المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حياة الأنبياء في البرزخ - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ٨٨

[عبد الرحيم الطحان]

الفصل: ‌حياة الأنبياء في البرزخ

‌حياة الأنبياء في البرزخ

(من خطب الجمعة)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

بسم الله الرحمن الرحيم

حياة الأنبياء في البرزخ

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .

{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .

أما بعد: معشر الأخوة الكرام..

تقدم معنا أن أسباب سوء الخاتمة كثيرة متعددة، نسأل الله تعالى حسن الخاتمة بفضله ورحمته، وقلت إن هذه الأسباب مع كثرتها وتعددها يمكن أن ترجع إلى سببين اثنين.

ص: 1

أولها: الأمن على الإيمان من الذهاب والفقدان، فمن أمن على إيمانه أن يسلبه سلبه عند موته،

والسبب الثاني: من أسباب سوء الخاتمة اغترار الإنسان بحالته الحاضرة والغفلة عما فيه من بليات مهلكة مدمرة والعجب بما يصدر عنه من طاعات ناقصة قاصرة،

والبليات التي في الإنسان وتوجب له سوء الخاتمة عند فراق هذه الدار كثيرة يمكن أن تجمل في ثلاث بلايا.

1-

البلية الأولى النفاق.

2-

والبلية الثانية البدعة.

3-

والبلية الثالثة الركون إلى الدنيا.

وقد تقدم معنا ما يتلعق بالنفاق وما قبله وشرعنا إخوتي الكرام في مدارسة ما يتعلق بالبدعة وقلت سنتدارسها ضمن ثلاث مراحل.

1 – المرحلة الأولى في تعريف البدعة.

2-

المرحلة الثانية في النصوص المنفرة المحذرة من البدعة.

3-

والمرحلة الثالثة في أقسام البدعة.

ولازلنا نتدارس المبحث الأول من هذه المباحث الثلاثة في تعريف البدعة، وقد مضى معنا تعريف البدعة فقلت إن البدعة هي الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان إذا لم تشهد لذلك نصوص الشرع الحسان، مع زعم المحدث لم أحدثه بأنه يتقرب به إلى الرحمن، هذا هو حد البدعة ورسمها، وعند هذا الحد والتعريف والضابط تعرضت لأمر ينبغي أن نعيه دائماَ لا سيما في هذا الوقت، ألا وهو انحراف كثير من الناس، وفريق أيضاً قصروا وفرطوا وقالوا لا بدعة في الدين، فابتدعوا في الشرح ما لم يأذن به رب العالمين.

ص: 2

وكل من الفريقين على ضلال، ودين الله بين الغالي والجافي ولا إفراط ولا تفريط، وكنا نناقش بعض ما زعمه بعض الناس من أنه بدعة ولا ينطبق عليه مفهوم البدعة وحدها ورسمها، وقلت مراراً إخوتي الكرام كل ما احتمله الدليل وقال به إمامٌ جليلٌ فلا يجوز أن نحكم عليه بأنه بدعة في شرع اللطيف الخبير، وضربت لذلك أمثلة، وقلت إن أهل الشطط في هذه الأيام وسَّعوا مفهوم البدعة فما احتمله الدليل وقال به إمامٌ جليل قالوا إنه بدعة بل ما صرح به الدليل وما راق لعقلهم الهزيل قالوا إنه بدعة، وضربت لذلك أمثلة إخوتي الكرام فيما مر.

وكنا نتدارس قضية من القضايا حكم عليها بالبدعة، سأكملها في هذه الموعظة.

تقدم معنا إخوتي الكرام ما يتعلق بقراءة القرآن على القبور وما يتعلق بتلقين الميت، وما يتعلق بالقضية الثالثة ألا وهي أن الموتى يحسّون بما يجري حولهم ويعلمون ويشعرون بمن يزورهم ويسمعون ما يقال حولهم وعندهم، وتعرض عليهم أعمال قرابائهم بعدهم، ويتزاورون فيما بينهم.

تقدم معنا تقرير هذا بأدلته وفصلت الأدلة على ذلك وأجملها في هذه الموعظة مختصرة، فقلت صرح نبينا صلى الله عليه وسلم بذلك كما تقدمت معنا الأحاديث وأذن فما بزيارة القبور، ولا يمكن أن نزور جماداً لا يعي ولا يسمع ولا يشعر ولا يحس، وقد صرح النبي عليه الصلاة والسلام بأن الميت يعرف من زاره ويرد عليه سلامه.

والأمر الثالث: قلت ما شرع لنا من سلام نقوله على الأموات هذا يكون في حال مخاطبة من يعقل ويسمع ويدرك ويشعر، ويتنزه الشرع الحكيم أن نخاطب جماداً بهذا الألفاظ، السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين.

هذه القضية إخوتي الكرام كما تقدمت معنا دلت عليها النصوص الشرعية، ووجد في هذا العصر من يقول: (إن القول بأن الموتى يسمعون ويشعرون ويحسون ويعلمون بمن زارهم " بدعة وتحريف " سبحان ربي العظيم،

ص: 3

إخوتي الكرام: إن المؤمنين بعد موتهم في حياة برزخية، والحياة البرزخية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا رب البرية، نعم نحن نثبت ما أثبتته النصوص الشرعية وردت به الآثار السلفيلة، ونفوض العلم بالكيفية إلى رب البرية جل وعلا.

وتقدم معنا أن الآثار دلت على ما تقدم فينبغي أن نقول بذلك، فهذا من باب الإيمان بالغيب، وإدخال العقل في مسائل الغيب من أشنع العيب، وإن هذا تطاول على الرب جل وعلا، فإذا أخبرنا من لا ينطق عن الهوى نبينا فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بهذه القضية وأن الأموات يسمعون ويشعرون بمن يزورهم ويردِّدون عليه السلام فلا كلام لمتكلم بعد كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.

إخوتي الكرام: وهذا الأمر إذا ثبت للمؤمنين فهو ثابت عن طريق أكمل والحياة الأفضل للنبيين ولنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم من ذلك قسط عظيم، يتناسب بمقامه عند رب العالمين.

