المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على - درر رمضانية من كلام ابن القيم الجوزية

[أحمد مرشد]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد فهذه مجموعة مختارة من روائع ما سطره يراع الإمام ابن القيم رحمه الله في كتبه، اخترت منها ما يناسب ليالي وأيام شهر رمضان المبارك وجعلتها شاملة لأيام الشهر بعدته الكاملة ثلاثون موضوعاً وسميته درر رمضانية من كلام ابن قيم الجوزية

أسأل الله تعالى أن يجعله عملاً صالحاً ولوجهه خالصاً وأن ينفع به الجميع كما أساله تعالى أن يجزل الأجر والمثوبة للمحسن الكريم الذي تكفل بطباعته وأن يجعله صدقة جارية له والولدية إنه سميع قريب.

وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أحمد صالح بن عمر بن مرشد

الرياض 1/ 6/ 1445 هـ

ص: 5

(1)(اختيار شهر رمضان)

الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات، قال الله تعالي "وربك يخلق ما يشاء ويختار" والوقف التام على قوله "ويختار" ويكون قوله:"ما كان لهم الخيرة" نفيًا أي ليس هذا الاختيار لهم بل هو إلى الخالق وحده فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه فليس لأحد أن يخلق ولا أن يختار سواه فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحال رضاه وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذك بوجه.

وإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه دالاً على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته وأنه الله الذي لا إله إلا هو فلا شريك له يخلق كخلقه ويختار كاختياره ويدبر كتدبيره

فخلق الله السموات سبعا فاختار العليا من فجعلها مستقر المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه وأسكنها من شاء من خلقه

ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم

ص: 9

على سائرهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل، وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد أدم عليه وعليهم الصلاة والسلام

ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من ولد كنانة قريشا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين .. واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صل الله عليه وسلم وجعله مناسك لعباده، ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض فخير الأيام عند الله يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر وكذلك تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام فإن أيامه أفضل الأيام عند الله ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على سائر الشهور وتفضيل عشره الأخير على سائر الليالي وتفضيل ليلة القدر على ألف شهر.

والمقصود أن الله سبحانه وتعالى اختار من كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبه واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره فإنه تعالى طيب لا يحب إلا الطيب ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيب فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى.

(زاد المعاد)(1/ 40)

ص: 10

(2)(في هدية صلى الله عليه وسلم في الصيام)

لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه. فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذاذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته.

وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم. وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها،

ص: 11

واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)[البقرة: 183].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصوم جنة".

وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة.

والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وحمية لهم وجنة.

وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس.

(زاد المعاد)(2/ 27)

ص: 12

(3)(تدبر القرآن)

التأمل في القرآن: تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى:(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)[ص: 29] وقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)[محمد: 24] وقال تعالى: (أفلم يدبروا القول)[المؤمنون: 68] وقال تعالى (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)[الزخرف: 3]

وقال الحسن: نزل القرآن ليتدبر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا.

فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر إلى معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه

ص: 13

النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.

وبالجملة تعرفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.

وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

فهذه ستة أمور ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها، وفي تأمل القرآن وتدبره وتفهمه أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد وبالجملة فهو اعظم الكنوز.

(مدارج السالكين)(2/ 34)

ص: 14

(4)(الإنفاق في سبيل الله)

قال الله تعالى: {مثل الذين ينفقون أمو ?لهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة? مائة حبة? والله يضعف لمن يشا ء والله و ?سع عليم} [البقرة 261]

شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله، سواء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل الخير من كل بر، بمن بذر بذرًا فأنبتت كل حبةٍ منه سبع سنابل اشتملت كل سنبلةٍ على مائة حبةٍ، والله يضاعف بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه وتقع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها؛ فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيت عند النفقة، وهو إخراج المال بقلبٍ ثابتٍ قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه، غير جزعٍ ولا هلعٍ ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه، وبحسب طيب المنفق وذكائه.

وتحت هذا المثل من الفقه:

أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر، فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرضٍ زكية، مغلة بحسب بذره وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي

ص: 15

ونفي الدغل والنبات الغريب عنه، فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال.

وكان مثله كمثل جنةٍ بربوةٍ وهي المكان المرتفع الذي تكون الحبة فيه نصب الشمس والرياح فتربى الأشجار هناك أتم تربيةٍ فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما تؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل، فإن لم يصبها وابل فطل: مطر صغير القدر، يكفيها لكرم منبتها تزكو على الظل وتنمي عليه، مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارةً إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل. فمن الناس من يكون إنفاقه وابلًا ومنهم من يكون إنفاقه طلا، والله لا يضيع مثقال ذرةٍ.

(أمثال القرآن)(253)

ص: 16

(5)(الصلاة التي تقر بها العين)

الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد:

المشهد الأول: الإخلاص وهو أن يكون الحامل عليها والداعي إليها رغبة العبد في الله، ومحبته له، وطلب مرضاته، والقرب منه، والتودد إليه، وامتثال أمره.

المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح، وهو أن يفرغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها ظاهراً وباطناً.

المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء، وهو أن يحرص كل الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي كما كان يصلي ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة.

