت أو أرسلت فأنت على هدى، كما قرر أئمة الإسلام.
وهذا القول أعني أئمتنا حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة هذا القول تتابع عليه أئمة الإسلام، ولا يُنكره إلا أهل البدع والضلال والهذيان، وقد قرر هذا الأمر شيخ الإسلام الإمام الخطابي (388هـ) في كتابه (أعلام الحديث) 1/220.
فبعد أن نقل هذه المقولة إجماع العلماء حجة واختلافهم رحمة، قال: وهذا القول لم يطعن فيه غير رجلين، رجل مغموص عليه في دينه، ورجل معروف بالسخف والخلاعة في مذهبه.
أما المغموص عليه في دينه فهو الجاحظ عمرو بن بحر والذي هلك سنة 250هـ أو 225هـ هذا الجاحظ الذي قال عنه أئمتنا كما في لسان الميزان لأبن حجر وسير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، يقول: (
…
ما جن في دينه مبتدع) قال ثعلب: (كان يكذب على الله وعلى رسوله وعلى عباده، وهو الجاحظ، يكذب على الله وعلى رسوله وعلى عباده، وختم الإمام الذهبي ترجمته بقوله: فسبحان من أضله الله على علم) .
هذا المخذول يطعن في هذه المقولة ن ويقول: إن اختلاف العلماء ليس برحمة، إنما هذا بدعة، وعند الاختلاف ينبغي أن نأخذ بقولٍ ونردَّ ما عداه وأن نبدَّع المخالف.
والثاني هو إسحاق بن إبراهيم الموصلي.. صاحب كتاب الأغاني والذي هلك سنة 235هـ ولم يكتف أن أورد في كتابه الأغاني ما أورد، بل صدَّر كتابه بذم أهل الحديث، وعدم وجود العقل عندهم، عندما يروون الحديث، وهذا هو المعروف – كما قلت – بالسخف والخلاعة في مذهبه، هذان الرجلان طعنا في هذه الجملة، وجاء بعدهما صاحب الشذوذ (ابن حزم) وقال: هذه مقولة باطلة، ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاجتماع عذاباً وهذا هو عين ما قاله الجاحظ وعين ما قاله إسحاق بن إبراهيم الموصلي وهذا كلام باطل، وقد فنده الإمام الخطابي في كتابه أعلام الحديث، فقال: إن الشيء وضده قد يجتمعان في الحكمة ويتفقان في المصلحة ن فإذا كان النهار صلاحاً ومعاشاً لا يلزم أن يكون الليل فساداً وضلالاً، وإذا كانت الحياة سبباً والنعمة لا يلزم أن يكون الموت سبباً للشفاء والنقمة، إنما الموت له حكمة، والحياة لها حكمة، والنهار له حكمة، والليل له حكمة، وإذا كان النهار مصلحة لا يلزم أن يكون الليل مفسدة، فكم لظلام الليل عندي من يد تخبّر أن المانويَّة تكذب.
فالاجتماع رحمة، واختلاف الأئمة فيما يشهد له الدليل رحمة، وما أحد قال إن الاجتماع نقمة، ونحن قلنا في أول المقولة، كما قال أئمتنا:(إجماعهم جحة قاطعة – ومخالف الإجماع ضالّ- واختلافهم رحمة واسعة) .
إخوتي الكرام: هذا الأمر ينبغي أن نعيه في هذه الأيام على وجه التمام، لأن الأمة بدأت تتنابز بالضلال والفسق والبدعة دون بصيرة ولا بينة، والشيطان استحوذ على قلوب الناس إلا ما رحم ربك، وأفعال نقلت عن أئمتنا واحتملها الدليل الشرعي وقررها أئمتنا، في هذا العصر تنبذ بالبدعة ويقال: لا شك في أنها بدعة ضلالة.
