المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم جامعة الملك عبد العزيز كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم - أثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة

[إبراهيم بن حسن الحضريتي]

فهرس الكتاب

المملكة العربية السعودية

وزارة التعليم

جامعة الملك عبد العزيز

كلية الآداب والعلوم الإنسانية

قسم الشريعة والدراسات الإسلامية

أثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة

بحث مقدم لاستكمال متطلبات درجة الدكتوراه في الشريعة والدراسات الإسلامية

تخصص عقيدة ودعوة

إعداد الطالب:

إبراهيم بن حسن الحضريتي

إشراف الدكتور:

موفق بن عبد الله بن علي كدسة

أستاذ العقيدة المشارك بقسم الدراسات الإسلامية والشريعة

العام الجامعي: 1441/ 2020 م

ص: 1

‌مستخلص الرسالة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

أما بعد، فهذه الدراسة بعنوان (أثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة)، من إعداد الطالب: ابراهيم بن حسن الحضريتي، وهي دراسة مقدمة لجامعة الملك عبد العزيز قسم الشريعة والدراسات الإسلامية تخصص عقيدة ودعوة لإكمال متطلبات درجة الدكتوراه، وهي دراسة مهمة لأنها تتكلم عن قضية مهمة تتعلق بأثر عمل القلب على الداعية في نفسه وعلى دعوته، والدراسة تشتمل على مقدمة وتمهيد وأربعة أبواب، ذكرت في المقدمة مشكلة البحث، وأهدافه، وأهميته، والدراسات السابقة، وذكرت في الباب الأول: أعمال القلوب ومكانتها، وإثبات أثرها وتأثرها من خلال نصوص الكتاب والسنة، ونبذة موجزة عن عقيدة السلف في عمل القلب والمخالفين لهم، وفيه ثلاثة فصول، وذكرت في الباب الثاني: نماذج من أعمال القلوب المؤثرة على الداعية ودعوته، مع ذكر أمثلة تطبيقية من حياة دعاة السلف يظهر فيها أثر عمل القلب عليهم في حياتهم ودعوتهم، وفيه فصلان، وذكرت في الباب الثالث: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه، وفي دعوته، وفيه فصلان، في الفصل الأول: ذكرت أثني عشر مبحثاً تبين آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه، وفي الفصل الثاني: ذكرت أحد عشر مبحثاً تبين آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في دعوته، وذكرت في الباب الرابع: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على نفسه وعلى دعوته، وفيه فصلان، الفصل الأول: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على نفسه، وفيه خمسة عشر مبحثاً، والفصل الثاني: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على دعوته، وفيه خمسة مباحث، ثم ختمت البحث بأهم النتائج والتوصيات، ومن أهم النتائج التي ظهرت للباحث أن نجاح الداعية في دعوته أو فشله في ذلك يرجع لأسباب على رأسها اهتمام الداعية بصلاح قلبه وسلامته، أو حصول المرض في القلب وفساده، وذكرت توصيات عملية في هذا المجال، والله الموفق والمعين.

ص: 2

‌إهداء

محمل بالجميل والثناء العاطر إلى والدي الكريمين فقد كان لهما بعد الله أعظم الأثر وأبلغه في تشجيعي على طلب العلم فجزاهم الله عني خير الجزاء وأوفاه، ثم أثني بأسرتي الكريمة وجهدها الكبير في مساندتي على تحمل أعباء البحث وصبرهم على ذلك، وأهدي ثناء عاطراً لكل من قدم لي توجيهاً وأرشاداً يخدم البحث من قريب أو بعيد.

وإليك أخي الداعية الموفق الذي يسعى في تعليم الناس الخير ودلالتهم عليه، هذا جهد من أخ ناصح يريد لنفسه ولك الفلاح والفوز في طريق الدعوة طريق الأنبياء.

وإلى لكل قاريْ محب للخير أهدي هذا الجهد المتواضع، وأسأل الله التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل.

ص: 3

‌شكر وتقدير

الحمدُ لله الذي بنعمته تتم الصالحات، هداني لهذا وفتح عليّ ووفقني، فله الحمدُ والفضلُ والمنةُ والثناءُ الحسن.

وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثم الشكر والتقدير لكل من تعاون معي، وأخص منهم الأستاذ الدكتور أحمد ال سرور الغامدي مرشدي والذي أشرف على البحث فترة من الزمن واستفدت منه كثيراً فجزاه الله خيراً، وكذلك الأستاذ الدكتور ياسر الأحمدي الذي شجعني على البحث في هذا الموضوع فجزاه الله خيراً.

والشكر موصول لفضيلة مشرفي الحالي: الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والدعوة، فضيلة الشيخ الدكتور موفق بن عبد الله كدسة الغامدي، فلقد وقف معي مواقفَ عظيمةً لا أستطيع أن أرد جميلَه، ولكني أحيله على الكريم العظيم فجزاه الله عني خير الجزاء وأوفاه، كما أشكر أصحابَ الفضيلة أساتذتي الفضلاء في قسم العقيدة والدعوة لما لمسته منهم من حرص على الطلاب، وتشجيعٍ كبير لهم فجزاهم الله خيراً.

كما أتقدم بوافر الشكر وأتمهِ وأكملهِ لصاحبي الفضيلة أعضاء لجنة المناقشة الموقرة:

فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ: أبو زيد محمد مكي، أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى، وفضيلة الشيخ الدكتور: محمد بن سعيد آل مدشة الغامدي، أستاذ العقيدة بقسم الشريعة والدراسات الإسلامية بالجامعة ورئيس قسم العقيدة والدعوة، أشكرهما على تفضلهما بقبول مناقشتي في هذه الرسالة وعلى ما بذلاه من جهد كبير في مطالعتها من أجل إسداء الملاحظات والتصويبات والتوصيات التي ترقى بهذا البحث إلى المستوى المأمول، فجزاهما الله خيراً، وبارك في علمهما وعملهما.

وأقدم الشكر الوافر لجامعة الملك عبد العزيز بجدة على ما تيسره لطلاب العلم من إمكانات عظيمة.

وأختم هذه الكلمة سائلاً الله أن يتقبل مني هذا العملَ وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.

ص: 4

‌المقدمة

إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضْلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن الاهتمام بأعمال القلوب، وبيان أثرها على الداعية والدعوة، والكتابة فيها من الأهمية بمكان؛ لأن من أعظم أسباب نجاح الدعاة إلى الله تعالى اهتمامَهم بأعمال القلوب وتحقيقَهم لها في أنفسهم، وفي دعوتهم، وما يظهر اليوم من ضعف في أثر الدعوة وتأخرها في ميادين كثيرة من أعظم أسبابه ضعف أعمال القلوب عند الدعاة في أنفسهم، وضعف الاهتمام بها في دعوتهم، ولا ريب أن تتبع هذه الأسباب وبيان آثارها على الداعية ودعوته من الأولويات؛ لأن أمر الدعوة شأنها عظيم، كيف لا وهي رسالة رسل رب العالمين كلهم عليهم الصلاة والسلام! ولهذا

ص: 5

آثرتُ أن يكون موضوع دراستي في مرحلة الدكتوراه يتعلق بأثر أعمال القلوب على الداعية في نفسه وعلى دعوته، وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.

‌مشكلة البحث:

تدور هذه الدراسة في مجملها حول أثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة، وفق الأسئلة الآتية:

س 1 - ما مكانة أعمال القلوب؟

س 2 - ما الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات أثر أعمال القلوب؟

س 3 - ما الأسباب الجالبة لصلاح أعمال القلوب؟

س 4 - اذكر أمثلة من أعمال القلوب لها أثر على الداعية ودعوته.

س 5 - اذكر أمثلة من حياة السلف يظهر عليها أثر عمل القلب في أنفسهم وفي دعوتهم.

س 6 - ما الآثار المترتبة على تحقيق أعمال القلوب على الداعية والدعوة؟

س 7 - ما الآثار السلبية لإهمال أعمال القلوب على الداعية والدعوة؟

‌أهداف البحث:

1.

بيان أهمية أعمال القلوب ومكانتها.

2.

بيان الآثار العظيمة والثمرات المباركة لتحقيق أعمال القلوب على الداعية والدعوة.

3.

بيان الآثار السلبية لإهمال أعمال القلوب على الداعية والدعوة.

4.

بيان الأسباب الجالبة لصلاح أعمال القلوب.

5.

ذكر أمثلة تطبيقية من حياة علماء السلف، تبين أثر عمل القلب عليهم وعلى دعوتهم.

ص: 6

6.

ذكر نماذج من أعمال القلوب لها تأثير في نجاح الداعية في دعوته.

‌أهمية البحث:

وتظهر من خلال الآتي:

1 -

القلوب وأعمالها هي محل نظر الرب سبحانه وتعالى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»

(1)

.

2 -

صلاح الجوارح مرتبط بصلاح القلب، وهذا له أثره الكبير على الداعية والدعوة، قال صلى الله عليه وسلم:«أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»

(2)

.

3 -

إن الاهتمام بأعمال القلوب سبب رئيس من أسباب نجاح الداعية في دعوته.

4 -

إن التقصير في العناية بصلاح أعمال القلوب سبب رئيس من أسباب فشل الداعية في دعوته، أو انحرافه عن المنهج الصحيح.

‌الدراسات السابقة:

لم أعثر -خلال بحثي في المكتبات وعبر الشبكة العنكبوتية- على دراسة علمية اعتنت بأثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة بطريقة تفصيلية، وهناك بحوث ودراسات كثيرة عن أعمال القلوب، ويمكن تقسيمها إلى عدة أقسام، على النحو التالي:

القسم الأول: دراسات في أعمال القلوب، وربطها بالإيمان، وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ذكر الفرق المخالفة والرد عليها، ومن الأمثلة على

(1)

أخرجه مسلم (4/ 1987) ح (2564)، وسيأتي تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم (3/ 1219) ح (1599)، وسيأتي تخريجه.

ص: 7

هذا القسم:

أولًا: أعمال القلوب وأثرها في الإيمان، رسالة دكتوراه.

للباحث: محمد دوكوري بن محمد، إشراف: الدكتور أحمد عطية الغامدي، الجامعة الإسلامية، عام 1417 هـ.

تحدث الباحث عن الأعمال القلبية المحضة، ومما فصل القول فيه الإخلاص والمراقبة، والمحبة والرجاء، والخوف والتقوى .. ثم فصل القول في الأعمال المشتركة بين القلوب وسائر الجوارح من مثل: الصبر والرضا، والشكر والذكر، والحلم والتواضع والحياء.

ثانيًا: أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السنة والجماعة وعند مخالفيهم، رسالة دكتوراه.

للباحث: سهل بن رفاع العتيبي، إشراف: الشيخ الدكتور عبد الرحمن البراك، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام 1423 هـ، وقد طبعت الرسالة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1426 هـ وتقع في (1046) صفحة.

ذكر الباحث فيها أعمال القلوب: حقيقتها، ومنزلتها من الإيمان، وأهميتها، وأقسامها، وأمراضها، وتحدث عن أحكام أعمال القلوب فذكر فيها: عبودية القلب، والتلازم بين أعمال القلوب، وتفاضلها، وأسبابه

وذكر مذاهب المخالفين في أعمال القلوب والرد عليهم، وفصل القول فيها بذكر مذهب المتكلمين والرد عليهم، ومذهب مرجئة الفقهاء والرد عليهم، ومذهب الصوفية والرد عليهم.

ثالثًا: أعمال القلوب عند الإمام ابن القيم جمعًا ودراسة، رسالة ماجستير.

للباحثة: وفاء بنت زيد العزيري، إشراف: الدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي، جامعة الملك سعود، عام 1425 هـ.

تحدثت الباحثة -مستشهدة بكلام ابن القيم في قضايا البحث- عن حقيقة أعمال القلوب، ومنزلتها، وأنواعها، والعلاقة بينها وبين الجوارح، ثم تحدثت عن

ص: 8

تفاضل أعمال القلوب، وأسبابه، ودرجات الناس فيها، ثم ذكرت أحكام عبودية القلب، وقسمتها إلى أعمال واجبة ومستحبة ومباحة، وإلى أعمال محرمة ومكروهة، ثم ذكرت موقف ابن القيم من أبرز المخالفين في هذا الباب، وقسمته إلى موقفه من الصوفية، وموقفه من المرجئة.

رابعًا: أعمال القلوب بين المتكلمين والصوفية وموقف أهل السنة منهم، رسالة دكتوراه.

للباحث: مطر سالم بن حميد العازمي، إشراف: أ. د. محمد السيد الجليند، جامعة القاهرة، عام 2010 م.

طبعت الرسالة في (367) صفحة.

تحدث الباحث في رسالته عن الأعمال القلبية المحضة من مثل: النية والإخلاص والمراقبة، والمحبة والخوف والرجاء، واليقين والتوكل، وذكر الأعمال المشتركة بين القلوب وسائر الجوارح، ومثل لذلك بالصبر والرضا، والشكر والذكر، والزهد والتوبة.

وطريقته في عرض الأعمال: أنه يقرن بين كل عملين أو ثلاثة -كما سبق في الوصف- ثم يعرضها وفق منهج أهل الكلام، وكذلك وفق منهج أهل التصوف، ثم يرد على ذلك، فما وافق الكتاب والسنة أقره، وما خالف بيّن بطلانه، وذلك وفق منهج أهل السنة والجماعة.

خامسًا: أعمال القلوب عند شيخ الإسلام ابن تيمية جمعًا ودراسة، رسالة ماجستير.

للباحث: غزمند مهمتي بن عمر، إشراف: الدكتور محمد بن خليفة التميمي، الجامعة الإسلامية، عام 1432 هـ.

والرسالة في (1034) صفحة، تحدث فيها الباحث عن مفهوم أعمال القلوب، وأنواعها، ومنزلتها من الإيمان عند شيخ الإسلام، وفصّل القول في دراسة مستفيضة للأعمال القلبية، وذكر أمثلة ونماذج على ذلك، وبيّن تفاضل الناس ودرجاتهم فيها، ثم

ص: 9

ختم البحث بالكلام عن المخالفين لأهل السنة والجماعة في أعمال القلوب، والرد عليهم من كلام شيخ الإسلام.

سادسًا: أعمال القلوب عند الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله جمعًا ودراسة، رسالة ماجستير.

للباحث: عبد الله بن عبد الرحمن بن ناجي الرحيلي، إشراف: الدكتور ذياب بن مدحل دخيل العلوي، الجامعة الإسلامية، عام 1434 هـ.

تحدث الباحث -مستشهدًا بكلام السعدي في قضايا البحث- عن حقيقة القلب، وأقسامه، وأمراضه، ثم بين منزلة أعمال القلوب من الإيمان، وتفاضلها، وأسبابه، ودرجات الناس فيها، ثم فصل القول بدراسة لأعمال القلوب، وذكر تسعة عشر عملًا، ومن ذلك: الإخلاص، المحبة، الخوف والخشية، الرجاء والصدق، التوكل، الصبر، الرضا، اليقين

ويظهر للمتأمل في هذا القسم الأول أن هذه الرسائل العلمية تتفق -في الغالب- في ثلاث قضايا:

الأولى: حقيقة أعمال القلوب، وأقسامها، وتفاضل أهلها فيها، وعلاقتها بالإيمان.

الثانية: نماذج لأعمال القلوب.

الثالثة: منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أعمال القلوب، وذكر المخالفين والرد عليهم.

ولا شك أنه -إن شاء الله تعالى- ستتم الإفادة من بعض هذه القضايا المحورية في بحثي؛ ولكن يضيف بحثي إضافة أرى أنها جوهرية، وجديرة بالبحث والتفصيل، وهي ربط هذه القضايا بأثرها على الداعية والدعوة.

القسم الثاني: من اقتصر في دراسته على عمل من أعمال القلوب أو أكثر،

ص: 10

ومن أمثلته:

أولًا: الخوف والرجاء في الكتاب والسنة، رسالة ماجستير.

للباحث: عبد الرحمن سليمان علي الشمسان، إشراف: الدكتور عبد المحسن بن حمد العباد، الجامعة الإسلامية، عام 1411 هـ.

ذكر الباحث الخوف وعرّف به، وذكر أقسامه وأسبابه، ونماذج من الأمور المخوفة. وتكلم عن الرجاء وعرّف به، وذكر درجاته وأسبابه، ثم بيّن الآثار الطيبة لوجود الخوف والرجاء، والآثار السيئة لفقدانهما، ثم عرّج على مسالك الناس في الخوف والرجاء، فذكر منهج أهل السنة والجماعة في ذلك، وقول الخوارج والمرجئة والصوفية.

ثانيًا: الإخلاص حقيقته ونواقضه، رسالة ماجستير.

للباحث: عبد الله بن عيسى الأحمدي، إشراف: أ. د. محمد حسان كسبة، جامعة أم القرى، عام 1424 هـ.

وقد طبعت الرسالة في (630) صفحة.

تكلم الباحث عن الإخلاص حقيقته وثماره، وعن نواقض الإخلاص.

ثالثًا: اليقين في الاعتقاد حقيقته ونواقضه، رسالة ماجستير.

للباحث: عبد الله بن علي بن عبد الله الرشيد، إشراف: أ. د. سعود بن عبد العزيز العريفي، جامعة أم القرى.

وتقع الرسالة في (610) صفحة.

تكلم فيها الباحث عن حقيقة اليقين وأنواعه، وأسبابه وثمراته، ونواقضه ومنقصاته، ومفهوم اليقين عند المخالفين.

وعند التأمل في هذا القسم لم أر أنه تعرض لربط أعمال القلوب بالداعية والدعوة، ولذا أرى أن الحاجة ملحة للكتابة في هذا الموضوع، وربط أعمال

ص: 11

القلوب بالداعية والدعوة؛ وبيان آثار ذلك لحاجة الدعاة الماسة للتفصيل في هذه الآثار.

القسم الثالث: من اقتصر في دراسته على تزكية النفس، وتعرض من خلال دراسته لبعض أعمال القلوب وأثرها على تزكية النفس، ومن الأمثلة على هذا القسم:

- منهج الإسلام في تزكية النفس وأثره في الدعوة إلى الله تعالى، رسالة دكتوراه.

للباحث: أنس أحمد كرزون، إشراف: الدكتور أحمد أبو السعادات، جامعة أم القرى، عام 1415 هـ.

طبعت الرسالة في (928) صفحة في مجلدين.

تكلم الباحث عن النفس الإنسانية من ناحية صفاتها وأحوالها، وعرّج على المناهج المختلفة فيها، ثم ذكر الأسس العقدية لتزكية النفس والجوانب العلمية في ذلك، ثم تحدث عن أمراض النفس ومعوقات تزكيتها وجوانب من الانحراف في المفاهيم المتعلقة بتزكيتها، مع بيان الصواب في ذلك، ثم ختم بذكر ثمرات تزكية النفس في المنهج الإسلامي.

في أصل الرسالة كان عنوان البحث: "منهج الإسلام في تزكية النفس وأثره في الدعوة إلى الله"، وعند طباعته للرسالة حذف عبارة:"وأثره في الدعوة إلى الله"؛ لأنه يرى التقارب بين التزكية والدعوة، وفي نظري أن التزكية من أهم مقاصد الدعوة، ولم أر أنه تعرض لأثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة، وعليه فأرى لزامًا أن تسد هذه الثغرة العظيمة بالكتابة فيها، ولا أراني مبالغًا لو قلت: إنها تحتاج لأكثر من دراسة لأهميتها وتعدد جوانبها.

وقد استفدت من هذه الدراسة في وضع جوانب من هيكلة البحث -فجزى الله الجميع خيرًا- والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 12

والمقصود أن هذه الدراسة تركز على مسألة آثار أعمال القلوب على الداعية والدعوة، ويمكن إجمال الفروق في الأمور التالية:

1 -

جمع ما تفرق في مسألة أعمال القلوب وأثرها على الداعية والدعوة.

2 -

ربط أعمال القلوب بالداعية والدعوة.

3 -

أثر تحقيق أعمال القلوب على الداعية والدعوة.

4 -

الآثار المترتبة على إهمال أعمال القلوب على الداعية والدعوة.

‌منهج البحث:

ستكون الدراسة -إن شاء الله تعالى- قائمة على المنهج الاستقرائي التحليلي، وذلك باستقراء نصوص الكتاب والسنة وأقوال علماء السلف المتعلقة بأعمال القلوب، وتحليلها، وربطها بالداعية والدعوة، وبيان آثارها إيجابًا أو سلبًا.

‌حدود البحث:

سيكون البحث -بعون الله وتوفيقه- في أثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة، وذلك في حدود هيكل البحث المذكور في العنصر التالي.

‌هيكل البحث:

يشتمل البحث على: مقدمة، وتمهيد، وأربعة أبواب، وخاتمة، وذلك على النحو الآتي:

المقدمة: تحتوي على مشكلة البحث، وأهدافه، وأهميته، والدراسات السابقة، ومنهج البحث، وحدوده، وهيكله.

التمهيد ويشمل التعريف بمصطلحات عنوان البحث وما يتعلق به، وفيه ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: التعريف بمصطلحات العنوان.

ص: 13

المسألة الثانية: فضائل الدعوة.

المسألة الثالثة: فضائل الداعية.

الباب الأول: أعمال القلوب مكانتها، تأثرها وأثرها من خلال نصوص الكتاب والسنة، وموقف السلف والمخالفين منها، وأسباب صلاحها، وفيه ثلاثة فصول:

الفصل الأول: أعمال القلوب: مكانتها، تأثرها وأثرها، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: مكانة أعمال القلوب في الكتاب والسنة، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: نصوص القرآن الكريم في بيان مكانة أعمال القلوب، وفيه فرعان:

الفرع الأول: مكانة أعمال القلوب التي يحبها الله.

الفرع الثاني: خطر أعمال القلوب التي يبغضها الله.

المطلب الثاني: نصوص السنة النبوية في بيان مكانة أعمال القلوب.

المبحث الثاني: النصوص من الكتاب والسنة في بيان أثر عمل القلب وتأثره، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: من نصوص القرآن الكريم في إثبات أثر عمل القلب وتأثره.

المطلب الثاني: من نصوص السنة في إثبات أثر عمل القلب.

الفصل الثاني: أعمال القلوب بين السلف والمخالفين لهم، وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: مجمل معتقد أهل السنة والجماعة في أعمال القلوب.

المبحث الثاني: مجمل قول المخالفين لأهل السنة والجماعة في أعمال القلوب.

المبحث الثالث: مجمل الرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة في أعمال القلوب.

الفصل الثالث: أسباب صلاح القلب، وفيه مبحثان:

ص: 14

المبحث الأول: الأسس العقدية لصلاح أعمال القلوب، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: التوحيد.

المطلب الثاني: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل.

المطلب الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر.

المطلب الرابع: الإيمان باليوم الآخر.

المبحث الثاني: الأسس التعبدية لصلاح أعمال القلوب، وفيه ستة مطالب:

المطلب الأول: التقرب إلى الله بالفرائض، وعلى رأسها الصلاة الخاشعة، وأثرها على القلب.

المطلب الثاني: الزكاة، وأثرها على القلب.

المطلب الثالث: الصيام، وأثره على القلب.

المطلب الرابع: الحج، وأثره على القلب.

المطلب الخامس: الدعاء، وأثره على القلب.

المطلب السادس: التقرب إلى الله بالنوافل.

الباب الثاني: نماذج من أعمال القلوب المؤثرة على الداعية ودعوته، مع ذكر أمثلة تطبيقية من حياة دعاة السلف، وفيه فصلان:

الفصل الأول: نماذج من أعمال القلوب التي لها أثر على الداعية ودعوته، وفيه عشرة مباحث:

المبحث الأول: الإخلاص.

المبحث الثاني: اليقين.

المبحث الثالث: الصبر.

ص: 15

المبحث الرابع: الرضا

المبحث الخامس: المحبة.

المبحث السادس: الخوف والخشية.

المبحث السابع: الرجاء.

المبحث الثامن: التوكل.

المبحث التاسع: التقوى.

المبحث العاشر: الورع.

الفصل الثاني: أمثلة وتطبيقات على بعض دعاة علماء السلف وأثر عمل القلب عليهم وعلى دعوتهم، وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: مواقف من حياة الإمام أحمد عليه رحمة الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس، وفيه فرعان:

الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم.

الفرع الثاني: تعليمه العلم للناس وبذله لطالبه، وما تركه للأمة من مؤلفات.

المطلب الثاني: ورعه وزهده في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة، وكثرة ذكره وعبادته، وفيه فرعان:

الفرع الأول: ورعه وزهده وتعلق القلب بالآخرة.

الفرع الثاني: تعلق القلب بالله وكثرة الذكر والعبادة.

المطلب الثالث: أثر عمل القلب على ثبات الإمام أحمد على عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في ذلك.

المطلب الرابع: أثر عمل القلب على حسن خلقه رحمه الله، وعفوه عمن آذوه.

ص: 16

المبحث الثاني: مواقف من حياة الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته، وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس، وفيه فرعان:

الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم.

الفرع الثاني: تعليمه العلم للناس وبذله لطالبه، وما تركه للأمة من مؤلفات.

المطلب الثاني: ورعه وزهده في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة، وكثرة ذكره وعبادته، وفيه فرعان:

الفرع الأول: ورعه وزهده وتعلق القلب بالآخرة.

الفرع الثاني: تعلق القلب بالله وكثرة الذكر والعبادة.

المطلب الثالث: أثر عمل القلب على ثبات الإمام ابن تيمية على عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في ذلك.

المطلب الرابع: أثر عمل القلب على حسن خلقه رحمه الله، وعفوه عمن آذوه.

المطلب الخامس: أثر عمل القلب على نظرته التفاؤلية للمستقبل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

المبحث الثالث: مواقف من حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس، وفيه فرعان:

الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم.

الفرع الثاني: أثر عمل القلب على تعليمه للناس الخير وعلى رأس ذلك التوحيد، وإنكاره للشرك أينما حل، وما تركه للأمة من مؤلفات.

المطلب الثاني: أثر عمل القلب على ثبات الإمام محمد بن عبد الوهاب على

ص: 17

عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في سبيل دعوته.

المطلب الثالث: أثر عمل القلب على حسن خلقه رحمه الله، وسلامة قلبه، وعفوه عمن آذوه.

المطلب الرابع: أثر عمل القلب على نظرته التفاؤلية للمستقبل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

الباب الثالث: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه، وفي دعوته، وفيه فصلان:

الفصل الأول: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه، وفيه اثنا عشر مبحثًا:

المبحث الأول: سلامة المقصد وخلوصه لله وحده.

المبحث الثاني: الشعور بمعية الله ورعايته له.

المبحث الثالث: الشعور بتوفيق الله وإعانته له.

المبحث الرابع: اليقين بنصر الله تعالى لدينه.

المبحث الخامس: التفاؤل وعدم اليأس.

المبحث السادس: تعلق القلب بالله تعالى.

المبحث السابع: الزهد في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة.

المبحث الثامن: طمأنينة القلب وقوته.

المبحث التاسع: الرضا بما يلقاه في ذات الله تعالى.

المبحث العاشر: المسارعة في فعل القربات.

المبحث الحادي عشر: الثبات.

ص: 18

المبحث الثاني عشر: الفوز والنجاة في الآخرة.

الفصل الثاني: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في دعوته، وفيه أحد عشر مبحثاً:

المبحث الأول: الإخلاص لله في الدعوة، والتجرد من حظوظ النفس.

المبحث الثاني: الاهتمام العظيم بعقيدة التوحيد.

المبحث الثالث: الدعوة إلى الله على بصيرة.

المبحث الرابع: الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة.

المبحث الخامس: الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة.

المبحث السادس: المجادلة بالتي هي أحسن.

المبحث السابع: الحرص على هداية الناس.

المبحث الثامن: الرحمة والشفقة بالمدعوين.

المبحث التاسع: إقبال الناس على دعوته.

المبحث العاشر: نبذ أسباب التفرق والاختلاف.

المبحث الحادي عشر: التأييد والتمكين في الأرض.

الباب الرابع: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على نفسه وعلى دعوته، وفيه فصلان:

الفصل الأول: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على نفسه، وفيه خمسة عشر مبحثاً:

المبحث الأول: التعلق بمطامع الدنيا والتنازل عن الأصول من أجلها.

المبحث الثاني: قسوة القلب وتسلط الشيطان.

ص: 19

المبحث الثالث: اتباع الهوى، والوقوع في فتنة الشبهات والشهوات.

المبحث الرابع: التطلع إلى الرياسة للمكاسب الدنيوية.

المبحث الخامس: الركون إلى الكفار والظلمة.

المبحث السادس: الهزيمة النفسية.

المبحث السابع: لبس الحق بالباطل وكتمانه.

المبحث الثامن: العُجْب، والرياء والسمعة، والكبر.

المبحث التاسع: الاستعجال.

المبحث العاشر: الضيق والتبرم من النصيحة، وعدم حب الناصحين.

المبحث الحادي عشر: تتبع العثرات، وتصيد الهفوات، والفرح بزلات الآخرين.

المبحث الثاني عشر: البخل والشح والعجز والكسل والجبن والهم والحزن.

المبحث الثالث عشر: الخذلان وقلة التوفيق.

المبحث الرابع عشر: الغفلة عن الآخرة.

المبحث الخامس عشر: الخسارة في الآخرة.

الفصل الثاني: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على دعوته، وفيه خمسة مباحث:

المبحث الأول: التفرق والاختلاف والتنازع وذهاب الريح.

المبحث الثاني: تسلط الأعداء على الأمة.

المبحث الثالث: تسلط أعداء الأمة على الدعاة، وتنفير الناس من دعوتهم.

المبحث الرابع: نفور الناس من الدعاة، وتفرقهم عنهم.

المبحث الخامس: تأخر النصر.

ص: 20

الخاتمة، وفيها أهم النتائج والتوصيات.

أبرز عناصر منهجية البحث التي سرت عليها:

1 -

قمت بعزو الآيات إلى سورها عقبها، مع ذكر رقمها، والالتزام بالرسم العثماني.

2 -

خرّجت الأحاديث من مصادرها الأصلية بذكر المصدر والكتاب والباب والجزء والصفحة ورقم الحديث، وقمت بذكر أقوال العلماء في الحكم عليها؛ إذا كان الحديث في غير الصحيحين أو أحدهما.

3 -

وذكرت تخريج الحديث عند أول وروده، وإذا تكرر فإني لا أحيل إلى ما سبق حتى لا أثقل الحواشي.

4 -

وضبطت بالشكل ما يحتاج إلى ضبط من الأحاديث، ومما تشكل قراءته.

5 -

ذكرت بيانات المصدر عند أول وروده.

6 -

ترجمت للأعلام باختصار عند ورود أول ذكر للعلم، واستثنيت ترجمة الأنبياء والصحابة، إلا ما تدعو الحاجة إليه ممن لا يعرف من الصحابة على الأقل للباحث.

7 -

التعريف بالأماكن، واستثنيت الدول وعواصمها لشهرتها.

8 -

رجعت في التوثيق إلى المصادر الأصلية، إلا أن تدعو الحاجة للأخذ من المصادر المتأخرة كالرسائل الجامعية.

9 -

عرفت بالفرق والمذاهب عند أول ورد لها في البحث.

10 -

ختمت بذكر الفهارس العلمية، وهي على نحو الآتي:

• فهرس الآيات.

• فهرس الأحاديث.

ص: 21

• فهرس الآثار.

• فهرس الأعلام المترجم لهم.

• فهرس المصطلحات والكلمات الغريبة.

• فهرس الفرق والمذاهب المعرّف بها.

• فهرس المصادر.

• فهرس الموضوعات.

وصلى الله على نبينا محمد

وعلى آله وصحبه

أجمعين

ص: 22

‌التمهيد

التعريف بمصطلحات عنوان البحث وما يتعلق به

المسألة الأولى: التعريف بمصطلحات العنوان.

المسألة الثانية: فضائل الدعوة.

المسألة الثالثة: فضائل الداعية.

ص: 23

‌توطئة:

لا ريبَ أن الدعوةَ إلى الله تعالى هي وظيفةُ الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

وكانت المهمة العظيمة للرسل عليهم الصلاة والسلام الدعوة إلى توحيد الله، وتحذير الناس من عبادة غير الله، كما قال تعالى عن جميع الرسل:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وختم الله هذه الرسالات برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، فقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، فجاء صلى الله عليه وسلم بأعظم الرسالات وأتمها وأكملها، فقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فبلَّغ صلى الله عليه وسلم الرسالةَ، وأدى الأمانة، ودعا إلى الله ليلًا ونهارًا، حتى أظهره الله على الدين كله، ثم قامت أمته بمهمة الدعوة إلى هذا الدين، حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وقال تبارك وتعالى عنهم:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]

(1)

.

(1)

ينظر: منهج ابن الجوزي في الدعوة (121 - 122) للدكتور عبد الرحيم المغذوي، من مطبوعات الجامعة الإسلامية ط 1، 1431 هـ.

ص: 24

ولا شك أن المتأمل في سير الأنبياء، والمصلحين الذين ساروا على دربهم، سيتضح له أحد أعظم أسرار تميزهم، وهو وجود أمرٍ عظيم حرّك تلك الهمم لحمل الرسالة وإيصالها إلى العالمين، في حركة دؤوبة في الليل والنهار والسر والجهار.

قال تعالى في وصف نبيه نوح عليه السلام في دعوته لقومه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 5 - 9].

وذلك الأمر الذي أنتج هذه الهمة العظيمة عند أولئك الدعاة إلى الله تعالى الذين اقتفوا أثر الأنبياء عليهم السلام هو صلاح عمل القلب وسلامته من الآفات، وهذا -ولله الحمد والمنة- هو محور دراستي، حول أثر عمل القلب على الداعية والدعوة، ورأيت من المناسب أن أمهد لهذه الدراسة بالمسائل الآتية:

‌المسألة الأولى: التعريف بمصطلحات العنوان.

المسألة الثانية: فضائل الدعوة.

المسألة الثالثة: فضائل الداعية.

المسألة الأولى: التعريف بمصطلحات العنوان:

وعنوان الدراسة هو: (أثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة)، وعليه فتكون المصطلحات المراد تعريفها هي:(الأثر، العمل، القلب، الداعية، الدعوة).

‌أولًا: تعريف الأَثَر في اللغة والاصطلاح:

الأثر في اللغة يطلق على معان، منها:

أَثَر الشيء أي: حصول ما يدل على وجوده. وبقية الشيء، فتقول: أَثَارَةٌ من علم أي: بقية منه. وعلى الأجل، والخبر، والعلامة. وجاء في أَثَره أي: في عقبه.

ص: 25

ويطلق أيضًا على ما خلَّفه السابقون، وعلى لمعان السيف، ومن معانيه: سنن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وعُرِّف الأثر في الاصطلاح بعدة تعريفات

(2)

، ويعود هذا إلى أن أصحاب كل فن

(3)

يعرفونه على حسب ما يخدم فنَّهم، ولعل أقربها إلى مقصود الدراسة ما ذكره صاحب التعريفات

(4)

ضمن تعريفه للأثر، بقوله:"بمعنى: النتيجة، وهو الحاصل من الشيء"

(5)

.

فيكون المعنى على هذا: ما يحصل من أعمال القلوب من أثر على الداعية ودعوته.

(1)

ينظر في هذه المعاني: الصحاح (2/ 576) للجوهري، ت: أحمد عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1407 هـ، المفردات (62) للراغب الأصفهاني، ت: صفوان الداودي، دار القلم، دمشق، بيروت، ط 1، 1412 هـ، لسان العرب (4/ 5، 6) لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط 3، 1413 هـ، المعجم الوسيط (1/ 5) مجمع اللغة العربية بالقاهرة لإبراهيم مصطفى وآخرين، دار الدعوة، مادة (أثر).

(2)

ومنها: يطلق الأثر في مصطلح فقهاء خرسان على ما يروى عن الصحابي، وعند أهل مصطلح الحديث يطلق على الموقوف الذي رواه الصحابي من قوله أو فعله، وعند ابن حجر يطلق أيضًا على المقطوع، ويطلق عند الفقهاء والأصوليين على بقية الشيء، فيقال: أثر النجاسة.

ينظر: نزهة النظر (114) لابن حجر العسقلاني، ت: عتر، مطبعة الصباح، دمشق، ط 3، 1423 هـ، تدريب الراوي (1/ 203) للسيوطي، ت: أبي قتيبة الفاريابي، دار طيبة، الموسوعة الفقهية الكويتية (19/ 14) صادر عن وزارة الأوقاف الكويتية، ط 1404 - 1427 هـ.

(3)

ويقصد بالفن واحد الفنون وهي الأنواع. ينظر: الصحاح (6/ 2177) مادة (فنن).

والمقصود أنه يختلف التعريف لكلمة الأثر في الاصطلاح بحسب نوع كل علم.

(4)

علي بن محمد بن علي، المعروف بالسيد الشريف الجرجاني الحنفي، توفي رحمه الله سنة (816 هـ) بشيراز، وله الكثير من المصنفات منها: التعريفات، وهو كتاب مختصر جمع فيه تعريفات الفنون.

ينظر: كشف الظنون (1/ 422) لحاجي خليفة، مكتبة المثنى، بغداد، ط 1941 م، الأعلام (5/ 7) للزركلي، دار العلم للملايين، ط 15، 2002 م.

(5)

التعريفات (9) للجرجاني، ت: ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1403 هـ.

ص: 26

‌ثانيًا: تعريف العَمَل في اللغة والاصطلاح:

العَمَل في اللغة: له عدة معان، منها:

الفعل بقصد، إعمال الذهن في التفكير والتدبر والاستنباط، فيقال: أعمل فلان ذهنه في كذا وكذا إذا تدبَّره وفكر فيه، العَمَل أي: المهنة والفعل

(1)

.

العمل في الاصطلاح: يكون معناه بحسب استعماله، ففي التقسيم الإداري ما يكون تحت حكمه ويضاف إليه، فيقال: قرية فلان من أعمال مركز كذا.

وعند أصحاب الاقتصاد: مجهود يبذله الإنسان مقابل تحصيل منفعة

(2)

.

وقال الراغب

(3)

رحمه الله عن ورود لفظ العمل في القرآن الكريم: "والعمل يستعمل في الأعمال الصالحة والسيئة، قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [النساء: 124]، {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11]، وأشباه ذلك. {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] "

(4)

.

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (2/ 255) للأزهري، ت: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث، بيروت، ط 1، 2001 م، لسان العرب (11/ 475)، المعجم الوسيط (2/ 628) مادة (عمل).

(2)

ينظر: المعجم الوسيط (2/ 628)، وينظر: الموسوعة الحرة على الشبكة.

(3)

أحد الأعلام، النحوي، اللغوي، المفسر: حسين بن محمّد بن المفضل، الأصفهاني، أو الأصبهاني، المعروف بالراغب، أبو القاسم. وفاته رحمه الله سنة (500 هـ)، وقيل: سنة (502 هـ)، وقيل غير ذلك، حتى إن الإمام الذهبي رحمه الله قال:"لم أظفر له بوفاة ولا بترجمة". من مصنفاته: مفردات ألفاظ القرآن، الذريعة في مكارم الشريعة، وغير ذلك. ينظر ترجمته في: معجم الأدباء (3/ 1156) لياقوت الحموي، ت: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1414 هـ، سير أعلام النبلاء (18/ 120) للذهبي، ت: مجموعة من المحققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1405 هـ، بغية الوعاة (2/ 297) للسيوطي، ت: محمد أبو الفضل، المكتبة العصرية لبنان.

(4)

المفردات (587).

ص: 27

ويطلق العمل على أفعال القلوب والجوارح، ولهذا يقال: النية عمل القلب

(1)

، وهو المقصود من الدراسة.

‌ثالثًا: تعريف القلب في اللغة والاصطلاح:

القلب في اللغة: يطلق على عدة معان، منها:

المضغة

(2)

أي: العضو الموجود في داخل الصدر، العقل، ويسمى لب الشيء وخالصه قلبًا، والقلب تحويلك الشيء عن وجهه.

وسمي القلب بهذا الاسم لكثرة تقلبه، وقال الشاعر

(3)

:

مَا سمِّيَ القلبُ إلَّا من تقلُّبِه

(4)

والقلب في الاصطلاح: يطلق على معنيين

(5)

:

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (15/ 400)، الكليات (616) للكفوي، ت: عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة.

(2)

والمضغة: قطعة من اللحم قدر ما يمضغ؛ لأن القلب كالقطعة التي تؤخذ فتمضغ.

ينظر: الصحاح (4/ 1326)، مقاييس اللغة (5/ 330) لابن فارس، ت: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1399 هـ، المفردات في غريب القرآن (770) مادة (مضغ).

(3)

استشهد به الخليل بن أحمد في العين (5/ 171) ولم ينسبه لأحد، وكتاب العين ت: د. مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، وهو كذلك في التهذيب (9/ 143)، واللسان (1/ 687) غير منسوب. ينظر: مادة (قلب).

(4)

ينظر في هذه المعاني: تهذيب اللغة (9/ 143)، الصحاح (1/ 204)، مقاييس اللغة (5/ 17)، مادة (قلب).

(5)

ينظر: إحياء علوم الدين (3/ 3) للغزالي، دار المعرفة بيروت، التبيان في أقسام القرآن (414) لابن القيم، ت: محمد الفقي، دار المعرفة بيروت، التعريفات (178)، التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 151) لمحمد بن إسماعيل الأمير، ت: د. محمد إسحاق، مكتبة دار السلام الرياض، ط 1، 1432 هـ، التعريفات الفقهية (176) للبركتي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1424 هـ، أعمال القلوب للدكتور خالد السبت (1/ 16)، دار ابن الجوزي، ط 1، 1439 هـ.

ص: 28

1 -

العضو الذي في الجهة اليسرى من الصدر، ويضخُّ الدم إلى سائر أجزاء الجسم.

2 -

لطيفة

(1)

ربانية لها تعلق وثيق بالقلب، وهي التي تحتوي على مشاعر الإنسان وإحساسه وحقيقته، وبها تحصل أعمال القلوب من الحب والخوف والرجاء والإخلاص والصدق واليقين ونحوه، أو ضد ذلك من آفات القلوب من الكبر والحسد والعجب والرياء واتباع الهوى

وهذه اللطيفة المتعلقة بالقلب من أمور الغيب التي لا تدركها العقول، وإنما يرجع فيها إلى الوحي، وهنا يحسن الكلام عن مسألة: هل العقل في القلب أم في الدماغ؟

ومجمل الأقوال في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: إن العقل في القلب، وهو قول عمر وعلي وأبي هريرة رضي الله عنهم

(2)

، وهو قول الجمهور، قال به الشافعية والمالكية، وهو الراجح من قولي العلماء عند الإمام أحمد، وقال به جماهير المتكلمين

(3)

.

(1)

اللطيفة: أمر خفي لطيف رقيق.

ينظر: المعجم الوسيط (2/ 826)(لطف).

(2)

ينظر: العدة في أصول الفقه (1/ 91 - 93) لأبي يعلى، ت: د. أحمد بن علي سير المباركي، بدون ناشر، ط 2، 1410 هـ، التمهيد في أصول الفقه (1/ 50 - 51) لأبي الخطاب الحنبلي، ت: مفيد أبو عمشة ومحمد بن علي بن إبراهيم، الناشر: مركز البحث العلمي جامعة أم القرى، طبعة دار المدني، ط 1، 1406 هـ.

(3)

ينظر: التمهيد في أصول الفقه (1/ 48)، المعلم بفوائد مسلم (2/ 314) للمازري، ت: محمد الشاذلي النيفر، الدار التونسية والمؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر، ط 2، 1988 م، شرح النووي على مسلم (11/ 29) المسمى: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط 2، 1392 هـ، وقال النووي:"وحكوا الأول أيضًا عن الفلاسفة"، الذخيرة للقرافي (12/ 369)، ت: محمد حجي وآخرين، دار الغرب الإسلامي بيروت، ط 1، 1994 م، الأمنية في إدراك النية (17) للقرافي، دار الكتب العلمية بيروت، شرح الزركشي على مختصر الخرقي (7/ 246) دار العبيكان، ط 1، 1413 هـ، أضواء البيان (5/ 275) للشنقيطي، دار الفكر بيروت، 1415 هـ.

والمتكلمون مصطلح يطلق على: من يعتمد على علم الكلام لإثبات العقائد بالحجج العقلية، وقد ذمه السلف وحذروا منه.

ينظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة (21) للدكتور سليمان الغصن، دار العاصمة الرياض، ط 2، 1433 هـ.

وينظر أيضًا في ذم علم الكلام وأهله ما ورد في المصدر السابق (74 - 106) تحت عنوان: موقف السلف من علم الكلام والمتكلمين.

ص: 29

القول الثاني: في الدماغ، ونسب إلى الأحناف

(1)

، والرواية الثانية عند الإمام أحمد، وهي المنصوص عليها عنه

(2)

، وهو قول الأطباء

(3)

.

أدلة أصحاب القول الأول:

يقول أصحاب القول الأول: جاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في النص صراحة على أن العقل في القلب، وأُسِندَ إلى القلب العمى، والفقه، والإيمان، ومرض النفاق، وغير ذلك من الأمور التي أخبر بها سبحانه وتعالى، وأسندها إلى القلب ولم يسندها إلى الدماغ، فدل ذلك على أن العقل في القلب، وهذه بعض الأدلة على إثبات ذلك:

الدليل الأول: قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].

(1)

ينظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (1/ 42)، البحر الرائق لابن نجيم المصري، وعلى هامشه منحة الخالق لابن عابدين، وتكملة البحر الرائق للطوري، دار الكتاب الإسلامي، ط 2، وينظر كذلك: شرح النووي على مسلم (11/ 29).

(2)

ينظر: العدة في أصول الفقه (1/ 89 - 90)، شرح الزركشي على مختصر الخرقي (7/ 246).

(3)

ينظر: المعلم بفوائد مسلم (2/ 314)، شرح النووي على مسلم (11/ 29)، ونسبه الشنقيطي رحمه الله إلى الفلاسفة، ينظر: أضواء البيان (5/ 275).

وينظر أيضًا: الفتاوى (32) للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، ت: سليمان العمير، مجمع الفقه الإسلامي بجدة، دار عالم الفوائد، إشراف العلامة بكر أبو زيد، ط 1، 1426 هـ.

ص: 30

استدلَّ أهل العلم بهذه الآية على أن العقل محله القلب، وفيها دلالة صريحة على ذلك؛ حيث إنه سبحانه وتعالى أسند العقل إلى القلب لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن، ودونَك طرفًا من أقوالهم في تفسيرهم لهذه الآية:

قال القرطبي

(1)

رحمه الله: "أضاف العقل إلى القلب لأنه محله"

(2)

.

وقال السمعاني

(3)

رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "أي: يعلمون بها، ويقال: إن العقل علم غريزي

(4)

، واستدل من قال: إن محله القلب بهذه الآية"

(5)

.

(1)

محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري المالكي أبو عبد الله القرطبي، وكان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، وكان إمامًا علمًا، من الغوّاصين على معاني الحديث، حسن التصنيف، جيد النقل، وكان رحمه الله في تفسيره يميل إلى مذهب الأشعري في العقيدة في باب الأسماء والصفات. من مؤلفاته: الجامع لأحكام القرآن، الكتاب الأسنى في أسماء الله الحسنى، والتذكرة بأمور الآخرة وغيرها. توفي عليه رحمة الله في سنة (671 هـ).

ينظر: شذرات الذهب (7/ 584) لابن العماد الحنبلي، ت: محمود الأرناؤوط، وخرج أحاديثه عبد القادر الأرناؤوط، دار ابن كثير دمشق بيروت، ط 1، 1406 هـ، نفح الطيب (2/ 210) للتلمساني، ت: إحسان عباس، دار صادر بيروت، موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (7/ 396) للمغرواي، المكتبة الإسلامية القاهرة والنبلاء للكتاب مراكش، ط 1.

(2)

تفسير القرطبي (12/ 77) ت: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية القاهرة، ط 2، 1384 هـ.

(3)

أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي السَّمْعاني، مفتي خرسان، له تصانيف عديدة، وكان شوكًا في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة، وكان مناظرًا فقيهًا، وصنف التفسير وكتاب الانتصار في الحديث، والبرهان والقواطع في أصول الفقه، وغيرها، توفي رحمه الله في سنة (489 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 114)، البداية والنهاية (16/ 159) لابن كثير، ت: عبد الله التركي، دار هجر، ط 1، 1418 هـ، سنة النشر 1424 هـ، موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (6/ 368).

(4)

من الغريزة وهي الطبيعة، وكأنها شيء غرز في الإنسان، ينظر في ذلك: مقاييس اللغة (4/ 416)، لسان العرب (5/ 387) مادة (غرز).

(5)

تفسير السمعاني (3/ 445) ت: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس دار الوطن الرياض، ط 1، 1418 هـ.

ص: 31

وقال الشنقيطي

(1)

رحمه الله: "والتحقيق: أن العقل في القلب كما دل عليه الوحي"

(2)

.

وقال أيضًا: "والآية تدل على أن محل العقل في القلب، ومحل السمع في الأذن"

(3)

.

الدليل الثاني على أنه في القلب: قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

ومن ضمن ما قال الرازي

(4)

رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " .. هل تدل الآية على أن العقل هو العلم وعلى أن محل العلم هو القلب؟ الجواب: نعم؛ لأن المقصود من قوله: {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} العلم، وقوله:{يَعْقِلُونَ بِهَا} كالدلالة على

(1)

الإمام المفسر محمّد الأمين بن محمّد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، كان رحمه الله يتمتع بأخلاق ومزايا فاضلة أكسبته الثقة والاحترام في أوساط أولي الأمر وكبار أهل العلم، وكان أديبًا ضليعًا، تلقى العلم على يديه أفواج لا يحصون من طلاب العلم، من مصنفاته: أضواء البيان في تفسير القرآن، ومنع جواز المجاز، وألفية في المنطق. وفاته: سنة (1393 هـ) عليه رحمة الله.

