المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خمس خصال في شهر رمضان - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ٩٤

[عبد الرحيم الطحان]

الفصل: ‌خمس خصال في شهر رمضان

‌خمس خصال في شهر رمضان

(من خطب الجمعة)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

بسم الله الرحمن الرحيم

خمس خصال في شهر رمضان

20

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.

الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة طاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.

"يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".

وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".

أما بعد: معشر الأخوة الكرام..

ص: 1

تقدم معنا أن شهر رمضان هو سيد شهور العام وأفضلها عند ذي الجلال والإكرام وقد فرض الله فيه الصيام على هذه الأمة المرحومة المباركة وعلى الأمم التي سبقتها كما انزل الله في هذا القرآن العظيم وكذلك أنزل سائر كتبه على جميع النبيين المتقدمين على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام: وقد اختص الله القرآن الذي نزل في شهر رمضان بخصائص حسان لا توجد في الكتب السابقة التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام فمن تلك الخصائص ما تقدمت الإشارة إليه مجملاً من أن القرآن العظيم نزل في شهر رمضان مرة واحدة ودفعة كاملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ونزل جبريل -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بخمس آيات أيضاً من سورة العلق في شهر رمضان على نبينا – عليه الصلاة والسلام ثم نزل القرآن بعد ذلك مفرقاً يساير الحوادث والوقائع في ثلاث وعشرين سنة وهذه الخِصّيصة خص الله به قرآنه الذي أنزله على افضل أنبياءه ورسله (على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه) .

فالكتب السابقة كانت تزل جملة واحدة على أنبياء الله ورسله (على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه) أما القرآن فحصل فيه هذا المعنى عندما نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم فُرّق في ثلاث وعشرين سنة وهذه خِصّيصة لنزول القرآن لم يشاركه في ذلك أي كتاب سماوي نزل قبل القرآن وقد أشار ربنا الرحمن إلى هذا فلما ذكر اعتراض المشركين على نزول القرآن مفرقاً على نبينا عليه الصلاة والسلام وأرادوا أن ينزل جملة واحدة (وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) .

ص: 2

هذا الكتاب يمتاز على الكتب السابقة فلا بد أن يختلف في كيفية نزوله عن نزول الكتب السابقة وما قال الله جل وعلا هذه سنتي في الكتب التي أنزلتها على الأنبياء وقبل محمد على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ولذلك عندما اعترض المشركون على بشرية نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأنه بشر مثلهم وينبغي أن ينزل عليهم تلك قال الله جل وعلا: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا".

فنبيا عليه الصلاة والسلام من البشر وهكذا سائر أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه من البشر، أما القرآن فنزل في كيفية وبكيفية وطريقة تختلف عن نزول الكتب السابقة (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) .

وهكذا اختص الله القرآن أيضاً بحفظه ولم يتعهد الله بحفظ الكتب السابقة "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ومن حفظ الله لكتابه أن يسّر حفظه على الأمة التي نزل عليها هذا القرآن، فقال ربنا الرحمن أربع مرات في سورة القمر:"ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" فأناجيل هذه الأمة صُدُورهم وهذا القرآن موجود في قلوبهم (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) .

إخوتي الكرام: وكما خص الله القرآن الذي نزل في شهر رمضان بخصائص كثيرة فقد خص الله هذه الأمة المباركة في شهر رمضان بخصائص لا توجد للأمم السابقة أيضاً نعم فرض الله علينا الصيام وفرضه على الأمم السابقة وصومنا وصومهم واحد كما تقدم معنا وهو صوم هذا الشهر الكريم لكن ما أغدق الله علينا من النعم في هذا الشهر ما حصل في الأمم السابقة لكرامة هذه الأمة على الله جل وعلا ولِعُتُوِّ الأمم السابقة وجحودهم وعنادهم وجدالهم لأنبيائهم على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وسأشير إلى ما يقرر هذا مجملاً ثم أتتكلم بعد ذلك بشيء من التفصيل على هذا الموضوع.

