الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمرة الخوف
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
ثمرة الخوف
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..
أشرف بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد، فهي بيوته وفيها نوره وهداه، وإليها يأوي الموحدين المهتدين في هذه الحياة، وقد نعت الله الرجال الذين يعمرون بيوته في الأرض بأربع صفات تدل على أنهم بلغوا رتبة الكمال لا تلهيهم التجارات ولا البيوع عن الغاية التي خلقوا من أجلها يسبحون الله ويصلون له ويعظمونه، يحسنون إلى العباد ويشفقون عليهم ويساعدونهم، يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
اخوتي الكرام: وهذه الصفات الأربع التي نعت الله بها هؤلاء الرجال قد مضى الكلام على ثلاث منها فيما مضى وشرعنا في مدارسة الصفة الرابعة لهؤلاء الرجال {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} وقلت تحت هذه الصفة أمران ينبغي أن نتدارسها.
الأمر الأول:- خوف هؤلاء الرجال من ذي العزة والجلال.
الأمر الثاني:- إثبات يوم الميعاد واستحضاره دائماً في أذهان هؤلاء العباد.
أما الأمر الأول:- ألا وهو خوف هؤلاء الرجال من الكبير المتعال، فقلت سأجمل الكلام عليه في أربعة أمور نتدارس فيها:
1-
تعريف الخوف
2-
منزلة الخوف
3-
وثمرة الخوف
4-
والأسباب التي تدعوا المكلفين للخوف من رب العالمين.
وقد تدارسنا ما يتعلق بالأمر الأول، والثاني ونلخص ما تقدم فنقول:
1-
الخوف هو تألم القلب واحتراقه لتوقع حدوث مكروه في المستقبل
2-
ومنزلة الخوف في شريعة الله عز وجل منزلة عظيمة كيف لا وهو أحد الأركان الثلاثة التي تقوم عليها عبادة اله جل وعلا، حبه، ورجائه، والخوف منه.
اخوتي الكرام..
هؤلاء الرجال بذلوا ما في وسعهم في طاعة ربهم، والإحسان إلى الخلق، وما ألهتهم الدنيا عن الواجب الذي خلقوا من أجله مع ذلك هم خائفون وجلون.
نعم هذا هو شكل المؤمن ورحمة الله على العبد الصالح شقيق ابن إبراهيم أبي علي البجلي عندما يقول مثل المؤمن كمثل رجل زرع نخلة وهو يخشى أن يخرج شوكاً، ومثل المنافق كمثل رجل زرع شوكاً وهو يطمع أن يثمر ثمراً، هيهات هيهات زرع النخل وأحسن عبادة الله ومع ذلك يخاف {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} وأما ذاك فأساء العمل وما أطاع الله وأساء إلى العباد وبعد ذلك يتمنى على الله الأماني.
اخوتي الكرام: إن الخوف من الله جل وعلا ضروري لعباد الله في هذه الحياة، روى الإمام الحاكم في مستدركه بسندٍ صحيح للشيخين أقره عليه الذهبي، والأثر في الحلية أيضاً وفي كتاب الزهد للإمام همام بن السري وكتاب الزهد أيضاً للإمام وكيع رحمه الله عليهم جميعاً عن عبد الله بن عبيد الله وهو من التابعين الأبرار أكرمه الله بالتبرك برؤية ثلاثين صحابياً من صحابة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام وتوفي هذا العبد الصالح سنة سبعة عشر ومائة للهجرة 117هـ وحديثه مخرج في الكتب الستة وهو ثقة فقيه إمام عدل رضاً، يقول هذا الذي أدرك ثلاثين من الصحابة رضوان الله عليهم يقول (جلسنا في الحجر إلى عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم أجمعين فقال لنا: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا والذي نفسي بيده لو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره ولبكى حتى يتقطع صوته) .
والجملة الأولى: رويه عن صديق هذه الأمة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في كتاب الزهد للإمام احمد وفي كتاب الزهد لشيخ الإسلام عبد الله بن المضار ورواها بن أبي شيبة في المصنف لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه أنه قال (إبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا) أي استدعوا البكاء وتكلفوه من خشية رب الأرض والسماء.
اخوتي الكرام: هذه هي صفات الرجال وهذه هي صفات الأبرار، وهذا الوصف كما يتصف به الرجال في هذه الحياة الذين يعمرون بيوت رب الأرض والسماوات فيتصف بهذا الوصف أيضاً ملائكة الله الكرام، فهم يخافونه ويخشونه سبحانه وتعالى يقول الله مثيراً إلى إثبات هذا الوصف فيهم في سورة النحل:{ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} الملائكة أيضاً تسجد للحي القيوم ثم قال في نعتهم جل وعلا {يخافون ربهم من فوقهم يفعلون ما يؤمرون} وهم الكرام المطهرون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومع ذلك يتصفون بالخوف والوجل من الله عز وجل.