ولا شك في أن هذا الكلام بدعة وضلالة، قائله ينبغي أن يتقي الله وأن يسكت، وإذا لم يسكت فينبغي أن يحجر عليه وأن يسكِّت، ولا يجوز أن يقال فيما احتمله الدليل وقال به إمام جليل بأنه بدعة ضلالة، هذا النموذج الأول شيء احتمله الدليل انظر لموقف سلفنا نحوه وانظر لموقفنا.
أما الموقف الثاني: شيءٌ شهد له الدليل وقام عليه ثم كثر بعد ذلك حوله القال والقيل، بسبب وجود رأي هزيل، فاستمعوا لهذا إخوتي الكرام.
صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك هي قيام لليل، ولم يكن الاجتماع عليها في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام ولا في زمن أبي بكر ولا في صدر خلافة عمر، ونبينا عليه الصلاة والسلام صلَاّها وشرعها وصلَاّها بأصحابه ثلاث ليال، ثم ترك بعد ذلك خشية أن تفرض على الأمة، والأمر كما في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن أبي داود من رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته، يدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن تعمله الأمة ثم يفرض بعد ذلك هذا العمل على أمته، فلما كان الناس في عهد عمر رضي الله عنه في النصف الثاني من خلافته يصلون التراويح قيام الليل في المسجد مختلفين متفرقين ويشوش بعضهم على بعض، قال عمر رضي الله عنه: أرى لو جمعناهم، ثم جمع الرجال على أبي بن كعب، كما ثبت هذا في صحيح البخاري ومصنف عبد الرزاق وشرح السنة للإمام البغوي وموطأ الإمام مالك وجمع النساء على تميم الداري رضي الله عنه كما في سعيد بن منصور، وعلى سليمان بن أبي خيثمة كما في كتاب قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي، والتوفيق بين جمع النساء على تميم وعلى سليمان، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: لعل ذلك في وقتين، يعنى أحياناً كان يصلي تميم في بعض السنوات وأحياناً سليمان بن أبي خيثمة، تميم صحابي، وأما سليمان بن أبي خيثمة فقد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن سعيد في الطبقات (له رؤية لنبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز أسماء الصحابة في الفصل الثاني من حرف السين ليشير إلى أنه ولد في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هناك خلاف حول صحبته، وعل كل حال هو من الصالحين الأبرار، وكان عمر رضي الله عنه يعهد إليه في خلافته بأن يتفقد أحوال السوق، سليمان بن أبي خيثمة يؤم النساء هو وتميم، وأبي بن كعب يؤم الرجال وقد
كانت الصلاة في ذلك الوقت عشرين ركعة، ويوترون بثلاث، هذا في فعل الخليفة الراشد الهادي المهدي عمر بن الخطاب، ورد هذا في موطأ الإمام مالك عن يزيد بن رومان قال: كانت الصلاة يعني صلاة القيام في رمضان ثلاثاً وعشرين ركعة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثلاثاً وعشرين، عشرون منها التراويح، ويوترون بثلاث.
وهذا الأثر وإن كان منقطعاً فيزيد بن رومان لم يدرك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وهو من التابعين الكرام (130هـ) وحديثه في الكتب الستة، إمام ثقة عدل فاضل رضي الله عنه، لكن ورد الأثر متصلاً صحيحاً ثابتاً بسندٍ كالشمس وضوحاً، وكالقمر سطوعاً، والأثر في سنن البيهقي من رواية السائب ابن يزيد وهو من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، قال: كنا ننصرف من القيام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد قارب بزوغ الفجر، وكانت الصلاة ثلاثاً وعشرين ركعة، يصلون عشرين ويوترون بثلاث، وهذا الأثر صححه الإمام النووي وصححه الإمام ابن العراقي في كتابه طرح التثريب في شرح التقريب 3/79، وصححه السيوطي وصححه جمٌ غفير من أئمتنا، يصلون التراويح عشرين ويوترون بثلاث، هذا الذي فُعل في عهد عمر رضي الله عنه، وهذا الذي عليه الجمهور، أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين أن السنة في صلاة التراويح عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات.