ص: 3

إخوتي الكرام: ثبت في كتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي والحديث رواه الحسن بن سفيان في مسنده وإسناد الحديث كما قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب مُقارب –بصيغة المبني للفاعل – ويقال بصيغة المبني للفاعل ويقال لصيغة المبني للمفعول مُقاربٌ مُقارَب. وقد اقر الإمام ابن حجر في الفتح قول الإمام المنذري بأن إسناد الحديث مُقَارِبٌ أو مُقَارَبٌ وإذا كان بصيغة اسم المفعول مقارِبٌ أي رجال إسناد هذا الحديث يقاربون غيرهم في الحفظ والإتقان والضبط والأمانة. وإذا كان بصيغة المفعول مُقارَبٌ فرجال الأحاديث الأخرى يقاربون إسناد هذا الحديث ضبطاً وحفظاً وإتقاناً وهذا من ألفاظ التعديل كما قرر أئمتنا في كتب علوم الحديث.. إسناد الحديث مقارِب ولفظ الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال لم يعطها – لم يؤتها- نبي قبلي –أعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال لم يؤتها نبي قبلي:

أما الخصلة الأولى: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم جميعاً ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبداً.

الخصلة الثانية: فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك.

الخصلة الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة.

الخصلة الرابعة: فإن الله يقول لجنته تزيني واستعدي لعبادي أوشك أن يستريحوا إلى داري وكرامتي.

الخصلة الخامسة: إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان غفر الله لهم جميعاً.

ص: 4

فقال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام: أهي ليلة القدر؟ (قال لا..ألم تر إلى العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفّوا أجورهم!!) فإذا فرغوا من أعمالهم وفّوا أجورهم هذه خصال أكرم الله بها هذه الأمة المرحومة في شهر الصيام ما أعطاها الله لأمة من الأمم السابقة قبل أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ولفظ النظر الوارد في أول خصلة (نظر الله إليهم جميعاً) صفة النظر التي يتصف بها ربنا جل وعلا من الصفات المفيدة بمشيئة الله وقدرته يفعلها متى شاء لمن شاء – سبحان الله – فينظر إلى من شاء ولا ينظر إلى من شاء كما وردت بذلك آيات القرآن وتواترت بذلك الأحاديث الثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

ففي سورة آل عمران يقول ذو الجلال الإكرام: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاف لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا تزكيهم ولهم عذاب أليم) فصفة النظر تختلف عن صفة العلم فصفة العلم تتعلق بكل شيء وصفة النظر لا تكون إلا لمن رضي الله عنه وأحبه وأكرمه ينظر إلى هذه الأمة وإذا نظر الله إلى إنسان سيرحمه ولابد.

ص: 5

كما ثبت ذلك عن أبي عمران الجَوْني وهو من أئمة التابعين الكبار توفي سنة 123هـ وقيل سنة 128هـ وهو عبد الملك بن حبيب أدرك أنس بن مالك وجندب بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين فهو من التابعين وهو ثقة إمام عدل رضا حديثه مخرج في الكتب الستة نقل أبو نعيم عنه في حلية الأولياء في ترجمته، والأثر ثابت عنه في تفسير ابن أبي حاتم كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوي في الجزء 13 ص 133 عن هذا العبد الصالح أبي عمران الجوني أنه قال:(ما نظر الله إلى عبد إلا رحمه ولو نظر الله إلى أهل النار لرحمهم وأخرجهم منها ولكن قضى عليهم ألا ينظر إليهم)"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لاخلاق لهم في الآخرة ولا يكلهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم".

والأحاديث كما قلت إخوتي الكرام بذلك متواترة أن الله ينظر إلى من رضي عنه ولا ينظر إلى من غضب عليه.

ففي صحيح مسلم والحديث رواه الإمام النسائي أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " شيخ زان وعائل متكبر وملك كذاب " لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وثبت في المسند والسنن الأربعة وصحيح مسلم، من رواية أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " لا ينظر الله إليهم. فصفة النظر تعيده بمشيئة الله وقدرته ينظر إلى من رضي عنه ولا ينظر إلى من غضب عليه، فتختلف عن صفة العلم، ولذلك أكرم الله هذه الأمة المرحومة بأن نظر الله إليهم في أول ليلة من شهر رمضان ومن نظر الله إليه فلن يعذبه أبداً.

ص: 6

إخوتي الكرام: إن الصيام الذي فرضه علينا ذو الجلال والإكرام في شهر رمضان أغدق الله علينا في هذا الشهر من الخيرات والإنعام مال يحصل للأمم السابقة..

إن الصيام يكفر الذنوب ويستر العيوب إن الصيام يحول بينك وبين النيران، إن الصيام سبب لتحصيل الخيرات في العاجل إن الصيام سبب لتحصيل الخيرات في الآجل.. نعم كثيرة أغدقها الله على هذه الأمة سأتكلم على هذه الأمور الأربعة في هذه الموعظة إن شاء الله..

