المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إجلال الله وعظمته - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ٧٧

[عبد الرحيم الطحان]

الفصل: ‌إجلال الله وعظمته

‌إجلال الله وعظمته

(من خطب الجمعة)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

بسم الله الرحمن الرحيم

إجلال الله وتعظيمه

الجمعة22/4/94

...

...

...

... 26

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين. يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون.

وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".

أما بعد: معشر الأخوة الكرام..

ص: 1

إن المساجد هي أفضل البقاع وأحبها إلى رب الأرض والسماء ففيها نوره وهداه وإليها يأوي الموحدون والمهتدون وحقيقة حقيقة هم الرجال الذين يتصفون بأطيب الخصال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن طاعة رب الأرض والسماوات وهم الذين يعظمون الله فيسبحونه ويصلون له وهم الذي يشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم وهم الذين يخافون من ربهم ويستعدون للقائه في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.

نعم إخوتي الكرام هؤلاء هم الرجال حقا أحسنوا صلتهم بربهم عز وجل وأحسنوا صلتهم بعباد الله فعظموا الله جل وعلا والوجل منه وهذا من علامة سعادتهم كما قال العبد الصالح أبو عثمان النيسابوري وهو سعيد بن إسماعيل الذي توفي سنة 298هـ للهجرة يقول هذا العبد الصالح من علامة سعادة الإنسان أن يعمل الصالحات وأن يطيع رب الأرض والسماوات ويخاف أن يكون مردودا مطرودا ومن علامة شقاوة الإنسان أن يعمل السيئات ويرجو بعد ذلك أن يكون مقبولا. وهؤلاء العباد عظموا الله عز وجل وأحسنوا إلى عباد الله وأشفقوا عليهم ومع ذلك يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. إخوتي الكرام وهذه الصفة الرابعة التي نعتهم الله بها في القرآن كنا نتدارسها وقلت سنتدارسها ضمن مبحثين اثنين حول الخوف وحول يوم القيامة أما الخوف فقد ذكرت أننا سنتدارسه أيضا ضمن أربعة مراحل مضى الكلام على ثلاث منها فيما يتعلق بتعريف الخوف ومنزلة الخوف في شريعة الله وثمرة الخوف وما يحصله الخائف من ربه من ثمرات طيبة في العاجل والآجل في الدنيا والآخرة وبقي علينا الأمر الرابع المتعلق بالخوف ألا وهو أسباب خوف المكلفين من رب العالمين.

إخوتي الكرام إن أسباب الخوف كثيرة وفيرة وهي على تعددها أن تحصر في ثلاثة أسباب:

أولها: تعظيم الله جل وعلا وإجلاله.

ص: 2

ثانيها: الخشية من التفريط الذي يتصف به الإنسان نحو ذي الجلال والإكرام سواء كان ذلك التفريط متعلقا بفعل الطاعات أو ارتكاب المحظورات.

ثالثها: وهو الذي يقطع قلوب الصالحين والصديقين خشية سوء الخاتمة.

فهذه الأمور الثلاثة تدعوا هؤلاء الرجال إلى الخوف من ذي العزة والجلال تعظيم الله جل وعلا وخشية تفريطهم في جنب ربهم جل وعلا وبعد ذلك لا يعلمون بأي شيء وسيختم لهم وهذه الأسباب الثلاثة سنتدارسها إن شاء الله في هذه الموعظة وفيما بعدها فلنتدارس في هذه الموعظة:

السبب الأول منها: الخشية من التفريط الذي يتصف به الإنسان نحو ذي الجلال والإكرام سواء كان ذلك التفريط متعلقا بفعل الطاعات أو ارتكاب المحظورات. مثالتها وهو الذي يقطع قلوب الصالحين والصديقين خشية سوء الخاتمة فهذه الأمور الثلاثة تدعوا هؤلاء الرجال إلى الخوف من ذي العزة والجلال تعظيم الله جل وعلا وخشية تفريطهم في جنب ربهم جل وعلا وبعد ذلك لا يعلمون بأي شيء وسيختم لهم وهذه الأسباب الثلاثة سنتدارسها إن شاء الله في هذه الموعظة وفيما بعدها فلنتدارس في هذه الموعظة السبب الأول منها: إجلال الله وتعظيمه.