ينظر: الأعلام (6/ 45)، موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (10/ 1)، ترجمة الشيخ الملحقة بكتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/ 479).

(2)

العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/ 161) للشنقيطي، ت: خالد السبت، إشراف بكر أبو زيد، دار عالم الفوائد مكة، ط 2، 1426 هـ.

(3)

أضواء البيان (5/ 275).

(4)

العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، انتشرت كتبه في البلاد شرقًا وغربًا، وكان يتوقد ذكاء، وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، عرف بعدائه لعقيدة السلف، وألف الكتب في ذلك، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر. توفي عليه رحمة الله سنة (606 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (21/ 500)، البداية والنهاية (17/ 11)، موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (7/ 283).

ص: 32

أن القلب آلة لهذا التعقل، فوجب جعل القلب محلًّا للتعقّل، ويسمَّى الجهل بالعمى؛ لأن الجاهل لكونه متحيرًا يشبه الأعمى"

(1)

.

وقد أشار الشنقيطي رحمه الله إلى أن هذه الآية تدلّ على أن العقل محله القلب

(2)

.

الدليل الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

قال القرطبي رحمه الله عن المراد بالقلب هنا: "أي: عقل؛ لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين"

(3)

.

الدليل الرابع: قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].

قال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "وقوله: {لَا يَفْقَهُونَ} الفقه في لغة العرب معناه: الفهم والإدراك، أي: لا يفهمون بهذه القلوب عن الله؛ لأن الله لم ينفعهم بها

كما قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26]، ونفيه الفقه عن القلوب يدل كما ذكرنا مرارًا على أن مركز العقل هو القلب، لا الدماغ كما يقوله الإفرنج

(4)

، ومما يؤسفنا أن عامة المسلمين لا يكاد في الوقت الحاضر -لجهلهم- يختلف من عامتهم اثنان في أن العقل في الدماغ ..

(1)

تفسير الرازي (23/ 233 - 234) مع تصرف يسير، مفاتيح الغيب للفخر الرازي، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط 3، 1420 هـ.

(2)

ينظر: العذب النمير (4/ 40).

(3)

تفسير القرطبي (1/ 189).

(4)

جيل من الناس يسكنون أوروبا كما في المعجم الوسيط (1/ 21) مادة (أفر)، وهو اسم أطلقه العرب على الأوروبيين بعد الحروب الصليبية في الشرق. ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 102) للدكتور أحمد مختار عبد الحميد ومعه فريق عمل، عالم الكتب، ط 1، 1429 هـ.

ص: 33

والله يصرح بأن العقل في القلب، ولا شكَّ أن الذي خلق نور العقل وجعله في العبد ونوَّره به هو أعلم بالموضع الذي وضعه فيه

فالذي يقول: ليس الفقه في القلوب كالذي يقول: ليس الإبصار بالعيون، وليس السماع بالآذان؛ لأن الله قال:{قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} {أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} {آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} ، فدلَّ على أن الإبصار بالعين، والسماع بالأذن، والفقه بالقلب.

وهذا أمر معروف لا تكاد تحصَى الآيات الدالة عليه في القرآن"

(1)

.

الدليل الخامس والسادس: قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وقوله تعالى:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].

و {كَتَبَ} أي: ثبّت الإيمان في قلوبهم وغرسه غرسًا، لا تؤثر فيه الشبه والشكوك، وذكر القلوب لأنها موضع الإيمان

(2)

.

وذكر الشنقيطي رحمه الله في تعليقه على الآيتين السابقتين كلامًا مؤداه: أن الآيتين صريحتان في أن الموضع الذي يدخله الإيمان من المؤمن وينتفي دخوله فيه من الكافر هو القلب لا الدماغ؛ لأن أساس الإيمان إيمان القلب، والجوارح تبع له، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ

(1)

العذب النمير (4/ 347 - 348) مع بعض الاختصار والتصرف اليسير.

(2)

ينظر: تفسير البغوي (8/ 63) ت: محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش، دار طيبة، ط 4، 1417 هـ، تفسير السعدي (848) ت: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 هـ.

ص: 34

فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»

(1)

.

فظهر لك دلالة الآيتين المذكورتين على أن المصدر الأول للإيمان القلب، فإذا آمن القلب آمنت الجوارح بفعل المأمورات وترك المنهيات، وذلك لأن القلب أمير البدن، وذلك يدل دلالة واضحة على أن القلب ما كان كذلك إلا لأنه محل العقل الذي به الإدراك والفهم كما ترى

(2)

.

الدليل السابع والثامن: قول الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]، وقوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

وفي هاتين الآيتين ذكر الله أنه عاقب أصحاب القلوب التي كفرت بالطبع عليها، فلا تنتفع بالمواعظ، ولا تهتدي إلى الإيمان، ولا ينفذ فيها، وعاقب القلوب التي زاغت

(3)

أن أزاغها الله عن الهدى والاستقامة، وأوقعها في الشك والحيرة والخذلان بسبب من أهلها

(4)

.

والآيات في هذا المعنى كثيرة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، وهو لمحمد بن إسماعيل البخاري، ت: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط 1، 1422 هـ، أخرجه في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (1/ 20) ح (52)، ومسلم في صحيحه، وهو لمسلم بن الحجاج النيسابوري ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت، أخرجه في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1219) ح (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

ينظر: الفتاوى للشنقيطي (29).

(3)

من الزيغ، وهو الميل عن الاستقامة إلى الضلال. ينظر: المفردات في غريب القرآن (387).

(4)

ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 109) ت: سامي سلامة، دار طيبة، ط 2، 1420 هـ، وتفسير السعدي (41).

ص: 35

ومن هاتين الآيتين يتضح اتصال العقل بالقلب، وأن محله في القلب، فكم من صاحب عقل عظيم وقدرات عقلية كبيرة، لكنه لما طُمِس على قلبه بسبب ضلاله لم ينفعه عقله الكبير -نسأل الله العافية من الخذلان-، تجده يعبد الأوثان من البقر والحجر المنحوت على شكل إنسان أو غيره، أو يدعو صاحب قبر ويطلب منه ما لا يُطلَبُ إلا من الله، ولديه أعلى الشهادات العلمية، والكثير من براءات الاختراع، لكن هذا العقل الكبير الذي طمس على قلب صاحبه لم ينتفع به فيترك عبادة المخلوق، ويتوجه إلى عبادة الخالق المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، وقال تعالى عنهم وعن أمثالهم:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، وهؤلاء ما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم؛ ببعدهم عن الحق واتباع شياطين الإنس والجن، فصار علمهم الواسع في الدنيا، وأما الآخرة فقد غفلوا عنها، كما قال تعالى عنهم:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

الدليل التاسع: قوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .

قال المازري

(1)

رحمه الله في بيان وجه الاستدلال بهذا الحديث على أن العقل في

(1)

الشيخ الإمام الفقيه محمد بن علي بن عمر التيمي المازري، الفقيه المالكي، أحد الأعلام، كان من كبار أئمة زمانه، وآخر المشتغلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر، له تآليف تدل على إمامته منها: كتاب المعلم بفوائد مسلم، وكتابٌ في الرد على الإحياء لأبي حامد الغزالي سماه: الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء، وكتاب التعليقة على المدونة وغيرها، إلا أن مما يؤاخذ على المازري رحمه الله تعالى أشعريته الواضحة، وكتابه المعلم بفوائد مسلم خير دليل على ذلك، وتوفي رحمه الله سنة (536 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (4/ 285) لابن خلكان، ت: إحسان عباس، دار صادر بيروت، ط 19، 1971، 1994 م، سير أعلام النبلاء (20/ 104)، موسوعة مواقف السلف (7/ 115).

ص: 36

القلب: "واحتجوا أيضًا بهذا الحديث

(1)

، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاح الجسد كلّه وفساده كلّه تابعًا للقلب، والدّماغُ من جملة الجسد، فاقتضى ظاهر الحديث كون فساده وصلاحه تبعًا للقلب، وهذا يدل على أنه ليس بمحلّ للعقل"

(2)

.

الدليل العاشر من الأثر: قول علي رضي الله عنه: "إن العقل في القلب"

(3)

.

أما أدلة أصحاب القول الثاني: فيستدل من يقول: إن العقل في الدماغ بأدلة عقلية وحسية، ولا يُعلم لهم دليل من الكتاب أو السنة

(4)

، والله أعلم.

ومن أدلتهم أنه إذا فسد الدماغ مع سلامة القلب فسد العقل، فلو كان موطن العقل القلب لما حصل له خلل، ويقولون: يحصل للقلب خلل فلا يتأثر العقل.

وأجيب: بأن هناك ارتباطًا بين العقل والقلب، والنصوص دلَّت على أنه في القلب، وأنه لا يمنع أن يكون هناك ارتباط بين القلب والدماغ

(5)

، لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، والله أعلم.

وهنا قول يتفرَّع عن القول الأوَّل، وهو أن العقلَ في القلب وله اتصال وثيق بالدماغ، وهذا القول أقرب الأقوال؛ لأن فيه جمعًا بين القولين مع الإقرار بأن العقل في القلب كما جاء في الكتاب والسنة.

والعقل الذي في القلب له اتصال بالدماغ، والدليل الحسي يدل دلالة قوية على الترابط بين العقل والدماغ، والعلم عند الله تعالى.

(1)

أي: القائلون بأن العقل في القلب.

(2)

المعلم بفوائد مسلم (2/ 314).

(3)

البخاري عن علي رضي الله عنه في الأدب المفرد (281) ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية بيروت، ط 3، 1409 هـ، وذكره البيهقي في شعب الإيمان (6/ 368) للبيهقي، ت: د. عبد العلي، مكتبة الرشد الرياض بالتعاون مع الدار السلفية بومباي، ط 1، 1423 هـ.

(4)

ينظر: الفتاوى للشنقيطي (35).

(5)

ينظر: الذخيرة (12/ 369)، التبيان في أقسام القرآن (405).

ص: 37

والذي ظهر من كلام شيخ الإسلام

(1)

أنه يميل إلى ذلك حيث يقول رحمه الله: "والتحقيق

(2)

أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا

(3)

، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب"

(4)

.

وهو الذي يرجحه ابن القيم

(5)

حيث يقول رحمه الله: "والتحقيق أن منشأ ذلك ومبدأه من القلب، ونهايته ومستقره في الرأس، وهي المسألة التي اختلف فيها الفقهاء: هل العقل في القلب أو في الدماغ؟ على قولين حكيا روايتين عن الإمام أحمد، والتحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ"

(6)

.

(1)

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني شيخ الإسلام، أبو العباس، الإمام العالم المفسر الفقيه المجتهد الحافظ المحدث، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط، وطلب الحديث، واشتغل بالعلوم حتى صار من الأئمة الأعلام؛ كان عالِمًا باختلاف العلماء، وأعرف الناس بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، متضلعًا في الأصول والفروع والنحو واللغة، وله التصانيف الكثيرة. توفي رحمه الله سنة (728 هـ).

ينظر: البداية والنهاية (18/ 295)، الدرر الكامنة (1/ 168) لابن حجر العسقلاني، ت: محمد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية الهند، ط 2، 1392 هـ، البدر الطالع (1/ 63) للشوكاني، دار المعرفة بيروت.

(2)

وفي هذا -والله أعلم- إشارة إلى ترجيحه لهذا القول.

(3)

أي: القلب والدماغ.

(4)

مجموع الفتاوى (9/ 303 - 304) لابن تيمية، جمع: عبد الرحمن بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416 هـ. ومن أراد أن يتوسع في هذه المسألة، فلينظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى (9/ 303 - 304).

(5)

الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي الحنبلي المفسر النحوي الأصولي، الشهير بابن قيم الجوزية، وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين، لازم شيخ الإسلام سنين عدة وأخذ عنه علمًا وافرًا، وفاق أقرانه، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف، وله مصنفات قيمة، منها: زاد المعاد، وإعلام الموقعين، وبدائع الفوائد. مات رحمه الله تعالى في سنة (751 هـ).

ينظر: البداية والنهاية (18/ 523)، الدرر الكامنة (5/ 137)، البدر الطالع (2/ 143).

(6)

التبيان في أقسام القرآن (404).

ص: 38

وقال الشيخ ابن عثيمين

(1)

رحمه الله: "فالعقل في القلب، والقلب في الصدر، لكن الدماغ يستقبل ويتصور، ثم يرسل هذا التصور إلى القلب لينظر أوامره، ثم ترجع الأوامر من القلب إلى الدماغ، ثم ينفذ الدماغ.

إذن الدماغ بمنزلة (السكرتير)

(2)

ينظم المعاملات ويرتبها، ثم يرسلها إلى القلب، إلى المسؤول الذي فوقه، هذا القلب يوقِّع يمضي أو يرد، ثم يدفع المعاملة إلى الدماغ، والدماغ يأمر الأعصاب وتتمشى، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، وهو الموافق للواقع"

(3)

.

وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: "وجمع بعض العلماء بين قول أهل السنة وقول الفلاسفة بأن قال: إن أصل العقل في القلب كما في الكتاب والسنة، إلا أن نوره يتصل شعاعه بالدماغ"

(4)

.

(1)

الإمام الفقيه أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي. ولد الشيخ في مدينة عنيزة في أسرة يعرف عنها الدين والاستقامة والصلاح، يعتبر من أكابر علماء هذا العصر الذين نصروا ورفعوا عقيدة السلف الصالح، ومؤلفاته في نصرة عقيدة أهل الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر، فدروسه ومحاضراته وخطبه ومؤلفاته شاهدة على وضوح هذا الأمر، ويعد الشيخ رحمه الله من المراجع الرئيسة لطلبة العلم بل وللعلماء في معرفة عقيدة السلف، وأما مؤلفاته فكثيرة جدًّا منها: فتح رب البرية بتلخيص الحموية، وشرح الواسطية لابن تيمية، والشرح الممتع على زاد المستقنع. كان رحمه الله زاهدًا ورعًا متواضعًا، مشهودًا له بمواقف الخير والجهاد في سبيل الله تعالى والدعوة إليه، وتوفي رحمه الله سنة (1421 هـ).

ينظر: موسوعة مواقف السلف (10/ 434)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (3/ 2118).

(2)

كلمة محدثة تطلق على من يقوم بحفظ سر العمل، ويسمى الأمين، مدير المكتب الذي يقوم على ترتيب المعاملات حسب أهميتها أو حسب ما يتفق عليه، ويوصلها إلى رئيس الدائرة، ويسمى قديماً الحاجب.

ينظر: المعجم الوسيط (2/ 776) مادة (كتم)، معجم لغة الفقهاء (175) لمحمد قلعجي وقنيبي، دار النفائس، ط 2، 1408 هـ.

(3)

مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/ 300).

(4)

العذب النمير (1/ 160).

ص: 39

وقال أيضًا عن هذا القول: "ومَنْ جمع بين القولين فقوله جائز عقلًا، ولا تكذيب فيه للقرآن ولا للسنة، ولكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل عليه من النقل، فإن قام عليه دليل من عقل أو استقراء محتج به فلا مانع من قبوله، والعلم عند الله تعالى"

(1)

.

والذي يظهر أنه قد قام الدليل من السنة والعقل والحس على الترابط بين أجزاء الجسد، وتأثير القلب فيها جميعًا، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الذي سبق

(2)

، ويدل على الترابط بين أجزاء الجسد أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم:«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»

(3)

.

فالقلب إذن الذي هو محل العقل مرتبطٌ بالدماغ الذي يقوم بمهمة تحريك الأعضاء وتنفيذ الأوامر الصادرة من العقل الذي في القلب، والله أعلم.

‌رابعًا: تعريف الداعية في اللغة والاصطلاح:

الداعية في اللغة: يطلق على معان، منها:

الذي يَمِيلُ الشيء إليه بصوت وكلام منه، طلب إحضار الشيء، الذي يحث على فعل شيء

(4)

.

(1)

الفتاوى للشنقيطي (35)، وقد فصل القول في مسألة هل العقل في القلب أو الدماغ؟ ومن أراد التوسع فلينظر ثَمَّ (24 - 35).

(2)

وهو حديث: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .

(3)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (4/ 1999) ح (2586).

(4)

ينظر في هذه المعاني: مقاييس اللغة (2/ 279)، المعجم الوسيط (1/ 286) مادة (دعا).

ص: 40

وعُرِّفَ الداعية في الاصطلاح بعدة تعريفات

(1)

، ومن أجمعها -فيما يتعلق بمقصود البحث- التعاريف الآتية:

التعريف الأول: عرف الإمام ابن القيم رحمه الله الدعاة بقوله: "جمع دَاع؛ كقاض قُضَاة، ورام ورماة، وإضافتهم إليه للاختصاص، أَي: الدعاة المخصوصون بِهِ الَّذين يدعونَ إلى دينه وعبادته ومعرفته ومحبته"

(2)

.

التعريف الثاني: عرفه بعض الباحثين المعاصرين

(3)

بقوله: "المبلّغ للإسلام، والمعلّم له، والساعي إلى تطبيقه"

(4)

.

التعريف الثالث: ومن التعاريف الشاملة أن الداعية هو: "كل من تتوفر فيه عوامل التأهيل والتكليف الشرعي، والقائم على إيصال دين الإسلام إلى الناس كافة

وفق منهج الدعوة القويم"

(5)

.

والذي يظهر أن التعريف الثالث هو أدق التعاريف؛ لأنه في التعريف الأول والثاني أغفل تأهيل الداعية، ولأنه لا ينبغي أن يتصدى للدعوة إلى الله تعالى إلا من كان مؤهلًا لهذه المهمة العظيمة، وهذا ما نص عليه في التعريف الثالث، وأضاف في التعريف إضافة مهمة، وهي أن يكون الداعية يسير وفق منهج الدعوة القويم، الذي سار عليه الأنبياء عليهم السلام.

‌خامسًا: تعريف الدعوة في اللغة والاصطلاح:

الدعوة لغة: تطلق على عدة معان، سبق ذكر بعضها عند تعريف الداعية في

(1)

ينظر: كتاب الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية (502 - 503) للدكتور عبد الرحيم المغذوي، دار الحضارة الرياض، ط 2، 1431 هـ، فقد ذكر حفظه الله عشرة تعاريف للداعية.

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 153) لابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت.

(3)

هو: الدكتور محمد أبو الفتح البيانوني.

(4)

المدخل إلى علم الدعوة (40) للدكتور محمد البيانوني، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1435 هـ.

(5)

الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية (504).

ص: 41

اللغة

(1)

، وقال ابن منظور

(2)

رحمه الله: "ودعا الرجلَ دعوًا ودعاءً: ناداه، والاسم: الدعوة، ودعوت فلانًا أي: صحت به واستدعيته"

(3)

.

وعُرِّفت الدعوة اصطلاحًا بعدة تعريفات

(4)

، وذلك يرجع إلى أن كل من كتب في الدعوة نظر لها من جانب معين، فعرّفها بناء على رؤيته، واهتمامه بهذا الجانب، ولذا -في الغالب- تكون التعاريف من باب التنوع لا التضاد، وهذه جملة منها:

التعريف الأول: إنها "الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه"

(5)

.

التعريف الثاني: "إيصال دين الإسلام إلى الناس كافة، وفق المنهج القويم، وبما يتناسب مع أصناف المدعوين، ويلائم أحوال وظروف المخاطبين في كل زمان ومكان"

(6)

.

التعريف الثالث: قيام من له أهلية من المسلمين فردًا أو جماعة بتبليغ دين

(1)

ينظر ص (37).

(2)

محمد بن مكرم بن أبي الحسن القاضي الأديب البليغ الأنصاري الرويفعي ولد بالقاهرة. قال ابن حجر: "وجمع في اللغة كتابًا سماه: لسان العرب، جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح والجمهرة، جوَّده ما شاء ورتبه ترتيب الصحاح، وهو كبير"، وفيه تشيع بلا رفض، ومات رحمه الله سنة (711 هـ).

ينظر: معجم الشيوخ الكبير (2/ 288) للذهبي، ت: محمد الهيلة، مكتبة الصديق الطائف، ط 1، 1408 هـ، الدرر الكامنة (6/ 15).

(3)

لسان العرب (14/ 258)(دعا).

(4)

أوصلها صاحب كتاب الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية إلى عشرين تعاريفًا ينظر: (44 - 47).

(5)

مجموع الفتاوى (15/ 157 - 158).

(6)

الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية (49).

ص: 42

الإسلام إلى الناس كافة أفرادًا أو جماعات، في كل زمان ومكان، بالقول أو الفعل، مقتفين في ذلك أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متأسّين به، سالكين لذلك طرقًا مشروعة مخصوصة

(1)

.

والمتأمل في هذه التعريفات: يجد أن التعريف الأول ركز على محتوى الدعوة بشيء من التفصيل، والتعريف الثاني والثالث تطرقا إلى محتوى الدعوة بإجمال، وكذلك من يقوم بالدعوة وفق المنهج القويم؛ لأن الدعوة منظومة متكاملة تقوم على تبليغ دين الإسلام إلى الناس كافة، ومن يقوم بهذه المهمة العظيمة من الدعاة المؤهلين، وذلك وفق المنهج القويم؛ ولذا أرى أن هذه التعاريف من أشمل ما عُرِّفت به الدعوة في الاصطلاح، والله أعلم.

ومما سبق ذكره يمكن أن يقال: إن مقصود الدراسة (بيان الأثر الحاصل من تحقيق الداعية لأعمال القلوب في نفسه وعلى دعوته، وكذلك ما يحصل من آثار سلبية لإهمال أعمال القلوب على الداعية والدعوة).

‌المسألة الثانية: فضائل الدعوة:

وللدعوة فضائل كثيرة أذكر منها على سبيل المثال:

•‌

‌ الدعوة إلى الله هي الغاية من إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام:

إنَّ المتتبع لقصص الرسل عليهم الصلاة والسلام التي ذكرها الله في كتابه يجد أنهم كلهم دعوا أقوامهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده دون سواه، فقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]،

(1)

ينظر: الثبات على دين الله (1/ 404) للدكتور الأمين الصادق، دار ابن الجوزي، الرياض، ط 2، 1431 هـ.

ص: 43

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].

قال ابن القيم رحمه الله في بيان الغاية من إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام: "فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبع لهم، والله سبحانه وتعالى قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهكذا المبلغون عنه من أمته، لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم لهم. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ولو آية

(1)

، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثًا

(2)

، وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم.

جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه"

(3)

.

•‌

‌ الدعوة إلى الله تعالى من أسباب خيرية الأمة وفلاحها:

قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

(1)

قال صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة» . أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (4/ 170) ح (3461).

(2)

سيأتي لفظه وتخريجه.

(3)

جلاء الأفهام (415) لابن القيم، ت: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، دار العروبة الكويت، ط 2، 1407 هـ.

ص: 44

وفي الآيتين ذكر الله أن خيرية الأمة وفلاحها مرتبط بتحقيق الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

•‌

‌ الدعوة إلى الله من أسباب السلامة من الخسران في الدنيا والآخرة:

قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

وفي هذه السورة حدد الله أسباب النجاة من خسارة الدنيا والآخرة، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك.

•‌

‌ الدعوة من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله تعالى:

عن سهل بن سعد رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ

(1)

: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ، فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ، فَقَالَ:«أَيْنَ عَلِيٌّ؟» ، فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَبَصَقَ

(2)

فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ

(3)

حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ

(1)

وهي بلدة معروفة اليوم، تبعد عن المدينة 165 كلم شمالًا على طريق الشام، عرفت بهذا الاسم منذ أقدم العصور، وتشتمل على حصون ومزارع ونخل كثير، وقد فتحها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة سبع للهجرة.

ينظر: معجم البلدان (2/ 409) لياقوت الحموي، دار صادر بيروت، ط 2، 1995 م، ومعجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (118) لعاتق البلادي، دار مكة للنشر مكة، ط 1، 1402 هـ، والموسوعة الجغرافية على الشبكة.

(2)

البصق والبزق: هو التفل بالفم، ولا بد أن يكون معه شيء من الريق.

ينظر: لسان العرب (11/ 77) مادة (تفل).

(3)

أي: تأنَّ ولا تستعجل.

ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 223)، لسان العرب (11/ 282) مادة (رسل).

ص: 45

عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»

(1)

.

وهذا الحديث يدل على فضيلة الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هداية رجل واحد بدعوته إلى الإسلام والتوبة من الآثام خير من حمر النعم التي هي الإبل النفيسة، كما قال الإمام النووي في شرحه على هذا الحديث:"هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه"

(2)

.

‌المسألة الثالثة: فضائل الداعية:

ونصت الآيات والأحاديث على فضل الداعية إلى الله تعالى، ومن ذلك:

•‌

‌ أن الداعية إلى الله تعالى العامل بعلمه لا أحد أحسن قولًا منه

(3)

:

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فُصِّلَت: 33].

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب في فضل من أسلم على يديه رجل (4/ 60) ح (3009)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (4/ 1872) ح (2406).

(2)

شرح النووي على مسلم (15/ 178).

(3)

وفي سنن الترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (5/ 50) عن الفضيل بن عياض رحمه الله، يقول:"عالم عامل معلم يدعى كبيرًا في ملكوت السموات"، وسنن الترمذي، ت: أحمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة (جـ 4، 5)، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، ط 2، 1395 هـ.

ونقل ابن جرير رحمه الله في تفسيره عن الحسن البصري رحمه الله أنه تلا هذه الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته".

ينظر: تفسير الطبري (20/ 429).

ص: 46

وهذه الآية تدل على المكانة العظيمة للداعية إلى الله عند ربه سبحانه وتعالى.

•‌

‌ مكانة الداعية إلى الله تعالى على بصيرة:

قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

يقول السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} للناس: {هَذِهِ سَبِيلِي} أي: طريقي التي أدعو إليها، وهي السبيل الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته، المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره، وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} أي: أحث الخلق والعباد إلى الوصول إلى ربهم، وأرغبهم في ذلك وأرهبهم مما يبعدهم عنه.

ومع هذا فأنا {عَلَى بَصِيرَةٍ} من ديني، أي: على علم ويقين من غير شك ولا امتراء ولا مرية.

{و أَنَا} كذلك {مَنِ اتَّبَعَنِي} يدعو إلى الله كما أدعو على بصيرة من أمره.

{وَسُبْحَانَ اللَّهِ} عما نسب إليه مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله.

{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في جميع أموري، بل أعبد الله مخلصًا له الدين"

(1)

.

ولا شك أن اقتفاء منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله مع حصول بصيرة الداعية من أسباب فلاحه ونجاحه في دعوته، وتمكنه من تعليم الناس الخير، ومعرفته بأسباب التأثير في المدعوين، وسيأتي مزيد بيان لذلك

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (406).

(2)

ينظر: (485).

ص: 47

•‌

‌ الداعية إلى الله تعالى ينال من الأجور بقدر من انتفع بدعوته:

عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»

(1)

.

•‌

‌ أن من أعظم ما يدل على فضل الداعية إلى الله تعالى ما يحصل له من ثناء الله تعالى عليه، ودعاء غيره من المخلوقات له:

فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ»

(2)

.

وصلاة الله: ثناء على عبده في الملأ الأعلى، وصلاة غيره: دعاء واستغفار

(3)

.

يقول ابن القيم رحمه الله: "لما كان تعليمه للناس الخير سببًا لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله، بأن جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته وأهل الأرض ما يكون سببًا لنجاته وسعادته وفلاحه، وأيضًا فإن معلم الناس الخير لما كان مظهرًا لدين الرب وأحكامه، ومعرفًا لهم بأسمائه وصفاته، جعل الله من صلاته وصلاة أهل سمواته وأرضه عليه ما يكون تنويهًا به وتشريفًا له، وإظهارًا للثناء عليه بين

(1)

أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/ 2060) ح (2674).

(2)

أخرجه الترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (5/ 50) ح (2685) وقال:"حسن صحيح غريب"، وقال ابن القيم في جلاء الأفهام (472):"حديث حسن صحيح"، وقال الألباني: صحيح كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 776) ح (4213) طبعة المكتب الإسلامي، وحسّنه لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 144) ح (81) مكتَبة المَعارف لِلنَشْرِ والتوزيْع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1421 هـ، والحديث حسن بشواهده، والله أعلم.

(3)

قال أبو العالية في معنى صلاة الله، وصلاة الملائكة على النبي صلى الله عليه وسلم:"صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء". ينظر: صحيح البخاري (6/ 120). وفي فيض القدير لزين الدين المناوي القاهري، المكتبة التجارية الكبرى مصر، ط 1، 1356 هـ (4/ 432): "

ليصلون على معلم الناس الخير أي: يستغفرون لهم". وينظر أيضًا: تحفة الأحوذي (7/ 380).

ص: 48

أهل السماء والأرض"

(1)

.

•‌

‌ دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن يبلغ الناس حديثه بالنضرة والجمال والبهاء، والداعي إلى الله يناله نصيب من ذلك:

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»

(2)

.

قال الخطابي

(3)

رحمه الله في شرحه للحديث: "قوله: (نضر الله) معناه: الدعاء له بالنضارة، وهي النعمة والبهجة"

(4)

.

وقال المناوي

(5)

رحمه الله في شرح الحديث: "ومعناه: ألبسه النضرة وخلوص اللون، يعني: جمّله الله وزيّنه، أو معناه: أوصله الله إلى نضرة الجنة وهي نعيمها، قال تعالى:

(1)

مفتاح دار السعادة (1/ 63).

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (3/ 322) ح (3660) ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، والترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/ 33) ح (2656)، وابن ماجه في كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب من بلغ علمًا (1/ 84) ح (230) ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي،، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1145) ح (6763)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود، طبعة دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ (5/ 501) ح (3660):"إسناده صحيح".

(3)

أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي، قال الإمام أبو المظفر بن السمعانى: قد كان من العلم بمكان عظيم، وهو إمام من أئمة السنة صالح للاقتداء به والإصدار عنه. كان إمامًا في الفقه والحديث واللغة، له التصانيف البديعة منها: غريب الحديث، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود، وكتاب إصلاح غلط المحدثين، وغير ذلك. توفي رحمه الله سنة (388 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (2/ 214)، وسير أعلام النبلاء (17/ 23)، وطبقات الشافعية الكبرى (3/ 282)، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (2/ 1005).

(4)

معالم السنن (4/ 187) للخطابي، المطبعة العلمية حلب، ط 1، 1351 هـ.

(5)

عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين، المناوي القاهري الشافعي، شارح الجامع الصغير شرحه شرحًا بسيطًا وشرحا مختصرًا، وشرح الشهاب، وشرح آداب القضاء وطبقات الصوفية وغير ذلك، يتأول في الصفات على طريقة الأشاعرة، وله اهتمام بالطرق الصوفية، وتوفي رحمه الله سنة (1031 هـ).

ينظر: البدر الطالع (1/ 357)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (2/ 1221).

ص: 49

{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطفِّفين: 24]، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 23]، {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] "

(1)

.

•‌

‌ المكانة العالية للعلماء الدعاة؛ لأنهم ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

فعن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»

(2)

.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه للحديث السابق: "العلماء هم ورثة الأنبياء، ورِثوا العلمَ من الأنبياء، وورَّثوا العمل كما يعمل الأنبياء، وورثوا الدعوة إلى الله

(1)

فيض القدير (6/ 284).

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم (3/ 317) ح (3641)، والترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (5/ 48) ح (2682)، وابن ماجه في كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (1/ 81) ح (223)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1079)(6297 - 2117) وحسنه في مشكاة المصابيح (1/ 74)(212)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (5/ 485) ح (3641) وسنن ابن ماجه دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ (1/ 151) ح (223):"حسن بشواهده"، وهذا هو الصحيح؛ لأن في سنده ضعفًا ينجبر بالشواهد، فيصير الحديث حسنًا، والله أعلم.

ص: 50

-عز وجل، وورثوا هداية الخلق ودلالتهم على شريعة الله"

(1)

.

(1)

شرح رياض الصالحين (5/ 443) لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار الوطن للنشر، الرياض 1426 هـ.

ص: 51

‌الباب الأول:

أعمال القلوب: مكانتها، تأثرها وأثرها

من خلال نصوص الكتاب والسنة،

وموقف السلف والمخالفين منها، وأسباب صلاحها.

الفصل الأول: أعمال القلوب: مكانتها، تأثرها وأثرها.

الفصل الثاني: أعمال القلوب بين السلف والمخالفين لهم.

الفصل الثالث: أسباب صلاح القلب.

ص: 52

‌الفصل الأول:

أعمال القلوب: مكانتها، تأثرها وأثرها

المبحث الأول: مكانة أعمال القلوب في الكتاب والسنة.

المبحث الثاني: النصوص من الكتاب والسنة في بيان تأثر عمل القلب بما يعمل صاحبه، وإثبات أثر عمله.

ص: 53

المبحث الأول:

مكانة أعمال القلوب في الكتاب والسنة

المطلب الأول: نصوص القرآن الكريم في بيان مكانة أعمال القلوب:

الفرع الأول: مكانة أعمال القلوب التي يحبها الله.

الفرع الثاني: خطر أعمال القلوب التي يبغضها الله.

المطلب الثاني: نصوص السنة النبوية في بيان مكانة أعمال القلوب.

ص: 54

‌المبحث الأول:

مكانة أعمال القلوب في الكتاب والسنة

‌توطئة:

لأعمال القلوب مكانة عظيمة وأهمية عالية، تحدث عنها ابن القيم، فقال رحمه الله: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح

ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان"

(1)

.

وأعمال القلوب هي الأصل، وهي فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، من تركها بالكلية فهو إما كافر أو منافق، وأعمال الجوارح تابعة ومتممة لأعمال القلوب، فلا تتم إلا بها

(2)

.

وسيتضح من خلال هذا المبحث مكانة أعمال القلوب من خلال اهتمام الكتاب والسنة بها، والتفصيل في ذكر أحوال القلوب

(3)

.

(1)

بدائع الفوائد (3/ 192 - 193) لابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت.

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 184 - 185)، بدائع الفوائد (3/ 187 - 188).

(3)

ينظر في أحوال القلوب: أعمال القلوب د. سهل العتيبي (103 - 115) من مطبوعات عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود، 1426 هـ.

ص: 55

وإن مما ينبغي التنبيه عليه أن الكثير من هذه الأعمال القلبية التي ستذكر في هذا المبحث سترد -إن شاء الله- في أثناء البحث بشيء من التفصيل.

وإن مما يدل على مكانة أعمال القلوب وأهميتها العظيمة عند الله تعالى إعتناء القرآن الكريم بالحديث عنها في كثير من آياته، وذلك بالثناء على المتصفين بأعمال القلوب التي يحبها الله، وبيان ما رتب سبحانه وتعالى على ذلك من جزيل الثواب وعظيم العطايا في الدنيا والآخرة، وفي المقابل جاء التحذير من أعمال القلوب التي لا يحب الله من عبده أن يتصف بها، وذكر سبحانه وتعالى ما رتب على ذلك من عقوبات إنذارًا وتحذيرًا، وهذا أوان الشروع في ذلك.

‌المطلب الأول: نصوص القرآن الكريم في بيان مكانة أعمال القلوب:

‌الفرع الأول: مكانة أعمال القلوب التي يحبها الله:

مما يدل على مكانة أعمال القلوب التي يحبها الله وأهميتها العظيمة عنده أنه أثنى في كتابه على المؤمنين المتصفين بها، وجعل لهم المنازل العظيمة، وسعادة الدنيا والآخرة، ودونك طرفًا من ذلك:

‌1 - القلب السليم هو الذي ينفع صاحبَه يوم القيامة، حين لا ينفع مال ولا بنون:

قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]. قال السعدي رحمه الله: "والقلب السليم معناه: الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر، والإصرار على البدعة والذنوب، ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين، ومحبة الخير وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله، وهواه تابعًا لما جاء عن الله"

(1)

.

(1)

تفسير السعدي (593).

ص: 56

‌2 - ومما يدل على مكانة عمل القلب: أن تعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب:

قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

فتعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب، وأضاف التقوى في الآية إلى القلب لأن حقيقة التقوى فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّات. والمعظم لشعائر الله يبرهن على تقواه وصدق إيمانه

(1)

، وهذا يدل على أهمية عمل القلوب وأثرها على حياة العبد، فإذا حقق العبد التقوى ظهر عليه تعظيمه لشعائر الله تعالى في سره وجهره.

‌3 - ومما يدل كذلك على مكانة عمل القلب وأهميته: أن الإيمان مرتبط به، بل إن عمل القلب هو الأصل:

قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22].

وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].

وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه؛ ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب

(1)

ينظر: تفسير القرطبي (12/ 56)، تفسير السعدي (538).

ص: 57

ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق

(1)

وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل"

(2)

.

‌4 - ولما كان لعمل القلب عظيم المكانة عند الله جعله على رأس صفات عباده الصالحين في أكثر من موضع في كتابه، ومن ذلك:

أ) قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

فجعل الله سبحانه وتعالى على رأس صفات المؤمنين في أول سورة الأنفال وجلَ قلوبهم عند ذكره تعالى.

ووجل القلوب هو خوفها من الله العظيم سبحانه وتعالى؛ لأنها تعرفه حق المعرفة، وتؤمن بجلاله وعظمته، فإذا ذُكِر الله أو ذُكّرت به خافت منه، فأحدث لها ذلك خشية الله والانكفاف عن المعاصي، والمسارعة إلى الطاعات، وهذا من أعظم العلامات الدالة على الإيمان الحق، وخوف العبد من ربه

(3)

، وتظهر هذه المقامات العظيمة أهمية عمل القلب، وأثره على إيمان العبد.

(1)

الإيمان المطلق هو: الإيمان الكامل الذي أتى صاحبه بما يستطيع من الواجبات واجتنب كل المحرمات، وعكسه مطلق الإيمان وهو الإيمان الناقص الذي وقع صاحبه في الذنوب غير المكفرة، ويسمى صاحبه الفاسق الملي، فيقولون عنه: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

ينظر: العقيدة الواسطية (114) لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: أشرف بن عبد المقصود، أضواء السلف الرياض، ط 2، 1420 هـ، شرح الطحاوية (2/ 495) لابن أبي العز الحنفي، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 10، 1417 هـ، الإيمان والرد على أهل البدع (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام، الجزء الثاني)(ص 4) لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1 بمصر، 1349 هـ، النشرة الثالثة، 1412 هـ.

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 644).

(3)

ينظر: تفسير الطبري (11/ 27 - 28)، تفسير ابن كثير (4/ 11)، تفسير السعدي (315).

ص: 58

ب) قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2].

فجعل الله سبحانه وتعالى على رأس صفات المؤمنين في أول سورة المؤمنون الخشوع في صلاتهم.

نقل الطبري رحمه الله عن الحسن

(1)

في معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، قال:"كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفضوا به الجناح"

(2)

.

أي: جعلوا أبصارهم في موضع سجودهم، واستحضروا عظمة الوقوف بين يدي الله، فخفضوا الجناح له من هيبته في قلوبهم

(3)

.

وقال ابن كثير

(4)

رحمه الله:

(1)

الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي، كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه. وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان العباد. ولد بالمدينة، وكانت أمه خيرة مولاة لأم سلمة فكانت تذهب لمولاتها في حاجة وتشاغله أم سلمة بثديها، فربما در عليه، وتوفي عليه رحمة الله سنة (110 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 563)، الوافي بالوفيات (12/ 190) للصفدي، ت: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث بيروت، 1420 هـ، الأعلام للزركلي (2/ 226).

(2)

تفسير الطبري (17/ 8).

(3)

ونقل ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 125) رقم (7245) ت: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد الرياض، ط 1، 1409 هـ عن مجاهد رحمه الله قال:"كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع"، قال مجاهد: وحدثت أن أبا بكر كان كذلك.

(4)

الإمام العلامة، الحافظ الكبير، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي، المحدث المفتي البارع فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر، وكان رحمه الله جيد الحفظ والفهم، مستقل الرأي، يدور مع الدليل حيث دار ولا يتعصب لمذهب، وكان يستحضر كثيرًا من التفسير والتاريخ، قليل النسيان، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، له مؤلفات كثيرة كالتفسير والبداية والنهاية وجامع المسانيد والسنن وغير ذلك، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة (774 هـ).

ينظر: الدرر الكامنة (1/ 445)، شذرات الذهب (1/ 67)، موسوعة مواقف السلف (8/ 374).

ص: 59

"والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين

(1)

"

(2)

.

‌5 - ومما يدل على مكانة عمل القلب: أن الله جعل للمؤمنين جنة معجلة في الدنيا قبل جنة الآخرة، وهي ما يجدونه من طمأنينة القلوب التي هي من آثار ذكر الله وتلاوة كتابه وتدبره والعمل به.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

ومن العلامات الدالة على الإيمان أن القلوب تأنس بذكر الله وتلاوة كتابه، وتسعد وتفرح وتتلذذ بذلك، فيزول عنها قلقها واضطرابها

(3)

، ولا يجد ذلك إلا من أقبل على إصلاح قلبه وطهّره من أسباب فساده.

(1)

يشير بذلك إلى حديثي النبي صلى الله عليه وسلم:

الأول: «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا» . أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة (4/ 296) ح (4985)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1307) ح (7892)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 338) ح (4985)"إسناده صحيح".

والثاني: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» . أخرجه أحمد (21/ 433) ح (14037) في المسند، ت: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرين، إشراف: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 هـ، والنسائي في سننه ت: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط 2، 1406 هـ، في كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (7/ 61) ح (3940)، والحاكم في المستدرك في كتاب النكاح (2/ 174) ح (2676) وصححه ووافقه الذهبي، والمستدرك على الصحيحين للحاكم، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1411 هـ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 599) ح (3124).

(2)

تفسير ابن كثير (5/ 461 - 462).

ونقل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/ 28) عن مجاهد رحمه الله قوله في معنى الآية: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]: "غض البصر وخفض الجناح، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن أن يشذ بصره، أو أن يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا".

(3)

ينظر: تفسير السعدي (417).

ص: 60

‌6 - من آثار صدق الإيمان في القلوب: زيادة الهدى والصبر والثبات:

قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 13، 14].

وهذا يدل على أهمية عمل القلب عند الشدائد، فإن الله بفضله ورحمته يزيد العبد -الصادق في إيمانه- هدى، ويربط على قلبه، فيثبته على الحق والصدع به، ولا يجعل قلبه يلتفت إلى زينة الحياة الدنيا وزخرفها، فيثبت على الحق، ويصبر على ما يلقاه في ذات الله.

‌7 - بشارة الله للمخبتين

(1)

بخير الدنيا والآخرة

(2)

، والإخبات ذلك العمل القلبي الذي يثمر وجل القلب عند ذكر الله، والصبر، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله:

قال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34، 35].

وقال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54].

(1)

وفي تفسير السعدي (538): "المخبت: الخاضع لربه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده".

(2)

ينظر: تفسير السعدي (538).

ص: 61

وسيأتي مزيد بيان في المبحث الآتي

(1)

.

‌8 - لقد نال أهلُ بيعة الرضوان تلك المنزلةَ العظيمة والمكانة العالية عند الله؛ لأنه سبحانه وتعالى اطَّلَعَ على قلوبهم، فعلم ما فيها من الصدق والإيمان والوفاء والبذل والتضحية:

قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].

قال ابن كثير الحافظ رحمه الله: "وقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ} وهي: الطمأنينة، {عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وهو: ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة"

(2)

.

‌9 - من أعمال القلوب العظيمة: خشية الله تعالى، ومما يدل على أهمية هذا العمل القلبي وروده في القرآن الكريم في مواضع متعددة،

منها:

أ) قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. فجعلها الله من أبرز صفات العلماء.

(1)

ينظر: (90).

(2)

تفسير ابن كثير (7/ 340).

ص: 62

قال ابن كثير رحمه الله: "أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر"

(1)

.

قال السعدي رحمه الله: "فكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] "

(2)

.

ب) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]. فأعد الله لمن يخشونه بالغيب -وبالأخص حينما لا يطلع عليهم أحد من الخلق- مغفرة وأجرًا كبيرًا.

قال السعدي رحمه الله: "أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطلع عليهم فيها إلا الله، فلا يقدمون على معاصيه، ولا يقصرون فيما أمر به. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم، وإذا غفر الله ذنوبهم وقاهم شرها، ووقاهم عذاب الجحيم، ولهم أجر كبير وهو ما أعده لهم في الجنة من النعيم المقيم، والملك الكبير، واللذات المتواصلات، والمشتهيات، والقصور والمنازل العاليات، والحور الحسان، والخدم والولدان، وأعظم من ذلك وأكبر رضا الرحمن الذي يحله الله على أهل الجنان"

(3)

.

(1)

تفسير ابن كثير (6/ 544).

(2)

تفسير السعدي (689).

(3)

تفسير السعدي (876).

ص: 63

ج) قوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]. فمن صفات من يخشون الله بالغيب إشفاقهم من الساعة، وذلك بخوف قلوبهم ووجلها.

قال السعدي رحمه الله: "فقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: يخشونه في حال غيبتهم، وعدم مشاهدة الناس لهم، فمع المشاهدة أولى، فيتورعون عما حرم، ويقومون بما ألزم، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أي: خائفون وجلون؛ لكمال معرفتهم بربهم، فجمعوا بين الإحسان والخوف"

(1)

.

ولهذا كانت العقوبة عظيمة تنخلع منها القلوب لمن ضعف في قلبه خشية الله بالغيب، فقال صلى الله عليه وسلم:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»

(2)

.

وإن مما يجعل القلب يخشى الله بالغيب: استحضار مراقبة الله له، واطلاعه عليه، وأن الله يسمعه ويراه، عليم بسره ونجواه، يقول تعالى:{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77]، وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ

(1)

تفسير السعدي (525).

(2)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب (2/ 1418) ح (4245)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، ت: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط 1، 1417 هـ، كتاب الحدود وغيرها، الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (3/ 170) ح (3534):"رواه ابن ماجه ورواته ثقات"، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه، ت: محمد الكشناوي، دار العربية بيروت، ط 2، 1403 هـ، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب (4/ 246) ح (1525):"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 591) ح (2346)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 317) ح (4245).

ص: 64

سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5].

د) قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

فيتأثر من يخشون الله عند تلاوة القرآن الكريم أو سماعه، بقشعريرة الجلود، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.

وهذه صفة أصحاب القلوب التي تخشى الله، فإذا تلوا كتاب الله أو سمعوا آياته أصابهم من خشيتهم لله ما تقشعر منه الجلود وتضطرب من الخوف من الله عند آيات الوعيد والتذكير بعظمة الله، فيخشع القلب وتدمع العين، ثم تلين وتسكن وترق عند آيات الرحمة، وكما قال تعالى عنهم عند سماع آيات القرآن الكريم:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]

(1)

.

وعن قتادة رحمه الله عند تفسيره لقول الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قال: "هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان

(2)

"

(3)

.

(1)

ينظر: تفسير القرطبي (12/ 59 - 60).

(2)

وهو يقصد بهذا ما حصل بعد جيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم من الغشي والصعق عند سماع آيات الوعد والوعيد.

(3)

تفسير البغوي (7/ 116)، تفسير ابن كثير (7/ 95).

ص: 65

‌10 - ويدل على أهمية عمل القلب وعظيم مكانته عند الله:

أنه ذكر سبحانه وتعالى في اثنتي عشرةَ آية أنه عليم بذات الصدور وهي القلوب

(1)

، وهذا يجعل المؤمن على خوف وحذر من أعمال القلوب التي لا يحبها الله؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء منها، وقد أحاط بها علمًا.

ودونَك بعض هذه الآيات التي تبين هذه الحقيقة العظيمة، التي متى ما رسخت في القلب أثمرت الخوف من الله، وخشيته في السر والعلن:

قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119].

وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5].

وقال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: 6].

وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4].

(1)

ينظر: تفسير البغوي (2/ 96، 3/ 26)، فتح القدير (4/ 519) للشوكاني، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، ط 1، 1414 هـ، تفسير السعدي (224).

ص: 66

قال الطبري رحمه الله: "والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشر وإيمان وكفر، لا يخفى عليه شيء من أمورهم، سرائرها وعلانيتها، وهو لجميع ذلك حافظ، حتى يجازي جميعهم جزاءهم على قدر استحقاقهم"

(1)

.

11 -

طهارة القلب وصلاحه من أسباب النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة:

قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].

ومما يدل على أهمية عمل القلب ما يستنبط من الآية الكريمة أن طهارة القلوب سبب للسلامة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة

(2)

، قال السعدي رحمه الله:"ودل على أن طهارة القلب سبب لكل خير، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد"

(3)

.

12 -

ولمكانة خشوع القلب لذكر الله تعالى وما نزل من الحق، فقد عاتب المؤمنين على عدم ذلك، وحذرهم من قسوة القلب:

قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

(1)

تفسير الطبري (6/ 170).

(2)

وهذا يكون بمفهوم المخالفة، وهو حجة عند جمهور أهل الأصول ما عدا الأحناف.

ينظر: روضة الناظر وجنة المناظر (2/ 114) لابن قدامة المقدسي، مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، 1423 هـ.

(3)

تفسير السعدي (232).

ص: 67

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] إلا أربع سنين"

(1)

.

وقال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "أي: ألم يجئ الوقت الذي تلين به قلوبهم وتخشع لذكر الله الذي هو القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟! وهذا فيه الحث على الاجتهاد على خشوع القلب لله تعالى، ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية والأحكام الشرعية كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك، {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتناطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك؛ فإن ذلك سبب لقسوة القلب وجمود العين"

(2)

.

