المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفروض الدائمة والمؤقتة - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ٨٩

[عبد الرحيم الطحان]

الفصل: ‌الفروض الدائمة والمؤقتة

‌الفروض الدائمة والمؤقتة

(من خطب الجمعة)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

بسم الله الرحمن الرحيم

الفروض الدائمة والمؤقتة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما {من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .

{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .

وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} .

أما بعد: معشر الإخوة الكرام..

ص: 1

تدارسنا في شهر الصيام خير شهور العام عند ذي الجلال والإكرام ما يتعلق بأحكام شهر رمضان وكانت الموعظة التي تلي ذلك الشهر الكريم حول فرحة العيد وبينت أن الله وحد بين عباده الموحدين وحد بينهم في عقائدهم وأفكارهم وفي أعمالهم وأفعالهم وفي مشاعرهم وأحاسيسهم وبينت أن إظهار الفرحة في أيام العيد من تعظيم شعائر الله وذلك من دين الله {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} .

وبيَّنتُ أيضًا أنه كما ينبغي أن نظهر الفرحة والابتهاج والسرور أيام العيد في أعياد المسلمين يحرم علينا قطعا وجزما أن نظهر الفرح والسرور وأن نشارك في البهجة في أعياد الجاهلية سواء كانت تلك الأعياد أعيادا وطنية على حسب المفاهيم الردية في هذه الأوقات الزمنية أو أعيادا أجنبية فيحرم علينا أن نشارك في غير الأعياد الإسلامية وذكرت عند هذا الأمر قول شيخ الإسلام الذي عد من مجددي القرن الثالث الهجري وقد توفي سنة 217هـ أحمد بن حفص البخاري يقول هذا العبد الصالح: "من عبد الله خمسين سنة ثم أهدى إلى كافر بيضة في يوم عيده تعظيما لذلك اليوم فقد كفر بالله وحبط عمله".

وهذا الأمر السوي الصحيح أراد بعض الإخوة الكرام من الحاضرين المستمعين للموعظة الماضية شيئا من التوضيح وبما أن هذا الطلب وجيه وجيه فأحب أن نتدارسه في هذه الموعظة.

إخوتي الكرام:

الفرائض التي فرضها الله على عباده وأوجبها عليهم تنقسم إلى قسمين اثنين.

فرض دائم يجب على الإنسان أن يقوم به على الدوام في كل زمان ومكان وهذا الفرض الدائم يقوم على ركنين بهما تتحقق عبودية الإنسان لرب الكونين.

أولهما: أن يفرد الله عز وجل بالعبادة وأن لا يشرك به شيئا.

والثاني: أن يفرد نبيه عليه الصلاة والسلام بالمتابعة وأن لا يقتدي بغيره وأن لا يقلد أحدا من دونه إياك أريد بما تريد بهذين الأمرين تحصل العبودية في الإنسان لذي الجلال والإكرام.

ص: 2

فتحقيق العبودية لرب البرية لا يتم إلا بهذين الأمرين عبادة الله وحده لا شريك له، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقلبنا يتعلق بربنا؛ فهو خالقنا إلهنا وإليه تصرف عبادتنا.

وهكذا يتعلق قلبنا بنبينا عليه الصلاة والسلام فهو إمامنا وقائدنا وأسوتنا وبه نقتدي في حياتنا عليه صلوات الله وسلامه، وهذان الأمران هما مدلول كلمة الإسلام لا إله إلا الله، محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لا معبود بحق في هذا الوجود إلا الله إياك أريد محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام عبادتنا لربنا وتصريفنا لشؤون حياتنا على حسب ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم والإنسان إذا اتصف بذلك فحقق العبودية في نفسه لربه ذاق طعم الإيمان وحصلت البهجة في قلبه والإيقان.

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام الترمذي ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية كما رواه الإمام ابن حبان في صحيحه والحديث صحيح صحيح من رواية سيدنا العباس عم نبينا خير الناس على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا] .

