الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القناعة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
القناعة
11
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1) سورة فاطر: 3
(2)
) ) سورة النساء: 1
(3)
) ) آل عمران: 102
أما بعد معشر الأخوة المؤمنين:
إن أشرف البقاع في الأرض وأحبها إلى الله -جل وعلا- - المساجد، فهي بيوته، وفيها نوره وهداه، وقد نعت الله عباده الطيبين الذين يعظمونه في هذه البيوت بأنهم رجال، ثم وصفهم بأربع خصال: لا تلهيهم البيوع ولا التجارات، ويقيمون الصلاة، ويذكرون الله، ويؤتون الزكاة، ويحسنون إلى عباد الله، ثم بعد ذلك يستعدون للقاء الله، ليوم تشخص فيه الأبصار {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (2) .
فالصفة الأولى من صفاتهم: أنهم لا يلتهون بعرض بما فيها من بيوع وتجارات، ولايشغلون بذلك عن طاعة رب الأرض والسموات، وكيف يُشغل هؤلاء الرجال، هؤلاء الأخيار الأبرار بعرض من الدنيا. حقيراً مهين لا يعدل عند الله جناح بعوضة.
إن هؤلاء العباد يعلمون حق العلم أن الرزق مقسوم كما أن العمر محتوم ولا يمكن أن يزاد في شيء منهما ولا ينقص ولذلك استراحت أبدان هؤلاء الرجال وتعلقت قلوبهم بذي العزة والجلال وما قدر لهم سيأتيهم كما أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى حالهم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام الترمذي، وابن ماجه في السنن.
(1)) ) سورة الأحزاب 70، 71
(2)
) ) سورة النور: 36، 37
والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه عن الخليفة الراشد المهدي المهتدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا] والتوكل على الله هو ثقة القلب بالرب وأن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطئه لم يكن ليصيبه فهم تعلقت قلوبهم بالله -جل وعلا- وتبع ذلك راحة الأبدان فمشو في مناكب الأرض وتعرضوا لنفحات الله وفضله دون إرهاق لأبدانهم ودون غم في قلوبهم لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا تذهب في الصباح وهي جياع ضامرة البطون ثم تعود بعد ذلك في المساء إلى أوكارها وقد امتلأت بطونها من فضل ربها تغدو خماصاً وتروح بطاناً عباد الله فهؤلاء الأخيار الذين يعبدون الله في هذه المساجد في بيوت الله في أرضه هؤلاء لا تلهيهم تجارة ولا بيع وكيف يتحقق عدم الإلتهاء بما في الدنيا من البيوع والتجارات يتحقق هذا -إخوتي الكرام- بأمور كثيرة سأجملها في خمسة أمور بعد أن بينت في الموعظة الماضية إلا أن هؤلاء الأخيار لا يلتهون بعرض الدنيا ولا يشتغلون به كيف يتحقق هذا بوجود القناعة في قلوبهم ويتحقق هذا بعدم حب الدنيا والميل إليها ويتحقق هذا بعدم البخل بها بعد إحرازها وحيازتها ويتحقق هذا بعدم الحرص عليها ويتحقق هذا بعد ذلك بأمر خامس أنهم لا يلتهون ولا يشغلون بهذه الدنيا بحال من الأحوال إنما يتقربون في كل وقت إلى ذي العزة والجلال فمن اتصف بذلك فهو حقيقٌ بأن يكون من أهل هذه الآية رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.
أما الأمر الأول وهو القناعة أحسن ما قيل -إخوتي الكرام- في بيان حد القناعة وضبطها أن ترضى بما يكفيك وأن لا تكثر من تطلعاتك وأمانيك فما قدر لك سيأتيك فإذا كنت في كفاية فاحمد الله -جل وعلا- ولا داعي للهم والحُزن والغم والقلق والتطلع إلى مالم يقدر لك وهذه الحالة حالة طيبة إذا وجدت في الإنسان كفاف وقنع به رضي به أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحالة الحسنة الطيبة لهؤلاء العباد الأخيار في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في سنته ورواه ابن ماجه في سننه ورواه البخاري في الأدب المفرد والخطيب في تاريخ بغداد وإسناد الحديث حسن عن عبيد الله بن مِحْصَن ويقال عبد الله بن مِحْصَن والتصغير أصح وهو من الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-.