إخوتي الكرام: هذا الصيام يكفر الذنوب ويستر العيوب وهذا من رحمة علام الغيوب بهذه الأمة أن جعل الصيام لهم مكفراً لذنوبهم وساتراً لعيوبهم ثبت في المسند وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام الترمذي في سننه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) مكفرات لما بينهن-في رواية – إذا لم تُفش الكبائر..أي أن هذه الطاعات من الصلاة، والجمعة والصيام تكفر ذنوب الإنسان إذا اجتنب الكبائر المهلكة (وهي كل ذنب أوعد الله عليه بعقوبة شديدة في الآخرة أو عليه حد مقدر في الدنيا) .

وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ذلك في أحاديث كثيرة ففي المسند والكتب الستة (في الصحيحين والسنن الأربعة) من حديث أبي هريرة أيضاً رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ..من صام رمضان مؤمناً بأن الله فرض الصيام وله على عباده حق الطاعة على الدوام واحتسب –أي طلب الأجر من صيامه من ربه جل وعلا له عهد عند الله بأن الله يغفر ما تقدم من ذنبه.

ص: 7

زاد الإمام أحمد في المسند في روايته والإمام النسائي في السنن في روايتهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: (غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) وهذه الزيادة رُويت في "تاريخ بغداد" بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".

وانظروا الحديث إخوتي الكرام في تاريخ بغداد في الجزء 6/128 وإسناد الحديث صحيح. وقد صحح الإمام المنذري في الترغيب والترهيب هذه الزيادة وصححها الحافظ ابن حجر في كتابين من كتبه في فتح الباري، وفي الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة وقد نص على تصحيحها شيخ الإسلام أيضاً الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد وعليه ما قاله بعض الناس في هذه الأيام من أن هذه الزيادة شاذة قول شاذ لا يعول عليه فالشذوذ يكون عندما تتخالف الروايتان ولا يمكن الجمع بينهما وأما إذا حفظ الثقة ما لم يحفظ غيره وضبط مالم يضبط غيره فهذه زيادة ثقة وهي مقبولة معتبرة عند أئمتنا الكرام فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ولا يشكلن عليك هذه الزيادة: وما تأخر كيف ستغفر للإنسان الذنوب المتأخرة؟! لا إشكال، وقد وضح أمير المؤمنين في هذا الحديث لحافظ ابن حجر عليه رحمة الله معنى هذه الزيادة بأمرين معتبرين:

أولهما: أن من قُبل صومه في هذا الشهر الكريم يحفظ من معصية رب العالمين بعد ذلك "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" غفرت له الذنوب المتقدمة وصار في حفظ من الله ورعايته في الأيام المستقبلة فلا يقع في ذنب ولا يصدر منه عيب.

والمعنى الثاني: وهو أيضاً ثابت صحيح لو قدر أنه وقع في شيء من الزلل مما لاتنفك عند طبيعة البشر فإن ذلك يقع مكفراً مغفوراً بفضل الله ورحمة الله عز وجل (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) .

ص: 8

نعم.. فرض الصيام على هذه الأمة وعلى الأمم السابقة لكن خصنا الله في الصيام بخصائص لم يعطها للأمم السابقة كما خصنا في كتابنا بخصائص لم يعطها للأمم السابقة.

هذه الخصلة الأولى إخوتي الكرام: الصيام يكفر الذنوب الصيام يستر العيوب.

الخصلة الثانية: الصيام يبعدك عن نار الجحيم يبعدك عن دار العاصين فمن صام لله رب العالمين باعد الله وجهه عن نار الجحيم.

ثبت في المسند والحديث في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام يوماً في سبيل الله، بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" يعني سبعين عاماً كما ورد ذلك في روايات أخر.

والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وأهل السنن الأربعة إلا سنن أبي داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية أبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أنه من صام يوما في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين عاماً بذلك اليوم الذي صامه لله جل وعلا نعم هذا أجر صيام اليوم إذا تقبل عند الله جل علا نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يقبل صيامنا وأن يجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم كما تفضل علينا بفريضة الصيام بغير اختيار منا نسأله أن يقبل صيامنا بفضله دون جدنا واجتهادنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام وهذا أقل ما يحصل للإنسان إذا صام صوماً رضية الرحمن وإذا أخلص الإنسان في نيته لربه على التمام وجد واجتهد في الصيام له أجر يزيد على ذلك فيباعد وجهه عن النار مسافة أكثر من ذلك.