نعم إخوتي الكرام هؤلاء الرجال يجلون الله جل وعلا ويعظمونه لأنه عظيم لأنه جليل وينبغي لهذا العبد الضعيف الذليل أن يجل مولاه الكبير الجليل سبحانه وتعالى لا لعله سوى ذلك فأنت فقير والله غني وأنت ضعيف والله قوي وأنت ذليل والله جليل وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تجل الله وأن تهابه وأن تخافه وكل من استحضر هذا المعنى لا بد وأن يخاف الله عز وجل.

إخوتي الكرام الخوف من الله تعظيما له وإجلال له لا من أجل ثواب ولا من أجل خشية عقاب إنما هو إله عظيم جليل ينبغي أن نجله وأن نحاف منه وحقيقة من عرف الله جل وعلا وعرف أن ما يجري في هذا الكون من عرشه إلى فرشه ما هو إلا آثار أسماء الله وصفاته آثار صفات الجمال والجلال آثار صفات البر والقهر..

ص: 3

"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب".

فمن استحضر صفات الكريم الوهاب وأنها هي التي تعمل في هذا الكون من عرشه إلى فرشه لابد وأن يخاف الله جل وعلا لا بد وأن يجل الله جل وعلا. لابد وأن يهاب الله سبحانه وتعالى وأن يعظمه وهذا النوع هو أعلى أنواع الخوف وقد أمرنا الله بأن نخاف نفسه وأن نخشاه حق خشيته في آيات كثيرة من القرآن فقال جل وعلى في سورة آل عمران لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله شيء إلا أن تتقوا تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير. ويحذركم الله نفسه لا طمعا في ثوابه ولا خشية من عقابه ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير. قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد نعم إن هذا الخوف هو أجل وأعلى وأرفع أنواع الخوف وقد أشار إلى هذه المرئية في خوف الله جل وعلا الخوف منه لتعظيمه وإجلاله أئمتنا الكرام كما قال العبد الصالح ذو النون المصري وهو ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض توفي سنة245هـ من العلماء الربانيين الكرام كان مستجاب الدعوة ولما توفي عليه رحمة الله أظلت الطير جنازته حتى دفن ذو النون المصري ومن كلامه العذب المحكم أنه كان يقول من تطأطأ لقط رطبا ومن تعالى لقي عطبا. من تواضع في هذه الحياة لقي رطباً والرطب يجنيها الإنسان عندما يلتقطها من الأرض ومن تعالى وشمخ بأنفه لقي عطبا.

ص: 4

ومن كلامه المحكم الذي تناقله أئمتنا عنه وأكثروا من ذكره ومن اللهج به وبخاصة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية عليهم رحمات رب البرية كان يقول هذا العبد الصالح والله ما طابت الدنيا إلا بمعرفة الله وبمحبته وما طابت الآخرة إلا بمغفرة الله ورحمته وما طابت الجنة إلا برؤية الله ومشاهدته.

يقول هذا العبد الصالح ذو النون مشير إلى هذه الرتبة من أنواع خوف الكلفين من رب العالمين خوفهم إجلالا له وتعظيماً يقول خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي.

ويريد بذلك رحمة الله أي أن الرجال الكاملين يخشون من فراق رب العالمين ومن غصبه عليهم أضعاف أضعاف ما يخشونه من نار الجحيم خشية النار الخوف من النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي. ويحذركم الله نفسه.

نعم إخوتي الكرام إن هذه الرتبة هي أجل أنواع الخوف أن تخاف من الله إجلالا له وتعظيماً له وهكذا أن تعبده لأنه إله عظيم يستحق العبادة سواء أمرك بالعبادة أولا وسواء سيثيبك على العبادة أولا وسواء نهاك عن مخالفته أولا وسواء سيعذبك على المخالفة أو لا أنت تطيعه وتعبده لأنه إله عظيم فتقوم بحقوق ربك عليك في كل حين ويحذركم الله نفسه وإذا ما أمرنا الله بعبادته هل يصلح منا أن نتخلى عنه وألا نلجأ إليه وإذا ما جعل الله في الآخرة جنة ولا نار هل يصلح منا أن نبتعد عنه:

هب البعث لم تأتنا رسله

وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحقَّ

عبادة رب الورى الأكرم

أليس من الواجب المستحِقِّ

الحياء من الرب المنعم

هب أنه ليس هناك بعث وليس هناك نار تضطرم يوم القيامة وتغلي وتفور أليس من حق الله علينا أن نعبده وأن نعظمه وأن نجله وأن نستحي منه. بلى وعزة ربنا وهذا المعنى قرره أئمتنا الكرام وانظروه موسعا.