والحديث رواه ابن حبان في صحيحة والحاكم في مستدركه والخطيب في تاريخ بغداد أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه ورواه ابن أبي الدنيا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين- فالحديث من رواية عبيد الله بن محصن، ومن رواية أبي الدرداء، ومن رواية أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها] والحديث إسناده صحيح كالشمس من أصبح منكم آمنا في سربه أي في نفسه يقال فلان واسع السِرب أي رخى البال هادئ النفس وضبط بفتح السين والراء [من أصبح منكم آمنا في سربه] أي في مذهبه وطريقه ومسلكه آمن في نفسه آمن في طريقه عنده بعد ذلك قوت يومه وعنده صحته وعافيته فقد ملك الدنيا بأسرها [من أصبح منكم آمنا في سِربه آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها] .
نعم إذا كان يأتيك القوت والصحة والأمن ثم أصبحت أخا حُزت فلا فارقك الحزن أنت في نعمة في بدنك تأمن بعد ذلك في طريقك وفي نفسك وأنت بعد ذلك في كفاية وعندك ما يكفيك فلا تحتاج إلى أحدٍ من خلق الله إذاً ينبغي أن تشكر الله على هذه النعمة [من أصبح منكم آمنا في سِرِبه في سَرَبه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها] وهذه الحالة هي التي كان يتطلع إليها نبينا عليه الصلاة والسلام ويسألها الله لنفسه وأهل بيته.
كما ثبت في الصحيحين والحديث في المسند، وسنن الترمذي، وابن ماجه وهو في أعلى درجات الصحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا]-على نبينا وآل بيته والصحابة صلوات الله وسلامه- وفي رواية: [اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً] . والقوت هو مقدار الضرورة، بحيث لا تجوع ولا تفتر. والكفاف هو ما كفك عن سؤال الناس وكان بمقدار كفاتيك وحاجتك، فإذا حصلت هذا فاحمد الله، فقد كان خير خلق الله يسأل ربه هذا، فإن المال إذا زاد وكثر يؤدي إلى البطر، والحاجة إذا لم تتيسر يتشوش البال، فإذا رزقت الكفاف وكان عندك ما يكفيك فاحمد الله واقنع بما قسم الله.
هي القناعة فالزمها تعش ملكا
…
لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
…
هل راح منها بغير القطن والكفن
هذا هو الأمر الأول.
والأمر الثاني من صفتهم: أنهم لا يتعلقون بالدنيا لأن من أحبها صار أسيراً لها وعبداً لها وقد أخبر نبينا – صل الله عليه وسلم- عن هذا، الحقيقة أن من أحب الدنيا سيعرض عن الآخرة ففي مسند الإمام أحمد وبن حيان والحاكم والطبراني في الكبير والبزار في مسنده وإسناده حسن عن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله –صل الله عليه وسلم- يقول: [من أحب دنياه أخر بآخرته من أحب آخرته أخر بدنياه] .
فآثروا ما يبقى على ما يفنى من أحب دنياه أضر آخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فأثروا ما يبقى على ما يفنى إذاً لا يحب هذه الدنيا ولا يتعلق بها ولا يميل إليها، وهذا الحديث -إخوتي الكرام- كما قلت إسناده حسن وقد كان الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- يُحَذِّرون من جاء بعدهم من التابعين من الركون إلى الدنيا والانهماك فيها.
ففي مسند الإمام أحمد أيضاً، لحديث في صحيح ابن حبان، ستدرك الحاكم، عجم الطبراني الكبير، رواه بدل الإمام البزار في الرواية المتقدمة الإمام أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال للتابعين الذين جاءوا بعد الصحابة الطيبين فقال ما أبعد هديكم من هدى نبيكم صلى الله عليه وسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد شيء في الدنيا وأنتم أحرص شيء عليها وهكذا قال العبد الصالح إبراهيم التيمي الذي توفي 92 هـ وهو من أئمة التابعين ومن أهل الخير الطيبين وكان يقول إذا كان الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه أي لا يسارع إلى تكبيرة الإحرام يقول هذا العبد الصالح للتابعين الذين عاصرهم إن من قبلكم كانوا يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم ولهم من المنزلة مالهم وأنتم تقبلون عليها وهي مدبرة عنكم وعندكم من الأحداث ما عندكم فقسموا أمركم من إلى أمر من سبقكم.
