الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفهوم الباقلاني للإعجاز القرآني
وهب الباقلاني حياته وعلمه للدفاع عن عقيدة السلف، والرد على المخالفين والملحدين من الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهم. وتعدّ آراء الباقلاني في كتابه (عجاز القرآن) الترجمة العلمية لما جال في خاطره، ولما اعتمل في ذهنه من أمور، حيث وجد أن أنسب ما يمكن أن يقال، هو التأليف حول إعجاز القرآن، وما يربط بهذا الإعجاز من مفاهيم ومضامين، فجاء كتابه من أفضل الكتب العلمية التي تناولت هذا الموضوع.. معبراً عن آراء السلف من علماء القرن الرابع.
لقد اعتبر الرجل تأليفه لهذا الكتاب واجباً دينيا في المرتبة الأولى.. إلى جانب كونه واجبا علميا، لذلك لم يدخر وسعاً، وهو بصدد تحليلاته..من أن يعمق البحث، ويكثر من المناقشة، ويتطرق إلى الكثير من المسائل التي تهمه وتهم الناس، وفي الوقت نفسه ترد على مظان الظانين، وتبطل أقوال الطاعنين.
حدد الباقلاني في فاتحة كتابه.. منهجه في البحث، وغايته منه، بأنه يرمي من وراء ذلك إلى عدة أمور..
- كشف ما كان لأصل الدين قواما.. ولقاعدة التوحيد عماداً ونظاماً.
- وإثبات أن ما جاء به النبي صدقا وبرهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، للرد على ما طعن فيه الطاعنون والملحدون حول أصول الدين.
- ثم نفي كل ما تقوّله المتقولون عن معادلة القرآن وموازنته بالشعر.. اعتمادا على ما توارثوه من أقوال ملحدة قريش وغيرهم.
فإذا ما انتهى من تحديد منهجه وعناصر بحثه، انتقل إلى تفصيل دقائقها حتى يمكنه إحكام القول في هذا الشأن. لذلك قسّم الباقلاني بحثه في إعجاز القرآن.. إلى أربع مراحل أساسية، كل مرحلة توصل إلى ما بعدها وترتبط بها، حتى يتسم عمله بطابع الوضوح، والتكامل الموضوعي والعلمي في آن واحد.
1-
مرحلة التمهيد.
2-
مرحلة التفنيد.
3-
مرحلة التحديد.
4-
مرحلة التأييد.
في المرحلة الأولى: جعل هدفه تنشيط الهمم وتحفيزها على تدارك كتاب الله ثم الدفاع عنه وردّ كل ما أذيع
حوله من أباطيل وأكاذيب، ثم التعريض بما ألف حول إعجاز القرآن، وخالف ما عليه أهل السلف عامة.
لقد رأيناه يصدِّر كتابه بمقدمة تمهيدية، يحث فيها المسلمين على تدارك كتاب ربهم، وفهم مضمونه ومشموله للوقوف في وجه الملحدين والمضللين (الذين خاضوا في أصول الدين) وشكّكوا ضعاف الإيمان واليقين. واتخذ سبيلا لذلك إبراز أهمية القرآن الكريم من حيث هو كتاب الله، ومن حيث هو حجة النبوة، ودليل على صدق الدعوة، وصدق النبوة.
وبدأ هذا الأمر بتحفيز أهل الدين على النهوض بواجبهم المقدس نحو الله والناس.. قال: "ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواماً، ولقاعدة توحيدهم عماداً ونظاماً، وعلى صدق نبيهم –صلى الله عليه وسلم برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، ولا سيما أن الجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهله في جفوة الزمن البهيم، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشتيم، حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه، والأخذ في سبله، فإن الناس بين رجلين: ذاهب عن الحق ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود في صنعته، فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين"1.
ويتناول الباقلاني بعد ذلك ما أذاعه الملحدون والمغرضون حول القرآن من أباطيل وافتراءات سبق أن وردت على ألسنة مشركي قريش، منذ أن أنزل الله القرآن على قلب نبيّه.. فنراه يسفّه آراء هؤلاء الملحدين، ويصفهم بالجهل.. والبعد عن الرشد ذلك أن مشركي مكة من قريش قد تابوا وأنابوا، فأسلموا ورجعوا عن غيهم، أما هؤلاء الملحدون فهم على جهلهم ونزقهم وتعصبهم الأعمى الذي لا يستند إلى دليل.