وسنتداري في هذه الموعظة أمرين اثنين يتعلقان بهذا المبحث.

الأمر الأول: فيما يتعلق بأحوال أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام في البرزخ وفي أن ما ثبت للمؤمنين يثبت لهم عن طريق الأكمل والحياة الأفضل، ثم أختم هذه الموعظة بدفع إشكال تعلق به أهل الفهم المعكوس وأكثروا بفهمهم المعكوس من الشغب حول ما ثبت من النصوص.

ص: 4

إخوتي الكرام: أما ما يتعلق بالقضية الأولى، فإذا كان المؤمنون كما تقدم معنا يحسُّون في حياتهم البرزخية ويشعرون بمن زارهم ويسمعون الكلام الذي يقال عندهم، وتعرض عليهم أعمال قرابائهم بعدهم، ويتزاورون فيما بينهم فإن هذا ثابت عن طريق الأكمل والأفضل والأثم والأحسن لأنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه، وقد خصهم الله تعالى بخصائص كثيرة في الحياة البرزخية كما خصهم في الحياة الدنيوية، فمن ذلك أن أبدانهم الشريفة الطاهرة الطيبة المباركة لا تفنى ولا يمكن لأرضٍ أن تأكل بدن نبي، وأما من عداهم فالأصل أن تأكل أبدانهم، وإذا أراد الله أن يكرم ولياً من أوليائه وصالحات عباده بعدم تسليط الأرض على بدنه فهو على شيءٍ قدير، أما الأنبياء، فالأرض لا تأكل أبدانهم باتفاق.

وقد ثبت هذا عن من لا ينطق عن الهوى عن نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي والحديث رواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وإسناده صحيحٌ كالشمس، صححه شيخ الإسلام الإمام النووي وهكذا الإمام المنذري والسيوطي وغيرهم من أئمة المسلمين الجهابذة المحدثين ولفظ الحديث عن أوس بن أوس قال سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول:[إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، وفيه تقوم الساعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه.. على نبينا صلوات الله وسلامه.. فإن صلاتكم معروضة عليَّ، قالوا وكيف تعرض عليك صلواتنا يا رسول الله وقد أرمت؟] أي بليت وتفتتت عظامك وبلي جسدك الشريف، وقد أرمَّت: أي أرمَّت عظامك وبليت، وقد أرمَّت أي منك العظام وتفتتت، [قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء] .

ص: 5

وقد تقد معنا إخوتي الكرام ما يتعلق بهذا الحديث من قصة وقعت في القرن السادس الهجري مع ليث الملوك وتقيهم العبد الصالح نور الدين الشهيد محمود زنكي المتوفي 569هـ، تقدم معنا قصة طريقة ضمن مباحث النبوة، خلاصتها أنه عند ما جاء ما بعض النصارى واستوطنوا المدينة المنورة وأظهروا الإسلام وهم يبطنون الكفر ثم بدؤوا بعد ذلك يحفرون من مكان قريب من جوار مسجد نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم ليصلوا من تحت الأرض في سرداب إلى بدنه الطاهر المبارك فظهر النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا لهذا الملك العادل الصالح تقي الملوك وليثهم نور الدين الشهيد وقال له يا محمود أنقذني خلّصني من هذين ويشير إلى رجلين بعلامات عرفها هذا العبد الصالح، وكان أميراً في بلاد الشام، ورأى هذه الرؤيا ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول أنقذني ثم نام وهو فزع لا يعلم المراد فرأى النبي عليه الصلاة والسلام ثانية ويقول خلصني من هذين ثم نام الثالثة وهو فزع ولا يعلم المراد فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول خلصني من هذين، فجمع الشيوخ في وسط الليل وما طلع الفجر، وعرض عليهم ما رآه وقالوا: طرأ طارئ في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه فينبغي أن تركب لتتحقق من الخبر، فما طلع الفجر ولا أذن الصبح، فركب خيله وسار الجيش معه حتى وصل إلى المدينة المنورة، وأمر بأن يحضر جميع أهل المدينة للقائه، فلم ير الصفة التي رآها في النوم في الرجلين اللذين يطلب نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الأمير الصالح أن يخلصه منها، فقال: هل بقي من أحد: قالوا: رجلان مجاوران فقيران مسكينان، قالوا: عليَّ بهما، فلما دخلا أشار إلى صاحبه، فقبض عليهما، ثم حقق معهما، وقد استأجرا داراً قرب مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، ويحفران من الداخل وينقلان التراب في الليل إلى البقيع، ليصلا إلى جسد نبينا الحبيب الشفيع عليه صلوات الله وسلامه، فضرب رقابهما وكرَّ

ص: 6

راجعاً إلى بلاد الشام، رحمة الله ورضوانه عليه، [إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء] .

نعم إخوتي الكرام الأرض لا تأكل أبدانهم وخصَّهم الله بخصائص في عالم البرزخ، فهم يصلون في قبورهم ويعبدون ربهم سبحانه وتعالى، لأن أعظم نعيم يتنعم به الإنسان في كل حين ذكر رب العالمين، ولذلك يعطي الله أنبياءه التلذذ بذكره في عالم البرزخ كم يعطي ذلك من شاء وأحب من عباده، وأما من دخل الجنة فيتلذذون بذكر الله بعدد أنفاسهم، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس، فهذه أعظم لذة يتلذذ بها المتلذذون ذكر الحي القيوم، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} ، فقرة العين تكون عند مناجاة رب الكوْنين، فكيف يحرم الله أنبياءه منها؟.

وقد ثبت هذا في عن نبينا عليه الصلاة والسلام ففي مسند أبي يعلى والبزار وقال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع، إسناد الحديث رجاله ثقات، والحديث رواه البيهقي في كتاب حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورواه ابن عدي وابن عساكر والإمام أبو نعيم في تاريخ أصبهان ورواه ابن مندة، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، من رواية أنس ابن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون] .