كما قال الله جل وعلا في سورة الأنبياء: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً، سبحانه بل عبادٌ مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} وجلون خائفون.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن ما لعظام الملائكة وكبراهم ومنزلتهم في هذه الصفة، أعني صفة الخوف نحو ربنا وربهم جل وعلا، ففي معجم الطبراني الأوسط، وإسناد الأثر لجامعة رجال الصحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [رأيت جبريل ليلة أسري بي كالحنس البالي من خشية الله عز وجل، كالحنس البالي وهو الخرقة والكساء التي توضع على ظهر البعير كأنها خرقة بالية متقطعة من خشية الله ومن خوفه من الله جل وعلا، والأثر رواه الإمام الجزار أيضاً، والإمام الطبراني في معجمه السابق عن أنس بن مالك رضي الله عنهم وعن نبينا صلى الله عليه وسلم قال [مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى فإذا جبريل كأنه من حنس وأطئ من خشية الله جل وعلا، كأنه حنس ذليل ملتصق بالأرض من خشية الرب سبحانه وتعالى] هذا وصف أفضل الملائكة وأعلاهم جبريل عليه السلام، وهكذا حال الملائكة الكرام.
ففي مسند الإمام أحمد، والحديث رواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتابه الخائفين وقال شيخ الإسلام الإمام عبد الرحيم الأثري في معجم حمل الأسفار في الأسفار، إسناد الحديث جيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه والأثر رواه الإمام بن شاهين في كتاب السنة مرسلاً عن ثابت بن أسلم البولاني تليمذ أنس مرسلاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، ورواية الحديث المسند المتصل كما تقدم معنا إسنادها جيد ولفظ الحديث عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[يا جبريل مالي لا أرى ميكائيل ضاحكاً، مالي لا أرى ميكائيل يضحك، هذا الملك الموتكل بحياة الأبدان والحيوان ما رأيته ضاحكاً قط، فقال جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يا محمد عليه الصلاة والسلام إن ميكائيل لم يضحك قط منذ أن خلق الله النار، قال شيخ الإسلام الإمام عبد الرحيم الأثري وقد ورد هذا الوصف في حق جبريل وإسرافيل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام قال الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم[إن إسرافيل لم يضحك قط منذ أن خلق الله النار] وهذا الوصف أيضاً ثبت لجبريل، روى ذلك أيضاً الإمام بن أبي الدنيا في كتاب الخائفين، وهؤلاء الملائكة الكرام أفضل الملائكة على الله ومع ذلك يخافون هذا الخوف وما ضحك واحد منهم قط ولهم شأن عظيم وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتوسل إلى الله جل وعلا بربوبيته لهؤلاء أن يوحيا الله قلبه في ذلك تعليم لنا أن ندعوا بهذا الدعاء، والحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يفتتح صلاته فيقول [اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء
إلى صراطٍ مستقيم] ، اللهم رب جبريل المتوكل بحياة القلوب وميكائيل المتوكل بحياة الحيوان والأبدان، وإسرافيل المتوكل بحياة المخلوقات أسئلك أن تحي قلبي فأنت على كل شيءٍ قدير] وتقدم معنا اخوتي الكرام في مباحث النبوة على نبينا صلى الله عليه وسلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتوسل بربوبية الله لهؤلاء الملائكة العظام في أدعية كثيرة ذكرت بعضها في هذا المسجد.
إذن هذا الوصف أعني صفة الخوف من الله عز وجل هو وصف عباد الله المقربين في الدنيا في الأرض، في السماء، هذا وصف المؤمنين من الجن والإنس، وهذا هو وصف ملائكة الله الكرام الطيبين.
اخوتي الكرام: وإذا تدارسنا تعريف الخوف ومنزلته فبقى علينا أن نتدارس ثمرته وأسبابه.
أما ثمرة الخوف فثماره كثيرة وفيرة سأجملها في ثمرتين اثنتين لعل الله ييسر الكلام عليهما في هذه الموعظة المباركة إن شاء الله.
1-
الثمرة الأولى:- ثمرة يحصلها الخائف من الله عز وجل في هذه الحياة.
2-
الثمرة الثانية:- ثمرة يحصلها الخائف من الله عز وجل بعد الممات.