ص: 3

[ذاق طعم الإيمان] : حلاوته وبهجته وإذا حصلت هذه الحلاوة والبهجة والسرور في قلبه لا يسخط الإيمان في قلبه بعد ذلك أبدا لكن هذه الحلاوة وذلك الطعم اللذيذ الشهي الذي يتضاءل بجنبه جميع مطعومات الدنيا ولذائذها ومشتهياتها لا يمكن للإنسان أن يحصل تلك الحلاوة والبهجة وذلك الطعم إلا بهذه الأمور الثلاثة من رضي بالله ربا رضي بالشيء إذا قنع به ولم يطلب غيره فربه مالكه سيده إلهه هو الله وحده لا شريك له وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا هو رسول ذلك الرب يبلغ عنه فنقتدي به فيما بلغنا عن ربه على نبيا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه والإسلام الذي أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو دين الرحمن نرضاه دينا لنا فنحتكم إليه في كل زمان ومكان من حصل هذا فيه فقد ذاق طعم الإيمان نعم إخوتي الكرام إذا تحقق الإنسان بالعبودية لرب البرية يذوق للإيمان حلاوة معنوية تتضاءل بجنبها وتتلاشى جميع الحلاوات الحسية.

ثبت في المسند والصحيحين، والحديث في السنن الأربعة إلا سنن أبي داود ورواه ابن حبان في صحيحه وأبو نعيم في الحلية، والخطيب في تاريخ بغداد من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار] .

وروي هذا الحديث أيضا من رواية سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه في معجم الطبراني الكبير وشرح الستة للإمام البغوي لكن في إسناد رواية أبي أمامة ضعف ينجبر ويتقوى بهذه الرواية الصحيحة الثابتة في الصحيحين.

ص: 4

ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان فحقق بذلك العبودية لذي الجلال والإكرام جعل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء فلا يقدم على عبادة الله معبودا ولا يقدم على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به أحدا ثم بعد ذلك يحب ويبغض من أجل الله فيحب المرء لا يحبه إلا لله لا لمنفعة عاجلة زائلة ويكره بعد ذلك أن يزول عنه وصف العبودية لرب البرية كما يكره أن يقذف في النار فإذا وجد هذا فيه ذاق حلاوة الإيمان.

نعم ـ إخوتي الكرام ـ إذا تحقق الإنسان بهذا الوصف فهو على اهتداء في هذا الحياة وله الأمن بعد الممات {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا.

ثبت في المسند والصحيحين والحديث في سنن الترمذي ورواه الإمام الطبري في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره وابن المنذر في التفسير وابن مردويه في تفسيره كما رواه الداراقطني في الأفراد وأبو الشيخ في كتاب العظمة من رواية سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال لما نزلت هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم

} .

شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه قال ليس بالذي تعنون إنما الظلم الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} .

إذن من حصل وصف العبودية في هذه الحياة فهو على اهتداء في الدنيا وهو له الأمن في الآخرة.

ص: 5

وهناك فروض مؤقتة فرضها الله على عباده في أوقات وأمكنة بشروط وكيفيات تفعل حسبما هو مقرر في شريعة رب الأرض والسموات كفريضة الصلاة، وفريضة الصيام، وفريضة الزكاة، وغير ذلك فرائض فرضها الله على عباده؛ لكنها مؤقتة بزمن، بوقت وفي مكان، فالحج له مكان معين والصلاة:{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} ، والصيام {أياما معدودات} كما أخبر عن ذلك رب الأرض والسموات.

إخوتي الكرام:

هذان الفرضان الصلة بينهما قوية وثيقة.

أما الفرض المؤقت فلا يقبل إلا بشرطين اثنين:

الشرط الأول:

أن يأتي الإنسان بشروط خاصة به فالصلاة تحتاج إلى طهارة ودخول وقت وإلى استقبال للقبلة وإلى غير.

وهناك شرط آخر:

في جميع العبادات المؤقتة وهو لها كالروح للجسد ألا وهو القيام بالفرض الدائم ألا وهو العبودية لرب البرية فمن خرج عن هذا الوصف بحيث عظم شعائر الكفر أو أشرك بالله فلا يقبل منه عمل لأنه ليس بعبد لله عز وجل وأعماله يضرب بها وجهه فلابد من أن يحقق الفرض الدائم الذي لا يسقط عن الإنسان في وقت ولا في مكان بل ينبغي أن يقوم به على الدوام في كل زمان ومكان فإذا خرج عن ذلك الفرض حبط عمله وضل سعيه وخلده الله في نار جهنم.

نعم ـ إخوتي الكرام ـ لابد من أن يتصف الإنسان بحقيقة العبودية لربه في هذه الحياة فينبغي أن يكون صادقا في عبوديته لربه فدخوله وخروجه لله وبالله ولذلك أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وفي ذلك أمر لنا أن يكون مدخلنا ومخرجنا لربنا جل وعلا: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} .