المشهد الرابع: مشهد الإحسان، وهو مشهد المراقبة وهو أن يعبد الله كأنه يراه وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها، فإنه يوجب الحياء، والإجلال والتعظيم، والخشية، والمحبة، والإنابة، والتوكل، والخضوع لله سبحانه، والذل له، ويقطع الوساوس وحديث النفس، ويجمع القلب والهم على الله.

ص: 17

المشهد الخامس: مشهد المنة وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه، كونه أقامه في هذا المقام وأهله له ووفقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك. وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، وكلما كان العبد أعظم توحيداً كان حظه من هذا المشهد أتم، وفيه من الفوائد أنه يحول بين القلب وبين العجب بالعمل ورؤيته. فإنه إذا شهد أن الله سبحانه هو المان به الموفق له الهادي إليه شغله شهود ذلك عن رؤيته والإعجاب به.

المشهد السادس: مشهد التقصير وهو أن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه فهو مقصر، وحق الله سبحانه عليه أعظم

فإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حقه، ولا قريباً من حقه، علم تقصيره، ولم يسعه مع ذلك غير الاستغفار ولا الاعتذار من تقصيره وتفريطه.

(رسالة من ابن القيم لأحد إخوانه)(33)

ص: 18

(6)(دعوة ذي النون)

سمع رجل قارئًا يقرأ "وذا النون إذا ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستنجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) فقال: إنما نجي بهذه الكلمات لأنها تضمنت أربعة أشياء: التوحيد والتسبيح وهما لله، والاعتراف والاستغفار وهما للعبد فبالتوحيد يدخل على الله وهو وسيلته إليه ينزهه عما لا يليق به من أن يأخذه أو يعاقبه بغير جرم أو يكون في ملكه ما لم يسبق به قضاؤه وقدره ويتعلق بمشيئة وخلقه.

والاعتراف والاستغفار يطفئ غضب الرب عنه ويسكنه ويقيمه في مقام العبودية ويخرج من نفسه مزاحمة الربوبية وأعظم الناس اعترافا واستغفارا أعرفهم بربه وبنفسه ولهذا كان أعظم الأمة استغفاراً نبيها صلى الله عليه وسلم فكانت الصحابة رضي الله عنهم يعدون له في المجلس الواحد مائة مرة: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور" وقال (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".

والتوبة والاعتراف هي الغاية المطلوبة من العباد ولابد لكل عبد منها وتوبة كل عبد منها وتوبة كل عبد بحسبه فحسنات الأبرار سيئات المقربين والله يحب التوابين ويحب المتطهرين والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية فكيف

ص: 19

بين حال آدم بعد التوبة وحاله قبل الخطيئة.

وأكثر توبة الخواص من السيئات القلبية والإرادات المزاحمة لمراد الرب منهم ومن غفلتهم عن شهود المنة في الحسنات.

وغالب توبة العوام من السيئات البدنية والشبهات المتعلقة بها فأعلى الناس مرتبة من لم تضله الشبهات ولم تغوه الشهوات

كما قال تعالى عن نبيه صل الله عليه وسلم: "ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى"

(مسألة السماع)(360)

ص: 20

(7)(البلد الحرام)

اختار الله تعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام فإنه سبحانه اختاره لنبيه صل الله عليه وسلم وجعله مناسك لعباده وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين كاشفين رؤوسهم متجردين من لباس الدنيا.

وجعله حرماً آمنا لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد، ولا يختلى خلاه ولا تلتقط لقطته للتمليك بل للتعريف ليس إلا، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب، ماحيا للأوزار، حاطا للخطايا.

فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده، وأحبها إليه، ومختاره من البلاد؛ لما جعل عرصاتها مناسك لعباده فرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه (وهذا البلد الأمين) وقال تعالى:(لا أقسم بهذا البلد).

وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها والطواف بالبيت الذي فيها غيرها، وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه، وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود، والركن اليماني. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة"

ص: 21

وفي المسند والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت»

ومن خصائصها كونها قبلة لأهل الأرض كلهم، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها. ويحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر البقاع والمسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض وأخبر الله تعالى أنها أم القرى

وقد ظهر سر هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين، ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس، أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرا، بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا.

(زاد المعاد)(1/ 47)

ص: 22

(8)(وآمركم بالصيام)

روى الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله سبحانه أمر يحي بن زكريا بخمس كلمات .. " الحديث وفيه: "وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحه وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"

إنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بصاحب الصرة التي فيها المسك لأنها مستورة عن العيون، مخبوءة تحت ثيابه، كعادة حامل المسك، وهكذا الصائم صومه مستور عن مشاهدة الخلق، لا تدركه حواسهم والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته له، وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم.

هذا هو الصوم المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ففي الحديث الصحيح: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس

ص: 23

لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، وفي الحديث: "رب صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش". فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم.

وقد اختلف في وجود هذه الرائحة من الصائم، هل هي في الدنيا، أو في الآخرة وفصل النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال وموجباتها من الخير والشر فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك وكما تظهر فيه السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم. قال عثمان بن عفان: ما عمل رجلُ عملا إلا ألبسه الله تعالى ردائه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.