والإمام مالك أدرك العمل في عهده على خلاف ذلك، فقال بموجبه، فكان أهل المدينة في زمن الإمام مالك يصلون التراويح ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بخمس، فمجموع صلاتهم إحدى وأربعون ركعة، وإنما كان يفعل أهل المدينة هذا بعد عمر اجتهاداً منهم، لأن أهل مكة كانوا يطوفون بعد كل ركعتين سبعة أشواط، فأراد أهل المدينة أن يحصلوا ما يقارب أهل مكة في الفضل، فكانوا بدل الطواف – فليس عندهم كعبة يطوفون حولها بالمدينة المنورة، فكانوا يضاعفون الصلاة، فبدل الطواف يصلون ركعتين، فالعشرون صارت كما قلت إلى واحدة وأربعين، وأولئك يصلون عشرين، هذا كله مقرر في كتبنا عند أئمتنا، ولا قائل بغير ذلك، وعليه صلاة التراويح عند الأئمة الأربعة الكرام البررة عشرون ويوتر بثلاث، وإما ست وثلاثون ويوتر بخمس.
قال الإمام ابن العراقي، ولي الدين، في كتاب طرح التثريب في المكان المشار إليه: ولما صار والدي يعني شيخ الإسلام الحافظ الإمام عبد الرحيم ابن الحسين الأثري العراقي، شيخ الإمام ابن حجر، يقول لما صار والدي إماماً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كان في القرن الثامن للهجرة – أحيا السنة القديمة مع المحافظة على فعل أهل المدينة، فكان في أول الليل يصلي عشرين ويوتر بثلاث ويقرأ جزءاً فيختم مرتين في رمضان، فبعد منتصف الليل يصلي ست عشرة ركعة أيضاً وخمس ركعات بعدها لأجل أن يكون مجموع الصلاتين كما كان يفعله أهل المدينة في عهد الإمام مالك رضي الله عنه وكما كان في عهد عمر رضي الله عنه، وفي أول الليل يجعل الصلاة على الكيفية التي كانت في عهد عمر عشرين ويوتر بثلاث، ثم يضم في آخر الليل بما يلتحق به ما قرره الإمام مالك محافظة على المقرر في المذاهب الأربعة، وأن لا تجزم به على نفسك، يقول عنه الإمام ابن قدامة في المغني (وهذا كالإجماع) .
ويقول عنه ولي الدين العراقي في طرح التثريب: (وهذا كالإجماع) ولإمام الترمذي في سننه (وقد توفي 275هـ أو 279هـ) يقول: (أكثر أهل العلم أن عدد صلاة التراويح.. القيام.. في شهر رمضان ما نقل عن عمر وعلي أنها عشرون ركعة ويوترون بثلاث) ، هذا أكثر أهل العلم، وأي أهل العلم؟ يعني في القرن الأول والثاني من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا موجود في دواوين السنة، أكثر أهل العلم أن صلاة التراويح عشرون ركعة ويوترون بثلاث، كما نقل عن عمر وعلي رضي الله عنهما.
هذا الفعل المقرر الذي هو سنة ينبغي أن نأخذ بها، يأتيك ضالون في هذا الوقت فيقولون: صلاة التراويح السنة فيها ثمان ركعات ويوتر بثلاث، ومن زاد على ذلك فهو مبتدع، أي بدعة أيها المبتدع فيما يفعله المذاهب الأربعة؟ فعل فعله أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وبعده علي والصحابة الكرام، وهذا الذي استمر في بلاد الإسلام إلى هذا الزمان وهو المقرر عند أئمتنا الكرام، يقال عنه في هذه الأيام هذا بدعة.
