الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل متعلقة بالجنة
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فتقدم من تكلم في هذا الموضوع خمسة، خمسة وإلا ستة؟
طالب: نعم خمسة.
خمسة من خير من يتكلم في هذا الباب نحسبهم والله حسيبهم، ولا أدري ماذا أبقوا لنا من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع الحادي للمسلم على العمل، وعنوان، العنوان الذي يشمل هذه الدروس قرأته، وأراه الآن كتب غاية، فهل الجنة غاية، أو الغاية رضى الرب، أو أن الله -جل وعلا- ما ذكرها في كتابه وعلى لسان نبيه عليه الصلاة والسلام؛ إلا لتلاحظ في القصد، وأما القصد أولاً وأخراً فهو رضى الله -جل وعلا-، تحقيق ما خلق الإنسان من أجله وهو عبودية الله -جل وعلا-، هذه الغاية، وإذا ذكر ما يمكن ملاحظته أثناء العمل سواءً كان من أمر الدنيا، أو من أمر الآخرة، فملاحظته لا تضر بالعمل، يعني إذا جاء الحث على ذكر من الأذكار مثلاً وأنه سبب لحفظ الإنسان، أو لطول عمره، أو لكثرة ماله، ثم لاحظ هذا الأمر الذي ذكر في النص فإن ملاحظته لا تؤثر، إلا إذا كان ذلك هو الباعث الأصلي من غير نظر إلى امتثال ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، فمثلاً من سره أن ينسأ له في أثره، أن يبسط له في رزقه فليصل رحمه، لو أن شخصاً قال: هذه الغاية، وهذا المقصد الذي جاء في هذا الحديث للحث على هذا العمل الصالح، لو كانت ملاحظته مؤثرة في العمل، خادشة للإخلاص ما ذكر في الخبر، إذا كان الباعث للإنسان على البر والصلة، هو مجرد أن يطول عمره ويبسط له في رزقه غير ملاحظ رضا الله -جل وعلا-، فإن هذا يحصل له ما قصد وإنما لكل امرئ ما نوى، ولكن إذا كان الباعث على أصل العمل هو ما يرضي الله -جل وعلا- امتثالاً وتحقيقاً للأدلة القطعية من نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بالبر والصلة تحث على البر والصلة إذا كان هدفه الأصلي رضا الله -جل وعلا- ولاحظ ما جاء في النص ((إنه يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره))، هذا لا يؤثر، عدم الإخلاص في البر، عدم الإخلاص يعني انتفاء الإخلاص بالكلية من البر والصلة، وملاحظة ما رتب على ذلك من أمر ومصلحة دنيوية لا يتحقق في العمل قول النبي عليه الصلاة والسلام:((إنما الأعمال بالنيات)) قد يتحقق له: ((وإنما لكل امرئ منا نوى))، لكن لن يتحقق له أول الحديث الجملة الأولى في الحديث، وفرق بين ((إنما الأعمال بالنيات)) وبين ((إنما لكل
امرئ منا نوى)).
وعلى هذا كون الإنسان المسلم يجعل الجنة غايته، أو يجعل الحور العين غايته، مثلاً جاء ذكر هذه الأمور المشجعة من النعيم المقيم وما اشتملت عليه الجنة مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هذه الأمور مشجعة، كما أنه بالمقابل إذا خاف من النار ومن عذاب النار، هل نقول: إن من رجا الجنة رجاءه لله، ومن خاف النار خوفه لله، أو الرجاء للجنة والخوف للنار، هذه المسألة مشكلة، وقد تشكل على كثير من طلاب العلم، نقول: الله -جل وعلا- هو الذي جعل الجنة ثواباً للمطيع، والنار عقاباً للعاصي، ومثال ذلك: لو أن شخصاً بيده عصا –ولله المثل الأعلى- بيده عصا وهددك بالضرب أو بيده سيف هل خوفك من السيف أو من حامل السيف؟ فإذا خفت النار فأنت خائف من الذي جعلها عقاباً لك إذا عصيت الله -جل وعلا-، وإذا رجوت الجنة، فإنما ترجو الله -جل علا- الذي جعلها ثواباً لك.
بعضهم يقول، بعض الطوائف يقولون: لا يجوز أن يلاحظ في العمل ويراعى غير الرب -جل وعلا- ورضاه ومحبته، ويستدلون على ذلك بآخر آية في سورة الكهف:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف: 110]، وملاحظة الجنة والخوف من النار هذا كله من الإشراك، نقول: هذا الكلام ليس بصحيح، بل كلام باطل، ولو كان هذا الكلام صحيحاً لما طفحت النصوص، نصوص الكتاب والسنة بذكر الجنة والترغيب فيها، وذكر النار والتحذير منها، وعلى هذا هل في إشكال في العنوان: غايتي؟ نعم.
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب: هذا يكون فيه، من حيث الكتابة وكذا من كذا يكون فيه مشكلة. . . . . . . . .
المقصود هو رضا الله -جل وعلا- الموصل إلى جناته، وعلى كل حال مثل ما ذكرنا إذا كان العمل عمله الإنسان مخلصاً فيه لله -جل وعلا-، محققاً حديث ((إنما الأعمال بالنيات)) فلا يضره ما طرأ بعد ذلك من الغايات التي، والبواعث التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فلا تؤثر في العمل.