نعم كيف يحرمون هذه اللذة التي يناجون بها الحي القيوم، وفي حديث الإسرار الثابت في مسند أحمد وصحيح مسلم وسنن النسائي ورواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه فهو في صحيح مسلم من رواية أنس بن مالك أيضاً عن النبي قال:[مررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائمٌ يصلي في قبره] على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فأبدانهم لا تأكلها الأرض، وهم أحياء بين يدي الله تعالى، يصلون له ويعبدونه ويتلذذون بعبادته في عالم البرزخ، كما كانوا يتلذذون بعبادته في عالم الحياة الدنيا.

ص: 7

إخوتي الكرام: وهذا الذي يحصل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد كرم الله به بعض أوليائه وهو الفعال لما يشاء، قد أكرم الله كثيراً من الصالحين في هذه الأمة بهذا فكانوا يصلون في قبورهم وتسمع قراءة القرآن من قبورهم إذا مر الإنسان بجوارهم ثبت في كتاب الزهد للإمام أحمد بن حنبل، والأثر رواه ابن سعد في الطبقات وابن أبي شيبة في مصنفه، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية أيضاً ورواه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير في تهذيب الآثار والإمام الفسوي في المعرفة والتاريخ عن التابعي الجليل تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ألا وهو ثابت البناني من مفاتيح الخير ومن العلماء الربانيين وممن يستشفى بذكرهم وتتنوّر القلوب بطلعتهم ثابت بن أسلم البناني توفي سنة بضع وعشرين بعد المائة من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام قيل 123هـ وقيل 127هـ وأحاديثه في الكتب الستة، شيخ الإسلام ثابت بن أسلم البناني قال مرة لحميد الطويل: يا حميد أتعلم أن الله أعطى أحدا الصلاة في قبره غير الأنبياء والمرسلين؟ قال ما أعلم ما بلغني هذا، فقال ثابت بن أسلم (اللهم إني أسألك إن أعطيت أحداً من خلقك الصلاة في قبره أن تعطيني ذلك) وكان يدعو بذلك ويلهج به، فلما قبض ودفن بالبصرة ما مر أحدٌ بجوار قبره إلا سمع قراءة القرآن من قبر هذا العبد الصالح شيخ الإسلام ثابت ابن أسلم البناني.

ص: 8

وهذا الأمر إخوتي الكرام وقع في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعرض عليه فأقره، فاستمعوا له، ثبت في سنن الترمذي والحديث رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنهما، والأمر اختلف حكم الترمذي عليه حسب اختلاف الطبعات التي بين أيدينا، ففي بعض الطبعات " حسنٌ غريب " وفي بعضها " غريب " وفيه يحيى بن عمرو النُكري وهو من رجال الترمذي فقط، وقد حكم عليه الحافظ ابن حجر بأنه ضعيف لكن الإمام النووي (1)(1) في دلائل النبوة بعد أن رواه وقال انفرد به يحيى بن عمرو النكري قال يشهد له أثر عبد الله ابن مسعود، وسأبين ما يشهد له من أثر عبد الله بن مسعود ومن غيره ما هو مرفوع إلى نبينا المحمود صلى الله عليه وسلم ولفظ الحديث في سنن الترمذي ودلائل النبوة للإمام البيهقي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (ضرب رجل خباءه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام على قبرٍ وهو لا يحسب لا يحسب أنه قبر، هو في سفر، فضرب خباءه: أي خيمته ليستريح، وإذا هذا الخباء قد نصب على قبر وهو لا يدري – من قبور الصحابة الذين كانوا يتوفون في بلاد المسلمين وأمصار المسلمين بين مكة والمدينة.

يقول عبد الله ابن عباس فلما ضرب خباءه ونزل سمع قراءة قرآن من القبر، فأصغى وإذا بقارئ يقرأ سورة الملك {تبارك الذي بيده الملك

} فحوَّل خباءه وأصغى واستمع له يقرأ سورة الملك بصوت واضح مفهوم، فلما ذهب إلى المدينة المنورة عرض هذا الصحابي على النبي صلى الله عليه وسلم ما حصل له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم[هي المانعة وهي المنجية تنجي من عذاب القبر] هي المانعة هي المنجية تنجيه (سورة الملك) من عذاب القبر.

(1) - لعله البيهقي

ص: 9

والحديث كما قلت إخوتي الكرام فيه يحيى بن عمرو النكري لكن القسم المرفوع منه ثبت ما يشهد له مرفوعاً وموقوفاً ما له حكم الرفع في آثار كثيرة صحيحة ثابتة شهيرة منها ما ثبت في المسند والسنن الأربعة والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك ورواه البيهقي في شعب الإيمان وابن الضريس في فضائل القرآن ورواه ابن مردويه في تفسيره وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجلٍ حتى غفر الله له، هي سورة الملك] وكما قلت الحديث صحيح، وثبت أيضاً مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أخرى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، روى ذلك الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والصغير وإسناده صحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع والحديث رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة ورواه الإمام ابن مردويه في تفسيره، وهو حديث صحيح أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية خاصمت عن صاحبها حتى أدخله الله الجنة، هي سورة الملك] .

فقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية المتقدمة هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر، وهذا المعنى صحيح، ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم وأن سورة الملك لها هذه الخصيصة العظيمة الجليلة بأن من واظب على قراءتها لاسيما كما سيأتينا في كل ليلة وعمل بموجبها وفهم معناها تنجيه بفضل الله جل وعلا من عذاب القبر ويدفع عنه عذاب القبر بسببها.

هذان الحديثين صحيحان مرفوعان إلى نبينا عليه الصلاة والسلام يشهدان لرواية عبد الله ابن عباس المتقدمة.