(صحيح الوابل الصيب)(54)

ص: 24

(9)(التوبة)

إذا أراد الله بعبده خيرًا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته، حتى يقول عدو الله يا ليتني تركته ولم أوقعه،

وهذا معنى قول بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار، قالوا كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه خائفا منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحيا من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة.

ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول: فعلت وفعلت؛ فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه.

فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.

ص: 25

وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً، ولا مقاماً، ولا سبباً يتعلق به، ولا وسيلةً منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك، وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود إلى الله تعالى عليه ويتداركه برحمته ولا طريق إلى الله تعالى أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها:

حب كامل، وذل تام ومنشأ هذين هما: مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام.

(صحيح الوابل الصيب)(14)

ص: 26

(10)(فتح مكة)

في رمضان كان فتح مكة الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين وهذا الفتح الذي استبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجا.

خرج له رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن سنة ثمان لعشر مضين من رمضان واستعمل على المدينة أبارهم الغفاري وقال ابن سعد بل استعمل عبد الله بن أم مكتوم

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي، بنية: أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة فأمرهم بالجد والتجهيز وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها.

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، والناس صيام حتى إذا كانوا بالكديد - وهو الذي تسميه الناس اليوم قديدا - أفطر وأفطر الناس معه.

ص: 27

ثم مضى حتى نزل مر الظهران، ومعه عشرة آلاف وعمى الله الأخبار عن قريش فهم على وجل وارتقاب، وقال أبو هريرة: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله حتى دخل المسجد فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بالقوس ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا""جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد" والأصنام تتساقط على وجوها وكان طوافه على راحلته ولم يكن محرما يومئذ ثم دخل الكعبة وصلى فيها ثم فتح الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون ماذا يصنع فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته فكان مما قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، مما قال:«فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم} اذهبوا فأنتم الطلقاء» .

(زاد المعاد)(3/ 347)

ص: 28

(11) في هدية صلى الله عليه في الذكر

كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرًا لله عز وجل بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرًا منه لله، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته، وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده ذكرًا منه له، وثناؤه عليه بآلائه، وتمجيده وحمده، وتسبيحه ذكرًا منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه، ورغبته ورهبته ذكرًا منه له، وسكوته وصمته ذكرًا منه له بقلبه، فكان ذاكرًا لله في كل أحيانه، وعلى جميع أحواله، وكان ذكره لله يجري على أنفاسه، قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه ومسيره، ونزوله وظعنه وإقامته".

وكان إذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"

وكان إذا خرج من بيته يقول: "بسم الله توكلت على الله اللهم أني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي"

وقال صلى الله عليه وسلم، من قال إذا خرج من بيته: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان"

وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم فإذا قال ذلك

ص: 29

قال الشيطان: حفظ منى سائر اليوم.

وكان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل وقال له أبوبكر الصديق رضي الله عنه: مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم) قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك" وقال صلى الله عليه وسلم: من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة لم ايأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ماقال أوزاد عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له

له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه"

(زاد المعاد)(2/ 332)

ص: 30

(12)(نعيم الجنة)

قال الله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}

تأمل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون إلى صلاه الليل بِقُرّةِ الأعين في الجنة.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين مالاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب الله "فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب"

وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده وجعلها مقرا لأحبابه وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره وطهرها من كل عيب ونقص.

فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن ملاطها فهو المسك الأذفر،

ص: 31

وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب وفضة لامن الحطب والخشب، وإن سألت عن ثمرها فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل، وإن سألت عن أنهارها فأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون، وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور، وإن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير، هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).

فحي على جنات عدن فإنها

منازلك الأولى وفيها المخيم

(تقريب حادي الأرواح)(250)

ص: 32

(13)(عبودية الجوارح)

لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخصه، وطاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها وهيئت لها والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام:

أحدها: من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له وأريد منها، فهذا هو الذي تاجر مع الله بأربح التجارة وباع نفسه لله بأربح البيع، والصلاة وضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعًا لقيام القلب بها.

الثاني: من استعملها فيما لم تخلق له، ولم يخلق لها، فهذا الذي خاب سعيه وخسرت تجارته، وفاته رضى ربه عنه وجزيل ثوابه وحصل على سخطه وأليم عقابه.

الثالث: من عطل جوارحه وأماتها بالبطالة، فهذا أيضًا خاسر أعظم خسارة، فإن العبد خلق للعبادة والطاعة لا للبطالة، وأبغض الخلق إلى الله البطال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة، فهذا كل على الدنيا والدين.

فالأول: كرجل أقطع أرضًا واسعة وأعين بآلات الحرث والبذار، وأعطي ما يكفيها لسقيها، فحرثها وهيأها للزراعة وبذر فيها من أنواع الغلال، وغرس فيها من أنواع الثمار والفواكه المختلفة الأنواع، ثم لم يهملها بل أقام عليها الحرس وحصنها من المفسدين وجعل يتعاهدها

ص: 33

كل يوم فيصلح ما فسد منها، ويغرس عوض ما يبس وينفي دغلها ويقطع شوكها، ويستعين بمغلها على عمارتها.