لكن بعض الناس يركز على شيء في الجنة مثل الحور العين، يجعل هذه هي الغاية وهي الهدف، نقول: أعظم نعيم في الجنة هو التلذذ برؤية الباري -جل وعلا-، هذا هو أعظم نعيم، أعظم من نعيم الحور العين، مع أن الرغبة في الحور العين، وكون هذا حاث على العمل، هذا ما فيه إشكال؛ لأنه جاءت به النصوص، فنفرق بين أن يكون هذا هو الأصل الباعث على العمل ليخالف:((إنما الأعمال بالنيات)) أو يكون في ضمن العمل، مكمل للعمل الذي جاء الحث عليه، فيكون داخلاً في قوله:((وإنما لكل امرئ ما نوى)).
إذا عرفنا هذا، المسائل التي طلبت في هذا الدرس مع أنها لم تتحرر لدي؛ لأن الأخوة الذين سبقونا بهذه الدروس ما أدري ما الموضوعات التي تطرقوا لها، والذي أخشاه كل ما أخشاه التكرار، وأعرض لمسائل متعلقة بالجنة، مسائل علمية متعلقة بالجنة وهي مشكلة وفيها خلاف بين أهل العلم، يغلب على ظني أن من سبقني لم يتعرض لها.
أولاً: ما الجنة؟ وما تعريف الجنة؟
في أبيات لابن القيم -رحمه الله تعالى- في نونيته نذكرها في آخر المحاضرة إن -شاء الله تعالى-.
الجنة كما يقول الراغب الأصفهاني في المفردات يقول: أصل الجَنّ: ستر الشيء عن الحاسة، ستر الشيء عن الحاسة، يقال: جَنَّهُ الليل وأَجَنَّه وجَنَّ عليه فجنه: ستره وأجنه جعل له ما يُجنه كقولك: قبرتُه وأقبرته وسقيته وأسقيته وجَنَّ عليه كذا: ستر عليه قال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [سورة الأنعام: 76] والجنان: القلب، القلب لكونه مستوراً عن الحاسة، لكونه مستوراً عن الحاسة، هذا هو الأصل؛ لأنه محبوس في القفص الصدري والظهر، هذا هو الأصل فيه، لا يقول: إن الجنان الآن يمكن الاطلاع عليه بالعمليات الجراحية، هذا خلاف الأصل.
والجِنان: القلب لكونه مستوراً عن الحاسة، والمجِن والمجِنة: الترس الذي يُجِن صاحبه. يقول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [سورة المجادلة: 16] وفي الحديث: ((الصوم جُنّة))، هم يستترون بأيمانهم، يعني المنافقين، والصائم يستتر بصيامه ويقيه صيامه، ويستره عن عذاب الله تعالى.
ومن ذلك الجنين؛ لأنه مستور في الظلمات الثلاث، والجِن مستترون عنا، لا نراهم، وكذلك الجُنُون الآفة التي تغطي وتستر العقل عن مزاولة ما يزاوله غيره ممن لم يتصف بوصفه.
والجَنّة: كل بستان ذي شجر، والجنة: كل بستان ذي شجر، يستر بأشجاره الأرض يقول الله -جل وعلا-:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سورة سبأ: 15]{وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سورة سبأ: 16]{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [سورة الكهف: 39]، كل هذه بساتين.
قيل: وقد تسمى الأشجار الساترة جنة، وعلى ذلك حمل قول الشاعر:
من النواضح تسقى، أو
. . . . . . . . .
…
تَسْقِي النواضح جنةً سحقاً
يعني أشجار مرتفعة عالية.
وسميت الجنة –يعني بهذا الاسم- إما تشبيهاً بالجنة في الأرض، التي هي البستان - وإن كان بينهما بون شاسع- فرق كبير بين البستان في الدنيا، وبين الجنة التي أعدها الله لأوليائه، إذ ليس في جنان الدنيا مهما عظمت مما في جنة الخلد إلا الأسماء، كما يقول ابن عباس.
إما تشبيهاً بالجنة في الأرض -وإن كان بينهما البون الشاسع، والفارق الكبير، وإما لستر نعمها عنا المشار إليها بقوله -جل وعلا-:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة السجدة: 17]{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة السجدة: 17]، أخفي الجزاء؛ لأنهم أخفوا العمل، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [سورة السجدة: 16]، أخفوا العمل فأخفي لهم الجزاء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما قال: جنات، إنما قال: جنات بلفظ الجمع لكون الجنان سبعاً، لكون الجنان سبعاً: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليين.
فالجنان سبع، إذا عرفنا هذا فمما يتعلق بالجنة من المسائل العلمية الجنة التي أسكنها الله -جل وعلا- آدم، {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [سورة البقرة: 35]، سكنها مدة ثم حصل ما حصل من الأكل من الشجرة، ثم عوقب بإهباطه إلى الأرض، هذه الجنة هل هي جنة الخلد؟ أو جنة في الأرض؟ كلام طويل لأهل العلم، يعني أفاض العلامة ابن القيم -رحمة الله عليه- في أوائل مفتاح دار السعادة، وأيضاً في حادي الأرواح، أفاض في ذكر الأقوال والأدلة التي يستدل بها كل طرف ممن يقول: إنها هي جنة الخلد، أو يقول: إنها جنة أخرى في ربوة ومرتفع من الأرض.
يقول الله -جل وعلا-: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [سورة البقرة: 35 - 36].
يقول الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقد اختلف في الجنة التي أُسكنها آدم أهي في السماء أم في الأرض؟ فالأكثرون على الأول".