ص: 5

إخوتي الكرام: في كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة للإمام ابن القيم 2/88 وما بعدها وانظروا في مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السادس عشر صفحة ثلاث وخمسين ومائتين وما بعدها فهذا هو أجل أنواع الخوف وعبادة الله تعظيماً له أعلى أنواع العبادات والسبب في ذلك أن من يخاف من الله إجلالاً له أعطى الرب حقه وقام بما ينبغي أن يقوم به العبد نحو سيده.

والأمر الثاني أن من عبد الله جل وعلا تعظيماً له وإجلالا له ما جعل الله وسيلة لمنفعته وشهواته ولتنعمه وللذائذه إنما عبد الله لأنه إله عظيم يستحق منا العبادة في كل حين كونه تكرم علينا بعد ذلك بجنات النعيم هذا زيادة إحسان وفضل منه كما أغدق علينا نعمة في هذه الحياة فضلا منه وكرما دون استحقاق للمخلوقات على خالقها وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

والأمر الثالث أن من عبد الله إجلالا له ومن خافه تعظيماً له لا ينقطع عن العبادة ولا يفتر عن الخوف وإن حصل مطلوبه وإن أسقط الله عنه الأمر والنهي وإن وإن فهو يقول أنا عبد وسيدي رب ولا يصلح للعبد إلا أن يخاف من الرب وأن يتذلل له سبحانه وتعالى.

ص: 6

إخوتي الكرام هذا أجل أنواع الخوف ويحذركم الله نفسه وقد أشار الله إليه في آيات القرآن وقدمه على الخوف من وعيده ومن النيران فقال جل وعلا في سورة إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم والآية تقدمت معنا في ثمرات الخوف ولكن انتبهوا لهذه الدلالة التي تطرب لها عقول الرجال يقول ذو العزة والجلال وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد نوعان من أنواع الخوف لمن خاف مقامي وتقدم معنا أن المصدر هنا إما أنه مضاف إلى الفاعل أو إلى المفعول وعلى الأمرين في ذلك دلالة على بحثنا ألا وهو أن الخوف من الله إجلالا له وتعظيما له هو أعلى أنواع الخوف ذلك لمن خاف مقامي ذلك لمن خاف قيام الله عليه بالإطلاع والمراقبة والإحاطة والقهر والسيطرة فأنت في قبضته وجميع من في هذا الكون من عرشه إلى فرشه تحت حكم الله جل وعلا ذلك لمن خاف مقامي قيام الله عليه بالمراقبة والإحاطة والقهر والسيطرة ذلك لمن خاف مقامي المصدر مضاف إلى المفعول إلى من خاف قيامه بين يدي في هذه الحياة وبعد الممات يعلم أنه فقير محتاج إلي في جميع الأوقات ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ذكر الله نوعين من الخوف قدم الخوف منه إجلالا له إلا الخوف من وعيده وعقابه وناره ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد

ص: 7

نعم إخوتي الكرام إن هذا النوع من أنواع الخوف هو أجل أنواع الخوف على الإطلاق ويحصل هذا النوع في نفس الإنسان عندما يعرف الإنسان الصلة الحقيقية بينه وبين ربه الرحمن فأنت فقير والله غني وأنت ضعيف والله قوي أنت ذليل والله جل وعلا جليل أنت لا تقوم بنفسك ومحتاج إلى ربك في جميع أحوالك والله هو الغني الحميد هذا أجل أنواع الخوف وكما قلت يترتب على معرفتك بنفسك ومعرفتك بربك ولذلك قال أئمتنا الكرام من عرف نفسه عرف ربه والأثر روى عن العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي الذي توفي سنة 258هـ وهو من العلماء الربانيين الصالحين في هذه الأمة وكان يقول: لا يزال العبد مقروناً بالتواني مادام مقيما على الأماني ومن كلامه المحكم عمل كالسراب يعني لا حقيقة له مشوب بالأخلاط والآفات عمل كالسراب وقلب من التقوى خراب وذنوب بعدد الرمل والتراب ثم تطمع بالكواعب الأتراب والنظر إلى وجهه الكريم الوهاب هيهات هيهات أنت سكرات من عبر شراب ثم يقول ما أجلّك لو بادرت أجلك ما أقوالك لو خالفت هواك.. يقول هذا العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي عليه وعلى جميع أئمتنا رحمات ربنا من عرف نفسه عرف ربه.

وليس هذا بحديث ينسب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام كما توهم ذلك بعض الأنام وقد حقق أئمتنا الكرام هذا القول وبينوا أنه ينسب إلى هذا العبد الصالح منهم شيخ الإسلام الإمام النووي في فتاواه المشهورة.

