المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثلاثة تكلموا في المهد - دروس الشيخ عائض القرني - جـ ٥٣

[عائض القرني]

الفصل: ‌ثلاثة تكلموا في المهد

‌ثلاثة تكلموا في المهد

أ- عيسى عليه السلام:

هو الذي أنطق كل شيء، فيقول عليه الصلاة والسلام:{لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة} قبل أن يتكلموا وقبل أن يفصحوا، من هم؟ -قال: عيسى عليه السلام أتت به أمه مريم، وليس له أب عليه السلام، والله خلق الخلق على أصناف ثلاثة: خلق بلا أب ولا أم كآدم عليه السلام، وخلق بأم ولا أب كعيسى عليه السلام، وبقية الخلق من أم وأب، فأتت به من النخل تحمله قال بنو إسرائيل:{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] فلم تتكلم وأشارت إليه، فتضاحكوا، وقالوا:{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم:29] فتكلم بإذن الله، مع أنه لم يمض عليه إلا ساعات، وقيل: ثلاثة أيام، فتكلم بلسان فصيح نصيح مليح، وقال:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} * {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} * {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:30 - 32] فانذهلوا.

هذا أولهم.

ب- قصة جريج:-

وثانيهم الطفل في قصة جريج، كان جريج عابداً من عبّاد بني إسرائيل، في صيام وصلاة، في ذكر ودعاء، في صدقة وبذل، فقام يصلي، فلما كبر واستقبل قلبته، أتت أمه قالت: يا جريج فقال في الصلاة: يا رب أمي وصلاتي، يا رب أمي وصلاتي، يا رب أمي وصلاتي؟! أي: يا رب! هل أقطع الصلاة وأجيب أمي؟ أم أستمر في صلاتي؟ انظر إلى بر الوالدين.

الآن والداك لا يطالبانك بأن تقطع الصلاة وإنما يدعوانك إلى طلب خفيف، فتجد ممن يعق الوالدين، ويلعن الوالدين، ويقطع الوالدين، ويهجر الوالدين، وهما يقدمان له كل شيء!

وجد في مجتمعنا من الآباء من فعل بابنه العجب العجاب، بنى له بيتاً، وزوَّجه، وملَّكه سيارة، وأعطاه من المال، ثم تجد هذا الابن من أفجر الناس، قلبه من قلوب اليهود والنصارى، فلا يطيع أباه، بل يتنقصه في المجالس، ويستهزئ به، فهذا أفجر من أفجر فاجر في الدنيا.

فهذا الرجل العابد تحير في الصلاة لكن رأى أن طاعة الله مقدمة على ذلك، هو ما عصاها لكن ما أجابها، فغضبت عليه -وكانت عابدة- وقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -أي لا تحكم عليه بالموت والإعدام حتى يرى وجوه الزانيات- وكان عابداً، والله يحفظ العبّاد.

أرأيتم إنساناً يحافظ على الصلوات الخمس ويشرب الخمر؟ لا.

هل رأيتم إنساناً والمصحف في يده يعتدي على المحرمات، أو يزني ويسرق؟ لا.

احفظ الله يحفظك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21].

إنسان يحافظ على صلاة الفجر جماعة كل يوم لن يتردى في الكبائر أبداً، وهذا معروف بالاستقراء، أكثر من يدخل السجون الآن بالمخدرات الذين لا يصلون في المساجد.

لماذا؟، لأن الذي لا يعرف طريق المسجد يعرفه الله طريق السجن، والذي لا يعرف القرآن يعرفه السوط، والذي لا يعرف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يذيقه الله السيف.

فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -تعني: الزانيات- فمكث فتحدث بنو إسرائيل بعبادته، وصيامه، وصلاته، فقالت امرأة فاجرة -نعوذ بالله من الفجور- والفجور انتشر في بني إسرائيل كما قال تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] تركوا الحجاب ثم اختلطوا، فوقعوا في الزنا فلعنهم الله ومسخهم قردةً وخنازير.