‌الفرع الثاني: خطر أعمال القلوب التي يبغضها الله:

يدل على خطورة أعمال القلوب الفاسدة ما يترتب على آثارها من العقوبات الربانية، فقد جعل سبحانه وتعالى ما يحصل في القلوب من فساد وآفات وخلل سببًا لتلك العقوبات الربانية، وفي ذلك تحذير لأهل الإيمان؛ لأجل أن يتفقدوا قلوبهم، ويحرصوا على سلامتها من هذه الآفات، ودونك شيئًا من ذلك:

‌1 - ختم الله على قلوب الكافرين وطبع عليها بسبب كفرهم؛ عقوبةً لهم:

(1)

مسلم (4/ 2319).

(2)

تفسير السعدي (840).

ص: 68

قال تعالى عن الكافرين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7].

وذكر الله في أكثر من آية أنه طبع على القلوب بسبب الذنوب عقوبةً لأصحابها، ومن ذلك:

قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155].

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].

وفي هذه الآيات ذكر الله أنه طبع على القلوب بسبب نقض الميثاق مع الله، والكفر، وقتل الأنبياء، والكبر والتجبر، وما ذلك إلا عقوبة لهم على ذنوبهم، وهذا يدل على خطورة هذه الأمراض والآفات على القلوب.

‌2 - ومما يدل على خطورة أمراض القلوب: أن الله سبحانه وتعالى جعلها عقوبات لمن أعرض عنه،

وتنكب طريق الحق، وهذه أمثلة على ذلك:

• فقد عاقب الله المنافقين على مرض قلوبهم أن زادهم الله مرضًا، فاستولى مرض النفاق على قلوبهم، فقال تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10].

• وعاقب الله الذين ينقضون الميثاق بعدة عقوبات، ومن ضمنها جَعَلَ قلوبهم قاسية، فقال تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].

ص: 69

قال السعدي رحمه الله: " {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي: غليظة لا تجدي فيها المواعظ، ولا تنفعها الآيات والنذر، فلا يرغبهم تشويق، ولا يزعجهم تخويف، وهذا من أعظم العقوبات على العبد، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى، والخير إلا شرًّا"

(1)

.

• وعاقب الله من أعرض عن القرآن بأن لا يفهمه، ولا يصل إلى قلبه، ولا ينتفع بهداه:

قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 25، 26].

وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125].

وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57].

• وعاقب الله الكافرين بسبب زيغهم أن أزاغ قلوبهم:

(1)

تفسير السعدي (225).

ص: 70

قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

• وعاقب الله من أخلف وعده معه وكذب بمرض النفاق في قلبه:

قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77].

• وعاقب الله من أراد الدنيا بعمله الصالح أن يحبط عمله، ويرده عليه، ولا يقبله في الآخرة، وجعل له النار.

قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].

وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].

‌3 - ومما يدل على عظم خطورة الانحراف في عمل القلب على الأمة ما حدث ويحدث من فتن عظيمة بسبب زيغ القلوب التي تتَّبع المتشابه وتترك المحكم،

فقال تعالى عنهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].

ص: 71

وقد حذَّر صلى الله عليه وسلم منهم أمته، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ»

(1)

.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم"

(2)

.

وقال السعدي رحمه الله في تفسيره لآية آل عمران: "وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين، الذي لا يشتبه بغيره، ومنه آيات متشابهات، تحتمل بعض المعاني، ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها، حتى تضم إلى المحكم، فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف -لسوء قصدهم- يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة وآرائهم الزائفة، طلبًا للفتنة، وتحريفًا لكتابه، وتأويلًا له على مشاربهم ومذاهبهم ليَضِلوا ويُضِلوا.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] (6/ 33) ح (4547)، ومسلم في كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن (4/ 2053) ح (2665).

(2)

تفسير ابن كثير (2/ 8).

ص: 72

وأما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم، فأثمر لهم العمل والمعارف، فيعلمون أن القرآن كله من عند الله، وأن كله حق، محكمه ومتشابهه، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف.

فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان، يردون إليها المشتبه الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم وناقص المعرفة، فيردون المتشابه إلى المحكم، فيعود كله محكمًا، ويقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} للأمور النافعة والعلوم الصائبة، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: أهل العقول الرزينة. ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب، وأن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة والعقول الواهية والقصود السيئة"

(1)

.

‌4 - ومما يدل على خطر آفات القلوب أن مما صد القوم عن التوحيد وجعل قلوبهم تستنكره عدم إيمانهم بالآخرة،

ووجود آفة الكبر في قلوبهم:

قال تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22].

قال ابن جرير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى ذكره: معبودكم الذي يستحق عليكم العبادة وإفراد الطاعة له دون سائر الأشياء معبود واحد؛ لأنه لا تصلح العبادة إلا له، فأفردوا له الطاعة، وأخلصوا له العبادة، ولا تجعلوا معه شريكًا سواه، {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل: 22]، يقول تعالى ذكره: فالذين لا يصدقون بوعد الله ووعيده ولا يقرون بالمعاد إليه بعد الممات {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل: 22]، يقول تعالى ذكره: مستنكرة لما نقص عليهم من

(1)

تفسير السعدي (962).

ص: 73

قدرة الله وعظمته وجميل نعمه عليهم، وأن العبادة لا تصلح إلا له، والألوهة ليست لشيء غيره، يقول:{وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عن إفراد الله بالألوهة، والإقرار له بالوحدانية، اتباعًا منهم لما مضى عليه من الشرك بالله أسلافهم"

(1)

.

‌5 - ومن خطر أمراض القلوب: أن الشيطان يتسلط بالفتنة على أصحابها،

قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53].

‌المطلب الثاني: نصوص السنة النبوية في بيان مكانة أعمال القلوب:

إن مما يدل على المكانة العظيمة لأعمال القلوب كثرة ورودها في السنة بالحديث عن القلب وما يتعلق به من أعمال قلبية يحبها الله أو يبغضها، ونظرًا لكثرة الأحاديث في ذلك فإني أكتفي بذكر طرف منها، مع الإشارة إلى بيان الأهمية، والله الموفق والمعين:

1 -

إن من الدلائل العظيمة على مكانة عمل القلب أن صلاح الجوارح أو فسادها مرتبطٌ بصلاح القلب أو فساده:

يقول صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .

2 -

ويكفي في الدلالة على أهمية عمل القلوب أنها موطن نظر الرب سبحانه وتعالى:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»

(2)

.

3 -

إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء بتثبيت القلوب على الدين يدل على كثرة

(1)

تفسير ابن جرير (14/ 197).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، ودمه وعرضه وماله (4/ 1987) ح (2564).

ص: 74

تقلبها بسبب كثرة أمراضها، وهذا يجعل المؤمن مهتمًّا بالإكثار من هذا الدعاء؛ لخوفه على قلبه من التقلب، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ:«نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»

(1)

.

4 -

ومما يدل على أهمية عمل القلب أن أحد شرطي

(2)

قبول العمل إخلاص العبد لله رب العالمين: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (19/ 160) ح (12107)، والترمذي في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (4/ 448) ح (2140) وقال الترمذي:"هذا حديث حسن"، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/ 1260) ح (3834)، والحاكم في المستدرك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في كتاب التفسير، ومن سورة آل عمران (2/ 317) ح (3140)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 37) ح (102) للخطيب التبريزي، ت: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، ط 3، 1985 م، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (19/ 160) ح (12107):"إسناده قوي على شرط مسلم".

(2)

لا يقبل العمل إلا بشرطين: الإخلاص، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

أخرجه النسائي في كتاب الجهاد، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28) دار المعرفة بيروت، 1379 هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52) مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة: الأولى، وقال في صحيح سنن النسائي، مكتبة المعارف الرياض، ط 1، 1419 هـ، (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".

ص: 75

5 -

ودل على مكانة عمل القلب أن شروط لا إله إلا الله ارتبطت بأعمال القلوب، وهي لا تنفع قائلها في الآخرة إلا إذا حقق هذه الشروط، وهذه إشارة إلى ذلك:

أ) شهادة التوحيد مع إخلاص القلب بها سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّل مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» ، أَوْ:«نَفْسِهِ» .

ب) شهادة التوحيد مع يقين القلب بها سبب للبشارة بالجنة: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ»

(1)

.

ج) شهادة التوحيد مع علم القلب بمعناها ومقتضاها ولوازمها وصدقه فيها سبب لدخول الجنة: فعَنْ عُثْمَانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

(2)

، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 60) ح (31)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 55) ح (26)، من حديث عثمان رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أحمد (36/ 329) ح (22003)، من حديث أنس ومعاذ رضي الله عنهما، قال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (36/ 329) ح (22003):"إسناده صحيح على شرط الشيخين"، شعب الإيمان (1/ 97) ح (7)، مسند أبي يعلى الموصلي (6/ 10) ح (3228) ت: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث دمشق، ط 1، 1404 هـ، وقال محققه (6/ 10) ح (3228):"إسناده صحيح".

ص: 76

6 -

وكذلك يدل على عظم عمل القلب أن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، سبب حصولهم على ذلك ما وقر في قلوبهم من أعمال قلبية عظيمة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»

(1)

.

7 -

وتبرز مكانة عمل القلب وأثره في الحياة أن السعادة مرتبطة بتعلق القلب بالآخرة، فمن جعل همه الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، رزقه الله السعادة بالقناعة والرضا بما قسم الله له، وفتح له أبواب الرزق والبركة من حيث لا يحتسب، ومن جعل همه الدنيا ضاقت عليه الدنيا، وتشعبت همومه في أوديتها، وسيطر على قلبه الطمع في الدنيا، ونزع الله البركة منه: فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (1/ 133) ح (660)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (2/ 715) ح (1031).

(2)

أخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب .. (4/ 642) ح (2465)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 266) ح (11690) ت: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية القاهرة، ط 2، ويشمل القطعة التي نشرها لاحقا المحقق الشيخ حمدي السلفي من المجلد 13، دار الصميعي الرياض، ط 1، 1415 هـ، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (2/ 633) ح (949)، وصححه في صحيح الجامع (2/ 1109) ح (6505).

وأخرجه ابن ماجه بلفظ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا (2/ 1375) ح (4105)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 634) ح (950)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 227) ح (4105).

ص: 77

8 -

ومما يدل على مكانة عمل القلب أن حلاوة الإيمان ولذته وطعمه مرتبطة بتحقيق أعمال القلوب: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»

(1)

، ويَقُولُ صلى الله عليه وسلم:«ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»

(2)

.

9 -

ومما يشعر بأهمية عمل القلب وأثره العظيم أن الله جعل موطن التقوى في القلوب، وجعل أسبابها في عمله: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. الحديث.

10 -

ودل على مكانة عمل القلب مدحُ النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن وثناؤه عليهم برقة القلوب ولينها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ،

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر (9/ 20) ح (6941)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (1/ 66) ح (43).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا (1/ 62) ح (34)، من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

ص: 78

وَالفَخْرُ وَالخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الإِبِلِ، وَالسَّكِينَةُ وَالوَقَارُ فِي أَهْلِ الغَنَمِ»

(1)

.

11 -

ويدلُّ على أهمية تنقية القلب من أسباب الشقاء أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لرجل بالجنة، والسبب سلامة قلبه من الغش والحسد: فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عز وجل وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ:«يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن (5/ 173) ح (4388).

ص: 79

إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ

(1)

.

12 -

مما يدل على خطورة أعمال القلوب الفاسدة كالرياء والسمعة: أن أهلها أول من تسعر بهم النار، ولا ينفعهم ما قدموه من عمل:

دَخَلَ شُفيٌّ الأصبحي المَدِينَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحَقٍّ، وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثْنَا قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ

(1)

أخرجه أحمد (20/ 124) ح (12697)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب في كتاب الأدب (3/ 348) ح (4384):"رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي، ورواته احتج بهم أيضًا إلا شيخه سويد بن نصر، وهو ثقة"، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، طبعة دار ابن حزم بيروت، ط 1، 1426 هـ، مطبوع بهامش إحياء علوم الدين (1085):"رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين"، والهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب الأدب، باب في سلامة الصدر من الغش والحسد (8/ 78 - 79) ح (13048)، ت: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ، وقال:"ورجال أحمد رجال الصحيح"، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، ت: دار المشكاة للبحث العلمي، دار الوطن الرياض، ط 1، 1420 هـ (6/ 78) ح (5383):"هذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم"، وقال محقق المسند (20/ 125) ح (12697):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

ص: 80

مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ»، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» . وَقَالَ الوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَحَدَّثَنِي العَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ؟ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ، وَقُلْنَا: قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ، ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا

ص: 81

يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»

(2)

.

(1)

أخرجه الترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة (4/ 591) ح (2382)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"، وابن حبان في صحيحه، باب الإخلاص وأعمال السر، ذكر البيان بأن من راءى في عمله يكون في القيامة من أول من يدخل النار (2/ 136) ح (408) بترتيب: ابن بلبان، ت: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1408 هـ، والحاكم في المستدرك في كتاب الزكاة (1/ 579) ح (1527) وصححه وأقره الذهبي، وابن خزيمة في كتاب الزكاة، باب التغليظ في الصدقة مراءاة وسمعة .. (2/ 1188) ح (2482) ت: د. الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط 3، 1424 هـ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 114) ح (22)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان (2/ 137) ح (408).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (3/ 1513) ح (1905).

ص: 82

13 -

للإيمان أثر عظيم إذا خالطت حلاوته القلوب، فيفرح العبد به ويستبشر، ويكون ذلك من أسباب الثبات على الإيمان: فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ، لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ

(1)

.

14 -

الكبر من الآفات المفسدة للقلوب، والصادة لها عن الحق، ومن كان في قلبه شيء منه، ولو مثقال ذرة لا يدخل الجنة: فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ

(2)

، وَغَمْطُ النَّاسِ

(3)

»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (1/ 19) ح (51).

(2)

أي: يتكبر عن الحق ولا يقبله.

ينظر: تهذيب اللغة (13/ 229)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 135) مادة (بطر).

(3)

أي: احتقار الناس وازدراؤهم والاستهانة بهم.

ينظر: غريب الحديث لابن سلام (3/ 314) ت: د. محمد عبد المعيد خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، ط 1، 1384 هـ، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 387) مادة (غمط).

(4)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (1/ 93) ح (91).

ص: 83

المبحث الثاني:

النصوص من الكتاب والسنة في بيان أثر عمل القلب وتأثره.

المطلب الأول: من نصوص القرآن الكريم في إثبات أثر عمل القلب وتأثره.

المطلب الثاني: من نصوص السنة في في إثبات أثر عمل القلب.

ص: 84

‌المبحث الثاني:

النصوص من الكتاب والسنة في بيان أثر عمل القلب وتأثره

(1)

.

‌المطلب الأول: من نصوص القرآن الكريم في إثبات أثر عمل القلب وتأثره:

‌أولًا: ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة في إثبات أثر عمل القلب وتأثره بما يعمل صاحبه،

فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن قلوب المؤمنين يصيبها الوجل، وتطمئن بذكره، وأنها تخشع وتخضع لأمره، وذكر سبحانه وتعالى كذلك أثر عمل القلب في نزول السكينة على المؤمن في وقت الشدائد، والثبات على الحق، والنصر على الأعداء، وأثر عمل القلب على كلمة التوحيد، والنصوص في ذلك كثيرة، ودونك أمثلة على ذلك:

1 -

وجل القلب وخوفه من الله، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2]. وفيها إثبات أثر ذكر الله على القلب بحصول الوَجَل، ومعناه: الخوف من الله

(2)

، ولا شك أن الذكر لا يحدث أثره في حصول وجل القلب من الله تعالى إلا إذا تواطأ القلب مع الحواس.

2 -

طمأنينة القلب، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، دلت الآية على أثر ذكر الله على قلب المؤمن، فهو يأنس ويطيب ويسكن بذكر الله تعالى

(3)

.

(1)

ينظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (437 - 440) للدكتور سفر الحوالي، دار الحسن البصري، ط 1، 1438 هـ.

(2)

ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 425).

(3)

ينظر: تفسير الطبري (16/ 432) لمحمد بن جرير الطبري، ت: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة، ط 1، 1422 هـ.

ص: 85

ذكر ابن القيم رحمه الله في بيان المقصود بقوله تعالى: {بِذِكْرِ اللَّهِ} قولين:

"أحدهما: أنه ذكر العبد ربه، فإنه يطمئن إليه قلبه ويسكن، فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله

والقول الثاني: أن ذكر الله هاهنا القرآن، وهو ذكره الذي أنزله على رسوله، به طمأنينة قلوب المؤمنين، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن، فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه، والقرآن هو المحصل لليقين، الدافع للشكوك والظنون والأوهام، فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به. وهذا القول هو المختار"

(1)

.

ولا شك أن أعظم ما يطمئن به القلب القرآن العظيم، ثم يليه ما ورد في السنة من أذكار.

3 -

تثبيت الله للقلوب المؤمنة على الحق عند الشدائد، قال تعالى:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14]، وفي الآية بيان لأثر تثبيت الله لقلوب أصحاب الكهف على الحق، حيث ربط الله سبحانه وتعالى على قلوبهم، بمعنى: ثبتهم وصبرهم، وجعل قلوبهم مطمئنة في تلك الحال المزعجة، وهذا منّة منه سبحانه وتعالى ولطف بهم ورحمة، حيث ثبتهم وصبرهم على فراق قومهم، ومفارقة ما كانوا فيه من رغد العيش وكثرة النعم

(2)

، وهكذا تكون القلوب إذا اتصلت بالله وقربت منه، يذيقها الله في الدنيا جنة

(1)

مدارج السالكين (2/ 480) لابن القيم، ت: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي بيروت، ط 3، 1416 هـ.

(2)

ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 140)، تفسير السعدي (471).

ص: 86

معجلة قبل جنة الآخرة، تغنيها عن لذائذ الدنيا ومتعها، وسيأتي الإشارة إلى ذلك في أثناء البحث.

4 -

إخبات القلب، قال تعالى:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54]، أثبت سبحانه وتعالى للقلوب صفة الإخبات، وهو من أعمال القلوب ومعناه:"تخشع وتخضع، وتسلّم لحكمته، وهذا من هدايته إياهم"

(1)

.

والإخبات له أثره على العبد المؤمن في صلاحه واستقامته، كما قال تعالى:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34، 35].

وفي الآيتين دليل على أثر الإخبات -وهو عمل قلبي عظيم- في حصول الأمور الآتية:

- وجل القلب وخوفه من الله عند ذكره.

- الصبر على المصائب.

- إقامة الصلاة.

- الإنفاق في وجوه البر.

وهذا يدل على الأثر العظيم للإخبات في حياة العبد المؤمن.

5 -

نزول السكينة على القلب، قال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].

أي: علم سبحانه وتعالى ما في قلوبهم من الإيمان والوفاء والصدق والسمع والطاعة، فأنزل في

(1)

تفسير السعدي (542).

ص: 87

قلوبهم الطمأنينة، وأجرى على أيديهم الصلح الذي حصل به الخير العظيم من فتح خيبر ومكة، وما حصل من النصر والعزة والرفعة

(1)

.

‌ثانيًا: وإذا تقرر هذا في حق المؤمنين في بيان أثر أعمال القلوب عليهم،

وتأثر قلوبهم بما يعملون، فإن القرآن الكريم قد ذكر في مقابل ذلك حال الكفار وتأثر قلوبهم بما يعملون، وذكر سبحانه وتعالى كذلك أثر أمراض قلوبهم عليهم؛ من الختم والطبع، وما أصابها من مرض النفاق، والزيغ عن الحق، والقسوة

وقد جاءت آيات كثيرة في بيان ذلك، ودونك أمثلة عليه:

1 -

من عقوبة الله لأصحاب القلوب المريضة الختم على القلب، وزيغه عن الحق، فقال تعالى عن الكافرين:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7].

قال البغوي

(2)

رحمه الله في تفسيره لمعنى الختم على القلوب: "فقال: {خَتَمَ اللَّهُ}: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيرًا ولا تفهمه"

(3)

.

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 340)، وتفسير السعدي (793).

(2)

هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي، كان بحرًا في العلوم، وأخذ الفقه عن شيخ الشافعية القاضي حسين المروزي صاحب التعليقة، وكان سيدًا إمامًا عالِمًا علامة زاهدًا قانعًا باليسير، وبورك له في تصانيفه ورزق فيها القبول التام؛ لحسن قصده، وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها. ومنها: كتاب التهذيب في المذهب، وكتاب شرح السنة في الحديث، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم وغير ذلك. وله القدم الراسخ في التفسير والباع المديد في الفقه. توفي رحمه الله سنة (516 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (2/ 136)، وسير أعلام النبلاء (19/ 439)، وطبقات الشافعية الكبرى (7/ 75) للسبكي، ت: د. محمود الطناحي، ود. عبد الفتاح الحلو، دار هجر، ط 2، 1413 هـ.

(3)

تفسير البغوي (1/ 64 - 65).

ص: 88

وهذا الختم على القلوب عقوبة لهم بسبب منهم، قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

وقال السعدي

(1)

رحمه الله في بيان أثر الزيغ الذي حدث منهم على قلوبهم: " {فَلَمَّا زَاغُوا} أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم، {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى؛ لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي: الذين لم يزل الفسق وصفًا لهم، لا لهم قصد في الهدى. وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده، ليس ظلمًا منه، ولا حجة لهم عليه، وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه، وتقليب القلوب عقوبة لهم وعدلًا منه بهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] "

(2)

.

(1)

العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله، أبو عبد الله السعدي، واشتغل بالعلم منذ صغره، ففاق الأقران، وكانت له عناية كبيرة بكتب ابن تيمية ابن القيم، وكتب أخرى في التفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول وغيرها، وكان متواضعًا حسن الخلق، ومن قرأ كتبه عرف فضله وعلمه وعنايته بالدليل فرحمه الله رحمة واسعة. وللشيخ الكثير من المؤلفات، منها: الحق الواضح المبين في توحيد الأنبياء والمرسلين، وتوضيح الكافية الشافية لابن القيم، وكتابه في التفسير المسمى: تيسير الكريم الرحمن، الذي أبدى فيه عقيدته السلفية، وتوفي رحمه الله على إثر مرض أصابه في سنة (1376 هـ).

ينظر: الأعلام للزركلي (3/ 340)، موسوعة مواقف السلف (9/ 327).

(2)

تفسير السعدي (859).

ص: 89

2 -

خطر النفاق على القلب، قال تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، ذكر سبحانه وتعالى أن في قلوبهم مرض النفاق

(1)

، وزاده الله في قلوبهم عقوبة لهم، وفي ذلك بيان لأثر مرض النفاق على القلوب في فسادها وانحرافها.

3 -

الطبع على القلوب فلا تسمع الحق سماع الانتفاع به لنفورها من الحق وكرهها له، قال سبحانه وتعالى عنهم:{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 100، 101].

وهذا الطبع بمعنى الختم على القلب

(2)

، فلا يدخل إليه الحق، ولا يصل إليه الخير، ولا يسمع ما ينفعه إلا سماع ما تقوم به الحجة عليه

(3)

، وكل ذلك عقوبة لهم على ما حصل منهم من كره الحق والنفور منه.

4 -

من آثار النفاق على القلوب تقييدها عن الخير بما يحدث لها من التردد والتذبذب والشك والحيرة والكسل عن الطاعات وكرهها، قال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]. والريب هو الشك، وهو من أثر أمراض النفاق على القلوب، فيتولد منه أثره على

(1)

ينظر: تفسير الطبري (1/ 289)، تفسير ابن كثير (1/ 179).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (10/ 334)، تفسير ابن كثير (3/ 451).

(3)

ينظر: تفسير السعدي (298).

ص: 90

القلب بالتردد والتذبذب والكسل عن الطاعة وكرهها، فقال تعالى في بيان أثر النفاق على القلب:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143].

وقال تعالى عن المنافقين: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].

وقال تعالى في بيان أثر مرض النفاق على القلب وأن الله سبحانه وتعالى لا يمكِّن صاحبه من العمل، بل يقعده عنه عقوبةً له على ما في قلبه من مرض:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].

وإذا وجد العبد أنه يثبَّط عن الطاعات، ويحال بينه وبينها، فليفتِّش عن مرض في قلبه.

5 -

من آثار الشرك وعدم الإيمان بالآخرة على القلب إنكاره للتوحيد

(1)

، ووقوعه في آفة الكبر التي صدته عن عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى في بيان أثر ذلك على القلب:{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22].

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 565)، تفسير السعدي (437).

ص: 91

6 -

حجب أثر القرآن الكريم عن القلب، فلا ينتفع بمواعظه، بل يحال بينه وبين تأثير القرآن عليه بسبب كفره ورده للحق، كما قال تعالى:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45، 46].

قال السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى عن عقوبته للمكذبين بالحق الذين ردوه وأعرضوا عنه أنه يحول بينهم وبين الإيمان، فقال: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الذي فيه الوعظ والتذكير والهدى والإيمان والخير والعلم الكثير، {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} يسترهم عن فهمه حقيقة، وعن التحقق بحقائقه والانقياد إلى ما يدعو إليه من الخير، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي: أغطية وأغشية لا يفقهون معها القرآن، بل يسمعونه سماعًا تقوم به عليهم الحجة، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي: صممًا عن سماعه، {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ} داعيًا لتوحيده ناهيًا عن الشرك به، {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} من شدة بغضهم له ومحبتهم لما هم عليه من الباطل، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] "

(1)

.

(1)

تفسير السعدي (459).

ص: 92

7 -

قال الله تعالى في أثر الغفلة على القلب: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2، 3].

وصف الله سبحانه وتعالى قلوبهم بأنها غافلة معرضة، فقد اشتغلت الأبدان باللعب والقلوب باللهو بمطالب الدنيا، واشتغلوا بتناول الشهوات المحرمة، والعمل بالباطل، والأقوال الردية

(1)

.

8 -

مرض قلب العبد بالشبهات والشهوات بسببه يضرب القلب بالقسوة، ويتسلط عليه الشيطان، ويتمكن من فتنة العبد، قال تعالى:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53].

9 -

عمى القلوب الذي يجعلها غافلة عن الآخرة، ولا تنتفع بمواعظ القرآن، ولا بغيره من باب أولى، قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال الله تعالى:{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63].

قال الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "ولكن {قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ}: عمى عن هذا القرآن. وعني بالغمرة: ما غمر قلوبهم فغطاها عن فهم ما أودع الله كتابه من المواعظ والعبر والحجج"

(2)

.

(1)

ينظر: تفسير السعدي (518).

(2)

تفسير الطبري (17/ 74).

ص: 93

10 -

حمية الجاهلية وأثرها على القلب في صده عن الحق، قال تعالى:{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26].

والحمية هي الأنفة والعصبية التي حالت بينهم وبين الحق.

وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم عن البيت حتى لا تقول عنهم العرب: إنهم قتلوا أبناءهم ودخلوا مكة قاهرين لهم.

ومن حمية الجاهلية لم يقروا بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم، وأنكروا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك هي حمية الجاهلية التي انطوت عليها قلوبهم

(1)

.

11 -

أثر الذنوب على القلب في تغطيته وحجبه عن رؤية الحق، كما في قول الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14].

أثبت الله تعالى أن الذنوب تغطي على القلوب، فتحجبها عن رؤية الحق فلا تقبله.

كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ

(2)

فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ

(3)

قَلْبُهُ، وَإِنْ

(1)

ينظر: تفسير البغوي (7/ 321)، تفسير القرطبي (16/ 289)، تفسير السعدي (794).

(2)

أي نُقِطَ نقطة في قلبه.

ينظر: الصحاح (1/ 269)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 114) لابن الأثير، ت: طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية بيروت، 1399 هـ. مادة (نكت).

(3)

وفي أكثر روايات الحديث: "صُقِلَ" بالصاد، والسقل والصقل بمعنى واحد، أي: جلاه ونظفه وصفاه وذهب عنه أثر الذنب.

ينظر: الصحاح (5/ 1744) مادة (صقل)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1622) لعلي القاري، دار الفكر، بيروت ط 1، 1422 هـ، تحفة الأحوذي (9/ 178) للمباركفوري، دار الكتب العلمية بيروت.

ص: 94

عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14]»

(1)

.

فإذا غطت الذنوب القلب عمي عن رؤية الحق وانطمست بصيرته، كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

12 -

يعاقب الله المتكبر الجبار بالطبع على قلبه عقوبة له، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].

13 -

بشر الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين بأنه يعاقب الكافرين بإلقاء الرعب في قلوبهم، فيصيبهم الخوف من المؤمنين الصادقين والهزيمة، وذلك من أثر الشرك والكفر على قلوبهم

(2)

، فقال تعالى:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].

وغير ذلك من الآيات الكثيرة في بيان أثر عمل القلب وتأثره.

(1)

أخرجه أحمد (13/ 333) ح (7952)، والترمذي واللفظ له، في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] (5/ 434) ح (3334) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في سننه في كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب (2/ 1418) ح (4244)، وابن حبان في صحيحه في باب الأدعية، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من تعقيب الاستغفار كل عثرة (3/ 210) ح (930)، الحاكم في مستدركه، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1411 هـ، في كتاب التفسير، تفسير سورة المطففين (2/ 562) ح (3908) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 271) ح (1620)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (13/ 334) ح (7952):"إسناده قوي".

(2)

ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 132).

ص: 95

‌المطلب الثاني: من نصوص السنة في إثبات أثر عمل القلب:

وقد ورد في السنة ما يبين تأثر عمل القلب بما يعمل صاحبه، وإثبات أثره عليه، ومن ذلك:

‌1 - أثر عمل القلب على صلاح الجسد أو فساده،

ويدل عليه ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .

وفي الحديث إشارة -كما يقول ابن رجب

(1)

رحمه الله: "إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإذا كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقٍ للشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات.

وإن كان القلب فاسدًا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب"

(2)

.

(1)

الإمام العلامة الزاهد القدوة الحافظ العمدة الثقة الحجة، واعظ المسلمين مفيد المحدثين، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي، صنف التصانيف المفيدة منها: شرح البخاري بلغ فيه إلى كتاب الجنائز، وله شرح على الترمذي، وذيل على كتاب طبقات الحنابلة، وغير ذلك، ومات عليه رحمة الله سنة (795 هـ).

ينظر: الرد الوافر (106) لابن ناصر الدين، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت، ط 1، 1393 هـ، الدرر الكامنة (3/ 108)، البدر الطالع (1/ 328).

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 210) لابن رجب الحنبلي، ت: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 7، 1422 هـ.

ص: 96

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له

(1)

لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ودليله ومعلوله"

(2)

.

‌2 - ارتباط التقوى بعمل القلب،

يقول صلى الله عليه وسلم: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

وذكر النووي

(3)

في شرحه للحديث أن التقوى إنما تحصل بما في القلب من الأعمال، فيقول رحمه الله:"إن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته"

(4)

.

‌3 - ومما يدل على خطر أثر عمل القلب عليه أنه يتقلب كثيرًا بسبب الفتن

؛ ولذا لا بد من سؤال الله تعالى ثبات القلب على الدين، وأن يكثر من هذا الدعاء في ليله ونهاره، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه

(1)

الضمير يعود إلى الله تعالى.

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 541).

(3)

الإمام الحافظ محيي الدين يحيى بن شرف، أبو زكريا النووي، ذو التصانيف النافعة. ولد بقرية نوى من أعمال دمشق بالشام، حفظ القرآن وقد ناهز الاحتلام، ومن مؤلفاته رحمه الله: شرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين، والمجموع شرح المهذب، والأذكار، وروضة الطالبين وغيرها، وقد كتب الله لمؤلفاته القبول، ونفع بها نفعًا عظيمًا. وأول النووي رحمه الله بعض الصفات لا سيما الفعلية منها، وفوض معناها، ونسب هذا القول إلى جمهور السلف، وخاصة في شرحه على صحيح مسلم؛ لذلك قال الذهبي: إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت، وإمراراها كما جاءت، وربما تأول قليلًا في شرح مسلم. وقال السخاوي: وصرح اليافعي والتاج السبكي رحمهما الله أنه أشعري. وتوفي رحمه الله سنة (676 هـ).

ينظر: تاريخ الإسلام (15/ 324) للذهبي، ت: د. بشير عواد، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2003 م، الأعلام (8/ 149)، موسوعة مواقف السلف (7/ 403). والصحيح أن الإمام النووي ليس من الأشاعرة لأنه لا يوافقهم في كل أصولهم.

(4)

شرح النووي على مسلم (16/ 121).

ص: 97

قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ:«نَعَمْ؛ إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» .

والحديث يدل على خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من تقلب القلوب، فكيف بمن عداهم؟!

‌4 - أثر الفتن على القلب،

فعن حذيفة رضي الله عنه، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا

(1)

كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»

(2)

.

وفي هذا الحديث دليل على خطر الفتن على القلوب، وأنه ينبغي على الداعية أن يحذر على قلبه من فتن الشبهات والشهوات، ويحرص على سلامة قلبه من آثار الفتن بالحذر منها، والبعد عن مواطنها، ومحاسبة نفسه ومجاهدتها، والحرص على ملازمة الإيمان والتقوى، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ

(1)

مربادًّا من الرُبدَةِ: لَوْنٌ يميل إلى الغُبْرَة، وهو لون يخالط سواده كدرة غير حسنة.

ينظر: الصحاح (2/ 472)، مقاييس اللغة (2/ 475) مادة (ربد).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين (1/ 128) ح (144).

ص: 98

كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].

قال ابن القيم رحمه الله في شرحه لحديث حذيفة السابق: "فشبَّه عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدانِ الحصير -وهي طاقاتها

(1)

- شيئًا فشيئًا، وقسَّم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين:

قلب إذا عُرضت عليه فتنة أُشْرِبها، كما يشرب السِّفِنْج الماء، فتُنكَت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يُشرب كل فتنة تعرض عليه، حتى يسودّ وينتكس، وهو معنى قوله: «كالكوز

(2)

مُجَخِّيًا» أي: مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسودَّ وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان

(3)

إلى الهلاك:

أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم فيه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلًا والباطل حقًّا.

الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له.

وقلب أبيض، قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وكرهَها، فازداد نوره وإشراقه وقوَّته.

والفتن التي تُعرَض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن

(1)

جمع طاقة ويقصد بها هنا الحزمة من أعواد الحصير، كما في المعجم الاشتقاقي المؤصل للدكتور محمد حسن جبل، مكتبة الآداب القاهرة، ط 1، 2010 م (3/ 1340). والطاقة: حُزْمة من رَيحان أو زَهر أو شَعر أو عِيدان أو حِبال.

(2)

وهو إناء يشرب فيه مثل الكُوب، ولكن له عروة يمسك بها.

ينظر في معنى الكوز: تهذيب اللغة (10/ 175)، المخصص (3/ 199) لابن سيده، ت: خليل جفال، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط 1، 1417 هـ، لسان العرب (5/ 403) مادة (كوز).

(3)

بمعنى: يصيران ويفضيان به إلى الهلاك. ينظر: لسان العرب (14/ 336) مادة (رمى).

ص: 99

الشبهات، وفتن الغي والضلال، وفتن المعاصي والبدع، وفتن الظلم والجهل؛ فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد"

(1)

.

‌5 - أثر عمل القلب على كلمة التوحيد،

وذلك أنها لا تنفع قائلها حتى يحقق شروطها من الإخلاص والصدق واليقين والعلم، كما نصت على ذلك الأحاديث الآتية:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّل مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» ، أَوْ:«نَفْسِهِ»

(2)

.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» .

وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» .

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»

(3)

.

وهذه الأحاديث تدل على أثر أعمال القلب على قول: لا إله إلا الله، وأنها لا تنفع قائلها إلا إذا حقق عمل القلب بالإخلاص في قولها، واليقين الذي ينافي الشك، والعلم الذي ينافي الجهل بمعناها وشروطها وأركانها، وبلوازمها ومقتضياتها، والصدق الذي ينافي الكذب في قولها.

(1)

إغاثة اللهفان (1/ 15 - 16) لابن القيم، ت: محمد الفقي، مكتبة المعارف الرياض.

(2)

أخرجه البخاري كتاب العلم، باب الحرص على الحديث (1/ 31) ح (99).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم؛ كراهية أن لا يفهموا (1/ 37) ح (128).

ص: 100

‌6 - وعن ثوبان رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا

(1)

»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ

(2)

، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ:«حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»

(3)

.

وفي هذا الحديث دلالة على أثر عمل القلب على الأمة في مجموعها، إذا غلب عليها تعلق القلوب بحب الدنيا وكراهية الموت في سبيل الله، فعند ذلك يقل قدرها وهيبتها في أعين عدوها، وصار العدو يدعو بعضه بعضًا لحرب الأمة، مثلما يُدْعَى الناس إلى الطعام، لا مشقة في ذلك ولا كلفة بل فيه اللذة.

وذلك مع كثرة الأمة إلا أنها لا رصيد لها في الواقع، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبب ذلك في الحديث:«حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» حثًّا للأمة على علاج الخلل، والله المستعان.

‌7 - في بيان أثر مرض الكبر على القلب،

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ

(1)

الأَكَلَة: جمع آكِل والمراد من يأكل الطعام. ينظر: المفردات في غريب القرآن (81) لسان العرب (11/ 19) مادة (أكل).

والقصعة: إناء الطعام الضخم الذي يشبع عشرة. ينظر: لسان العرب (8/ 274) مادة (قصع).

(2)

غثاء السيل: ما يحمله السيل من رغوة وورق الشجر ووسخ ومن فتات الأشياء التي يجدها في مجراه.

ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 343)، لسان العرب (15/ 116)، المعجم الوسيط (2/ 645) مادة (غثا).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (37/ 82) ح (22397)، وأبو داود واللفظ له في كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام (4/ 111) ح (4297)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ مقارب في كتاب الفتن، باب تداعي الأمم (7/ 287) ح (12244) وقال:"رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، وإسناد أحمد جيد"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 648) ح (958)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (37/ 82) ح (22397).

ص: 101

رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» .

وفي الحديث دليل على أثر آفة الكبر على من تلبس بها، وهو من أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم ما يصد القلوب عن الهدى.

ص: 102

‌الفصل الثاني:

أعمال القلوب بين السلف والمخالفين لهم

المبحث الأول: مجمل معتقد أهل السنة والجماعة في أعمال القلوب.

المبحث الثاني: مجمل قول المخالفين لأهل السنة والجماعة في أعمال القلوب.

المبحث الثالث: مجمل الرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة في أعمال القلوب.

ص: 103

‌توطئة:

إن مما منّ الله به على أهل السنة والجماعة وضوحَ المنهج وثباتَه وصفاءَ المعتقد؛ لاعتصامهم بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، ويظهر ذلك في مسألة أعمال القلوب وارتباطها بالإيمان، فهم يعتقدون أن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، وأنها الأصل، وأعمال الجوارح تبع لها ولا تصح بدونها.

وعلى هذا فسيكون الحديث في هذا الفصل -إن شاء الله تعالى- عن مجمل معتقد أهل السنة والجماعة في أعمال القلوب، وكذلك مجمل معتقد المخالفين لهم في مسألة دخول أعمال القلوب في مسمى الإيمان، ومن ثَمَّ الرد على هذه الفرق المخالفة برد إجمالي، وبالله التوفيق.

ص: 104

‌المبحث الأول:

مجمل معتقد أهل السنة والجماعة في أعمال القلوب

فيما يلي خلاصةُ عقيدة أهل السنة والجماعة في أعمال القلوب وعلاقتها بالإيمان، وذلك وفق المسائل التالية:

‌المسألة الأولى: الأدلة على أن الإيمان قول وعمل:

أهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، وهي قول القلب وعمله.

وجاءت نصوص الكتاب والسنة دالة على أن الإيمان قول وعمل، ومن ذلك:

الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

وفي هذه الآية الكريمة جعل الله سبحانه وتعالى الدين في عمل القلب وعمل الجوارح، فشملت القول والعمل، روى الإمام اللالكائي

(1)

عن الإمام البخاري

(2)

-رحمهما

(1)

هبة الله بن الحسن بن منصور الرازي أبو القاسم الحافظ المجود، المفتي الشافعي اللالكائي. عني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك، وله شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو من أكبر مصادر عقيدة السلف، وغير ذلك، وتوفي رحمه الله سنة (418 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (16/ 108) للخطيب البغدادي، ت: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي بيروت، ط 1، 1422 هـ، سير أعلام النبلاء (17/ 419)، البداية والنهاية (15/ 618)، موسوعة مواقف السلف (6/ 60).

(2)

شيخ الإسلام وإمام الحفاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي مولاهم البخاري صاحب الصحيح والتصانيف، وكان رأسًا في الذكاء، رأسًا في العلم، ورأسًا في الورع والعبادة، وقد رحل في طلب العلم إلى سائر محدثي الأمصار، وقال ابن خزيمة:"ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري"، وألف كتابه الصحيح، والتاريخ، وله كتب تعتبر من الأجزاء، منها: الأدب المفرد، وخلق أفعال العباد وغير ذلك، وتوفي رحمه الله سنة (256 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (2/ 322)، تذكرة الحفاظ (2/ 104) للذهبي دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419 هـ، البداية والنهاية (14/ 526).

ص: 105

الله- أنه لقي أكثر من ألف رجل كلهم يقول: الدين قول وعمل، ويستدل بهذه الآية

(1)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير لهذه الآية الكريمة: "وقد استدل كثير من الأئمة -كالزهري

(2)

والشافعي

(3)

- بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان"

(4)

.

(1)

ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 195) للالكائي، ت: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة السعودية، ط 8، 1423 هـ، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 47).

(2)

محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري أبو بكر القرشي المدني. سكن الشام، وكان بأيلة، ويقولون تارة: الزهري، وتارة: ابن شهاب، ينسبونه إلى جد جده، وهو أحد الفقهاء والمحدثين، وأعلام التابعين بالمدينة، رأى عشرة من الصحابة رضوان الله عليهم، وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة، وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه. مات رحمه الله سنة (124 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (4/ 177)، سير أعلام النبلاء (5/ 326)، الأعلام (7/ 97).

(3)

الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس القرشي المطلبي، وقال أحمد بن حنبل: ما أحد مس بيده محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في رقبته منة. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف؟! أو عنهما من عوض؟! كانت وفاته بمصر سنة (204 هـ) عليه رحمة الله.

ينظر: تاريخ بغداد (2/ 56)، وفيات الأعيان (4/ 163)، سير أعلام النبلاء (10/ 5)، البداية والنهاية (10/ 251).

(4)

تفسير ابن كثير (8/ 457).

ص: 106

الدليل الثاني: قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

استدل الإمام الآجُرِّيُّ

(1)

رحمه الله بهذه الآية على فرضية الإيمان باللسان

(2)

.

ولكن هذا القول باللسان يستلزم أن يكون القلب متواطئًا مع اللسان ليترتب عليه الثواب والجزاء؛ لأن نطق اللسان بدون اعتقاد القلب نفاقٌ وكفر، وقول اللسان الخالي من عمل القلب عديم الفائدة قليل النفع، وإن العبد يؤجر عليه إذا كان خيرًا ومعه أصل الإيمان، ولكن الفرق كبير بين قول مجرد وقول حضر معه القلب

(3)

، والله أعلم.

الدليل الثالث: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41].

استدل الإمام ابن بطة

(4)

رحمه الله بهذه الآية على عمل القلب فقال: "وقال:

(1)

الإمام، المحدث، القدوة، شيخ الحرم الشريف، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجُرِّي، له الكثير من المؤلفات، منها: كتاب الشريعة في السنة، وهو من أعظم المصادر السلفية التي غاظت المبتدعة، وكتاب الرؤية، وكتاب أخلاق العلماء، وغير ذلك، وتوفي رحمه الله سنة (360 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (3/ 35)، البداية والنهاية (15/ 330)، سير أعلام النبلاء (16/ 133)، موسوعة مواقف السلف (5/ 208).

(2)

ينظر: الشريعة للآجري (2/ 612) ت: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن الرياض السعودية، ط 2، 1420 هـ.

(3)

ينظر: تفسير السعدي (67).

(4)

الإمام، القدوة، العابد، الفقيه، المحدث، شيخ العراق، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري الحنبلي، ابن بطة، مصنف كتاب الإبانة الكبرى، ويعتبر من أكبر مصادر العقيدة السلفية، وله فيه تعليقات بأسلوب رصين متين، وتوفي رحمه الله سنة (387 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (12/ 100)، سير أعلام النبلاء (16/ 529)، موسوعة مواقف السلف (5/ 373).

ص: 107

{قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} فذلك ما فرضه على القلب من الإقرار والمعرفة والتصديق، وهو رأس الإيمان وهو عمله، وفرض على اللسان القول والتعبير عن القلب، وما عقد عليه وأقر به"

(1)

.

الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 82]، وذكر الله ذلك في مواضع كثيرة من كتابه.

وذكر الإمام الآجري كلامًا متينًا معلّقًا على هذه الآيات الكثيرة التي جمعت بين الإيمان والعمل، فقال رحمه الله: "اعلموا -رحمنا الله وإياكم يا أهل القرآن، ويا أهل العلم، ويا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله تعالى في الدين بعلم الحلال والحرام- أنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله تعالى؛ علمتم أن الله تعالى أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله العمل، وأنه تعالى لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم، وأنهم قد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار، إلا الإيمان والعمل الصالح، وقرن مع الإيمان العمل الصالح، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم إليه العمل الصالح الذي قد وفقهم له، فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقًا بقلبه، وناطقًا بلسانه، وعاملًا بجوارحه.

لا يخفى على من تدبر القرآن وتصفحه، وجده كما ذكرت، واعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- أني قد تصفَّحت القرآن، فوجدت فيه ما ذكرته في ستة وخمسين موضعًا من كتاب الله عز وجل

(2)

، أن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم، وبما وفَّقهم له من الإيمان به والعمل الصالح"

(3)

.

(1)

الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 766) ت: رضا معطي، وعثمان الأثيوبي، ويوسف الوابل، والوليد بن سيف النصر، وحمد التويجري، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض.

(2)

وقد سردها رحمه الله في كتابه الشريعة (2/ 621 - 631).

(3)

الشريعة للآجري (2/ 618).

ص: 108

الدليل الخامس: قَالَ أَبَو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»

(1)

.

قال الآجري رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث: "فهذا الإيمان باللسان نطقا فرضًا واجبًا، وأما الإيمان بما فرض على الجوارح تصديقًا بما آمن به القلب ونطق به اللسان فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} إلى قوله: {تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، في غير موضع من القرآن"

(2)

.

والأدلة في إثبات أن الإيمان قول وعمل كثيرة جدًّا، وليس من مقصود الدراسة التفصيل في ذلك

(3)

.

‌المسألة الثانية: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل:

يقول الإمام البخاري رحمه الله: "كتبتُ عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول"

(4)

.

وقد نقل الحافظ ابن عبد البر

(5)

رحمه الله الإجماع على ذلك، فقال: "أجمع أهل

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام (4/ 48) ح (2946)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله (1/ 52) ح (21).

(2)

الشريعة للآجري (2/ 613).

(3)

ينظر في هذه الأدلة في الإبانة الكبرى لابن بطة (760 - 808)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 911 - 912).

(4)

سبق نقله عن الإمام البخاري ص (102).

(5)

الإمام، العلامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، الأندلسي، القرطبي، المالكي، صاحب التصانيف الفائقة، وكان إمامًا دينًا، ثقة، متقنًا، علامة، متبحرًا، صاحب سنة واتباع، وكان في أصول الديانة على مذهب السلف، لم يدخل في علم الكلام، بل قفا آثار مشايخه رحمهم الله. له من المؤلفات الكثير منها: التمهيد، والاستذكار، والاستيعاب، وغيرها، وتوفي رحمه الله في سنة (463 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (7/ 66)، سير أعلام النبلاء (18/ 153)، موسوعة مواقف السلف (6/ 267).

ص: 109

الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل"

(1)

.

وورد عنهم أيضًا قولهم: الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

ونقل اللالكائي هذا القول عن الكثير من السلف، ومنهم: "أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم

(2)

قال: سألت أبي

(3)

وأبا زرعة

(4)

عن مذاهب أهل السنة في

(1)

التمهيد (9/ 238) لابن عبد البر، ت: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية المغرب، 1387 هـ.

(2)

عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي ابن أبي حاتم الحافظ الكبير ابن الحافظ الكبير، وكان من العبادة والزهادة والورع والحفظ والكرامات الكثيرة المشهورة على جانب كبير، له من المؤلفات: الجرح والتعديل، وهو من أجل الكتب المصنفة في هذا الشأن، وله التفسير الحافل الذي اشتمل على النقل الكامل، الذي يربي فيه على تفسير ابن جرير وغيره من المفسرين، وله كتاب الرد على الجهمية، وغير ذلك من المصنفات النافعة، وتوفي رحمه الله سنة (327 هـ).

ينظر: البداية والنهاية (15/ 113)، سير أعلام النبلاء (13/ 263)، موسوعة مواقف السلف (5/ 121).

(3)

الإمام، الحافظ، الناقد، شيخ المحدثين، أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الغطفاني، كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورًا بالعلم، مذكورًا بالفضل، بحر من بحور العلم، طوف البلاد، وبرع في المتن والإسناد، وجمع وصنف، وجرح وعدل، وصحح وعلل، وتوفي رحمه الله سنة (277 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (2/ 414)، سير أعلام النبلاء (13/ 247)، تهذيب التهذيب (9/ 31) لابن حجر، مطبعة دائرة المعارف النظامية الهند، ط 1، 1326 هـ.