ص: 9

ثبت الحديث بذلك في سنن النسائي بسند صحيح كالشمس من رواية عقبة ابن عامر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام " مسيرة مائة عام والحديث رواه الإمام الطبراني في الكبير وفي معجمه الأوسط من رواية عمر ابن عبسة وروي عن عرة من الصحابة الكرام روي عن معاذ بن انس وعن أبي أمامة وعن سفيان ابن عبد الله الأزدي رضي الله عنهم أجمعين "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام " مسيرة مائة عام.

وروى الإمام الترمذي في سننه وحسن إسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه والحديث رواه الإمام الطبراني في الأوسط والصغير من رواية ابي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض"، "جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض".

وحديث أبي أمامة حسن وحديث أبي الدرداء حسن نص على ذلك الإمام الهيثمي والإمام المنذري عليهم جميعاً رحمة الله إذا هذه أجور عظيمة يحصلها الصائم تغفر له ذنوبه المتقدمة والمتأخرة ويباعد الله وجهه عن النار سبعين عاماً مائة عام يجعل بينه وبين النار خندقاً أعظم ما بين السماء والأرض بحيث لا يرى منظر النار ولا يعتريه هول ولا فزع ولا يشم ريحها ولا يرى لهيبها هذا أجر صيام يوم واحد إذا تُقبّل عند الله جل وعلا.

ص: 10

إخوتي الكرام ولفظه (في سبيل الله) الواردة في الحديث "من صام يوماً في سبيل الله " قصرها الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله على الصيام في الغزو في الجهاد إذا لم يشق الصيام على الإنسان، فله هذا الأجر الكبير عند ذي الجلال والإكرام من صام وهو مجاهد غازٍ يوماً في سبيل الله جل وعلا له هذا الأجر الكبير وهذا الذي مال إليه الإمام ابن دقيق العيد عليهم جميعاً رحمة الله وقد خالفهما فيما قالا الإمام أبو العباس القرطبي في الفُهْم في شرح صحيح مسلم فقال: المراد من قوله " في سبيل الله " أي طلباً للأجر عند الله وابتغاء وجه الله سواءٌ كان مجاهداً أو لا وهذا الذي قرره الإمام ابن حجر عليه رحمة الله في فتح الباري فقال: إن الأمر أعم من ذلك. فمن صام في سبيل الله – يعني في القتال والغزو له ذلك الأجر- ومن صام من حال الإقامة طلباً للأجر عند الله فله ذلك الأجر وكلمة في سبيل الله أعم من الغزو ومن غيره فلا داعي لقصرها على نوع من أنواع معانيها. (من صام يوما في سبيل الله) أي يوماً طالباً للأجر في صيام من الله جل وعلا، من صام لله إيماناً واحتساباً فله بذلك اليوم أن يبعد الله وجهه عن النار سبعين عام مائة عام أن يجعل بينه وبين النار خندقاً كالمسافة التي بين السماء والأرض.

إخوتي الكرام: هذه فضائل جعلها الله للصيام لهذه الأمة المباركة والفضيلة الثالثة أنك بالصوم تحصّل خيرات عاجلة والخيرات العاجلة كثيرةٌ كثيرة سأتكلم على ثلاث منها فقط.

ص: 11

أولها: الملائكة تستغفرك والله وملائكته يصلون عليك في هذا الشهر الكريم –الله وملائكته يصلون عليك يستجيب الله دعاءك في شهر رمضان وخاصة عندما تكون على مائدة الإفطار، خُلوف فمك أطيب عنده من ريح المسك فوائد جليلة يحصلها الإنسان في هذه الحياة أما الأولى فقد ثبت ما يدل عليها عن نبينا عليه الصلاة والسلام روى ابن حبان في صحيحه وأبو نعيم في الحلية والطبراني في معجمه الأوسط وإسناد الحديث حسن من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " سبحانك ربي –سبحانك ربي أنت أخبرتنا في كتابك مع ملائكتك تصلون على النبي الأمين عليه الصلاة والسلام فأشركتنا في تلك الفضيلة في هذا الشهر الكريم أشركتنا مع نبيك فأنت وملائكتك تصلون علينا. (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) .

وتقدم معنا في أول الموعظة حديث جابر أن الملائكة تستغفر لهم في يومهم وعليهم الملائكة تستغفر لك ليل نهار في شهر الصيام الله وملائكته- عندما تجلس على طعام السحور من أجل أن تتقوى على الصيام طاعة للعزيز الغفور تنال هذه الجائزة من الله – الله يصلي عليك – وملائكته تصلي عليك، أي فضيلة بعد هذه الفضيلة (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) .