فالمؤمن يدخل لله وبالله ومن عداه يدخل ويخرج بطرا ورئآء وإذا دخل الإنسان مدخل الصدق وخرج مخرج الصدق في جميع شؤون حياته جعل الله له لسان صدق في هذه الحياة.

ص: 6

وقد كانت همم أنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه تتطلع إلى هذا لأن ذلك الوصف لا يكون إلا لمن دخل مدخل الصدق وخرج مخرج الصدق قول خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم كما حكى ذلك عنه رب العالمين: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} أن يثنى علي بالخير والفضيلة بحسب ما في مما يرضيك: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} في الأمم التي تأتي يثنون على بصدق ولا يكون حال من يثنى عليه كحال من يثنى عليه من أعداء الله قد ينشر للإنسان من الثناء ما يملأ ما بين المشرق والمغرب ولا يزن عند الله جناح بعوضة فليس هذا الثناء بحق إنما هو بكذب وبهتان وافتراء وإذا حقق الإنسان ذلك جعل الله له لسان صدق ويبشره بأن له عند الله قدم صدق كما ذكر الله عز وجل في أول سورة نبيه يونس على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه: {الر تلك آيات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} .

{لهم قدم صدق عند ربهم} : يقدمون على منزلة حقة يستحقونها بما قدموه من عمل صالح واتباع لرسول الله عليه الصلاة والسلام وعبادة لله عز وجل وهم بالتالي في مقعد صدق كما قال الله جل وعلا: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} .

إخوتي الكرام:

لابد من تحقيق الفرض الدائم وهو العبودية لرب البرية في كل زمان ومكان فإذا تحقق الإنسان بذلك الوصف على وجه التمام صار عبدا لذي الجلال والإكرام تقبل منه بعد ذلك فرائضه المؤقتة وإذا أتى بما ينقض عبوديته لربه فلا يقبل منه فرض مؤقت لأنه ضيع الفرض الدائم ولذلك عباد الله الذين أضافهم الله إلى نفسه هم أولياؤه المتقون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

والناس نحو الفرض الأول وهو الفرض الدائم ثلاثة أقسام:

القسم الأول:

ص: 7

حقق ذلك الفرض وقام به على وجه الكمال والتمام وهؤلاء هم عباد الرحمن المخلصون الصديقون وهم أولياء الحي القيوم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهم الذين عناهم الله بقوله {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} ، وهم المعنيون بقول الله عز وجل:{والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} ، وهي عبودية الاختيار وليس عبودية الاضطرار فكل من في السموات ومن في الأرض عبد لله على رغم أنفه شاء أم أبى، جاء إلى هذه الحياة على غير اختياره، وسيخرج منها على غير اختياره، ولا يملك لنفسه فضلا عن غيره نفعا ولا ضرا:{إن كل من السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} ، لكن الشأن في تحقيق عبودية الاختيار للعزيز القهار أن تفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأن تجعل هواك تبعا لشرع نبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

هذه العبودية هي التي نوه الله بذكرها في حق نبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه في أشرف المقامات التي حصلت له فقال جل وعلا: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} .

حقق العبودية لربه جل وعلا على وجه التمام حب كامل وذل تام وهكذا قول الله: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} .

وهكذا قول الله {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} .

ص: 8

وهكذا قول الله عندما يتحدث عن نبيه عليه الصلاة والسلام وقيامه بالدعوة {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} .

وهذا أعظم وصف يتصف به المخلوق أن يقال إنه عبد للخالق ويراد من هذه العبودية عبودية الاختيار وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحب هذا الوصف فيه وأمرنا أن نذكره به عليه صلوات الله وسلامه.

ففي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والحديث رواه الإمام الترمذي في الشمائل المحمدية على نبينا خير البرية صلوات الله وسلامه ورواه الإمام الدارمي في مسنده ورواه الحميدي في مسنده وأبو داود الطيالسي في مسنده أيضا ورواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه ورواه الإمام العدني وهو حديث صحيح صحيح من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله] .

والإطراء: هو المدح بالباطل ومجاوزة الحد بالمدح، فإياك إياك أن ترفع نبينا عليه الصلاة والسلام إلى مستوى ذي الجلال والإكرام.