والثاني: بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض فجعلها مأوى للسباع والهوام ومطرحًا للجيف والإنتان، وجعلها معقلاً يأوي إليه كل مفسد ومؤذ ولص، وأخذ ما أعين به على بذارها وصلاحها، وصرفه معونة ومعيشة لمن فيها من أهل الشر والفساد.

والثالث: بمنزلة رجل عطلها وأهملها وأرسل ذلك الماء ضائعًا في القفار والصحاري فقعد مذمومًا محسورًا. فهذا مثال أهل الغفلة، والذي قبله مثال أهل الخيانة والجناية،

والأول مثال أهل اليقظة والاستعداد لما خلقوا له.

(مسألة السماع)(112)

ص: 34

(14)(تدبر القرآن وتفهمه)

إذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلب العبد وهي الغالبة عليه بحيث يصير إليها مفزعه وملجؤه تمكن حينئذ الإيمان من قلبه وجلس على كرسيه وصار له التصرف وصار هو الآمر المطاع أمره فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق

فإن قلت: إنك قد أشرت إلى مقام عظيم فافتح لي بابه واكشف لي حجابه وكيف تدبر القرآن وتفهمه والإشراف على عجائبه وكنوزه، وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا فهل في البين غير ما ذكروه.

قلت: سأضرب لك أمثالاً تحتذي عليها وتجعلها إماماً لك في هذا المقصد، قال الله تعالى:{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمينٍ، فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخف وبشروه بغلامٍ عليمٍ فأقبلت امرأته في صرةٍ فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم} .

فعهدي بك إذا قرأت هذه الآيات وتطلعت إلى معناها وتدبرتها فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضياف يأكلون وبشروه بغلام عليم، وأن امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك. ولم يجاوز تدبرك غيرك.

فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من الأسرار. وكم قد تضمنت من أنواع الثناء على إبراهيم، وكيف جمعت الضيافة وحقوقها، وكيف

ص: 35

يراعى الضيف وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة، وكيف تضمنت عَلماً عظيماً من أعلام النبوة، وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي مردها إلى العلم والحكمة؟

وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها ثم أفصحت بوقوعه وكيف تضمنت الإخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة؟ وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الأخر.

(الرسالة التبوكية)(71)

ص: 36

(15)(من حكم مشروعية الزكاة)

أوجب الشارع الزكاة مواساة للفقراء وطهرة للمال وعبودية للرب وتقربًا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته ثم فرضها على أكمل الوجوه وأنفعها للمساكين، وأرفقها بأرباب الأموال؛ ولم يفرضها في كل مالٍ، بل فرضها في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها الربح والدر والنسل، ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنًى له عنه كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه،

بل فرضها في أربعة أجناسٍ من المال: المواشي، والزروع والثمار، والذهب والفضة، وعروض التجارة؛ فإن هذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم، وعامة تصرفهم فيها، وهي التي تحتمل المواساة، دون ما أسقط الزكاة فيه،

ثم قسم كل جنسٍ من هذه الأجناس بحسب حاله وإعداده للنماء إلى ما فيه الزكاة وإلى ما لا زكاة فيه، فقسم المواشي إلى قسمين: سائمةٍ ترعى بغير كلفةٍ ولا مشقةٍ ولا خسارةٍ فالنعمة فيها كاملة والمنة فيها وافرة والكلفة فيها يسيرة والنماء فيها كثير؛ فخص هذا النوع بالزكاة، وإلى معلوفةٍ بالثمن أو عاملةٍ في مصالح أربابها في دواليبهم وحروثهم وحمل أمتعتهم؛ فلم يجعل في ذلك زكاةً: لكلفة العلوفة وحاجة المالكين إلى

ص: 37

العوامل فهي كثيابهم وإمائهم وعبيدهم وأمتعتهم.

فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة التي بهر العقول حسنها وكمالها، وشهدت الفطر بحكمتها، ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يومٍ ولا كل شهرٍ، إذ فيه إجحاف بأرباب الأموال جعلها كل عامٍ مرةً كما جعل الصيام كذلك،

وإذا تأمل العاقل مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة وجده مما لا يضر المخرج فقده، وينفع الفقير أخذه، ورآه قد راعى فيه حال صاحب المال وجانبه حق الرعاية، ونفع آخذيه، وراعى في المستحقين لها أمرين مهمين:

أحدهما: حاجة الأخذ. والثاني: نفعه

فجعل المستحقين لها نوعين: نوعًا يأخذ لحاجته، ونوعًا يأخذ لنفعه، وحرمها على من عداهما.

(إعلام الموقعين)(2/ 333)

ص: 38

(16)(أحوال الدعاء مع البلاء)

الأدعية والتعوذات كالسلاح والسلاح بضاربه لا بحده فقط فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به والساعد ساعداً قوياً والمانع مفقوداً حصلت به النكاية في العدو ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء أو كان ثم مانع من الإجابة لم يحصل الأثر ومن هذا يتبين أهمية هذه الأمور الثلاثة التي حري بالعبد أن يتحراها في الدعاء

وللدعاء مع البلاء ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه.

الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا

الثالثة: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.

ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر أي يتعب ويسأم ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله.

وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي.