(4)

الإمام، سيد الحفاظ، عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ: محدث الري، وكان إمامًا ربانيًّا، متقنًا، حافظًا، مكثرًا صادقًا، وكان من أكثر الناس تواضعًا، وقال عنه ابن حبان: وكان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة وترك الدنيا وما فيه الناس، وتوفي رحمه الله سنة (264 هـ).

ينظر: الثقات لابن حبان (8/ 407) طبع بإعانة: وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، تحت مراقبة: الدكتور محمد عبد المعيد خان مدير دائرة المعارف العثمانية، دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، ط 1، 1393 هـ، تاريخ بغداد (12/ 33)، سير أعلام النبلاء (13/ 65).

ص: 110

أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك، فقالا:"أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"

(1)

.

ومنهم من يقول: الإيمان قول وعمل ونية.

قال الشافعي رحمه الله: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر"

(2)

.

ومنهم من يقول: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية

(3)

.

وهذه العبارات معناها عند السلف واحد، فهي تدل على حقيقة الإيمان وماهيّته الظاهرة والباطنة

(4)

.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله تنوع أقوال السلف في تفسير الإيمان، وقال: إنها كلها صحيحة

(5)

.

ثم ذكر خلاصة مهمَّة في سبب ذلك التنوع، وبين أن المقصود منها الرد على

(1)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 198).

(2)

نقله اللالكائي عن كتاب الأم في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 956)، ونقله كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/ 209)، ولم أجده في كتاب الأم المطبوع.

(3)

ينظر: الشريعة للآجري (2/ 611)، الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 760).

(4)

ينظر: الخراسانية في شرح عقيدة الرازيين (70) لعبد العزيز الطريفي، مكتبة دار المنهاج الرياض، ط 1، 1437 هـ.

(5)

ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 170).

ص: 111

المرجئة، فيقول رحمه الله: "والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية، فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة؛ فلأن ذلك كله لا يكون محبوبًا لله إلا باتباع السنة. وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعًا من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولًا فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل. والذين جعلوه أربعة أقسام، فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري

(1)

عن الإيمان: ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولًا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولًا وعملًا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولًا وعملًا ونية بلا سنة فهو بدعة

(2)

"

(3)

.

‌المسألة الثالثة: مسمَّى الإيمان عند السلف يشمل أربعة أمور

(4)

:

قول القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، وعلى هذا بنى السلف

(1)

سهل بن عبد الله بن يونس أبو محمد التستري الصوفي الزاهد، له كلمات نافعة ومواعظ حسنة وافق فيها ما عليه السلف، وقد ثنى عليه العلماء، قال الذهبي: شيخ العارفين، وكان من مشايخ الصوفية الذين يحرصون على الحديث والسنة، لا كمشايخ عصرنا الْجَهَلة البَطَلة الأكَلَة الكسلة كما ذكر عنه الذهبي، توفي رحمه الله سنة (283 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (2/ 429)، سير أعلام النبلاء (13/ 330)، تاريخ الإسلام (21/ 187).

(2)

نقله عنه في الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 814).

(3)

مجموع الفتاوى (7/ 171).

(4)

ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 672)، عدة الصابرين (109) لابن القيم، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، ط 3، 1409 هـ، لوامع الأنوار البهية (1/ 406) للسفاريني، مؤسسة الخافقين ومكتبتها دمشق، ط 2، 1402 هـ، التوضيح والبيان لشجرة الإيمان (11) للسعدي، مكتبة أضواء السلف الرياض، ط 1، 1419 هـ، معارج القبول بشرح سلم الوصول (2/ 588) لحافظ الحكمي، ت: عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم الدمام، ط 1، 1410 هـ.

ص: 112

معتقدهم في أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهو عندهم يشمل ما يلي:

الأول: قول القلب، قال عنه شيخ الإسلام:"فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم "

(1)

.

الثاني: عمل القلب، يشمل:"حب الله ورسوله وتعظيم الله ورسوله وتعزير الرسول وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال، فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة للمعلول"

(2)

.

الثالث: قول اللسان ويندرج فيه عمله، يشمل:"النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والإقرار بلوازمها"

(3)

. والعمل الذي يكون به من تلاوة، وذكر، ودعاء، واستغفار، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله ونحو ذلك.

الرابع: عمل الجوارح، يشمل: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد في سبيل الله ونحو ذلك.

‌المسألة الرابعة: الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه:

ومن الأمور التي تدل على تأثير عمل القلب مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، فكلما قوي عمل القلب زاد الإيمان، وإذا ضعف عمل القلب نقص الإيمان، ولا ينفي هذا أثر أعمال الجوارح في زيادة الإيمان ونقصانه؛ لارتباط الظاهر بالباطن.

ولقد توافرت الأدلة على إثبات زيادة الإيمان ونقصانه، ومنها:

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 672).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 672).

(3)

معارج القبول (2/ 589).

ص: 113

الدليل الأول: قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].

وفي الآية إثبات صريح أن المؤمنين إذا تُلِيت عليهم آيات الكتاب العزيز زاد إيمانهم، وذلك بسبب -كما قال السعدي رحمه الله:"أنهم يلقون له السمع، ويحضرون قلوبهم لتدبره، فعند ذلك يزيد إيمانهم؛ لأن التدبر من أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبيِّن لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكَّرون ما كانوا نَسوه، أو يُحدِث في قلوبهم رغبةً في الخير، واشتياقًا إلى كرامة ربهم، أو وجلًا من العقوبات، وازدجارًا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان"

(1)

.

الدليل الثاني: قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

قيل للإمام سفيان بن عيينة

(2)

رحمه الله: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: "أليس تقرءون القرآن: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} في غير موضع؟!، قيل: ينقص؟ قال: "ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص"

(3)

.

الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76].

قال العلامة السعدي رحمه الله: "وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه، كما

(1)

تفسير السعدي (315).

(2)

الإمام الكبير، حافظ العصر، شيخ الإسلام سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، طلب الحديث وهو حدث، بل غلام، ولقي الكبار، وحمل عنهم علمًا جمًّا، وأتقن، وجود، وجمع، وصنف، وعمر دهرًا، وازدحم الخلق عليه، وانتهى إليه علو الإسناد، ورحل إليه من البلاد. قال الخطيب البغدادي عنه: فأما سفيان فكان له في العلم قدر كبير، ومحل خطير، أدرك نيفًا وثمانين نفسًا من التابعين، وتوفي رحمه الله سنة (198 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (10/ 244)، سير أعلام النبلاء (8/ 454)، الأعلام (3/ 105).

(3)

الشريعة للآجري (2/ 605)، الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 850).

ص: 114

قاله السلف الصالح"

(1)

.

الدليل الرابع: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»

(2)

.

دل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص من جهة كونه فيه تفاضل بين ما هو أقوى وأضعف، فالدرجة الأولى من إنكار المنكر تدل على زيادة الإيمان، وتليها الثانية، والدرجة الثالثة تدل على ضعف الإيمان ونقصه، والله أعلم.

الدليل الخامس: حديث الشفاعة الطويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ -أَوْ: خَرْدَلَةٍ- مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ"

(3)

.

(1)

تفسير السعدي (499).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب التوحيد، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، (1/ 69) ح (49).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (9/ 147) ح (7510)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 182) ح (193).

ص: 115

وقال الإمام النووي رحمه الله في شرحه على مسلم: "وقوله صلى الله عليه وسلم: «أدنى أدنى أدنى» هكذا هو في الأصول مكرر ثلاث مرات، وفي هذا الحديث دلالة لمذهب السلف وأهل السنة ومن وافقهم من المتكلمين في أن الإيمان يزيد وينقص، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة"

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص"

(2)

.

وقد أجمع أئمة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص

(3)

.

(1)

شرح مسلم للنووي (3/ 63).

(2)

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 182).

(3)

وممن ذكر الإجماع ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 832)، وابن عبد البر في التمهيد (9/ 238)، والبغوي في شرح السنة (1/ 38 - 39) لأبي محمد الفراء البغوي، ت: شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي دمشق بيروت، ط 2، 1403 هـ، وابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/ 672)، وابن كثير في تفسيره (1/ 165).

ص: 116

‌المبحث الثاني:

مجمل قول المخالفين لأهل السنة والجماعة في أعمال القلوب

الذين خالفوا أهل السنة والجماعة في مسألة مسمى الإيمان وإدخال أعمال القلوب فيه أو عدم إدخالها ينقسمون إلى عدة أقسام، من أبرزها:

‌أولًا: الخوارج

(1)

والمعتزلة

(2)

:

يرون أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولكنهم يخالفون أهل السنة بكونهم يرون أن الإيمان شيء واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، وعلى هذا فإذا ذهب بعضه ذهب كله، فهو لا يزيد ولا ينقص

(3)

.

(1)

الخوارج من أول الفرق ظهورًا في تاريخ الإسلام، وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قضية التحكيم، ويقولون بتكفير مرتكب الكبيرة، وفي الآخرة هو مخلد في النار، ومن سماتهم البارزة الخروج على أئمة المسلمين وجماعتهم.

ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 112) لأبي الحسن الأشعري، ت: نعيم زرزور، المكتبة العصرية، ط 1، 1426 هـ، الملل والنحل (1/ 114) للشهرستاني، مؤسسة الحلبي، الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 90) لابن حزم، مكتبة الخانجي القاهرة، الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام (28) لناصر العقل، دار إشبيليا الرياض، ط 1، 1419 هـ.

(2)

المعتزلة أتباع واصل بن عطاء الغزَّال، سمي هو وأصحابه بالمعتزلة؛ لأنه اعتزل مجلس الحسن البصري عندما سئل عن حكم صاحب الكبيرة، فقال واصل بأنه ليس بمؤمن ولا كافر، وسلكت المعتزلة منهجًا عقليًّا في تقرير العقيدة، وهم فرق كثيرة، لكل فرقة آراء تميزت بها، لكن اتفقوا على أصول خمسة هي: التوحيد، والعدل والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهم تفسيراتهم المنحرفة لهذه الأصول.

ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 130)، والفرق بين الفرق (93) لأبي منصور البغدادي، دار الآفاق الجديدة بيروت، ط 2، 1977 م، والملل والنحل (1/ 43)، سير أعلام النبلاء (5/ 464)، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 64) للندوة العالمية للشباب الإسلامي، إشراف د. مانع الجهني، من مطبوعات دار الندوة العالمية، ط 4، 1420 هـ.

(3)

ينظر: شرح الاصول الخمسة (707 - 708) للقاضي عبد الجبار، ت: الدكتور عبد الكريم عثمان، مكتبة القاهرة، ط 3، 1416 هـ، مجموع الفتاوى (7/ 223، 511)، الخراسانية في شرح عقيدة الرازيين (129).

ص: 117

‌ثانيًا: المرجئة

(1)

: ويندرج تحتها العديد من الفرق، منها:

‌1 - الجهمية

(2)

: وهم غلاة المرجئة، والإيمان عندهم هو معرفة القلب، وأخرجوا منه تصديق القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، ولا يزيد ولا ينقص

(3)

.

‌2 - الأشاعرة

(4)

، والماتريدية

(5)

: يرون أن الإيمان هو التصديق القلبي، وأن

(1)

المرجئة: يطلق هذا الاسم على فرق متعددة، كلها ترى عدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان.

واختلفوا في سبب التسمية فقيل: الإرجاء بمعنى التأخير، أي: تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، وقيل: من الرجاء؛ لأنهم يغلّبون جانب الرجاء فيقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما أنه لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل غير ذلك.

ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 114 وما بعدها)، الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 88)، الملل والنحل (1/ 139)، ظاهرة الإرجاء (318).

(2)

الجهمية: هم المعطلة نفاة الصفات، سموا بالجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان، وقد صار لقبًا على معطلة الصفات عمومًا، باعتبار أن الجهمية هي أول من قالت بنفي الصفات.

ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 114)، الفرق بين الفرق (199)، الملل والنحل (1/ 86 - 87)، وينظر أيضًا إلى حاشية محقق كتاب الاعتقاد لابن أبي يعلى (46) ت: محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار أطلس الخضراء، ط 1، 1423 هـ.

(3)

ينظر: الملل والنحل (1/ 88)، مقالات الإسلاميين (1/ 114)، مجموع الفتاوى (7/ 508).

(4)

الأشاعرة فرقة كلامية، نسبة إلى أبي الحسن الأشعري الذي خرج على المعتزلة، اتخذت الأشاعرة البراهين والدلائل العقلية والكلامية وسيلة في محاججة خصومها من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية، فأوقعها ذلك في الانحراف عن عقيدة السلف، وهي تعد من فرق المرجئة في مسائل الإيمان.

ينظر: الملل والنحل (1/ 94)، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 83)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 1217) د. عبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد الرياض، ط 1، 1451 هـ.

(5)

الماتريدية: فرقة كلامية، تُنسب إلى أبي منصور الماتريدي، قامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاججة خصومها من المعتزلة والجهمية وغيرهم؛ لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية، ولأجل ذلك وقعوا كالأشاعرة في الانحراف عن عقيدة السلف، وهم تعد كسابقتها من فرق المرجئة في مسائل الإيمان.

ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 510)، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 95).

ص: 118

أعمال الجوارح غير داخلة فيه، ولا يزيد ولا ينقص

(1)

.

قال شيخ الإسلام عن قول الأشاعرة في الإيمان: "وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولهذا عدَّهم أهل المقالات من المرجئة، والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث: إن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه"

(2)

(3)

.

وقد استقر المذهب الأشعري على رأي الجهمية في هذه المسألة

(4)

، وعليه جمهور الماتريدية

(5)

أيضًا.

‌3 - الكرامية

(6)

: يرون أن الإيمان هو القول باللسان فقط، وأخرجوا منه

(1)

ينظر: التمهيد للباقلاني (389) ت: عماد أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، ط 1، 1407 هـ، الإرشاد (397، 399) للجويني، ت: د. محمد يوسف موسى، مكتبة الخانجي مصر، 1369 هـ، المواقف (3/ 537 - 543) للإيجي، ت: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل بيروت، ط 1، 1977 م.

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 509).

(3)

منهم أبو العباس القلانسي وأبو علي الثقفي، وأبو عبد الله بن مجاهد، ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 119).

(4)

ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 1217)، أعمال القلوب د. سهل العتيبي (2/ 787).

(5)

ينظر: شرح العقائد النسفية (153 - 159) للتفتازاني، أعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى بغداد، والماتريدية دراسة وتقويمًا (453 وما بعدها، 463 وما بعدها) لأحمد بن عوض الله الحربي، دار العاصمة، ط 1، 1413 هـ.

(6)

الكرامية: أصحاب محمد بن كرام السجستاني، قال صاحب الملل والنحل:"وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة .. ولكل واحدة منهم رأي إلا أنه لم يصدر ذلك عن علماء معتبرين" الملل والنحل (1/ 108، 113)، ووصفهم بقلة العلم وكثرة الجهل.

وقولهم في الإيمان شاذ، قال عنهم شيخ الإسلام في رده على قولهم: إن المنافق مؤمن في الدنيا: "إلا عند طائفة من المرجئة وهم الكرامية الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق في الظاهر، فإذا فعل ذلك كان مؤمنًا وإن كان مكذبًا في الباطن، وسلموا أنه معذب مخلد في الآخرة، فنازعوا في اسمه لا في حكمه، ومن الناس من يحكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، ومع هذا فتسميتهم له مؤمنًا بدعة ابتدعوها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية دون سائر مقالاتهم" مجموع الفتاوى (7/ 475 - 476). وينظر كذلك: مقالات الإسلاميين (1/ 120 - 121).

ص: 119

اعتقاد القلب وعمله وعمل الجوارح، وأنه لا يزيد ولا ينقص

(1)

.

‌4 - مرجئة الفقهاء

(2)

: وهم أخف فرق الأرجاء، ويرون أن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان والأعمال ليست داخلة فيه، بل هي من لوازمه أو ثمراته، ولا يزيد ولا ينقص

(3)

.

‌ثالثًا: الصوفية

(4)

: وهي تيار خليط من عدة فرق، لكن يبرز لديهم الاهتمام

(1)

ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 120 - 121)، الملل والنحل (1/ 113).

(2)

ينسب إرجاء الفقهاء إلى حماد بن أبي سليمان الكوفي، وهو من تلاميذ الإمام إبراهيم النخعي، وقد أنكر قول تلميذه وتبرأ منه، لكن حماد بن أبي سليمان خالف سلف الأمة؛ واتبعه من اتبعه، ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة ومن بعدهم، وأنكر حماد ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه. وقد دخل في هذا الإرجاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولم يكفِّرهم أحد من السلف، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال؛ لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي؛ لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم النخعي رحمه الله:"لَفتنتهم -يعني المرجئة- أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة"، وقال الزهري رحمه الله:"ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه" يعني الإرجاء.

والذي حصل هو أن مذهب مرجئة الفقهاء مهَّد لرأي جهم، ثم جاء المرجئة المتكلمون كالأشعري والماتريدي، فجعلوه عقيدة أكثر طوائف الأمة.

ينظر: الإبانة الكبرى (2/ 885)، مجموع الفتاوى (7/ 394 - 395، 507)، ظاهرة الإرجاء (312).

(3)

ينظر: متن الطحاوية بتعليق الألباني (62)، المكتب الإسلامي بيروت، ط 2، 1414 هـ، مجموع الفتاوى (7/ 194).

(4)

هي: "حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعاتٍ فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقًا مميزة معروفة باسم الصوفية، ويتوخّى المتصوفة تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة، لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة. ويلاحظ أن هناك فروقًا جوهرية بين مفهومي الزهد والتصوف أهمها: أن الزهد مأمور به، والتصوف جنوح عن طريق الحق الذي اختطَّه أهل السنة والجماعة".

ينظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 249).

ص: 120

الكبير بأعمال القلوب، وتسميتها أحوالًا ومقامات وتفصيل دقائقها، ولكنهم ضلوا عن المنهج القويم في فهم هذه الأعمال بسبب بعدهم عن الكتاب والسنة وفهم السلف، وبسبب كذلك تأثرهم بصوفية الهند واليونان وقعوا في خلل عظيم في أعمال القلوب.

وهذه شواهد على هذه الانحرافات من كتاب ظاهرة الأرجاء: "فمن ذلك ضلالهم في الرضا -الجامع للانقياد والقبول- فقد خرجوا فيه عما كان عليه السلف إلى معنى فلسفي وثنيٍّ، هو الرضا المطلق بكل ما في الوجود لأنه من إرادة الله وقدره، حتى اعتقدوا وجوب الرضا بالكفر والفسوق والعصيان، ووقعوا في الجبر المحض تحت ستار ما أسموه شهادة الحقيقة الكونية والاستبصار بسر الله في القدر

(1)

.

وضلوا في الرجاء والمحبة: حيث افتعلوا بينهما تناقضًا، فاحتقروا الرجاء واعتبروه أضعف مقامات المريدين، وغلوا في المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا

(1)

أي: النظر في القدر دون الشرع: وذلك بالنظر إلى الحقيقة الكونية دون الحقيقة الشرعية (أمر الله ونهيه)، والوقوع في الجبرية المحضة، وهذا مخالفٌ للحس والعقل، فإن الإنسان بحسه يعرف ما يضره وما ينفعه، وهذا داخل في الحقيقة الشرعية الدينية، وكذلك مخالف عقلًا، فإنه إذا عومل أحدهم بموجب مذهبه بأن يُضرب أو يُجاع، فإن لام من فعل به ذلك فقد نقض قوله، وقيل له: هذا فعلٌ مقضيٌّ مقدور، فإن كان القدر حجةً له أيضًا، وإلا فليس بحجةٍ لك ولا له.

ينظر: شرح الرسالة التدمرية، للدكتور محمد الخميس (478 - 479) دار أطلس الخضراء، طبعة 1425 هـ.

ص: 121

همهم -بزعمهم- عبادة الله لذاته، لا طمعًا في جنته ولا خوفًا من ناره، وجعلوا ذروة المحبة الفناء

(1)

في المحبوب؛ ولهذا قال فيهم السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق

(2)

. وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول

(3)

والوحدة

(4)

عياذًا بالله.

ومن الناحية العملية وضعوا قاعدة: (المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب)، واتخذوها ذريعة للتنصل من التعبدات التي تشغلهم عن المحبوب -بزعمهم- كالاشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه ونشر دعوته بين العالمين.

وضلوا في التوكل فجعلوه سلبية مطلقة، وتواكلًا رخيصًا، وتسولًا للمعطين، وتعمدًا لإلحاق الضرر بالنفس، وتركًا للأسباب المشروعة، بل تركًا لأعظم التعبدات

(1)

والفناء عند الصوفية هو فناء عن وجود ما سوى الله، وبهذا يصير المخلوق هو عين الخالق، وهو قول أهل وحدة الوجود، وأن كل موجود هو الله.

ينظر: مجموع الفتاوى (2/ 343)، عقيدة الصوفية وحدة الوجود الخفية (64) للدكتور أحمد القصير، مكتبة الرشد، ط 1، 2424 هـ.

(2)

نسبه في إحياء علوم الدين (4/ 166) إلى مكحول الدمشقي، ونقله ابن تيمية في عدة مواضع من كتبه عن بعض السلف، ولم يصرح باسم قائله، ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 81، 207، 11/ 390، 15/ 21).

والزنديق: مرادف للمنافق في عصر النبوة، وهو من يبطن الكفر ويظهر الإسلام.

ينظر: المغني (6/ 370) لابن قدامة المقدسي، مكتبة القاهرة، ط: عام 1388 هـ، الصارم المسلول على شاتم الرسول (361) لابن تيمية، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، طبعة الحرس الوطني السعودية.

(3)

وهو أن يحل الخالق في المخلوق، ويمتزج به امتزاجًا كاملًا بحيث تتلاشى الذات الإنسانية في الذات الإلهية، وهو كقول النصارى، وغلاة الروافض، وغلاة التصوف كأتباع الحلاج، ويدخل في ذلك ما يسمى بوحدة الوجود، وأن ما في الوجود هو الله.

ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 59، 15/ 423)، نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام (35) لسارة بنت عبد المحسن آل سعود، دار المنارة جدة، ط 1، 1411 هـ، عقيدة الصوفية وحدة الوجود الخفية (45).

(4)

يقصد بها وحدة الوجود عند ذكر معنى الفناء؛ لأنهما عند أهل التصوف بمعنى واحد.

ص: 122

كالدعاء مثلًا، فأسقطوا به وبالمحبة من أعمال القلوب الشيء الكثير، فضلًا على أنهم غفلوا عن أعظم درجات التوكل، وهو التوكل على الله في إقامة دينه، والجهاد في سبيله، ومقاومة الكفر والفساد كما هو توكل الأنبياء.

وضلوا في الزهد فأخرجوه من عمل قلبي إيجابي إلى مظهر سلبي، حتى إنهم حرموا به طلب العلم؛ لأن ذلك كما قالوا يؤدي إلى تقدير الناس للعالم، وهذا -بزعمهم- ينافي الزهد، وعبّدوا الأمة للفقر وبه، وحتى سموا أنفسهم الفقراء، وسموا الله تعالى الفقر"

(1)

.

(1)

ظاهرة الإرجاء (444 - 446).

ص: 123

‌المبحث الثالث:

مجمل الرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة في أعمال القلوب

يذكر شيخ الإسلام عليه رحمة الله أن سبب ضلال هذه الفرق هو تنكُّبها للحق وعدم أخذه من مصدريه الكتاب والسنة، والبعد عن منهج السلف الصالح رحمهم الله، فيقول عن هذه الفرق التي ضلت: "وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم، وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع؛ ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس

(1)

.

ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأولوه من اللغة، ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم؛ وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم .. يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. وإذا تدبرت حججهم وجدت دعاوى لا يقوم عليها دليل"

(2)

.

ومجمل الرد على فرق المرجئة في إخراجهم للأعمال من مسمى الإيمان في النقاط الآتية:

(1)

نقله ابن تيمية عن الإمام أحمد في عدة مواطن في مجموع الفتاوى، منها:(3/ 63، 7/ 118، 17/ 355، 19/ 75).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 118 - 119).

ص: 124

‌أولًا: قولهم: إن الإيمان هو ما في القلب من المعرفة والتصديق فقط دون الأعمال:

ويرد عليهم بأن هذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بأن الإيمان اعتقاد القلب وعمله، وقول باللسان، وعمل بالجوارح

(1)

.

وقد مرت الأدلة في أول المبحث على إثبات ذلك وذكر إجماع الأمة عليه

(2)

، وهذه الأدلة الكثيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي حفلت بها دواوين السنة، وكذلك أقوال السلف رحمهم الله في الرد على هذه الشبهة، بعض ذلك يكفي من يريد الحق في بطلان هذا القول، فكيف وقد اجتمع هذا الحشد من الأدلة وأقوال السلف في فهمها وإجماعهم على ذلك؟! قال تعالى:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41].

‌ثانيًا: وهؤلاء جميعًا

(3)

وقعوا في الانحراف في مسمى الإيمان بسبب شبهة اشتركوا فيها جميعًا،

وهي أن الإيمان شيء واحد لا يتبعّض ولا يتجزأ، إما يبقى كله أو يذهب كله، وأنه لا يمكن أن يجتمع في الإنسان إيمان وكفر

(4)

.

قال شيخ الإسلام في بيان سبب نزاع هذه الفرق والرد عليها: "وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:«أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ»

(5)

"

(6)

.

(1)

ينظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة (707).

(2)

ينظر: ص (108).

(3)

أي: الخوارج والمعتزلة، وفرق المرجئة.

(4)

ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 404).

(5)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال (1/ 13) ح (22).

(6)

مجموع الفتاوى (7/ 510).

ص: 125

والرد أيضًا على هذه الشبهة بقول إمامين عظيمين من أئمة السنة:

الرد الأول: بعث الإمام أحمد رحمه الله بجواب إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني

(1)

بخراسان فيه ردود على المرجئة، ومن ضمن الردود:"وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج إلى أن يكون مصدقًا بما أقر، وهل يحتاج أن يكون مصدقًا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرًّا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال عظيمًا، فكذلك العمل مع هذه الأشياء"

(2)

.

الرد الثاني: قال الإمام أبو ثور

(3)

رحمه الله في رده على المرجئة في تفنيد شبهة أن الإيمان لا يتجزأ: "فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان، فيقال لهم: ما أراد الله عز وجل من العباد إذ قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إلا إقرارًا بذلك، أو الإقرار والعمل؟

(1)

محمد بن أحمد بن الجرّاح أبو عبد الرّحيم الجوزجانيّ، وكان ثقة عالِمًا صاحب سنة، تفقّه بأحمد بن حنبل، وكان جليل القدر، واسع العلم كثير الحديث، توفي رحمه الله سنة (245 هـ).

ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 262) لابن أبي يعلى، ت: محمد حامد الفقي، دار المعرفة بيروت، تاريخ الإسلام (18/ 407)، تهذيب التهذيب (9/ 20).

(2)

السنة للخلال (4/ 24 - 25) ت: د. عطية الزهراني، دار الراية الرياض، ط 1، 1410 هـ، مجموع الفتاوى (7/ 390 - 392).

(3)

الإمام الحافظ الحجة المجتهد إبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي البغدادي الفقيه مفتي العراق. قال أبو بكر الأعين: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة، وهو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، وقال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلًا، صنف الكتب، وفرّع على السنن، وذب عنها رحمه الله تعالى، وتوفي سنة (240 هـ).

ينظر: الثقات لابن حبان (8/ 74)، تاريخ بغداد (6/ 576)، سير أعلام النبلاء (12/ 72).

ص: 126

فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل، فقد كفرت عند أهل العلم، من قال: إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة؟

فإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل.

قيل: فإذا أراد منهم الأمرين جميعًا لم زعمتم أنه يكون مؤمنًا بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعًا؟!

أرأيتم لو أن رجلًا قال: أعمل جميع ما أمر الله ولا أقر به، أيكون مؤمنًا؟

فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئًا أيكون مؤمنًا؟

فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعًا، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنًا إذا ترك الآخر، جاز أن يكون بالآخر إذا عمل ولم يقر مؤمنًا، لا فرق بين ذلك"

(1)

.

وعلق شيخ الإسلام على كلام الإمامين بقوله: "قلت: أحمد وأبو ثور وغيرهما من الأئمة كانوا قد عرفوا أصل قول المرجئة، وهو أن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه؛ فلا يكون إلا شيئًا واحدًا، فلا يكون ذا عدد: اثنين أو ثلاثة، فإنه إذا كان له عدد أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه، بل لا يكون إلا شيئًا واحدًا؛ ولهذا قالت الجهمية: إنه شيء واحد في القلب، وقالت الكرامية: إنه شيء واحد على اللسان، كل ذلك فرارًا من تبعض الإيمان وتعدده، فلهذا صاروا يناظرونهم بما يدل على أنه ليس شيئًا واحدًا كما قلتم"

(2)

.

(1)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 932).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 393 - 394).

ص: 127

‌ثالثًا: وقال المخالفون لأهل السنة والجماعة:

إن الأعمال ليست داخلةً في مسمى الإيمان؛ لأن الله قد قرن في كتابه بين الإيمان والعمل بواو العطف في كثير من الآيات، وهذا يقتضي المغايرة

(1)

.

والرد على هذه الشبهة أن هذا العطف لا يقتضي المغايرة؛ لأنه من باب عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، وقوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

فهذا العطف في هاتين الآيتين لا يقتضي المغايرة، فجبريل وميكائيل من الملائكة، والصلاة الوسطى من الصلوات، وإذا تقرر هذا فعطف العمل على الإيمان لا يقتضي المغايرة، بل هو كما قال شيخ الإسلام:"وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يُكتَفَى بإيمان القلب، بل لا بد معه من الأعمال الصالحة"

(2)

.

ولأن الدراسة لا تقتضي التوسع في هذه الردود، فيكفي ما سبق.

(1)

ينظر: المواقف (385)، حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد (95) دار السلام، ط 1، 1322 هـ.

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 198)، وينظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة (715 - 716).

ص: 128

‌الفصل الثالث:

أسباب صلاح القلب

المبحث الأول: الأسس العقدية لصلاح أعمال القلوب.

المبحث الثاني: الأسس التعبدية لصلاح أعمال القلوب.

ص: 129

‌توطئة:

الداعية إلى الله تعالى كما أنه يعتني بأعمال القلب، ويجتهد في تحقيقها، ويحاسب نفسه على ذلك، فهو أحرص ما يكون على أسباب صلاح قلبه، وذلك من خلال رسوخ الأسس العقدية لديه من التوحيد لله رب العالمين لا شريك له، إلى أركان الإيمان وأسسه العظيمة، ومباني الإسلام العالية، مع المسارعة والمسابقة بالتقرب إلى الله بعد الفرائض بالنوافل، وذلك وفق العناصر الآتية:

ص: 130

المبحث الأول:

الأسس العقدية لصلاح أعمال القلوب

المطلب الأول: التوحيد.

المطلب الثاني: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل.

المطلب الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر.

المطلب الرابع: الإيمان باليوم الآخر.

ص: 131

‌المبحث الأول

الأسس العقدية لصلاح أعمال القلوب

لا شكَّ أن الأسس العقدية لصلاح القلب هي من أهم ما ينبغي الاجتهاد فيه، والحرص عليه، فلن تصلح أعمال القلب إلا إذا بنيت على عقيدة صحيحة سليمة من شوائب الشرك، بني فيها الاعتقاد بأركانه الستة على اليقين والإيمان بالغيب، توحيد سلم من الشرك وشوائبه، وإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، كل ذلك وفق معتقد السلف أهل السنة والجماعة، وهذه إشارات إلى ذلك في المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: التوحيد:

‌أولًا: تعريفه:

التوحيد لغة: من وحّد يوحّد توحيدًا، والتوحيد الإيمان بالله وحده لا شريك له، والله الواحد الأحد ذو الوحدانية، وقال ابن فارس

(1)

: "الواو والحاء والدال: أصل واحد يدل على الانفراد"

(2)

.

والتوحيد شرعًا: عرفه الشيخ ابن عثيمين فقال رحمه الله: "إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات"

(3)

.

(1)

أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب الرازي اللغوي، وكان رأسًا في اللغة والأدب، بصيرًا بفقه مالك، مناظرًا متكلمًا على طريقة أهل الحق، ومذهبه في النحو على طريقة الكوفيين، وله المجمل في اللغة، ومقاييس اللغة، وغير ذلك، توفي رحمه الله سنة (395 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 104)، البداية والنهاية (15/ 509)، الأعلام (1/ 193).

(2)

ينظر: العين (3/ 281)، مقاييس اللغة (6/ 90)، معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 2409) مادة (وحد).

(3)

مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (9/ 1) جمع وترتيب: فهد بن ناصر السليمان، دار الوطن، ط 1413 هـ.

ص: 132

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب

(1)

رحمه الله: "وسمي دين الإسلام توحيدًا؛ لأن مبناه على أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له، وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله، وهي متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر"

(2)

.

وعرفه الشيخ صالح آل الشيخ

(3)

حفظه الله بقوله: "التوحيد هو: اعتقاد أن الله جل وعلا واحد في ربوبيته لا شريك له، واحد في إلهيته لا ند له، واحد في أسمائه وصفاته لا مِثْل له سبحانه وتعالى، قال جل وعلا:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وذلك يشمل أنواع التوحيد جميعًا، فالتوحيد إذن: هو اعتقاد أن الله

(1)

العلامة المحدث الذكي سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب من آل الشيخ، كان بارعًا في التفسير والحديث والفقه، له من الكتب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، وحاشية على المقنع في الفقه وغير ذلك، بعد حرب إبراهيم باشا لأهل الدرعية وأعطى الأمان لهم، وشى به بعض الحاقدين، فأحضره إبراهيم باشا وأحضر آلات اللهو والمنكر لإغاظته، ثم أمر الجنود بإطلاق الرصاص عليه دفعة واحدة حتى تمزق جسده، فنال الشهادة أحسبه والله حسيبه سنة (1233 هـ).

ينظر: الأعلام (3/ 129)، مشاهير علماء نجد وغيرهم (29) لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، إشراف دار اليمامة الرياض، ط 1، 1392 هـ، موسوعة مواقف السلف (9/ 68).

(2)

تيسير العزيز الحميد (17) لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، ط 1، 1423 هـ.

(3)

العلامة صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، وزير الشؤون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية سابقًا، وهو الآن وزير دولة عضو مجلس الوزراء والشؤون السياسية والأمنية، ولد في مدينة الرياض سنة (1378 هـ) وتلقى تعليمه فيها، ودرس على كبار العلماء وعلى رأسهم والده، والإمام ابن باز رحمه الله، له عدة مؤلفات منها: التمهيد شرح كتاب التوحيد، شرح العقيدة الطحاوية، شرح متن الورقات، وغيرها.

ينظر: الموسوعة الحرة على الشبكة، وموقع الشيخ صالح آل الشيخ على الشبكة.

ص: 133

واحد في هذه الثلاثة أشياء"

(1)

.

وقال ابن رجب رحمه الله بعد أن بيّن حقيقة التوحيد وذكر أنه: " معنى قول: لا إله إلا الله، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له، ولو كان في السماوات والأرض إله يؤله سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] "

(2)

.

‌ثانيًا: أقسامه:

ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام وهي:

‌الأول: توحيد الألوهية:

• معناه:

الألوهية من أله يأله ألوهة فهو مألوه أي: معبود، يقول ابن فارس:"الهمزة واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبد. فالإله الله تعالى"

(3)

، وأصله إله على فِعَال بمعنى: مفعول؛ لأنه مألوه أي: معبود، ويقال: تأله الرجل: إذا تعبد

(4)

.

ومعنى توحيد الألوهية في الشرع: عرفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بقوله: "هو إفراد الله بالعبادة"

(5)

.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن

(6)

رحمه الله: "هو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة

(1)

التمهيد لشرح كتاب التوحيد (69) لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار التوحيد، ط 1، 1424 هـ.

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 211).

(3)

مقاييس اللغة (1/ 127).

(4)

ينظر: الصحاح (6/ 2223)، مقاييس اللغة (1/ 127)، المعجم الوسيط (1/ 25) مادة (أله).

(5)

ثلاثة الأصول وشروط الصلاة والقواعد الأربع (8) لمحمد بن عبد الوهاب، من مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، ط 1، 1421 هـ.

(6)

الإمام العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في بلد الدرعية، وشب بها، وأخذ العلم عن جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وعمومته، وأخذ العلم أيضًا عن علماء مصر في عصره حيث كان هناك مع أعمامه، وكان إمامًا بارعًا محدثًا فقيهًا، ورعًا تقيًّا نقيًّا صالحًا، وله من المصنفات: كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، قرة عيون الموحدين حاشية على التوحيد، كشف ما ألقاه إبليس، على داود بن جرجيس وغيرها، توفي رحمه الله سنة (1285 هـ).

ينظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (16/ 404) لمجموعة من علماء الدعوة، جمع عبد الرحمن بن قاسم، ط 6، 1416 هـ، الأعلام (3/ 304) معجم المؤلفين (5/ 135) لعمر كحالة، مكتبة المثنى بيروت، دار إحياء التراث العربي.

ص: 134

الباطنة والظاهرة"

(1)

.

• الأدلة عليه:

وهذا النوع من التوحيد هو موضوع دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو موضع النزاع بين الأنبياء وأممهم، وهذه بعض الأدلة عليه:

قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. وقالها صالح وهود وشعيب وكل نبي لقومه.

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

ومن السنة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه عَلَى اليَمَنِ، قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ

(1)

كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين (11) لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ت: بشير عيون، مكتبة المؤيد الطائف، مكتبة دار البيان دمشق، ط 1، 1411 هـ.

ص: 135

وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»

(1)

، وفسر في الرواية الثانية عبادة الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ

» الحديث

(2)

.

وفي الرواية الثالثة: أن يوحدوا الله، عن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى

» الحديث

(3)

.

قال ابن القيم رحمه الله: "ولهذا كان الصحيح: أن أول واجب يجب على المكلف: شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

(4)

، فهو أول واجب، وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة (2/ 119) ح (1458).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا (2/ 128) ح (1496).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (9/ 114) ح (7372).

(4)

أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في التلقين (3/ 190) ح (3116)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1105) ح (6479)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (5/ 34) ح (3116):"حديث صحيح".

(5)

مدارج السالكين (3/ 412).

ص: 136

‌الثاني: توحيد الربوبية:

• معناه:

الربوبية من الرب، والرب في اللغة: يطلق على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيّم، والمنعم، فرب كل شيء: مالكه، والربُّ: اسم من أسماء الله عز وجل، ولا يقال في غيره إلا على سبيل الإضافة

(1)

.

وعرف العلماء توحيد الربوبية في الاصطلاح بعدة تعريفات، منها:

قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: "هو: الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك"

(2)

.

وقال ابن سعدي رحمه الله: "بأن يعتقد العبد أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير، الذي ربى جميع الخلق بالنعم، وربى خواص خلقه -وهم الأنبياء وأتباعهم- بالعقائد الصحيحة والأخلاق الجميلة والعلوم النافعة والأعمال الصالحة، وهذه هي التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدارين"

(3)

.

وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: "فأما توحيد الربوبية: فمعناه توحيد الله بأفعاله. وأفعال الله كثيرة، منها: الخلق، والرِّزْق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الملك، والنفع، والضُّر، والشفاء، والإجارة كما قال تعالى في التنزيل:{وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88]، وإجابة دعوة المضطر، وإجابة دعوة

(1)

ينظر: الصحاح (1/ 130)، لسان العرب (1/ 399)، المعجم الوسيط (1/ 321) مادة (ربب).

(2)

تيسير العزيز الحميد (17).

(3)

القول السديد (19) لابن سعدي، ت: المرتضي الزين أحمد، مجموعة التحف النفائس الدولية، ط 3.

ص: 137

الداعي، ونحو ذلك من أفراد الربوبية، فالمتفرد بذلك على الكمال هو الله جل وعلا، فتوحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله سبحانه"

(1)

.

• الأدلة عليه:

قال تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يونس: 56].

وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].

‌الثالث: توحيد الأسماء والصفات:

• معناه:

عرفه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف وتعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين؛ بل هو سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله"

(2)

.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث"

(3)

.

وقال ابن سعدي رحمه الله: "وهو اعتقاد انفراد الرب جل جلاله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلالة والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه

(1)

التمهيد لشرح كتاب التوحيد (6).

(2)

مجموع الفتاوى (5/ 195).

(3)

مجموع الفتاوى (5/ 26).

ص: 138

من الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، وعن كل ما ينافي كماله"

(1)

.

• الأدلة عليه:

قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24].

والآيات في ذلك كثيرة.

‌ثالثًا: أثر التوحيد على القلب

(2)

:

للتوحيد أثر عظيم على القلوب، فكلما قوي توحيد العبد أثمر في قلبه ثمرات جليلة، وعاد ذلك عليه وعلى دعوته بآثار مباركة عظيمة، ومن ذلك:

1 -

يقول ابن القيم رحمه الله: "فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى، بل يفرد الله بالمخافة،

(1)

القول السديد شرح كتاب التوحيد (18 - 19).

(2)

ينظر في ذلك: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (4/ 1341 - 1342) لعدد من المختصين بإشراف إمام الحرم المكي د. صالح بن حميد، دار الوسيلة جدة، ط 4.

ص: 139

وقد أمَّنه منه، وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد الله محبة وخشية وإنابة وتوكلًا واشتغالًا به عن غيره، فيرى أن إعمالَه فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا

(1)

، فإن كان مؤمنًا فالله يدافع عنه ولا بد، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه"

(2)

.

2 -

التوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، وعلى حسب قوته وكماله يكون انشراح صدر صاحبه، قال تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، وقال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه، ومنها: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه

(3)

.

3 -

يحصل لصاحب التوحيد الهدى والكمال والأمن التّامّ في الدّنيا والآخرة.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. قال ابن كثير رحمه الله "أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله

(1)

يشير بذلك إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].

(2)

بدائع الفوائد (2/ 245).

(3)

ينظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 22 - 23) لابن القيم، مؤسسة الرسالة بيروت، مكتبة المنار الكويت، ط 27، 1415 هـ.

ص: 140

وحده لا شريك، له، ولم يشركوا به شيئًا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة"

(1)

، فبالتوحيد يحصل الأمن والاهتداء التام في الدنيا والآخرة، وبالشرك تصرف الهداية عن العبد، ويذهب الأمن ويحصل الخلل فيه في الدنيا وفي الآخرة.

4 -

التوحيد مع اعتراف العبد بظلمه وذنبه من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم، وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج، ولذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة ذي النون قوله:«دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ»

(2)

.

يقول ابن القيم رحمه الله: "وأما دعوة ذي النون فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم، وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج"

(3)

.

‌المطلب الثاني: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل:

معناه:

الإيمان الجازم الذي لا شك فيه بالملائكة والكتب والرسل من حيث الإجمال والتفصيل.

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 294).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 65) ح (1462)، والترمذي في أبواب الدعوات، باب .. (5/ 529) ح (3505)، والحاكم في المستدرك في كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، ذكر نبي الله يونس (2/ 637) ح (4121)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 637) ح (3383).

(3)

زاد المعاد (4/ 190).

ص: 141

قال الشيخ ابن باز

(1)

رحمه الله في بيان معتقد أهل السنة والجماعة في الملائكة والكتب والرسل: "وأما الإيمان بالملائكة فيتضمن الإيمان بهم إجمالًا وتفصيلًا، فيؤمن المسلم بأن لله ملائكة خلقهم لطاعته، ووصفهم بأنهم عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].

وهم أصناف كثيرة؛ منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم خزنة الجنة والنار، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد، ونؤمن على سبيل التفصيل بمن سمى الله ورسوله منهم، كجبريل، وميكائيل، ومالك خازن النار، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وقد جاء ذكره في أحاديث صحيحة

(2)

.

وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» خرجه مسلم في صحيحه

(3)

.

وهكذا الإيمان بالكتب، يجب الإيمان إجمالًا بأن الله سبحانه وتعالى أنزل كتبًا على أنبيائه ورسله لبيان حقه والدعوة إليه، كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

(1)

سيأتي الكلام عنه بشيء من التفصيل، ينظر: ص (350).

(2)

صح في ذكر إسرافيل ما أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه من حديث عائشة رضي الله عنها، في وصف ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل (1/ 534) ح (770) ولفظه: قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .

(3)

في كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة (4/ 2294) ح (2996).

ص: 142

ونؤمن على سبيل التفصيل بما سمى الله منها؛ كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن؛ والقرآن هو أفضلها وخاتمتها، وهو المهيمن عليها والمصدق لها، وهو الذي يجب على جميع الأمة اتباعه وتحكيمه مع ما صحت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى بعث رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولًا إلى جميع الثقلين، وأنزل عليه هذا القرآن ليحكم به بينهم، وجعله شفاء لما في الصدور وتبيانًا لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين، كما قال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]، وقال سبحانه وتعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وهكذا الرسل، يجب الإيمان بهم إجمالًا وتفصيلًا، فنؤمن أن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى عباده رسلًا منهم مبشرين ومنذرين ودعاة إلى الحق، فمن أجابهم فاز بالسعادة، ومن خالفهم باء بالخيبة والندامة، وخاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

ومن سمى الله منهم أو ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميته آمنا به على سبيل التفصيل والتعيين، كنوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم، صلى الله وسلم عليهم وعلى آلهم وأتباعهم"

(1)

.

(1)

العقيدة الصحيحة وما يضادها (8 - 9) لابن باز، مع بعض التصرف، طبعة الجامعة الإسلامية، السنة السابعة العدد الثالث: المحرم 1395 هـ.

(2)

ينظر في ذلك: عقيدة أهل السنة والجماعة للعثيمين (32 - 33) طبعة الجامعة الإسلامية، ط 4، 1422 هـ، شرح ثلاثة الأصول للعثيمين (92) دار الثريا، ط 4، 1424 هـ، الإسلام أصوله ومبادئه (2/ 133) لمحمد بن عبد الله السحيم، طبعته وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، ط 1، 1421 هـ.

ص: 143

‌أثر الإيمان بالملائكة والكتب والنبيين على القلب

(2)

:

‌1 - من آثار الإيمان بالملائكة على القلب:

أولًا: العلم بعظمة خالقهم تبارك وتعالى وقوته وسلطانه، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق.

ثانيًا: زيادة حب الله وشكره تعالى على عنايته بعباده، حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.

ثالثًا: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى على الوجه الأكمل، واستغفارهم للمؤمنين.

رابعًا: أن تتطهر عقيدة المسلم من شوائب الشرك وأدرانه؛ لأن المسلم إذا آمن بوجود الملائكة الذين كلفهم الله بهذه الأعمال العظيمة تخلص من الاعتقاد بوجود مخلوقات وهمية تسهم في تسيير الكون.

خامسًا: أن يعلم المسلم أن الملائكة لا ينفعون ولا يضرون، وإنما هم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فلا يعبدهم ولا يتوجه إليهم، ولا يتعلق بهم.

سادسًا: ومن آثار الإيمان بالملائكة على القلب: أن الله جعلهم من أسباب ثبات المؤمن في مواجهة أعداء الإسلام، قال تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].

(2)

ينظر في ذلك: عقيدة أهل السنة والجماعة للعثيمين (32 - 33) طبعة الجامعة الإسلامية، ط 4، 1422 هـ، شرح ثلاثة الأصول للعثيمين (92) دار الثريا، ط 4، 1424 هـ، الإسلام أصوله ومبادئه (2/ 133) لمحمد بن عبد الله السحيم، طبعته وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، ط 1، 1421 هـ.

ص: 144

‌2 - من آثار الإيمان بالكتب والرسل على القلب:

أولًا: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قوم كتابًا يهديهم به، ورسلًا يهدونهم ويرشدونهم.

ثانيًا: ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها، وكان خاتم هذه الكتب القرآن العظيم مناسبًا لجميع الخلق في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة.

ثالثًا: زيادة حب الله وشكر نعمته تعالى على ذلك.

‌المطلب الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر:

معناه:

‌معنى القضاء لغة:

القاف والضاد والحرف المعتل يدل على إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه لجهته.

والقضاء: الحكم، ولذلك سمي القاضي قاضيًا؛ لأنه يحكم الأحكام وينفذها. وسميت المنية قضاءً؛ لأنها أمر ينفذ في ابن آدم وغيره من الخلق

(1)

.

تعريف القدر لغة:

القاف والدال والراء يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته، فالقدر: مبلغ كل شيء، يقال: قدره كذا، أي: مبلغه، وكذلك القدر.

وقدرت الشيء أقدره وأقدره من التقدير، وقدرته أقدره.

والقدر: قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها، وهو القدر أيضًا، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء، ويأتي بمعنى القدرة والتقدير

(2)

.

(1)

ينظر: مقاييس اللغة (5/ 99)، لسان العرب (15/ 186)(قضي).

(2)

ينظر: مقاييس اللغة (5/ 62)، الصحاح (2/ 786 - 787)(قدر).

ص: 145

‌معنى القضاء والقدر في الاصطلاح:

عرفه العلماء بعدة تعريفات، كلها تدور حول مراتب القدر الأربع، ومن ذلك:

- ما ذكر ابن القيم بأنه "خلق الله تعالى لأفعال المكلفين ودخولها تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه وكتابه"

(1)

.

- هو "ما سبق به العلم وجرى به القلم، مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدَّر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها"

(2)

.

- وعُرِّف بأنه: "تقدير الله تعالى للأشياء في القِدَم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخلقه لها"

(3)

.

‌مراتب القدر والدليل عليه:

وملخص مراتب القدر كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: بأن الإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:

فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الموصوف به أزلًا، فعلم سبحانه وتعالى جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ

(1)

شفاء العليل (53) لابن القيم، دار المعرفة بيروت، ط: 1398 هـ.