ولما جرى لفظ في بعض البلاد حول صلاة التراويح، وألزموا من الجهة المسؤولة بالعشرين والإيثار بثلاث بدأ كثير من طلبة العلم يتأففون ويلعنون ويقولون أمرنا بالبدعة، العشرون بدعة ضلالة لا ينبغي نصليها في المساجد، سبحان ربي العظيم، وصلنا إلى عصر يلعن فيه الآخر الأول، والتأخر المتقدم، هذا فعل منقول عن عمر، أو ليس فعل عمر سنة؟ بلى وربي إنه سنة ثابتة.
ثبت في المسند وسنن الترمذي وابن ماجة، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك ورواه أبو نعيم في الحلية والحميدي في مسنده وهو في كتاب السنة لأبن أبي عاصم، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ورواه البيهقي في السنن الكبرى، والطحاوي في مشكل الأثار والدارقطني في سننه بسندٍ صحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر] ، والحديث ثبت من رواية ابن عمر ومن رواية عبد الله ابن مسعود ومن رواية أنس رضي الله عنهم أجمعين.
وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاويه في عدة أماكن من هذا الكتاب 2/272 و 23/112 و120، يقرر أن الثابت في عهد عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يصلون عشرين ركعة ويوترون بثلاث.
وترى كتباً في هذه الأيام تتطاير هنا وهناك، جائزة 500 ليرة سورية لمن يثبت أن صلاة التراويح عشرون ركعة.
أما ترجع عن سفاهتك وغيَّك أيها الضال المبتدع وأي إثبات تريد بعد أن فعلها هذا الخليفة الراشد، وحكى الإمام الترمذي في سنن هذا القول عن أكثر أهل العلم، وهو الذي قال به الأئمة الثلاثة، والإمام مالك يقول ست وثلاثون ويوترون بخمس، أي دليل تريد أكثر من هذا؟ أي دليل تريد؟ تريد أن يخرج النبي عليه الصلاة والسلام من قبره ليقول لنا التزموا بما فعل عمر رضي الله عنه، صلاة التراويح عشرون ركعة، تريد هذا؟ وأنت تعلم أن هذا غير ممكن – ولذلك تجادل بالباطل وتنشر رسائل هنا وهناك جائزة كذا، وصارت القضايا العلمية في هذا الهزال؟ وكأنها في سوق حراج، القضايا العلمية تبحث، من الكتب الشرعية في دواوين السنة وكتب أئمتنا الفقهاء ومن يقول: إن صلاة التراويح عشرون ركعة، من يقول عنها إنها بدعة فهو المبتدع الضال المخرف، الذي يبدّع ما كان عليه سلفنا، فانتبهوا لهذه القضية.
إخوتي الكرام: صلاة التراويح صلَاّها عمر رضي الله عنه بهذه الشاكلة وتناقلها عنه أئمتنا وقال عدد من أئمتنا هي كالإجماع، أي هذه المسألة كأنها مُجمَع عليها، ولا خلاف فيها أنها عشرون ركعة ويوترون بثلاث.
وحقيقة ينبغي على مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بلا استثناء أن تتقيد بهذه الكيفية التي فعلها هذا الخليفة الراشد، وتضييع هذا من علامات ضياع الأمة.
نعم لا يلزم أحداً بصلاة عشرين، فمن شاء أن يصلي عشرين أو أربعين أو مائة أو مائتين أو ركعتين أو أن يصلي صلاة القيام فأمره إلى الله، لكن الكيفية المعلنة ينبغي أن تكون على حسب ما هو مقرر في كتب أئمتنا، لا على حسب تخريص المخرصين في هذا الحين ولا في غيره. فلنلتزم بهذه الكيفية في المساجد الشرعية، ثم بعد ذلك أراد الناس أن يصلوا ثماني ركعات أو أربع ركعات أو ركعتين، فهم وما يطيقون، وأما أن يكون هذا شعاراً لبلاد المسلمين أنهم يصلون ثمان ركعات ويوترون بثلاث وكأنما قرره أئمتنا ليس بصحيح ولا ثابت.