نعم هذه العبودية لها شأن كبير عند من يعي إذا حققها ذاق حلاوة الإيمان لا خوف عليه مما يستقبله ولا يحزن على ما يتركه هو على اهتداء في هذه الحياة وله الأمن بعد الممات هذا الصنف الأول حققوا فيهم هذه العبودية لرب البرية، هم أولياء الله حقا وصدقا، فهؤلاء القليل منهم كثير عند الله الجليل {إنما يتقبل الله من المتقين} كما سيأتينا في خطوات البحث.

والصنف الثاني:

يقابل هذا الصنف وهم أولياء الشيطان الملعون وأعداء الحي القيوم وهم الذين زالت عنهم وصف العبودية الاختيارية لرب البرية في هذه الحياة زال عنهم ذلك الوصف فلا يقبل منهم عمل وهم كافرون بالله عز وجل.

ولو قدر أنه صدر منهم بعض الطاعات تضرب بها وجوههم ولا تقبل عند رب الأرض والسموات.

ص: 9

هذا الصنف الثاني أعداء لله ولرسله ولأوليائه وهم الذين قال الله فيهم: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون

} وهم الذين أشار الله إليهم بقوله: {وقال الرسول يا رب إن قومي اخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} .

فلا عبدوا الله ولا اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء هم الذين ظاهروا الشيطان في عداوة الرحمن كما قال ذو الجلال والإكرام {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا} : معينا للشيطان في معاداة الرحمن هؤلاء بينهم وبين عتاة الجن ولاية في هذه الحياة وبينهم اشتراك في العذاب بعد الممات: {ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} هؤلاء من اتصف بوصفهم لا يقبل منه فرض مؤقت لأنه عدو لله عز وجل فما وصف أعداء الله.

إخوتي الكرام:

إذا اتصف الإنسان بواحد من خمسة أمور فهو ضال كفور من أتباع الشيطان الغرور وممن ينادي على نفسه مع الشيطان يوم القيامة بالويل والثبور فيقال لهم: {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} .

ص: 10

ثبت في مسند الإمام أحمد والبزار والحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورواه عبد بن حميد في مسنده ورواه الإمام الطبري في تفسيره وهكذا ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وإسناد الحديث صحيح صححه الإمام السيوطي في الدر المنثور وقال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي عليه وعلى أئمتنا رحمة الله في المجمع في الجزء 10/392 رجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد بن جدعان وقد وثق وعلي بن زيد خرج حديثه الإمام البخاري في الأدب المفرد وهو من رجال مسلم في صحيحه لكن روى له مقرونا وأخرج له أهل السنن الأربعة ولفظ الحديث من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أول من يكسى حلة من نار يوم القيامة إبليس فيأخذها ويضعها على حاجبيه ثم يجرها من ورائه وخلفه وذريته خلفه وراءه وهو يقول وا ثبوراه وهو يقولون وا ثبورهم فيقال لهم: {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} قال الله عز وجل: {بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} .

نعم هؤلاء الذين يلقون في نار جهنم مقرنين فإذا ألقوا فيها بذلك الوصف الذميم دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا فمن اتصف بواحدة من هذه الأمور الخمسة فقد نقض عبوديته لله ولم يقم بالفرض الدائم فلم يقبل منه فرض مؤقت وهذه الأمور الخمسة هي:

الكفر بالله:

والشرك بالله:

والنفاق الأكبر:

والردة عن دين الله:

والبدعة المكفرة:

ص: 11

الكفر بالله من اتصف به فهو خالد مخلد في نار جهنم لا يقبل منه عمل عند الله عز وجل ويراد بالكفر جحود الخالق جل وعلا وإنكار حقه على عباده سبحانه وتعالى وتكذيب آياته وتكذيب رسله على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه كما أن لفظ الكفر يستعمل استعمالا موسعا لما يقابل الإسلام وعليه يشمل هذا الوصف كل أعداء الرحمن من المرتدين والمنافقين والمشركين والمبتدعين بدعة مكفرة.

يقول الله جل وعلا في سورة النساء: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما} .

فإذا حصل من الإنسان هذا الوصف فقد نقض عبوديته لله جل وعلا فلو قدر أنه قام بصلاة أو صيام أو زكاة أو غير ذلك من الفروض المؤقتة فهي باطلة عند الله ولا تقبل كما قال الله جل وعلا في سورة المائدة بعد أن أخبر أنه أتم علينا الدين وأكمل لنا النعمة وأنه أحل لنا الطيبات قال جل وعلا: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} .