ومنهم أيضاً الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوي ومنهم ابن قيم الجوزية 1/427 من مدارج السالكين ومنهم الإمام السيوطي وألف رسالة حول هذا الأثر لهذا العبد الصالح سماها القول الأشبه في بيان معنى حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه.

وقد ذكر الإمام السيوطي عشرة أوجه في شرح هذا الأثر وحفظها الإمام ابن القيم عليهم جميعاً رحمة الله إلى ثلاثة معاني خلاصتها:

ص: 8

الأمر الأول: هو الذي يتعلق ببحثنا أن معنى هذا الأثر إما أن يكون من باب النفي أو الضدية أو الأولوية أما الضدية من عرف نفسه بصفات النقص والفقر والإحتياج عرف ربه بضد ذلك فإذا عرفت أنك فقير ضعيف محتاج ذليل عرفت أن الله جل وعلا بخلاف ذلك فمن عرف نفسه عرف ربه.

ومن باب تكملة مضى الأثر على حسب المعنيين الآخرين من عرف نفسه من باب الأولوية عرف ربه أي عرف أن يتصف بحياة وعلم وقدرة ورحمة وغير ذلك من صفات الكمال التي تناسب حاله وهي محفوفة بالنقص من عرف أنه يتصف بذلك يعلم تعينا أن الله يتصف بذلك الكمال من باب أولى فالذي منحك حياة ناقصة فيه حياة كاملة والذي منحك علماً قليلا هو بكل شيء عليم والمعنى الثالث للأثر من عرف نفسه عرف ربه من باب النفي كما أنه لا يمكن أن تقف على حقيقة نفسك وإدراك كُنْهِ روحك فلن تقف على إدراك حقيقة ربك جل وعلا فالله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

فإذا كنت تعجز عن إدراك حقيقة الروح ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيته من العلم إلا قليلا فأنت أعجز وأعجز عن إدراك حقيقة الرب جل وعلا ومالك إلا أن تؤمن بما أخبرنا الله جل وعلا عن صفاته وأن تُمِدّه حسب ما يليق بذاته ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشاهد المعنى الأول من عرف نفسه عرف ربه عن طريق الضدية إذا علمت أنك فقير فالله هو الغني فالذي يحقق معرفة الصلة بين الخالق والمخلوق سيخاف من الخالق ويجله ويعظمه وهذا هو خوف الإجلال هذا هو خوف التعظيم لا لتفريط فيك ولا لانتظار خاتمة ستقابلك وتلاقيك لا إنما أنت تجل الله وتعظمه لأنه إله عظيم يستحق من عباده أن يجلوه وأن يخافوه وأن يهابوه وأن يعظموه في كل حين ويحذركم الله نفسه ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد.

ص: 9

إخوتي الكرام وإذا استحضر الإنسان ما لله من صفات حسان سيهابه ويخاف منه ويجله ويعظمه ولابد ويستحيل قطعا أن نستعرض ما لله من صفات الكمال في هذه الموعظة لكن سأشير إلى خمسة منها وهذا الصفات الخمس انتبهوا لها إخوتي الكرام وتقدم معنا أن ما في هذا الكون علوية وسفلية لا يتصرف فيه إلا صفات الله جل وعلا وكل ما يقع في هذا الكون من قبض وبسط من نعمة وضر كل هذا أثر صفات الجمال والجلال التي يتصف بها ذو العزة والجلال كل هذا أثر صفات الرحمة والقهر التي يتصف بها ربنا عز وجل الصفة الأولى في الله والتي إذا استحضرها الإنسان مع صفات الله سيخاف من الله ويجله ويعظمه لأنه يستحق ذلك صفة العلم وما أدراك ما صفة العلم يتصف بها ربنا جل وعلا فلا يخفى عليه بهذه الصفة خافية في الأرض ولا في السماء يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ومن استحضر هذا فسيخاف من الله وسيجله.

وقد قرر أئمتنا في كتب التوحيد أن أعظم واعظ أنزله الله من السماء إلى الأرض وأبلغ زاجر نوّه الله به في كتبه التي أنزلها على رسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه أعظم واعظ وأبلغ زاجر إخبار الله لعباده بأنه يعلم سرهم وعنهم ولا تخفى عليه خافية منهم وهذا أعظم واعظ وأبلغ زاجر.

تأمل معي آيات القرآن: "ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم".