قد يقول قائل: هذا الخلاف الذي أطال العلماء في بحثه وتقريره والاستدلال له، هل يترتب عليه فائدة عملية أو لا؟ يعني تضييع الوقت في مثل هذه المسائل هل يترتب عليها فائدة وإلا ما يترتب عليها فائدة؟ وهل يلزم من كل مسألة تبحث أن يكون لها فائدة عملية وثمرة للخلاف؟ أو أن هناك من المسائل العقدية العلمية التي لا يلزم أن يكون هناك لها أثر عملي مرئي؟ هذه من المسائل التي بحثت في كتب أهل العلم سواءً كانت في التفاسير، أو في كتب العقائد، أو غيرها على كل حال هي مسألة معروفة عند أهل العلم ومقررة والخلاف فيها طويل.
يقول الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقد اختلف في الجنة التي أُسكنها آدم أهي في السماء، أو في الأرض؟ فالأكثرون على الأول". فالأكثرون على الأول، -يعني هي التي في السماء-.
وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول "بأنها في الأرض".
يقول ابن كثير: "وسيأتي تقرير ذلك في الأعراف إن شاء الله تعالى".
ونحن نذكر كلام القرطبي؛ لأن ابن كثير أحال عليه.
يقول القرطبي في تفسيره: "الجنة: البستان، الجنة: البستان، وقد تقدم القول فيها، ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن، وإنما كان في جنة بأرض عدن".
يقول القرطبي: "واستدلوا على بدعتهم" يعني المسألة مسألة عقدية الآن صارت بين أهل السنة والمعتزلة والقدرية، فتبحث على أساس أنها مسألة عقدية، واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليها إبليس، بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليها إبليس، فإن الله تعالى قال:{لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [سورة الطور: 23]، يعني إبليس، ما الذي جعله يطرد من رحمة الله وجعله يستحق اللعنة؟ العصيان، ترك الأمر الإلهي الرب -جل وعلا- يقول:{اسْجُدُواْ لآدَمَ} [سورة البقرة: 34]، ورفض أن يسجد، فهل في هذا ما يمنع أنه يدخل الجنة قبل ذلك، قبل اللعن والطرد؟ ما في ما يمنع، يقولون: واستدلوا على بدعتهم بأنه لو كانت جنة الخلد لما وصل إليها إبليس، فإن الله تعالى قال:{لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} ، وقال:{لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} [سورة النبأ: 35]، وقال -جل وعلا-:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا* إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [سورة الواقعة: 25 - 26]، وهذا النفي لسماع اللغو والكذاب والتأثيم، ولا يسمعون منهم الذين نفي سماعهم؟ هم أهلها الذين خلقهم الله لها، يعني بعد استقرارهم فيها.
وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [سورة الحجر: 48] وأيضاً فإن جنة الخلد هي دار القدس قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيراً لها وقد لغا فيها إبليس وكذب وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما.
قالوا أيضاً –يعني المتعزلة والقدرية- قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله كيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى؟
هذه من أدلتهم، من أدلتهم.
فالجواب يقول القرطبي: فالجواب: أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام، عرف الجنة بالألف واللام ومن قال: أسال الله الجنة لم يفهم منه، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد، يعني حينما يقول الإنسان في دعائه وهو ساجد، أو في قنوته، أو في أدبار الصلوات، أو في مواطن الإجابة: أسأل الله الجنة، هل ينصرف الذهن إلى أن هذه الجنة بستان، بستان رآه وأعجبه، أو يطلب الله بستان أي بستان؟ أو يطلب جنة الخلد؟ في عرف الناس كلهم إذا أطلقت الجنة انصرفت إلى جنة الخلد، لكن أصحاب الجنة مثلاً دلت القرائن وسياق الكلام إلى أنها ليست جنة الخلد، إنما هي بستان، ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم، هذا كلام القرطبي- وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، قال: أنا ما خرجت، انتقلت من أرض إلى أرض، ومن أرض في بستان فيها بستان في عدن، من ناحية عدن انتقل إلى أرض أخرى وأسوي بستان آخر، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها، فصح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها.
يعني لو كانت جنة بستان في الأرض ما صار هناك فرق بينها وبين بستان آخر، لكن هناك فرق بين الجنة التي أخرجوا منها، والجنة، أو الدار التي أهبطوا إليها، وأما ما احتجوا به من الآي السابقة، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} [سورة الواقعة: 25]، {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} [سورة النبأ: 35]، وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء، وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء.
وقد أجمع أهل التأويل، وقد أجمع أهل التأويل، على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد دخلها النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء ثم خرج منها، وأخبر بما فيها، وأنها هي جنة الخلد حقاً.
وأما قولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم، فجهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة، أن يدخلوا الأرض المقدسة، وهي الشام.
وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها، وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي وكذلك دار القدس.
يعني هذا التقديس كوني وإلا شرعي؟ نعم .... التقديس شرعي، يعني يجب أن تقدس، لكن ما قدست، أما لو كان أمراً كونياً ما وقع خلافه.
وقال أبو الحسن بن بطال: وقد حكى بعض المشايخ أن أهل الجنة، أو أن أهل السنة، وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد التي أهبط منها آدم عليه السلام، أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم فلا معنى لقول من خالفهم.
وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد؟ أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد؟ فيعكس عليهم، يعني بدلاً من أن يكون هذا دليلاً لهم، يكون دليلاً عليهم، فيعكس عليهم ويقال: كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء؟! إذا قلنا: أنه في دار الخلد كيف يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد، أنتم تقولون: هو في دار الفناء في الأرض، كيف يطلب شجرة الخلد وهو في دار الفناء، مع كمال عقله؟ هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلاً على ما قال أبو أمامة على ما يأتي.
ثم ذكر قول أبي أمامة: "لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم".
ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام أشرف وأعظم من آدم عليهما -الصلاة والسلام-، فيستثنى من هذا.
كيف نستثني النبي عليه الصلاة والسلام من قوله: ""لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق، وضعت في كفة ميزان
…
إلى آخره"؟
هذا مقتضاه أنه مرفوع، والخلاف في دخول المتكلم في كلامه معروف بين أهل العلم، فعلى هذا لا يدخل النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الكلام؛ لأنه هو الذي تكلم به، وقد قال الله تعالى:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [سورة طه: 115]، أطال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في تقرير هذه المسألة بأقوالها وذيولها بعد أن أفاض في ذكر الحكمة في إهباط آدم من الجنة في مفتاح دار السعادة.
قال: "قالت طائفة منهم أبو مسلم، و، أبو مسلم، ومنذر بن سعيد البلوطي وغيرهما: أنها إنما كانت جنته في الأرض في موضع عال منها، لا أنها جنة المأوى التي أعدها الله لعباده المؤمنين يوم القيامة وذكر منذر بن سعيد هذا القول في تفسيره عن جماعة فقال: وأما قوله لآدم: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [سورة البقرة: 35]، فقالت طائفة: أسكن الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة.
وقال آخرون: "هي جنة غيرها جعلها الله له واسكنه إياها ليست جنة الخلد، قال: وهذا قول، أي القول الثاني، قول: تكثر الدلائل الشاهدة، تكثر الدلائل الشاهدة له والموجبة للقول به؛ لأن الجنة التي تدخل بعد القيامة هي من حيز الآخرة، هي من حيز الآخرة، وفي اليوم الآخر.
وأطال في ذكر أدلة هذا القول إلى أن قال: وقد روي عنه أنه قال لأم حارثة، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لام حارثة: لما قالت له: يا رسول الله إن حارثة قتل معك فإن كان صار إلى الجنة صبرت واحتسبت وإن كان صار إلى ما سوى ذلك رأيت ما افعل، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أو جنة واحدة)) يعني هل لا يوجد إلا جنة واحدة؟ ((إنما هي جنان)) ((إنما هي جنان)) ((إنما هي جنان كثيرة)) فاخبر صلى الله عليه وسلم أن لله جنات كثيرة فلعل آدم أسكنه الله جنة من جناته ليست هي جنة الخلد.
لكن هذه الجنان التي أشير إليها في قصة حارثة، هذه الجنان التي أشير إليها في قصة حارثة إنما هي الجنات التي سبق ذكرها السبع، وكلها على ما سيأتي في المسألة الثالثة، نعيمها دائم وليس بفان، فهي من دار الخلد.
قالوا: وقد جاز، أو وقد جاء في بعض الأخبار أن جنة آدم كانت بأرض الهند قالوا: وهذا وإن كان لا يصححه رواة الأخبار ونقلة الآثار فالذي تقبله الألباب ويشهد له ظاهر الكتاب أن جنة آدم ليست جنة الخلد، ولا دار البقاء، ولا دار البقاء، وكيف يجوز، تابع كلام منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره: وكيف يجوز أن يكون الله اسكن آدم جنة الخلد ليكون فيها من الخالدين، وهو قائل للملائكة:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة: 30]؟ استدلال ظاهر وإلا غير ظاهر؟ يعني أسكنه جنة الخلد ليكون من الخالدين، ثم يخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، مقتضى إخباره للملائكة أنه سوف يخرجه من هذه الجنة ويسكنه الأرض ليكون خليفة له في أرضه، فلو كانت دار الخلد لكان في هذا خلف في الكلام، هذا مشكل وإلا غير مشكل؟ وكيف يجوز أن يكون الله أسكن آدم جنة الخلد ليكون فيها من الخالدين، وهو قائل للملائكة:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} ؟ يعني نظير ما قيل: {وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} [سورة هود: 71]، ثم يرى في المنام أنه يذبحه، على قول من يقول أن الذبيح إسحاق، كيف يوعد إبراهيم بإسحاق ومن ورائه يعني من بعده يعقوب، ثم يرى في المنام أنه يذبحه؟ يتصور هذا وإلا ما يتصور؟ يعني التنظير في هذه المسألة لو كان الذبيح إسحاق لكان التنظير مطابقاً، يعني لو قيل مثلاً: أنه جاء في الرؤيا من يقول: إن فلان يعيش مدة عشرين سنة، يعيش مدة عشرين سنة، وجاءت رؤيا أخرى تدل على أنه يولد لهذا الشخص ولم يتزوج قبل العشرين لقلنا: إن هذه الرؤيا إحداهما باطلة؛ لأنها تكذب الأخرى؛ لأنها تكذب الأخرى.