إذاً الصفة الثانية من صفاتهم التي يتحقق بها عدم الإلتهاء والاشتغال أنهم لا يحبون هذه الدنيا ولا تسكن في قلوبهم إنما هي عرضٌ بين أيديهم بالإستعانة به على طاعة ربهم -جل وعلا- والصفة الثانية إذا جاءت الدنيا إليهم واكتسبوها من طريق حلال وضعوها في مصارفها الشرعية وما بخلوا بها فما يبخلون بهذا المال والله -جل وعلا- حذرنا من البخل بالمال ومن عدم إعطاء الحق من المال وأخبرنا أن فريقاً من الناس عاهدوا الله أنه إذا جاءتهم الأموال سيخرجون منها ذات اليمين وذات الشمال ثم بخلوا فأعقبهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه قال -جل وعلا- {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (1) فهذا المال ينبغي أن تخرج الحق الواجب منه وأن تنفق منه في سبيل الله في كل جهة ممن بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك وهذا المال إذا أنفقت شيئا منه فهو الذي يبقى لك وما تتركه فلن تملكه [أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك] .
(1)) ) التوبة: 75- 78
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه، والحديث في سنن الترمذي، وابن ماجه من رواية عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله [ألهاكم التكاثر] ثم قال: النبي صلى الله عليه وسلم: [يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت أي أمضيته وقدمته بين يديك ليبقى عند ربك -جل وعلا- أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فأنت ذاهبٌ وتاركه] .
وفي رواية في المسند وصحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول العبد مالي. مالي وهل له من ماله إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فأقنى _ أي اتخذه قنية له ومُدّخراً له عند الله -جل وعلا- ليس لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت. أمضيته ليكون بين يديك لتجده عند ربك -جلا وعلا- ليس لك من مالك إلا ما أعطيته لمن يستحقه في هذه الحياة في سبيل الله وتقرباً إليه ليكون لك قِنية مُدّخراً عند الله -جل وعلا- عباد الله فهؤلاء لا يبخلون وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزل ملكان في كل يومٍ تطلع فيه الشمس فيدعوان للمنفق بالخَلَف وللمسك بالتلف ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينزل ملكان من السماء فيناديان فيقولان اللهم أعطي ممسكاً تلفا ويقول الآخر اللهم أعطي منفقاً خلفا] .
والحديث -إخوتي الكرام- رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والإمام البيهقي من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان فيقولان يا أيها الناس هلموا إلى ربكم ما قل وكفى خيرٌ مما كثير وألهى وما من يوم تغرب فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان اللهم عجّل لمنفق خلفا وعجّل لممسك تلفا ولذلك خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم إمساك المال والبخل به والشح به وعدم الإنفاق منه ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح بن حبان، ومستدرك الحاكم، والحديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا أخشى عليكم الفقر إنما أخشى عليكم التكاثر] أن تتكاثر في الأموال وإلا تخرجوا منها في سبيل ذي العزة والجلال لا أخشى عليكم الفقر إنما أخشى عليكم التكاثر [ولا أخشى عليكم الخطأ إنما أخشى عليكم التعمد] فهؤلاء العباد يقنعون ولا يحبون هذا المال ولا يتعلقون به ولا يبخلون به إذا صار عندهم وهم كذلك لا يحرصون عليه فالحرص على المال يذهب دين الإنسان ويجعل الإنسان عبداً لهذا المال لهذا العرض الفاني الذي لا يسوى عند الله جناح بعوضة وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن أثر الحرص على المال وما يخلفه هذا الأثر من آثار سيئة في نفس الإنسان ففي مسند الإمام أحمد، والحديث رواه الترمذي في سننه، والإمام الدارمي في مسنده من رواية كعب بن مالك رضي الله عنه، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية، وابن حبان في صحيحه من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين-، وروى الحديث من عدة من الصحابة الكرام روى عن ابن عباس، وعن ابن عمر، وعن أسامة بن زيد، وعن أبي سعيد الخدري، وعن عاصم بن عدي رضي الله عنهم أجمعين- ولفظ الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما
ذئبان جائعان ضاريان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه] ومعنى الحديث إذا حَرِص الإنسان على المال وعلى الشرف وهو الجاه والمنزلة بين الناس من يجعل هذا همه في الحياة يفسد دينه أشد من إفساد الذئبين الضاريين الجائعين في زريبة الغنم ما ذئبان جائعان ضاريان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه] ، أي الجاه والمنزلة لدينه فمن حرص على هذا يفسد دينه وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحريص على المال الذي يتفانى في جمعه ويعبده سماه عبدً له.