ص: 10

هو مع الإثنين والثلاثة والأربعة والخمسة والقليل والكثير معم بعلمه وإحاطته ومراقبته واطلاقه فلا تخفى عليه خافية من شئونهم ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور وهذا المعنى لا يخلو منه ورقة من ورقات المصحف تأمل القرآن من أوله إلى آخره لن تجد ورقة من ورقات القرآن تخلو من إخبار الله لعباده بأنه يعلم سرهم ونجواهم ولا تخفى عليه خافية منهم أينما كانوا سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور..

هذا هو أبلغ واعظ وأعظم زاجر أنزله الله علينا لنزدجر به ولنعظم بسببه ربنا من علم أن الله عليم ولا تخفى عليه خافية من شئون عباده سيستحي من ربه ويهابه ويعظمه ويجله ولا يوجد أحد في الوجود يتصف بصفة العلم بكل شيء إلا الرب المعبود فهو بكل شيء عليم وكل من عداه يصدق عليهم قول ربنا جل وعلا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

ص: 11

العلم للرحمن جل جلاله وسواه في جهلانه يتغمغم ما للتراب وللعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم صفة العلم أنتقل منها إلى الصفة الثانية التي تخلع القلب وتوجب عليك هيبة الرب توجب عليك إجلال ربك والخوف منه جل وعلا تعظيماً لشأنه لا من أجل جنته ولا من أجل ناره تعظيما لشأنه فهو إله عظيم جليل ينبغي أن نهابه وأن نخاف منه في كل وقت صفة القدرة التي يتصف بها وينفذ بها ما شاء وما أراد سبحانه وتعالى لاراد الحكمة ولا معقب لقضائه هو على كل شيء قدير بكل شيء عليم على كل شيء قدير ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والعالم بأسرهم علويهم وسفليهم مشيئتهم مرتبطة بمشيئة ربهم وقد انتهى سعي الخلق والمخلوقات من عرش رب الأرض والسماوات إلى الثرى انتهى عند آيتين من كتاب الله عز وجل الآية في سورة الدهر في سورة الإنسان وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما والآية الثانية في سورة التكوير وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.

فمشيئة العباد مقيدة بمشيئة ربهم جل وعلا وإذا أشاءوا الشيء وارادوه وأذن الله لهم في مشيئته وإرادته لا يستطيعون أن ينفذوه إلا إذا أقدرهم الله على ذلك والله جل وعلا مشيئته مطلقة وقدرته كذلك ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن من استحضر هذا في صفات الله جل وعلا وأن الله يتصف به سيهابه ويخافه ويجله ويعظمه مشيئة الله جل وعلا وقدرته عامتان شاملتان لكل شيء سبحانه وتعالى.

ص: 12

وأما العباد فحالهم كما قال شيخ الإسلام أبو عبد الله الإمام الشافعي عليه وعلى جميع أئمتنا رحمات ربنا وهذا الكلام عنه ثابت صحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر في كتاب الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الفقهاء صفحة ثمانية في ترجمة الإمام الشافعي الذي لا يختلف فيه وهو أصح شيء عنه وأثبت ما قبل في الإيمان بالقدر وهذا الشعر نقله أئمتنا عن هذا العبد الصالح نقله الإمام البيهقي في الأسماء والصفحات وفي السنن الكبرى وفي كتاب الإعتقاد ونقله أيضاً في مجمل اعتقاد السلف عليهم جميعاً رحمة الله ونقله في كتاب البعث والقشور عن الإمام الشافعي ونقله أئمتنا خلاصة ما نقل عنه من أبيات تبين الصلة بين الخالق والمخلوق ويترتب عليها تعظيم المخلوق لخالقه وإجلاله له يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله:

ما شئت كان وإن لم أشأ

وما شئت إن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت

ففي العلم يجري الفتى والمسن

على ذا مننت وهذا خذلت

وهذا أعنت وذا لم تعن

فمنهم غني ومنهم فقير

ومنهم قبيح ومنهم حسن

ومنهم شقي ومنهم سعيد

وكل بأعمالهم مرتهن

من استحضر هذا سيهاب الله وسيجله وسيخافه قطعاً وجزما ويحذركم الله نفسه صفة القدرة وبها ينفذ الله ما شاء وما أراد فهو على كل شيء قدير كما أنه بكل شيء عليم.