إشكالهم كيف يجوز أن يكون الله أسكن آدم جنة الخلد ليكون فيها من الخالدين، وهو قائل لملائكته:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة: 30]؟ يعني لما بُشر إبراهيم عليه السلام بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب ثم قيل له: اقتل ولدك، اذبح ولدك إسحاق، يعني هل هذا يؤثر في نفسه، وتترتب عليه الحكمة والمصلحة التي اختبر فيها إبراهيم وولده، وقد ضُمن له أن يولد لهذا الولد؟ ما يتصور هذا، يكون هذا الكلام لمجرد يعني ما يترتب عليه آثار، واختباره وابتلاءه بذبح ولده من أعظم المحن التي تمر على البشر، وإذا ضمن له أن هذا الولد سوف يولد له، والأمر بالذبح قبل الولادة، ارتاح ما في ذبح، فكيف يقال: إن الذبيح إسحاق؟ ولو قيل، لو، عند من يقول أن الذبيح إسحاق، قالوا: هذا الكلام، كلام منذر ابن سعيد صحيح.
ولا يمنع أن يكون أن يضمن له الخلد المشروط، المشروط بألا يعصي، مضمون الخلد بأن لا يعصي، فلما حصل له ما حصل، وكل إنسان لا يدري ما مصيره، لا يدري ما مصيره؛ لكن ركب فيه حرية الاختيار، خلق للجنة أهلاً، وخلق للنار أهلاً، لكن يقول قائل: لماذا أعمل وأنا ما أدري أنا من أهل النار، أنا من أهل الجنة؟ يقول:((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) فأنت طائع مختار، لكن الحرية والاختيار، لكن ليست مستقلة، هي تابعة لاختيار الله -جل وعلا- ومشيئته، وإرادته، خلافاً لما يقوله القدرية النفاة وفي مقابلهم الجبرية، وكيف أخبر الملائكة أنه يريد أن يجعل في الأرض خليفة، ثم يسكنه دار الخلود ودار الخلود لا يدخلها إلا من يخلد فيها كما سميت بدار الخلود، فقد سماها الله بالأسماء التي ذكرنا لها السبعة، تسمية مطلقة لا خصوص فيها فإذا قيل للجنة دار الخلد لم يجز أن ينقص مسمى هذا الاسم بحال فهذا بعض ما احتج به القائلون بهذا المذهب وعلى هذا فإسكان آدم وذريته في هذه الجنة لا ينافي كونهم في دار الابتلاء والامتحان، وحينئذ كانت تلك الوجوه والفوائد التي ذكرتموها ممكنة الحصول، يعني الفوائد التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله تعالى- من الحكم العظيمة، والمصالح الكبيرة التي ترتبت على معصية آدم، وعلى أخراجه من الجنة؛ لأن آدم عليه السلام، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سورة طه: 121]، ولا يمكن أن يحتج بالقدر على المعصية، هو احتج بالقدر لما حاجه موسى، وجاء في الحديث الصحيح:((فحج آدم موسى)) لكن هل احتج بالقدر على المعصية، لما تاب منها والتوبة تهدم ما كان قبلها، والتائب توبة نصوحاً تبدل سيئاته حسنات، انمحى أثر السيئة والمعصية، بقي المصيبة التي ترتبت على هذه المعصية.
لو أن إنساناً تساهل في صلاة من الصلوات وفوتها عن وقتها من غير عذر، أثم وعصى وأتى أمراً من عظائم الأمور ثم صارت هذه المعصية سبباً لحادث سيارة مثلاً خسر فيه مبالغ طائلة، تاب من هذه المعصية وأناب إلى الله -جل وعلا- وعزم ألا يعود، ثم قيل له: لماذا حصل هذا الحادث؟ بعض الناس، لا سيما بعض الآباء، يقول للولد: أنت ما تشوف اللي قدامك؟ لماذا حصل هذا الحادث؟ لما كانت المعصية قائمة، لا يجوز أن يقول إن الله -جل وعلا- قدر علي هذه المعصية، جعلني لا أنهض إلى الصلاة حتى خرج وقتها، فالاحتجاج بالقدر على المعاصي هو حجة المشركين، {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [سورة الأنعام: 148]، لكن المصيبة إذا تاب من المعصية، يعني إذا كانت المعصية قائمة، قلنا:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [سورة الشورى: 30]، احمد ربك اللي ما مت في هذا الحادث، لكن إذا تاب من هذه المعصية استدل واحتج بالقدر هذا أمر كتبه الله عليّ، وقدره عليَّ، هذا حاله، فيبقى المعاصي لا يجوز الاحتجاج بالقدر عليها، وأما بالنسبة للمصائب فإنه يحتج بالقدر عليها كما حصل في قصة آدم، آدم احتج بالقدر، لكن هل احتجاجه بالقدر على أنه أكل من الشجرة وعصى آدم ربه فغوى لا، آدم تاب من هذه المعصية، والتوبة تهدم ما كان قبلها، وتجب ما كان قبلها، وبقي أثر هذه المعصية التي هي المصيبة، فيحتج بالقدر على وقوع هذه المصيبة.
يقول ابن القيم رحمه الله: فالجواب أن يقال: هذا فيه قولان للناس ونحن نذكر القولين واحتجاج الفريقين ونبين ثبوت الوجوه التي ذكرناها وأمثالها على كلا القولين ونذكر أولاً قول من قال: إنها جنة الخلد التي وعدها الله المتقين وما احتجوا به وما نقضوا به حجج من قال إنها غيرها ثم نتبعها مقالة الآخرين وما احتجوا به وما أجابوا به عن حجج منازعيهم من غير انتصاب لنصرة أحد القولين".