والباقلاني - وهو بصدد مواجهة هؤلاء الملحدين والمغرضين- يلقى اللوم على علماء العصر، خاصة مَنْ اشتغل منهم باللغة وعلم الكلام، ولم يلتفت إلى توضيح وجوه الإعجاز القرآني، والكشف عن أسرارها، ويحملهم تبعة من خلط في هذه المسائل،
1 إعجاز القرآن ص29 طبعة محمد علي صبيح سنة 1370?.
متأثرين ببعض مذاهب البراهمة، يقول:"وقد قصّر بعضهم في هذه المسألة - أي مسألة إعجاز القرآن -، حتى أدى ذلك إلى تحوّل قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة، يوجب ألا يستنصر فيها ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا، ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه، ولا مستوفي في وجهه قد أخل بتهذيب طرقه، وأهمل ترتيب بيانه"1.
بيد أنه يلتمس لبعضهم الأعذار، لأن البحث فيها - أي في مسائل الإعجاز ووجوهه- لم يكن يتيسّر إلا لمن كدّ فكره وأعمل عقله.. وأعدّ لهذه الدراسة نفسه..
"وقد يعذر بعضهم في تَفْريط يقع منه، وذهاب عنه، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلاّ بعد التقدم في أمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلك، لطيفة المأخذ.."2
وفي هذه المرحلة التمهيدية، وقبل أن يبدأ في تنفيذ مخططه، وتوضيح المسائل التي ذكرها في مقدمته، يجد الباقلاني بدافع من غيرته على آراء السلف، وإيمانه الراسخ بها، أن يعرض بكتب الفرق الكلامية الأخرى، خاصة المعتزلة، وقد وجد بغيته في كتاب الجاحظ المعتزلي (نظم القرآن) فوصفه بالقصور والسطحية، وعدم الموضوعية، وأنه لم يأت فيه بجديد، بل هو صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا3، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله4 ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى" يقصد الكشف عن وجوه الإعجاز القرآني وسرها.
وواضح.. أن الباقلاني – السلفي - متأثر في هذا القول بعقيدته، وبما قاله أصحابه الأشاعرة. وهنا يقف الباقلاني، ليذكر "جملة من القول جامعة تسقط الشبهات، وتزيل الشكوك التي تعرض للجهال، وتنتهي إلى ما يخطر لهم، ويعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة"5
فتناول مجموعة من القضايا العلمية الهامة التي تتصل بموضوع الإعجاز منها:
1 إعجاز القرآن ص30.
2 الصفحة نفسها.
3 وهو من الكتب المفقودة.
4 يقصد أستاذه النظام الذي قال مقالته الخبيثة في مسألة الإعجاز وأرجعها إلي الصرفة، أي أن الله صرف العرب عن معارضة القران.
5 إعجاز القرآن ص30 وما بعدها.
"ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب، وترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة، وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع، ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام من شعر ورسائل وخطب، وغير ذلك من مجاري الخطاب، وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح وتقصد فيه البلاغة لأن هذه أمور يتعمل لها في الأغلب ولا يتجوز فيها. ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم، والتفاوت فيه أكثر لأن التعمل فيه أقل، إلا من غزارة طبع، أو فطانة تصنع وتكلف.. ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق، ليعرف عظم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه، وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، أو يشتبه ذلك على متأمل"1.
ثم يستطرد الباقلاني كلامه ذاكراً، أنه يعرف تماما أن هذه المسائل لا يستوعبها إلا مَنْ كدَّ فكره، وأعمل عقله، وكان هو أصلا من أهل صناعة العربية، قد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملة من طرق المتكلمين، ونظر في شيء من أصول الدين، وإنما ضمّن الله عز وجل فيه البيان لمثل ما وصفناه، فقال:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} 2 وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3.
إذن، فقد خصّ الباقلاني كتابه بالصفوة المختارة من الباحثين والمتأدبين والعلماء والمثقفين وليس للعامة أو الجهال، وهذا هو محور بحث الرجل، إنه يخاطب فئة معينة من الواعين.
فإذا ما انتهى الباقلاني من هذه المرحلة التمهيدية، وبين هدفه ومبتغاه، انتقل إلى المرحلة التالية.. مرحلة التفنيد.. فقسّم بحثه إلى فصول متوالية، كل فصل يرتبط بما بعده، ويوصل إليه أيضا.. وفي الوقت نفسه يتصل بما قبله. تناول في كل فصل منها ناحية من النواحي التي وعد ببحثها، تمهيداً لإبراز وجوه الإعجاز القرآني.