ص: 13

والصفة الثالثة من الصفات الخمس التي سنتدارسها لتكسب قلوبنا الحياء من ربنا والخشية له جل وعلا تعظيما له صفة الغنى سبحانه عليم بكل شيء قدير على كل شيء غني عن كل شيء فما خلق العباد ليتعزز بهم من ذله ولا ليتكثر بهم من قله سبحانه لو أطاعه أهل السماوات والأرض لما زاد ذلك في ملكه شيئاً ولو عصاه أهل السماوات والأرض لما نقص ذلك من ملكه شيئاً سبحانه وتعالى هو الغني وكل من عداه فقير إليه يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز وأخص وصف في ربنا الغنى كما أن أخص وصف فيمن عداه الفقر وعلة احتياج العالم بأسره من عرشه إلى فرشه على احتياج المخلوقات إلى رب الأرض والسماوات فقرها وغنى الرب عنها فنحن الفقراء وليست علة احتياجنا إلى ربنا حدوثنا ولا إمكان حدوثنا كما قرر الفلاسفة والمتكلون لا ثم لا علة احتياج العالم إلى خالقه فقر المخلوقات وغنى رب الأرض والسماوات والفقير لا يستغني عن الغني فنحن نحتاج إليه بأكثر من عدد أنفسنا التي تتنفس بها من أجل ثبوت حياتنا الغنى عن الرب هو الغنى سبحانه وتعالى من استحضر هذه الصفة فيه سيخاف من الله جل وعلا إجلالا وتعظيماً لكن هذا المعنى لا يعرفه الفصل لذوي الفضل إلا ذو الفضل من الذي يهاب من الله عز وجل الأتقياء الأكياس الرجال الذين عظموا الله وأحسنوا إلى خلق الله ومع ذلك يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار غنى الرب جل وعلا هذا إذا استحضره الإنسان سيخاف من الله.

يروي الإمام ابن القيم في مدارج السالكين عن شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله أنه أرسل له ورقة في آخر حياته وفيها مقدمة في التفسير وقد كتب على غلافها أبياتاً من الشعر يقول فيها:

أنا الفقير إلى رب البريات

أنا المسكين في مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي

والخير إن يأتنا من عنده يأتي

ثم يقول عليه رحمة الله:

ص: 14

والفقر لي وصف ذات لا زم أبدا

كما الغنى أبدا وصف له ذات

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم

وكلهم عنده عبد له آت

فمن يعني مطلبا من غير خالقه

فهو الظلوم الجهول المشرك العاتي

أخص وصف فينا الفقر وأخص وصف ربنا الغنى

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول:

أنا المكدي وابن المكدي

وهكذا كان أبي وجدي

هذا حالنا هذه صفتنا وتلك صفة ربنا وحقيقة من استحضر ضعفه وقوة الله ومن استحضر فقره وغنى الله ومن استحضر ذله وعز الله سيهاب من الله وسيخاف منه ولابد وهذا هو خوف الإجلال خوف التعظيم لا سبب آخر.

والصفة الرابعة في صفات ربنا الكريم التي توجب علينا أن نجله وأن نعظمه اعترافا بحقه علينا دون شيء آخر سبحانه غني كريم بكل شيء عليم على كل شيء قدير غني عن العالمين هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين يجب أن يجود وجوده بغير قيود ولا حدود سبحانه وتعالى من أجل ذلك خلق هذا العالم من أن يجود ويتكرم عليه.

وقد أمرنا الله أن نسأله وأخبرنا أننا إذا لم نسأله فسيغضب علينا لأنه كريم كما أن العباد يغضبون من سؤالك فالله يغضب من عدم سؤالك وقارن بين الأمرين لتعلم عزة الربوبية وذله العبودية إذا سألت العباد غضبوا وضجروا وإن تركت سؤال الرب غضب عليك ومقتك وقال ربكم أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون من عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال ربنا جل وعلا وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا لي لعلهم يرشدون.

وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الحاكم في مستدركه بسند صحيح كالشمس من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يسأل الله يغضب عليه لم تتعرض لنفحات الله ولجوده ولكرمه من لم يسأل الله يغضب عليه".

ص: 15

من استحضر هذه المعاني في ربنا سيجله تعظيما له وحياءاً منه وإجلالا له سواء بعد ذلك أدخلك الجنة أو النار فهذا لا دخل لك فيه ولا ينبغي أن تفكر فيه إنما ينبغي أن تفكر أن تجل الله جل الله جل وعلا وإذا تكرم عليك بالجنة زيادة كرم وفضل وإذا منّ عليك بالنجاة من النار زيادة كرم وفضل أما هو إله عظيم جليل كريم له علينا حق العبادة وينبغي أن نخافه في كل حين.