ص: 10

وكما قلت روي الأثر موقوفاً كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام الإمام البيهقي وروي الأثر موقوفاً عن عبد الله ابن مسعود في معجم الطبراني الكبير والأوسط وسنن النسائي وتفسير ابن مردوية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال كنا نسميِّ سورة الملك على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام بالمانعة تمنع عذاب القبر، مَنْ قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب، هي المانعة تمنع عذاب القبر، والأثر بإسناده صحيح عن عبد الله بن مسعود، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وثبت في معجم الطبراني الكبير ومستدرك الحاكم وشعب الإيمان للإمام البيهقي ودلائل النبوة له، وهو الأثر الذي ذكره بعد أثر عبد الله بن عباس وقال يشهد له، والأثر رواه ابن مردوية في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال (يؤتى بالرجل في قبره من قبل رجليه: أي تأتي ملائكة العذاب لتباشر تعذيبه من قبل رجليه، فتأتي سورة الملك فتقول: إليكم عنه، فليس إليه سبيل فقد هاتان الرجلان تقومان عند قراءة سورة الملك عند قراءته في الليل، ثم تأتي الملائكة من قبل صدر هذا الإنسان المقبور، فيقال إليكم عنه فإنه كان يقرأ به: أي بصدره سورة الملك، فتأتي من قبل رأسه، وهكذا من سائر جوانبه، فيقال إليك عنه وليس لك إليه سبيل من هذه الجهة إنه كان يقرأ سورة الملك.

قال عبد الله ابن مسعود، هي المانعة تمنع عذاب القبر، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب

) .

إذاً هذه كرامة يمكن أن يكرم الله بها غير أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فيكن لكثير من الصالحين أن يصلوا في قبورهم وأن يتلذذون بذكره جل وعلا.

ص: 11

إخوتي الكرام: وبالنسبة لسورة الملك يستحب للإنسان أن يقرأها في كل ليلة والذي أدركت عله الشيوخ الصالحين أنهم يوصون تلاميذهم وأصحابهم بقراءتها في كل ليلة وهذا كما قلت مأثورٌ عن الصحابة الكرام، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، سورة الملك شيخ الإسلام الإمام ابن رجب الحنبلي في كتاب أهوال القبور صـ 68 (إن الله جل وعلا قد يكرم في البرزخ بعض عباده وأحبابه وأوليائه بالصلاة وقراءة القرآن وليس هذا من باب العبادة التي يثاب عليها الإنسان فالثواب قد انقطع لهذا الإنسان بواسطة عمله لأن عمله انقطع في دار التكليف، فهذا نعيم كما أنه يجعل قبورهم من رياض الجنة يتلذذون حتى يبعثون، أيضاً يجعلهم يتنعمون بالصلاة وبذكر الله جل وعلا حتى يلاقوا ربهم، فهذا من باب النعيم، لا من باب العبادة التي يقومون بها ويثابون عليها كما هو الحال في الحياة الدنيا) .

هذا كما قلت إخوتي الكرام يذكره شيخ الإسلام الإمام ابن رجب الحنبلي توفي سنة 795هـ، هو من تلاميذ الإمام ابن القيم رحمه الله.

إذاً الأنبياء على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه لا تأكل الأرض أبدانهم وهم أحياء في قبورهم يصلون ويعبدون الحي القيوم.

نعم إخوتي الكرام: وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن سلامنا وصلاتنا عليه صلى الله عليه وسلم تبلغانه، يبلغه سلامنا وصلاتنا، ويرد علينا أينما صلينا عليه وسلمنا عليه صلوات الله وسلامه، والأحاديث في ذلك صحيحة كثيرة متواترة أقتصر على ثلاث منها.

ص: 12

ثبت في المسند وسنن أبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تجعلوا بيوتكم قبوراً] : أي لا يقبر الإنسان في البيت الذي يسكن فيه فهذا منهي عنه، يقبر في المقبرة، ومن خصائص الأنبياء أنهم يُقبرون حيث يموتون، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً معطلة من العبادة وقراءة القرآن، فأكثروا فيها من قراءة القرآن لئلا يكون حالكم فيها كحال الأموات الذين انقطعت أعمالهم، [لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم] وهذه الصلاة إذا بلغت نبينا خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه فهو يردَّ عليها ويسلم علينا، كما أننا إذا سلمنا على الأموات يردِّدون علينا السلام فنبينا عليه الصلاة والسلام يسمعنا من باب أولى ويردَّ من بابٍ أولى.

ثبت هذا في المسند أيضاً وسنن أبي داود والسنن الكبرى للإمام البيهقي وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [ما من أحدٍ من أمتي يسلم عليَّ إلا بلغتني صلاته ورددت عليه] والحديث كما قلت أيضاً إسناده صحيح، وروى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط بسندٍ لا بأس به كما قال شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب من رواية أنسٍ ابن مالكٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [من صلى عليَّ بلغتني صلاته وصلَّيت عليه وكتب الله له عشر حسنات سوى ذلك] .

إذاً أيضاً هذا يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعرف من يسلم ويصلي عليه صلى الله عليه وسلم ويرد عليه السلام والصلاة.

ص: 13

نعم إخوتي الكرام وهكذا تُعرض أعمالنا على نبينا عليه الصلاة والسلام في كل يوم مرتين في الغداة والعشيِّ وتعرض الأمة على إمامها نبينا عليه الصلاة والسلام فإذا عرضت هذه الأمة وأعمالها على النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البرزخ ورأى خيراً منهم حمد الله، وإن رأى سوءاً وشراً استغفر الله لهم.

نعم إن بركة نبينا صلى الله عليه وسلم دائمة متصلة لا تنقطع لا في حياته ولا بعد موته صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في مسند البزار عن عبد الله ابن مسعود والحديث صححه حفاظ جهابذة منهم:

- الإمام الهيثمي

- شيخ الإسلام زين الدين العراقي

- ولي الدين العراقي

- الإمام السيوطي

- الإمام الزرقافي

- الإمام الزبيدي

وهو حديث صحيحٌ صحيح عن نبينا عليه صلوات الله وعليه سلامه، أنه قال:[حياتي خيركم تحدثون ويحدث لكم] ، أي تسألون وينزل الوحي بالجواب وتقع لكم حوادث ومسائل وينزل الوحي ببيان حكم الله فيها، [تُحدِثون ويُحدَثُ لكم ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خيرٍ حمدتُ الله وما رأيت من شرٍ استغفرت الله لكم] .