ص: 12

وقد ثبت في مسند الإمام أحمد بسند قوي رجاله محتج بهم وإسناده كالشمس حديث صحيح من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "السحور بركة فلا تدعوه " السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم بجرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين.. السحور هو الطعام الذي يؤكل عند السّحر والسُّحُور بالضم هو أكلك وفعلك.. السُحور بركة أي طعام السحور عندما تتناولونه، هذا الطعام بركة، بركة دينية كيف لا!! وهذا سبب لصلاة الله وملائكته عليك، بركة دنيوية تتقوى به على الصيام، بركة دينية تخالف به أهل الكتاب الذين غضب عليهم وما كانوا يتسحرون. (السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم بجرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) .

الله وملائكته يصلون على المتسحرين الحديث ثابت بذلك في المسند من رواية أبي سعيد – ومن رواية ابن عمر في الكتب المتقدمة رضي الله عنهم أجمعين. وكون السُحور بركة ثابت هذا في أصح الكتب في الصحيحين وغيرهما ففي المسند والصحيحين والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود من رواية أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تسحروا فإن في السحور بركة) تسحروا فإن في السحور بركة..بركة دينية ودنيوية..

هذه أول فضيلة في العاجل في هذه الحياة تنال شرف صلاة الله عليك وشرف صلاة الملائكة عليك وشرف استغفار الملائكة لك، في هذا الشهر الكريم.

فأي شهر أكرم من هذا الشهر وأي نعمة أعظم من هذه النعم التي أغدقها الله على هذه الأمة المرحومة على نبينا صلوات الله وسلامه في هذا الشهر الكريم.

ص: 13

أما الفائدة الثانية العاجلة: أنت في شهر الصيام يُستجابُ دعاؤك عند ذي الجلال والإكرام ولذلك وسط الله آية الدعاء آية الأمر بدعائه في وسط آيات الصيام فقال جل وعلا بعد أن أمرنا بالصيام (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ثم أكمل أحكام الصيام (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم..) وما الحكمة من ذكر آية الدعاء في وسط آيات الصيام!! لأمرين معتبرين: لتكثر أيها الصائم من الدعاء لئلا يفتر لسانك من دعاء ربك في هذا الشهر فاغتنمه.

الأمر الثاني: للإشارة إلى أنك الآن مرضيّ عنك، مُنعم عليك، دعاؤك يستجاب ويقبل فالله وملائكته صلوا عليك، فاغتنم دعاء الله جل وعلا. والإلحاح عليه في هذا الشهر الكريم وقد قرر نبينا صلى الله عليه وسلم أن الصائم يستجاب دعاؤه حتى يفطر وحين يفطر له دعوة خاصة مقبولة.

ثبت في المسند وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه أيضاً والحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وقد حسنه الإمام الترمذي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين) الصائم حتى يفطر، وورد في بعض الروايات:(الصائم حين يفطر) والجمع بينهما أن دعاؤك ما دمت صائماً يستجاب، ولك فيه قبول وإجابة عند الفطر فأنت على مائدة الكريم فاغتنم سؤاله بما تريد.

ص: 14

ولذلك ثبت في مسند ابن ماجه ومستدرك الحاكم وقال صحيح وأقره عليه الإمام الذهبي والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان وابن السني في عمل اليوم والليلة من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للصائم دعوةً عند فطره ما تُرد) إن للصائم دعوة لا ترد فكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين إذا صار وقت الإفطار دعا بنيه وقال: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لنا..

(إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد) إذاً هذه كرامة ثانية أكرم الله بها الصائمين من أمة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام في هذا الشهر الكريم أكرمهم بأن استجاب دعائهم في هذا الشهر وأعطاهم كرامة خاصة وإجابة خاصة عند الفطر.

الفائدة الثالثة: والكرامة الثالثة العاجلة خلوف فمك وتغير الرائحة التي تصبح فيه من خلاء المدة من الطعام هذا الخلوف أطيب عند ذي الجلال والإكرام من ريح المسك أطيب عند الله من ريح المسك وقد ثبت ذلك في المسند ورواه أهل الكتب الستة إلا سنن أبي داود فهو في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه والحديث رواه ابن مالك في الموطأ والدارمي في سننه والحديث صحيحٌ صحيح في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى في الحديث القدسي ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

ص: 15

وكلمة الخلوف -بضم الخاء- على الراجح وحُكي الفتح الخلوف وقد بالغ الإمام النووي فخطأ رواية الفتح لكنها منقولة عن أئمتنا..نعم إن الضم هو الأشهر وهو الأكثر لخُلوف فم الصائم أي تغير رائحة فمه أطيب عند الله من ريح المسك، وهذه الأطيبية والأفضلية ثابتة في الدنيا والآخرة ثبت في المسند وسنن النسائي وصحيح مسلم في بعض روايات الحديث المتقدمة ولخلوف فم الصائم عند الله يوم القيامة أطيب من ريح المسك وهذا ثابت أيضاً في الدنيا ففي المسند وصحيح ابن حبان ولخلوف فم الصائم حين يخلُف أطيب عند الله من ريح المسك.