(2)

هذا تعريف السفاريني في لوامع الأنوار البهية (1/ 348).

(3)

كما عرفه د. عبد الرحمن المحمود في كتابه القضاء والقدر (39 - 40)، مدار الوطن للنشر الرياض، ط 2، 1418 هـ.

ص: 146

قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

(1)

، كما قال سبحانه وتعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، وهذا التقدير -التابع لعلمه سبحانه وتعالى يكون في مواضع جملة وتفصيلًا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء: وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا؛ فيؤمر بأربع كلمات فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد

(2)

؛ ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكره اليوم قليل.

وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه وتعالى يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر

(1)

أخرجه أحمد (37/ 378 - 379) ح (22705)، وأبو داود في كتاب السنة، باب في القدر (4/ 225) ح (4700)، والترمذي في أبواب القدر، باب .. (4/ 457) ح (2155) جميعهم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 405) ح (2017).

(2)

يشير بهذا إلى حديث عَبْد اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، قَالَ:«إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوح .. » الحديث أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (4/ 111) ح (3208)، ومسلم في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2036) ح (2643).

ص: 147

بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم؛ والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، وقال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]. وهذه الدرجة من القدر يكذِّب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة

(1)

، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حِكَمها ومصالحها

(2)

.

ومن الأدلة على القدر قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

وحديث جبريل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه: قال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ:«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»

(3)

.

‌أثر الإيمان بالقضاء والقدر على القلب

(4)

:

للإيمان بالقضاء والقدر آثار عظيمة على القلب، ومن ذلك:

(1)

أخرجه أحمد في المسند (9/ 415) ح (5584)، وأبو داود في كتاب السنة، باب في القدر (4/ 222) ح (4691) ولفظه:«الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّة» الحديث، وابن ماجه في كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب في القدر (1/ 35) ح (92)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 38) ح (107).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 148 - 150).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة الإسلام والايمان والقدر (1/ 37) ح (8).

(4)

ينظر في ذلك: القضاء والقدر للمحمود (447 وما بعدها)، والإيمان بالقضاء والقدر للحمد (89 وما بعدها)، دار ابن خزيمة الرياض، ط 4، 1435 هـ.

ص: 148

1 -

هداية الله له، وصفاء العقيدة:

قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].

2 -

الإخلاص لله تعالى.

3 -

صحة التوكل على الله.

4 -

الخوف والرجاء.

5 -

من أكبر دواعي العمل والنشاط، والسعي في الأرض بما يرضي الله تعالى.

6 -

يخلِّص القلوب من كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات من الحسد ونحوه.

7 -

تحرير العقول من الخرافة.

8 -

القناعة وعزة النفس.

9 -

يبعث في القلوب الشجاعة والصبر على المكاره.

10 -

من أعظم الأسباب المعينة للداعية في الصدع بدعوته، والصبر على ما يلقاه في سبيل الله من أذى.

‌المطلب الرابع: الإيمان باليوم الآخر:

‌معنى الإيمان باليوم الآخر، والدليل عليه

(1)

:

التصديق الجازم بوقوعه لا محالة، والعمل بموجب ذلك، ويدخل فيه الإيمان بأشراط الساعة وأماراتها التي تكون قبلها لا محالة، وبالموت وما بعده من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، وبالنفخ في الصور وخروج الخلائق من القبور، وما في موقف القيامة

(1)

ينظر في ذلك: أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة (55) لحافظ الحكمي، ت: حازم القاضي، طبعة وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، ط 2، 1422 هـ، نبذة في العقيدة الإسلامية (52 - 54) لابن عثيمين، دار الثقة مكة، ط 1، 1412 هـ.

ص: 149

من الأهوال وتفاصيل المحشر.

و‌

‌الإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور:

‌الأول: الإيمان بالبعث:

وهو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية؛ فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غُرلًا -غيرَ مختونين-، قال الله تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].

والبعث: حق ثابت، دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين.

قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15 - 16].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»

(1)

.

وأجمع المسلمون على ثبوته، وهو مقتضى الحكمة، حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة معادًا، يجازيهم فيه على ما شرعه لهم فيما بعث به رسله، قال الله تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

‌الثاني مما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر:

الإيمان بالحساب والجزاء والميزان، وهو أن يحاسب الله العبد على عمله، وينصب له الميزان، ويجازى على ما قدَّم، وقد جاءت الأدلة بذلك، ومنها:

قول الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26].

وقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (4/ 2194) ح (2859).

ص: 150

وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ المازِنِيِّ

(1)

قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]»

(2)

.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»

(3)

.

(1)

صفوان بن مُحْرِزٍ المازني البصري العابد أحد الأعلام تابعي ثقة له فضل وورع، كان واعظًا قانتًا لله، واختلف في سنة وفاته فقيل: توفي رحمه الله في ولاية عبد الملك بن مرون بدون تحديد سنة، وقيل: في أواخر سنة (100 هـ) وقيل: غير ذلك، والله أعلم.

ينظر: الطبقات الكبرى (7/ 107) لابن سعد، ت: إحسان عباس، دار صادر بيروت، ط 1، 1968 م، تهذيب الكمال (13/ 211)، سير أعلام النبلاء (4/ 286).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب واللفظ له، باب قول الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18](3/ 128) ح (2441)، ومسلم في كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (4/ 2120) ح (2768).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة (8/ 103) ح (6491)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (1/ 118) ح (131).

ص: 151

وقد أجمع المسلمون على إثبات الحساب والجزاء على الأعمال، وهو مقتضى الحكمة؛ فإن الله تعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وفرض على العباد قبول ما جاءوا به، والعمل بما يجب العمل به منه، وأوجب قتال المعارضين له وأحل دماءهم، وذرّياتهم، ونساءهم، وأموالهم، فلو لم يكن حساب ولا جزاء؛ لكان هذا من العبث الذي ينزهُ الرب الحكيم عنه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6، 7].

‌الثالث مما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالجنة والنار وأنهما المآل الأبدي للخلق:

فالجنة دار النعيم التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين، الذين آمنوا بما أوجب الله عليهم الإيمان به، وقاموا بطاعة الله ورسوله، مخلصين لله، متبعين لرسوله، فيها من أنواع النعيم، قال تعالى:{(6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 7، 8]، وقَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في وصف الجنة وأنها مخلوقة (4/ 118) ح (3244).

ص: 152

وأما النار: فهي دار العذاب التي أعدَّها الله تعالى للكافرين الظالمين، الذين كفروا به وعصوا رسله، فيها من أنواع العذاب، والنَّكال ما لا يخطر على البال، قال الله تعالى:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، وقال تعالى:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64، 65].

ومن الأدلة عليه غير ما ذكر قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية [البقرة: 177]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} الآية [النساء: 136].

وقد قرن الله في كتابه الإيمان به مع الإيمان باليوم الآخر في آيات كثيرة منها:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].

وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].

ص: 153

وقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114].

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وغير ذلك من الآيات.

‌أثر الإيمان باليوم الآخر على القلب:

الإيمان باليوم الآخر له أثر عظيم على أعمال القلوب، بل لعله من أعظم الأسباب لحصول أعمال القلوب والحرص عليها، ومن تلك الآثار:

1 -

الخوف من الله تعالى الذي يثمر الانكفاف عن معصية الله تعالى، قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15]، وقال تعالى:{إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].

2 -

الرجاء فيما عند الله من نعيم الآخرة.

3 -

تعلق القلب بالآخرة مما يؤدي إلى المسابقة والمسارعة والمنافسة في الحصول على نعيم الآخرة:

قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

ص: 154

وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 22 - 26].

4 -

معرفة الدنيا على حقيقتها بالنسبة للآخرة، فيؤدي ذلك إلى أن يصبح العبد ويمسي وهمه الآخرة:

قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ، مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟»

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (4/ 2193) ح (2858).

ص: 155

المبحث الثاني:

الأسس التعبدية لصلاح أعمال القلوب

المطلب الأول: التقرب إلى الله بالفرائض، وعلى رأسها الصلاة الخاشعة، وأثرها على القلب.

المطلب الثاني: الزكاة، وأثرها على القلب.

المطلب الثالث: الصيام، وأثره على القلب.

المطلب الرابع: الحج، وأثره على القلب.

المطلب الخامس: الدعاء، وأثره على القلب.

المطلب السادس: التقرب إلى الله بالنوافل.

ص: 157

‌المبحث الثاني:

الأسس التعبدية لصلاح أعمال القلوب

إن أعمال القلوب التي تبنى على أسس تعبدية خالصة لوجه الله موافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تثمر بإذن الله تعالى صلاحًا للقلب، وسلامة له من الأمراض، وقربًا من الله عظيم، قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله قال: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» الحديث

(1)

.

ودونك توضيح ذلك وفق المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: التقرب إلى الله بالفرائض، وعلى رأسها الصلاة الخاشعة، وأثرها العظيم على القلب:

قد جعل الله الخشوع في الصلاة على رأس صفات المؤمنين، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2].

والصلاة الخاشعة لها أعظم الأثر في صلاح القلب بعد صلاح المعتقد، ولكن ليست كل صلاة تثمر ذلك، بل الصلاة التي بذل فيها المؤمن أسباب الخشوع، وجاهد نفسه على ذلك، وكابدها حتى وجد حلاوتها ولذتها في قلبه، كما قال صلى الله عليه وسلم عنها:«يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ؛ أَرِحْنَا بِهَا» ، وقال صلى الله عليه وسلم كذلك:«وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» .

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع (8/ 105) ح (6502).

ص: 158

قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث

(1)

عظم قدر الصلاة، فإنه ينشأ عنها محبة الله للعبد الذي يتقرب بها، وذلك لأنها محل المناجاة والقربة، ولا واسطة فيها بين العبد وربه، ولا شيء أقر لعين العبد منها، ولهذا جاء في حديث أنس المرفوع:«وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح، ومن كانت قرة عينه في شيء، فإنه يود أن لا يفارقه، ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمَه، وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب، فإن السالك غرضُ الآفات والفتور"

(2)

.

وقال بعض السلف رحمه الله: "كابدت

(3)

الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة"

(4)

.

وهذه بعض الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة، فجاهِد نفسك -أيها الداعي- على القيام بها، وحاسب نفسَك عليها، فإن المكابدةَ في ذلك من أعظم أسباب التلذُّذ بالصلاة التي تصلح القلب.

‌أولًا: أسباب الخشوع في الصلاة:

ولما كان الخشوع في الصلاة مطلبًا عظيمًا وعملًا قلبيًّا له أثره المبارك على صلاة العبد، فقد اقتضى ذلك أن يبذل المسلم أسباب الحصول عليه، وأن يجتهد في السير في الطريق الموصل إليه، وبما أن الكلام عن الداعية الحيِّ الذي يريد حياة قلبه، فلا بد أن يجتهد حتى تكونَ صلاته حيةً بالخشوع؛ ليذوق حلاوة الصلاةِ ولذتَها في قلبه، ومن ثَمَّ يدعو الناس إلى ذلك، وهذه بعض الأسباب الموصلة إلى الخشوع والمعينة عليه:

(1)

يقصد حديث: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» الذي سبق تخريجه قريبًا.

(2)

فتح الباري (11/ 345).

(3)

والمكابدة من كابد الأمر إذا قاساه بمشقة. ينظر: الصحاح (2/ 530)، مقاييس اللغة (5/ 153)، لسان العرب (3/ 376) مادة (كبد). أي: بمعنى: جاهد نفسه على بذل أسباب الخشوع فيها.

(4)

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 321)، سير أعلام النبلاء (5/ 224) عن ثابت البناني.

ص: 159

1 -

الإخلاص لله تعالى في هذه العبادة.

وسيأتي الكلام على الإخلاص

(1)

(2)

.

2 -

المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة، وإقامتها على السنة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه:«وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»

(3)

.

فإن من أسباب الخشوع إقامة العبد للصلاة كما أمر الله؛ مخلصًا له فيها، متبعًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في صفتها كما أمر.

3 -

الشعور في قلبه بحاجته الماسة لعبادة الخشوع، مع شعوره بالخلل الكبير الحاصل منه في هذه العبادة في صلاته، وهذا الأمر إذا وجد في القلب حرك العبد إلى بذل الأسباب في الحصول على الخشوع.

4 -

الدعاء:

من الأسباب العظيمة الجالبة للخشوع، وسيأتي الحديث عنه

(4)

.

(1)

ينظر: ص (204).

(2)

ينظر: ص (473).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (8/ 9) ح (6008).

(4)

ينظر: ص (177).

ص: 160

5 -

دفع كيد الشيطان الذي يسعى لإشغال المسلم في صلاته حتى يفقد حضور قلبه في عبادته، فيذهب منه الخشوع، وهذه بعض الوسائل المعينة على دفع كيد الشيطان:

الاستعاذة منه في موطنين:

أولًا: خارج الصلاة؛ وذلك بقول الأذكار والأوراد المشروعة لدفع كيده، ومنها:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ»

(1)

.

والذكر عمومًا من أقوى الحروز من كيد الشيطان، وسيأتي الحديث عنه

(2)

.

ذكر الخروج من المنزل:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ -يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ-: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ»

(3)

.

ذكر دخول المسجد:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ:«أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»

قَالَ: «فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده واللفظ له (4/ 126) ح (3293)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (4/ 2071) ح (2691).

(2)

ينظر: ص (191).

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته (4/ 325) ح (5095)، وأخرجه الترمذي في أبواب الدعوات، باب ما يقول إذا خرج من بيته، واللفظ له (5/ 490)(3426)، وقال:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 265)(1605)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 425) ح (5095):"حديث حسن بشواهده".

(4)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخول المسجد (1/ 127) ح (466)، وقال النووي في الأذكار (85) ح (70):"حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد جيد" ت: مستو، دار ابن كثير، دمشق، ط 2، 1410 هـ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 265) ح (1606).

ص: 161

ثانيًا: الاستعاذة منه في داخل الصلاة في موضعين:

الأول: قبل قراءة الفاتحة في الصلاة، كما قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

والثاني: إذا أتاه الشيطان في صلاته يستعيذ بالله ويتفل عن يساره ثلاثًا:

عن عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي، وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا» ، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي

(1)

.

6 -

التبكير إلى الصلاة والمسارعة إلى ذلك:

من أسباب الخشوع التبكير إلى الصلاة، وذلك حينما يبكر العبد إلى صلاته، فيتمكن من إقبال قلبه على صلاته، وصفاء القلب من شواغل الدنيا، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة بين الأذان والإقامة، كل ذلك مما يعين على الخشوع وحضور القلب، ولهذا جاء الحث على التبكير فقال صلى الله عليه وسلم:«وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ»

(2)

.

قال النووي رحمه الله: "التهجير التبكير إلى الصلاة، أي صلاة كانت"

(3)

.

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى التهجير إلى الصلاة، وهو

(1)

أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة (4/ 1728) ح (2203).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان (1/ 126) ح (615)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها (1/ 325) ح (437).

(3)

شرح النووي على مسلم (4/ 158).

ص: 162

القصد إلى المساجد في الهجير، إما قبل الأذان أو بعده .. وقد كان كثير من السلف يأتي المسجد قبل الأذان، منهم: سعيد بن المسيب، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر .. وقال بعض السلف في قول الله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]: إنهم أول الناس خروجًا إلى المسجد، وإلى الجهاد"

(1)

.

7 -

ويشعر بعظمة الموقف بين يدي الله في الصلاة، وأن الله مطلع عليه يعلم ما في قلبه، ويسمعه ويراه:

ويحدث هذا المعنى العظيم إذا استشعر القلب معاني الأسماء والصفات، وبالأخص أسماء الله وصفاته: العليم السميع البصير، وحصل في قلبه بأن الله مطلع عليه، لا تخفى منه خافية، يعلم ما في قلبه، ويستحضر في موقفه في صلاته سمع الله له وبصره، فيقف بين يديه وكأنه يرى الله أمامه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.

قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51].

وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4].

وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].

وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78].

(1)

فتح الباري لابن رجب (5/ 352) ت: مجموعة من المحققين، مكتبة الغرباء الأثرية المدينة النبوية، الحقوق: مكتب تحقيق دار الحرمين القاهرة، ط 1، 1417 هـ، وينظر: تفسير ابن جرير (22/ 290).

ص: 163

وقال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61].

وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].

وما ورد في هذا المعنى من الآيات كثير في كتاب الله، فحين يستحضر المصلي معاني هذه الآيات، فإنه يشعر بعظمة الموقف بين يدي ربه سبحانه وتعالى العالم بسره ونجواه، والمطلع على ما تخفيه الصدور، والذي أحاط علمًا بكل شيء، الذي يسمعه ويراه، فحضور هذه المعاني العظيمة يحدث في القلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها بوجهه وقلبه، فيخرج إلى الصلاة وهو يستحضر في قلبه هذه المعاني، ويجاهد نفسه على هذا، حتى وهو يمشي إلى الصلاة لا بد أن يلتزم أدب المشي إلى الصلاة، الذي سأشير إليه في الفقرة التالية، وذلك لأنه في مشيه إلى الصلاة فهو في صلاة كما ورد في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» الحديث

(1)

.

8 -

المشي إلى الصلاة بسكينة ووقار:

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ

(1)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيًا (1/ 421) ح (602).

ص: 164

فَأَتِمُّوا»

(1)

. وفي الرواية الأخرى يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ» الحديث

(2)

.

وفي معنى السَّكِينَة وَالْوَقَار قال النووي رحمه الله: "قيل: هما بمعنى

(3)

، وجمع بينهما تأكيدًا، والظاهر أن بينهما فرقًا، وأن السكينة التأني في الحركات، واجتناب العبث، ونحو ذلك، والوقار في الهيئة، وغض البصر، وخفض الصوت، والإقبال على طريقه بغير التفات، ونحو ذلك والله أعلم"

(4)

.

9 -

إسباغ الوضوء مع الإقبال على الله بقلبه ووجهه في صلاته:

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»

(5)

.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «مقبل عليهما بقلبه ووجهه» قد جمع صلى الله عليه وسلم في هاتين اللفظتين أنواع الخشوع والخضوع لله تعالى في الصلاة؛ لأن الخشوع في القلب والخضوع في الأعضاء

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة (2/ 7) ح (908)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (1/ 420) ح (602).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيًا (1/ 421) ح (602).

(3)

أي: بمعنى واحد.

(4)

شرح النووي على مسلم (5/ 100).

(5)

أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء (1/ 209) ح (234).

(6)

ينظر: شرح النووي على مسلم (3/ 121).

ص: 165

10 -

أن يكون حاضر القلب يعلم ما يقوله في صلاته:

عن عقبة بن عامر يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ

(1)

الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ إِلَّا انْفَتَلَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ»

(2)

.

أي: يعلم ما يقوله في صلاته، ويدرك بقلب حاضر معاني الآيات التي يقرؤها أو يسمعها من الإمام ويتدبرها، ويدرك معاني ما يقوله ويردده من أذكار في صلاته: الله أكبر، وفي الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، وما يقوله بين السجدتين، وفي جلسة التشهد، وهكذا في سائر صلاته.

11 -

أن يفرغ قلبه لله في صلاته:

ومن حديث عَمْرِو بْن عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ في فضل الوضوء قال في آخره عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

(3)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وفرغ قلبه لله» أي: جعله حاضرًا لله، وفرغه من الأشغال الدنيوية

(4)

.

(1)

وإسباغ الوضوء: إتمامه وأكماله بغسل العضو الذي يغسل ثلاثًا، وقال ابن عبد البر رحمه الله في معنى الإسباغ:"الإكمال والإتمام من ذلك قول الله عز وجل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} [لقمان: 20]، يعني: أتمها عليكم وأكملها، وإسباغ الوضوء أن يأتي بالماء على كل عضو يلزمه غسله مع إمرار اليد، فإذا فعل ذلك مرة وأكمل فقد توضأ مرة".

ينظر: الاستذكار (2/ 302) لابن عبد البر، ت: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1421 هـ.

(2)

أخرجه الحاكم في كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور (2/ 432) ح (3508)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 195) ح (190).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة (1/ 570) ح (832).

(4)

ينظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 461)، المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 212).

ص: 166

وهذا هو الخشوع أي: حضور القلب بين يدي الله في الصلاة.

قال ابن كثير رحمه الله: "والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين"

(1)

.

12 -

إسباغ الوضوء وعدم تحديث النفس بأمور الدنيا في الصلاة:

عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ:«مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(2)

.

13 -

ويشعر بقلبه عند تكبيرة الإحرام وفي بقية صلاته بأنه يناجي ربه، وأن الله قد نصب وجهه الكريم سبحانه وتعالى لوجه المصلي، فلا ينبغي له أن يلتفت عن ربه بلقبه ووجهه:

وبوّب ابن خزيمة فقال رحمه الله: "باب الأمر بالخشوع في الصلاة، إذ المصلي يناجي ربه، والمناجي ربه يجب عليه أن يفرغ قلبه لمناجاة خالقه عز وجل، ولا يشغل قلبه التعلق بشيء من أمور الدنيا يشغله عن مناجاة خالقه"

(3)

.

(1)

تفسير ابن كثير (5/ 461 - 462).

ونقل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/ 28) عن مجاهد رحمه الله قوله في معنى الآية: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]: "غض البصر وخفض الجناح، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن أن يشذ بصره، أو أن يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا".

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء (1/ 44) ح (164)، ومسلم في كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله (1/ 204) ح (226).

(3)

صحيح ابن خزيمة (1/ 270).

ص: 167

ومن الأحاديث في ذلك:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ:«إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» الحديث

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَى رَجُلًا كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، فَقَالَ:«يَا فُلَانُ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟! أَلَا تَنْظُرُ كَيْفَ تُصَلِّي؟! إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يُنَاجِيهِ، إِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي لَا أَرَاكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي كَمَا أَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ»

(2)

.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ القِبْلَةِ، فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:«إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى»

(3)

.

ومن حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» الحديث

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد (1/ 90) ح (405)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها (1/ 390) ح (551).

(2)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه كتاب الصلاة، باب الأمر بالخشوع في الصلاة (1/ 271) ح (474)، والحاكم في المستدرك في كتاب الطهارة (1/ 361) ح (861) وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 353) ح (541).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد (1/ 90) ح (406)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها (1/ 388) ح (547).

(4)

أخرجه أحمد في المسند (28/ 405) ح (17170)، والترمذي واللفظ له في أبواب الأمثال، باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (5/ 148) ح (2863) وقال:"حسن صحيح غريب"، وابن خزيمة في صحيحه في كتاب الصوم، باب ذكر تمثيل الصائم في طيب ريحه بطيب ريح المسك إذ هو أطيب الطيب (2/ 914) ح (1895)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 358) ح (552)، وقال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (28/ 406) ح (552)"حديث صحيح".

ص: 168

وقال ابن رجب معلقًا على هذه الأحاديث: "وكأن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذا: أن يستشعر المصلي في صلاته قرب الله منه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وأنه مناج له، وأنه يسمع كلامه ويرد عليه جواب مناجاته له، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي»

(1)

وذكر رده عليه في آيات الفاتحة إلى آخرها.

فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه، ولا يعبث وهو واقف بين يديه، ولا يبصق أمامه، فيصير في عبادته في مقام الإحسان، يعبد الله كأنه يراه"

(2)

.

14 -

ويشعر في قلبه بأن الله يخاطبه في صلاته عند قراءته لسورة الفاتحة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (1/ 296) ح (395)، وسيأتي الحديث بطوله في الفقرة الآتية.

(2)

فتح الباري لابن رجب (3/ 110 - 111).

ص: 169

الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي-، فَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»

(1)

.

فينبغي على المسلم أن يستعشر عظمة هذا الدعاء الذي يردده في كل يوم فقط في الفرائض سبع عشرة مرة، وهذا يشعر بعظيم أهمية الدعاء في حياة المسلم؛ بل هو من أعظم ما يدعو به في نهاره وليلته؛ لأن هذا الدعاء يتضمن سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم، وكذلك سؤاله الثبات على الهداية إلى أن يلقى ربه، ويختم له بالحسنى.

ولهذا لا يحسن للداعية بالأخص أن يغفل عن ذلك لكثرة تكراره لهذا الدعاء، بل ينبغى أن يكون حاضر القلب، يجاهد نفسه على ذلك؛ ليتحقق أثر هذا الدعاء العظيم عليه ثباتًا على الحق، وصبرًا على ما يلقاه في طريق دعوته.

15 -

الطمأنينة في جميع الأركان والواجبات، وبالأخص إتمام الركوع والسجود:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فَقَالَ:«ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (1/ 296) ح (395).

ص: 170

حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا»

(1)

.

16 -

ويدرك بقلبه عظمة السجود بين يدي الله تعالى، وأنه من أعظم مقامات الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد:

قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»

(3)

.

‌ثانيًا: أثر الصلاة الخاشعة على القلب:

1 -

راحة القلب.

2 -

نفور القلب من الفحشاء والمنكر.

3 -

الاستقرار وطمأنينة القلب.

4 -

تطهير القلب من الأمراض والآفات.

‌المطلب الثاني: الزكاة وأثرها على القلب:

إن لهذه الفريضة أثرًا على صلاح القلب، إذا قام بها العبد وفق أمر الله مخلصًا فيها لله رب العالمين، وتحققت شروط وجوبها.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (1/ 158) ح (793)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، (1/ 298) ح (397).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (1/ 350) ح (482).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (1/ 348) ح (479).

ص: 171

‌أولًا: مكانة الزكاة:

مما يدل على مكانة الزكاة وأثرها الكبير أن القرآن الكريم قرن بينها وبين الصلاة في آيات كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277].

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3].

وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].

وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

وقال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37].

‌ثانيًا: أثر الزكاة على القلب:

1 -

تطهير القلب من الشح والبخل.

2 -

انشراح النفس وسعادة القلب.

ص: 172

‌المطلب الثالث: الصيام وأثره على القلب:

الصيام عبادة عظيمة لها أثر كبير على حياة المسلم، ولذا افترضه الله على هذه الأمة لتحقيق هدف عظيم، وهو التقوى، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ

عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

ومن فضائل الصوم:

ما ورد عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»

(1)

.

وعَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»

(2)

.

والأدلة على فضل الصوم كثيرة.

أما آثاره على القلب، فمنها ما يلي على سبيل الإجمال:

1 -

حصول التقوى.

2 -

الإخلاص.

3 -

حصول الصبر.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم (3/ 26) ح (1904)، ومسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام (2/ 807) ح (1151).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الريان للصائمين (3/ 25) ح (1896)، ومسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام (2/ 808) ح (1152).

ص: 173

4 -

مراقبة الله.

5 -

الورع.

6 -

مجاهدة النفس.

7 -

الرحمة والشفقة على الفقراء.

‌المطلب الرابع: الحج وأثره على القلب:

الحج مدرسة تربوية عظيمة، تجمع بين العبادة البدنية والمالية، ولها أثر كبير على صلاح القلب.

فضل الحج:

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ»

(2)

.

والأحاديث في فضله كثيرة.

أما أثره على القلب فأثره عظيم، ومن ذلك:

1 -

أنه يثمر الصبر.

2 -

تعظيم شعائر الله التي تثمر تقوى القلوب.

3 -

تحقيق التوحيد في القلب وتطهيره من الشرك.

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور (2/ 133) ح (1521)، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (2/ 983) ح (1350).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب العمرة وفضلها (3/ 2) ح (1773)، ومسلم في كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة (2/ 983) ح (1349).

ص: 174

4 -

أنه يثمر محبة الله والخوف والرجاء.

‌المطلب الخامس: الدعاء وأثره على القلب:

ومما يدل على المكانة العظيمة للدعاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»

(1)

.

وأفاد الملا على القاري رحمه الله في شرحه لهذا الحديث بأن الدعاء: "هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة لدلالته على الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه، قائمًا بوجوب العبودية، معترفًا بحق الربوبية، عالمًا بنعمة الإيجاد، طالبًا لمدد الإمداد على وفق المراد وتوفيق الإسعاد"

(2)

.

‌فضل الدعاء:

قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاءِ»

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (30/ 340) ح (18391)، وأبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب الدعاء (2/ 76) ح (1479)، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المؤمن (5/ 375) ح (3247) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء (2/ 1258) ح (3828)، والحاكم في المستدرك في كتاب الدعاء والتكبير والتهليل .. (1/ 667) ح (1802) وصححه، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 641) ح (3407)، وقال محقق المسند (30/ 340) ح (18391):"إسناده صحيح".

(2)

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1527).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (14/ 360) ح (8748)، والترمذي في أبواب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء (5/ 455) ح (3370) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ القَطَّانِ .. "، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء (2/ 1258) ح (3829)، وحسن إسناده الألباني في صحيح الجامع (2/ 951) ح (5392)، وكذلك شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 6) ح (3829).

ص: 175

وكان من أكثر أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول أَنَس رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ: فَقَالَ: «نَعَمْ؛ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عز وجل يُقَلِّبُهَا» .

أما أثر الدعاء على صلاح القلب فأثره عظيم، ومن ذلك:

1 -

الشعور بمعية الله له وقربه منه.

2 -

قوة القلب وثباته وشجاعته.

3 -

صلاح القلب وثباته على الحق.

‌المطلب السادس: التقرب إلى الله بالنوافل:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» الحديث.

وإذا تقرب المسلم إلى الله بالنوافل بعد الفرائض أصلح الله له قلبه، ومن ثم صلحت جوارحه وانقادت لأمر الله، ودونك طرفًا من هذه النوافل:

ص: 176

‌الفرع الأول: طلب العلم النافع:

العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو العلم الشرعي النافع الذي يحيي الله به القلوب كما تحيا الأرض بوابل القطر، وفي المقابل الجهل بذلك تموت به القلوب، فإذا هي دار خراب، قد عششت فيها الشياطين، وتمكنت منها الفتن.

وقال ابن حجر رحمه الله في معنى العلم: "والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه"

(1)

.

وذكر ابن القيم رحمه الله جهات تفضيل العلم على غيره، وأن الحاجة إليه أعظم من الحاجة إلى الطعام، بل فوق الحاجة إلى النَفَس، فقال: "إن فضيلة الشيء وشرفه يظهر تارة من عموم منفعته، وتارة من شدة الحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه، وتارة من ظهور النقص والشر بفقده، وتارة من حصول اللذة والسرور والبهجة بوجوده لكونه محبوبًا ملائمًا، فإدراكه يعقب غاية اللذة، وتارة من كمال الثمرة المترتبة عليه وشرف علته الغائية وإفضائه إلى أجل المطالب، وهذه الوجوه ونحوها تنشأ وتظهر من متعلقه، فإذا كان في نفسه كمالًا وشرفًا بقطع النظر عن متعلقاته جمع جهات الشرف والفضل في نفسه ومتعلقاته، ومعلوم أن هذه الجهات بأسرها حاصلة للعلم، فإنه أعم شيء نفعًا، وأكثره وأدومه، والحاجة إليه فوق الحاجة إلى الغذاء، بل فوق الحاجة إلى التنفس؛ إذ غاية ما يتصور من فقدهما فقد حياة الجسم، وأما فقد العلم ففيه فقد حياة القلب والروح، فلا غنى للعبد عنه طرفة عين، ولهذا إذا فُقِدَ من الشخص كان شرًّا من الحمير، بل كان شرًّا من الدواب عند الله، ولا شيء أنقص منه حينئذ.

وأما حصول اللذة والبهجة بوجوده؛ فلأنه كمال في نفسه وهو ملائم غاية الملاءمة للنفوس؛ فإن الجهل مرض ونقص، وهو في غاية الإيذاء والإيلام للنفس، ومن

(1)

فتح الباري (1/ 141).

ص: 177

لم يشعر بهذه الملاءمة والمنافرة فهو لفقد حسه وموت نفسه"

(1)

.

وذكر رحمه الله في المقابل أثر الجهل على قلب العبد وروحه، فقال: "فإن الجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن، فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض، قال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقال تعالى:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70]، وقال تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].

وشبههم في موت قلوبهم بأهل القبور، فإنهم قد ماتت أرواحهم، وصارت أجسامهم قبورًا لها، فكما أنه لا يسمع أصحاب القبور، كذلك لا يسمع هؤلاء، وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان، ولم تتحرك له: كانت ميتة حقيقة، وليس هذا تشبيهًا لموتها بموت البدن، بل ذلك موت القلب والروح.

وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد من كلام لقمان، أنه قال لابنه:(يا بني، جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل القطر)

(2)

"

(3)

.

(1)

مفتاح دار السعادة (1/ 85).

(2)

أخرجه أحمد في الزهد (89) رقم (552) وضع حواشيه: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1420 هـ.

(3)

مدارج السالكين (3/ 245 - 246).

ص: 178

‌الفرع الثاني: قيام الليل:

ومن العبادات التي لها أثر كبير على صلاح القلب القيام بين يدي الله في الليل:

قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17].

وقال تعالى عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18].

وقيام الليل من الأعمال التي تعين الداعية على القيام بدعوته خير قيام؛ ولهذا فرضه الله على رسوله وعلى الأمة في أول الأمر، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1 - 6]، ثم نسخت فرضيته عن الأمة بآخر سورة المزمل، وبقي مستحبًّا في حقِّها، قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الآية [المزمل: 20]

(1)

.

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ»

(2)

.

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 259).

(2)

أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات، باب .. (5/ 553) ح (3549) من طريقين الأولى من حديث أبي إدريس عن بلال وقال:"ولا يصح من قبل إسناده"، وقال عن الطريق الثانية التي من حديث أبي إدريس عن أبي أمامة:"وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال"، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب الصلاة، باب التحريض على قيام الليل إذ هو دأب الصالحين .. (1/ 563) ح (1135)، والحاكم في المستدرك من كتاب صلاة التطوع (1/ 451) ح (1156) وصححه وأقره الذهبي، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 387) ح (1227).

ص: 179

‌الفرع الثالث: تلاوة القرآن الكريم بالتدبر:

لتلاوة القرآن الكريم وتدبره أثر على صلاح القلب، وحياته، ونوره، وطمأنينته، وزيادة الإيمان فيه، وهو زاد للداعية يعينه على القيام بمهمته خير قيام، فيجد فيه سلوته في الاطلاع على سير الأنبياء، ويجد فيه أسباب سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

وذكر الله كما مر سابقًا

(1)

يقصد به ذكر العبد ربه، والقرآن الكريم تلاوة وتدبرًا، ولا شك أنه أعلى ما يُذكر الله به، وبه تطمئن القلوب، ويزول عنها الشك والريب.

قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].

والقرآن العظيم أعظم نور يهتدي به المؤمن إلى الصراط المستقيم، ويثبت به عليه، وبه يسلم من الحيرة والشكوك وظلمات الجهل والهوى، وكلما فتح له في تدبره وجد أثر ذلك في قلبه ثباتًا وصدقًا، ووضوحًا في المنهج الحق، وذلك بعض بركة تدبره.

قال تعالى عن في وصف المؤمنين الذين أقبلوا بقلوبهم على تدبره: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].

(1)

ينظر: ص (89).

ص: 180

وقال تعالى في وصف القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

ولذا جاءت أكثر من آية تحث على تدبر القرآن الكريم ليجد المؤمن أثره عليه، فقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

وتدبر القرآن الكريم الذي هو الحكمة من نزوله يعنى: التفكر في آياته، وفهمها والتأمل في معانيها

(1)

بتكرار ذلك، وإقامة حروفه وحدوده بالعمل به

(2)

، واستحضار عظمة قائله، وتدبره هو الذي يثمر في القلب ثمرته، فينزل في القلب أثره، فينفع صاحبه، كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه

(3)

.

إنه الكتاب العظيم الكريم الذي قال الله عنه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].

(1)

ينظر: تفسير البغوي (7/ 88)، تفسير ابن كثير (1/ 6)، تفسير السعدي (712).

(2)

ونقل ابن كثير في تفسيره (7/ 64) عن ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قوله: "والله، ما تَدَبَّره بحفظ حروفِهِ وإضاعةِ حدودهِ، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله ما يُرى له القرآن في خُلُق ولا عمل".

(3)

سيأتي ص (187).

ص: 181

قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} أيها المرسل إليهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب {كِتَابًا} جليلًا وقرآنًا مبينًا، {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي: شرفُكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ما ينفعكم وما يضركم؟! كيف لا ترضون ولا تعملون على ما فيه ذكركم وشرفكم في الدنيا والآخرة؟! فلو كان لكم عقل لسلكتم هذا السبيل، فلما لم تسلكوه، وسلكتم غيره من الطرق التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما، علم أنه ليس لكم معقول صحيح، ولا رأي رجيح.

وهذه الآية مصداقها ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول الذين تذكروا بالقرآن من الصحابة فمن بعدهم حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر والصيت العظيم والشرف على الملوك ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسًا، ولم يهتد به ويتزكَّ به من المقت والضعة والتدسية والشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا بالتذكر بهذا الكتاب، {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43، 44] "

(1)

.

وقال تعالى في بيان آثاره العظيمة: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [إبراهيم: 1، 2].

(1)

تفسير السعدي (519).

ص: 182

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 106 - 109].

وقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].

فإذا تدبرنا القرآن نزل في القلوب فنفع، ونجا صاحبه من الفتن والمهالك، فليست العبرة بكثرة القراءة التي لا فقه معها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر أمته من أقوام يكثرون القراءة؛ ولكن القرآن لا ينزل إلى قلوبهم، فما انتفعوا به، بل سقطوا في الفتن، وكانوا لها حطبًا، وهم الذين عناهم بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ

ص: 183

صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»

(1)

.

وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ» الحديث

(2)

.

ومن حديث علي رضي الله عنه يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(3)

.

إذن ليست العبرة بكثرة تلاوة القرآن بدون فهم وعمل به، بل العبرة والمطلوب هو العمل والتدبر الذي يجعل الآيات تنزل إلى القلب، فينتفع بها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لذلك الرجل الذي يقرأ المفصل في ركعة في بيان الخطأ الذي وقع فيه: "هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ

(4)

! إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي

(1)

أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 200) ح (3610)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2/ 744) ح (1064).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (21/ 51) ح (13338)، وأبو داود في كتاب السنة، باب في قتال الخوارج (4/ 243) ح (4765)، والحاكم في المستدرك في كتاب قتال أهل البغي (2/ 160) ح (2648) وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 684) ح (3668).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم (9/ 16) ح (6930)، ومسلم واللفظ له في كتاب الزكاة، باب التحريض على قتال الخوارج (2/ 746) ح (1066).

(4)

والمراد بالهذ هنا: سرعة قراءة القرآن كما يسرع في قراءة الشعر، والهذُّ: السرعة.

ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 255) مادة (هذذ).

ص: 184

الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ"

(1)

.

إن الداعية إلى الله تعالى الموفق في دعوته يحرص على تلاوة القرآن الكريم وتدبره، ويجتهد في ذلك؛ لأنه يعلم يقينًا أن تلاوة القرآن وتدبره وفهمه على منهج السلف الصالح في العلم والعمل من أسباب الثبات على الحق والصبر على دعوة الناس إلى الله تعالى بحكمة وبصيرة، وأنه من أسباب صلاح القلب وسلامته من الآفات، وأن الانحراف والوقوع في طرق الضلال بسبب البعد عن ذلك.

‌الفرع الرابع: الإحسان إلى الناس بالإنفاق والخلق الحسن:

ومن الأعمال التي لها أثر في صلاح القلب: الإحسان إلى عباد الله ببذل ما تجود به النفس من المال والخلق الحسن.

والداعية الموفق له نصيب كبير من هذه العبادة العظيمة التي لها أكبر الأثر على المدعوين.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ترتيل القراءة، واجتناب الهذ، وهو الإفراط في السرعة (1/ 563) ح (822).

ص: 185

‌أولًا: الحث على الإنفاق في وجوه البر:

جاءت النصوص في الحث على الإنفاق والبذل والجود، فقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].

وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ»

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» ، وَقَالَ:«يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ، وَقَالَ:«أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟! فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك، (2/ 692) ح (995).

(2)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب تفسير القرآن الكريم، باب قوله:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7](6/ 73) ح (4684)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف (2/ 690) ح (993).

ص: 186

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»

(1)

.

‌ثانيًا: مكانة الخلق الحسن وأثره العظيم في صلاح القلب:

أما الإحسان إلى الناس بالتعامل معهم بالخلق الحسن فله أثر عظيم على صلاح القلب؛ لأنه من أعظم القربات إلى الله تعالى، ودونك طرفًا من الأحاديث في بيان مكانة الخلق الحسن:

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ»

(2)

.

وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا»

(3)

.

وفي رواية أخرى عن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»

(4)

.

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية [الليل: 6](2/ 115) ح (1442)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك (2/ 700) ح (1010).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (45/ 537) ح (27555)، وابن حبان في صحيحه في باب حسن الخلق، ذكر البيان بأن الخلق الحسن من أثقل ما يجد المرء في ميزانه يوم القيامة (2/ 230) ح (481)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 89) ح (134)، وقال محقق المسند (45/ 537) ح (27555):"حديث صحيح".

(3)

أخرجه البخاري في كتاب اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم (5/ 28) ح (3759).

(4)

أخرجه البخاري وهذا لفظه في كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل (8/ 14) ح (6035)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم (4/ 1810) ح (2321)

ص: 187

لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ:«تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ» ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ:«الفَمُ وَالفَرْجُ»

(2)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا»

(3)

.

ومما يدل على مكانة حسن الخلق وأثره العظيم أنه سبب لدخول الجنة مع قلة النوافل، أو العقوبة بالنار لمن ساء خلقه مع كثرة نوافله، لكنها لا تنفعه، بسبب سوء خلقه، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا

(1)

أخرجه أحمد في المسند (42/ 346) ح (25537)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في حسن الخلق (4/ 252) ح (4798)، وابن حبان في صحيحه في باب حسن الخلق، ذكر رجاء نوال المرء بحسن الخلق درجة القائم ليله الصائم نهاره (2/ 228) ح (480)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 8) ح (2643)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (42/ 346) ح (25537):"حديث صحيح لغيره".

(2)

أخرجه أحمد في المسند (15/ 47) ح (9096)، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق (4/ 363) ح (2004) وقال:"صحيح غريب"، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب (2/ 1418) ح (4246)، وابن حبان في صحيحه في باب حسن الخلق، ذكر البيان بأن من أكثر ما يدخل الناس الجنة التقى وحسن الخلق (2/ 224) ح (476)، والحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق (4/ 360) ح (7919) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 318) ح (1723).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (11/ 347) ح (6735)، وابن حبان في صحيحه في باب حسن الخلق، ذكر البيان بأن من حسن خلقه كان في القيامة ممن قرب مجلسه من المصطفى صلى الله عليه وسلم (2/ 235) ح (485)، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الأدب، باب ما جاء في حسن الخلق (8/ 21) ح (12666):"رواه أحمد بإسناد جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 10) ح (2650).

ص: 188

وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:«هِيَ فِي النَّارِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ»

(1)

.

‌الفرع الخامس: الإكثار من ذكر الله:

من العبادات التي لها أثر في حياة القلب وطمأنينته الإكثار من ذكر الله تعالى.

قال سبحانه وتعالى في وصف عباده: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].

وحث الله عباده على الإكثار من ذكره، فقال سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].

وأخبر سبحانه وتعالى أنه يذكر من يذكره، ويكون معه في حال ذكره لربه، فقال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

(1)

أخرجه أحمد في المسند (29/ 33) ح (9674)، وابن حبان في صحيحه في باب الغيبة، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ترك الوقيعة في المسلمين وإن كان تشميره في الطاعات كثيرًا (13/ 76) ح (5764)، والحاكم في المستدرك في كتاب البر والصلة (4/ 183) ح (7304) وصححه ووافقه الذهبي، ولفظه عند الحاكم: إنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانُهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةٌ، قَالَ:«لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ فِي النَّارِ» وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا، قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ» ، وقال في مجمع الزوائد (8/ 169):"رواه أحمد والبزار، ورجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 682) ح (2560).

ص: 189

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» الحديث

(1)

.

ومن الأسباب التي تجعل الذكر سببًا لصلاح القلب:

1 -

الإخلاص لله في هذه العبادة.

2 -

الحرص على حضور القلب عند قول الذكر.

3 -

المواظبة والاستمرار.

4 -

سؤال الله أن يعينه على هذه العبادة.

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ:«يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ» ، فَقَالَ:«أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»

(2)

.

5 -

الحرص على المتابعة في هذه العبادة وذلك يتمثل فيما يلي:

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28](9/ 121) ح (7405)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (4/ 2061) ح (2675).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (36/ 429) ح (22119)، وأبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار (2/ 86) ح (1522)، والنسائي في كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء (3/ 53) ح (1303)، وابن خزيمة في صحيحه في كتاب الصلاة، باب الأمر بمسألة الرب عز وجل في دبر الصلوات، المعونة على ذكره وشكره وحسن عبادته (1/ 391) ح (751)، وابن حبان في صحيحه في فصل في القنوت، ذكر الاستحباب للمرء أن يستعين بالله جل وعلا على ذكره وشكره وحسن عبادته عقيب الصلوات المفروضات (5/ 364) ح (2020)، والحاكم في المستدرك في كتاب الطهارة (1/ 407) ح (1010) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 259) ح (1596)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه على المسند (36/ 430) ح (22119).

ص: 190

• الحرص على الالتزام بوقت الذكر المحدد وعدده.

• الحرص على الالتزام بلفظ الذكر الذي ورد به الدليل.

• الحرص على الالتزام بطريقة أداء العبادة المشروعة كما صح بها الدليل.

وهكذا الداعية الموفق يحرص على هذا الزاد الإيماني العظيم؛ ليكون عونًا له في القيام بأعباء الدعوة وتكاليفها الشاقة، يقول ابن القيم رحمه الله عن فائدة الذكر: "إنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.

وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا"

(1)

.

‌الفرع السادس: كثرة الاستغفار والتوبة:

لا شك أن للذنوب والمعاصي أثرًا كبيرًا في إفساد القلب، وضررها عظيم عليه، "وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر. وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟! "

(2)

.

وهذا الداء الخطير على القلوب قد جعل الله له علاجًا، وهو الاستغفار والتوبة.

قال تعالى في بيان أثر الاستغفار: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].

(1)

الوابل الصيب من الكلم الطيب (42) لابن القيم، ت: سيد إبراهيم، دار الحديث القاهرة، ط 3، 1999 م.

(2)

الجواب الكافي (1/ 98) لابن القيم، ت: محمد الإصلاحي، وخرج أحاديثه: زائد النشيري، دار عالم الفوائد مكة، ط 1، 1429 هـ.

ص: 191

وقال سبحانه وتعالى في بيان ثمرات الاستغفار والتوبة: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].

وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].

والذي يظهر من أقوال المفسرين في زيادة القوة أنها قوة حسية ومعنوية، يجدون أثرها في حياتهم

(1)

.

ولا شك أن الداعية بحاجة ماسة لهذه القوة التي يعينه الله بها على النجاح في دعوته.

وجاء الأمر بالتوبة فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وينظر الداعية إلى حال القدوة صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يبذل جهدًا عظيمًا في كثرة الاستغفار والتوبة، وذلك ما يجعل الداعية يسابق وينافس في هذا المضمار لينال ثمرة ذلك في حياته ودعوته.

يقول أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»

(2)

.

ويَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللهِ،

(1)

ينظر: تفسير الطبري (12/ 445)، تفسير البغوي (4/ 183)، تفسير ابن كثير (4/ 329)، فتح القدير للشوكاني (2/ 573)، تفسير السعدي (383).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة (8/ 67) ح (6307).

ص: 192

وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ»

(1)

.

ومن رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة، فعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(2)

.

بل الأمر أعظم من ذلك، فالله يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا قرّبه النبي صلى الله عليه وسلم بمثال؛ ليظهر منه عظيم فرحة الرب سبحانه وتعالى بتوبة عبده.

يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»

(3)

.

وحتى يحصل من التوبة والاستغفار أثرهما على صلاح القلب فا بد من مراعاة أمور، وهي:

1 -

الندم على ما حصل من الذنب.

2 -

العزم على عدم العودة للذنب.

3 -

الإقلاع عن الذنب.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (30/ 226) ح (18294)، والسنن الكبرى للنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، كم يستغفر في اليوم ويتوب؟ (9/ 168) ح (10205)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 435) ح (1452)، وقال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (30/ 226) ح (18294):"حديث صحيح".

(2)

أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة (4/ 2113) ح (2759).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب الحض على التوبة والفرح بها (4/ 2103) ح (2744).

ص: 193

4 -

وإذا كان الذنب في حقوق الآدميين، فلا بد من إرجاعها لهم أو طلب السماح

(1)

.

5 -

حضور القلب عند التوبة والاستغفار، فتكون التوبة والاستغفار باللسان والقلب، فيحدث أثر التوبة في القلب، وهذا الأثر يحدث -والله أعلم- مع كثرة الاستغفار والتوبة؛ لأنه مع التكرار يحضر القلب ويحدث الأثر فيه، ولذا جاءت النصوص بالإكثار من التوبة والاستغفار، كما سبق في الأحاديث من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وحثه لأمته.

6 -

البحث عن جلساء صالحين يعينونه على الخير، والاستمرار على التوبة، كما في حديث قاتل المائة، فقد حثه العالم على الذهاب إلى قرية الصالحين حتى يجد من يعينونه على توبته

(2)

.

‌الفرع السابع: المحاسبة، والمجاهدة:

من الأعمال التي لها أثر في صلاح القلب وثبات صاحبه إقباله على محاسبة

(1)

ينظر: رياض الصالحين (33 - 34) للنووي، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 3، 1419 هـ.