ثبت في صحيح البخاري وسنن ابن ماجه والحديث صحيح صحيح فهو في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، ولم يقل تعس مالك المال ولم يقل تعس جامع المال ليس في ملك المال منقصة وليس في جمع المال منقصة وليس في إحراز المال منقصة إنما المنقصة أن تكون أسيراً له أن تكون عبداً له ألا تتصرف إلا من أجل هذا المال وهذا الريال تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة وهي الثياب الحسنة المزركشة الملونة تعس بمعنى سقط بمعنى هلك بمعنى بَعُد بمعنى أصابه شر بفتح العين وكسرها وتعس تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس أي عاوده السقوط مرة بعد أخرى تعس وانتكس سقط على رأسه بعد أن يسقط في أول الأمر سقوطاً عادياً يدعوا عليه بهذه الأمور الشنيعة التي تناسب حال هذا العبد الذي جعل نفسه عرضاً لمال حقير ليس له عند الله أي وزن وتقدير تعس عبد الدينار عبد الدرهم عبد الخميصة تعس وانتكس سقط مرة بعد أخرى سقط على رأسه بعد أن سقط سقوطاً عادياً وإذا شيك فلا انتقش أي إذا دخلت شوكة في بدنه دعى عليه من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام ألا يتسهل عليه إخراج هذه الشوكة بالمنقاش بالملقط الذي تُخْرَج به هذه الشوكة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش هذا عبدٌ ذليل حقير وضع نفسه عندما عبد المال من دون ذي العزة والجلال تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وإذا دُعي عليه بألا تخرج الشوكة من بدنه إذا دخلت فيه فإن الدعاء لما هو أعظم من باب أولى أي هذا الأمر اليسير إن أصابه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ألا يخرج هذا الأمر اليسير من بدن عابد الدنيا وعابد المال ومحب المال وإذا وقع في ورطة أخرى فهذا من باب أولى لا يخرج منها ولا يتيسر الفرج عنه تعس وانتكس وإذا شيك فلا نتقش.
والحديث رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ لعن عبد الدينار وعبد الدرهم. وتقدم معنا حديث: [الدنيا ملعونة ملعون كل ما فيها إلا ما كان لله منها] . فهؤلاء إذا لا يحرصون على هذا المال ولا يكونون عبيد له وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن كثيراً من أفراد هذه الأمة سيهلكهم الدرهم والدينار وسيبعدهم جمع الريال عن ذي العزة والجلال ثبت الحديث بذلك في معجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، وإسناده صحيح جيد عن عبد الله بن مسعود، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن ابن موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار وهما مهلكاكم] .
وفي رواية مسند البزار أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما كان أميراً على الكوفة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين- فجاءه بعض الناس فأعطاه عطائه في الشهر ألف درهم ثم قال له خذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار وهما مهلكاكم] فهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض لا تلهيهم تجارة ولا بيع. لا يلهيهم عرض الدنيا فيقنعون بما قسم الحي القيوم ولا يحبون الدنيا ولا يبخلون بها ولا يحرصون عليها وآخر الصفات فيهم، أن هذه الدنيا إذا جاءتهم لا تشغلهم عن الله -جل وعلا- في حالٍ من الأحوال ويتقربون بهذا المال إلى ذي العزة والجلال فقلوبهم مع الله وهي واثقة بأن ما قُسم لهم سيأتيهم ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، وابن ماجه، والحديث رواه الحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه، ورواه البيهقي في الزهد وإسناده صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فتلا قول الله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيب} (1) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: [ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غناً وأسُد فقرك وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك] . فهذه الدنيا لا تلهيهم عن الله طرفة عين في حالٍ من الأحوال.
(1)) ) الشورى: 20
والحديث رواه الحاكم في مستدركه، والإمام الطبراني في معجمه الكبير عن معقل بن يسار عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: قال الرب عز وجل: [ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأملأ يديك رزقاً وإلا تفعل ملأت صدرك فقراً وملأت يديك شغلاً] فيتعب وهو فقير القلب، ينصب وكلما حصل عرضاً من الدنيا كلما ازداد حرصاً وجشعاً وطمعاً ومحب الدنيا كمن يشرب من البحر. كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً والغنى غنى النفس فهؤلاء العباد إذا جاءتهم هذه الدنيا لا تلهيهم عن الله -جل وعلا- وقلوبهم متعلقة بالله وإذا حلت الدنيا في أيديهم أنفقوا من جميع جهاتهم.