والحديث إخوتي الكرام رُوي عن أنسٍ أيضاً في مسند الحارث بن أبي أسامة ورواه ابن عدي عن أنسٍ لكن بإسناد ضعيف ن وروي عن بكر بن عبد الله المزني وهو من التابعين الكرام توفي سنة 106هـ شيخ الإسلام ثقة ثبت رضى حديثه في الكتب الستة، عن بكر بن عبد الله المزني بسندٍ صحيح على شرط الشيخين، في كتاب طبقات الإمام ابن سعد وفي كتاب القاضي إسماعيل في فضل الصلاة على نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام، فالحديث صحيح وفيه: أن أعمال هذه الأمة تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم فإن رأى خيراً حمد الله عليه وإن رأى شراً استغفر الله لأمته.

وقد بوَّب أئمتنا على هذا الحديث أبواباً لطيفة دقيقة ظريفة تطير القلوب فرحاً بعناوينها.

ص: 14

فهذا شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في مجمع الزوئد يبوب على الحديث فيقول (باب ما يحصل لأمته من استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم لها لأمته بعد موته) .

وبوَّب عليه في كتاب كشف الأستار عن زوائد الإمام البزار، قال:(باب ما يحصل للأمة بسبب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وموته)، وبوَّب عليه الإمام الحافظ ابن حجر في كتاب المطالب العالية فقال:(باب بركة النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً) .

نعم إخوتي الكرام، تعرض أعمالنا على نبينا عليه الصلاة والسلام فإن رأى خيراً حمد الله وإن رأى غير ذلك استغفر الله لهذه الأمة المباركة المرحومة، فهو بنا رؤوفٌ رحيم وهذه الأمة كما تعرض أعمالها، تعرض هي أيضاً على نبينا بالغداة والعشي، فانظر يا عبد الله على أي حال ستعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى شيخ الإسلام الإمام ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق من زيادات نعيم بن حماد على روايات المروزي عن شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك رضي الله عنهم أجمعين، وانظروا الأثر في صفحة 46 كما قلت من رواية نعيم في زياداته في روايات كتاب الزهد لشيخ الإسلام ابن المبارك عن سعيد بن المسيب وهو من أئمة التابعين قال: ليس يوم إلا ويعرض على نبينا صلى الله عليه وسلم أمته بالغداة والعشيِّ ليشهد عليهم لأن الله يقول: {فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذٍ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} .

فليشهد نبينا صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة تعرض هذه الأمة على نبيها في كل يوم، في أول النهار وفي آخره، بالغداة والعشي، تعرض مرتين على نبينا عليه الصلاة والسلام وأعمالها تعرض عليه، فما رأى من خيرٍ حمد الله عليه، وما رأى من شرٍ استغفر الله لهذه الأمة ما وقعت فيه.

والحديث كما قلت إخوتي الكرام حديث صحيح (1) .

(1) - بيدوا أن هناك خرماً وترقيقاً

ص: 15

لا ثم لا، فالعبادة لا تكون إلا لرب النبي عليه الصلاة والسلام ولرب الخلق أجمعين فله الخلق والأمر وله العبادة وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى ونحن لا نتكلم في دين الله عن طريق آرائنا وأهوائنا، إنما أمر تكرم الله به علينا، وأخبرنا أننا إذا لم نلق نبينا عليه الصلاة والسلام فلم نحرم بركته فلنحمد الله على ذلك، إذا أكرم الله الصحابة الكرام برؤية النبي صلى الله عليه وسلم واستغفار النبي لهم حياً، لا يعني هذا أن الصحابة كانوا يعبدون الني عليه الصلاة والسلام، فنحن إذ حرمنا إحدى الأمرين، حَرَمَنا الله وله الحكمة البالغة، من اكتحال أعيينا برؤية خير الخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، أنُحْرَمُ الفائدة الثانية، فلا يستغفر لنا النبي عليه الصلاة والسلام ولا نعرض عليه في عالم البرزخ وليس بيننا وبينه لقاء ولا اتصال؟ لا ثم لا، هو مبارك وبركة على هذه الأمة حياً وميتاً، وهو الذي أُرْسِلَ رحمةً للعالمين فكيف تُحرم أمته بركته بعد موته عليه الصلاة والسلام.

وهذا الحديث كما قلت إخوتي الكرام إنه حديث صحيح وقد وصل الشطط بعض المتنطعين في هذا الحديث فقالوا: هذا حديث موضوع، والله إنه كلامٌ وضيع وما ينبغي أن يقال نحو حديث نبينا الحبيب الشفيع عليه الصلاة والسلام، حديث يثبت بسند على شرط الشيخين مرسلاً، ويثبت عن عبد الله بن مسعود متصلاً، ويصححه جهابذة المحدثين، ويروى من طريق أنس رضي الله عنه بسندٍ ضعيف، ثم يتجرَّأ من يتجرَّأ في هذا الوقت فيقول:(هذا حديث موضوع) .

ص: 16

هذا كلام وضيع -كما قلت- وينبغي للإنسان أن يتقي ربه في كلامه، فكما أنه لا يجوز للإنسان أن يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز له أن يكذب كلام النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز له أن يرد كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وأي محظور في معنى الحديث؟ وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستغفر لنا بعد موته، هل يلزم من ذلك أننا نعبده، وإذا كان يستغفر للصحابة في حال حياته هل يعني هذا أن الصحابة عبدوه من دون الله جل وعلا، لا ثم لا، إنما بشارة من ربنا، ومنحة من مولانا تكرم بها علينا وأظهر فضل نبينا عليه الصلاة والسلام فلنحمد الله على هذه النعمة الجليلة، اللهم إنا نسألك أن تعرضنا على نبيك عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة بخير صورةٍ يا رب العالمين، كما نسألك أن تشفعه فينا يوم الدين، وأن تجمعنا معه في جنات النعيم إنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام: هذا ما يتعلق بالأمر الأول في لمحة موجزة عن الحياة البرزخية التي تكون لأنبياء الله ورسله وهم خير البرية، على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه.