ومعنى هذه الجملة: ذكر أئمتنا معاني كثيرة تحتملها أوصلها ائمتنا إلى ستة معانٍ سأقتصر على ثلاثة منا هي أظهرها وأوجهها.

أولها: ما ذهب إليه الإمام المازري وشيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر عليهم جميعاً رحمة الله أي: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم. فإذا كانت ريح المسك عندكم طيبة مقبولة فريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم هذا ما ذهب إليه هذان الإمامان وقال بقولهماجم غفير من أئمة الإسلام.

وذهب شيخ الإسلام الإمام النووي عليهم جميعاً رحمة الله إلى أن معنى الحديث: لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك أي أكثر أجراً، وأعظم عند الله وقعاً من الطيب الذي أمرنا أن نتطيب به للمواسم في الجُمع والأعياد، فذاك الطيب مندوب ونثاب عليه عند علام الغيوب لكن هذه الرائحة لها أجر أكثر من أجر الطيب الذي تتطيب به للجمع والأعياد في المواسم العامة. والمعنى الثالث ذهب إليه الإمام المعز بن عبد السلام وهو فيما يظهر لي أرجح المعاني مع اشتمال الحديث للمعنيين المتقدمين.

ص: 16

قال الإمام العز بن عبد السلام إن هذه الرائحة هي جزاء الصيام يوم القيامة فمن صام وقبل صومه في هذه الحياة يبعث بعد الممات له رائحة يتميز بها بين الخلق بريح المسك، رائحته تكون يوم القيامة أطيب عند الله من ريح المسك، أي يجازي بذلك في عرصات الموقف وساحة الحساب لأن هذا من الصائمين المقبولين عند رب العالمين.

وإذا كان المعنى كذلك وهو كذلك، فانتبه لهذه الدلالة العظيمة التي فرق بها نبينا عليه الصلاة ة والسلام بين تغير فم رائحة الصائم وبين دم المجاهد يُهدر دمه في سبيل الله جل وعلا وكيف فضل رائحة فم الصائم على رائحة دم المجاهد عندما يبعث يوم القيامة.

ثبت في الصحيحين والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي والترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مكلوم يكلم في سبيل الله –والكَلْم هو الجرح –والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثقب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وأهل السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه "اللون لون الزعفران والريح ريح المسك" فانتبه لهذا الفارق جعل نبينا عليه الصلاة والسلام ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وجعل دم المجاهد كريح المسك وشتان بين الأمرين، هنا يفوق رائحة المسك وهو أطيب منها وهناك كالمسك دم المجاهد مع عظم قدرته عند الله جل وعلا يأتي برائحة المسك أما هذه الرائحة التي يتأفف منها البشر فهي عند الله جل وعلا أطيب من ريح المسك، وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

والحديث كما تقدم معنا في الصحيحين وغيرهما وفي ذلك تفضيل لخلوف فم الصائم على رائحة دم المجاهد عندما يبعثنا من يوم القيامة..أما ذاك فريحه كريح المسك وأما أنت إذا قل صومك فريحك أطيب عند الله من ريح المسك.

ص: 17

هذه فائدة ثالثة: يحصلها الصائم في هذه الحياة ريحه في هذه الحياة وعند الله أطيب من ريح المسك.

هذه فوائد عاجلة يحصلها الصائم في صومه في هذه الحياة يصلي الله وملائكته عليه يستجيب الله دعاءه مادام صائماً وعند فطره، خلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك. وأما الفوائد الآجلة التي تكون في الآخرة ففي ذلك ما لا يخطر بالبال ولا يقع في الحسبان سأقتصر أيضاً على ثلاث منها حسان.

أولها: الصوم يشفع لك.

وثانيها: تدخل من باب الريان في يوم العطش والظمأ فلا تظمأ أبداً.

وثالثها: توفي أجرك بغير حساب وتعطي مالا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

أما أن الصوم يشفع فقد اخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن هذا ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه الحاكم وقال على شرك مسلم وأقره عليه الإمام الذهبي والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان ورواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب فضل الجوع وإسناد الحديث صحيح من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال "الصيام والقرآن يشفعان للعبد عند الرحمن".