(2)

وقد دل على هذا حديث أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» .

أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (4/ 2118) ح (2766).

ص: 194

نفسه، ومجاهدتها على الطاعات، ودونك طرفًا من خبر ذلك:

قال تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].

قال ابن كثير رحمه الله: "أي: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم"

(1)

.

ويقول السعدي رحمه الله: "وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة"

(2)

.

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

قال قتادة

(3)

رحمه الله في معنى قوله تعالى: {فُرُطًا} : "أضاع أكبر الضيعة،

(1)

تفسير ابن كثير (8/ 7).

(2)

تفسير السعدي (853).

(3)

قتادة بن دعامة بن قتادة السَّدُوْسِيُّ، الأعمى حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين، وكان من أوعية العلم، ثقة ثبت، قال الذهبي عنه:"وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر -نسأل الله العفو-. ومع هذا، فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له الزلل، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه. نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". وتوفي رحمه الله سنة (118 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 269)، البداية والنهاية (13/ 76)، الأعلام (5/ 189).

ص: 195

أضاع نفسه، [وغبن]

(1)

مع ذلك .. تجده حافظًا لماله، مضيعًا لدينه"

(2)

.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحُاسِبوا أنفسَكم اليومَ، وَتَزَيّنوا للعرض الأكبر؛ يومئذٍ تُعرَضون لا تخفى منكم خافية"

(3)

.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

قال البغوي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لنثبتنهم على ما قاتلوا عليه، وقيل: لنزيدنهم هدى كما قال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]،

(1)

في الأصل: (وعسى)، وفي إغاثة اللهفان (1/ 132):(وغبن)، وهو الصحيح الذي يستقيم به المعنى، والله أعلم.

(2)

محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (25) مع بعض التصرف اليسير، والكتاب ت: المستعصم بالله أبي هريرة مصطفى بن علي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1406 هـ.

(3)

الزهد لأحمد بن حنبل (99) وضع حواشيه: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1420 هـ.

ونقل ابن أبي الدنيا عن الحسن البصري رحمه الله في محاسبة النفس (25) قوله: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته".

وفي كتاب محاسبة النفس (60) أيضًا عن الحسن قال: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما صلة إليك هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: هيهات .. وما لي ولهذا؟! والله ما أعذر بهذا، والله لا أعود إلى هذا أبدًا إن شاء الله. إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم. إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله".

ص: 196

وقيل: لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة، والطريق المستقيمة هي التي يوصل بها إلى رضا الله عز وجل. قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور، فإن الله قال:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعات. قال الحسن: أفضل الجهاد مخالفة الهوى، وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به، وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة.

وروي عن ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا"

(1)

.

وقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].

ومن جاهد عدوه الكافر، ونفسه بالصبر على الطاعات، وجاهد هواه وشيطانه، فإنما تعود ثمرة تلك المجاهدة عليه

(2)

.

(1)

تفسير البغوي (6/ 256).

(2)

ينظر: تفسير البغوي (6/ 233)، تفسير ابن كثير (6/ 264)، تفسير السعدي (626).

ص: 197

‌الباب الثاني: نماذج من أعمال القلوب المؤثرة على الداعية ودعوته، مع ذكر أمثلة تطبيقية من حياة دعاة السلف

الفصل الأول: نماذج من أعمال القلوب التي لها أثر على الداعية ودعوته.

الفصل الثاني: أمثلة وتطبيقات على بعض دعاة علماء السلف وأثر عمل القلب عليهم وعلى دعوتهم.

ص: 198

الفصل الأول:

نماذج من أعمال القلوب التي لها أثر على الداعية ودعوته

المبحث الأول: الإخلاص.

المبحث الثاني: اليقين.

المبحث الثالث: الصبر.

المبحث الرابع: الرضا

المبحث الخامس: المحبة.

المبحث السادس: الخوف والخشية.

المبحث السابع: الرجاء.

المبحث الثامن: التوكل.

المبحث التاسع: التقوى.

المبحث العاشر: الورع.

ص: 199

‌الفصل الأول:

نماذج من أعمال القلوب التي لها أثر على الداعية ودعوته

‌توطئة:

لأعمال القلوب أثر عظيم على الداعية في نفسه وعلى دعوته، فإذا حقق أعمال القلوب وحرص على تفقدها في قلبه وحاسب نفسه عليها أثمر له ذلك توفيقًا وإعانة وسدادًا وبركة في علمه ودعوته، وظهر أثرها ولو بعد حين، وها هو شيخ الإسلام يموت مسجونًا وقد منع عنه قبل موته الأقلام والأوراق، وقد حورب علمه وكتبه، ثم ما الذي حدث بعد وفاته رحمه الله؟ فقد نشر الله علمه في الأرض، وسخر له من يهتم به، وينتفع به، ويحرص على نشره، وما ذاك إلا أثر وثمرة من صلاح النية، وما في القلوب مما يعلمه الله من الإخلاص والصدق والتقوى والخشية، وحب تعليم الناس الخير، وهذا ما أحسبه في هذا الإمام والله حسيبه.

وهذه كلمة فريدة من أحد تلاميذ

(1)

شيخ الإسلام ابن تيمية يرسلها إلى طلاب الشيخ، وهو يذكر لهم كتب الشيخ وعلمه، وينبهم على الاهتمام بها وجمعها، فيقول فيها: "ووالله -إن شاء الله- ليقيمن الله لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم

"

(2)

.

(1)

هو الشيخ أحمد بن محمد بن مري الحنبلي كان في بداية أمره معرضًا عن ابن تيمية، ثم اجتمع به فأحبه وتتلمذ على يده، وأصبح من المدافعين عنه وعن عقيدة السلف.

ينظر: الدرر الكامنة (1/ 358)، موسوعة مواقف السلف (7/ 434).

(2)

رسالة الشيخ أحمد بن محمد بن مري الحنبلي إلى تلاميذ شيخ الإسلام، وهي ضمن كتاب الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (156) لمحمد شمس وعلي العمران، دار عالم الفوائد مكة، ط 2، 1422 هـ.

ص: 200

وقد تحقق ذلك، وبر الله قسم هذا الرجل، فجمعت كتب شيخ الإسلام، واشتغل بها العلماء تدريسًا وشرحًا وتحقيقًا

(1)

، كما حصل من قبل للإمام أحمد وقد كان ينهى عن كتابة كلامه، وسخر الله من كتب علمه ونشره بين الخلائق

(2)

.

وتربى على كتب شيخ الإسلام أئمة، نفع الله بهم الأمة، وعملت فيها الكثير من الرسائل العلمية، وذلك ببركة النية الخالصة الصادقة.

وبعد أن تقرر هذا، فهذه جملة من أعمال القلوب لا بد للمسلم من الاعتناء بها وتفقدها في قلبه، وتحقيق أسباب حصولها.

وعلى هذا فحقيق بكل داعية أن يحقق أسباب الوصول إلى هذه الأعمال القلبية وغيرها من أعمال القلوب، وأن يكون دائم التفقد والمحاسبة لنفسه على هذه الأعمال؛ لأنه لن يفلح في دعوته إلا بتحقيقها، وعند ذلك سيجد أثرها عليه في نفسه وعلى دعوته، كما سيأتي في الفصول القادمة.

ومما ينبغي التنبيه عليه في بداية هذا المبحث أنني سأمر على هذه الأعمال القلبية باختصار، فإنما أردت التنبيه والذكرى لنفسي ولإخواني الدعاة إلى الله تعالى، وهي تنقسم إلى أعمال قلبية محضة، وأخرى مشتركة بين القلب والجوارح

(3)

، ودونك تفصيل هذه الأعمال القلبية.

(1)

ينظر: مقدمة العلامة بكر أبو زيد رحمه الله لجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (8 - 9).

(2)

ينظر: ص (272).

(3)

وجلها أعمال قلبية محضة، والمشترك بين القلب والجوارح الصبر والرضا.

ص: 201

‌المبحث الأول: الإخلاص:

‌أولًا: التعريف:

الإخلاص لغة: من خلص الشيء أي: تنقى وتهذب من الشوائب، والإخلاص ترك الرياء

(1)

.

وفي الاصطلاح: لقد عرف الإخلاص بتعاريف كثيرة متقاربة، ومن أدقها تعريف الغزالي

(2)

، فيقول رحمه الله عن الإخلاص بأنه:"تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب"

(3)

.

وعرفه ابن القيم رحمه الله بمجموعة من التعريفات من أدقها: "إفراد الحق بالقصد في الطاعة، وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله"

(4)

.

(1)

ينظر: الصحاح (3/ 1037)، مقاييس اللغة (2/ 208)، المعجم الوسيط (1/ 249) مادة (خلص).

(2)

محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد. الإمام، الفقيه المتكلم، النظار، صاحب التصانيف، والذكاء المفرط، تفقه ببلده أولًا، ثم تحول إلى نيسابور في مرافقة جماعة من الطلبة، فلازم إمام الحرمين فبرع في الفقه في مدة قريبة. ومن تصانيفه البسيط، والوسيط وغير ذلك، قال عنه الذهبي: للغزالي غلط كثير، وتناقض في تواليفه العقلية، ودخول في الفلسفة، وشكوك، ومن تأمل كتبه العقلية رأى العجائب، وكان مزجي البضاعة من الآثار، على سعة علومه، وجلالة قدره، وعظمته، توفي سنة (505 هـ) رحمه الله تعالى.

ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 322)، تاريخ الإسلام (11/ 71)، البداية والنهاية (12/ 273).

وله في أعمال القلوب كلام دقيق، قد لا تجده عند غيره، ولهذا من رام أن يستفيد من كلامه في هذا المجال ويسلم من عثراته، فعليه بمثل مختصر منهاج القاصدين لأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي.

(3)

إحياء علوم الدين (4/ 379).

(4)

مدارج السالكين (2/ 91 - 92).

ص: 202

‌ثانيًا: الإخلاص في الكتاب والسنة:

لقد جاءت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة على هذا العمل القلبي العظيم، ومنها على سبيل المثال:

• قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى هذه الآية: "أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله تعالى، وما جاءوا به عنه من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك"

(1)

.

ويقول السعدي رحمه الله: "أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية الله ورضاه"

(2)

.

• ومن الأدلة على الإخلاص قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].

قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، والإخلاص معناه: تخليص القصد لله تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة، حقوق الله وحقوق عباده. أي: أخلصوا لله تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 403).

(2)

تفسير السعدي (286).

ص: 203

{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} لذلك، فلا تبالوا بهم، ولا يثنكم ذلك عن دينكم، ولا تأخذكم بالله لومة لائم، فإن الكافرين يكرهون الإخلاص لله وحده غاية الكراهة، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] "

(1)

.

• ومن الأدلة على وجوب إخلاص النية لله تعالى في جميع العبادات الظاهرة والباطنة

(2)

قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].

• وما ورد في السنة عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»

(3)

.

قال ابن رجب رحمه الله: "والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره؟ وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على

(1)

تفسير السعدي (734).

(2)

ينظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 580)، تفسير السعدي (931).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب النية في الأيمان (8/ 140) ح (6689)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنية» (3/ 1515) ح (1907).

ص: 204

الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين. وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا

(1)

مصنفًا سماه: (كتاب الإخلاص والنية)، وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم تارة بلفظ النية، وتارة بلفظ الإرادة، وتارة بلفظ مقارب لذلك، وقد جاء ذكرها كثيرًا في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضًا من الألفاظ المقاربة لها"

(2)

.

• ومما يدل على أن الإخلاص شرط لقبول العمل حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» .

• وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّل مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» أَوْ: «نَفْسِهِ» .

ودل الحديث على أمور، منها:

- أن الإخلاص في كلمة التوحيد من أعظم أسباب سعادة المؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

(3)

.

(1)

عبد الله بن محمد بن عبيد القرشي أبو بكر ابن أبي الدنيا الحافظ المصنف المشهور، له التصانيف النافعة الذائعة في الرقائق وغيرها، تزيد على مائة مصنف، وكان ثقة صدوقًا ذا مروءة، توفي سنة (281 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (11/ 293)، تاريخ الإسلام (6/ 768)، البداية والنهاية (14/ 657).

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 65 - 66).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 194) دار المعرفة بيروت، 1379 هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

ص: 205

- وفي عون المعبود: "وفي قوله في حديث أبي هريرة: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله» سر من أسرار التوحيد، وهو أن الشفاعة إنما تنال بتجريد التوحيد، فمن كان أكمل توحيدًا كان أحرى بالشفاعة"

(1)

.

• عن أبي هريرة رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» .

والحديث من أعظم الزواجر عن الرياء والسمعة التي هي من نواقض الإخلاص.

‌ثالثًا: أقوال العلماء في الإخلاص:

قال الفضيل بن عياض

(2)

رحمه الله في معنى قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]: "هو أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا

(1)

عون المعبود (13/ 56) للعظيم آبادي، ومعه حاشية ابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت، ط 2، 1415 هـ.

(2)

الإمام، القدوة، الثبت، شيخ الحرم المكي، أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي. انتقل إلى مكة، ونزلها، إلى أن مات بها في أول سنة (187 هـ) عليه رحمة الله في خلافة هارون، وكان ثقة، نبيلًا، فاضلًا، عابدًا، ورعًا، كثير الحديث.

ينظر: البداية والنهاية (13/ 660)، سير أعلام النبلاء (8/ 421)، الأعلام (5/ 153).

ص: 206

علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال:"إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"، ثم قرأ قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]

(1)

.

وقيل لسهل رحمه الله: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: "الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب"

(2)

.

وقال يوسف بن الحسين

(3)

رحمه الله: "أعز شيء في الدنيا: الإخلاص. وكم أجتهدُ في إسقاط الرياء عن قلبي! فكأنه ينبت على لون آخر"

(4)

.

تنبيه: وهذا الكلام -والله أعلم- لأجل حثِّ النفس على الاجتهاد في الإخلاص، إلا أنه قد يصيب من يسمعه باليأس من الإخلاص وأنه غير مقدور عليه، فيضعف الاهتمام به، وهذا ما ينبغي أن ينتبه له الداعية عند حديثه عن أعمال القلوب، وأن يذكِّر الناس بأهميتها، ويرغبهم في أسباب الحصول عليها، وأن الله لا يخيِّب من جاهد وبذل الأسباب الموصلة إليها، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

(1)

ينظر: حلية الأولياء (8/ 95)، مدارج السالكين (2/ 88 - 89) مع بعض التصرف.

(2)

مدارج السالكين (2/ 92).

(3)

يوسف بن الحسين بن علي أبو يعقوب الرازي من مشايخ الصوفية، مات سنة (304 هـ) رحمه الله.

ينظر: تاريخ بغداد (16/ 462)، سير أعلام النبلاء (14/ 248)، الأعلام للزركلي (8/ 227).

(4)

مدارج السالكين (2/ 92).

ص: 207

وقال أبو سليمان الداراني

(1)

رحمه الله: "إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يثقله ولا ينفعه"

(3)

.

(1)

الإمام الكبير عبد الرحمن بن أحمد بن عطية أبو سليمان الداراني من أهل داريا، وهي ضيعة إلى جنب دمشق. كان أحد عباد الله الصالحين، ومن الزهاد المتعبدين، وهو من كبار الصوفية، وتوفي رحمه الله سنة (215 هـ)، وقيل:(205 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (11/ 523)، سير أعلام النبلاء (10/ 182) الأعلام (3/ 293).

(2)

مدارج السالكين (2/ 92)، البداية والنهاية (14/ 150).

(3)

الفوائد (49).

ص: 208

‌المبحث الثاني: اليقين:

‌أولًا: التعريف:

اليقين لغة:

تعريفات أهل اللغة لليقين متقاربة، تدور حول أنه: العلم الذي لا يخالطه شك

(1)

.

وفي الاصطلاح:

يوجد ارتباط وثيق بين معناه في اللغة وفي الاصطلاح، فهو العلم الذي لا شك فيه.

وعرفه الجنيد

(2)

رحمه الله بقوله: "اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب"

(3)

.

وعرفه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "أما اليقين فهو: طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه"

(4)

.

‌ثانيًا: اليقين في الكتاب والسنة:

لقد اعتنى القرآن الكريم بهذا العمل القلبي العظيم، فذكر اليقين في آيات كثيرة، ومن ذلك:

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (9/ 245)، الصحاح (6/ 2219)، مقاييس اللغة (6/ 157) مادة (يقن).

(2)

الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخزاز، أبو القاسم، وأتقن العلم، ثم أقبل على شأنه، وتأله، وتعبد، ونطق بالحكمة، وروايته للحديث قليلة، وهو من كبار الصوفية، توفي رحمه الله سنة (297 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (8/ 168)، سير أعلام النبلاء (14/ 66)، الأعلام (2/ 141).

(3)

مدارج السالكين (2/ 375).

(4)

مجموع الفتاوى (3/ 329).

ص: 209

• جعله الله من صفات عباده المتقين، فقال تعالى:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].

قال السعدي رحمه الله: "والآخرة اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم؛ لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، واليقين: هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل"

(1)

.

• وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

وفي تفسير السعدي لقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} : "أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله؟!

فلا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية، فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز بإيقانه ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين عقلًا وشرعًا اتباعه. واليقين هو: العلم التام الموجب للعمل"

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (41).

(2)

تفسير السعدي (235).

ص: 210

• وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].

قال الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى ذكره: {فَاصْبِرْ} يا محمد لما ينالك من أذاهم، وبلِّغهم رسالة ربك، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبَّاعك في الأرض حقّ، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} يقول: ولا يستخفنّ حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله، الذين لا يوقنون بالمعاد، ولا يصدّقون بالبعث بعد الممات، فيثبطوك عن أمر الله والنفوذ لما كلَّفك من تبليغهم رسالته"

(1)

.

• وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

ومن هذه الآية استنبط شيخ الإسلام رحمه الله أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين

(2)

.

• وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 2].

قال السعدي رحمه الله: "أي: {هَذَا} القرآن الكريم والذكر الحكيم {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} أي: يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين، والهدى والرحمة. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه، ويحصل به الخير والسرور والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي

(1)

تفسير الطبري (20/ 120).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 358).

ص: 211

الرحمة؛ فتزكو به نفوسهم، وتزداد به عقولهم، ويزيد به إيمانهم ويقينهم، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند"

(1)

.

• ومما ورد في السنة عن اليقين حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» .

دل هذا الحديث على أنَّ من شروط كلمة التوحيد اليقينَ.

• وعن شَدَّاد بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ، قَالَ:«وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»

(2)

.

دل هذا الحديث على أن من شروط أثر سيد الاستغفار على صاحبه أن يقوله بيقين.

‌ثالثًا: أقوال العلماء في اليقين:

عن سفيان الثوري رحمه الله قال: "لو أن اليقين، استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحًا وحزنًا وشوقًا إلى الجنة، أو خوفًا من النار"

(3)

.

وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: "حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين

(1)

تفسير السعدي (777).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل الاستغفار (8/ 67) ح (6306).

(3)

حلية الأولياء (7/ 17).

ص: 212

وفيه سكون إلى غير الله"

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا باشر القلب اليقين امتلأ نورًا وانتفى عنه كل ريب وشك، وعوفي من أمراضه القاتلة، وامتلأ شكرًا لله وذكرًا له ومحبة وخوفًا"

(2)

.

ويقول أيضًا: "فالعلم أول درجات اليقين، ولهذا قيل: العلم يستعملك، واليقين يحملك، فاليقين أفضل مواهب الرب لعبده، ولا تثبت قدم الرضا إلا على درجة اليقين، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، قال ابن مسعود رضي الله عنه:(هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من الله، فيرضى ويسلم)

(3)

، فلهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا بيقينه"

(4)

.

(1)

مفتاح دار السعادة (1/ 154).

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 154).

(3)

نسبه ابن جرير إلى علقمة، ينظر: تفسير الطبري (23/ 12).

(4)

مفتاح دار السعادة (1/ 155).

ص: 213

‌المبحث الثالث: الصبر:

‌أولًا: التعريف:

الصبر لغة: في الأصل هو الحبس، أي: حبس النفس عن الجزع

(1)

.

وفي الاصطلاح: من أدق تعاريفه تعريف الراغب رحمه الله بقوله: "الصَّبْرُ: حبس النّفس على ما يقتضيه العقل والشرع"

(2)

.

والذي يظهر لي أن تعريف الراغب تعريف دقيق؛ لأنه يشمل كل أنواع الصبر، فيكون حبسًا للنفس على الطاعة وترك المعصية، وعلى القدر المؤلم، والله أعلم.

وقيل: هو: "حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش"

(3)

. وهذا التعريف يصلح لنوع من الصبر وهو الصبر على القدر المؤلم

(4)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله عن حقيقة الصبر وفائدته: "خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها"

(5)

.

‌ثانيًا: الصبر في الكتاب والسنة:

قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعًا"

(6)

.

(1)

ينظر: الصحاح (2/ 706)، مقاييس اللغة (3/ 329)، لسان العرب (4/ 438) مادة (صبر).

(2)

المفردات في غريب القرآن (474).

(3)

مدارج السالكين (2/ 155).

(4)

ينظر: أعمال القلوب للسبت (2/ 211، 212).

(5)

عدة الصابرين (16).

(6)

نقله ابن القيم عن الإمام أحمد في عدة الصابرين (71)، مدارج السالكين (2/ 151).

ص: 214

وذكر ابن القيم أن الصبر مذكور في القرآن على ستة عشر نوعًا، وذكرها رحمه الله مع ذكر شواهدها، وأذكر منها على سبيل المثال، الآتي

(1)

:

• الأمر به، نحو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

• النهي عن ضده، كقوله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقوله:{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة.

• الثناء على أهله، كقوله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وهو كثير في القرآن.

• محبته سبحانه وتعالى لهم، كقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

• معيته سبحانه وتعالى لهم، وهي معية خاصة، تتضمن: حفظهم ونصرهم، وتأييدهم كقوله:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وهي ليست معية عامة، التي تتضمن: معية العلم والإحاطة.

• الجزاء منه سبحانه وتعالى لهم بغير حساب، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وورد الصبر في السنة في عدة أحاديث منها:

• عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ

(1)

ينظر: مدارج السالكين (2/ 151 - 152).

ص: 215

بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» الحديث

(1)

.

قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "والمراد: أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا"

(2)

.

• وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: إِنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ:«مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»

(3)

.

دل الحديث على فضيلة الصبر ومكانته العظيمة، ومن يعالج نفسه على الصبر ويعودها عليه، فإن الله يمكنه من نفسه حتى تنقاد له، وأن الصبر أفضل ما يعطاه المرء لكونه غيرَ محدودٍ جزاؤُه، فيوفيه الله أجره بغير حساب

(4)

، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

‌ثالثًا: أقوال العلماء في الصبر:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"

(5)

.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم"، ثم رفع صوته فقال:"ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له"، وقال: "الصبر مطية لا تكبو

(6)

"

(7)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء (1/ 203) ح (223).

(2)

شرح النووي على مسلم (3/ 101).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (2/ 122) ح (1469)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر (2/ 729) ح (1053).

(4)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 304).

(5)

الزهد لأحمد بن حنبل (97)، حلية الأولياء (1/ 50).

(6)

أي: دابة لا تعثر ولا تسقط على الوجه أثناء الحركة.

ينظر: الصحاح (6/ 2471)، مقاييس اللغة (5/ 155)، لسان العرب (15/ 213) مادة (كبا).

(7)

ينظر: الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (24)، ت: محمد رمضان خير يوسف، دار ابن حزم بيروت، ط 1، 1418 هـ، حلية الأولياء (1/ 76)، وهو بهذا اللفظ في عدة الصابرين (95).

ص: 216

وقال الحسن رحمه الله: "الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده"

(1)

.

وقال أبو علي الدقاق

(2)

رحمه الله: "فاز الصابرون بعز الدارين؛ لأنهم نالوا من الله معيته؛ فإن الله مع الصابرين"

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه"

(4)

.

ويقول أيضًا: "وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله"

(5)

.

(1)

الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (28).

(2)

الحسن بن علي بن محمد أبو علي الأستاذ الدقاق الزاهد النيسابوري، شيخ الصوفية، توفي رحمه الله سنة (406 هـ)، وقيل: سنة (412 هـ)، وقيل غير ذلك، والله أعلم.

ينظر: الكامل في التاريخ (7/ 669) لابن الأثير، ت: تدمري، دار الكتاب العربي بيروت، ط 1، 1417 هـ، الوافي بالوفيات (12/ 103)، البداية والنهاية (15/ 591).

(3)

مدارج السالكين (2/ 160).

(4)

مدارج السالكين (2/ 159).

(5)

مدارج السالكين (2/ 155).

ص: 217

‌المبحث الرابع: الرضا:

‌أولًا: التعريف:

الرضا في اللغة: ضد السخط

(1)

.

وفي الاصطلاح:

عرفه الجنيد رحمه الله فقال: "الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضا"

(2)

.

وقيل: "هو سرور القلب بمرّ القضاء"

(3)

.

وقال الراغب رحمه الله: "ألا يكره ما يجري به قضاؤه"

(4)

.

إذن هو الرضا بالقضاء والقدر، وعدم السّخط والاعتراض على قضاء الله وقدره، والتسليم والانقياد لأمره ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

‌ثانيًا: الرضا في الكتاب والسنة:

قد ورد الرضا في القرآن الكريم على أحوال كثيرة، فمن ذلك:

• أن الله قد رضي لنا دين الإسلام، فعلينا الرضا به، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

قال ابن كثير رحمه الله: "أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله

(1)

ينظر: مقاييس اللغة (2/ 402)، المخصص (3/ 387)، لسان العرب (14/ 323) مادة (رضي).

(2)

مدارج السالكين (2/ 172 - 173).

(3)

نضرة النعيم (6/ 2103).

(4)

المفردات في غريب القرآن (356).

ص: 218

وأحبه، وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه"

(1)

.

• أخبر سبحانه وتعالى عن عباده الذين رضي عنهم ورضوا عنه، وما أعد لهم من ثواب عظيم في الآخرة، فقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

• وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية الكريمة: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: إذا حكَّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليمًا كليًّا، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة"

(2)

.

والآية تدل على وجوب الرضا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، مع التسليم الكامل والانقياد التام من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما سبق في كلام ابن كثير.

• وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فالواجب ألا يختار العبد إذا أمره الله ورسوله، بل

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 26).

(2)

تفسير ابن كثير (2/ 349).

ص: 219

يرضى ويسلم وينقاد؛ لأن الاختيار يتنافى مع رضاه بالله ربًّا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالإسلام دينًا

(1)

.

• وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

• وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].

قال ابن جرير رحمه الله: "ومن يصدق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله بذلك {يَهْدِ قَلْبَهُ} يقول: يوفق الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله مبينًا معنى الرضا بالله ربًّا: "أن لا يتخذ ربًّا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره، وينزل به حوائجه.

قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(سيدًا وإلهًا)

(3)

، يعني: فكيف أطلب ربًّا غيره وهو رب كل شيء؟! وقال في أول السورة: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] يعني معبودًا وناصرًا ومعينًا وملجأً، وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.

(1)

ينظر: مدارج السالكين (2/ 185).

(2)

تفسير الطبري (23/ 11).

(3)

ينظر: تفسير البغوي (3/ 212).

ص: 220

وقال في وسطها: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114] أي: أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم، فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه، وهذا كتابه سيد الحكام؟! فكيف نتحاكم إلى غير كتابه، وقد أنزله مفصلًا، مبينًا كافيًا شافيًا؟!

وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل، رأيتها هي نفس الرضا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا"

(1)

.

وقد ورد في السنة عدد من الأحاديث عن الرضا منها:

عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ»

(2)

.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»

(3)

.

وعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» .

دلت الأحاديث الثلاثة على أن من رضي بالله ربًّا، وبمحمد رسولًا، وبالإسلام دينًا، غفر له ذنبه، ووجبت له الجنة، وذاق طعم الإيمان في الدنيا الذي هو جنة معجلة.

(1)

مدارج السالكين (2/ 178).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (1/ 290) ح (386).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات (3/ 1501) ح (1884).

ص: 221

‌ثالثًا: أقوال العلماء في الرضا:

عن عمرو بن أسلم العابد

(1)

قال: سمعت أبا معاوية الأسود

(2)

رحمهم الله يقول: في قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: "الرضا والقناعة"

(3)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله تبارك وتعالى بقسطه وحلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط"

(4)

.

وقال ابن القيم رحمه الله عن الحديثين: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» ، «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» : "وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وتعالى وألوهيته، والرضا برسوله، والانقياد له، والرضا بدينه، والتسليم له، ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصدّيق حقًّا.

وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها، من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه

(1)

عمرو بن أسلم الطرسوسي العابد، نزيل دمشق. قال أبو حاتم: صدوق، توفي رحمه الله سنة (230 هـ).

ينظر: تاريخ دمشق (45/ 405)، تاريخ الإسلام (5/ 644)، الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة (7/ 331) لابن قطلوبغا الحنفي، ت: شادي آل نعمان، مكز النعمان للبحوث والدراسات صنعاء، ط 1، 1432 هـ.

(2)

أبو معاوية الأسود، مولى بني أمية، أحد الزهاد، وصحب إبراهيم بن أدهم والثوري، وكان منقطعًا إلى العبادة، وكان رجل صدق، قال عنه الذهبي: من كبار أولياء الله. لم أعثر على سنة وفاته رحمه الله.

ينظر: تاريخ دمشق (67/ 243) تاريخ الإسلام (4/ 1269) سير أعلام النبلاء (9/ 78).

(3)

الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا (72) ت: ضياء الحسن السلفي، الدار السلفية بومباي، ط 1، 1410 هـ.

(4)

الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا (111).

ص: 222

به ناطقًا، فهو على لسانه لا على حاله"

(1)

.

ويقول أيضًا: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين"

(2)

.

(1)

مدارج السالكين (2/ 170 - 171).

(2)

مدارج السالكين (2/ 172).

ص: 223

‌المبحث الخامس: المحبة:

‌أولًا: التعريف:

المحبة لغة: من الحُب وهو نقيض البغض، والحُب: الوداد، والحِبُّ أيضًا: الحبيب، مثل خِدْنٍ وخَدِينٍ. يقال: أحبّه فهو مُحَبٌّ. وحَبَّه يَحِبُّه بالكسر فهو محبوب

(1)

.

وفي الاصطلاح:

عرفها النووي رحمه الله بقوله: "المحبة: مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه، فيحب ما أحب ويكره ما كره"

(2)

.

ثم قال: "وبالجملة أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقًا، وقد يكون لإحسانه إليه ودفعه المضار والمكاره عنه"

(3)

.

وقال الراغب رحمه الله: "المحبة: ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيرًا، وذلك ضربان:

أحدهما: طبيعي، وذلك في الإنسان وفي الحيوان.

والثاني: اختياري، وذلك يختص به الإنسان"

(4)

.

وضرب لذلك أمثلة

(5)

.

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (4/ 8)، الصحاح (1/ 105)، لسان العرب (1/ 289) مادة (حبب).

(2)

شرح النووي على مسلم (2/ 14).

(3)

شرح النووي على مسلم (2/ 14).

(4)

الذريعة إلى مكارم الشريعة (256) للراغب الأصفهاني، ت: د. أبو اليزيد العجمي، دار السلام القاهرة، ط 1428 هـ.

(5)

ينظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة (256).

ص: 224

وخلاصة القول كما قال ابن القيم رحمه الله: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.

وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها، وعلاماتها وشواهدها، وثمراتها وأحكامها. فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة"

(1)

.

‌ثانيًا: المحبة في الكتاب والسنة:

• ذكر سبحانه وتعالى أنه يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين.

قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].

وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

والآيات في ذلك يصعب حصرها لكثرتها.

• وذكر أيضًا سبحانه وتعالى أنه لا يحب الكافرين، ولا يحب المعتدين، ولا يحب المسرفين، والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقوله تعالى وتبارك:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].

(1)

مدارج السالكين (3/ 11).

ص: 225

• وجعل سبحانه وتعالى علامة على محبته اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

• وذكر سبحانه وتعالى أن المؤمنين أشد حبًّا لله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

• وقال سبحانه وتعالى عن نفسه وعن عباده الصالحين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

ومن السنة:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» .

دل الحديث على أن محبة الله ورسوله من أعظم أسباب حلاوة الإيمان، وهي جنة معجلة لمن حقق أسبابها.

وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»

(1)

.

ودل هذا الحديث على أن المحبة في الله للصالحين تلحقه بهم في الآخرة، وأن قصر عمله عن عملهم، ويكون معهم في الجنة.

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب علامة حب الله عز وجل (8/ 39) ح (6169).

ص: 226

وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»

(1)

.

وهذا الحديث يدل على مكانة محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن العبد لا يؤمن حتى يقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على كل أحد سوى الله تعالى.

‌ثالثًا: أقوال العلماء في المحبة:

وذكر ابن رجب رحمه الله عن بعض السلف قولهم: "من عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، فإن المحبة تقتضي الطاعة كما قال بعض العارفين: الموافقة في جميع الأحوال"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "المحبّة هي حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذّة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلّا بها.

وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمّه، واللّسان إذا فقد نطقه، بل فساد القلب إذا خلا من محبّة فاطره وبارئه وإلهه الحقّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الرّوح، وهذا الأمر لا يصدّق به إلّا من فيه حياة"

(3)

.

وقال أيضًا: "المحبّ الصّادق لا بدّ أن يقارنه أحيانًا فرح بمحبوبه، ويشتدّ فرحه به، ويرى مواقع لطفه به، وبرّه به، وإحسانه إليه، وحسن دفاعه عنه، والتّلطّف في إيصاله المنافع والمسارّ والمبارّ إليه بكلّ طريق، ودفع المضارّ والمكاره عنه بكلّ طريق"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/ 12) ح (15)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 67) ح (44).

(2)

فتح الباري لابن رجب (1/ 51 - 52).

(3)

الجواب الكافي (1/ 545 - 546).

(4)

مدارج السالكين (2/ 339 - 340).

ص: 227

وقال ابن قدامة

(1)

رحمه الله: "علامة المحبّة كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التّنعّم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كلّ ما ينقض عليه الخلوة، ومتى غلب الحبّ والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرّة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحبّ والأنس قلبه"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "فإن المحب الصادق أحب شيء إليه الخبر عن محبوبه وذكره، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه:(لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله)

(3)

، وقال بعض العارفين: كيف يشبعون من كلام محبوبهم وهو غاية مطلوبهم؟! "

(4)

.

(1)

أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قدامة، أبو العباس ابن شيخ الإسلام شمس الدين ابن أبي عمر المقدسي، الحنبلي. كانت إليه مع القضاء خطابة الجبل والإمامة بحلقة الحنابلة ونظر أوقاف الحنابلة، وكان حسن السيرة في أحكامه، مليح البزة، ذكيًّا، مليح الدرس، له قدرة على الحفظ، وله مشاركة جيدة في العلوم. توفي رحمه الله سنة (689 هـ).

ينظر: تاريخ الإسلام (15/ 625)، الوافي بالوفيات (7/ 30).

(2)

مختصر منهاج القاصدين (351) لأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، قدم له: الأستاذ محمد أحمد دهمان، مكتبة دار البيان، دمشق، ط 1398 هـ.

(3)

ينظر: حلية الأولياء (7/ 272، 300).

(4)

مدارج السالكين (3/ 291).

ص: 228

‌المبحث السادس: الخوف والخشية:

‌أولًا: التعريف:

الخوف والخشية لغة:

الخوف لغة: من خاف يخاف خوفًا وخيفة ومخافة، ويدل على الذعر والفزع

(1)

.

والخشية في اللغة: بمعنى الخوف، تقول: خَشيَ الرجل يَخْشَى خَشْيَةً، أي: خاف.

وتكون الخشية بخوف معه تعظيم ومهابة، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]

(2)

.

ويرى الكفوي

(3)

رحمه الله أن الخشية أشد من الخوف، ويعلل ذلك فيقول: "لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خاشية أي: يابسة، وهو فوات بالكلية.

والخوف: النقص، من ناقة خوفاء أي: بها داء وليس بفوات .. لأن أصل الخشية خوف من تعظيم

(4)

.

(1)

ينظر: الصحاح (4/ 1358)، مقاييس اللغة (2/ 230)، لسان العرب (9/ 99) مادة (خوف).

(2)

ينظر: تهذيب اللغة (7/ 194)، الصحاح (6/ 2327)، مقاييس اللغة (2/ 184)، المعجم الوسيط (1/ 237) مادة (خشي)

(3)

أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء: صاحب الكليّات، كان من قضاة الأحناف، يميل إلى مذهب الماتريدية، توفي رحمه الله سنة (1094 هـ).

ينظر: الأعلام (2/ 38)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (1/ 544).

(4)

ينظر: الكليات (428).

ص: 229

الخوف والخشية في الاصطلاح:

عرفهما الراغب رحمه الله بقوله: "الخَوْف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أنّ الرّجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة، ويضادّ الخوف الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية"

(1)

. أما الخشية فقال عنها: "الخَشْيَة: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] "

(2)

.

وقال ابن قدامة رحمه الله: "اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال"

(3)

.

وقال الجرجاني رحمه الله: "الخوف: توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب"

(4)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله عن معنى الخشية: "والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فهي خوف مقرون بمعرفة"

(5)

.

‌ثانيًا: الخوف والخشية في الكتاب والسنة:

تنوعت نصوص القرآن الكريم في ذكر الخوف والخشية، فمن ذلك:

(1)

المفردات (303).

(2)

المفردات (283).

(3)

مختصر منهاج القاصدين (302).

(4)

التعريفات (101).

(5)

مدارج السالكين (1/ 508).

ص: 230

1 -

أمر الله به، كما قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]،، وقال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].

2 -

وتارة يجعل الله الخوف والخشية من صفات أوليائه وعباده المتقين، كما في قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 19 - 21].

3 -

ويذكر الله سبحانه وتعالى أنه بسبب خوفهم منه أدخلهم الجنة كما في قوله تعالى: {(45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46]، وكما في قوله تعالى أيضًا:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].

4 -

وتارة يذكر أن العاقبة في الدنيا لهم كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].

ومن السنة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» وذكرهم، ومنهم:«رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ» .

ص: 231

ومن أعظم ما يحجز العبد عن المعصية خوفه من الله؛ لما يترتب على ذلك من العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].

‌ثالثًا: أقوال العلماء في الخوف والخشية:

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وقال:"يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل". وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضي الله عنهم

(1)

.

وقال عمر رضي الله عنه: "لو نادى منادي من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلًا واحدًا، لخفت أن أكون أنا هو"

(2)

.

وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة

(3)

رضي الله عنه: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال: "يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أكن شيئًا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسيًا منسيًّا"

(4)

.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي

(1)

ينظر هذه الآثار في: حلية الأولياء (1/ 33، 2/ 236)، إحياء علوم الدين (3/ 111)، مختصر منهاج القاصدين (313)، البداية والنهاية (1/ 95).

(2)

حلية الأولياء (1/ 53).

(3)

عبد الله بن عامر بن ربيعة أبو محمد العَنْزِي المدني، حليف بني عدي بن كعب، وهو ابن الصحابي الجليل عامر بن ربيعة من كبار المهاجرين البدريين، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وله خمس سنين، وقيل: أربع، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وما سمع عنه حرفًا، وإنما روايته عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد ذكره الترمذي وابن حبان في الصحابة. توفي رضي الله عنه سنة (85 هـ).

ينظر: الكامل في التاريخ (3/ 530)، سير أعلام النبلاء (3/ 521) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 119).

(4)

شرح السنة (14/ 373)، وينظر أيضًا: سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون/ 83).

ص: 232

مات فيه، فقال لي: ضع رأسي، قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي"

(1)

.

وقال المسور بن مخرمة رضي الله عنه: لما طعن عمر قال: "لو أن لي طلاع الأرض

(2)

ذهبًا، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه"

(3)

.

وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعدِ سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي"

(4)

.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار"

(5)

.

وقال الحسن أيضًا: "لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم"

(6)

.

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب"

(7)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط"

(8)

.

(1)

حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).

(2)

قال الأصمعي: "طلاع الأرض: ملؤها". نقله عنه الجوهري في الصحاح (3/ 1254).

(3)

حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).

(4)

حلية الأولياء (1/ 383)، شرح السنة (14/ 373).

(5)

البخاري (8/ 68)، والترمذي واللفظ له (4/ 658).

(6)

شرح السنة (14/ 374).

(7)

إحياء علوم الدين (4/ 162)، مدارج السالكين (1/ 509).

(8)

مدارج السالكين (1/ 510).

ص: 233

قال أبو عثمان

(1)

رحمه الله: "صِدقُ الخوف هو: الورع عن الآثام ظاهرًا وباطنًا"

(2)

.

ويقول ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله"

(3)

.

(1)

الشيخ، الإمام، المحدث، القدوة سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور أبو عثمان الواعظ الحيري، وكان مجاب الدعوة، مات رحمه الله سنة (298 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (10/ 144)، سير أعلام النبلاء (14/ 62)، البداية والنهاية (14/ 770).

(2)

مدارج السالكين (1/ 510).

(3)

مدارج السالكين (1/ 511).

ص: 234

‌المبحث السابع: الرجاء:

‌أولًا: التعريف:

تعريف الرجاء في اللغة: من رجا يرجو رجاءً، وهو الأمل نقيض اليأس

(1)

.

والرجاء اصطلاحًا:

عرفه ابن القيم رحمه الله بقوله: "هو النظر إلى سعة رحمة الله"

(2)

.

وعرف الجرجاني رحمه الله الرجاء فقال: هو: "تعلق القلب بمحصول محبوب في المستقبل"

(3)

.

وقال الكفوي عليه رحمة الله: "الطمع فِيما يمكن حصوله، ويرادفه الأمل"

(4)

.

إذن، الرجاء الطمع في رحمة الله والنظر إلى سعتها.

‌ثانيًا: الرجاء في الكتاب والسنة:

• أخبر سبحانه وتعالى عن سعة رحمته فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (11/ 124)، مقاييس اللغة (2/ 494)، لسان العرب (14/ 309) مادة (رجا).

(2)

مدارج السالكين (2/ 37).

(3)

التعريفات (109).

(4)

الكليات (468).

ص: 235

• وقال سبحانه وتعالى مخاطبًا من أسرف على نفسه بالمعاصي: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

دلت الآيات على سعة رحمة الله تعالى، مما يفتح باب الرجاء للعبد، ويحدوه إلى التوبة من ذنوبه، وعليه أن يحذر من اليأس والقنوط من رحمة الله.

ومن السنة:

عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ

(1)

خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»

(2)

.

وعنه رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ- لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللهَ لَغَفَرَ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ-، لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُخْطِئُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ»

(3)

.

(1)

"أي: بما يقارب ملأها" النهاية في غريب الحديث (4/ 34) مادة (قرب).

(2)

أخرجه أحمد (35/ 375) ح (21472) عن أبي ذر رضي الله عنه، والترمذي واللفظ له في أبواب الدعوات، باب .. (5/ 548) ح (3540) من حديث أنس رضي الله عنه وقال:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، والحاكم في المستدرك في كتاب التوبة والإنابة بلفظ مقارب عن أبي ذر رضي الله عنه (4/ 269) ح (7605) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 250) ح (127)، وحسنه محقق المسند (35/ 375) ح (21472).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (21/ 146) ح (13493)، ومسند أبي يعلى (7/ 226) ح (4226)، وقال في مجمع الزوائد في كتاب التوبة، باب منه في سعة رحمة الله ومغفرته للذنوب .. (10/ 215) ح (17624):"رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجاله ثقات"، وقال محقق المسند (21/ 146) ح (13493):"صحيح لغيره".

ص: 236

دل الحديثان على رحمة الله الواسعة بعباده المذنبين إذا أقبلوا عليه تائبين مستغفرين.

‌ثالثًا: أقوال العلماء في الرجاء:

قال الغزالي رحمه الله: "الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود"

(1)

.

وقال ابن القيم عليه رحمة الله: "الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير"

(2)

.

"وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه"

(3)

.

وقال شاه الكرماني

(4)

رحمه الله: "علامة صحة الرجاء حسن الطاعة"

(5)

.

وقال أبو علي الروذباري

(6)

عليه رحمة الله: "الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا

(1)

إحياء علوم الدين (4/ 142).

(2)

مدارج السالكين (2/ 36).

(3)

مدارج السالكين (2/ 36).

(4)

شاه بن شجاع الكرماني الصوفي الزاهد، وقد كان من أولاد الملوك، وكان حادَّ الفراسة قلما أخطأت فراسته. توفي رحمه الله بعد (270 هـ).

ينظر: حلية الأولياء (10/ 237)، طبقات الصوفية للسلمي (156) ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1419 هـ، تاريخ الإسلام (6/ 951).

(5)

مدارج السالكين (2/ 37).

(6)

أبو علي الروذباري أحمد بن محمد بن القاسم، وكان من كبار الصوفية، وكان من أبناء علية القوم، توفي رحمه الله سنة (322 هـ).

ينظر: حلية الأولياء (10/ 356)، تاريخ بغداد (2/ 180)، سير أعلام النبلاء (14/ 536).

ص: 237

استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت"

(1)

.

(1)

مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (17/ 89) لسبط ابن الجوزي، لمجموعة من المحققين، دار الرسالة العالمية دمشق، ط 1، 1434 هـ، مدارج السالكين (2/ 37).

ص: 238

‌المبحث الثامن: التوكل

(1)

:

‌أولًا: التعريف:

التوكل في اللغة: من وكل، أصل صحيح يدل على إظهار العجز مع الاعتماد على الغير

(2)

.

التوكل في الاصطلاح:

قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى التوكل: "هو الثقة بالله"

(3)

.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: "وجملة التوكل: تفويض الأمر إلى الله -جل ثناؤه- والثقة به"

(4)

.

وعرفه ابن رجب رحمه الله بقوله: "التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وكلة الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه"

(5)

.

وقال الجرجاني عليه رحمة الله: "التوكل: هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس"

(6)

.

(1)

ينظر: كتاب التوكل على الله تعالى وعلاقته بالأسباب، للدكتور عبد الله الدميجي، دار الوطن الرياض، ط 1، 1417 هـ.

(2)

ينظر: مقاييس اللغة (6/ 136)، الصحاح (5/ 1845)، لسان العرب (11/ 736) مادة (وكل).

(3)

زاد المسير في علم التفسير (1/ 320) لابن الجوزي، ت: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي بيروت، ط 1، 1422 هـ.

(4)

شعب الإيمان (2/ 390).

(5)

جامع العلوم والحكم (2/ 497).

(6)

التعريفات (70).

ص: 239

وقال بعضهم: "التوكل: التعلق بالله في كل حال"

(1)

.

وقيل: "التوكل: قطع علائق القلب بغير الله"

(2)

.

وقرب معناه ابن القيم رحمه الله بشيء من التوضيح، فقال:"هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينًا بكفايته لما توكل عليه فيه"

(3)

.

‌ثانيًا: التوكل في الكتاب والسنة:

جاء التوكل في القرآن الكريم على أحوال منها:

1 -

الأمر به كما في قوله تعالى لنبيه: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، وقوله تعالى للمؤمنين:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].

2 -

جعله الله من صفات المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

3 -

وذكره في مقامات متعددة منها:

(1)

مدارج السالكين (2/ 116).

(2)

مدارج السالكين (2/ 117).

(3)

مدارج السالكين (1/ 103).

ص: 240

أ - الأمر بالتوكل في مقام العبادة، كما في قوله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

ب - الأمر به في مقام الدعوة، كما في قوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129].

ت - التوكل في مقام الجهاد والقتال في سبيله، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 121، 122].

ث - التوكل في مقام طلب الرزق، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3].

وغير ذلك من المقامات العظيمة التي ذكر فيها التوكل على الله

(1)

.

أما من السنة:

عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ؛ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»

(2)

.

(1)

ينظر: أعمال القلوب للمنجد (138 - 145) مجموعة زاد للنشر الخبر، جدة، توزيع مكتبة العبيكان الرياض، ط 1، 1438 هـ.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 332) ح (205)، والترمذي في أبواب الزهد، باب في التوكل على الله (4/ 573) ح (2344)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/ 1394) ح (4164)، وصححه الحاكم في كتاب الرقائق (4/ 354) ح (7894) وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 932) ح (5254)، وقال شعيب الأرناؤوط محقق المسند (1/ 332) ح (205):"إسناده قوي"، وقال في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 266) ح (4164):"حديث صحيح".

ص: 241

وقال ابن رجب رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث: "وهذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق"

(1)

. وذلك أنه أثبت للطير مع توكلها على الله بذل السبب حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تغدو وتروح في طلب الرزق.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ -يَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ-: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ» .

‌ثالثًا: أقوال العلماء في التوكل:

نقل ابن حجر رحمه الله أنه: "قد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته، أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهِل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي»

(2)

، وقال:«لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» ، فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق.

وقال: وكان الصحابة يتَّجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم"

(3)

.

(1)

جامع العلوم والحكم (2/ 496 - 497).

(2)

صحح إسناده العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (505) بهذا اللفظ، والحديث أخرجه أحمد في المسند (9/ 123) ح (5114) ولفظه: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ، وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» ، وجوده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25/ 331)، وقال بصحته الألباني في صحيح الجامع (1/ 545) ح (2831).

(3)

فتح الباري (11/ 305 - 306).

ص: 242

ويقول الحسن البصري رحمه الله: "إن من توكُّلِ العبد أن يكون الله هو ثقته"

(1)

.

وعن سعيد بن جبير رحمه الله قال: "التوكل على الله جماع الإيمان"

(2)

.