فافتتح هذه الفصول بفصل تحدث فيه عن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ معجزتها القرآن، فالرسول
1 إعجاز القرآن ص31.
2 سورة فصلت الآية 3.
3 سورة الزخرف الآية 3.
وإن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات جمّة، لا يمكن إنكارها.. إلاّ أنّ معجزة القرآن "كانت معجزة عامة، عمّت الثقلين1، وبقيت بقاء العصرين2، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله وجه دلالته".
ويذكر الباقلاني.. أنه ما خصّص هذا الفصل ولا ألّفه إلاّ للرد على المتكلمين، وتفنيد مزاعمهم.. "لما حكى عن بعضهم أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول، فليس أهل هذا العصر الأول في الدلالة لأنهم خصّوا بالتحدي دون غيرهم".
ويبيِّنُ الباقلاني خطأ هذا الزعم، ويستدل على ذلك بأدلة من القرآن نفسه وبآيات بينات تثبت أن الله سبحانه وتعالى حين ابتعث نبيه، جعل معجزته القرآن، وبنى أمر نبوته عليه.
من ذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 3 فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة..
ويرى الباقلاني أنه ما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة4، إلا وتدلّ على هذه المعجزة، بل إنّ كثيرا من السور إذا تؤمل - فهو من أوله إلى آخره- مبني على لزوم حجة القرآن والتنبيه على وجه معجزته. ويستشهد على ذلك بسورة المؤمن5، ويحلّلها تحليلا دقيقا يبرز فيها أسرار الإعجاز.
ولا يترك الباقلاني إثبات أنّ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مبنية على دلالة معجزة القرآن دون أن يبيِّن ويحدِّد وجه هذه الدلالة.. لذلك أعقب هذا الفصل بفصل في الدلالة على أن القرآن معجزة6 في ذاته. وقد اعتمد الباقلاني في تبيين وجه الدلالة على أصلين اثنين:
1 الإنس والجن.
2 الليل والنهار.
3 سورة إبراهيم الآية الأولى، ومن ذلك أيضا قوله تعالى في الآية 6 من سورة براءة، والآية 195 من سورة الشعراء.
4 مثل: طسم، كهيعص، حم.
5 هي سورة غافر، أما سورة "المؤمنون" فهي {قد أفلح المؤمنون..} وسميت سورة غافر سورة "المؤمن" لقوله تعالى في هذه السورة {وقَالَ رَجُلٌ مؤمن مِنْ آلِ فِرعَون..} الخ.
6 إعجاز القرآن ص41.
أولهما: إثبات أن القرآن - الذي هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف - هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذي تلاه على مَنْ في عصره ثلاثا وعشرين سنة.
ودليل الباقلاني على ذلك.. هو النقل المتواتر، الذي أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمّله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره من لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يحتمل أنه قد خرج من أتي بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره، ويأخذ غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها، وتعدّى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش وغيرهم من ملوك الأرض.
والأصل الثاني.. هو التحدي.. الذي واجه العرب به؛ ذلك أنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الإتيان به طول السنين التي وصفناها فلم يأتوا بذلك.
ويستدل الباقلاني على صحة هذا الأصل بما تضمنه القرآن من آيات التحدي، من مثل قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1، جعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه منه، ودليلا على وحدانيته.
ولقد كانت قضية التحدي مثار اهتمام الباقلاني.. خاصة وهو بصدد الدفاع عن القرآن، فنراه يشبعها تحليلا وتدليلا، إثباتا لصدق النبوة، وتدعيما لوجه الدلالة، وردّا على الملحدين والمتكلمين عامة، والمعتزلة خاصة، الذين أثاروا قضية (الصرفة) .
فإذا ما أثبت الباقلاني معجزة النبوة، وإذا ما أصّل الأصول التي اعتمدها في بيان وجه الدلالة على أن القرآن معجز في ذاته.. انتقل الباقلاني إلى صلب موضوعه وهو تحديد وجوه إعجاز القرآن.. وهنا تبدأ المرحلة الثالثة.. مرحلة التحديد، بعد أن اجتاز مرحلتي التمهيد، والتفنيد.
1 سورة البقرة الآيتان 23، 24،ومن آيات التحدي الآية 28 من سورة يونس والآيتان 33، 34 من سورة الطور.
يقرّر الباقلاني في الفصل الثالث من كتابه (إعجاز القرآن) أن هذا الإعجاز إنما يردّ إلى ثلاثة أوجه:
1-
تضمنه الإخبار عن الغيوب.