كما ثبت في المسند والصحيحين والحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه من رواية أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا أي عن يمينه وعن شماله ومن خلفه كما وضح هذا نبينا صلى الله عليه وسلم والحديث روى عن ابن عباس وابن مسعود وعن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين- بزيادة الجهة الأمامية إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وأنفق من جميع جهاته فمن فعل في المال هذا الفعل فقد حقق قول الله -جل وعلا- (لا تلهيهم تجارة ولا بيع) .
وخلاصة الكلام -إخوتي الكرام- هؤلاء العباد عباد الرحمن الذين يكونوا في بيوت ذي الجلال والإكرام يقنعون بما قسم لهم ولا يحبون الدنيا ولا يبخلون بها ولا يحرصون عليها وإذا جاءتهم لا تشغلهم عن الله طرفة عين وينفقون منها في جميع جهاتهم أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرزقنا من فضله وأن يجعل ذلك عوناً على طاعته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه المباركين وأرض اللهم عمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
إذا امتدت الحياة بالأمة الإسلامية تبتعد عن الفهم السليم الذي ينبغي أن تتحلى به في كل حين وليست المشكلة عند المسلمين في إثبات النص ووجوده والعثور عليه ومعرفته إنما المشكلة تكون في فهم ذلك النص وتدبيره ومعرفة ما يراد به وحقيقة مما يُزعج الآذان ما سمعته في كثير من البلدان وآخر السماع ما نقل لي بعض -الأخوة الكرام- من أيام أن بعض طلبة العلم يوردون شيئاً من الشبه في الفهم حول بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الشبه تتعلق بموضوع الذهاب إلى بيت من بيوت الله لسماع موعظة ولحضور درس فقال هؤلاء المتفقهون الجدد إن هذا يكون من باب شد الرّحل.. فإذا خرج الإنسان من حي إلى حي ليصلي في ذلك الحي وليسمع هناك خطبة أو موعظة أو يحضر درساً فقد شد الرّحل إلى غير المساجد التي أمرنا بشد الرحال إليها وهذا حرم لا يجوز وأن أعجب غاية العجب أن تنعكس المفاهيم وأن تُقلب الموازين في هذا الحين في هذا العصر الذي نعيش فيه فنجعل القربة والطاعة معصية (إنا لله وإنا إليه راجعون) .
إخوتي الكرام: نعم نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن شد الرحال إلى مسجد من المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد ثبت في المسند، والحديث في الصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه فهو في الكتب الستة مع المسند إلا سنن الإمام الترمذي من رواية أبي هريرة.
والحديث في المسند، والصحيحين أيضاً، وسنن الترمذي، وابن ماجه من رواية أبي سعيد الخدري قال أبو هريرة وأبو سعيد رضي الله عنهم أجمعين-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تشد الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى] ومعنى الحديث حسبما قرر أئمتنا وما ينبغي أن يختلف اثنان في هذا الفهم لا تشد الرّحال إلى مسجد في الأرض من أجل مضاعفة الصلاة فيه وحصول الخير الكثير فيه والبركة فيه إلا لهذه المساجد الثلاثة فالمسجد الحرام الصلاة تضاعف فيه بمائة ألف ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام بألف صلاة والمسجد الأقصى بخمس مائة صلاة والمساجد الأخرى بعد ذلك تستوي في الفضيلة فليس إذا من المشروع إذا أردت أن تصلي الظهر في مسجد حيك وتترك هذا المسجد وتشد الرحل إلى مسافة مائة كيلو أو مائتين كيلو في حيٍ آخر من أجل حضور الصلاة فقط فالصلاة في هذا المسجد تعدل الصلاة في ذلك المسجد.