ص: 39

ولما كان الصحابة رضي الله عنه أعلم الأمة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وافقههم في دينه كانوا أقوم بالدعاء بشروطه وآدابه من غيرهم وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستنصر به على عدوه وكان يقول لأصحابه: لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء، وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة معه ولكن هم الدعاء فإن ألهمتم الدعاء فإن الإجابة معه.

فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة فإن الله سبحانه يقول: "أدعوني استجب لكم" وقال: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يسأل الله يغضب عليه" وهذا يدل على أن رضائه في سؤاله وطاعته وإذا رضى الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه"

(الجواب الكافي)(25)

ص: 40

(17)(غزوة بدر الكبرى)

بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر العير المقبلة من الشام لقريش صحبة أبي سفيان وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة وكانوا نحو أربعين رجلا وفيها أموال عظيمة لقريش فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها وأمر من كان ظهره حاضراً بالنهوض ولم يحتفل لها احتفالًا بليغًا لأنه خرج مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان وكان معهم سبعون بعيرًا يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة

وأما أبو سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه. وبلغ الصريخ أهل مكة، فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيًا فتكلم المهاجرون فأحسنوا ثم استشارهم ثالثًا ففهمت الأنصار أنه

ص: 41

يعنيهم فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله كأنك تعرض بنا، وكان إنما يعنيهم لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم فقال سعد بن معاذ: .. فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت إلى أن قال: فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك

" فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسر بما سمع من أصحابه وقال: سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين وإني قد رأيت مصارع القوم" .... فلما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها جاءت تحادك وتكذب رسولك وقام ورفع يديه واستنصر ربه وقال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك" فالتزمه الصديق من ورائه وقال: يا رسول الله أبشر فو الذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك" واستنصر المسلمون الله واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه فأوحى الله إلى ملائكته: "أني معكم فثبتوا الذين أمنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب" وأوحى الله إلى رسوله: "أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم مؤيدا منصورا قرير العين بنصر الله له

(زاد المعاد)(3/ 153)

ص: 42

(18)(حسن الظن بالله تعالى)

حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أنه يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه فالذي حمله على العمل حسن الظن فكلما حسن ظنه حسن عمله، وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز كما في الترمذي والمسند من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"

واتكال بعض الناس على قوله صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن ربه له (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء") يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته.

وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه، قال الحسن البصري:"إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل"

وكيف يكون محسن الظن بربه من هو شارد عنه حال مرتحل في مساخطه وما يغضبه

متعرض للعنته قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه،

ص: 43

وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه وكيف يحسن الظن بربه من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات كماله، وأساء الظن بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟

فتأمل هذا الوضع، وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاق الله، وأن الله يسمع كلامه ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه، ومسؤول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه مضيع لأوامره، معطل لحقوقه، وهو مع هذا يحسن الظن به، وهل هذا إلا خداع النفوس، وغرور الأماني

وقد قال إبراهيم عليه السلام لقومه: "أإفكاً آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين" أي ما ظنكم أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.

(الجواب الكافي)(46)

ص: 44

(19)(السجود)

شرع السجود على أكمل الهيئة وأبلغها في العبودية وأعمها لسائر الأعضاء بحيث يأخذ كل جزء من البدن بحظه من العبودية، والسجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة وما قبله من الأركان كالمقدمات له فهو شبه طواف الزيارة في الحج فإنه مقصود الحج ومحل الدخول على الله وزيارته وما قبله كالمقدمات له ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" "رواه مسلم"

وأفضل الأحوال له حال يكون فيها أقرب إلى الله ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة.

قال مسروق لسعيد بن جبير: "ما بقى شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب له" وكان النبي صل الله عليه وسلم لا يتقي الأرض بوجهه قصدًا بل إذا اتفق له ذلك فعله ولذلك سجد في الماء والطين.

ولهذا كان من كمال السجود الواجب أنه يسجد على الأعضاء السبعة الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين، فهذا فرض أمر الله به ورسوله وبلغه الرسول امته.

ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجداً لله اعتزل ناحية يبكي ويقول: "يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت، فلي النار"

ص: 45

ولذلك أثنى الله سبحانه على الذين يخرون سجدا عند سماع كلامه وذم من لا يقع ساجدا عنده وأخبر سبحانه عن سجود جميع المخلوقات له فقال الله تعالى) ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون" (

والسجود أفضل أركان الصلاة الفعلية وسرها الذي شرعت لأجله وكان تكرره في الصلاة أكثر من تكرر سائر الأركان وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه وهو قول العبد سبحان ربي الأعلى فهذا أفضل ما يقال فيه وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه فذكر علو ربه في حال سقوطه.

(كتاب الصلاة)(137)

ص: 46

(20)(الاعتكاف)

لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفاً على جمعيته على الله، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثا، ويشتته في كل واد ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة.

وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور

ص: 47

حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرا قط، بل قد قالت عائشة:(لا اعتكاف إلا بصوم).

ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم. فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف: أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية.

وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، وتركه مرة، فقضاه في شوال. واعتكف مرة في العشر الأول، ثم الأوسط، ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأخير، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل.

وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل

تحصيلا لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون والاعتكاف النبوي لون.