ويحذركم الله نفسه هذه الصفة الرابعة صفة الغنى..

وأما الصفة الخامسة صفة الجلالة والعظمة سبحانه ما أجله سبحانه ما أعظمه وعظمة الله وجلاله لا يمكن أن نوفيها عشر معشارها إذا أردنا أن نتدارسها إنما سأشير إلى شذرات من جلالة الله من عظمة الله ذكرها الله في سيده أي القرآن وأفضل آياته على الإطلاق وهي آية الكرسي.

ثبت في المسند وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام أبو داود ورواه الحاكم في المستدرك مستدركا به على الصحيحين وهو أهم فهو في صحيح مسلم من رواية أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب أي آية في كتاب الله أعظم فقال أبي بن كعب آية الكرسي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام فضرب النبي عليه الصلاة والسلام في صدره وقال ليهنك العلم أبا المنذر هنيئا لك بالتوفيق والسداد والتوفيق للعلم وإصابة الجواب ليهنك العلم أبا المنذر.

الله لا إله إلا هو الحي القيوم تأمل ما في هذه الآية من إشارات إلى عظمة رب الأرض والسماوات وسنتدارس ثلاثة منها في هذه الآية الكريمة.

ص: 16

أولها: مطلع الآية. الله لا إله إلا هو الحي القيوم حي قيوم سبحانه وتعالى حي حياة كاملة تامة لا يعتريها نقص ولا زوال ولا فناء ليست كحياة المخلوقات ولذلك أتبعها الله جل وعلا بقوله لا تأخذه سنة ولا نوم هذه حياة ذاتية ما وجدت بعد أن كانت معدومة ولم تطرأ عليها العدم وفي حال إنصاف الله بها وهو متصف بها أزلا وأبداً لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه لا تأخذه سنة ولا نوم وهو القيوم القائم بنفسه المقيم المدبر لأمر شؤون خلقه فلا يوجد شيء في هذا الكون من عرشه إلى فرشه إلا بتدبير ربه وتقديره سبحانه وتعالى حي قيوم وهاتان الصفتان لربنا الرحمن هي أصل سائر صفاته الحسان.

فصفات الله إنما أن تكون ذاتية أو فعلية فجميع الصفات الذاتية أصلها صفة الحياة وجميع الصفات الفعلية أصلها صفة القيومية وبهاتين الصفتين أشار الله إلى جميع كمالاته وصفاته الحسنى العلى الله لا إله إلا هو الحي القيوم وما ذكر الله هذين الاسمين مقترنين إلا في آية الكرسي ومطلع سورة آل عمران. ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم وفي سورة طه وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما الله لا إله إلا هو الحي القيوم.

الإشارة الثانية له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وتقديرا وتدبيرا ومصيرا كل ما في هذا الكون علوية وسفلية خلقه الله يملكه الله يديره الله سيصير ويؤول إلى الله جل وعلا هو المتصرف في هذا من علم هذا وأنه إذا استحضر نفسه ضمن هذه العوالم أنه أقل من قطرة من بحر في جنب ملك الله وأقل من ذرة رمل من رمال الدنيا حقيقة يهاب من الله ويجله تعظيماً لشأنه له ما في السماوات وما في الأرض خلقا ملكا تدبيرا مصيرا وهذا العالم بأسره سيصير إلى ربه وانظر إلى الصورة التي سيصير إليها وما ذلك من دلالة على عظمة ربنا جل وعلا.

ص: 17

ثبت في صحيح مسلم والحديث رواه البيهقي في الأسماء والصفات ورواه الإمام البغوي في معالم التنزيل وهو في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين فهو حديث صحيح ثابت عن نبينا الأمين صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يقبضهن بيمينه وفي رواية ثم يأخذهن بيمينه فيهزهن جل وعلا فيهزهن السماوات يطوي الله السماوات يقبض الله السماوات ثم يأخذهن يقبضهن بيمينه جل وعلا ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون انظر لعظمة الرب جل وعلا وجلاله السماوات السبع في كف الرحمن كأنها خردلة يطويها جل وعلا بيمينه والأراضين السبع كذلك من استحضر هذا المعنى سيخاف من الله عز وجل ولا شك.

إخوتي الكرام ما ورد في هذا الحديث الصحيح من وصف الله بيدين مباركتين يتصف بهما إحداهما يمين والأخرى شمال ثبت منا يتصف به ربنا ذو العزة والجلال كما أخبرنا نبينا الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه دون أن ندخل في ذلك بعقولنا متوهمين أو متأولين وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.