إخوتي الكرام: لابد من ضبط هذا الأمر وأن صلاة التراويح عشرون ركعة ونوتر بثلاث، وهذا هو الذي عليه الجمهور كما قلت، والقول الثاني ست وثلاثون ونوتر بخمس كما هو قول الإمام مالك وفعل أهل المدينة هذا بعد عمر رضي الله عنه لعلة ذكرتها، فكونوا على علم بها، لكن أصل الثبوت عشرون وثلاث ركعات وتراً، كيفية شرعية واردة عمن أمرنا خير البرية صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به وهو عمر رضي الله عنه والأمة كأنها مجمعة على ذلك، يتنابزون الضلال فيما بينهم في هذه الأيام،
يا عبد الله، إن صليت ثماني ركعات فمن يمنعك؟ لكن لم ستلزم الأمة برأيك؟ وهل تقدم رأيك على رأي أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد؟ أو لست أنت تدعو وغيرك إلى احترام السلف؟ أي احترام لهم إذا نبذنا أقوالهم وراء ظهورنا وقلنا إن العشرين تعتبر بدعة؟ أي احترام منا لأئمتنا ولسلفنا؟ إذا كنا ننبذ أقوالهم بأنها بدعة وضلال وتخريف؟
هذا مثال، قام الدليل على اعتباره وهو فعل الخليفة الراشد يحكم عليه في هذه الأيام بأنها بدعة ضلالة.
وانظروا لفقه أئمتنا ولاجتهادهم فيه، في أمور ديننا، روى الإمام البيهقي في السنن الكبرى والأثر انظروا في الجزء 5/212 أن الإمام الشافعي عندما حج وجلس في فناء زمزم وقال سلوني، لا تسألوني عن شيءٍ إلا أجبتكم عنه من كتاب الله تعالى، فقيل له: ما تقول يا أبا عبد الله في المحرم يقتل الزنبور؟ وهل عليه فدية؟ وهل يباح له أن يقتل الزنبور؟ وهي الحشرة التي تكبر النحلة وتلسع لسعاً قريباً من لسع العقرب، هل عليه حرج بقتل الزنبور؟ وهل هناك دليل على قتل الزنبور؟ هات آية من القرآن على ذلك؟ ما تقول في المحرم يقتل الزنبور هات آية؟ وأنت تقول سلوني لا تسألوني عن شيءٍ إلا أجبتكم عنه من كتاب الله تعالى، فانظر لفقه الشافعي، وانظر لسفاهة المعاصرة في هذا الحين، فقال أبو عبد الله الشافعي رحمه الله تعالى قال تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام [اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر] وقد قضى عمر بأن المحرم يقتل الزنبور ولا حرج عليه، إذاً قضاء عمر كأنها آية في كتاب الله، لأن الله أمرنا بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، ورسولنا أمرنا باتباع عمر، فما قضى به عمر دل عليه كلام الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال هذه آية من القرآن بأن الزنبور لا حرج على المحرم في قتله، والله أمرنا بطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، في القرآن ونبينا عليه الصلاة والسلام أمرنا بطاعة هذا الخليفة الراشد رحمة الله ورضوانه عليه، وعليه عندما نطيعه فقد حققنا مدلول القرآن {وما آتاكم الرسول فخذوه} .
أنظر لهذا الفقه، وانظر للسفاهة والفسق في زمننا، يرفع صوته بلا حياء، لا من الله ولا من عباد الله، بأن هذه الكيفية عشرون ركعة بدعة ضلالة، ثم بعد ذلك يشيع في الأمة بأن الأمة بدأت تصحو وتستيقظ من سباتها وبدأ المسلمون يصلون في مساجدهم ثمان ركعات ويوترون بثلاث.