الثمرة الأولى:- أما ثمرة الخوف في هذه الحياة فالخائف من الله عز وجل، فالذي أفرد ربه بخوفه فلا يخاف سواء له العزة والتمكين في هذه الحياة وله من الله النصر المبين، والله سيؤيده في كل حين، من خاف الله كفاه الله ما عداه، فقد أشارت آيات القرآن إلى هذا وأوضحته غاية الإيضاح بينه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم فلنقف عند ذلك وقفة لنعلم حقيقة الأمر ولنعلم سبب ضياعنا في هذا الوقت.
قال الله جل وعلا في سورة إبراهيم عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكنَّ الظالمين ولنسكننَّكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيد *} {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا} كما هي عادة الطغاة في جميع الأوقات، طرد من البلاد أو سجن أو قتل وظلم {وإذ يمكر بك الذين كفروا لثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم} والوحي إعلام في خفية وسرية والله طمأن رسله وقال أنتم تخافون فلا خوف عليكم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
{فأوحى إليهم ربهم لنهلكنَّ الظالمين ولنسكننَّكم الأرض من بعدهم} وهذا الجزاء وهذه الثمرة ينالها من خاف من الله عز وجل، {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} ولفظ المقام هنا إما أنه مصناف الفاعل المصدر مصناف إلى الفاعل ويصبح معنى الكلام ذلك لمن خاف قيام الله عليه ومراقبته له وإحاطته به فلا يخرج شيء في هذا الكون من عرشه إلى فرشه عن قبضة الله عز وجل وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ذلك لمن خاف قيام الله عليه وعلم أنه وغيره من عباد الله لا يملك كل واحد من المه لنفسه نفعاً ولا ضراً، ذلك لمن خاف قيام الله عليه المراقبة والإحاطة والاضطلاع كما قال الله عز وجل:{أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبؤنه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهرٍ من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل، ومن يضلل الله فما له من هاد} .
لا يوجد أحد في هذا لعالم يحفظ المخلوقات ويراقبها وهي في قبضته إلا الحي القيوم سبحانه وتعالى {أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم} أنعتوهم الصفات التي تقتدي أن يكونوا آله مدبرين قيومين {قل سموهم} وهنا ذلك لمن خاف مقام لمن خاف قيام عليه بالمراقبة والإحاطة والاضطلاع، إن الذين يخشون ربهم بالغيب يعلمون الله معهم أينما كانوا فيخافون منه فمن خاف الله لن يتخلى الله عنه، {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} ابشروا يا معشر الرسل ويا أتباع الرسل أنه ليس للظالمين عليكم سبيل لأهلكنَّهم ولأسكننَّكم الأرض من بعدهم فلا راد لحكم ولا معقب لقضائي ولا أسئل عما أفعل وهم يسئلون، لكن حققوا هذا الوصف فيكم لتنالوا تلك الثمرة، {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} .
والمعنى الثاني: المصدر مضاف للمفعول ذلك لمن خاف مقام: أي لم خاف قيامه بين يدي وعلم أنه عبد ذليل منكسر حقير لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فهو خاف قيامه بين يدي لأني سأجمعه ليوم تشخص فيه الأبصار وتتقلب فيه القلوب، من خاف قيامه في هذا اليوم الذي لا ريب فيه وأعد لذلك اليوم عدته لن يتسلط عليه متسلط مهما كان شأن ذلك الجبار وقد رجع الإمام بن القيم عليه رحمة الله المعنى الثاني وقال أنه أليق بالآية ولا داعي للترجيح فالآية تحتمل القولين وهما متلازمان، فمن علم أن الله حي قيوم قائم على جميع أمور العباد ومدبرٌ لها سيخاف قيامه بين يديه عندما يؤول إليه وعليه الأمران متلازمان ولا يخاف الإنسان القيام بين يدي الله إلا بعد معرفته أن الله قيوم مدبر لأمور عباده في الدنيا والآخرة فالمعنيان متلازمان ثابتان لمن خاف قيام الله عليه وخاف قيامه بين يديه، وهذان المعنيان يقالان في نظير هذه الآية من سورة الرحمن:{ولمن خاف مقام ربه جنَّتان} ومن ذلك قول الله عز وجل في سورة النازعات: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنَّة هي المأوى} خاف قيام الله عليه ومراقبته وإحاطته به، وخاف قيامه بين يديه في يوم لا ريب فيه.
{وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودنَّ في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكنَّ الظالمين * ولنسكننَّكم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} وقد ذكر لنا الله نماذج لهؤلاء الرسول بعد أجملهم في هذه السورة فاسمعوا لهذا.
1.
