المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قصة الصحابي الجليل أبي لبابة - دروس للشيخ سفر الحوالي - جـ ٨١

[سفر الحوالي]

الفصل: ‌قصة الصحابي الجليل أبي لبابة

‌قصة الصحابي الجليل أبي لبابة

ومثال آخر: مثال أبي لبابة رضي الله عنه، وهذا حال المتقين دائماً، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وهذا ما حدث لـ أبي لبابة رضي الله عنه، فيقول عن نفسه:{لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يرسلني إليهم حين اشتد عليهم الحصار، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس} .

وقد كانوا حلفاء لهم في الجاهلية، وقاتل الله اليهود في كل زمان ومكان، فاليهود هم اليهود، فلا يصدق أن منهم متطرفون ومعتدلون، فكلهم أخباث أنجاس فأرسلوا يريدون أبا لبابة لأنه حليفهم.

{قال: فدخلت عليهم، وقد اشتد عليهم الحصار فهشوا إلي، ورحبوا بي، وقالوا: يا أبا لبابة! نحن مواليك دون الناس كلهم، فقام كعب بن أسد وقال: قد عرفت ما صنعنا في أمرك، وأمر قومك يوم الحدائق ويوم بعاث، وكل حرب كنتم فيها -يذكره بأيام الجاهلية- وعملنا معكم الجمائل والفعائل، وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنا للحقنا بأرض الشام أو خيبر ولم نكثر عليه جمعاً أبداً، فما ترى؟ قال: نعم فانزلوا} .

لأنه صحابي مؤمن لا يمكن أن يشير عليهم بغير ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل يمكن أن يخالف حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أو يطلب منهم غير ما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم! لكن في آخر لحظة أخذته وقعة -وهو الضعف البشري الذي يقع فيه حتى الصحابة الأجلاء- {فقال: انزلوا على حكمه، ثم أومأ بيده هكذا} أي: حكمه فيكم الذبح.

وهنا علم أنه قد وقع في الذنب، وبدأ يؤنب نفسه على ما فعله مع أنه لم يره أحد من الصحابة، ورسول الله لا يعلم الغيب، فيقول رضي الله عنه:{فندمت واسترجعت، فقال كعب: مالك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنتُ الله ورسوله، فنزلت وإن لحيتي لمبتلة بالدموع من لحظتها، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقاً آخر} فما استطاع أن يواجه النبي صلى الله عليه وسلم.

{ثم عاد حتى أتى المسجد فأخذ رباطاً من الشعر القوي وربط ذراعيه ونفسه في سارية من سواري المسجد وأحكمه قال: وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهابي وما صنعت، فقال: دعوه حتى يُحدث الله فيه ما يشاء} ؛ لأنه هو الذي ربط نفسه، أي: لو كان جاءني لاستغفرت له، فأما إذ لم يأتني وذهب، فدعوه فإنه هو الذي جنى على نفسه فأنزل الله في شأنه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]، وهذه قيلت فيمن هو أعظم جرماً وذنباً من أبي لبابة وهم المنافقون الذين أعرضوا عن حكم الله.

قال الزهري: وارتبط أبو لبابة سبعاً في حر شديد لا يأكل ولا يشرب، وقال: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله عليّ.

فلم يزل كذلك حتى لا يكاد يسمع صوتاً من الجهد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه بكرة وعشياً، ثم تاب الله عليه، فنودي: إن الله قد تاب عليه، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ليطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه عنه أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الزهري: وحدثتني هند بنت الحارث عن أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: [[رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رباطه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرفع صوته يكلمه ويخبره بتوبته، وما يدري كثيراً مما يقول له من الجهد والضعف وقد كان الرباط حز في ذراعه، وكان من شعر، وكان يداويه بعد ذلك دهراً لتلوثه]].

فهذا الذنب والخطأ اقترن به من الخوف والحياء والمهابة والتعظيم، ما جعل صاحبه يفعل ذلك الفعل، فكانت التوبة من الله تبارك وتعالى عليه، وكان ذلك خيراً له فيما نرجو له عند الله سبحانه وتعالى، مما لو لم يفعل شيئاً من ذلك، والله تعالى أعلم.

ص: 11