والله لو كان عندنا قلوب تخشى علام الغيوب لتفطرت عندما نرى هذه المساجد بيوت ربنا في هذه الحالة، ويكفينا سفاهة وضلالة أنا خرجنا عن هدي أئمتنا، ولم نتبعهم فيما قرروه من أمور ديننا، وجاء بعد ذلك المتأخرون المتطفلون ينبذ هذه الكيفية بأنها ضلال، وأن السنة الثابتة هي كذا، وكأن الأمة الإسلامية منذ عهد عمر إلى من بعده لا تعي السنة ولا تعرفها.
إخوتي الكرام: لابد من وعي هذه القضية.
المثال الثاني: الذي أردت أن أذكره طويل أرجئه – إن شاء الله – أيضاً إلى أول الموعظة الثانية لأذكر هـ ولأذكر أيضاً إن شاء الله الفريق الثاني الذي هوَّن من شأن البدعة وقال: لا بدعة في الإسلام، وحولوا بعد ذلك بيوت الله إلى مراقص ينبحون فيها كما تنبح الكلاب، ويزعمون أنهم يذكرون الكريم الوهاب، وإن قلت لهم كيف تفعلون هذا؟ يقولون نذكر الله بعبادات لم ترد بها شرع الله، يحرِّفون أيضاً ذكر الله ويرقصون في بيوت الله ثم بعد ذلك يقولون: إننا نذكر الله، ولا بدعة في الإسلام، إنما نريد بذلك وجه الله.
ليس من طريق المسلمين التهويل ولا التهوين ولا الإفراط ولا التفريط، إنما طريقنا صراط مستقيم، ودين الله بين الغالي والجافي.
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا عليه الصلاة والسلام وأن يرزقنا اتباع أئمتنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء ولمرسلين، وسلم تسليماً كثيرا، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: كنت ذكرت أمثلة كثيرة في المواعظ السابقة مما ورد بها دليل شرعي صحيح صريح وكيفية ذلك الأمر ليس مما يحتله الدليل، إنما مما ورد التصريح به في الدليل، ومع ذلك يكثرون حوله اللغط والقال والقيل، ومن تلك الكيفيات التي ذكرتها أمر موجز لابد من التنبيه عليه، موضوع التبرك بالصالحين، وقلت هذا الأمر إخوتي الكرام قرره نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا كلام لمتكلم، وهذا هو المنقول عن سلفنا الكرام وعن أئمة الإسلام، وإذا كان من يدعي في هذه الأيام بأنه لابد من الرجوع إلى الكتاب والسنة وسلف الأمة فعلى الرأس والعين، ولا خير فيمن لم يلتزم بذلك، ولكن أريد أن أعلم كيف تطرح السنة باسم السنة؟
ثبت في معجم الطبراني الأوسط، والحديث انظروه في مجمع الزوائد 1/214، والحديث رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، وأصله مروي مختصراً في مصنف عبد الرزاق ورجال الحديث موثقون وإسناد الحديث حسن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين) .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى المطاهر – وهي الأمكنة التي يتوضأ منها الصحابة الكرام فيؤتى بالماء الذي يتوضأ منه الصحابة ما فضل من وضوئهم، من الماء الذي توضأوا به، لأن هذه الأيدي عندما امتدت إليه لتباشر هذه العبادة الجليلة صارت لهذه الفضلة بركة ومنزلة وشأن، فيعلِّمنا نبينا عليه الصلاة والسلام هذا الأمر كان هو يقوم به ويفعله وهو المبارك الذي يتبرك به حياً وميتاً، فكان يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين.