وأما الأمر الثاني: دفع إشكال يثيره كثير من أهل اللغط والجدال في هذه الأيام ويقدمون فهمهم المعكوس على ما صرحت به النصوص ولا يعدمون بعد ذلك نصاً ظاهراً _ كما يقولون _ موهم، ثم بعد ذلك يتعلقون به ليقرروا قولهم، وليتهم فهموا تلك النصوص على حسب النصوص الواضحة الصريحة المحكمة، فإذا وجد في النصوص محكم ومتشابه ما يحتمل دلالة، وما يحتمل دلالتين، ينبغي أن نردَّ المتشابه إلى المحكم إذا كنا نؤمن بالله جل وعلا، وينبغي أن نفهم النصوص على ضوء بعضها لا أن يهمل النصوص الصحيحة الصريحة الدلالة، ثم لنأتي لنص عام ونقول:(هذا يدل على خلاف ما قلتم، وهذا النص يدل على أن الموتى لا يسمعون وأن الموتى لا يشعرون وأن الموتى لا يعلمون بما يجري حولهم ويدور) .

ص: 17

إخوتي الكرام: تعليق هؤلاء ببعض آيات القرآن الكريم، منها: قوله تعالى {فتوكل على الله إنك على الحق المبين * إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} (1) ونظيره قول الحي القيوم في سورة الروم مع زيادة حرف واحد في الآية: {فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} (2) .

قال هؤلاء هاتان آيتان تدلان على أن الموتى لا يسمعون ولا يشعرون ولا يحسون ولا يدركون ولا يعلمون ولا يستبشرون بمن يزورهم ولا يسمعون الكلام الذي عندهم إنما هم بمنزلة الجماد، والآيتان تدلان على ذلك.

وكما قلت إخوتي الكرام فهم أعجمي منكوس أرادوا بعد ذلك أن يردوا به ما صرحت به الأحاديث الصريحة والنصوص.

هذه الآية لا تدل على أن الأموات لا يسمعون، لا ثم لا، وإيضاح هذا إخوتي الكرام هاتان الآيتان منحصر معناهما بمعنيين اثنين لا ثالث لهما، كما قرر أئمتنا الكرام في سائر كتب التفسير الحسان.

المعنى الأول:- وهو الذي عليه جمهور المفسرين، والقول الثاني يؤول إليه، ولا تعارض بينهما، كما سأبين بعد حين.. المراد من الموتى هنا موتى القلوب الذي لم يتنزهوا من العيوب وغضب عليهم ولعنهم علام الغيوب، المراد من الموتى موتى القلوب لا موتى الأبدان، {إنك لا تسمع الموتى} : أي من قلبه خرب عشعش الشيطان فيه، {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} وهذا التفسير وهذا القول يقرره ويؤكده ويحتمه ثلاث أمور فانتبهوا إليها.

أولها: قرينة في الآية.

ثانيها: استقراء القرآن الكريم.

ثالثها: الغرض الذي من أجله سيقت هذه الآية.

(1) - النمل (79 –81)

(2)

- الروم (52 –53)

ص: 18

أما القرينة في الآية التي تحتم هذا المعنى وتوجبه وتمنع غيره.. أن الله جل وعلا في هذه الآية قابل الإسماع المنفيِّ {إنك لا تسمع الموتى} بإسماع مثبت، فقال جل وعلا {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} .

إذاً عندنا إسماعان، أحدهما منفي والآخر مثبت، وأصحاب هذين الإسماعين متقابلان متضادان، كحال هذين الإسماعين، هنا إثبات السماع وهنا نفي السماع، هنا {إن تسمع إلا من يؤمن بآيتنا} وهنا {إنك لا تسمع الموتى} .

لو كان المراد من الموتى موتى الأبدان لقال الله في الأسماع المثبت.. إنما تسمع من لم تمت أبدانهم، إنما تسمع من لم يقبروا، إنما تسمع من هم على قيد الحياة، لم قال في الإسماع المثبت {إن تسمع إلا من يؤمن بآيتنا} .. (غير واضح) وهم الذين لا يسمعون {إنك لا تسمع الموتى} إنك لا تسمع من يكفر بآيتنا، {إنما تسمع من يؤمن بآياتنا} ما ثبت لهذا ينفى عن هذا، فهنا أناس سمعوا مؤمنون مهتدون، وهناك كفار لم يسمعوا فإن قيل لنا: الكفار لا يسمعون؟ نقول: نعم لا يسمعون سماع انتفاع، ولا يسمعون سماع اهتداء، كما سيأتينا تقرير هذا بآيات القرآن الكثيرة، إنما هنا أذكر فقط القرينة التي تحتِّم هذا المعنى، فهم لهم مجرد السماع دون ما يترتب عليه من أثر الاتباع والاهتداء، {فإنك لا تسمع الموتى} إنك لا تسمع من مات قلبه إسماعاً يترتب عليه أثر من الانتفاع والاتباع والاهتداء، إنما ينتفع بالسماع منك ويهتدي ويتبعك {من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} وهذا في منتهى الجلاء والوضوح والظهور، فلو أراد الله من الموتى موتى الأبدان لقابلهم بما يقابلهم مما يضادِّهم فقال، إن تسمع إلا من كان حياً، إن تسمع إلا من لم يمت، إن تسمع إلا من لم يقبر، {فإنك لا تسمع الموتى} قوبل {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} .

إذاً إخوتي الكرام: إسماع مثبت، وإسماع منفي، المثبت للمؤمنين، والنفي عن الكافرين، وهذا كما قلت قرينة في الآية.

ص: 19

والدلالة الثانية: استقراء القرآن، القرآن عبَّر عن الكفار بأنهم موتى القلوب لا يعون بها ولا يفقهون، وهذا يقرره الله في آيات كثيرة ويخبر الله فيها عن الكفار بأنهم موتى، يقرر الله تعالى هذا المعنى في آيات كثيرة إخوتي الكرام..

منها: قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون * ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأي المرسلين * وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكوننَّ من الجاهلين * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبغثهم الله ثم إليه يرجعون} (1) .

والآية بإجماع من يعتد به من أئمتنا الكرام {إنما يستجيب الذين يسمعون} وهم المؤمنون الموحدون المهتدون، {والموتى} أي الكفار {يبعثهم الله} تعالى ليجازيهم على أعمالهم فإلى ربهم إيابهم وعليه حسابهم.