ص: 18

والعجز عن درك الأدراك إدراك والبحث كنه ذات الله إشراك وإيماننا بصفات ربنا يقوم على دعامتين وكنين متينين اقرار وامرار فمن لم يقرب بالصفات لله الواحد القهار فهو ناطق عن جاحد معطل ومن لم يمر صفات الله جل وعلا فهو مشية ضال ممثل نقر بالصفة كما وردت ولا نقف عندها وقراءتها تفسيرها كما قال سلفنا ولله يدان مباركتان كما أخبر عن ذلك في محكم القرآن. بل يداه مبسوطتان ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي وإحداهما يمين والأخرى شمال بالكيفية التي يعرفها الله ولا نعرفها بالكيفية التي تليق بجلال الله وجماله ويجهلها آمنا بالله وبما جاء عن الله على مداد الله وآمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشكلن عليك أخي الكريم وصف الله في هذا الحديث باليمين والشمال ليديه المباركتين جل وعلا لا يشكلن عليك هذا مع الحديث الصحيح الثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي والسنن الكبرى للإمام البيهقي والأسماء والصفات له أيضا وهو حديث صحيح أيضا فهو في صحيح مسلم وغيره من رواية عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهم أجمعين قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذي يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا. فقوله وكلتا يديه يمين لا يتعارض مع ما ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين من اليمين بمعنى الخيرية والبركة والتمام والكمال فالله له يدان مباركتان يمين وشمال لكن الشمال فيه ليست كالشمال فينا جل وعلا فإذا كانت الشمال فينا أضعف من اليمين وتستعمل كما يمتهن ويستقذر فالله كامل كريم مجيد سبحانه وتعالى لا نقص في شيء من صفاته جل وعلا كلتا يديه يمين من اليمين بمعنى الخيرية والبركة.

ص: 19

وأما الحديث الثابت في صحيح مسلم فقد أخبرنا عن وضع وحال صفتي اليدين كما فصل ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام وأما من طعن في ذلك الحديث الذي هو في صحيح مسلم بأنه من رواية عمر بن حمزة عن عمه سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وعمر بن حمزة أخرج حديثه البخاري تعليقا في صحيحه ومسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة إلى سنن الإمام النسائي فمن تكلم في عمر بن حمزة في روايته عن عمه سالم بن عبد الله وهو عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر فعمر بن حمزة روى عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين من طعن في الرواية وقال إنه قالها على حسب المعروف فينا لأن الوارد في رواية المسند والصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ويقبض الله الأراضين بالأخرى ولم يذكرها بوصف الشمال فقال بعض العلماء إن رواية عمر بن حمزة قالها على حسب المعهود والمعروف في الناس فعبر عن اليد الأخرى بوصف الشمال وفتح هذا الباب على الرواة حقيقة قد يسد علينا بعد ذلك باب الرواية وسلفنا أتقى لله وعز وجل من أن يستعملوا عقولهم في صفات الله عز وجل وأن يبدلوا اللفظ بما هو معروف فينا وعليه لفظه ثابتة.

لكنني كما قلت موقفنا نحوها كموقفنا في سائر صفات الله عز وجل إقرار وإمرار ليس كمثله شيء نفى للتشبيه والتمثيل وقوله جل وعلا وهو السميع البصير رد ونفي للنفي والتعطيل فلا تمثيل ولا تعطيل ليس كمثل ربنا شيء وهو السميع البصير.

ص: 20

والدلالة الثالثة في آية الكرسي. وسع كرسيه السماوات والأرض. إخوتي الكرام حول لفظ الكرسي وما بعده كلام طويل كان في نيتي أن أتكلم عليه في هذه الموعظة ولكنني أخشى إذا بحثت فيه ودخلت فيه أن يأخذ الكلام منا أكثر من ربع ساعة ولا أريد أن أضل عليكم إنما نقف عند هذه الدلالة لنتدارسها في الموعظة الآتية إن شاء الله وسع كرسيه السماوات والأرض أطاق واحتمل كرسي ربنا السماوات والأرض هذا الكرسي ما هو وما صلته بالعرش وماذا يترتب من ذلك من عظمة لربنا جل وعلا كما قلت أؤجل الكلام في الموعظة الآتية إن شاء الله.

أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرزقنا خشيته في السر والعلن وأن يرزقنا كلمة الحق في الرضا والغضب وأن يرزقنا القصد في الغنى والفقر إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.

ص: 21