2-
وما فيه من القصص الديني وسير الأنبياء مما روتْهُ الكتب السماوية مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب.
3-
ثم بلاغته.
فأما الوجه الأول: فقد استدل عليه بما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1 ففعل ذلك.. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه حتى وقف أصحاب جيوشه عليه
…
وأما الوجه الثاني: فإنه معلوم من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أميّاً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ، وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتي بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعثه.
وأما الوجه الثالث.. فإنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه..
ولما كان الباقلاني من علماء اللغة والأدب والبلاغة، فقد ركّز شرحه على هذا الوجه الأخير، فتحدث عن جمال نظم القرآن حديثا مسهبا.. يتضح منه مفهومه ونظريته في إعجاز القرآن.
إنه لم يرض أن يترك هذا الوجه دون أن يحدّد قسماته ويبيّن معالمه، ويوضّح سماته، وما عناه بالنظم، من هنا وجدناه يحلّل هذا الوجه البلاغي تحليلا دقيقا، ينمّ عن سعة إطلاع ورسوخ في العلم، ودقة في الفهم معاً..
لقد أرجع الباقلاني جمال النظم القرآني إلى مجموعة وجوه تتسم بالدقة والعمق، وتدل على ترابط جزئيات الموضوع في ذهنه.. منها ما يرجع إلى الجملة، ومنها ما يرجع إلى الفصاحة، ومنها ما يرجع إلى النظم، واستوائه
1 سورة التوبة 33.. ومن ذلك الآية 12 من آل عمران.. والآية 7 من سورة الأنفال.
وحسن رصفه، ومنها ما يرجع إلى غزارة المعاني، ومنها ما يرجع إلى تأثير الكلمة في الأسماع..
وواضح من تقسيماته وتفريعاته أنه متأثر في الشطر الأول من نظريته بفكرة الجاحظ، التي ذهب فيها إلى أن مرجع الإعجاز في القرآن إلى نظمه وأسلوبه العجيب المباين لأساليب العرب في الشعر والنثر وما يُطْوى فيه من سجع1.
وأما في الشطر الثاني فقد تأثر الباقلاني بفكرة الرُّمَّاني، التي ذهب فيها إلى أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقة من طبقات البلاغة2.
وعلى الرغم من أن الباقلاني قد اشبع هذه الوجوه العشر البلاغية شرحا وتحليلا وتفسيرا وتمثيلا، وألحق بكل منها ما يؤيد وجهة نظره، واستشهد بالكثير من الشواهد الشعرية والنثرية.. والآيات القرآنية.. إلاّ أنه وجد أنّ هذا الشرح غير كاف، وهذا التعليل غير شاف، فنراه يلحق بهذا الفصل الثالث فصلا رابعا، لا يتناول فيه موضوعا جديداً، بل إنه يعاود شرح ما سبق أن ذكره وبيّنه من وجوه، وواضح أنه قد فاته بعض المسائل لم يستطع أن يدرجها أثناء الشرح فألحقها به. إنه يتناول وجهاً وجهاً من الوجوه الثلاثة التي حددها للإعجاز القرآني ليعاود الكلام عليها ولكن بتركيز شديد وبشواهد جديدة.. ثم يختم هذا الفصل التفسيري المركّز بالكلام عن الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف.. ويجعل من حديثه هذا منطلقا لبدء المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التأييد والإثبات، وتقديم المبرهنات والمؤيدات.
لقد ذكر الباقلاني مجموعة من العناصر التي جعلت من نظم القرآن وجها من وجوه الإعجاز.. منها: "أنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم، ومن ادّعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحّح أنه ليس من قبيل الشعر ولا السجع ولا الكلام الموزن غير المقفى".
وهنا نجده يشير إلى نقطة الانطلاق التي سيبدأ منها الدفاع.. فيقول:
"لأن قوماً من كفار قريش ادّعو أنه شعر، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرا، ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع إلا أنه أفصح ممّا قد اعتادوه من أسجاعهم.. ومنهم من يدّعي أنه
1 البيان والتبين 1/373.
2 انظر رسالته (النكت في إعجاز القرآن) .. وانظر مقالنا في العدد السابق من مجلة الجامعة الإسلامية.