أما الصيام فيقول: أي رب..أي ربي منعته الطعام والشهوة في نهار رمضان في نهار صومه.

أما القرآن فيقول: أي ربي منعته النوم في ليله – عندما يقوم به ويناجي به ربه – فشفعني فيه –قال نبينا عليه الصلاة والسلام فيُشفّعَان-هنيئاً هنيئا لمن كان شفيعه شفيعاً له وتباً تبا لمن كان شفيعه خصماً له.

أخي الكريم: هذا الصوم إما أن يشفع لك عند الله العظيم وإما أن يخاصمك أمام أحكم الحاكمين والويل لمن كان شفعاؤه خصماء له شفيعك يخاصمك،،اللهم شفّع فينا الصيام والقرآن وشفع فينا نبيك عليه الصلاة والسلام إذن تنال هذه الجائزة عند الله – الصوم يأتي ويشفع لك ويقول ربي منعته الطعام والشهوة في نهار الصيام فشفعني فيه فيشفع الله الصيام في هذا الموحّد – في هذا الإنسان- في ذلك اليوم في يوم الحساب.

ص: 18

وأما الفائدة الثانية والكرام الثانية: الصائمون يدخلون الجنة من باب الريان، والجزاء من جنس العمل فإذا جاعوا وعطشوا والعطش أشق عليهم من الجوع وإذن لهم كرامة عند الله أن يُسْقُوْا وأن يَرْتَوُوا في يوم العطش والظمأ.

وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن هذا الأمر ففي المسند والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان لا يدخل منه إلا الصائمون يقال يوم القيامة أين الصائمون!! فيقومون فيدخلون فإذا دخلوا أغلق ذلك الباب فلم يدخل منه أحد".

والحديث كما قلت إخوتي الكرام في الصحيحين وقد ذهب شرَّاح الحديث إلى أن المراد بالصيام هنا، صيام النافلة والإكثار منه ومع إجلالي لهم واعتبار قولهم فيما يظهر ويبدوا أن الأمر بخلاف ذلك إن الأمر متعلق بصيام الفريضة إذا قبلت وكان على الوجه المرضي وكم من صائم يصوم وحظه من صيامه الجوع والعطش وهو عند الله كالكلب الجائع.

وكم من قائم يقوم وحظه من قيامه التعب والسهر فليس المراد من الصيام هنا صيام النافلة، ولا يوجد من الحديث دلالة على ذلك وأجر صيام الفرض أعظم من صيام النافلة بكثير، إنما هذا الأمر أعني باب الريان هذا أجر لصوم رمضان إذا قبِل عند الرحمن وأما إذا كان الشفيع خصماً فالويل للإنسان – فالويل للإنسان إن هذا في حال قبول الصيام..إذا قبل تدخل الجنة من باب الريان.

والحديث كما قلت مروي في الصحيحين وغيرهما وفي رواية الترمذي زيادة: "فمن دخل منه لم يظمأ " زاد ابن خزيمة في روايته: "من دخل منه شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً " وقد تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بالتنويه بهذا الباب من أبواب الجنة وأنه لا يدخل منه إلا الصائمون..

ص: 19

ففي المسند أيضاً والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله –أي صنفين من أي الأصناف كانت فانفق مثلا لباساً ودراهم، أنفق مثلاً لباساً وكتاباً في سبيل الله أنفق زوجين أي صنفين –من أنفق زوجين في سبيل الله – تقرباً لله وطلباً لرضاه – نودي من أبواب الجنة – أي نادته خزنة الجنة كم ورد هذا في بعض الروايات – نودي من أبواب الجنة – يا عبد الله هذا خير وأفعل التفضيل هنا ليست على بابها أي هذا هو الخير فقط إنفاقك وما يؤدي إليه إنفاقك إلى دخول الجنة هذا خير أي هذا هو الخير لا الإقتتار والإمساك والابتعاد عن أبواب الجنة هذا خير.

قال نبينا عليه الصلاة والسلام فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان. وكما قلت: كلها للأمور الواجبة لكن إذا وقعت موقع القبول عند الله جل وعلا. فقال أبو بكر صديق هذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما على أحد دعى من أحد تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم. نعم وأرجو أن تكون منهم والرجاء إذا أسند إلى الله وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام فهو محقق الوقوع ولا شك أرجو أن تكون منهم أي أنت منهم قسطاً وجزماً.