النموذج في سورة الأنعام:- عندما يخبر ربنا عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن حاج قومه في بطلان آلهتهم وعبادتهم الكواكب من دون ربهم فقال في آخر محاجة {فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا أكبر، فلمَّا أفلت قال يا قومِ إني بريءٌ مما تشركون * إني وجهت وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين * وحاجَّهُ قومه، قال أتحاجُّونِّي في الله وقد هدانِ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً، وسع ربي كل شيءٍ علماً، أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ من نشاء، إن ربك حكيمٌ عليم} انتبه إلى دلالة الآيات لهذا الأمر اخوتي الكرام {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً، وسع ربي كل شيءٍ علماً، أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن} فأي الفريقين أحق بالأمن في الدنيا والآخرة؟ من خاف من الله ولم يخف من سواه؟، أو من خاف من سواه ولم يخف من مولاه؟ {فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} وقبلها في الآية يقول {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً} والاستثناء هنا كما قال أئمتنا الكرام في كتب التفسير استثناء منقطع بمعنى لكن، ولا أخاف ما تشركون به ولكن إذا شاء ربي أن ينزل بي مصيبة في هذه الحياة فهو الذي يدبر أمور عباده وهو أعلم بهم، {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً} لكن إذا شاء ربي أن ينزل بي مصيبة ليطهرني ويرفع من درجاتي، هذا هو مولاي وربي لا يسأل عما يفعل، يروي الإمام أبو نعيم في كتاب الحلية عن إبراهيم بن الوليد أنه دخل على الشيخ الصالح
إبراهيم المغربي وقد رفسته بغلة فكسرت رجله فقال ما هذا، قال سبحان الله لولا المصائب لقدمنا على الله مفاريس، فإذا قدر الله على خليله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وعلى موحد من الموحدين مصيبة في هذه الحياة ليس هذا بسبب آلهتهم المزيفة التي تعبدونها من دون رب الأرض والسموات {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً} ولكن إذا شاء ربي شيئاً كأن ينزل بي مصيبة فهو الذي لا يسأل عما يفعل {وسع ربي كل شيءٍ علماً، أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ من نشاء، إن ربك حكيمٌ عليم} كانت النتيجة أن نجَّى الله خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه ونصره من كبير الكافرين الملعونين ومثل ذلك كثير اخوتي الكرام.،
نموذج آخر تحليه لنا ربنا الرحمن أيضاً في سورة هود
2.
النموذج الثاني: في القرآن في سورة هود عن نبيه هود عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه فيقول {وإلى عادٍ أخاهم هوداً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره إن أنتم إلا مفترون * يا قوم ما أسلكم عليه أجراً، إن أجرى إلا على الذي فطرني، أفلا تعقلون * ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولوا مدبرين * قالوا يا هود ما جئتنا ببينةٍ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوءٍ، قال إني أشهد الله واشهدوا أنِّي بريءٌ مما تشركون * من دونه، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إنِّي توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربي على صراطٍ مستقيمٍ * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربِّي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً، إنَّ ربي على كل شيءٍ حفيظٌ * وتلك عادٌ جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبارٍ عنيدٍ * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة، ألا إنَّ عاداً كفروا ربهم، ألا بعداً لعادٍ قوم هود *} ، قال أئمتنا الكرام كما ذكر هذا الإمام بن القيم في مدارج السالكين الجزء الخامس صفحة خمسة وستون وأربعمائة 5/465 وهكذا ذكر أئمتنا المفسرون في تفسير هذه السورة أن أخ آيات الرسل آية نبي الله هود أي أيد الرسل الكرام بمعجزات ظاهرة وأوضح خارقة للعادة كانفلاق البحر وانشقاق القمر وغير ذلك من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأما هذا النبي المبارك فحجته وبرهانه من أخف الحجج والبراهين، فتأمله فهو في أقوى أسطع الحجج والبراهين ولخفاء حجته قال له قومه {ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين} استمع لهذه البينة التي قامت على أمور أربعة في هذه السورة:
البينة الأولى:- مال لهم هذا الفرد الوحيد الذي ليس في هذا العالم موحد غيره، غير جزعٍ ولا فزعٍ ولا هياب، قال إني أشهد الله جل وعلا واشهدوا ثانية أني بريءٌ من آلهتكم والتي تبذلون في عبادتها ونصرتها أموالكم وأولادكم ثم أعلمكم ثالثة أنني أتحداكم أهل الأرض جميعاً أن تكيدوا لي وأن تنالوا مني ضراً إن قدرتم عليَّ ثم بعد ذلك وضح دعوته فقال ناصيتي ونواصيكم ونواصي العباد جميعاً في يد وقبضة الله جل وعلا فانتم أحقر وأذل أن تصيبوني بمكروهٍ، فربي على صراطٍ مستقيم، وهو العدل وسينصر من خافه، وسيخذل وينتقم مِنْ مَنْ لجأ وخاف من سواه، ثم إنه لن يتمكن أحد أن ينال منه خيراً وهو فرد وحيد ويخاطب أهل الأرض بهذا الكلام المحكم الصريح فأي حجة أقوى من هذه الحجة، وأي برهانٌ أسطع من هذا البرهان، يشهد الله ثم يشهدهم ثم يطلب منهم أن يجتمعوا عليه ثم يقول لهم مطمئناً لهم مبيناً لهم أنه لن يصلوا إليه بضرٍ لأن نواصيهم وناصيته أيضاً بيد الله والله على صراطٍ مستقيم، لا يمكن أن ينصرهم على من خاف من رب العالمين.