كلام موزون فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب"1
إذن فخطة الباقلاني في المرحلة الثالثة أن ينفي الشعر عن القرآن، ثم ينفي السجع عن القرآن، ثم يذكر الصور البيانية، والعناصر الجمالية التي يمكن أن يقع بها إعجاز القرآن. وهذا ما فعله الباقلاني تدعيما لوجوه الإعجاز وتأييداً لما ذهب إليه من آراء أثناء ردِّه على المزاعم التي قيلت حول القرآن.
وفي الحقيقة لم يكن نفي السجع عن القرآن من بنات أفكاره.. ولكنه ردَّد ما ذكره الرمّاني من أن فواصله تباين السجع مباينة تامة، إذ الفواصل تتبع المعنى، أمّا السجع فيتبعه المعنى، ومن أجل ذلك يتضح فيه التكلّف والثقل2.
بعد أن انتهى الباقلاني من دفاعه عن القرآن، انتقل إلى موضوع آخر وهو: الطريق إلى معرفة الإعجاز.. أو كيفية الوقوف على إعجاز القرآن. وهو كعادته حين يتصدى لموضوع ما يتساءل: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما يتضمنه من البديع؟
وهنا نلاحظ أنه لا يقصد بالبديع المعنى الاصطلاحي المعروف، إنما يقصد ما جاء في القرآن من ألوان الجمال المعنوي التي تشملها علوم البلاغة.
وهو في هذا الفصل يحدّد الأبواب والفصول التي ذكرها أهل الصنعة، ومن صنّف في هذا المعنى - يقصد الإعجاز القرآني - ثم يبيّن ما عجزوا عن فهمه أو الوصول إلى كنهه، ليكون الكلام – على حد تعبيره - "وارداً على أمرٍ مبين، وباب مصور".
ثم يستعرض العناصر البلاغية التي تناولها القوم، وذكروها بوصفها النوافذ التي يمكن من خلالها أن يطلُّوا على آيات الإعجاز القرآني.. فنراه يتحدث كما تحدث البلاغيون السابقون من أمثال ابن المعتز وأبي هلال العسكري عن الاستعارة، والتشبيه، والإرداف، والمماثلة ويذكر المطابقة والجناس، ويذكر ضرباً يسميه (الموازنة) ، وهي مما زاده قدامة بن جعفر3 في كتابه (جواهر الألفاظ) من حسن البلاغة، وقد سمّاها (اعتدال الوزن) .
ويذكر الباقلاني أيضا (المساواة) على أنها ضرب من البديع، مقتديا
1 إعجاز القرآن ص80.
2 انظر رسالة الرمّاني "النكت في إعجاز القرآن" الفواصل، وانظر أيضا مقالنا في العدد السابق من مجلة الجامعة الإسلامية ص34.
3 جواهر الألفاظ ص3 طبعة القاهرة.
بقدامة في هذا الصنيع، وتأثره في حديثه عقب ذلك عن (الإشارة) و (المبالغة) و (الغلو) و (الإيغال) و (التوشيح) و (صحة التقسيم) و (صحة التفسير) و (التقسيم) و (الترصيع) .
ويظل ينقلنا الباقلاني من موضع بلاغي إلى آخر، ومن صورة شعرية فنية إلى أخرى، ملقيا الضوء على ما فيها من أبعاد وظلال فنية، حتى يأتي على كل العناصر البلاغية التي تناولها العلماء، وظنوا أنها السبيل إلى معرفة أسرار الإعجاز القرآني.
بيد أنه في آخر المطاف.. يضع أمام الأذهان سؤالا هاما..
هل لأبواب البديع فائدة في معرفة الإعجاز؟ ويجيب على هذا السؤال إجابة صريحة فيقول: "ليس كذلك عندنا..، لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتصنع لها". ويمضي فيقول:
"إنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادّعوه في الشعر ووضعوه فيه، وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعليم والتدرب به والتصنع له.. أما شَأْوَ نظم القرآن فليس له مثال يُحْتَذى عليه ولا إمام يُقْتَدَى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقاً."
فما السبيل إذن إلى معرفة إعجاز القرآن؟
هذا هو محور الفصل الثامن الذي خصصه الباقلاني لتحديد (كيفية الوقوف على إعجاز القرآن) يقول فيه: إنه لا يقف عليه إلاّ مَنْ عرف معرفة بيِّنة وجوه البلاغة العربية، وتكوَّنت له فيها ملكة يقيس بها الجودة والرداءة في الكلام بحيث يميِّز بين نمط شاعر وشاعر، ونمط كاتب وكاتب، وبحيث يعرف مراتب الكلام في الفصاحة، وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم "ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم ثشبيه عنده هذه الطرق، فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، وقدر كل كلام في نفسه، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم، وإن كان المتكلم يجود في شيء دون شيء عرف ذلك منه، وإن كان يعم إحسانه عرف."1
وبهذا المفهوم نستطيع أن نعرف أن الباقلاني يرد المسألة إلى الذوق وحُسْن تدرّبه على تمييز أصناف الكلام..