ولذلك لا يوجد أحد أطهر من موسى إلا من أمثاله من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أتى قارون إلى امرأةً زانيةً فأعطاها قنطاراً من ذهب، وقال: إذا اجتمعنا نحن والناس وقام موسى يدعونا إلى الله، فقومي وابكي وسط الناس -هذه الإشاعة الباطلة المفتراة ضد الدعاة- قالت: ماذا أقول؟ قال: قولي: إنه صنع بك الفاحشة -سبحان الله! موسى عليه السلام فلما اجتمع بنوا إسرائيل ومعهم قارون والأغنياء والأمراء والناس؛ قامت تبكي وتضرب وجهها وتنفث شعرها، قالوا: مالك؟ فادعت أن موسى زنا بها، فقام موسى بالعصا، وقال: يا أمَةَ الله أسألك بمن شق البحر لي، وأنزل علي التوراة هل أنا فعلت ذلك؟ قالت: لا والله، قال: اللهم خذ قارون، فخسف به وبداره، فأخذ قارون وداره فزلزل في الأرض يصيح: يا موسى! يا موسى! يا موسى! حتى اختفى صوته وماله وجسمه وداره في الأرض، وفي بعض الروايات الإسرائيلية يقول الله:"يا موسى لماذا لم ترحمه؟ لقد كدت أن أرحمه، سبحانه وتعالى! " أو كما قال الله عز وجل، وهذه من الإسرائيليات.

المقصود: أن هذه المرأة ذهبت إلى جريج، فذهبت إلى بني إسرائيل، فقالت: زنا بها جريج، فأتوا إلى جريج وكان عابداً في صومعةٍ فأنزلوه وضربوه، وهدموا صومعته، فقال: مالكم؟! قالوا: زنيت بتلك المرأة، فأتوا وإذا هي حامل، وقد وضعت وطفلها معها يرضع، قال: يا أيها الطفل! أسألك بالله رب العالمين من أبوك؟ قال: أبي الراعي -راعي غنم كان يدور حول الصومعة زنى بهذه المرأة فكان ابنه هذا الولد- فرجعوا فقالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: أعيدوها من طين، فأعادوها من طين.

جـ- الطفل الرضيع:-

والطفل الثالث: طفل كان مع أمه يرضع ثديها، فمر بها رجل جميل عليه ثياب حسنة على فرس، فقالت: يا رب أسألك أن تجعل ابني مثل هذا الرجل الفارس، فترك الطفل الثدي، وقال: اللهم لا تجعلني مثل هذا الرجل، فانذهلت فقالت: يا عجباً ابني يتكلم! وبعد قليل مروا بجارية يضربونها ويشتمونها، فقالت المرأة: اللهم لا تجعل ابني كهذه الأمة، فترك الثدي ورفع طرفه إلى السماء، وقال: اللهم اجعلني كهذه الجارية، فانذهلت، فسألت ابنها: مالك؟! قال: أما الرجل الأول، فإنه رجل فاجر ملعون في السماء، وفي الأرض، وأما هذه الأمة الجارية؛ فمظلومة، يقول لها أهلها: زنت وسرقت، وما زنت ولا سرقت، وفي بعض الروايات: وهي من أهل الجنة.

وشاهد هذه القصة الاعتماد على العمل، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:{إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {احتجت الجنة والنار، فقالت النار: مالي لا يدخلني إلا المتكبرون والمتجبرون؟ وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين، فأوحى الله إليهما فقال للنار: أما أنت فعذابي أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أما أنت فرحمتي أرحم بك من أشاء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

والشاهد من هذه القصص: أن الاعتماد لا يكون إلا على العمل، فزكوا أعمالكم، وانظروا إلى قلوبكم، وأصلحوا أرواحكم، فو الله لا يجدي إلا ما أسلفته من عمل، وما قدمته من تقوى، وما أعددته بين يديك من صلاح.

أسأل الله أن يصلحني وإياكم، ظاهراً وباطناً، سراً وعلناً، وأن يجعلنا من المتقين المهتدين، الذين يسلك بهم الصراط المستقيم، وهداهم إلى البر العميم والأجر العظيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

ص: 3