ومثل هذا كان يقول جميع أنبياء الله ورسله، فهذا نبي الله نوح يقول لقومه {فأجمعوا أمركم وشركائكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون} ، وهكذا يقول ربنا جل وعلا في حق نبينا صلى الله عليه وسلم عندما بين أحوال المشركين نحوه في سورة الطور فقال:{أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون} نعم اخوتي الكرام من خاف الله كساه الله هيبةً مهابةً في هذه الحياة وفزع منه أعداء الله في هذه الحياة وكان الخائف من الله في هذه الحياة مطمئن البال والقلب ساكن النفس كيفما جاءت المخاوف من جميع الجهات، كيف لا وهو مع الله لأنه يخافه والله معه وسيجعل الله له مخرجاً من كل شدةٍ وبلاء.
اخوتي الكرام: هذا المعنى الذي كررته معاني القرآن تواترت في الدلالة عليه أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم فاسمعوا لإيضاح هذه القضية إذا كان من خاف الله لم يخاف من سواه والله سيكفيه من عداه، إذا كانت هذه القضية حقيقة ثابتة فلهذه الأمة من هذا المعنى والجزاء القدر الأكبر لكمال توحيدهم وتمام خوفهم من ربهم ولإتمام الله نعمته عليهم، إذا كان من خاف الله لا يخاف من سواه، وفي هذه قضية ثابتة في هذه الحياة في هذه الأمة والأمم السابقة فإن ثبوتها في هذه الأمة من باب أولى لأن خوفهم من الله أشد وتحقيقهم للتوحيد أكمل ولأن الله أكرمهم بما لم يكرم بهم الأمم السابقة، واستمعوا لتقريري هذا ولنعلم بعد ذلك أنه عندما يعترينا الهلع والفزع لعدم خوفنا من ربنا عز وجل، ثبت في المسند والصحيحين وسنن النسائي، الحديث رواه الإمام البيهقي وهو في أعلى درجات الصحة، فهو في الصحيحين عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[أعطيت خمساً لم يعطهنَّ نبيٌ قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت ليَ الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجلٌ من أمتي أدركته الصلاة فليصلي، وأحلت ليَ الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان كل نبي يبعث لقومه خاصة وبعثت للناس عامة]
1-
[نصرت بالرعب مسيرة شهر] إذا علم عدوي بقدومي وبيني وبينه مسيرة شهر امتلأ قلبه رعباً وفزعاً لتحقيق توحيدي لربي ولخوفي منه، فمن خاف الله خاف منه أعداء الله
[نصرت بالرعب مسيرة شهر] إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسافة بالذكر لا للتحديد، لا ثم لا هو نصر على العدو مطلقاً بالرعب لا، كان بينه وبينهم ألف شهر، إنما خص بالذكر هذه المسافة لأنه لم يكن بينه وبينهم إلا هذه المسافة فقط كما قرر أئمتنا في شروح سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وإلا حقيقة حاله وحلة أمته نصر بالرعب مهما كانت المسافة بينه وبينهم، هل هذا الأمر له خاص وحده صلى الله عليه وسلم، وفداه آبائنا وأمهاتنا وأنفسنا أو يسري لأمته أورد أئمتنا القولين وأنسبهما الذي يتناسب مع مكانة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورفعت من هذه الأمة عند ذي الجلال والإكرام، إن هذا ثابت له ولأمته عليه الصلاة والسلام إذا كانوا على مسلكه كما سيأتينا بإذن ربنا الرحمن [نصرت بالرعب مسيرة شهر] وهذه الصفة وردت عن كثير من الصحابة الكرام وهي ثابتة ثبوتاً متواتراً عن نبينا صلى الله عليه وسلم أقطع بذلك وأسئل عنه أمامه ذي الجلال والإكرام.