كما قرر الله جزاء الكافرين في كثير من آي الذكر الحكيم فقال جل وعلا في سورة الإسراء: {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا * ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون} ، {قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مره فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا} .

ص: 12

هذا الجزاء لهم في نار جهنم وكلما خبت خف لهيبها زادهم الله عذابا كما قال هناك في سورة النساء: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} ؛ لأنهم كذبوا بآيات الله وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا سبحان الله الذي خلقكم من العدم ألا يستطيع أن يعيدكم بعد ذلك إذا تفتت هذه الأبدان بلى إنه على كل شيء قدير قل كونوا حجارة أو حديدا تحولوا إلى شيء لا يقبل الحياة على حسب الظاهر عندكم أو خلقا مما يكبر في صدوركم فصيروا السموات بنفسها أو تحولوا إلى الموت بحقيقته لو أن البشر كانوا موتى لأحياهم الله والله على كل شيء قدير وأقصد موتى أي صفة الموت لو أنهم صاروا هم الموت بعينه لأحياهم الله فكيف إذا تفتت الأبدان وهكذا يقول الله في سورة الحج: {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق *} .

هذا جزاء الكافرين عند رب العالمين سبحانه وتعالى إخوتي الكرام من اتصف بهذا الكفر له هذا الجزاء ولا يقبل منه عمل يقول الله عز وجل في سورة فاطر: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور * وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير*} .

وهكذا قول الله في سورة الأحزاب: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيها أبد لا يجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا *} .

والوصف الثاني:

ص: 13

الشرك بالله وحقيقة الشرك أن يسوي الإنسان بين المخلوقات وبين رب الأرض والسموات في الحقوق والواجبات والصفات فإذا سويت بين المخلوق الحقير وبين الخالق الجليل فيما يستحقه الله وفيما يتصف به سبحانه وتعالى فقد جعلت لله ندا وأشركت بالله عز وجل فلا يقبل منك الفرض المؤقت يقول الله جل وعلا في سورة الشعراء: {وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العلمين * وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم *

} .

فإذا سويت بين المخلوق والخالق لا يغفر لك عند الله عز وجل ولا يقبل منك عمل لأنك خرجت عن رسم العبودية وحقيقتها وصرت عدوا لله جل وعلا: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .

وقال جل وعلا في سورة المائدة: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار*} .

وهكذا في سورة الأنعام بعد أن ذكر الله ثمانية عشر رسولا من أنبيائه ورسله على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه بدأهم بخليله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم *} .

ص: 14

بعد أن عدد الله هؤلاء الأنبياء والرسل على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه قال: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} .

وهكذا وجه الله الأمر لنبيه خير خلقه عليه الصلاة والسلام فقال كما في سورة الرعد: {قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب} .

وقال جل وعلا في سورة الزمر: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لإن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} .

وقال العبد الصالح لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} .

وأمر الله الموحدين أن يقولوا لمن يدعون عبادة رب العالمين من أهل الكتاب السابقين: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} .

فمن اتصف بهذا الوصف الثاني فقد نقض عبوديته ولا يقبل منه فرض مؤقت.

والأمر الثالث النفاق:

ويراد منه النفاق الأكبر وهو أن يظهر الإنسان الإيمان ويبطن الكفران بالرحمن ويدخل في هذا أن لا يرى من ينتمي إلى الإسلام وجوب طاعة النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمر ولا تصديقه فيما أخبر ولا الانتهاء عما عنه زجر وحذر عليه الصلاة والسلام وأن يسر الإنسان بانخفاض أهل الإيمان وأن يظهر البهجة والسرور لظهور أهل الكفران فمن وجد فيه هذا الوصف الملعون فهو كافر منافق النفاق الأكبر وهو عدو للحي القيوم وقد جمع الله بين المنافقين وبين المشركين والكافرين في الحكم في الدنيا والآخرة فقال جل وعلا في سورة التوبة ونظير هذه الآية في سورة التحريم: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} .

ص: 15

وقال جل وعلا في آخر سورة الأحزاب: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما*} .

وقال جل وعلا في سورة النساء: {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا * وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا * الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا * إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا * إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما *} .

