الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم التشبيه لصفات الله بصفات الخلق لاستحضار المعنى
بقيت بعض الملاحظات على ما سبق: ففي الحديث الذي ذكرته: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قوله عز وجل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وأشار إلى أذنه، وأشار إلى عينه) أنا رددت بهذا الحديث على قول الزمخشري الذي قال: تقطع يد من فعل ذلك؛ لأنه شبه.
فطبعاً يفهم من كلامي أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما خرج مخرج التشبيه؛ لأنني إنما سقته رداً على الزمخشري الذي يقول: تقطع يده؛ لأنه شبه إذ أشار.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ما شبه الله بخلقه إذ أشار، فماذا قصد بالإشارة؟ هو لا يقصد التشبيه قطعاً؛ لأن الله تعالى قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فماذا قصد بالإشارة عند ذكر السمع والبصر؟ القصد من التشبيه التمثيل واستحضار المعنى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أسلوبه في عظته لأصحابه أنه كان يستحضر المشهد أمام الصحابة، فمثلاً: يمر مع الصحابة على جدي أسك، مقطوع الأذنين ميت، ملقى على قارعة الطريق، فيقف هو وأصحابه أمام الجدي ثم يقول لهم:(أيكم يشتري هذا بدرهم؟) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لا أحد يشتريه، وهو لا يعرض، إنما أراد أن يجسد المعنى تمهيداً للموعظة (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) فالجدي من أنفس أموال العرب فحين يباع بدرهم فإن هذا الذي يبيعه يكون مغبوناً، غبن الرجل الذي عناه الإمام الشافعي رحمه الله في أبياته الرائقة التي قال فيها: لقلع ضرس وضرب حبس ونزع نفس ورد أمس وقر برد وقود فرد ودبغ جلد بغير شمس ونفخ نار وحمل عار وبيع دار بربع فلس ومن الذي يبيع داره بربع فلس؟! كل هذه الأشياء تعد مما يصعب على النفس تحمله.
(لقلع ضرس وضرب حبس): يعني أن يحبس المرء ويوضع في السجن، و (نزع نفس): أي أن تنزع يطلع روحه من جسده، (ورد أمس): أي أن يلزم بإرجاع يوم فائت، (وقر برد): أي الموت من البرد، (وقود فرد): أي أن يحكم عليه بالقتل قصاصاً، (ودبغ جلد بغير شمس)، (وحمل عار): أي أن يصبح مفضوحاً، يحمل عاراً عظيماً، و (بيع دار بربع فلس) كل هذا أهون على الحر كما يقول الشافعي: أهون من وقفة الحر يرجو نوالاً بباب نحس يعني: أن الإنسان الحر يمكن أن يحتمل كل ذلك ولا يرضى أن يقف على باب لئيم يطلبه نوالاً، فمن الذي يبيع داراً بربع فلس؟! ومن الذي يشتري جدياً أسك بدرهم؟! فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل الصحابة يستحضرون هذا المشهد، فقالوا:(يا رسول الله! لو كان حياً ما اشتريناه -لأنه أسك- فكيف وهو ميت؟ قال: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله) فوضعه صلى الله عليه وسلم للصحابة في هذا الموقف تكون الموعظة فيه أشد أثراً، ولذلك قيل: ليس المخبر كالمعاين.