روى هذه الجملة في أحاديث متعددة رواها الإمام أحمد ومسلم وصحيحيهما والترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ورواه البيهقي من رواية علي رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد في المسند من رواية عبد الله بن عباس ورواها الإمام أحمد في السنن عن رواية أبي ذرٍ ورواها الإمام أحمد والبيهقي من رواية أبي أمامة الباهلي ورواها الإمام أحمد في المسند عن رواية عبد الله بن عمر نب العاص رضي الله عنهم أجمعين، وفي رواية بعض الحديث المتقدمة [نصرت بالرعب مسيرة شهر يسير بين يدي] أن هذا الرعب يسير بين يدي وفي آخر رواية من الروايات المتقدمة رواية عبد الله بن عمر [نصرت على العدو بالرعب حتى لو كان بيني وبينه مسيرة شهر لامتلأ قلبه رعباً] .
إذاً الثابت الثابت لي ولأمته صلى الله عليه وسلم أن ينصر على العدو بالرعب مهما كانت المسافة، فلو قدر أن المسافة بينه وبين العدو بمقدار شهر أو أكثر لامتلأ قلبه رعباً.
نعم اخوتي الكرام: هذه الأمة عندما خافت من ربها الرحمن وحققت التوحيد على التمام أعطاها الله الهيبة والمهابة في هذه الحياة، فإذا أعلن الجهاد الإسلامي من قبل الموحدين لله جل وعلا فزع وهلع أعدائهم وهم في بلادهم، هذا شأن المسلمين، وهذا شأن الموحدين، فإذا خلطوا وقدروا فمن نفسه فلا يظلم ربك أحداً.
ولذلك اخوتي الكرام: أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن عدد جيش المسلمين إذا بلغ اثنا عشر ألفاً لو اجتمعت قوى الأرض بأثرها لقتالهم لما استطاعت أن تقف أمامهم، لا أقول مليون ولا مائة مليون ولا ألف مليون، لو اجتمعت البشرية بعدتها وعتادها وكانوا ألوف الملايين وعدد جيش الموحدين إلى اثنا عشر فلا يمكن أن يغلب هذا الجيش من قلة إنما يغلبون من معصيتهم لربهم جل وعلا، أما جيش قوامه هذا العدد لا يمكن أن يخذل ولا أن يرقد وسيكتب الله له النصر مهما بلغت قوى الكفر، فلنفتش عن أحوالنا اخوتي الكرام واستمعوا لتقريري هذا من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم ثم من فعل الصحابة الكرام نرى كيف أننا في هذه الحياة نتخبط في الكلام.
روى الإمام أحمد في المسند والإمام الترمذي وأبو داود في السنن والحديث رواه الإمام الدارمي في مسنده أيضاً، ورواه بن خزيمة وبن حبان، والحاكم في الصحاح والمستدرك بالنسبة للحاكم ورواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد والمختارة من رواية عبد الله بن عباس، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، نعم رواه الإمام بن ماجة أيضاً من رواية أنس بن مالك لكن في رواية بن ماجة ضعفاً، ورواية بن عباس صحيحة ثابتة كالشمس في رابعة النهار، ولفظ الحديث عن نبينا المختار عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال [خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنى عشر ألفاً من قلة] .