{إنما يستجيب الذين يسمعون} {والموتى} الكفار {يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} ، وهكذا يقول الله جل وعلا، في آواخر سورة الأنعام أيضاً:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنك لمشركون * أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} .

{أو من كان ميتاً فأحييناه} : أي إماتته يراد بها إماتة البدن أو القلب؟ إماتة القلب التي إذا حصلت في الإنسان ترتب عليها غضب الرب، {أو من كان ميتاً فأحييناه} بنور العلم وهداية الإسلام {كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} .

(1) - سورة الأنعام (33 – 36)

ص: 20

وهكذا قول الله جل وعلا في سورة فاطر: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير * وما يستوي الأعمى والبصير} الأعمى هو الكافر، والبصير هو المؤمن، {وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل} وهو الجنة {ولا الحرور} جهنم، {وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمعٍ من في القبور * إن أنت إلا نذير} (1) .

{وما يستوي الأحياء} وهم المؤمنون الذين حييت قلوبهم بمعرفة ربهم وعبادته جل وعلا: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء} فهو الله الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى.

{وما أنت بمسمعٍ من في القبور} ممن ماتت قلوبهم، وصارت هذه القلوب في قبر من أبدانهم فهذه الأبدان صارت قبوراً لذلك الجنان، كما أن القبر في الأرض يصبح قبراً للأبدان، هنا الأبدان قبور للجنان والأرض قبور للأبدان، {وما أنت بمسمعٍ من في القبور} ، ولذلك قال:{إن أنت إلا نذير} : أي أنت عليك أن تبلغ دعوة الله، فالكافر يسمع ولا ينتفع والمؤمن يسمع وينتفع {وما أنت بمسمعٍ من في القبور} : أي من ماتت قلوبهم وقبرت في أبدانهم كما قال القائل:

وفي الجهل قبل الموت لأهله

موت وأبدانهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم

وليس لهم حتى النشور نشور

وهكذا قول الله جل وعلا في سورة (يس){وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين * لينذر من كان حياً} ومن هو الحي هو المؤمن الذي حي قلبه بنور الإيمان {ويحق القول على الكافرين} : الكافرون هنا هم الذين قال الله في حقهم: {فإنك لا تسمع الموتى} ، {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين} : أي على الميتين الذين يبعثهم الله ليحاسبهم على أعمالهم، {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين} .

(1) - سورة فاطر (18-24)

ص: 21

والآيات في ذلك كثيرة، فاستقراء القرآن، وهي الدلالة الثانية إخوتي الكرام، تحتِّم هذا المعنى، وأن المراد من الموتى من ماتت قلوبهم، لا من ماتت أبدانهم، {إنك لا تسمع الموتى} لا تسمعهم إسماع إفهام وتدبر وانتفاع واهتداء، {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} .

وهذا المعنى يقرره ويحتمه الدلالة الثالثة، ألا وهي الغرض الذي سيغت من أجلها هذه الآية،

هذه الآية إخوتي الكرام سيغت لتسلية نبينا عليه الصلاة والسلام فكان يحزن ويأسى لعدم إيمان الكفار به، وكان يضيق صدره ويتبع نفسه حسرات، والله جل وعلا سلَاّه بهذه الآيات، وقال له: هؤلاء ماتت قلوبهم وأمرهم إلى ربهم، وإذا لم يُرد الله هدايتهم فلن تستطيع أنت ولا غيرك هدايتهم، فعلام تحزن إذاً من أجلهم؟

إذاً، وهذا المعنى لا يتحقق إلا إذا قلنا إن المراد من الموتى موتى القلوب، وأما موتى الأبدان فهو ليس بمكلف بإنذارهم وتبليغهم دعوة ربهم جل وعلا، إنما هو ينذر الأحياء، لكن هؤلاء يسمعون ولا ينتفعون، فكان يحزن نبينا عليه الصلاة والسلام فسلَاّه الله بهذه الآيات، كما قال الله تعالى في آخر سورة الحجر:{ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (1)، ومثل هذا قوله تعالى في سورة فاطر:{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} (2) .

(1) - سورة الحجر (97 –99)

(2)

- سورة فاطر (8)

ص: 22

ومثل هذا قول الله جل وعلا في سورة المائدة: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سمَّعون للكذب سمَّعون لقومٍ آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه بقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، أولئك الذين لم يرد الله أيطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (1) إلى آخر الآيات، وهذه كلها تسلية لخير المخلوقات صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا قوله تعالى:{ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين} (2) .

وهكذا قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (3) .

هذه كما قلت إخوتي الكرام، ثلاث دلالات تقرر هذا المعنى ألا وهو أن المراد بالموتى في قوله جل وعلا:{إنك لا تسمع الموتى} موتى القلوب، لا موتى الأبدان، لا تسمعهم إسماعاً يترتب عليه الأثر من الاتباع والانتفاع والاهتداء.

هذا المعنى الأول: وكما قلت، ذهب إليه جمهور المفسرين.

المعنى الثاني: هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاويه 4/299، 24/330، ومآل هذا القول إلى القول الأول، قال: (إن المراد من الموتى هنا موتى الأبدان، لكن هذا مثل ضرب لموتى القلوب، فالله تعالى يقول لنبييه صلى الله عليه وسلم

(1) - سورة المائدة (40 – 41)

(2)

-سورة النحل (36 – 37)

(3)

- سورة القصص (56)

ص: 23

كما أنك لا تسمع من ماتت أبدانهم وقبروا في الأرض إسماعاً يترتب عليه الأثر، فهم يسمعون لكن لا يستطيعون أن يؤمنوا ولا أن ينتفعوا بهذا السماع ولو أتيت إلى كافر وقرأت عليه القرآن، وأسمعته كلمة التوحيد لسمع، لكن حيل بينه وبين العمل، فهو في دار انقطع فيها العمل والتكليف، فالميت يسمع لكنه بهذا السماع لا يهتدي ولا ينتفع ولا يستطيع أن يعمل.