والحديث كما قلت حديث صحيح وهو في هذه الكتب التي ذكرتها، وهكذا قرره أئمتنا، والزعم بعد ذلك بأن التبرك بالرجل الصالح عند ما نصافحه ونرجو البركة، عندما نقبل يده مثلاً نرجو البركة، عندما
…
عندما
…
الزعم بأن هذا شرك، سبحان ربي العظيم، عندما تقبل الحجر الأسود وتلمسه هذا شرك؟ هل أنت تعبد الرجل الصالح؟ وهل أنت تعبد الحجر الأسود؟ أم تعبد رب هذا الرجل، ورب هذا لحجر الأسود؟ إنما أنت تعظم ما عظمه الله، وتحترم ما أمرك الله باحترامه، {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} ، وإذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعل هذا، فمن المعترض بعد ذلك؟ ينبغي أن تقطع رقبته أو أن يقطع لسانه. بعد أن يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ويتناقله أئمتنا الكرام، من المعترض؟ وعلام اللغط؟ وإذا أردتم أن تقولوا شيئاً فانسبوه إلى من قال به من أئمة الإسلام، فأما أن تقول: هذا خرافة، وهذا بدعة، وهذا ضلالة، فأخبرونا من الذي قال بقولكم؟ ومن ذكر هذا الحكم الذي تذكرونه؟ فإن كان من بنيات أذهانكم فما أنتم ممن يعوّل عليه في هذا العصر الهابط، وإن كنتم تنقلون عن سلفنا فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين.
إخوتي الكرام تقدم معنا هذه القضية أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه دخل على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى جوار ربه فأكب عليه وقبله عليه الصلاة والسلام، والحديث كما تقدم معنا في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري وسنن النسائي وغير ذلك، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعل هذا بالصالحين من الصحابة الكرام عندما يموتون.
ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا النسائي وقال الترمذي إسناده حسن صحيح، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن عثمان ابن مظعون لما توفي أكب النبي صلى الله عليه وسلم عليه وقبله ثم رفع رأسه والدموع تنهمر من عينيه.
قال الشوكاني في نيل الأوطار عند هذين الحديثين في كتاب الجنائز 4/25 وفي هذا الحديث.. في فعل أبي بكر رضي الله عنه مع نبينا عليه الصلاة والسلام ثم بفعل نبينا عليه الصلاة والسلام مع عثمان بن مظعون يقول: وفي هذا الحديث جواز تقبيل الميت تعظيماً وتبركاً، ثم قال الإمام الشوكاني: وهذا اجماع لأنه لم ينتقل أن أحداً أنكر على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
سبحان ربي العظيم، أمر يفعله نبينا عليه الصلاة والسلام نحو الماء ونحو الصحابة رضي اله عنهم أجمعين، وأمر يفعله أبو بكر رضي الله عنه مع نبينا عليه الصلاة والسلام، ويأتي أئمة الإسلام ويقولون هذا إجماع فلا منكر في هذه المسألة، ثم يأتيك تخريف المخرفين في هذا الحين فيقولون: هذا بدعة، وهذه ضلالة، سبحان ربي العظيم، لا يقنعكم كلام نبينا عليه الصلاة والسلام ولا يقنعكم كلام السلف الصالح وفعلهم فمن تريدون بعد ذلك؟ أريد أن أقول كما قلت إخوني الكرام من يكثر اللغط حول هذه المسائل قل له سمِّ من قال بقولك هذا من سلفنا لينتهي القيل والقال، وليرتفع الجدال وينتهي المقال.
أسال الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يجعل هواناً تبعاً لشرع نبينا عليه الصلاة والسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اللهم اجعل لنا في قلوبنا نوراً وفي أسماعنا نورا وفي أبصارنا نوراً وفي آذاناً نوراً وعن أيمانناً نوراً وعن شمائلنا نوراً، ومن أمامنا نورا ومن خلفنا نوراً ومن فوقنا نوراً ومن تحتنا نوراً، اللهم اجعل لنا نوراً نمشي به إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم، اللهم رب جبريل وميكائيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرهنا فيه، اللهم صلِّ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينة في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك ومن المقربين لديك وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اجعل حبك وحب رسولك صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من كل شيء، أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأولادنا، وأحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} .