ابن القيم ساق الأدلة الأقوال بأدلتها، وأفاض في ذلك وما رجح، لماذا؟ لأنه لا يريد تقرير هذه المسألة في هذا الموضع، وإنما يقرر الآثار التي رتبت على إهباط آدم والحكم والمصالح العظيمة التي رتبت على إهباطه من الجنة.
"من غير انتصاب لنصرة أحد القولين وإبطال الآخر إذ ليس غرضنا ذلك وإنما الغرض ذكر بعض الحكم والمصالح المقتضية لإخراج آدم من الجنة، وإسكانه في الأرض في دار الابتلاء والامتحان" وبسط القول، وبسط القول في ذلك في حدود عشر ورقات، حدود عشر ورقات من الطبعات القديمة، غير المحققة، يعني لو حققت لجاءت في مجلد لطيف، هذه العشر ورقات، وذكر المسألة مبسوطة في حادي الأرواح في الجزء الأول من الطبعة المحققة في خمس وأربعين صفحة، في خمس وأربعين صفحة، هذا يرجع إليه.
إذا عرفنا هذا وأن قول عامة أهل السنة أن الجنة التي أسكنها آدم هي دار الخلد، وهي التي أهبط منها، بسبب معصيته، فيترتب على هذا مع ما تظافر بذلك من النصوص، نصوص الكتاب والسنة أن الجنة وهي المسألة الثانية، المسألة موجودة الآن، مخلوقة من أول الأمر.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في حادي الأرواح:
الباب الأول: في بيان وجود الجنة الآن؛ لأن الخلاف مع الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة من قولهم: أن خلق الجنة قبل مصير أهلها إليها ضرب من العبث، يعني تجلس الجنة آلاف السنين، ونعيمها موجود، رآه النبي، رأى شيئاً منه عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء، يقولون: قبل الاحتياج إليها هذا ضرب من العبث، ولو أن شخصاً بنا قصرا ًمنيفاً وشيده وخسر عليه الأموال الطائلة في بلد ما؛ لأنه ينوي الانتقال إلى هذا البلد بعد التقاعد مثلاً، وهو الآن عين، يعني بعد أربعين سنة إذا تقاعد يبي ينتقل إلى هذا القصر، لعد هذا ضرب من إيش؟ من العبث، بل حكم عليه بالجنون، هذه حجة المعتزلة، والله -جل وعلا- لا يسأل عما يفعل، له الحكمة البالغة، وله المشيئة النافذة.
يقول: "الباب الأول في بيان وجود الجنة الآن: لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم، وأهل السنة، والحديث قاطبة، يعني جميعاً، ولا واحد منهم خالف في ذلك، وفقهاء الإسلام يقول: وأهل التصوف والزهد على اعتقاد، على اعتقاد ذلك وإثباته مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، من أولهم إلى آخرهم، فإنهم دعوا الأمم إليها، فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها إلى أن نبغت نابغة من القدرية والمعتزلة فأنكرت أن تكون الآن مخلوقة، وقالت: بل الله ينشئها يوم المعاد، بل الله ينشئها يوم المعاد، وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد، أصلهم الفاسد، وللمعتزلة عندهم من أصولهم: أن الله -جل وعلا- يجب عليه رعاية الأصلح، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، يجب عليه رعاية الأصلح، قال: وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله وانه ينبغي له أن يفعل كذا ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعاله فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم فصاروا مع ذلك معطلة في الصفات، يعني مشبهة في الأفعال، معطلة في الصفات، يعني الذي جاءت به النصوص، نصوص الكتاب والسنة نفوه، والذي لم يرد به دليل من الكتاب والسنة، بل دل الدليل على نفيه أثبتوه، ونظير هذا ما يقع فيه ابن حزم أحياناً، بل مطرد عنده مسألة نفي القياس في الفروع، مع أنه في الأصول استعمله أحياناً في مقدمة المحلى.
فصاروا مع ذلك معطلة في الصفات، وقالوا: خلْقُ الجنة قبل الجزاء عبث فإنها تصير معطلة مدداً متطاولة ليس فيها سكانها، وقالوا: ومن المعلوم أن ملكاً لو أتخذ داراً واعد فيها ألوان الأطعمة والآلات والمصالح وعطلها من الناس ولم يمكنهم من دخولها قروناً متطاولة، لم يكن ما فعله واقعاً على وجه الحكمة، ووجد العقلاء سبيلاً إلى الاعتراض عليه، يعني هم شبهوا الخالق -جل وعلا- بخلقه، وجعلوا ما يليق بالمخلوق هو اللائق بالخالق، وهذا نسأل الله السلامة والعافية من ضلالهم، وبعدهم، وحيدهم عن النصوص، واستعمالهم واسترسالهم في تحكيم العقول على النصوص، وتقديمهم الآراء على ما جاء عن الله وعن رسوله، في أمور لا يمكن للعقل البشري أن يصل إليها، فحجروا على الرب تعالى بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وشبهوا أفعاله بأفعالهم وردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة، وردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي شرعوها هم، وردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب، أو حرفوها عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالفهم فيها والتزموا فيها لوازم أضحكوا عليهم فيها العقلاء".