هذا معنى الحديث ولا يفهم منه إلا هذا وأما أن تشد الرّحل بعد ذلك لزيارة أخ في الله في مكان من الأمكنة أو أن تشد الرحل إلى مسجد من المساجد وبيت من بيوت الله لتحضر فيه موعظةً درس علم تتلقى فيه حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فهذا من القربة والطاعة وأنت ما شددت الرّحل إلى المكان إنما شددت الرّحل لما سيكون في ذلك المكان وشتان شتان بين الأمرين أنت ما شددت الرحل من أجل تعظيم تلك البقعة وأن لها ميزة خاصة على البقعة التي بجوارك إنما شددت الرحل وركبت الدابة ووسيلة السفر من أجل أن تُحِّصل طاعة وفائدة وعلم لا يكون في جهتك فهذا قربة وكان سلفنا الكرام -رضوان الله عليهم- يتنافسون فيه وقد قص الله علينا في كتابه في سورة الكهف قصة نبي الله وكليمه -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- كيف ذهب مع العبد الصالح الخضر قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (1) وشد الحل إليه مع غلامه وتذود مع غلامه ويمشي مسافة بعيدة للقاء هذا العبد الصالح وبعد ذلك تبعه من أجل أن يتعلم منه وقصته طويلة مذكورة في القرآن الكريم ومع ذلك ودَّ نبينا عليه الصلاة والسلام لو أن نبي الله موسى -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- صبر ليقُص علينا من أمره مع هذا العبد الصالح العجب والعجائب والحديث ثابت في صحيح البخاري وغيره فالرحلة لأجل درس وموعظة وزيارة أخٍ وصلة رحم هذه مشروعة تثاب عليها لا يَصْلُح بحال أن تستدل بهذا الحديث على تحريمها وإذا كان من يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فليتبوأ مقعده من النار له هذا الجزاء فليوطن نفسه على هذه العقوبة من يُحَمِّل كلام النبي عليه الصلاة والسلام ما لا يحتمله وإذا لم تكن من أهل الإستدلال والنظر فقف عند حدك ولا داعي للتطاول وأنا أقول لهذا الصنف الذي كثر في بلاد المسلمين ويستدل بحديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام على ما لا
(1)) ) الكهف: 66
يدل عليه أقول لمن يتشككون في هذا الأمر أرجعوا إلى كتاب من كتب أئمتنا لحافظ الدنيا في زمانه الإمام الخطيب البغدادي الذي توفي سنة 463هـ ألف كتاب سماه الرحلة في طلب الحديث ولا يقصد بالرحلة الترغيب في الرحلة فهذا معلوم من الدين بالضرورة إنما قرر في هذا الكتاب من رحل من الصحابة الكرام فمن بعدهم في طلب حديث واحد. أما أنهم رحل في طلب العلم وفي طلب أكثر من حديث فهؤلاء لا يحصون كتابا بكامله رحل عدد من سلف الكرام منهم جابر بن عبد الله وغيره رضي الله عنهم أجمعين- كما في هذا الكتاب من أجل طلب حديث واحد يشد رحله من بلاد العراق إلى مصر من المدينة المنورة إلى مصر من أجل أن يلتقي بالصحابي الذي حمل الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام ليسمعه منه مباشرة لئلا يأخذه عنه بواسطة مسافات في تلك العصور وفي ذلك تعب كثير ثم إذا سمع الحديث يَكُّر راجعاً فلا يستقر في ذلك المكان ولا لأجل تناول ضيافة حديث واحد – الرحلة في طلب الحديث. ولذلك قال أئمتنا كما هذا هو نظم الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثري عليه رحمة الله في منظومته في قواعد علوم الحديث والمصطلح يقول:
وأخلص النية في طلبك
…
وجدّ وأبدأ بعوالي مصرك
وما يَهمُ ثم شد الرحل
…
لغيره ولا تساهل حملا
واعمل بما تسمع في الفضائل
…
والشيخ بجله ولا تتثاقل
عليه تطويلا بحيث يضجر
…
ولا تكن يمنعك التكبر
أو الحيا عن طلب واحتسب
…
كتم السمع فهو لئم
هذا هو ما يقرره أئمتنا وهذا هو الأدب والفهم والحكمة التي كانت عند سلفنا فيأتيك إنسان في هذه الأيام فيقول ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشد الرحال إلى المساجد الثلاثة وأنتم تتمرحون من حي إلى حي لسماع موعظة أو درس فقد شددخم الرحل سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم على هذا الفهم السقيم إذا ما كان هذا الإنسان عالماً أو طالب علم ألا سكت واستحى شفاء الجاهل السؤال إلا أن يتطاول ويعد نفسه من أهل الاستدلال نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يبصرنا بعواقب أمورنا اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
الدعاء..