(زاد المعاد)(2/ 82)

ص: 48

(21)(قيام الليل)

اختلف السلف والخلف في أنه: هل كان قيام الليل فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ والطائفتان احتجوا بقوله تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) قالوا: فهذا صريح في عدم الوجوب، قال الآخرون: أمره بالتهجد في هذه السورة، كما أمره في قوله تعالى:(يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) ولم يجئ ما ينسخه عنه.

ولم يكن صل الله عليه وسلم يدع قيام الليل حضراً ولا سفرا وكان إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، وكان قيامه صل الله عليه وسلم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة كما قال ابن عباس وعائشة فإنه ثبت عنهما هذا وهذا.

قالت عائشة رضي الله عنها: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل علي، إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات، ثم يأوي إلى فراشه). وقال ابن عباس لما بات عنده: (صلى العشاء، ثم جاء، ثم صلى، ثم نام) ذكرهما أبو داود. وكان إذا استيقظ، بدأ بالسواك، ثم يذكر الله تعالى، ثم يتطهر، ثم يصلي ركعتين خفيفتين،

وكان يقوم تارة إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، وربما كان يقوم إذا سمع الصارخ وهو الديك وهو إنما يصيح في النصف الثاني،

ص: 49

وكان يقطع ورده تارة، ويصله تارة وهو الأكثر، ويقطعه كما قال ابن عباس في حديث مبيته عنده، وكان قيامه ووتره أنواعا، فمنها هذا الذي ذكره ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ، فتسوك، وتوضأ، وهو يقول:(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب). فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف، فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة

النوع الثاني: الذي ذكرته عائشة، أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم يتم ورده إحدى عشرة ركعة ثم يسلم من كل ركعتين ويوتر واحدة

وكانت صلاته بالليل ثلاثة أنواع أحدها وهو أكثرها صلاتة قائمًا، الثاني أنه كان يصلي قاعدا ويركع قاعدا، الثالث: أنه كان يقرأ قاعدا فإذا بقى يسير من قراءته قام فركع قائمًا والأنواع الثلاثة صحت عنه، وكان صلى الله عليه وسلم يسر بالقراءة في صلاة الليل تارة ويجهر بها تارة ويطيل القيام تارة ويخففه تارة ويوتر آخر الليل وهو الأكثر وأوله تارة وأوسطه تارة

(زاد المعاد)(1/ 311)

ص: 50

(22)(استماع القرآن)

قال الله تعالى: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون" فذكر سبحانه أن استماع القرآن سبب الرحمة فالرحمة تنزل على أهل استماعه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة وتنزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده"

وقد ذكر سبحانه في غير موضع من كتابه أن الرحمة تحصل بالقرآن كقوله تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" وقال: "هذا بصائر الناس وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" قال تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين"

ولا ريب أن من السماع ما تتنزل الرحمة على أهله فيه، ومنه ما تتنزل عليهم فيه اللعنة ومنه ما لا يتنزل عليه فيه رحمة ولا لعنة وهذا بحسب المسموع في نفسه ومرتبته في الخير والشر والحمد والذم، وإذا تأمل العامل الأثر الذي يحصل عند سماع الآيات والأثر الذي يحصل عند سماع الأبيات تبين له عند أي الأثرين تنزل الرحمة. وسمع رجل قارئًا يقرأ:: (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون") فكانت سبب توبته وإقباله، وسمع أخر قارئًا

ص: 51

يقرأ (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض") فبكى وقال: لقد خاب وشقي من ضاقت عليه جنة عرضها السموات والأرض ولم يكن له فيها مقعدًا وسمع آخر قارئاً يقرأ: فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) فقال: ومن أحوج أصدق الصادقين أن يقسم)

وسمع آخر قارئا يقرأ: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" فقال انظروا إلى كرمه أعطى عبيده ماله ثم استقرضه منهم لهم ثم رده عليهم مضاعفا أضعافا كثيرة وزادهم عليه أجرا كريما

وسمع آخر قارئًا يقرأ: "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم" فقال: سبحان من سكن قلوب المشتاقين إلى لقائه بِأن ضرب لهم أجلا للقاء وأعلمهم بأن ذلك الأجل آت لا محالة فسكنت إليه نفوسهم واطمأنت به قلوبهم ولو لم يضرب للقائه أجلا لذابت قلوبهم شوقًا إليه

(مسألة السماع)(347)

ص: 52

(23) انشراح الصدر

قال الله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجاً كأنما يصعد في السماء .. ) والحرج هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم يقال: رجل حرج أي ضيق الصدر.

وقال عبيد بن عمير: قرأ بن عباس هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر قال رجل: نعم، قال: ما الحرجة فيكم؟ قالوا: الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه، فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر.

وقرا عمر بن الخطاب الآية فقال: ايتوني برجل من كنانة واجعلوه راعيًا فأتوه به فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ فقال: الشجرة تحدق بها الأشجار الكثيرة فلا تصل إليها راعية ولا حشية، فقال عمر: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير.