لا شك أن من استرسل وراء الأوهام أنه لا بد أن يأتي بشيء مضحك، يعني لو قيل لشخص جالس في هذا المسجد: ما الذي وراء هذا الحائط؟ هل يستطيع أن يدرك؟ يعني في أمور مطردة يمكن يقول: هذه مواقف سيارات؛ لأن فيها سيارات، هذا الغالب، وقد يصيب في هذا، لكن في أمور لا يمكن، ليس لها نظير تقاس عليه، ليس لها نظير يمكن أن تقاس عليه، معروف أن الجهات المحيطة بالمسجد أنها إما مواقف وإلا شوارع يمكن يصيب في مثل هذا الأمر، لكن هناك أمور لا يمكن أن تدرك؛ لأنها لا يوجد ما يقاس عليها، لا تدركها الأفهام، ولا تبلغها الأوهام، لو قيل لشخص: ما الذي تحت الأرض مثلاً؟ ما يدري، ما الذي وراء الحائط؟ ما يدري، ما الذي فوق السطح؟ ما يدري، وهذه في أمور قريبة ومطردة ويمكن الوصول إليها بسهولة، ولها نظائر يمكن أن تقاس عليها، كيف يتكلم الإنسان في أمور لا يمكن إدراكها؛ لأنها لم تر، ولم تحس، إنما جاءت بها النصوص السمعية، فيجب الوقوف على هذه النصوص السمعية ولا تُتعدى، وليس هذا من باب التفويض الذي يقول به بعض المبتدعة؛ لأن أهل السنة يُمرون آيات الصفات كما جاءت، ويعتقدون أن لها معان لائقة بالرب -جل وعلا-، لكن المفوضة يقولون: ليس لها معان، فنحن ندرك ما مُكّنا من إدراكه، ولا ندرك ما حجبنا عن إدراكه، يعني بعض الناس قد يلتبس عليه أمر التسليم، تسليم السلف والأئمة لما جاء عن الله ورسوله فيما يتعلق بالله -جل وعلا-، ويلتبس عليه ما يراه أهل التفويض، ومع الأسف أنه كتب بعضهم، بعض طلاب العلم أن مذهب أهل السلف، مذهب السلف التفويض، وجاء بأقوالهم التي تدل على أن آيات الصفات تمر كما جاءت، ولا يتعرض لها، يقول: ما الفرق بين هذا وهذا والتفويض؟ نقول: يا أخي فرق بين أن تسمع كلمة زيد رجل في المغرب مثلاً، تسمع عن شيخ من المشايخ أن اسمه زيد، وبين عكس كلمة زيد، ديز مثلاً فالمفوضة يرون الصفات مثل زيد، لا معنى لها البتة، والذي يثبت الصفات على ما جاء عن الله وعن رسوله من غير مشابهة لمخلوق، لكن هذا من باب التنظير يعرف أن زيد العالم الفلاني في المشرق أو في المغرب أنه مثل الناس، تحس أن، أو له صفات، له عينان، وله سمع، وله بصر، وله يدان، وله رجلان، إلى
آخره، إلى غير ذلك، لكن أنت ما تدرك هذه الكيفيات، بالنسبة لزيد الذي لم تره، ولم يوصف لك، ولا قيل إنه مثل فلان، أنت ما تدرك هذه الصفات، لكن تعرف معاني هذه الصفات، ففرق بين أن تعرف المعنى، وبين أن تجهل الكيفية، وبين أن تقول: هذا اللفظ لا معنى له البتة.
لماذا أقول مثل هذا الكلام وأستطرد فيه؟ لأنه جيء لنا من بعض المواقع، ومن بعض ما ينشر في الإنترنت وغيره مثل هذا الكلام، وأن مذهب السلف هو التفويض، يا أخي السلف يعرفون المعنى، الاستواء معلوم، لكن ما الذي يجهلون؟ يجهلون الكيفية، الاستواء له معنى في لغة العرب، وله معنى في النصوص، لكن الكيفية يجهلونها، أنت إذا سمعت أن زيد فلان ابن فلان من علماء مصر، من علماء الشام، ما رأيته، ولا قيل لك إنه مثل فلان، تراه شبيه بفلان، تعرف أن له عيون مثل الناس، وله يدان مثل الناس، وله أرجل مثل الناس، وطوله له قامة، وله كذا، لكن أنت ما تدرك هل عيناه صغيرتان أو كبيرتان، أو يداه طويلتان، أو لونه أسود، أو أبيض، ما تدري؛ لأنك ما رأيته، ولا رأيت من يشبهه، فأنت تعرف هذه المعاني، لكن كيفيات هذه المعاني لا تدركها، بخلاف عكس زيد، إذا قيل: ديز، ديز إيش معناها؟ ما لها معنى، ليس لها معنى، وهذا نظير قول المفوضة، وهذا كلام ما له معنى، يمر كما جاء ما له معنى.
فحجروا على الرب تبارك وتعالى بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة، وشبهوا أفعاله بأفعالهم، وردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب -جل وعلا-، أو حرفوها عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالفهم فيها، والتزموا فيها لوازم أضحكوا عليهم فيها العقلاء".