1 إعجاز القرآن ص151.
ولقد دفعه هذا الفهم إلى أن يسوق طائفة من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم ورسائله، ومن خطب الصحابة وغيرهم.. ليلمس القارئ فرق ما بين ذلك كله وبين القرآن.
ولا يقف عند حدود النثر.. بل ينطلق إلى آفاق الشعر، فيدرس معلقة امرئ القيس –إمام الشعراء -، ويبين ما فيها من تكلف وحشو، وخلل وتطويل، ولفظ غريب، وكيف تتفاوت أبياتها بين الجودة والرداء، والسلامة والغرابة، والسلامة والانحلال والاسترسال والتوحش والاستكراه.. "مع أنه قد أبدع في طرق الشعر أموراً اتبع فيها"1
بعد ذلك.. يعود بنا ليتحدث عن جمال نظم القرآن وحسن تأليفه ورصفه وكيف أنه وُزّع على كل آياته بقسطاس سواء منها القصص وغير القصص، بينما يتفاوت كلام البلغاء من الشعراء حتى في القصيدة الواحدة. ويتناول قصيدة بديعة للبحتري الذي اشتهر بجمال ديباجته وحلاوة أنغامه وعذوبة ألفاظه، وهي لاميته المشهورة:
أهْلاً بذلكمُ الخيالِ المقبل
…
فَعَلَ الذي نَهْواه أوْ لم يفعلِ
ويشرِّح أبياتها تشريحا، مبيِّنا ما يجري فيها من ثِقل وتطويل وحشو وتكلف وألفاظ وحشية جافية، ومن تناقض وكزازة وتعسف ورداءة صوغ وسبك. ويهاجم الباقلاني كذلك ما يقال من بلاغة الجاحظ مبيِّناً أنه دائما يستعين بغيره، ويفزع إلى ما يوشِّح به كلامه من مثل نادر، وبيت سائر، وحكمة منقولة، وقصة مأثورة.. كل ذلك ليدل الباقلاني على أن بلاغة القرآن لا تسمو إليها أي بلاغة لشاعر أو كاتب وكأنه في كل ذلك يشرح ما ذكره الرمّاني في رسالته - التي تحدثنا عنها في المقال السابق - من أن للكلام ثلاث طبقات: عليا وهي طبقة القرآن، ووسطى ودُنيا، وهما طبقتا البلغاء على اختلاف بلاغتهم، وما ينظمونه أو يخطبون به أو يكتبونه. ونسمعه دائما يردِّدُ أنّ كلام البلغاء يتفاوت، بينما القرآن لا تتفاوت آياته، وإن العبارة لتُجْلَبُ منه إلى كلام البليغ.. فإذا هي تتلألأُ كأنها الدرّة الواسطة في العقد.. ويمضي الباقلاني قائلا: ".. إنّ القرآن ليس معجزاً لأهل العصر الأول الذي نزل فيهم فحسب، بل هو أيضا معجز لأهل كل العصور..
1 إعجاز القرآن ص184.
" هذا هو مفهوم الباقلاني للإعجاز القرآني.. وواضح أنه لم يزد في كتابه عن شرحه - أو قل بعبارة أدق - عن محاولة شرحه لما قاله الجاحظ من جمال النظم القرآني، وما قاله الرَّماني من أنه في المرتبة الرفيعة من البلاغة والبيان، ومضى يردُّ تفسير هذه المرتبة بوجوه البديع التي عدَّها ابن المعتز وقدامة وأبو أحمد العسكري وغيرهم، كما ردّ تفسيرها بوجوه البلاغة التي ذكرها الرماني..
وبالطبع، فهذا لا يقلّل من شأن الباقلاني.. أو يبهرج علمه.. فيكفي أن نعلم أنّ الرجل أوّل من هاجم في قوة نظرية إعجاز القرآن عن طريق تصوير ما فيه من وجوه البديع، وأيضا وجوه البلاغة التي أحصاها الرماني.
ومن هنا تأتي أهمية الباقلاني، إذ أعدّ للبحث عن أسرار في نَظْم القرآن من شأنها حين تَوضح توضيحا دقيقاً أن تقف الناسَ على إعجازه.