وقال ابن تيمية رحمه الله في أثر التوكل على الله على القلب: "ومما أثر عن بعض السلف قوله: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله"

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد"

(4)

.

ويقول أيضًا: "فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل.

ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها؛ فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها، فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية. والله سبحانه وتعالى أعلم"

(5)

.

وقال أيضًا في كلام متين ينبغي على من يتصدى لدعوة الناس أن يفقهه ويدرك عمق معانيه، فيقول رحمه الله: "وكثير من المتوكلين يكون مغبونًا في توكله، وقد توكل حقيقة التوكل وهو مغبون، كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، ويمكنه نيلها بأيسر شيء، وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم، ونصرة الدين، والتأثير في العالم خيرًا، فهذا توكل العاجز القاصر الهمة. كما يصرف بعضهم همته

(1)

التوكل على الله لابن أبي الدنيا (55) ت: مصطفى عبد القادر عطا، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، ط 1، 1413 هـ.

(2)

الزهد لهناد بن السري (1/ 304)، ت: عبد الرحمن الفريوائي، دار الخلفاء الكويت، ط 1، 1406 هـ.

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 33).

(4)

مدارج السالكين (2/ 117).

(5)

مدارج السالكين (2/ 120).

ص: 243

وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان، ومصالح المسلمين. والله أعلم"

(1)

.

وهذا منهج دقيق في فهم توكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سطره ابن القيم فقال رحمه الله: "فحال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه محك الأحوال وميزانها، بها يعلم صحيحها من سقيمها، فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم من بعدهم، فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب، وأن يعبد الله في جميع البلاد، وأن يوحده جميع العباد، وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد، فملؤوا بذلك التوكل القلوب هدى وإيمانًا، وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دار إيمان، وهبت رياح روح نسمات التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينًا وإيمانًا، فكانت همم الصحابة رضي الله عنهم أعلى وأجل من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعي، فيجعله نصب عينيه، ويحمل عليه قوى توكله"

(2)

.

ويقول ابن القيم أيضًا: "التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه، أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه"

(3)

.

(1)

مدارج السالكين (2/ 125).

(2)

مدارج السالكين (2/ 135).

(3)

التفسير القيم (649) لابن القيم ت: مكتب الدراسات والبحوث بإشراف الشيخ إبراهيم رمضان، دار ومكتبة الهلال بيروت، ط 1، 1410 هـ.

ص: 244

‌المبحث التاسع: التقوى:

‌أولًا: التعريف:

التقوى لغة: من وقى، تقول: وقيته أقيه وقيًا، والوقاية ما يقي من الشيء، اتق الله توقَّه أي: اجعل بينك وبينه كالوقاية

(1)

، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه

(2)

.

التقوى اصطلاحا:

من أجمع ما عُرفت به التقوى ما يلي:

قال طلق بن حبيب

(3)

رحمه الله: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله"

(4)

.

وعرفها ابن رجب فقال: "أصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه"

(5)

.

‌ثانيًا: التقوى في الكتاب والسنة:

وتذكر التقوى في القرآن الكريم على عدة أوجه، منها:

(1)

ينظر: الصحاح (6/ 2526)، مقاييس اللغة (6/ 131)، لسان العرب (15/ 402) مادة (وقى).

(2)

ينظر: المعجم الوسيط (2/ 1052).

(3)

طلق بن حبيب العَنَزِيُّ تابعي جليل، زاهد كبير من العلماء العاملين، إلا أنه كان يرى رأي المرجئة. توفي رحمه الله سنة (94 هـ).

ينظر: الطبقات الكبرى (7/ 227)، سير أعلام النبلاء (4/ 601)، البداية والنهاية (12/ 475).

(4)

جامع العلوم والحكم (1/ 400).

(5)

جامع العلوم والحكم (1/ 398).

ص: 245

1 -

الأمر بها ورد في كثير من الآيات، ومن ذلك:

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

2 -

ذكر صفات أهلها، ومن ذلك قوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136].

3 -

ذكر الأسباب الموصلة إليها، ومن ذلك:

قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

ص: 246

وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

4 -

ذكر فوائد التقوى وثمراتها في الدنيا والآخرة، وهي كثيرة جدًّا في القرآن الكريم، منها:

قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5].

وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45].

وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات: 41 - 44].

وغير ذلك من الأحوال والأوجه الكثيرة التي ذكرها الله في كتابه عن التقوى والمتقين.

ص: 247

ومن السنة:

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»

(1)

.

وعن أبي أُمَامَةَ يَقُولُ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ»

(2)

.

وهذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على مكانة التقوى العظيمة، وأنها من أعظم أعمال القلوب كما قال صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّات.

‌ثالثًا: أقوال العلماء في التقوى:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به"

(3)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، قال:"أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر"

(4)

.

وقال أبو هريرة رضي الله عنه وقد وسأل سائل عن التقوى: "هل أخذت طريقًا ذا

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (8/ 116) ح (6563)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار (2/ 704) ح (1016).

(2)

أخرجه الترمذي في أبواب السفر، باب منه (2/ 516) ح (616)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 524) ح (867).

(3)

تفسير الطبري (1/ 237)، تفسير ابن أبي حاتم (1/ 35) ت: اسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، السعودية، ط 3، 1419 هـ.

(4)

تفسير الطبري (5/ 638)، تفسير ابن أبي حاتم (3/ 722).

ص: 248

شوك؟ "، قال: نعم، قال: "فكيف صنعت؟ "، قال: إذا رأيتُ الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: "ذاك التقوى"

(1)

.

وقال الحسن عليه رحمة الله: "المتقون اتَّقَوا ما حرم الله عليهم، وأدوا ما افترض عليهم"

(2)

.

وقال عمر بن عبد العزيز

(3)

رحمه الله: "ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرًا، فهو خير إلى خير"

(4)

.

وقال ميمون بن مهران

(5)

رحمه الله: "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه"

(6)

.

(1)

تفسير البغوي (1/ 60)، تفسير القرطبي (1/ 161).

(2)

تفسير ابن كثير (1/ 163)، جامع العلوم والحكم (1/ 400).

(3)

الإمام، الحافظ، العلامة، المجتهد، الزاهد، العابد، عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي، أمير المؤمنين حقًا، أبو حفص القرشي، الأموي، الخليفة، الزاهد، الراشد، كان تابعيًّا جليلًا، توفي رحمه الله سنة (101 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 114)، البداية والنهاية (12/ 676)، الأعلام (5/ 50).

(4)

جامع العلوم والحكم (1/ 400)، وكذلك نسبه إلى عمر بن عبد العزيز ابن أبي الدنيا كما في الدر المنثور (1/ 62).

(5)

الإمام القدوة، الحجة، عالم الجزيرة، ومفتيها، ميمون بن مهران أبو أيوب الجزري، الرقي، ثقة كثير الحديث، توفي رحمه الله سنة (117 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 71)، تذكرة الحفاظ (1/ 76)، الأعلام (7/ 342).

(6)

جامع العلوم والحكم (1/ 401) الدر المنثور (1/ 63) للسيوطي، دار الفكر بيروت.

ص: 249

‌المبحث العاشر: الورع:

‌أولًا: التعريف:

الورع في اللغة: يطلق على الكف والانقباض، ومنه العفة وهي الكف عما لا ينبغي، ويطلق على التأثم والتحرج، وتورع من كذا أي تحرج، والوَرِعُ بِكَسْرِ الرَّاءِ: الرجل التقي المتحرج

(1)

.

الورع في الاصطلاح:

قال عنه شيخ الإسلام: "وأما الورع فإنه الامساك عما قد يضر، فتدخل فيه المحرمات والشبهات؛ لأنها قد تضر، فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه"

(2)

.

وقال ابن القيم في معناه: "يعني أن يتوقى الحرام والشبه، وما يخاف أن يضره أقصى ما يمكنه من التوقي"

(3)

.

وقال الجرجاني: "الورع هو: اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات"

(4)

.

‌ثانيًا: الورع في السنة:

ورد الورع في نصوص السنة، ومن ذلك:

(1)

ينظر: الصحاح (3/ 1297)، مقاييس اللغة (6/ 100)، المخصص (4/ 61)، لسان العرب (8/ 388) مادة (ورع).

(2)

الزهد والورع والعبادة (50) لابن تيمية، ت: حماد سلامة ومحمد عويضة، مكتبة المنار الأردن، ط 1، 1407 هـ.

(3)

مدارج السالكين (2/ 25).

(4)

التعريفات (252).

ص: 250

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ-: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»

(1)

.

قال الخطابي رحمه الله: "هذا الحديث أصل في الورع وفيما يلزم الإنسان اجتنابه من الشبهة والريب"

(2)

.

وعَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ»

(3)

.

ودل الحديث على مكانة الورع، وأنه خير الدين، فعلى الداعية الموفق الحرص على هذا العمل القلبي العظيم والتخلق به، فإنه من الصفات العظيمة التي لها أثر في نجاح الداعية في دعوته.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (1/ 20) ح (52)، ومسلم واللفظ له في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1219) ح (1599).

(2)

معالم السنن (3/ 56).

(3)

أخرجه الحاكم في كتاب العلم (1/ 170) ح (314)، وقال:"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب في كتاب العلم والترغيب في العلم وطلبه وتعلمه (1/ 50) ح (103)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 776) ح (4214).

ص: 251

الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]»، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ:«يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!»

(1)

.

قال ابن رجب رحمه الله: "ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه، وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله"

(2)

.

وهذا أعظم الورع الذي يثمر التوفيق للداعية في دعوته، وما قد يحصل من خلل في الدعوة وقصور، إذا فتشت وجدته من قبل عدم التورع عن المطعم أو المشرب أو الملبس أو المركب أو المال المشتبه فيه.

وعَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْديِّ

(3)

قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما: مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْهُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»

(4)

.

وعلق ابن رجب على هذا الحديث فقال: "وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى"

(5)

.

وهذا الحديث قاعدة عظيمة في الورع.

(1)

أخرجه مسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (2/ 703) ح (1015).

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 260).

(3)

ربيعة بن شيبان أبو الحوراء السعدي، من التابعين، ووثقه كل من النسائي والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات. لم أعثر على من سنة وفاته رحمه الله.

ينظر: التاريخ الكبير (3/ 282)، الثقات للعجلي (1/ 357) ت: عبد العليم البستوي، مكتبة الدار المدينة النبوية، ط 1، 1405 هـ، تهذيب التهذيب (3/ 256).

(4)

أخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقاق والورع، باب .. (4/ 668) ح (2518)، وقال:"وهذا حديث صحيح"، والنسائي واللفظ له أخرجه في كتاب الأشربة، الحث على ترك الشبهات (8/ 327) ح (5711)، وصححه الحاكم في كتاب البيوع (2/ 15) ح (2169) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 637) ح (3377).

(5)

فتح الباري لابن رجب (1/ 226).

ص: 252

‌ثالثًا: أقوال العلماء في الورع:

عن عمر رضي الله عنه قال: "بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح"

(1)

.

وقال رضي الله عنه: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل "

(2)

.

وقال حسان بن أبي سنان

(3)

رحمه الله: "ما شيء أهون من الورع، إذا رابك شيء فدعه"

(4)

.

وعلق ابن رجب رحمه الله على مقولة حسان فقال: "وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله"

(5)

.

وقال الشافعي رحمه الله: "أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف"

(6)

.

وعن الضحاك

(7)

قال: "لقد رأيتنا وما يتعلم بعضنا من بعض، إلا الورع"

(8)

.

(1)

جامع العلوم والحكم (1/ 276).

(2)

لم أعثر عليه في كتاب الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا طبعة دار البشائر، ت: إياد الطباع، ط 1، 1413 هـ، وقد نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 336) ونسبه إليه.

(3)

حسان بن أبي سنان البصري العابد من التابعين عرف بالورع، وقد ذكره ابن حبّان في الثّقات، وقال: يروي الحكايات، ولا أعرف له حديثًا مسندًا.

ينظر: التاريخ الكبير للبخاري (3/ 35) الثقات لابن حبان (6/ 225)، الإصابة (2/ 178).

(4)

جامع العلوم والحكم (1/ 280).

(5)

جامع العلوم والحكم (1/ 280).

(6)

صفة الصفوة (1/ 435) لابن الجوزي ت: أحمد بن علي، دار الحديث القاهرة، ط 1421 هـ، جامع العلوم والحكم (1/ 408).

(7)

الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو محمد، وقيل: أبو القاسم، صاحب التفسير، كان من أوعية العلم، وليس بِالْمُجَوِّدِ لحديثه، وهو صدوق في نفسه كما يقول الذهبي، وثقه الإمام أحمد وابن معين وأبو زرعة، وضعفه آخرون، مات عليه رحمة الله سنة (106 هـ)، وقيل:(105 هـ) والله أعلم.

ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 598) تهذيب التهذيب (4/ 453) الأعلام (3/ 215).

(8)

الورع لابن أبي الدنيا (51) ت: أبي عبد الله محمد الحمود، الدار السلفية الكويت، ط 1، 1408 هـ.

ص: 253

وعن الحسن البصري رحمه الله قال: "أفضل العبادة التفكر والورع"

(1)

.

قال الفضيل بن عياض رحمه الله عن الورع: "اجتناب المحارم"

(2)

.

وقال الفضيل أيضًا: "أشد الورع في اللسان"، وأثر هذا عن عبد الله بن المبارك

(3)

عليه رحمة الله

(4)

.

وعن طاووس

(5)

رحمه الله قال: "مثل الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا شيء سماه، وثمرها الورع لا خير في شجرة، لا ثمر لها، ولا خير في إنسان، لا ورع له"

(6)

.

(1)

الورع لابن أبي الدنيا (53).

(2)

الورع لابن أبي الدنيا (60).

(3)

الإمام، شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، الحافظ عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي مولى بني حنظلة، وكان من الربانيين في العلم، الموصوفين بالحفظ، ومن المذكورين بالزهد. توفي رحمه الله سنة (181 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (11/ 388)، سير أعلام النبلاء (8/ 378)، الأعلام (4/ 115).

(4)

الورع لابن أبي الدنيا (77).

(5)

الفقيه، القدوة، عالم اليمن، الحافظ طاووس بن كيسان الفارسي اليماني، وهو من كبار التابعين علمًا وعملًا، لازم ابن اعباس رضي الله عنهما فترة من الزمن، ويعد من كبار أصحابه، مات رحمه الله سنة (106 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 38)، شذرات الذهب (2/ 40)، الأعلام (3/ 224).

(6)

الورع لابن أبي الدنيا (109).

ص: 254

‌الفصل الثاني: أمثلة وتطبيقات على بعض دعاة علماء السلف وأثر عمل القلب عليهم وعلى دعوتهم.

المبحث الأول: مواقف من حياة الإمام أحمد عليه رحمة الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته.

المبحث الثاني: مواقف من حياة الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته.

المبحث الثالث: مواقف من حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته.

ص: 255

توطئة:

رأيت في الجانب العملي التطبيقي لأثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة أن يكون على ثلاث شخصيات من عصور مختلفة، وهم يمثلون نموذجًا من ذلك الركب المبارك من علماء سلف هذه الأمة المباركة، وكان الاختيار على النحو الآتي:

المبحث الأول: مواقف من حياة الإمام أحمد عليه رحمة الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته.

المبحث الثاني: مواقف من حياة الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته.

المبحث الثالث: مواقف من حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته.

ونبدأ أولًا بالخصائص المشتركة بين هؤلاء الأئمة الثلاثة عليهم رحمة الله:

وبهذا أردت أن أبتعد عن الطريقة التقليدية في عرض هذه الشخصيات، ويمكن أن يرجع لها في مصادرها المعروفة، ولكني أحببت أن أغوص بعمق -فيما أزعم- في كل من هذه الشخصيات لأخرج ببعض المقارنات العامة قبل البداية بالحديث عن كل شخصية بمفردها، وهذه سمات مشتركة -فيما ظهر لي- بين سير هؤلاء الأئمة، ولكثير منها شواهد ستأتي في أثناء المواقف المستخرجة من حياتهم.

مع ملاحظة أن هذه السمات والخصائص قد تكون بارزة عند أحدهم أكثر من غيره، وقد يكون استفاد اللاحق من السابق وتأثر ببعض خصائصة وسماته، كما هو الحال في سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب، فقد تأثر كثيرًا بشخصيتين لهما أثر كبير في نشر عقيدة السلف والدفاع عنها، وهما شيخ الإسلام والحافظ ابن القيم عليهما رحمة الله، وقد تأثر ابن عبد الوهاب بمنهجية الشيخين في الدعوة إلى عقيدة السلف والدفاع عنها، وتربى عليها، وذلك واضح بين في دعوته وما كتبه من رسائل وكتب، ودونك هذه الخصائص والسمات المشتركة بين هؤلاء الأئمة.

ص: 256

الأول: التمكن العلمي المتين الرصين، ومن ثمراته المنهج العلمي المتسق الذي اتسم به هؤلاء الأئمة، وله ملامح من أبرزها:

1 -

مهارة التأصيل في التعامل مع المقالات، والمذاهب، والردود، والنقد، والربط بالكتاب والسنة وأقوال السلف.

2 -

الاستقلال المعرفي ....

3 -

الاتزان في النقد.

4 -

الانفتاح على جميع معارف العصر، والأخذ منها وفق معايير دقيقة من أهمها سلامتها من مصادمة الشرع

(1)

.

الثاني: الهمة العالية، وتتجلى معالمها في طلب العلم، وكثرة العبادة، والجهاد في سبيل الله، والدعوة إليه، وتمثل قيم الإسلام وأخلاقه واقعًا عمليًّا، وسيأتي مزيد بيان لهذا في الجانب التطبيقي من حياتهم.

الثالث: الاطلاع على العلوم المنتشرة في عصرهم التي يستعين بها أهل البدع والضلال لنشر باطلهم، مع هضمها بشكل كبير والقيام بغربلة دقيقة لها، ووضعها تحت مجهر الشرع وقبول النافع منها، ورد الضار وبيان عواره وتحذير الناس منه، مما أكسبهم قدرة كبيرة على النقد والحوار والمجادلة وهم على بينة من الأمر واضحة، مما يجعل الخصم يقر ويذعن إما ظاهرًا أو باطنًا.

الرابع: النظرة الثاقبة واستشراف المستقبل وفق معايير سليمة تستضيء بنور الوحي؛ مما يكسب هذه النظرة بعدًا إستراتجيًّا عميقًا وفراسة لا تكاد تخطئ.

الخامس: الصبر واليقين الذي أثمر العزيمة الصادقة التي لا تقف أمامها العوائق

(1)

ينظر: منهج ابن تيمية المعرفي (38 وما بعدها) د. عبد الله الدعجاني، من مطبوعات تكوين للدراسات والأبحاث، ط 1، 1435 هـ.

ص: 257

حتى النصر والتمكين.

السادس: القدرة الفكرية الهائلة في المحاربة على جميع الجبهات من دون كلل ولا ملل، مع ردود قوية عميقة على أعداء عقيدة أهل السنة والجماعة تقتلع مذاهبهم من جذورها.

السابع: التمكن التام من القدرة على مجادلة الخصم ورد شبهه بطريقة علمية رصينة متينة.

وبعد هذه المقارنة السريعة في الخصائص والسمات المشتركة بين هؤلاء الأئمة، أنتقل إلى جوانب عملية من حياة هؤلاء العلماء، يظهر فيها أثر أعمال القلوب في حياتهم ودعوتهم.

ص: 258

‌المبحث الأول:

مواقف من حياة الإمام أحمد عليه رحمة الله يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته

المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس:

الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم.

الفرع الثاني: تعليمه العلم للناس وبذله لطالبه، وما تركه للأمة من مؤلفات.

المطلب الثاني: ورعه وزهده في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة، وكثرة ذكره وعبادته:

الفرع الأول: ورعه وزهده وتعلق القلب بالآخرة.

الفرع الثاني: تعلق القلب بالله وكثرة الذكر والعبادة.

المطلب الثالث: أثر عمل القلب على ثبات الإمام أحمد على عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في ذلك.

المطلب الرابع: أثر عمل القلب على حسن خلقه رحمه الله، وعفوه عمن آذوه.

ص: 259

توطئة:

حسن السمت من أخلاق الأنبياء والصالحين، يدل على كمال الإيمان، وله الأثر الكبير في قلوب الناس، وهو مدعاة لمحبة الناس للمتَّصف به، وإقبالهم عليه، وحسن الاقتداء به، وغالبًا ما يدل على صفاء القلب ونقاء السريرة، ويكسب المرء هيبة ووقارًا، ووجاهة ومنزلة في قلوب الخلق

(1)

.

ويعني حسن السمت: "حسن المظهر الخارجيّ للإنسان من طريقة الحديث والصّمت، والحركة والسّكون والدّخول والخروج والسّيرة العمليّة في النّاس، بحيث يستطيع من يراه أو يسمعه أن ينسبه لأهل الخير والصّلاح والدّيانة والفلاح"

(2)

.

عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»

(3)

.

قال الخطابي رحمه الله في معنى هذا الحديث: "يريد أن هذه الخلال من شمائل الأنبياء صلوات الله عليهم، ومن الخصال المعدودة من خصالهم، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها، وليس معنى الحديث أن النبوة تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة مكتسبة ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله سبحانه وخصوصية لمن أراد إكرامه بها من عباده، والله يعلم حيث يجعل رسالاته، وقد انقطعت النبوة بموت محمد صلى الله عليه وسلم "

(4)

.

(1)

ينظر: الإيناس في فتح قلوب الناس (1/ 199) للدكتور سيد العفاني، دار العفاني القاهرة، ط 1، 1436 هـ.

(2)

نضرة النعيم (5/ 1588).

(3)

أخرجه أحمد (4/ 431) ح (2698) وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الوقار (4/ 247) ح (4776)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/ 509)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 401) ح (1993)، وقال الأرناؤوط في تعليقه على سنن ابن ماجه (5/ 56):"وهو حديث قوي".

(4)

معالم السنن (4/ 106 - 107).

ص: 260

ويقول ابن الجوزي رحمه الله: "وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته"

(1)

.

إن النظر إلى سمت العالم وأدبه وأخلاقه مما يعين على الاقتداء والانتفاع بعلمه، وهو منهج سار عليه السلف، ودونك هذه المواقف:

قال ابن الماجشون: "إن رؤية محمد بن المنكدر لتنفعني في ديني"

(2)

.

وقال أبو زرعة الرازي: "سمعت أبا جعفر الجمال يقول: أتينا وكيعاً، فخرج بعد ساعة وعليه ثياب مغسولة، فلما بصرنا به، فزعنا من النور الذي رأيناه يتلألأ من وجهه، فقال رجل بجنبي: أهذا ملك؟! فتعجبنا من ذلك النور"

(3)

.

أما خبر الإمام أحمد رحمه الله في هديه وسمته الحسن فأمره في ذلك عجب، ودونك شيئًا من خبره:

يقول محمد بن مسلم رحمه الله: "كنا نهاب أن نردَّ أحمد بن حنبل في الشيء أو نحاجه في شيء من الأشياء، يعني لجلالته ولهيبة الإسلام الذي رزقه"

(4)

.

ويروي ابن الجوزي

(5)

رحمه الله فيقول: "كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب

(1)

صيد الخاطر (229).

(2)

سير أعلام النبلاء (5/ 360).

(3)

سير أعلام النبلاء (9/ 157).

(4)

الآداب الشرعية (2/ 12).

(5)

الشيخ، الإمام، العلامة، الحافظ، المفسر، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي القرشي التيمي البغدادي صاحب التصانيف المشهورة في أنواع العلوم من التفسير، والحديث، والفقه، والوعظ، والزهد، والتاريخ، والطب، وغير ذلك. له الكثير من الكتب منها: زاد المسير في التفسير، وتلبيس إبليس، وصفة الصفوة، وغيرها كثير، وقد أخذ عليه أمور منها تأويله في الصفات رحمه الله رحمة واسعة. توفي سنة (597 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (21/ 365)، تاريخ الإسلام (12/ 1101)، الأعلام (3/ 316).

ص: 261

وحسن السمت"

(1)

.

وربما البعض ممن يحضرون مجالس العلم هدفهم من ذلك رؤية هدي العالم وخُلُقِه كما يذكر ابن الجوزي عن أبي بكر بن المُطَّوِّعِيِّ

(2)

يقول: "اختلفت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل ثنتي عشرة سنة وهو يقرأ المسند على أولاده، ما كتبت منه حديثًا واحدًا؛ إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه وآدابه"

(3)

.

وكان الإمام رحمه الله يشبه في هديه وسمته ودَلِّه

(4)

الصحابيَّ الجليل ابن مسعود رضي الله عنه.

قال حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي

(5)

: "يقال: لم يكن أحد من الصحابة أشبه هديًا وسمتًا ودلًّا من ابن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشبه الناس به علقمة

(6)

، وكان أشبه

(1)

مناقب الإمام أحمد (288) لابن الجوزي، ت: د. عبد الله التركي، دار هجر، ط 2، 1409 هـ، سير أعلام النبلاء (11/ 316).

(2)

يعقوب بن يوسف بن أيوب أبو بكر المُطَّوِّعِيّ، ذكره الدارقطني، فقال: ثقة فاضل، توفي سنة (287 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (16/ 423)، طبقات الحنابلة (1/ 417)، البداية والنهاية (14/ 691).

(3)

مناقب الإمام أحمد (288)، سير أعلام النبلاء (11/ 316).

(4)

الدَلُّ: قريب من الهدي، وهما من السكينة والوقار في الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك.

ينظر: الصحاح (4/ 1699) مادة (دلل).

(5)

حميد بن عبد الرحمن بن حميد، أبو عوف الرُّؤَاسِي الكوفي، أحد الأثبات. قال الأثرم: أثنى عليه أحمد بن حنبل، ووصفه بخير، وروى الكوسج، عن يحيى بن معين: ثقة، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: قل من رأيت مثله، واختلف في سنة وفاته رحمه الله فقيل:(189 هـ)، وقيل:(190 هـ)، وقيل:(192 هـ)، وقد حكى البخاري الأول.

ينظر: التاريخ الكبير (2/ 346) للبخاري، دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد، مراقبة محمد عبد المعيد خان، تاريخ الإسلام (4/ 840)، تهذيب التهذيب (3/ 44).

(6)

علقمة بن قيس بن عبد الله أبو شبل النخعي فقيه الكوفة، وعالمها، الإمام، الحافظ، المجود، المجتهد الكبير، ولد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين، وكان يُشَبَّهُ بابن مسعود في هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، وكان طلبته يسألونه ويتفقهون به والصحابة متوافرون، توفي رحمه الله سنة (62 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (14/ 240)، سير أعلام النبلاء (4/ 53)، الأعلام (4/ 248).

ص: 262

الناس بعلقمة إبراهيم

(1)

، وكان أشبههم بإبراهيم منصور بن المعتمر

(2)

، وأشبه الناس به سفيان الثوري

(3)

، وأشبه الناس به وكيع

(4)

، وأشبه الناس بوكيع -فيما قاله محمد بن يونس الجمال

(5)

- أحمد بن حنبل"

(6)

.

والنظر في حياة العالم ومواقفه لأخذ العظة والعبرة مطلب تربوي ملح، ولا شك ولا ريب أن للإمام أحمد رحمه الله شخصية فذة فريدة، وقد جمع قدرًا وافرًا من مكامن القدوة في حياته، وفي هذا المطلب سيدور الحديث عن هذه الشخصية في أبرز

(1)

الإمام، الحافظ، فقيه العراق، أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، اليماني، ثم الكوفي، أحد الأعلام، وكان بصيرًا بعلم ابن مسعود، واسع الرواية، فقيه النفس، كبير الشأن، كثير المحاسن، توفي رحمه الله سنة (96 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (1/ 25)، سير أعلام النبلاء (4/ 520)، الأعلام (1/ 80).

(2)

منصور بن المعتمر أبو عتاب السلمي الكوفي الحافظ، الثبت، القدوة، أحد الأعلام، وكان من أوعية العلم، صاحب إتقان، وكان صوامًا قوامًا، وتوفي رحمه الله سنة (132 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 402)، الأعلام (7/ 305)، موسوعة مواقف السلف (2/ 251).

(3)

شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الثوري من أهل الكوفة، وكان إمامًا من أئمة المسلمين، وعلمًا من أعلام الدين، مجمعًا على إمامته بحيث يستغنى عن تزكيته، مع الاتقان، والحفظ، والمعرفة، والضبط، والورع، والزهد، وتوفي رحمه الله سنة (161 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (10/ 219)، سير أعلام النبلاء (7/ 230) الأعلام (3/ 104).

(4)

الإمام، الحافظ، محدث العراق، أحد الأعلام وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي وكان من بحور العلم، وأئمة الحفظ، وتوفي رحمه الله سنة (197 هـ). ولم أعثر على سنة وفات رحمه الله.

ينظر: تاريخ بغداد (15/ 647)، سير أعلام النبلاء (9/ 140)، الأعلام (8/ 117).

(5)

محمد بن يونس الجمال المخرمي البغدادي، قال عنه ابن عدي: وهو ممن يسرق أحاديث الناس، وقال عنه ابن حجر: ضعيف ولم يثبت أن مسلمًا روى عنه.

ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال (7/ 537) لابن عدي، ت: عادل عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1418 هـ، تقريب التهذيب (515) لابن حجر، ت: محمد عوامة، دار الرشيد سوريا، ط 1، 1406 هـ.

(6)

ينظر: مناقب الإمام أحمد (289 - 290)، ونص الخبر في سير أعلام النبلاء (11/ 316 - 317).

ص: 263

الملامح والمواقف التي لها علاقة بدعوة الإمام وأثر أعمال القلوب فيها، ألتمسها من بين السطور، وأقتنصها من المواقف، وأتأمل في مواطن العظات والعبر منها، وفق المحاور الآتية، وأسأل الله التوفيق والإعانة:

‌المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس:

‌الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم:

لا شك أن من أعظم أسباب حصول العلم وبركته في حياة من يطلبه إخلاص النية لله تعالى في طلبه لوجه الله تعالى، وهناك أيضًا أعمال قلبية لها أثر عظيم في حصول العلم وبركته، وتوفيق الله للعبد فيه، منها: صدق النية مع الله تعالى، وكان للإمام أحمد رحمه الله سهم وافر في هذا الأمر، وتعامل قلبي مع الله عظيم أثمر له الرفعة والمكانة العالية.

قال أبو بكر المروذي

(1)

: "سمعت رجلًا يقول لأبي عبد الله -وذكر له الصدق والإخلاص- فقال أبو عبد الله: بهذا ارتفع القوم"

(2)

.

وبالإخلاص والصدق مع الله رفع الله الإمام أحمد حتى صار علمًا من أعلام الأمة، يضرب به المثل في الثبات على هذا الدين، ودونك هذا الموقف العظيم الذي يظهر من خلاله قوة العزيمة بسبب صدق النية مع الله تعالى، حيث يروي صالح

(3)

ابن الإمام أحمد هذا الخبر فيقول عليه رحمة الله: "عزم أَبي على الخروج إلى مكة يقضي

(1)

الإمام، القدوة، الفقيه، المحدث شيخ الإسلام أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز أبو بكر المروذي، صاحب الإمام أحمد. مات رحمه الله سنة (275 هـ).

ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 56)، سير أعلام النبلاء (13/ 173) الأعلام (1/ 205).

(2)

مناقب الإمام أحمد (267).

(3)

الإمام، المحدث، الحافظ، الفقيه صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال أبو الفضل الشيباني، وقال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بأصبهان وهو صدوق ثقة، وتوفي رحمه الله سنة (265 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (10/ 433)، سير أعلام النبلاء (12/ 529)، الأعلام (3/ 188)

ص: 264

حجة الإسلام، ورافق يحيى بن معين

(1)

، وقال له: نمضي إن شاءَ الله فنقضي حجنا، ثم نمضي إلى عبد الرزاق

(2)

إلى صنعاء نسمع منه.

قال أَبي: فدخلنا مكة وقمنا نطوف طواف الورود

(3)

، فإذا عبد الرزاق في الطواف يطوف، وكان يحيى بن معين قد رآه وعرفه، فخرج عبد الرزاق لما قضى طوافه، فصلى خلف المقام ركعتين ثم جلس، فقضينا طوافنا وجئنا فصلينا خلف المقام ركعتين، فقام يحيى بن معين، فجاء إلى عبد الرزاق فسلم عليه، وقال له: هذا أَحمد بن حنبل أَخوك، فقال: حياه الله وثبَّته، فإنه يبلُغني عنه كُلُّ جميل. قال له يحيى: نجيء إليك غدًا -إن شاء الله- حتى نسمع ونكتب.

قال: وقام عبد الرزاق فانصرف، فقال أبي ليحيى بن معين: لم أَخذت على الشيخ موعدًا؟ قال: لنسمع منه، قد أربحك الله مسيرةَ شهر ورجوع شهر والنفقة. فقال أَبي: ما كان الله يراني وقد نويتُ نيةً لي أفسدها بما تقول، نمضي فنسمع منه. فمضى حتى سمع منه بصنعاء"

(4)

.

وهذه مواقف عظيمة لهذا الإمام العظيم، يظهر فيها حرصه على طلب العلم في كل مراحل حياته، فليس لديه زمن محدد ينتهي فيه طلب العلم، يطلبه في صغره وكبره الأمر سواء؛ لأن طلب العلم عبادة لا تتوقف بزمن معين، وهذه ثمرة من ثمرات

(1)

الإمام، الحافظ، الجهبذ، شيخ المحدثين، يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام أحد الأعلام، إمام الجرح والتعديل وكان إمامًا ربانيًا عالمًا، حافظًا، ثبتًا، متقنًا، وتوفي رحمه الله سنة (233 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (16/ 263)، سير أعلام النبلاء (11/ 71)، تهذيب التهذيب (11/ 280).

(2)

الحافظ الكبير، عالم اليمن، عبد الرزاق بن همام بن نافع الحِمْيَرِيُّ، وله من المؤلفات المصنف في الحديث وله التفسير، وتوفي رحمه الله في سنة (211 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (3/ 216)، سير أعلام النبلاء (9/ 563)، تهذيب التهذيب (6/ 310).

(3)

وهو طواف القدوم.

(4)

تاريخ دمشق (5/ 266 - 267) لابن عساكر، ت: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر 1415 هـ، مناقب الإمام أحمد (35).

ص: 265

إخلاص النية لله تعالى، وإذا أخلص العبد لربه في طلب العلم وصدق معه، فتح الله عليه لذة العلم وحلاوته، فلا يشبع منه ولا يمل، ويستسهل الصعب من أجل الحصول عليه، وقال أحمد بن سنان الواسطي

(1)

: "بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز على طعام أخذه منه عند خروجه من اليمن، وأكرى نفسه من ناس من الحمالين عند خروجه، وعرض عليه عبد الرزاق دراهم صالحة فلم يقبلها منه"

(2)

(3)

، ودونك أيضًا هذه الإشارات كما يرويها ابن الجوزي رحمه الله في مناقبه:

1 -

قال عبد الله بن أَحمد بن حنبل

(4)

: "سمعتُ أَبي يقول: كنتُ ربما أَردتُ البكور في الحديث، فتأخذ أُمي بثيابي وتقول: حتى يؤذن الناس، أو حتى يُصبحوا. وكنت ربما بَكّرت إلى مجلس أبي بكر بن عياش

(5)

وغيره"

(6)

.

(1)

الإمام، الحافظ، المجود، أحمد بن سنان بن أسد بن حبان الواسطي، القطان، واختلف في سنة، وفاته وصوّب ابن حجر أنه توفي عليه رحمة الله في سنة (259 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 244)، تهذيب التهذيب (1/ 34)، الأعلام (1/ 133).

(2)

تاريخ دمشق (5/ 304)، مناقب الإمام أحمد (310)، سير أعلام النبلاء (11/ 206).

(3)

وهذا من عفة نفسه رحمه الله.

(4)

الإمام، الحافظ، الناقد، محدث بغداد، عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الرحمن الشيباني، وكان ثقة ثبتًا، وكان عبد الله رجلًا صالحًا صادق اللهجة كثير الحياء، وله الزوائد على كتاب الزهد لأبيه، وله زوائد المسند على مسند أبيه في قرابة عشرة آلاف حديث. توفي عليه رحمة الله سنة (290 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (11/ 12)، طبقات الحنابلة (1/ 180)، سير أعلام النبلاء (13/ 516)، الأعلام (4/ 65).

(5)

المقرئ، الفقيه، المحدث، شيخ الإسلام، وبقية الأعلام أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي، والصحيح أن اسمه كنيته توفي رحمه الله سنة (194 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (16/ 542)، سير أعلام النبلاء (8/ 495)، تهذيب التهذيب (12/ 34).

(6)

مناقب الإمام أحمد (31)

ص: 266

2 -

ويقول صالح عن أبيه: "رأى رجل مع أَبي محبرة، فقال له: يا أبا عبد اللَّه، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إِمام المسلمين! فقال: مع المحبرة إلى المقبرة"

(1)

.

3 -

وقال عبد الله بن محمد البغَوي

(2)

: "سمعت أبا عبد اللَّه أَحمد بن حنبل يقول: أَنا أَطلب العلم إلى أن أَدخل القبر"

(3)

.

4 -

وقال محمد بن إسماعيل الصايغ

(4)

: "كنت أَصوغ مع أَبي ببغداد، فمر بنا أَحمد بن حنبل وهو يعدو ونعلاه في يده، فأَخذ أَبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد اللَّه، أَلا تستحي؟! إِلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟! قال: إلى الموت"

(5)

.

‌الفرع الثاني: تعليمه العلم للناس وبذله لطالبه، وما تركه للأمة من مؤلفات:

تعليم الناس العلم وبذله لطالبه صفة نبيلة عالية المقام عند الله تعالى، وهي من صفات الأنبياء، ومن اقتدى بهم من الدعاة المصلحين.

والأنبياء لم يتركوا شيئًا من الدنيا لأتباعهم إلا هذا العلم الذي بذلوه لهم، وهكذا من سار على دربهم.

ومن آثار عمل القلب -من صدق العالم وإخلاصه- توفيق الله له لتعليم الناس ونشر علمه بينهم، وقد أظهر الله لهذه الأمة علماء تستنير بهم الأرض كما تستنير

(1)

مناقب الإمام أحمد (37).

(2)

الحافظ، الإمام، الحجة، المعمر، مسند العصر، أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، وصنف كتاب معجم الصحابة وجوده، وكتاب الجعديات وأتقنه جمع فيه أحاديث شيخه علي بن الجعد، وتوفي رحمه الله سنة (317 هـ).

ينظر: تاريخ الإسلام (7/ 323)، سير أعلام النبلاء (14/ 441)، الأعلام (4/ 119).

(3)

مناقب الإمام أحمد (37).

(4)

الإمام، المحدث، الثقة، شيخ الحرم محمد بن إسماعيل بن سالم أبو جعفر الصائغ سكن مكة، وحدث بها. مات رحمه الله سنة (276 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (2/ 363)، تهذيب الكمال (24/ 475) للمزي، ت: بشار عواد، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1، 1400 هـ، سير أعلام النبلاء (13/ 161).

(5)

مناقب الإمام أحمد (37).

ص: 267

بضوء القمر بدرًا، فيبدد الله بهم ظلام الجهل، ويكشف عوار البدع، ويحيي بهم معالم السنة، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله أحد هذه البدور الساطعة التي أضاءَت للأمة دربها، حينما كادت تعصف بها رياح البدع والأهواء، فيقول رحمه الله عن صفة هؤلاء العلماء المصلحين في أول كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من ضالٍّ تائه قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس! وأقبح أثر الناس عليهم!

ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم.

يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن الضالين"

(1)

.

ويروي ابن الجوزي هذه الحادثة عن الإمام أحمد، يظهر منها اهتمامه بطالب العلم، وبالأخص الغريب؛ لأنه قد لا يُؤبَه به، لكن هذا لا يحصل عند العلماء الربانيين، فيقول أبو بكر المروذي: "رأيت أبا العلاء الخادم

(2)

قد جاء إلى أبي عبد الله، وكان شيخًا مُشمّرًا يشبه القراء متواضعًا، فاستأذن على أبي عبد الله، فخرج إليه، وإذا في المسجد رجلٌ غريب عليه أطمار

(3)

ومعه محبرة، فلما قعد أبو عبد الله حانت منه التفاتة فرأى الرجل، فقال لأبي العلاء: لا يشتدّ عليك الحرّ، فقام.

(1)

الرد على الجهمية والزنادقة (55 - 57) للإمام أحمد، ت: صبري بن سلامة شاهين، دار الثبات، ط 1.

(2)

لم أعثر له على ترجمة.

(3)

الأطمار: جمع طِمْرٍ أي: الثوب الخَلِق البالي. ينظر: تهذيب اللغة (13/ 233)، لسان العرب (4/ 503)، المعجم الوسيط (2/ 565) مادة (طمر).

ص: 268

ثم جعل أبو عبد الله يلاحظ الرجل، فلما لم يسأله قال له أبو عبد الله: ألك حاجة؟ فقال: تُعلِّمني مما عَلّمك الله، فقال: فدخل إلى منزله فأخرج كتبًا وقال له: ادنُه، فَجعل يُملي عليه، ثم يقول للرجل: اقرأ ما كتبتَ"

(1)

.

إن المتأمل في هذا الموقف العظيم النبيل مع هذا الطالب للعلم الغريب يخرج ببعض اللفتات التربوية منها:

‌1 - حسن الأسلوب في تصريفه للطالب الذي معه، ويظهر فيه حرصه عليه وشفقته على طلابه.

وهذا موقف آخر يصبُّ في هذا الاتجاه، يظهر حرص المعلم على طلابه وتربيته لهم على الشفقة بالمتعلمين: يروي ابن الجوزي هذا الموقف فيقول: "قال هارون بن عبد الله الحمال

(2)

: جاءني أحمد بن حنبل بالليل، فدق الباب عليّ، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد، فبادرت إليه فمسَّاني ومسَّيته، قلت: حاجة يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، شغلت اليوم قلبي، قلت: بماذا يا أبا عبد الله؟ قال: جزت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء، والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل مرَّةً أخرى، إذا قعدتَ فاقعد مع الناس"

(3)

.

‌2 - عدم احتقار المتعلم مهما كان مظهره،

فالعبرة ليست بالظواهر، وإنما بحقائق ما في القلوب التي لا يعلمها إلا الله، والتي هي محل نظره سبحانه وتعالى، فكم من طالب لا يُلتفت إليه ولا يُؤبَه به في أعين ضعاف البصيرة، صار بعد ذلك إمامًا يُشار له

(1)

مناقب الإمام أحمد (260).

(2)

هارون بن عبد الله بن مروان أبو موسى البزاز المعروف بالحمال، وكان الإمام أحمد رحمه الله يكرمه ويعرف حقه وقِدَمَه وجلالته، وكان ثقة حافظًا، عارفًا. مات رحمه الله سنة (243 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (16/ 31)، طبقات الحنابلة (1/ 396).

(3)

مناقب الإمام أحمد (301).

ص: 269

بالبنان، وما خبر عطاء بن أبي رباح

(1)

ببعيد.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»

(2)

.

‌3 - إذا رأيتَ من المتعلم عدمَ سؤال وأقبال عليك فأقبِل عليه،

فربما لغربته أو لموقف ما أحجم عن سؤالك، فابتدِئه واسأل عن حاله، وقدِّم له ما تستطيع من خدمة.

أما مصنفاته عليه رحمة الله فقد صنف المسند الذي جمع فيه أكثر ما تحتاجه الأمة من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ابن الجوزي "فصنف المسنَد وهو ثلاثون ألف حديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند؛ فإنه سَيكون للناس إمامًا"

(3)

.

وهو رحمه الله يعتبر من المقلين في التصنيف

(4)

؛ لأنه كان ينهى عن كتابة كلامه تواضعًا منه، وقد قدر الله أن يكتب علمه ويرتَّب ويشاع

(5)

، وهذه بعض آثار تلك الأعمال التي في القلوب، مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

(1)

الإمام، شيخ الإسلام، مفتي الحرم، أبو محمد القرشي مولاهم، المكي، وكان من أوعية العلم، يقول: أدركت مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلت امرأة إلى ابن عباس تسأله عن شيء، فقال: يا أهل مكة، تجتمعون علي وعندكم عطاء، وقد رفعه الله بالعلم وكان رحمه الله أسود، أعور، أفطسَ، مشلولًا، أعرج؛ لكنه كان جبلًا من جبال العلم.

ينظر: التاريخ الكبير (6/ 463)، تاريخ دمشق (40/ 366)، سير أعلام النبلاء (5/ 78).

(2)

أخرجه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الضعفاء والخاملين (4/ 2024) ح (2622).

(3)

مناقب الإمام أحمد (261)، ونقله عن ابن الجوزي الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/ 327).

(4)

وفي مناقب الإمام أحمد (261): "كان الإمام أحمد رضي الله عنه لا يرى وضع الكتاب، وينهى أن يُكتب عنه كلامه ومسائله، ولو رأى ذلك لكانت له تصانيف كثيرة".

(5)

ينظر: مناقب الإمام أحمد (266).

ص: 270

‌المطلب الثاني: ورعه وزهده في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة، وكثرة ذكره وعبادته:

‌الفرع الأول: ورعه وزهده وتعلق القلب بالآخرة:

من الصفات العظيمة في الداعية المصلح أن يكون قلبه متعلقًا بالآخرة، تظهر عليه سمة الورع والزهد في الدنيا، وهذه لا تظهر إلا إذا صلح القلب وسلم من الآفات، وكانت هذه الصفات من سمات الإمام أحمد رحمه الله، وهو يتمثلها في حياته منهجًا وسلوكًا، وفق منهج أهل السنة والجماعة، وهو المنهج الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه، قبل أن تتكدر هذه الصفات بالمناهج الوافدة فيما بعد، ودونك شذرات من مواقف هذا الإمام في ورعه وزهده نستنطق منها العظات والعبر.

ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس من الزهد ما يقع فيه بعض من تكدرت مشاربه بصوفية استُقِيت من وثنيات الشرق أو الغرب، فصار الزهد يعني لبس الرث من الثياب، وعدم الاعتناء بالنظافة، رهبانية ابتدعوها.

أما إمامنا -وهو الزاهد الذي على منهاج النبوة- فهو على منهج الوسط والاعتدال، فقد كان رحمه الله كما يذكر الذهبي عن عبد الملك الميموني

(1)

أنه قال: "ما أعلم أني رأيت أحدًا أنظف بدنًا، ولا أشد تعاهدًا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبًا بشدة بياض من أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

كان ثيابه بين الثوبين، تسوى ملحفته خمسة عشر درهمًا، وكان ثوب قميصه يؤخذ بالدينار ونحوه، لم يكن له دقة تنكر، ولا غلظ ينكر، وكان ملحفته مهذبة"

(2)

.

(1)

الإمام، العلامة، الحافظ، الفقيه عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني، وكان من كبار أصحاب الإمام أحمد، وكان عالم الرقة، ومفتيها في زمانه، مات رحمه الله سنة (274 هـ).

ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 212)، تذكرة الحفاظ (2/ 134)، سير أعلام النبلاء (13/ 89).

(2)

سير أعلام النبلاء (11/ 208).

ص: 271

ويقول المروذي أيضًا: "سمعت أبا عبد الله يقول للشجاع بن مخلد

(1)

: يا أبا الفضل، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل"

(2)

.

ونقل أبو نعيم

(3)

عن نصر بن علي

(4)

يقول: «أحمد بن حنبل أمره بالآخرة كان أفضل؛ لأنه أتته الدنيا فدفعها عنه»

(5)

.

وقال أبو داود

(6)

: "كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط"

(7)

.

ومن الأمثلة العظيمة على الورع تورُّعه رحمه الله في الفتوى، وهو إمام أهل السنة ومن أكثر علماء الأمة فقهًا.

وقد سأل الإمام أبو داود السجستاني أحمد بن حنبل عن طلاق السَّكران، فرد

(1)

شجاع بن مخلد أبو الفضل البغوي ثقة ثبت، توفي رحمه الله سنة (235 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (10/ 348)، تهذيب التهذيب (4/ 312)، الأعلام (3/ 157).

(2)

الورع لأحمد رواية المروذي (80) ت: سمير الزهيري، دار الصميعي الرياض، ط 1، 1418 هـ.

(3)

الإمام، الحافظ، الثقة، العلامة، أحد الأعلام، أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى أبو نعيم الأصبهاني، وله من المصنفات: حلية الأولياء، ومعجم الصحابة، ودلائل النبوة، وغيرها، مات رحمه الله سنة (430 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (1/ 91)، سير أعلام النبلاء (17/ 453)، البداية والنهاية (15/ 674).

(4)

الحافظ، العلامة، الثقة، نصر بن علي بن نصر بن علي بن صهبان الجهضمي البصري، وكان من كبار الأعلام، وأئمة السنة الأثبات، توفي رحمه الله سنة (250 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (15/ 389)، تهذيب الكمال (29/ 355)، سير أعلام النبلاء (12/ 133).

(5)

حلية الأولياء (9/ 180) لأبي نعيم الأصبهاني، دار السعادة مصر، 1394 هـ.

(6)

الإمام الثبت سيد الحفاظ سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير أبو داود الأزدي السجستاني صاحب السنن وقال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وحفظًا ونسكًا وورعًا وإتقانًا جمع وصنف وذب عن السنن، وتوفي عليه رحمة الله سنة (275 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (10/ 75)، تذكرة الحفاظ (2/ 127)، تهذيب التهذيب (4/ 172).

(7)

مناقب الإمام أحمد (295)، سير أعلام النبلاء (11/ 199).