خير الصحابة خير الصحابة أربعة ـ الصاحب يجمع على صحابه ولا نظير لهذا في اللغة كما قال أئمتنا فاعل يجمع على فاعله هذا خاص بصاحب وصحابة غير الصحابة خير الأصحاب أربعة، فإذا كانوا في سفرٍ قال يجب أن يقلوا على المقدار ووجه ذلك أن المسافرين في حاجة لحفظ ولحاجة لقضاء حوائجهم، فإذا كانوا ثلاثة جلس اثنان وذهب الثالث لقضاء الحاجة يستوحش وإذا ذهب اثنان بقى واحد عند المتاع يستوحش فإذا كانوا أربعة يبقى اثنان عند المتاع ويذهب اثنان ويستأنس كل واحد منهم بالآخر والله يؤنس الجميع أربع، ولفظ الأربعة كما يقول أئمتنا فيه تفاؤل لمعنى القوة والرعاية والأحكام كالأعمدة التي يقوم عليها البنيان وهؤلاء الأربعة خير الصحابة أربعة، وكما كثر الجمع كان خيراً
[وخير السرايا أربعمائة] وهي القطعة من الجيش التي تصطفي منه من الشيء السري النفيس القوي جيش ذهب تختار منه قطعة لأن تقوم بأعمال حربية خاصة ومناوشات وقتال والجيش العرمرم جالس مكانه إذا سارت الحرب تحرك خير السرايا أربعمائة وهي ضعف أربعة في مائة 4×100 أي أن العدد مضاعف كما قال أئمتنا، [وخير الجيوش أربعة آلاف] ضاعف الأربعة × ألف وإذا كان الجيش اثنى عشر ألف وقاتل لن يغلب من قلة ورجه ذلك أن الأربعة آلاف الأولى جيش كامل خير الجيوش والأربعة آلاف الثانية خير الجيوش، والأربعة الثالثة خير الجيوش، إذاً عندهم ثلاثة جيوش هي خير الجيوش والقتال يكون في ميمنة وميسرة وقلب فعندهم خير الجيوش للميمنة وعندهم خير الجيوش للميسرة، وخير الجيوش للقلب، فهم اثنى عشر ألف لن يغلبوا من قلة، فمعهم ثلاث خيريات في ثلاثة جيوش كاملات، كيف سيغلبون إذا غلبوا فليفتشوا عن أنفسهم وليعلموا أنهم لا يخافون ربهم، لن تغلب اثنتا عشر ألفاً من قلة، هذا كلام ما لا ينطق عن الهوى عليه صلاة الله وسلامه، وانظروا لتحقيق ذلك في الواقع العملي.
روى الإمام أحمد في المسند كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع والحديث رواه بن حبان أيضاً عن عياض الأشعري رحمه الله ورضى عنه قال كنت مع المسلمين في موقعة اليرموك وموقعة اليرموك جرت في عصر الخليفة العابد الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقعت في العام وأدى من قرية حواران جنوبي الشام وكانت بين المسلمين الكرام والنصارى الكلام وكان عدد المسلمين يزيد على العشرين ألفاً قليلاً وعدد النصارى مائة ألفٍ ويزيدون عشرين ألفاً وهؤلاء المسلمون خرجوا من جزيرة العرب وهؤلاء في أمكنتهم يقول عياض كنت مع المسلمين في موقعة اليرموك والأمراء يومئذٍ خمسة أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض بن غنم الفهري، وتوفي هذا الصحابي الجليل في عهد عمر بن الخطاب سنة عشرين من الهجرة وبعد وفاة أبو عبيدة الطاعون رضوان الله عليهم أجمعين ولاه على بلاد الشام وقال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ما كنت لأبدل أحداً ولاه أبو عبيدة وهو غير عياض بن زهير الفهري وكل منهما مكانهما بأني سعد وكل منهما عياض وكل منهما فهري لكن ذلك عياض بن غنم وذاك عياض بن زهير، وعياض بن زهير بدري كبير القدر وهو عم عياض بن غنم الفهري لكن توفي في سنة ثلاثين في خلافة عثمان بن عفان، أما عياض بن غنم الفهري توفي في سنة عشرين من الهجرة 20هـ في خلافة عمر بن الخطاب، ثم هؤلاء الأمراء الخمسة قال عمر تراهم إذا كان قتال فأميركم أبو عبيدة، فلما وقعت المعركة يقول عياض الأشعري جاش القتل إلينا أي كثر وأتانا من كل جهة فبعثنا لعمر نطلب منه العون فأجابنا قال أنه جاء في كتابكم تطلبون فيه المدد وحضره لا تغيب في أي مكان ولا يعلم جنود ربك إلا هو والنص يطلب منه لا من سواه، الله وحده عز وجل فاستنصروه ينصركم فإن الله قد نصر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في موقعة بدر في أقل من عددكم، فإذا وصلكم كتابي هذا فقاتلوهم
ولا تكتبوا إليَّ لن أرسل فرداً واحداً مدداً فأنتم عددكم يزيد على اثنى عشر ألف والله نصر نبيه في أقل من عددكم فالجئوا على الله فجنوده حاضرة والنصر منه سبحانه قال عياض الأشعري رضي الله عنه فلما وصل الكتاب قاتلناهم واستعنا بالله فغلبناهم وقتلناهم فلما انتهت الموقعة قال أبو عبيدة رضي الله عنه من يسابقني وكأنه يستعد للقتال مرة أخرى فقال له شاب من التابعين أنا أراهنك أيها الأمير بشرط ألا تغضب فتراهنا في المسابقة على الخيول يقول عياض الأشعري فلقد أنت عقيصتين أبي عبيدة تنقذان خلفه وهو على فرس عربي خلف الفتى وقد سبق الفتى رضوان الله عليهم أجمعين، والعقيصتين مفرد عقيصه وهي الضفير وهذه كانت عادت المسلمين يضطروا من شعرهم عندما يطول والأصل فيهم أنهم يطيلون الشعور رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا أطال جعلوه في ضفائر فكان أبو عبيدة يجعله في ضفيرتين فيمر فروع الشعر إلى أصوله من أجل أن ينكمش على رأس وأن يثبت فيقول علق رأيت عقيصتين تنقذانه أي تضطربان وتتحركان وهو على فرس عربي وقد سبقه الفتى.