وهذه الأبواب ذهب كثير من شراع الحديث إلى أنها أبواب داخل أبواب الجنة الثمانية فإذا دخل الناس من أبواب الجنة الثمانية يكون هناك أبواب بعد ذلك للطاعات يدخلون منها إلى نعيم الجنات والعلم عند الله جل وعلا.

ص: 20

إذن باب الريان خاص هذا بالصائمين إذا قبل منهم الصيام لا يدخل ممن هذا الباب أحد معهم، نعم إخوتي الكرام الجزاء من جنس العمل، ومن عطّش نفسه لله عز وجل كان حقاً على الله أن يسقيه يوم العطش.

روى الإمام البزار في مسنده بسند حسن كما قال الهيثمي في المجمع والمنذري في الترغيب والترهيب عن ابن عباس رضي الله عنهما والأثر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب فضل الجوع قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما " أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سَرِيةً –أي فرقة تقاتل في سبيل الله – وأقر عليهم أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين فركبوا البحر فلما كانوا في السفينة ورفعوا الشراع من أجل أن تقود الرياح هذه السفينة وكانوا في ليل مظلم ليس في السماء قمر وإذا بصوت ينادي يا أهل السفينة قِفُوا أخبركم بما قضى الله على نفسه بأنه من أعطش نفسه في يوم صائف كان على الله أن يسقيه يوم العطش. وهذا مَلَكٌ من ملائكة السماء، يخبر هؤلاء الصحابة الكرام بأجر الصيام فكان أبو موسى الأشعري يتحرى اليوم الشديد الحر، الذي يكاد الإنسان أن ينسلخ فيه من العطش إذا صام فيصومه تقرباً لذي الجلال والإكرام.

إذن أيها الصائم لك هذه التحفة عند الله جل وعلا أنك تدخل الجنة من باب الريان بسلام، إذا قُبل منك الصيام..وأما الجائزة الثالثة: التي تحصلها عند الله بعد شفاعة الصيام لك، بعد دخولك الجنة من باب الريان بسلام: تعطى أجراً بغير حساب ما أطلع الله عليه ملكاً ولا نبياً مرسلاً جزاء الصائم لا يعلمه إلا من صمت له، وهو الله جل وعلا، وسيجزيك بما لا يخطر على بالك إذا كان الصيام مرضياً وقبل عند الله المالك –سبحانه وتعالى.

ص: 21

ثبت في المسند وسنن الترمذي والحديث رواه الإمام الدارمي عن رجل من بني سليم صحب النبي عليه الصلاة والسلام ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه ويقرر لنا هذا الحديث أن الصائم يُوِفّى أجره بغير حساب لأن الصوم صبر والله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الصوم نصف الصبر..الصوم نصف الصبر".

هذا شهر الصبر، والله أخبر أنه يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب وورد في كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بسند حسن (والصبر نصف الإيمان) ..الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان والله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب ولذلك سيوفيك أجرك بما لا يخطر على بالك ولا يدخل في حسابك نعم إن هذا الشهر شهر الصبر وقد قرر ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.

ص: 22

ففي مسند البزار بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما والحديث رواه الإمام أحمد في المسند والطبراني في معجمه الكبير ورواه البيهقي في شعب الإيمان وإسناد الحديث صحيح عن بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ورواية البزار عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صوم شهر الصبر ثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَقَرَ الصدر " يعني غله حقده وحسده ووساوسه والشبه التي فيه والشهوات التي غُرست فيه، صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر..نعم هذا شهر الصبر والله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب يُضاف إلى هذا ما قرره أئمتنا الكرام قالوا بين الصيام وبين ذي الجلال والإكرام شَبَهٌ تام ووجه ذلك أن الإيمان سر بينك وبين ربك فأبرز أركان الإيمان: اعتقاد بالجنان وهذا لا يطلع عليه إلا الرحمن وهكذا الصيام فالصوم أخو الإيمان وإذا كان الأجر على الإيمان لا يمكن أن يقدره إنسان ولا يدخل في الحسبان فأجر الصيام كذلك وهذا يحقق قول الله جل وعلا في الحديث القدسي (الصوم لي وأنا أجزي به) وسيأتينا إيضاح هذا وتفصيله في المواعظ الآتية إن شاء الله نسأل الله أن يتقبل منا صيامنا وأن يدخلنا الجنة من باب الريان بسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

أقول هذا القول وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

عباد الله: للاعتبارات المتقدمة كان الصوم لا عدل له ولا مثل له من بين العبادات التي أمرنا الله بها كما أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد

... .

ص: 23