قال ابن عباس: يجعل صدره ضيقًا حرجا إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإن ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك، ولما كان القلب محلًا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره وشرحه فدخلت فيه وسكنته وإذا أراد إضلاله ضيق صدره وأحرجه فلم يجد محلًا يدخل

ص: 53

فيه فيعدل عنه ولا يساكنه وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيئ ضاق به وكلما أفرغت فيه الشيئ ضاق إلا القلب اللين فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح وهذا من آيات قدرة الرب تعالى وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل النور القلب انفسح و انشرح، قالوا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله) فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى وتضييقه من أسباب الضلال كما أن شرحه من أجل النعم وتضييقه من أعظم النقم.

فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها وإذا قوى الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدراً منه على شهواتها ومحابها فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له فإنها سجن المؤمن.

(شفاء العليل)(439)

ص: 54

(24)(من آثار رحمة الله تعالى)

انظر إلى ما في الوجود من آثار رحمة الله تعالى الخاصة والعامة، فبرحمته أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل علينا كتابه وعصمنا من الجهالة وهدانا من الضلالة وبصرنا من العمى وأرشدنا من الغي وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض، وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل والدر، وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم، وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته، وبصرهم ومكن لهم أسباب مصالحهم برحمته، وأوسع المخلوقات عرشه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي وسع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه من صفته وتسمى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه

ص: 55

يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابا، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة، فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها، فبرحمته خلقت، وبرحمته عمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها، وبرحمته طاب عيشهم فيها، وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور، ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه، ومن رحمته أن خلق مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة نشرها بين الخليفة ليتراحموا بها فبها تعطف الوالدة على ولدها والطير والوحش والبهائم وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه

(مختصر الصواعق المرسلة)(2/ 303)

ص: 56

(25)(تأثير آيات القرآن)

قال الله تعالى: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد هل من محيص. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"

والناس ثلاثة:

رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه

الثاني: رجل له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة إما لعدم ورودها أو وصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها فهو غائب القلب ليس حاضراً فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه، والثالث: رجل حي القلب مستعد تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه فهو شاهد القلب ملقٍ السمع فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.

فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر. والثاني: بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.

ص: 57

والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسطٍ من البعد والقرب، فهذا هو الذي يراه.

فسبحان من جعل كلامه شفاءً لما في الصدور.

فإنه قيل: فما وقع أو في قوله تعالى: ("لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) من هذا النظم على ما قررت؟ قيل: فيها سر لطيف، ولسنا نقول إنها بمعنى الواو كما يقوله ظاهريه النحاة.

فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد، مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نورًا على نور، وهؤلاء أكمل خلق الله، وأعظم إيمانًا وبصيرةً، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد لهم، لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه، فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة ازداد بها نورًا إلى نوره فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضًا "فإن لم يصبها وابل فطل" والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها.

(مدارج السالكين)(2/ 20)

ص: 58

(26) إخفاء الدعاء

قوله تعالى: "ادعوا ربكم تضرعًا وخفية" يتناول نوعي الدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة لكنه ظاهر في دعاء المسالة متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره.

وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة: أحدها: أنه أعظم إيمانًا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعائه الخفي وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.

"ثانيها" أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات .. ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.

"ثالثها" أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه. وذلت جوارحه وخشع صوته .. فقلبه قلب سائل طالب مبتهل ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلاً.

رابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.

ص: 59

خامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله تعالى في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه ويشوشه.

"سادسها" - وهو من النكت السرية البديعة جداً - أنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشده حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيساله مسألة مناجاة القريب للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد

سابعها- أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعاً صوته فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.

ثامنها - أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره والدعاء ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه فالذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحًا بالسؤال فهو داع بما تضمنه ثنائه من التعرض والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه

(بدائع الفوائد)(3/ 7)

ص: 60

(27)(الأسماء الحسنى والصفات العلى وآثارها)

الأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضائها لآثارها من الخلق والتكوين فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح.

فعلم العبد بتفرد الرب بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطنًا وظاهرًا ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا.

وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولافي الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه؛ فيثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح.

ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه وواسع رحمته، توجب له سعة الرجاء وتثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع

ص: 61

والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة؛ هي موجباتها،

وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى؛ يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها.

فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضاها؛ لأنه لا يتزين من عباده بطاعتهم، ولا تشينه معصيتهم، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى:«يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» ، ذكر هذا عقب قوله:«يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم» .

(مفتاح دار السعادة)(2/ 127)

ص: 62

(28)(الإحسان مع الخوف)

وصف الله سبحانه أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن. ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية الجد في العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن، فهذا الصديق رضي الله عنه يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن"

ذكره أحمد عنه، وذكر عنه أيضا أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، وكان يبكي كثيراً، ويقول: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل وأتي بطائر فأخذ يقلبه ثم قال: ما صيد من صيد، ولا قطعت من شجرة، إلا بما ضيعت من التسبيح، ولما احتضر قال لعائشة: يا بنية، إني أصبت من مال المسلمين هذا العباءة وهذا الحلاب وهذا العبد، فأسرعي به إلى ابن الخطاب، وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.