استمع أخي الكريم إلى هذا الإرشاد من الخليفة الراشد الثاني تطلبون العون والمدد فسوف أدلكم على ما هو خير من ذلك أدلكم على الاستنصار بمن هو أعز نصراً وأحضر جنداً وهو الله عز وجل، فإذا جاءكم كتابي تقاتلوهم ولا تطلبوا المدد وقد فتحت بلاد الشام وتهاوت عروش الرومان في تلك السنة أيضاً فتحت بلاد الفرس في موقعة القادسية في العام الخامس عشر للهجرة 15هـ اخوتي الكرام وهم قلة ولكن الله معهم وهذا لابد من تحقيق والتحقيق به لنال هذه الثمرة عز وتذليل ونصر مبين وتأيدٌ من رب العالمين.
روى الإمام مالك رضي الله عنه في من زيد بن أسلم رضي الله عنه أن أباه بيد عامر بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموع الروم وما يتخوف منهم على المسلمين فماذا كتب الخليفة الراشد، فكتب إليه مهما تنزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعد هذا المنزل فرجاً ولن يغلب عسراً يسرين وقد قال الله في كتابه {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} والسلام، هذه رسالة الأمير إلى قائده الشدائد التي تأتي ستزول إذا كنا عبيد الله حقاً ولن يغلب عسراً يسرين {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} اصبروا على الطاعات وعن المعاصي وعلى المقدورات، وصابروا أعدائكم عند اللقاء في الحروب ورابطوا على الحدود واتقوا الله لعلكم تفلحون.
لن يغلب عسراً يسرين، هذا الكلام ثابت عن عمر في المرفأ لكن كما قال أئمتنا بسندٍ منقطع فزيد ابن أسلم لم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الحاكم في المستدرك ثبت هذا الأثر عن عمر وعن علي رضي الله عنهم، نعم ثبت هذا الأثر عن غيرهما من الصحابة أيضاً رواه عبد بن حميد في تفسيره بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه الإمام الفراء في تفسيره بسندٍ ضعيف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه بل روى عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلاً مرفوعاً في تفسير عن جابر بن عبد الله رضي وروى مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق حسن البصري في تفسير الطبري ورواه أيضاً الإمام عبد الرزاق في مصنفه وروى أيضاً مرسلاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام عن طريق قتادة في تفسير الطبري وعبد بن حميد رضي الله عنه.
خلاصة الكلام: أن الأثر ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم كما نزلت سورة الانشراح وفيها {فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً *} معرفاً وإذا كرر فالثاني هو الأول وأما اليسر منكر وإذا كرر فالثاني غير الأول {إن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً *} الأول يسراً آخر ولن يغلب عسر يسرين، وهذا المعنى هو أحد احتمالين لهذه الجملة الكريمة المباركة وقد نقل الإمام البخاري في صحيحه لتفسير هذه الآية عن أبي محمد سفيان رضي الله عنه قال لن يغلب عسراً يسرين {إن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً *} قال يسر آخر لن يغلب عسر يسرين، فإذاً العسر واحد وعه يسران، قال البخاري وهذا كقوله تعالى:{قل هو تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} قال الخدر بن حجر رحمة الله عليه كما جعل الله للمسلمين الحسنيين جعل لهم في عسرهم يسرين {إن مع العسر يسراً * إن مع العسريسراً *} ثم يقال ويحتمل أن البخاري يريد من هذا القول {إن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً*} يريد أن المؤمن إذا أصيب بعسرٍ لن يخلو حاله من أحد الأمرين، إما من الأجر وإما من الظفر والنصر.
اخوتي الكرام: الأمر يحتاج إلى الزيادة البسط في هذه القضية وأما ما يتعلق بثمرة الخوف التي يجنيها الإنسان بعد موته في أخرته أتكلم عليه مع تعليق على الأمر الأول في أول الموعظة الآتية إن شاء الله
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أقول هذا القول وأستغفر الله.