وهكذا هؤلاء الذين ماتت قلوبهم يسمعون كما يسمع الموتى من الكافرين ولا ينتفعون، فالله جل وعلا يقول له:{إنك لا تسمع الموتى} : أي حال هؤلاء الأحياء كحال من قُبر، ذاك يسمع ولا ينتفع وهذا يسمع ولا ينتفع، فآل معنى هذا إلى المعنى الأول الذي ذكرناه، وهو عدم نفي السماع عن الأموات إنما هذا تشبيه، كما أن من مات بدنه يسمع ولا ينتفع، يسمع ولا يتبع، يسمع ولا يستطيع أن يثوب، لأنه حيل بينهم وبين العمل، فالكافر كذلك منزلته بمنزلة هذا الميت الذي مات بدنه، ماله من السماع إلا السماع الذي لا يترتب عليه أي أثر، {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} إذا قلنا موتى الأبدان فنقول هذا مثل لموتى القلوب، فمآل هذا إلى ما تقدم، ولذلك إخوتي الكرام شاع عند العرب واستفاض واستعملوه في ألسنتهم نفي الحاسة عن الإنسان إذا لم ينتفع بها، فيقولون إنه أعمى لمن لا ينتفع بعينية، وإنه أصم لمن لا ينتفع بأذنيه، وإنه ميت القلب لمن لا يعي ولا يفقه بقلبه ولا يتبع الهدى، هذا مستعمل عند العرب بكثرة، ولذا يقول قعنب بن ضمرة، وهو من الشعراء (م 95) ويقول له ابن أم صاحب:

صمٌ إذا سمعوا خيراً ذكرت به

وإن ذُكرتُ بسوء عندهم أذنوا

ص: 24

نفى السماع عنهم ووصفهم بالصمم، ثم قال: إذا ذكر عندهم بسوء أذنوا أي استمعوا كقول الله في سورة الانشقاق {إذا السماء انشقت وأذنت} : أي استمعت {وأذنت لربها وحقت} ، إذا سمعوا السوء آذنوا، إذا سمعوا الخير صم، فوصفهم بالصمم لأنهم لا يستمعون ما ينفعهم، وهذا المعنى قرره الله تعالى في آيات كثيرة فقال تعالى:{ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون} (1) أي حالك مع الكفار عندما تدعوهم لاتباع شريعة اله جل وعلا حالُك كحالك عندما تدعوا الحمار تماما، فالحمار لا يسمع منك إلا أصواتاً لا يعي مدلولها، وهؤلاء كذلك.

{ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} : أي يصيح ويرفع صوته بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، لا تسمع البهائم منك إذا ناديتها إلا أصواتاً تصيح بها، وهكذا الكفار تتلى عليهم آيات العزيز القهار فلا يعونها ولا يفقهونها، {صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون} ،، {صمٌ} لا سمع عندهم {بكمٌ} لا كلام ولا وعي {عميٌ} في أبصارهم فلا يبصرون، ثم بعد ذلك قلوبهم ميتة لا يعقلون.

وليس المراد نفي العقل عنهم ونفي هذه الجوارح وإلا لارتفع التكليف ومثل هذا قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (2) .

ومثل هذا قوله تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} (3) .

(1) - سورة البقرة (171)

(2)

- سورة الأعراف (179)

(3)

- سورة الفرقان (44)

ص: 25

ومثل هذا قوله تعالى في سورة الأحقاف بعد أن ذكر إهلاكه لقوم عاد: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا * بل هو مستعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليم * تدمر كل شيءٍ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين * ولقد مكنَّهم فيما إن مكنَّكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيءٍ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} (1) .

ومثل هذا قوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (2) .

ومثل هذا قوله تعالى في سورة الملك مخبراً عن أهل النار كيف يشهدون على أنفسهم عندما يلقون في النار بأنهم ما كانوا يعقلون ولا يسمعون: {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير * إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيءٍ إن أنتم إلا في ضلالٍ كبير * وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} (3) .

وهنا قول الله الجليل: {إنك لا تسمع الموتى} إما أن يراد بهم موتى القلوب، وإذا قلنا إن المراد من الموتى الأبدان فهذا مثل لموتى القلوب، {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} .

نعم إن الإنسان إذا لم ينتفع بقلبه ولم ينتفع بسمعه وببصره صح نفي ذلك عنه وهو في حكم ودركة البهيمة، واعلم بأن عصبته الجهال بهائم في صورة الرجال:

أبُنيِّ إن من الرجال بهيمة في

صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله

وإذا أصيب بدينه لم يشعر

(1) - سورة الأحقاف (24 – 26)

(2)

- سورة الحج (46)

(3)

- سورة الملك (6 –11)

ص: 26

وخلاصة الكلام إخوتي الكرام..

إن الموتى يحسون كما قلت بما يجري حوله، ويعلمون ويستبشرون ويفرحون بمن يزورهم، ويسمعون الكلام الذي يقال بحضرتهم، تُعرض عليهم أعمال قرابائهم بعدهم، وهم يتزاورون فيما بينهم، ونفي الله جل وعلا السماع عن الكفار في قوله تعالى:{إنك لا تسمع الموتى..} نفي السماع عن الموتى، المراد من السماع هنا السماع الذي يترتب عليه أثره وهو الانتفاع والاهتداء، وكما قلت، هذا قول من قولين، والمراد من الموتى هنا موتى القلوب لا موتى الأبدان.

وإذا قلنا إن المراد بالموتى موتى الأبدان فالآية لازالت تقرر القول الأول فهذا مثل لمن ماتت قلوبهم، فكما أن ميت البدن يسمع ولا ينتفع فميت القلب يسمع ولا ينتفع، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد} (1) .

أقول هذا القول واستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.

اللهم صلِّ على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم قنا شرور أنفسنا، اللهم قنا شح نفوسنا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صلَّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.

(1) - سورة ق (37)

ص: 27

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم أرحمهم كما ربَّونا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم لا تجعل للظالمين عليهم سبيلا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلَّ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا والحمد لله رب العالمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

{قل هو الله أحدٌ * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد} .

ص: 28