وقال قتادة: بلغني أن أبا بكر قال: ليتني خضرة تأكلني الدواب، وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور إلى أن بلغ قوله:(إن عذاب ربك لواقع) فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه. وقال لابنه وهو في سياق الموت: ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني، ثم قال: ويل أمي، إن لم يغفر الله لي (ثلاثا)، ثم قضي.

ص: 63

وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخنقه العبرة فيبقى في البيت أياما ويعاد، ويحسبونه مريضا، وكان في وجهه رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء.

وقال له ابن عباس، مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل، فقال: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر.

وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.

وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبكاؤه وخوفه، وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى، قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة قد أسرعت مقبلة، ولكل واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

(الجواب الكافي)(77)

ص: 64

(29)(في هديه صل الله عليه وسلم في العيدين)

كان صلى الله عليه وسلم يصلي العيدين في المصلى، وهو المصلى الذي على باب المدينة الشرقي وهو المصلى الذي يوضع فيه محمل الحاج ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة واحدة أصابهم مطر فصلى بهم العيد في المسجد إن ثبت الحديث وهو في سنن أبي داود وابن ماجه، وهديه كان فعلهما في المصلى دائمًا.

وكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه، فكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة، ومرة كان يلبس بردين أخضرين، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمرات ويأكلهن وتراً وأما في عيد الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته، وكان يغتسل للعيدين صح الحديث فيه وفيه حديثان ضعيفان .. ولكن ثبت عن ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة انه كان يغتسل يوم العيد قبل خروجه.

وكان صلى الله عليه وسلم يخرج ماشياً، والعنزة تحمل بين يديه، فإذا وصل إلى المصلى نصبت بين يديه ليصلي إليها، فإن المصلى كان إذ ذاك فضاء لم يكن فيه بناء ولا حائط، وكانت الحربة سترته. وكان يؤخر صلاة عيد الفطر، ويعجل الأضحى، وكان ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة لا يخرج حتى تطلع الشمس، ويكبر من بيته إلى المصلى. وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى

ص: 65

المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة: أنه لا يفعل شيء من ذلك.

ولم يكن هو ولا أصحابه يصلون إذا انتهوا إلى المصلى شيئا قبل الصلاة ولا بعدها.

وكان يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، فيصلي ركعتين، يكبر في الأولى سبع تكبيرات متوالية بتكبيرة الافتتاح، يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة، ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات، ولكن ذكر عن ابن مسعود أنه قال: يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الخلال. وكان ابن عمر مع تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتم التكبير أخذ في القراءة، فقرأ فاتحة الكتاب، ثم قرأ بعدها (ق والقرآن المجيد) في إحدى الركعتين، وفي الأخرى (اقتربت الساعة وانشق القمر). وربما قرأ فيهما (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية)

فإذا فرغ من القراءة كبر وركع، ثم إذا أكمل الركعة وقام من السجود كبر خمسا متوالية، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكمل الصلاة انصرف فقام مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ورخص لمن شهد العيد أن يجلس للخطبة وأن يذهب ورخص لهم إذا وقع العيد يوم الجمعة أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة وكان صل الله عليه وسلم يخالف الطريق يوم العيد فيذهب في طريق ويرجع في آخر.

(زاد المعاد)(1/ 425)

ص: 66

(30)(العبد بين مشاهدة المنة ورؤية عيب النفس)

العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته، فهو يعلم أن ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه، وأن أقضيته كلها عدل فيه، وأن ما فيه من الخير فبمجرد فضله ومنته وصدقته عليه ولهذا كان في حديث الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي"، فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ولا يرى ربه إلا محسنا متفضلًا وقد قسم الله خلقه إلى قسمين لا ثالث لهما تائبين وظالمين فقال: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" وكذلك جعلهم قسمين معذبين وتائبين فمن لم يتب فهو معذب ولابد

قال تعالى {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} وأمر جميع المؤمنين من أولهم وأخرهم بالتوبة ولا يستثنى من ذلك أحد وعلق فلاحهم بها قال تعالى: "وتوبوا إلى الله جميعًا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون"

وعدد سبحانه من جملة نعمة على خير خلقه وأكرمه عليه وأطوعهم له وأخشاهم له أن تاب عليه وعلى خواص أتباعه فقال: ("لقد تاب الله على النبي و المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد

ص: 67

ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم") ثم كرر توبته عليهم فقال: "ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم"

وقدم توبته عليهم على توبة الثلاثة الذين خلفوا وأخبر سبحانه أن الجنة وعدها أهلها في التوراة والإنجيل يدخلها التائبون فذكر عموم التائبين أولًا ثم خص النبي والمهاجرين والأنصار بها ثم خص الثلاثة الذين خلفوا فعلم بذلك احتياج جميع الخلق إلى توبته عليهم ومغفرته لهم وعفوه عنهم وقد قال تعالى لسيد ولد آدم وأحب خلقه إليه "عفا الله عنك" فهذا خبر منه وهو أصدق القائلين أو دعاء لرسوله بعفوه عنه وهو طلب من نفسه وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده أقرب ما يكون من ربه: أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) وقال لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق وقد قالت له يا رسول الله: لئن وافقت ليلة القدر فما أدعو به؟ قال: قوي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"

قال: الترمذي حديث حسن صحيح

(شفاء العليل)(269)

ص: 68