يعني حينما يقول بعض المبتدعة ممن يعطل الأسباب ويقول: إن الأسباب وجودها مثل عدمها، قال بعض الأشعرية: أنه يجوز للأعمى وهو في الصين أن يرى بقة الأندلس، يعني هذا مثال يمكن يضحك المجانين، فضلاً عن كونه يضحك العقلاء، يعني أعمى، رجل أعمى لا يرى يديه أعمى بالصين في أقصى المشرق يمكن أن يرى البق، الحب، الواحدة من البق، البقة صغار البعوض وهو في الأندلس، كيف؟ الذين قالوا هذا الكلام ترى ليسوا يعني أناس عادين، يعني أعطوا من الذكاء شيء لا يخفى على البال، عباقرة، لكن الذكاء وحده لا يكفي، بل لا بد من الزكاء، كما قال شيخ الإسلام في الحموية:"أعطوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً "، لكن لو جعلوا القرآن والسنة قائدهم انتهت هذه المشكلة، لكنهم استرسلوا في أمور لا يمكن الوصول إليها بمجرد العقل، بمجرد الذكاء، فتاهوا وضلوا، وأصيبوا بالحيرة، حتى رجع بعضهم في آخر عمره إلى أن يتمنى أن لو كان على عقيدة العجائز، وهنا يقول: أضحكوا العقلاء، أقول: أضحكوا المجانين أحياناً، لو تقول لمجنون شوف هذا الأعمى ذا ترى يشوف اللي وين؟ اللي بمكة، كان يضحك عليك، وهو مجنون، ولهذا يذكر السلف في عقائدهم أن الجنة والنار مخلوقتان ويذكر من صنف في المقالات أن هذه المقال، مقالة أهل السنة والحديث قاطبة لا يختلفون في هذا، ثم نقل كلاماً طويلاً لأبي الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين عرض فيها لكثير من مسائل الاعتقاد وفيه قال:"ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان".
ثم قال ابن القيم: "وقد دل على ذلك من القرآن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [سورة النجم: 13 - 15]، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء، ورأى بيقظة، فليس بمنام، فلا يقال هذه والله رؤيا، يقظة رآها، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها الجنة كما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الإسراء وفي آخره:((ثم أنطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدرى ما هي قال: ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)) وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أن أحدكم إذا مات عرض على مقعده، وفي رواية عليه مقعده بالغداة والعشي أن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وأن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)).
وفي الصحيحين في صلاة الخسوف قال صلى الله عليه وسلم: ((أني رأيت الجنة وتناولت منها عنقوداً ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)) الحديث.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أنا أسير في الجنة وإذا بنهر في الجنة حافتاه قباب الدر المجوف قال: قلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر))، ودخل النبي عليه الصلاة والسلام مرة ورأى فيها قصراً لعمر بن الخطاب، وأخرى سمع خشخشة بلال بين يديه، إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره.
يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي في عقيدته الشهيرة: "والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له".
يقول الشارح، شارح الطحاوية، وجل كلامه منقول عن ابن القيم وكثير منه عن شيخ الإسلام ابن تيمية، لكنه لا يعزو، لكنه لا يعزو، لا لشيخ الإسلام، ولا لابن القيم، وكثير من مباحث الكتاب مأخوذ بحروفه بالصفحة والصفحتان من كلام شيخ الإسلام، أو من كلام ابن القيم، وفعل ذلك ترويجاً لكتابه؛ لأنه على معتقد أهل السنة والجماعة وإذا عزا لشيخ الإسلام أو لابن القيم وهو حنفي المذهب ما راج كتابه عند قومه، وفي عصره، وفي مصره وبلده؛ لأنهم على مذاهب تخالف ما قرره شيخ الإسلام من عقيدة أهل السنة والجماعة، فترويج الكتب أحياناً يكون بالحذف كما هنا، يعني لو قال: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال ابن القيم، وهو في بلد يخالفون شيخ الإسلام في المعتقد، ما قبلوا منه، كما أنه قد يروج الكتاب بذكر ما لا يرتضى من المذاهب التي لا يعتد بها في الاتفاق ولا في الخلاف، فمثلاً تجد في كتب الشوكاني والصنعاني ترويج لكتبهم بذكر أقوال الزيدية والهادوية وغيرها من طوائف الشيعة، يروجونها؛ لأنهم في بلد في وقتهم أكثر أهله من الهادوية، فيروجون الكتب، لو ترك مذهب الهادوية مثلاً ما ذكره يمكن ما يروج الكتاب، ومثل هذا قد يتجاوز فيه، المقصود أن الشخص لا يذكر باطل، ولا يرجح خلاف الدليل، قد يتجاوز في مثل هذا، لكن هل يمكن أن يروج كتاب ببدعة كبرى مكفرة، كما فعل الفيروز آبادي صاحب القاموس بشرح البخاري؟ شرح البخاري بشرح مطول جداً يعني لو قدر تمامه لكان في أكثر من خمسين مجلد، وفرغ من عشرين مجلدة كبار، لكنه روج كتابه بنقل مقالات ابن عربي، من القول بوحدة الوجود، وأودع فيه كثير مما في "الفصوص" و"الفتوحات"، وغيرهما من مؤلفاتهم، يعني ينقل ويترك؛ لأن مقالة ابن عربي راجت في بلده في وقت من الأوقات، هل نروج للكتب بمثل هذا؟ ما الفائدة من التأليف؟ الفائدة لينتفع الإنسان في دنياه وأخراه، وهل ينتفع الإنسان في دنياه وأخراه بمثل هذا الكلام الباطل الكفري نسأل الله السلامة والعافية؟ لا يمكن، والحافظ الذهبي رحمه الله يقول في الميزان:"والله إن العيش خلف أذناب البقر، -يعني فلاح مزارع- خير من علم مثل علم ابن عربي" عامي لا يقرأ ولا يكتب أفضل من ملئ الأرض من