المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم - دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني - جـ ٢٦

[أبو إسحق الحويني]

الفصل: ‌التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم

‌التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم

وفي الصحيحين من حديث عمرو بن دينار قال: (سألنا ابن عمر عن رجل طاف في عمرته ولم يسع بين الصفا والمروة، ما يحل له من امرأته؟ فقال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، ثم صلى ركعتين خلف المقام، ثم طاف بالصفا والمروة، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فأعطى الحكم بذكر الآية.

قال عمرو بن دينار: فسألنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فقال:(لا تحل له امرأته حتى يسعى بين الصفا والمروة).

فـ جابر ذكر الحكم مباشرة، أما ابن عمر فذكر الآية لأنها أعم، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما طاف فقط، إنما طاف وسعى، فرأيه يلتقي مع فتوى جابر رضي الله عنهما، لكنه ألمح إلى عموم الآية:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].

وأيضاً في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر مناظرة هرقل مع أبي سفيان في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مما سأله هرقل لـ أبي سفيان عن النبي عليه الصلاة والسلام: - قال: هل قال أحد منكم هذا القول قط قبل ذلك؟ - فقال: لا.

- قال: فهل من آبائه من ملَك أو مِن ملِك؟ - قال: لا.

- فقال هرقل مجيباً: لقد سألتك: هل قال أحد هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قال: فلو كان أحد قاله قبله لقلت: رجل يتأسى بمن قبله.

ثم سألتك: هل من آبائه من ملَك أو مِن ملِك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملِك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.

فاستدل أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في خبره الذي نقله عن الله عز وجل، واستدل على أنه لم يسبقه أحد إلى هذا القول قبله لعلة التأسي، وأن الناس يتأسى بعضهم ببعض.

وسئل سفيان الثوري والإمام أحمد رحمهما الله عن التأسي فقالا: (عليك بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة).

كل هذا يدلنا على أن التأسي خلُق خلَق الله عز وجل الناس عليه، فانظر بمن تتأسى، أبالذي استخرج الله عز وجل من قلبه مضغة الشيطان فليس للشيطان في قلبه حظ؛ وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أم بمن دونه؟! ولقد صدق الشاعر وهو يذكر همم الناس، فقال: تركت وصالكم شرفاً وعزاً لخسة سائر الشركاء فيه ولا ترد الأسود حياض ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه من شرف الأسد وشرف همته: أنه إذا وجد الكلب يشرب من بئر فإنه يعافه، ولا يشرب منه.

همة المرء على قدر همه، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لكن من الذي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يتأسى به إلا رجلان، {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] والصنف الثاني {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

لماذا جعل أكثر الناس هدي النبي صلى الله عليه وسلم خلفهم ظهرياً؟ لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حياً بيننا اليوم، فقابل في الطريق رجلاً يحلق لحيته، أو رجلاً مسبلاً إزاره، أو رجلاً يلبس الذهب فقال له: اعف لحيتك، أو قال له: ارفع إزارك، أو قال له: اطرح عنك هذا الذهب ماذا كان يفعل؟ الذي أعتقده أن كل سامع لهذا الكلام سيقول: لا شك أنه سيعفي لحيته، ولا شك أنه سيرفع إزاره، ولا شك أنه سيخلع الذهب فهذا كلام جميل! لكن هل له واقع؟ إن الذين جعلوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم خلف ظهورهم لا يرجون الله ولا اليوم الآخر، ولو عشت معهم لرأيتهم من أقل الناس ذكراً لله عز وجل، تجلس في مجلس أحدهم ثلاث ساعات أو أربع لا يذكر الله مرة، إنما يذكر الدولار مائة مرة، ويذكر العقار، ويذكر الأرض، وتُذكر الآمال العراض والدنيا، فإذا نبه منبه على أي أمر تنبيهاً شرعياً تكلموا جميعاً في دين الله عز وجل بلا هدْي ولا كتاب منير، أطول الناس ألسنة في الكلام في دين الله أجهلهم بهذه الشريعة وأبعدهم من الذكر، لا يقوي القلب على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ترجو الله واليوم الآخر، كما كان الصحابة يفعلون.

روى أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بسند حسن، عن بريدة رضي الله عنه قال:(دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيتاً فغاص بالناس -امتلأ- فجاء جرير بن عبد الله فلم يجد مكاناً فجلس خارج الدار، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم، فلف ثيابه وقذف بها إليه أن اجلس عليها، فأخذها جرير فوضعها على وجهه وقبلها).

نظرة الحب والتأسي عند هذا الجيل كانت عالية، وكانوا يجعلون رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، وفي سويداء القلب؛ لذلك هان عليهم اتباعه والتأسي به، حتى إنهم كانوا يتبعونه فيما يستطيعونه، وكان الواحد منهم يخرج من بيته يقول: لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم سائر اليوم.

ويجلس يومه كله ينظر إليه وهو يصلي، وينقل حركاته كلها، حتى إنهم لما كانوا يصلون خلفه في صلاة الظهر كانوا يعلمون قراءته باضطراب لحيته! بل وأبعد من ذلك: كانوا يسمعون للقراءة في صدره أزيزاً كأزيز المرجل، أي أن صدره له صوت وهو يقرأ؛ من شدة ما يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعاني التي في كتاب الله عز وجل، ثم ينقلون هذا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء بهم مرة، فجاء ذكر موسى وهارون فسعل سعلة ثم ركع فسجلوها ودونوها أنه سعل عند ذكر موسى وهارون وركع.

فنقلوا لنا كل شيء في حياته صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأنهم كانوا يرجون الله واليوم الآخر، وكانوا أكثر الناس ذكراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 3