والوصف الرابع الردة:

ص: 16

وهي الخروج من الدين بعد الدخول فيه كفر بعد الإيمان من اتصف بهذا نقض عبوديته لله فلا يقبل منه الفرض المؤقت وقد أشار الله إلى هذا في كثير من آيات كتابه فقال جل وعلا في سورة آل عمران: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين * أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم * إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون * إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين *} .

يقول الله جل وعلا في سورة النساء: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} .

وهكذا قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون *} .

وقد حكم الله بالردة على أناس في أول الأمر قالوا للكفار سنطيعكم في بعض الأمر يقول الله جل وعلا في سورة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إصرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم *} .

ص: 17

فمن قدم لكافر بيضة في يوم عيده تعظيما لذلك اليوم فقد عظم شعائر الكفر وهذه ردة منه لو عبد الله خمسين سنة حبط عمله وهو من الكافرين عند رب العالمين: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فص ضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين *} .

وقد حكم الله بالردة والكفر على أناس في أول الأمر أيضا استهزءوا ببعض شعائر الله فقال جل وعلا: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبؤهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون * ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين *} .

والآيات نازلة في فريقين من المنافقين كما في كتب السير في مغازي الإمام ابن إسحاق وغيره عليهم جميعا رحمة الله.

ص: 18

الفريق الأول: هم الذين وقعوا في أعراض القراء امتهانا لشعائر رب الأرض والسماء فقالوا قراؤنا أكذب الناس ألسنة وأرغبهم بطونا وأجبنهم عند اللقاء.

والصنف الثاني: عندما تهيأ النبي عليه الصلاة والسلام لغزو بني الأصفر بلاد الروم قال المنافقون وأرجفوا أتظنون أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لو قابلتموهم لأصبحتم مقرنين في الحبال فلما أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك وقال لهم علام قلتم هذا قالوا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام نمزح نلعب لا نقصد الاستهزاء بالقراء ولا التثبيط والخوف من أعداء رب الأرض والسماء فأنزل الله: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} .

والوصف الخامس الذي ينقض وصف العبودية البدعة المكفرة:

وضابطها أن يعتقد الإنسان شيئا لم ترد به شريعة الله المطهرة بل ورد بخلافه إثباتا ونفيا ويكون ذلك الوارد معلوما من الدين بالضرورة ثم قال هؤلاء بدعة تنقض ذلك المعلوم من دين الله بالضرورة فهذه البدعة مكفرة كما هو الحال في بدعة القدرية الغلاة الذين نفوا علم الله بالأشياء قبل حدوثها ووقوعها كما هو الحال في بدعة الشيعة الغلاة الذين ألهوا علي وغيره على سيدنا علي وعلى جميع الصحابة رضوان الله أجمعين كما هو الحال في بدعة زنادقة الصوفية الذين قالوا بحلول الخالق في بعض المخلوقات كما هو الحال في بدعة سفهاء بعض من ينتمي إلى السلفية في هذه الأيام فيصول ويجول على عباد الرحمن بالتكفير من أجل أنهم خالفوه في رأي وذلك الرأي على غاية ما يمكن أن يقال إنه راجح أو مرجوح أو خطأ؛ هذا كله من البدع المكفرة التي انتشرت في هذه الأمة.

إخوتي الكرام:

ص: 19

اشتط كثير من السفهاء في هذه الأيام ممن يدعون الانتساب إلى سلفنا الكرام ولا سلف لهم إلا غلاة الخوارج أهل البدع والأوهام فكفروا عباد الرحمن اعتداءا منهم على أهل الإسلام وقد خشي نبينا عليه الصلاة والسلام على أمته من هذا الصنف.

ثبت في مسند البزار ومسند أبي يعلى وصحيح ابن حبان والحديث رواه الإمام المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء 1/188 إسناده حسن وقال الإمام ابن كثير في تفسيره في الجزء 2/265 إسناده جيد ولفظ الحديث عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [إنما أتخوف عليكم رجلا قرأ القرآن حتى إذا رئيت عليه بهجته وكان ردءا للإسلام اعتزل إلى ما شاء الله وخرج على جاره بسيفه ورماه بالشرك] ؛ قال حذيفة قلت يا نبي الله صلى الله عليه وسلم أيهما أولى بالشرك الرامي أو المرمي فقال عليه الصلاة والسلام: بل الرامي] .

فمن اتصف بشيء من ذلك فقد نقض عبوديته لربه فلا يقبل منه الفرض المؤقت: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} .

