المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدنيا دار البلاء - دروس الشيخ سعد البريك - جـ ١٠٨

[سعد البريك]

الفصل: ‌الدنيا دار البلاء

‌الدنيا دار البلاء

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله وتوبوا إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]

يا نفس توبي قبل ألا تستطيعي أن تتوبي

واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب

إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب

اتقوا الله حق تقاته قبل أن يخطفكم الأجل أو يفجعكم الوجل.

عباد الله: يقول الله جل وعلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].

معاشر المؤمنين: إن هذه الدنيا قد جبلها الله وخلقها وطبعها على البلايا، وعلى الفتن والكدر، حتى لا يطمئن العباد إليها، فإذا نغصت صحتهم بسقم اشتاقوا إلى جنةٍ لا أمراض فيها، وإذا كدر اجتماعهم بفراق اشتاقوا إلى جنةٍ لا فراق فيها، وإذا تكدر عيشهم بخوف أو فزع اشتاقوا إلى دارٍ لا وجل ولا فزع فيها، وإذا كدر عزهم بذل أو غناهم بفقر اشتاقوا إلى دارٍ لا يمسهم فيها نصب ولا هم فيها يحزنون.

أيها المؤمنون: إن من أراد السعادة الكاملة في الدنيا، طلب المستحيل بأصنافه وأنواعه، وكيف تراد السعادة من دارٍ جعلها الله سجن المؤمنين وجنة الكافرين؟ كما في الحديث الصحيح:(الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).

مرَّ أحد السلف رضوان الله عليهم بيهودي حداد فاعترض اليهودي طريق ذاك العالم، فقال: نبيكم يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فكيف تكون الدنيا سجناً لك، وأنت على هذا الخيل وتلبس هذه الحلة والناس من حولك؟ وكيف تكون جنة لي وأنا حداد بين الكير والنفخ والنار؟! قال: نعم.

هي سجن لنا لأننا ينتظرنا من النعيم أضعاف أضعاف ما نحن فيه، وهي جنة لكم؛ لأن من مات كافراً ينتظره من الشقاء والعذاب أضعاف أضعاف ما هو فيه.

وبالجملة فليس في الدنيا نعيم لا ينقطع.

طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار

فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفر من الأسفار

وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عوارِ

أيها الأحبة: قد جعل الله في هذه الدنيا ألواناً وأنواعاً من البلاء، وما من بلاء قل أو كثر صغر أو كبر إلا وهو بقضاء الله وقدره {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] فهذا مبتلى بزوجة نغصت عليه حياته، وهذا مبتلى بأولاد يعقونه، وهذا مبتلى بأقارب يصلهم فيقطعونه، ويبذل لهم فيحسدونه، ويعطيهم فلا يشكرونه، وذاك مبتلى بعلة في بدنه علة في الرأس أو في القلب أو في الجوف أو في الأطراف، أو في أي موضع من بدنه، وذاك مبتلى بعلة في ماله، ترددت تجارته بين كساد وخسارة أو جائحة وحريق، وآخر مبتلى بفقد الأبناء، كلما ولد له مولود وعاش أياماً ودب على الأرض يخطو، وعاش كأنما تمشي فراشة على وردة قلبه إذ به يموت بين عينيه، وآخر مبتلى بالحل والترحال والتشريد والطرد، وآخر وآخر وآخر كل هذه أنواع من البلاء {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} [البقرة:155] ولم يبتل العباد بالخوف كله، أو بالجوع كله، أو بنقص المال كله، أو بنقص الأنفس كلها، أو بنقص الثمرات كلها؛ لأن العباد لا يطيقون البلاء كله، وإنما يبتلون بشيء {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر:8] لو نزل الضر كله، لهلك العبد ولم يطق، ولكن يناله شيء، يناله مس يسير من هذا.

ص: 2