وقد أخبرنا أنه في آخر الزمان سيضيع كثير من الناس الفرض الدائم مع قيامهم بالفروض المؤقتة ثبت في مستدرك الحاكم في كتاب الفتن في الجزء 4/442 بإسناد صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم وموقوفا عليه وله حكم الرفع والأثر عزاه الإمام السيوطي في جمع الجوامع إلى كتاب تاريخ الحاكم مرفوعا إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ولفظ الأثر الموقوف الذي في المستدرك قال عبد الله بن عمرو: [سيأتي على الناس زمان يجتمعون فيه في المساجد ليس فيهم مؤمن] .

ص: 20

وثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير وإسناد الأثر صحيح رجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع وشداد بن معقل روى له البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وذكره البخاري في صحيحه ولم يروي عنه أحد من أصحاب الكتب الستة رواية متصلة ضمن إسناد ولفظ الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: أول ما يرفع منكم الأمانة وآخر ما يرفع الصلاة وليصلين أقوام ولا دين لهم ولينزعن القرآن من بين أظهركم قالوا أبا عبد الرحمن كيف ينزع من بيننا وقد أثبتناه في مصاحفنا قال يسرى عليه ليلا فلا يبقى في الأرض منه شيء.

نعم إذا كان يعظم شعائر الكفر ويركن إلى الكفار فإذا صلى لا دين له عند العزيز القهار.

إخوتي الكرام:

أما ما يتعلق بأول الأثر وأن أول ما يرفع الأمانة فقد أشير إلى ذلك في حديث نبينا عليه الصلاة والسلام ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير والحديث رواه ابن حبان والحاكم وإسناده صحيح من رواية أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما نقضت عروة تشبس الناس بالتي تليها فأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة.

ورواه الإمام أحمد في المسند من رواية فيروز الديلمي رضي الله عنه وأرضاه وهذا المعنى أيضا ثابت مروي في آثار أخر روى الإمام الطبراني في معجمه الصغير من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أول ما يرفع الأمانة وآخر ما يرفع الصلاة ورب مصل لا خير فيه] .

ص: 21

والحديث في إسناده حكيم بن نافع قد وثقه الإمام ابن معين وضعفه أبو زرعة كما قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء 7/321، والحديث رواه أبو يعلى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه بإسناد ضعيف انظروا روايته أيضا بهذا المعنى:[أول ما يرفع الحياء والأمانة وآخر ما يرفع الصلاة ثم قال وأحسبه قال وليصلين أقوام لا خلاق لهم] .

وأما المعنى الذي أشار إليه عبد الله بن مسعود في آخر حديثه في رفع القرآن فهو معنى ثابت في صحيح الأخبار عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام وفيما ورد عن الصحابة والتابعين الأبرار من آثار والآثار في ذلك مستفيضة ولذلك قرر أئمتنا أن كلام الله منه بدا وإليه يعود حيث يرفع إليه في آخر الزمان عندما يهجره الأنام.

أسأل الله أن لا يجعل هذا الزمان وقتا لتلك البلية بفضله ورحمته فحقيقة إن الأمة تشهد بلية عظيمة في هذه الأيام رفعت الطين ووضعت الدين وكثير منا صلى إلى القبلة وهو على غير الملة أسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وخير خلق الله أجمعين.

اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا.

وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

إخوتي الكرام:

تدارسنا صنفين من ثلاثة أصناف الصنف الأول حقق ذلك الوصف ـ العبودية لرب البرية ـ على التمام فهم أولياء الرحمن والصنف الثاني أضاعه فهم أعداء الرحمن وأولياء الشيطان والصنف الثالث يأتينا الكلام عليه قد يفعلون ما يحبط العمل عند الله عز وجل دون أن يخرجوا عن رسم العبودية وحقيقتها أتكلم على ضابط ذلك وعلى أمثلة ثابتة في الأحاديث الصحيحة لهؤلاء في الموعظة الآتية إن شاء الله.

ص: 22

اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة. ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك، ومن المقربين لديك، وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.

اللهم صلي على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم.

اللهم ارحم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً.

اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف وهذا المكان المبارك.

اللهم اغفر لمن عبد الله فيه اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريباً سميعاً مجيباً للدعوات والحمد لله رب العالمين وصلي الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر *} .

ص: 23