ص: 272

عليه بقوله: "سل غيري"

(1)

.

وعن أحمد بن محمد المروذي قال: "سأَلتُ أحمد بن حنبل ما لا أُحصي عن أشياء، فيقول فيها: لا أدري"

(2)

.

ويقول: "ربما مكثتُ في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد منها شيئًا"

(3)

.

فهؤلاء الأئمة العظماء الذين شهد لهم القاصي والداني بسعة العلم والاطلاع إلا أنهم يتورعون عن الفتوى خشية لله، وتجد اليوم طويلب علم لا يبلغ عشر معشار ما بلغ هؤلاء من العلم، يتقحم على الفتوى في النوازل ولا يبالي، وماذاك إلا لنقص العقل والتقوى.

‌الفرع الثاني: تعلق القلب بالله وكثرة الذكر والعبادة:

إن القلوب إذا تعلقت بالله وأقبلت عليه بصدق وإخلاص فتح عليها من التوفيق والإعانة ما لا يخطر على بال، وأمدها بقوة عظيمة في العبادة والإقبال عليه، وأنها لتعمل أعمالًا يعجز عنها غيرها، والقوة من الله، وهي قوة القلوب وليست قوة الأبدان، قال تعالى:{وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ

(1)

ينظر: مناقب الإمام أحمد (358).

(2)

مناقب الإمام أحمد (358).

(3)

مناقب الإمام أحمد (359).

ص: 273

سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» الحديث.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد يصف عبادة أبيه: "كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وقد كان قرب من الثمانين، وكان يقرأ في كل يوما سُبْعًا، يختم في كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليالٍ سوى صلاة النهار، ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويخفيه، ويصلي بين العشاءين، فإذا صلى عشاء الآخرة ركع ركعات صالحة، ثم يوتر وينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو، وكانت قراءته لينة، ربما لم أفهم بعضها، وكان يصوم ويدمن، ثم يفطر ما شاء الله، ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض، فلما رجع من العسكر أدمن الصوم إلى أن مات"

(1)

.

وقال المرُّوذي: "كنت مع أبي عبد الله نحوًا من أربعة أشهر بالعسكر، ولا يدع قيام الليل وقراءات النهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يُسرُّ ذلك"

(2)

.

وقال عبد الله بن أحمد: "لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يومًا يقول: ما صليت اليوم غير الفريضة، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي"

(3)

.

وقال عبد الله بن أحمد: "سمعت أبي يقول: وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافًا، لا علي ولا لي"

(4)

.

(1)

تاريخ دمشق (5/ 300)، مناقب الإمام أحمد (382)، سير أعلام النبلاء (11/ 212، 223).

(2)

مناقب الإمام أحمد (268).

(3)

مناقب الإمام أحمد (386)، سير أعلام النبلاء (11/ 228).

(4)

سير أعلام النبلاء (11/ 227).

ص: 274

ويقول المروذي: "قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعين لك! فتغرغرت عينه، وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا"

(1)

.

وعن المروذي قال: "أدخلت إبراهيم الحصري

(2)

على أبي عبد الله -وكان رجلًا صالحًا- فقال: إن أمي رأت لك منامًا، هو كذا وكذا، وذكرت الجنة.

فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة

(3)

كان الناس يخبرونه بمثل هذا، وخرج إلى سفك الدماء، وقال: الرؤيا تسرُّ المؤمن ولا تغرُّه"

(4)

.

وقال عباس الدوري

(5)

: "حدثنا علي بن أبي فزارة

(6)

قال: كانت أمي مُقعدة من نحو عشرين سنة، فقالت لي يوما: اذهب إلى أحمد بن حنبل، فسله أن يدعو لي، فأتيت، فدققت عليه وهو في دِهْليزه

(7)

، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي -وهي مقعدة- أن أسألك الدعاء، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب، فقال: نحن

(1)

مناقب الإمام أحمد (369 - 370)، وسير أعلام النبلاء (11/ 210).

(2)

لم أعثر له على ترجمة.

(3)

لم أعثر له على ترجمة مستقلة فيما تيسر لي من مصادر، ومما يظهر من كلام المؤرخين أنه رجل في أول الأمر يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متطوعًا بذلك، وقد اتبعه على ذلك كثير، ثم آل به الأمر إلى الخروج على السلطان وسفك الدماء، وقد ذكر الإمام أحمد عنه ذلك، والذي يظهر -والله أعلم- أنه رُئِيَت له منامات فغرته، فخرج على السلطان ووقع في سفك الدم الحرام.

ينظر: الكامل في التاريخ (5/ 483) لابن الاثير، ت: عمر تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1417 هـ، تاريخ الإسلام (5/ 9، 12، 194)، سير أعلام النبلاء (11/ 227).

(4)

مناقب الإمام أحمد (379)، سير أعلام النبلاء (11/ 227).

(5)

الإمام، الحافظ، الثقة، الناقد العباس بن محمد بن حاتم بن واقد أبو الفضل الدوري مولى بني هاشم، أحد الأئمة الأثبات، له كتاب في الرجال رواه عنه يحيى بن معين، مات رحمه الله سنة (271 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (14/ 30)، سير أعلام النبلاء (12/ 522)، الأعلام (3/ 265).

(6)

لم أعثر له على ترجمة.

(7)

الدِّهْلِيز: مكان أو ممر ضيق ما بين الباب والدار، فارسي معرَّب، جمعه دهاليز.

ينظر: الصحاح (3/ 878)، لسان العرب (5/ 349)، معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 777)(دهلز).

ص: 275

أحوج أن تدعو الله لنا، فوليت منصرفًا، فخرجت عجوز، فقالت: قد تركته يدعو لها. فجئت إلى بيتنا، ودققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي"

(1)

.

وقال أبو بكر المروذي: "قلت لأبي عبد الله: إن بعض المحدثين قال لي: أبو عبد الله لم يزهد في الدراهم وحدها، قد زهد في الناس، فقال أبو عبد الله: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟! الناس يريدون يزهدون فيّ، وقال أبو عبد الله: أسأل الله أن يجعلنا خيرًا مما يظنون، ويغفر لنا ما لا يعلمون"

(2)

.

‌المطلب الثالث: أثر عمل القلب على ثبات الإمام أحمد على عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في ذلك:

الصبر والثبات من المعالم البارزة في حياة الدعاة إلى الله تعالى، الذين يحرصون على تحقيق أعمال القلوب، فإن ذلك من أعظم أسباب الثبات، وبالأخص ثباتهم على الصراط المستقيم والمنهج القويم، من غير تغيير ولا تبديل، يدعون إلى الله على بصيرة على منهاج النبوة، ويصبرون على ما يلقونه في ذات الله تعالى، وهذا المعلم من المعالم الواضحة في حياة إمامنا عليه رحمة الله، فقد ضرب أروع الأمثلة في الصبر والثبات، وثبته الله ثبات الجبال، ونصر به السنة، وقمع به البدعة، في يوم من أيام الله الخالدة، وذلك في فتنة القول بخلق القرآن التي تولى كبرها أئمة الضلال من الجهمية وأهل الاعتزال، مع الاستعانة بقوة السلطان التي مالت إليهم، فحصل بلاء عظيم وفتنة شرها مستطير؛ ولكن الله ثبت الإمام أحمد ليقول كلمة الحق، ويصبر على المحنة والسجن والضرب؛ ليخرج من هذه الفتنة منتصرًا للمنهج الحق، منهج أهل السنة والجماعة؛ ليكون موقفه معلمًا بارزًا في حياة الأمة، وقد جعل الله له قبولًا في الأرض،

(1)

والقصة ذكرها أبو نعيم في حلية الأولياء (9/ 187)، إلا أنه قال: علي بن أبي حرارة، وابن عساكر في تاريخ دمشق (5/ 299)، وذكرها كذلك الذهبي في تاريخ الإسلام (5/ 1021)، وقال: رواها ثقتان عن عباس الدوري، و كذا قال في سير أعلام النبلاء (11/ 211).

(2)

الورع لأحمد رواية المروذي (163 - 164).

ص: 276

ومكَّن له وثبته، ليرتبط اسمه بهذا اللقب العظيم، وليبقى حيًّا في ذاكرة الأمة باسم إمام أهل السنة.

يقول الأئمة عنه في ثباته رحمه الله يوم المحنة: عن ابن المديني

(1)

قال: "أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة"

(2)

.

ويروي الذهبي رحمه الله عن بشر بن الحارث

(3)

قوله: "إن أحمد أُدخِل الكير

(4)

، فخرج ذهبًا أحمر"

(5)

.

ويقول أيضًا

(6)

: "قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد عندنا امتحن بالسراء والضراء، فكان فيهما معتصمًا بالله"

(7)

.

و"قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد الله، أولا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل؟!

قال: كلا، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة،

(1)

الشيخ، الإمام، الحجة، أمير المؤمنين في الحديث علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح المعروف بابن المديني، وهو أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدم علي حفاظ وقته، مات رحمه الله سنة (234 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (13/ 421)، سير أعلام النبلاء (11/ 41)، الأعلام (4/ 303)، موسوعة مواقف السلف (3/ 416).

(2)

سير أعلام النبلاء (11/ 196).

(3)

الإمام، العالم، المحدث، الزاهد، الرباني، القدوة، بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء المروزي الزاهد المعروف بالحافي، فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرد بوفور العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة، واستقامة المذهب، وعزوف النفس. توفي رحمه الله سنة (227 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (7/ 545)، سير أعلام النبلاء (10/ 469)، الأعلام (2/ 54).

(4)

أي: كير الحداد، وهو مصنوع من جلد ونحوه، يستخدمه الحداد للنفخ لإشعال النار.

ينظر: مقاييس اللغة (5/ 149)، لسان العرب (5/ 157)، المعجم الوسيط (2/ 807) مادة (كير).

(5)

سير أعلام النبلاء (11/ 197).

(6)

أي: بشر بن الحارث رحمه الله.

(7)

سير أعلام النبلاء (11/ 202).

ص: 277

وقلوبنا بعد لازمة للحق"

(1)

.

وينقل الإمام الذهبي عن محمد بن إبراهيم البوشنجي

(2)

قوله: "جعلوا يذاكرون أبا عبد الله في التُّقية

(3)

وما روي فيها، فقال: كيف تصنعون بحديث خباب: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ يُنْشَرُ أَحَدُهُمْ بِالمِنْشَارِ، لَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِيْنِهِ» ؟!

(4)

، فأيسنا منه"

(5)

.

وقال: "لست أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلًا بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط، فسمعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان، ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سُرِّي عنه"

(6)

.

يقول الذهبي: قال ابن أبي دؤاد

(7)

: "ما رأيت أحدًا أشدَّ قلبًا من هذا -يعني: أحمد-، جعلنا نكلمه، وجعل الخليفة يكلمه، يسميه مرة ويكنيه مرة، وهو يقول: يا

(1)

سير أعلام النبلاء (11/ 238)

(2)

الإمام، العلامة، الحافظ، ذو الفنون، محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي العبديّ، شيخ أهل الحديث في زمانه، بنيسابور. مات رحمه الله سنة (291 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 581)، تهذيب التهذيب (9/ 8)، الأعلام (5/ 294).

(3)

وهي أن يظهر الإنسان خلاف ما يعتقد وقاية لنفسه من الأذى.

ينظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 193)، لسان العرب (15/ 404)، معجم لغة الفقهاء (142) مادة (وقى).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 201) ح (3612).

(5)

سير أعلام النبلاء (11/ 239).

(6)

سير أعلام النبلاء (11/ 240).

(7)

أحمد بن أبي دؤاد بن حريز أبو عبد الله القاضي المعتزلي، كان رأسًا في فتنة القول بخلق القرآن، وشجع الخليفة على امتحان الناس، وكان له الدور الأكبر في فتنة الإمام أحمد على القول بخلق القرآن والأمر بضربه وحبسه، وقد نصر الله الإمام أحمد وثبته على الحق، وكانت وفاته (240 هـ).

ينظر في ترجمته: تاريخ بغداد (5/ 233) البداية والنهاية (14/ 362).

ص: 278

أمير المؤمنين، أوجدني شيئًا من كتاب اللَّه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبك إليه"

(1)

.

وحكى ابن الجوزي عن أبي بكر المروذي قال في محنة أحمد بن حنبل: "يا أستاذ، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، فقال أحمد: يا مروذي، اخرج انظر، أي شيء ترى؟ قال: فخرجت إلى رحبة دار الخليفة، فرأيت خلقًا من الناس لا يحصي عددَهم إلا الله، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المروذي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننتظر ما يقول أحمد فنكبته، فقال المروذي: مكانكم، فدخل إلى أحمد بن حنبل، فقال له: رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه، فقال: يا مروذي، أُضِلُّ هؤلاء كلَّهم! أَقتلُ نفسي ولا أُضِلّ هؤلاء كلهم"

(2)

.

‌المطلب الرابع: أثر عمل القلب على حسن خلقه رحمه الله، وعفوه عمن آذوه:

قال أبو الحسين بن المنادي: "سمعت جدي

(3)

يقول: كان أحمد من أحيا الناس،

(1)

سير أعلام النبلاء (11/ 295).

(2)

مناقب الإمام أحمد (445) وعلق ابن الجوزي على هذا الموقف في مناقب الإمام أحمد (446) بقوله: "قلت: هذا رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى فبذلها، كما هانت على بلال نفسه. وقد روينا عن سعيد بن المسيب: أنه كانت نفسه عليه في الله تعالى، أهون من نفس ذباب. وإنما تهون أنفسهم عليهم لتلمحهم العواقب، فعيون البصائر ناظرة إلى المآل لا إلى الحال، وشدة ابتلاء أحمد دليل على قوة دينه، لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِه»، فسبحان من أيده وبصره، وقواه ونصره! ".

(3)

الإمام المقرئ الحافظ أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد، أبو الحسين المعروف بابن المنادي، كان ثقة أمينًا حجة صادقًا، صنف كثيرًا، وجمع علومًا جمة، ولم يسمع الناس منها إلا اليسير، وذلك لشراسة أخلاقه، مات رحمه الله سنة (336 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (5/ 110)، سير أعلام النبلاء (15/ 361)، البداية والنهاية (15/ 194).

وجد ابن المنادي هو: الإمام، المحدث، الثقة، شيخ وقته، أبو جعفر محمد بن أبي داود عبيد الله بن يزيد البغدادي، المنادي. وذكر حفيده أبو الحسين: أن جده مات سنة (272 هـ) عليه رحمة الله.

ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 555).

ص: 279

وأكرمهم نفسًا، وأحسنهم عشرة وأدبًا، كثير الإطراق والغضّ، معرضًا عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث، وذكر الصالحين والزهاد، في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بشَّ به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعًا شديدًا، وكانوا يكرمونه ويعظِّمونه، وكان يفعل بيحيى بن مَعين ما لم أره يفعل بغيره من التواضع والتبجيل، وكان يحيى أكبر منه بنحو سبع سنين"

(1)

.

وقال المرُّوذي: "كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جُهِل عليه احتمل وحلم، ويقول: يكفي اللَّه.

ولم يكن بالحقود ولا العجول، ولقد وقع بين عمه وجيرانه منازعة، فكانوا يجيئون إلى أبي عبد الله فلا يظهر لهم ميله مع عمه، ولا يغضب لعمه، ويتلقاهم بما يعرفون من الكرامة، وكان كثير التواضع، يحب الفقراء، لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلسه، مائلًا إليهم، مقصرًا عن أهل الدنيا، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس، وكان لا يمد قدمه في المجلس، ويكرم جليسه، وكان حسن الخلق دائم البشر لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، وكان يحب في الله ويبغض في الله، وكان إذا أحب رجلًا أحب له ما يحب لنفسه، وكره له ما يكره لنفسه، ولم يمنعه حبه إياه أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم أو إثم أو مكروه إن كان منه، وكان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله، وكان رجلًا فطنًا إذا كان شيء لا يرضاه اضطرب لذلك، يغضب لله ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، فإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه حتى كأنه ليس هو، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان حسن

(1)

مناقب الإمام أحمد (295).

ص: 280

الجوار، يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجار، ولقد أخبرني بعض جيرانه ممن بينه وبينه حائط قال: كان لي برج فيه حمام، وكان يشرف على أبي عبد الله، فكنت أصعد وأنا غلام أشرف عليه، فمكث على ذلك صابرًا لا ينهاني، فبينا أنا يومًا إذ صعد عمّي فنظر إلى البرج مشرفًا على أبي عبد الله، فقال: ويحك! أما تستحي أن تؤذِي أبا عبد اللَّه؟! قلت له: فإنه لم يقل لي شيئًا، قال: فلست أبرح حتى تهب لي هذِه الطيور، فما برح حتى وهبتها له فذبحها وهدم البرج"

(1)

.

قال حنبل

(2)

: "صليت بأبي عبد الله العصر، فصلى معنا رجل يقال له: محمد بن سعيد الخُتَّلِيّ

(3)

، وكان يعرفه بالسنة، فقعد أبو عبد الله بعد الصلاة، وبقيت أنا وهو والخُتَّلِيّ في المسجد ما معنا رابع، فقال لأبي عبد الله: نهيتَ عن زيد بن خَلَف

(4)

أن لا يُكَلَّم!

قال: كتب إليَّ أهل الثغر يسألوني عن أمره، فكتبت إليهم، فأخبرتهم بمذهبه وما أحدث، وأمرتهم أن لا يجالسوه، فاندفع الخُتَّلِيّ على أبي عبد الله، فقال: والله، لأردنك إلى محبسك، ولأدقَّن أضلاعك

في كلام كثير.

فقال لي أبو عبد الله: لا تكلِّمه ولا تجبه.

وأخذ أبو عبد الله نعليه، وقام فدخل، وقال: مُرِ السكان أن لا يكلِّموه ولا يردّوا عليه.

(1)

مناقب الإمام أحمد (298).

(2)

الإمام، الحافظ، المحدث، الصدوق، المصنف حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد أبو علي الشيباني، وهو ابن عم أحمد بن محمد بن حنبل، وكان ثقة ثبتًا، توفي رحمه الله سنة (273 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (9/ 217)، طبقات الحنابلة (1/ 143)، سير أعلام النبلاء (13/ 51).

(3)

لم أعثر له على ترجمة.

(4)

لم أعثر له على ترجمة.

ص: 281

فما زال يصيح، ثم خرج، فلما كان بعد ذلك ذهب هذا الخُتَّلِيّ إلى شعيب

(1)

، وكان قد ولي على قضاء بغداد، وكانت له في يديه وصية، فسأله عنها، ثم قال له شعيب: يا عدو الله، وَثَبتَ على أحمد بالأمس ثم جئتَ تطلب الوصية! إنما أردت أن تتقرب إليَّ بذا؟! فزبره

(2)

، ثم أقامه، فخرج بعد إلى حسبة العسكر"

(3)

.

وذكر الذهبي عنه أنه كان يقول: "كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعًا، وقد جعلت أبا إسحاق -يعني: المعتصم

(4)

- في حل، ورأيت الله يقول:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح

(5)

، قال أبو عبد الله: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك؟! "

(6)

.

(1)

شعيب بن سهل الرازي يعرف بشعبويه، ولي قضاء الرصافة ببغداد أيام المعتصم، قال عنه الإمام أحمد:"أخزاه الله؛ كان يرى رأي جهم"، نقله عن أحمد في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 347)، كان مبغضًا لأهل السنة، متحاملًا عليهم، منتقصًا لهم، لا يقبل لأحد منهم صرفًا ولا عدلًا، وتوفي سنة (246 هـ)، ينظر أيضًا: تاريخ بغداد (10/ 335)، تاريخ دمشق (23/ 105).

(2)

أي: انتهره وزجره برفع صوته عليه.

ينظر: الصحاح (2/ 667)، المخصص (1/ 220)، المعجم الوسيط (1/ 388) مادة (زبر).

(3)

مناقب الإمام أحمد (304)، سير أعلام النبلاء (11/ 221).

(4)

المعتصم بالله بن محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي أبو إسحاق بويع بالخلافة بعد وفاة المأمون سنة (218 هـ)، وكان من أعظم خلفاء بني العباس، ولما ولي الخلافة كان شهمًا في أيامه وله همة عالية، ومهابة عظيمة جدًّا، وامتحن الناس في عصره بفتنة خلق القرآن وأوذي الإمام أحمد رحمه الله، وثبته الله في هذه الفتنة العظيمة، توفي رحمه الله سنة (227 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (10/ 290)، البداية والنهاية (14/ 286)، الأعلام (7/ 127).

(5)

مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصيّ المطلبيّ، وكان اسمه عوفًا ومسطح لقبه، وأمه بنت خالة أبي بكر رضي الله عنه، شهد بدرًا، وهو ممن خاضوا في الأفك بقذف عائشة رضي الله عنها، وجلده النبي صلى الله عليه وسلم حد القذف ضمن من أقام عليهم الحد، وحلف أبو بكر ألا ينفق عليه لما حصل منه، فنهاه الله عن ذلك، فقال تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فعاد أبو بكر للإنفاق عليه. توفي مسطح رضي الله عنه سنة (34 هـ)، وقيل: سنة (37 هـ).

ينظر: الاستيعاب (4/ 1472) لابن عبد البر، ت: البجاوي، دار الجيل بيروت، ط 1، 1412 هـ، أسد الغابة (4/ 380) لابن الاثير، دار الفكر بيروت، 1409 هـ، الإصابة (6/ 74) لابن حجر، ت: عادل الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1415 هـ.

(6)

سير أعلام النبلاء (11/ 261).

ص: 282

‌المبحث الثاني: مواقف من حياة الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته

المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس:

الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم.

الفرع الثاني: تعليمه العلم للناس وبذله لطالبه، وما تركه للأمة من مؤلفات.

المطلب الثاني: ورعه وزهده في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة، وكثرة ذكره وعبادته:

الفرع الأول: ورعه وزهده وتعلق القلب بالآخرة.

الفرع الثاني: تعلق القلب بالله وكثرة الذكر والعبادة.

المطلب الثالث: أثر عمل القلب على ثبات الإمام ابن تيمية على عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في ذلك.

المطلب الرابع: أثر عمل القلب على حسن خلقه رحمه الله، وعفوه عمن آذوه.

المطلب الخامس: أثر عمل القلب على نظرته التفاؤلية للمستقبل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

ص: 283

‌المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس:

‌الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم:

الإخلاص والصدق مع الله في طلب العلم مفتاح التوفيق للعبد والعون من الله تعالى، وهذا ما تلمسه من سيرة هذا الإمام الكبير، ودونك هذه الشذرات من سيرته في طلبه للعلم كما صاغها -ملخصة- العلامة بكر أبو زيد

(1)

رحمه الله في مقدمته لجامع سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون حيث يقول رحمه الله: "أخذ عن أكثر من مائتي شيخ ..

أوائل في حياته تدل على النبوغ المبكر:

• حفظ القرآن وهو في الصِّغر.

• أتقن العلوم من التفسير والحديث والفقه والأصول والعربية والتاريخ والجبر والمقابلة والمنطق والهيئة، وعلم أهل الكتابين، والملل الأخرى، وعلم أهل البدع، وغيرها وهو ابن بضع عشرة سنة، حتى إنه حذق العربية في أيام، وفهم كتاب سيبويه

(2)

في أيام، وفي الحديث سَمِع المسند مرات، وما ضبطت عليه لحنة متفق عليها، وكان إقباله

(1)

بكر بن عبد الله أبو زيد يرجع إلى قبيلة بني زيد القضاعية، درس على يد كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منهم الإمام العلامة ابن باز، والشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، له الكثير من المؤلفات منها: فقه النوازل، المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد، حلية طالب العلم، وغيرها كثير، توفي رحمه الله سنة (1429 هـ).

ينظر: نبذة مختصرة عن السيرة الذاتية لفضيلة العلامة الشيخ بكر عبد الله أبو زيد على موقع صيد الفوائد على الشبكة، موقع الموسوعة الحرة على الشبكة.

(2)

إمام النحو، حجة العرب عمرو بن عثمان بن قَنْبَرٍ، أبو بشر المعروف بسيبويه النحوي من أهل البصرة. له الكتاب في النحو وصار علمًا عليه لشهرته وفضله، توفي رحمه الله قيل: سنة (180 هـ) وصححه الذهبي، وقيل:(188 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (14/ 99)، سير أعلام النبلاء (8/ 351)، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (2/ 1428).

ص: 284

على التفسير إقبالًا كليًّا منقطع النظير.

• ناظر واستدل وهو دون البلوغ.

• أفتى في سن السابعة عشرة من عمره.

• بدأ درس التفسير بالجامع الأموي وهو ابن ثلاثين سنة، واستمر سنين متطاولة.

• حَجَّ مرة واحدة سنة (692 هـ) أي: وعمره (31) سنة، وبعد عودته من الحجِّ آلت إليه الإمامة في العلم والدين.

• نشر العلم في: دمشق، ومصر، والقاهرة، والإسكندرية

(1)

، وفي سجونها، وفي الثغر

(2)

، والجامع الأموي

(3)

.

• دَرَّس بالمدرسة الحنبلية في شعبان سنة (695 هـ).

• أول رحلاته إلى مصر في القاهرة والإسكندرية، مرتان سنة (700 هـ)، ثم عاد

(1)

الإسكندرية: ثاني مدينة في مصر بعد القاهرة، تقع في شمالي مصر، إذ تمتد على شريط ضيق من الأرض على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط وهي تعد العاصمة الثانية بعد القاهرة.

ينظر: الموسوعة العربية العالمية (2/ 23)، مؤسسة أعمال الموسوعة الرياض، ط 2، 1419 هـ، الموسوعة الحرة على الشبكة.

(2)

ثغر: جمعه ثغور، وأصل الثغر الكسر، والثلم، وقد ثغرت الجدار إذا ثلمته، ومنه قيل: للموضع الذي يخاف منه دخول العدو في جبل، أو حصن ثغر؛ لانثلامه، وإمكان دخول العدو منه. وهو الموضع الذي يخاف هجوم العدو منه، وذلك يكون على الحدود بين البلاد الإسلامية، وبلاد الكفار، ومنه سميت المدينة على شاطئ البحر ثغرًا.

ينظر: تهذيب اللغة (8/ 102)، المعجم الوسيط (1/ 97)(ثغر)، معجم لغة الفقهاء (154).

(3)

بيت من بيوت الله، ومن أشهر مراكز التعليم التي أقامها المسلمون في مدينة دمشق في سوريا، بناه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وقامت الحكومة السورية بترميمه وإعادته إلى رونقه القديم، ويعد رابع أشهر المساجد الإسلامية بعد الحرمين والمسجد الأقصى.

ينظر: الموسوعة العربية العالمية (8/ 144)، الموسوعة الحرة على الشبكة.

ص: 285

إلى دمشق، ثم رجع إلى مصر سنة (704 هـ)، وكانت إقامته بها نحو سبع سنين وسبع جُمَع أي: إلى سنة (712 هـ) متنقلًا في جلها بين سجون القاهرة والإسكندرية.

• بدأ في التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة.

وهكذا من البدايات المبكرة الدالة على نبوغه، وتأهله للاجتهاد والتجديد والإمامة في العلم والدين"

(1)

.

وعانية الله ورعايته إذا حفت بالعبد رأيت ما لا يخطر لك على بال من التوفيق والمدد الإلهي، وكل ذلك من أعظم أسبابه التعامل مع الله بأعمال القلوب، ومجاهدة النفس على تحقيقها مع المحاسبة والمراقبة لله تعالى، وهذا ما تلحظه في سيرة هذا الإمام، وأحسبه -والله حسيبه- من المحققين للإيمان والتقوى في حياته باطنًا وظاهرًا.

قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].

وذكر ابن القيم من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية وبركة الوقت لديه أنه كان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر

(2)

.

‌الفرع الثاني: تعليمه العلم للناس وبذله لطالبه، وما تركه للأمة من مؤلفات:

وكان دأب شيخ الإسلام رحمه الله تعليم الناس الخير ونشر ما يراه من حق

(1)

مقدمة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (18 - 19) مع تصرف يسير.

(2)

ينظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (77).

ص: 286

وصواب، يقول ابن كثير رحمه الله:"ثم جلس الشيخ تقي الدين .. يوم الجمعة .. بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيئ له لتفسير القرآن العزيز، فابتدأ من أوله في تفسيره، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير، من كثرة ما كان يورد من العلوم المتنوّعة المحررة مع الديانة والزهادة والعبادة، سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان، واستمر على ذلك مدة سنين متطاولة"

(1)

.

ويقول بكر أبو زيد رحمه الله: "بدأ -رحمه الله تعالى- التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان من أفراد الدهر في كثرة تأليفه، فلا يُعْلم في الإسلام من صنَّف نحو ما صنف ولا قريبًا منه، وقد قدرت مؤلفاته بخمسمائة مجلد، وبأربعة آلاف كراس أو أكثر، وقد بلغ ما يكتبه في اليوم والليلة أربع كراريس، وكان يكتب مؤلفاته من حفظه، وكان ذا قلم سريع الكتابة إذا رقم، يكاد يسابق البرق إذا لمع، لكن كان خطه في غاية التعليق والإغلاق. وكانت مؤلفاته في غاية الإبداع وقوة الحجاج وحسن التصنيف والترتيب، غير مشوبة بِكَدَرٍ، بل خالصة من الشَّبه والشُّبه، وكثير منها مسودة لم يبيض، وله في غير مسألة مصنف مفردٌ أو أكثر.

ومن مؤلفاته ما ألفه في قَعْدة مثل الحموية، ألفها بين الظهرين سنة 698 هـ وعمرة ثمان وثلاثون سنة، وألَّف لأهل الآفاق عدة كتب تَلْبيةً لطلبهم، منها: لأهل واسط

(2)

: العقيدة الواسطية، والحموية لأهل حماة

(3)

، والمراكشية لأهل مراكش

(4)

، والتدمرية لأهل تدمر

(5)

، وهكذا.

(1)

البداية والنهاية (17/ 593).

(2)

واسط: مدينة عراقية تاريخية تقع بين البصرة والكوفة، بناها الحجاج سنة 84 هـ.

ينظر: الموسوعة العربية العالمية (27/ 15)، الموسوعة الحرة على الشبكة.

(3)

حماة إحدى المدن السورية العريقة. تقع في الجزء الغربي من سوريا، على ضفاف نهر العاصي.

ينظر: الموسوعة العربية العالمية (9/ 518)، الموسوعة الحرة على الشبكة.

(4)

مراكش: مدينة مغربية تقع في شمال سفوح جبال الأطلس الكبير، في المنطقة المعتدلة الدافئة في جنوب غربي المغرب.

ينظر: الموسوعة العربية العالمية (23/ 74)، الموسوعة الحرة على الشبكة.

(5)

تَدْمُر: مدينة سورية قديمة، تقع في محافظة حمص في وسط سوريا في منتصف المسافة تقريبًا بين الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ونهر الفرات.

ينظر: الموسوعة العربية العالمية (6/ 177)، الموسوعة الحرة على الشبكة.

ص: 287

وألَّف بعض كتبه وهو في السجن، منها في السجن بمصر: الرد على البكري

(1)

، والرد على الأخنائي

(2)

، وألَّف منهاج السنة النبوية وهو في مصر، وألَّف ما لا يحصى في السجن بالقلعة

(3)

بدمشق.

وقد جرت له بسبب بعض مؤلفاته وفتاويه محن من السجن، والنيل من العرض بغير حق، كما جرى له بسبب الحموية والواسطية، وبسبب فتواه في الطلاق بالثلاث، وبالحلف بالطلاق، وفتوى الزيارة وشد الرحال، وغيرها.

هذا مع ما حصل له في بعض سجناته من منع الدواة

(4)

والقلم، وإخراج ما عنده

(1)

الشيخ الإمام الزاهد نور الدين أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري المصري الشافعي، ولابن تيمية كتاب يعرف بالرد على البكري، في مسألة الاستغاثة بالمخلوقين. قال ابن كثير: "كان البكري في جملة من ينكر على شيخ الإسلام ابن تيمية، وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة كدرة لاطمت بحرًا عظيمًا صافيًا. توفي رحمه الله سنة (724 هـ).

ينظر: البداية والنهاية (18/ 246)، الدرر الكامنة (4/ 164)، الأعلام (5/ 33).

(2)

محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي المصري، أبو عبد الله، تقي الدين الأخنائي، قاضي قضاة المالكية بمصر، كان صاحب ديانة وتواضع مع حسن سمت، وقد رد عليه شيخ الإسلام في مسألة شد الرحل لزيارة القبور في كتابه الموسوم بالرد على الأخنائي، توفي رحمه الله سنة (750 هـ).

ينظر: رفع الإصر عن قضاة مصر (352)، الأعلام (6/ 56)، معجم المؤلفين (9/ 116).

(3)

قلعة محصنة تعد من أهم معالم العمارة الإسلامية في سوريا في العصر الأيوبي تقع في الركن الشمالي الغربي من أسوار مدينة دمشق بين باب الفراديس وباب الجابية.

ينظر: الموسوعة الحرة.

(4)

الدواة: المحبرة وهي أداة لحفظ الحبر.

ينظر: الصحاح (6/ 2343)، المعجم الوسيط (1/ 306)، معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 793) مادة (دوى).

ص: 288

من الكتب والورق"

(1)

.

‌المطلب الثاني: ورعه وزهده في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة، وكثرة ذكره وعبادته:

‌الفرع الأول: ورعه وزهده وتعلق القلب بالآخرة:

ذكر العلامة بكر أبو زيد بعض مواطن العبر والعظات من حياة شيخ الإسلام فقال رحمه الله:

"- ما نال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى منزلة الإمامة في العلم والدين إلا من آثار التقوى واليقين والصبر في ذات الله على المكاره؛ ولهذا قال: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين

(2)

.

- من أعظم أسباب الفوز والنصر الزهد في المناصب والولايات، والكف عن زخرفها، وكما كان شيخ الإسلام كذلك، فقد كان أئمة الإسلام على هذه الجادة منهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى؛ ولهذا قيل في ترجمته: "أتته الدنيا فأباها، والولايات فقلاها

(3)

.

فمسكين من يتطلع إليها ويقول: أنا لها، ومغبون والله من دفع ثمنها مُقدّمًا بالتنازل عن شيء من دينه، والملاينة على حساب علمه ويقينه، وكُلُّ امرئ حسيب نفسه.

- البذاذة

(4)

من الإيمان، والاقتصاد في أمور المعاش من وظائف أهل الإسلام،

(1)

مقدمة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (22 - 23).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 358).

(3)

ينظر: التاريخ المعتبر في أنباء من غبر (2/ 297) لمجير الدين العليمي، ت: لجنة مختصة من المحققين، إشراف: نور الدين طالب، دار النوادر، سوريا، ط 1، 1431 هـ.

(4)

المراد به التواضع في اللباس.

ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 110) مادة (بذذ).

وصح حديث: «الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ» عند أحمد (39/ 493) ح (58)، وأبي داود في كتاب الترجل (4/ 75) ح (4161)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب من لا يؤبه له (2/ 1379) ح (4118)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 557) ح (2879).

ص: 289

وهكذا كان شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، مجتنبًا الترفه في المعاش، وتطلب الملاذ، فما أحلاه من أدب.

- ولما سافر رحمه الله تعالى إلى مصر سنة 700 هـ نزل عند عم تلميذه ابن فضل الله العُمَري

(1)

، وكان سفره للحض على الجهاد، فَرُتِّبَ له مرتب وأعطيات، فلم يقبل منها شيئًا.

فهل يعتبر من ابتلوا بالتسوّل على مستوى رفيع، ويتنمَّر على معارفه وإخوانه، والرفعاء منهم يعلمون أنه في الظاهر مطاع متبوع، وهو في الباطن عبد تابع ذليل مطيع. على أن الأرض لا تخلو من المتأسِّين بالصالحين، الذين تجردوا من هذه الحظوظ"

(2)

.

وينقل ابن القيم عن شيخه هذه الكلمات التي تدل على ثبات قلبه وشدة تعلقه بربه وبالدار الآخرة: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهبًا ما عدل عندي

(1)

وابن فضل الله العمري هو أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العُمَري، مؤرخ، حجة في معرفة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم والبلدان، إمام في الترسل والإنشاء، له الكثير من الكتب منها: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، فواضل السمر في فضائل آل عمر، وغير ذلك، توفي سنة (749 هـ) عليه رحمة الله.

ينظر: الدرر الكامنة (1/ 393)، الأعلام للزركلي (1/ 268).

(2)

الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (25 - 27).

ص: 290

شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرِّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها"

(1)

.

‌الفرع الثاني: تعلق القلب بالله وكثرة الذكر والعبادة:

ذكر ابن القيم قراءة آية الكرسي عقب الصلاة، وهو يذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقوله بعد انصرافه من صلاته، ثم قال رحمه الله:"وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- أنه قال: ما تركتها عقيب كل صلاة"

(2)

.

وقال ابن القيم وهو يحدث عن حال شيخه مع ذكر الله تعالى: "وحضرت شيخَ الإسلام ابن تيمية مرَّة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غَدْوتي، ولو لم أتغدَّ هذا الغداء لسقطت قوتي. أو

(1)

الوابل الصيب من الكلم الطيب (48).

(2)

زاد المعاد (1/ 294).

ص: 291

كلامًا قريبًا من هذا، وقال لي مرة: لا أترك الذِّكْر إلا بنيّة إجمام نفسي وإراحتها، لأستعدَّ بتلك الراحة لذِكْر آخر. أو كلامًا هذا معناه"

(1)

.

وقال رحمه الله عن شيخه: "وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله"

(2)

.

ويقول أيضًا عن شيخه عند صعوبة مسائل العلم وإشكالها عليه: "وشهدت شيخ الإسلام -قدس الله روحه- إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار، والاستغاثة بالله واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علمًا وحالًا، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد، فقد أعطي حظه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق، فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"

(3)

.

وقال أيضًا: "حقيقٌ بالمفتي أن يكثر الدُّعاء بالحديث الصحيح: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

(4)

، وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك.

وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: «يا معلم إبراهيم، علِّمني» ، ويكثر الاستغاثة بذلك، اقتداءً بمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال لمالك بن يَخامِر السَّكْسكي

(5)

(1)

الوابل الصيب من الكلم الطيب (42).

(2)

الوابل الصيب (48).

(3)

إعلام الموقعين (4/ 132)، ت: محمد عبد السلام، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1411 هـ.

(4)

أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (1/ 534) ح (770).

(5)

مالك بن يَخامِر السّكْسكي الألهاني الحمصي. قال ابن عساكر: يقال له صحبة. وقال أبو نعيم: ذكر في الصحابة ولا يثبت. واختلف في سنة وفاته رحمه الله ورضي عنه قيل: سنة (69 هـ)، وقيل: سنة (70 هـ)، وقيل: سنة (72 هـ).

ينظر: أسد الغابة (4/ 280)، الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 563).

ص: 292

عند موته وقد رآه يبكي، فقال: والله، ما أبكي على دنيا كنتُ أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنتُ أتعلمهما منك.

فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: إنَّ العلمَ والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة: عند عُويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عَجَز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم صلوات الله عليه

(1)

"

(2)

.

ويذكر عمر بن المظفر ابن الوردي

(3)

رحمه الله أنه صلَّى خلف ابن تيمية التراويح

(1)

لم أجد هذا الأثر بهذا اللفظ عن مالك بن يخامر فيما تيسر لي من مصادر، ووجدته بلفظ آخر عن يزيد بن عميرة وليس فيه موضع الشاهد، ولفظه: عَنْ يَزِيدَ بْنِ عُمَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ المَوْتُ قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوْصِنَا، قَالَ: أَجْلِسُونِي، فَقَالَ: إِنَّ العِلْمَ وَالإِيمَانَ مَكَانَهُمَا، مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالتَمِسُوا العِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةِ رَهْطٍ، عِنْدَ عُوَيْمِرٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعِنْدَ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّهُ عَاشِرُ عَشَرَةٍ فِي الجَنَّةِ» ، وبهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد (36/ 418) ح (22104)، وقال محقق المسند (36/ 419) ح (22104):"إسناده صحيح"، وأخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه (5/ 671) ح (3804) وقال:"حَسَنٌ غَرِيبٌ"، وصححه الحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر مناقب عبد الله بن سلام الإسرائيلي رضي الله عنه (3/ 470) ح (5758) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1757) ح (6240)، وينظر: تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (1/ 87).

(2)

إعلام الموقعين (4/ 197 - 198).

(3)

عمر بن المظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس المعري زين الدين ابن الوردي الفقيه الشافعي الشاعر المشهور نشأ بحلب وتفقه بها ففاق الأقران، له الكثير من المصنفات منها: تاريخ ابن الوردي، نظم الحاوي الصغير في فقه الشافعي، وشرح الفية ابن مالك، مات رحمه الله سنة (749 هـ).

ينظر: الدرر الكامنة (4/ 228)، البدر الطالع (1/ 514)، الأعلام (5/ 67).

ص: 293

في رمضان، فرأي على قراءته خشوعًا، وعلى صلاته رِقَّةً تأْخذ بمجامع القلوب

(1)

.

وقال البزار

(2)

في وصف صلاته رحمه الله: "وكان إذا أحرم بالصلاة تكاد تتخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام، فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى تميله يمنة ويسرة"

(3)

.

‌المطلب الثالث: أثر عمل القلب على ثبات الإمام ابن تيمية على عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في ذلك:

جاهد شيخ الإسلام رحمه الله لنشر عقيدة السلف جهادًا مستميتًا، ولقي من أجل نشرها الكثير من الأذى، وصبر صبرًا عظيمًا، وثبت ثبات الجبال الرواسي، وصدع بكلمة الحق، ولم يبالِ في الله لومة لائم.

ويقول ابن القيم معلقًا على سبب ما حصل لشيخ الإسلام، ولمن قبله من المصلحين:"ومن جنايات التأويل ما وقع في الإسلام من الحوادث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا"، ثم قال:"ولا جرى على شيخ الإسلام ابن تيمية ما جرى من خصومه بالسَّجْن وطلب قتله أكثر من عشرين مرة إلا بالتأويل"

(4)

.

وقال أيضًا في بيان مواقف أهل الباطل من أهل الحق: "لما قضى في القِدَمِ

(1)

ينظر: تاريخ ابن الوردي (2/ 276) دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1417 هـ.

(2)

عمر بن علي بن موسى بن الخليل البغدادي، الأزجي، البزار، الفقيه المحدث، سراج الدين أبو حفص وكان ذا عبادة وتهجد، وصنف كثيرًا في الحديث وعلومه، وفي الفقه والرقائق، ومن تصانيفه: الأعلام العلية في مناقب الإمام ابن تيمية. مات رحمه الله سنة (749 هـ).

ينظر: ذيل طبقات الحنابلة (5/ 146) لابن رجب الحنبلي، ت: د عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان - الرياض، ط 1، 1425 هـ، الدرر الكامنة (4/ 211)، معجم المؤلفين (7/ 302).

(3)

الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (36) لعمر بن علي البزار، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت، ط 3، 1400 هـ.

(4)

الصواعق المرسلة (1/ 376، 381) لابن القيم، ت: علي الدخيل، دار العاصمة، ط 1، 1408 هـ.

ص: 294

بسابقة سلمان عرج به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجُّس

(1)

، فأقبل يناظر أباه في دين الشرك، فلما علاه بالحجة لم يكن له جوابٌ إلا القيد، وهذا جواب يتداوله أهل الباطل

وبه أجاب فرعونُ موسى: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، وبه أجاب الجهمية الإمام أحمد لما عرضوه على السِّياط، وبه أجاب أهل البدع شيخَ الإسلام حين استودعوه السجن"

(2)

.

وعلق العلامة بكر أبو زيد بقوله: "إن عالِمًا يفتح الله عليه بميراث علم النبوة، وينظر في واقع الحياة فيرى من ظلمات الإعراض عن الوحي والتنزيل ما الله به عليم: حلولية

(3)

، اتحادية

(4)

، طرقية

(5)

بدعية، جهمية، معتزلة، أشاعرة، مقلدة متعصبة، وكل يرى أن ما هو عليه هو الحق، ثم يأتي حامل الضياء، فيكاسر هؤلاء وهؤلاء، لا شك سيكون له خصوم وخصوم؛ مما أدى إلى سجنه تارة، والترسيم عليه تارة، ومناظرته تارة، وإذايته بالمحن الأخرى تارة أخرى، وإغراء السفهاء، وتسليط الدهماء

(6)

، وهكذا من صنوف الأذى، ومن كل ذلك قد نال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

ومن نظر في سِيَر المصلحين وما أُلِّف من كتب مفردةٍ في إذايتهم مثل كتاب

(1)

هم المجوس القائلون بالنور والظلمة، والنور مصدر الخير والظلمة مصدر الشر فأثبتوا إلهين، ولهم فرق كثيرة وهم عبدة النار، ويتبركون بأبوال البقر، ويستحلون فروج الأمهات.

ينظر: تلبيس إبليس (69) لابن الجوزي، دار الفكر لبنان، ط 1، 1421 هـ، الملل والنحل (2/ 38).

(2)

الفوائد (40) لابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت، ط 2، 1393 هـ.

(3)

سبق تعريف الحلول ص (118).

(4)

اتحاد الخالق بالمخلوق بمعنى: اتحاد ذاتين اتحادًا معنويًّا مع تغايرهما ماديًّا، ويبقى الخالق خالقًا والمخلوق مخلوقًا، فكل منهما متميز عن الآخر وإن لم يكن منفصلًا عنه. تعالى الله عما يقول هؤلاء الضالون علوًّا كبيرًا.

ينظر: نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام (35).

(5)

ويقصد بها الطرق الصوفية المتنوعة.

(6)

الجماعة الكثيرة والمقصود عامة الناس.

ينظر: المعجم الوسيط (1/ 300)، معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 778) مادة (دهم).

ص: 295

"المحن" لأبي العرب

(1)

وغيره لم ير عالِمًا لحِقَه من صنوف الأذية من سجن وغيره مثل شيخ الإسلام رحمه الله.

لما بلغ رحمه الله تعالى الثانية والثلاثين من عمره وبعد عودته من حجته بدأ تعرُّضه رحمه الله تعالى لأخبئة السجون، وبلايا الاعتقال، والترسيم عليه: الإقامة الجبرية

(2)

خلال أربعة وثلاثين عامًا، ابتداء من عام 693 هـ إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق يوم الاثنين 20/ 11/ 728 هـ، وكان سجنه سبع مرات: أربعٌ بمصر بالقاهرة وبالإسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها نحو خمس سنين، وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه الذين نابذ ما هم عليه في الاعتقاد والسلوك والتمذهب، عسى أن يفتر عنهم، وأن يقصر لسانه وقلمه عَمَّا هم عليه، لكنه لا يرجع"

(3)

.

‌المطلب الرابع: أثر عمل القلب على حسن خلقه، وعفوه عمن آذوه:

يقول ابن القيم رحمه الله عن شيخه وشدة تواضعه وهضمه لنفسه: "ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- من ذلك أمرًا لم أشاهده من

(1)

العلامة، المفتي، ذو الفنون، أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام المغربي، الإفريقي. وكان فيما قال القاضي عياض: حافظًا للمذهب، مفتيًا، غلب عليه علم الحديث والرجال، وصنف طبقات أهل إفريقية، وكتاب المحن، وكتاب فضائل مالك، وغيرها، توفي رحمه الله سنة (333 هـ).

ينظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (5/ 323) للقاضي عياض، ت: ابن تاويت الطنجي وآخرين، مطبعة فضالة المغرب، ط 1، سير أعلام النبلاء (15/ 394)، الأعلام (5/ 309).

وكتاب المحن ذكر فيه ما حصل من محن على أهل العلم وغيرهم من قتل وسجن وهروب ونحو ذلك من أصناف المحن. وطبع الكتاب عدة طبعات منها: بدار العلوم الرياض السعودية، الطبعة: الأولى، 1404 هـ-1984 م، وقام بتحقيقه الدكتور: عمر سليمان العقيلي.

(2)

وهي إحدى العقوبات التي تقيد بها حرية الإنسان فلا يخرج من منزله، وتسمى الحبس المنزلي والاحتجاز.

ينظر: الموسوعة الحرة على الشبكة.

(3)

مقدمة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (27 - 28).

ص: 296

غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:

أَنَا الْمُكَدِّي

(1)

وَابْنُ الْمُكَدِّي وَهَكَذَا كَانَ أَبِي وَجَدِّي

(2)

وكان إذا أُثنِيَ عليه في وجهه يقول: والله، إني إلى الآن أجدِّد إسلامي كلَّ وقت، وما أسلمت بعد إسلامًا جيِّدًا.

وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطِّه، وعلى ظهرها أبيات بخطِّه من نظمه:

أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ

أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي"

(3)

.

ومن أعظم الدلائل على سلامة القلب مقابلة الإساءة بالإحسان، قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

وتكلم ابن القيم عن مقابلة الإساءة بالإحسان ثم قال: "ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها هذه بعينها. ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه، ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة. وما رأيت أحدًا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه.

وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.

(1)

هناك أقوال كثيرة في معنى المكدّي، وأنسبها عندي هو تعليق محقق كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، والكتاب للجاحظ، ومحققه عبد السلام هارون، قال في معنى المكدّي (365):"الملحّ في السؤال. يقال أكدى: ألح في المسألة". والكتاب من مطبوعات دار الجيل بيروت، ط 1، 1410 هـ.

(2)

لم أعثر على قائل للبيت، وقد يكون من نظم الشيخ، والله أعلم.

(3)

مدارج السالكين (1/ 520) وبعد هذا البيت ذكر عدة أبيات.

ص: 297

وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانَه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسُرُّوا به ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه. فرحمه الله ورضي عنه"

(1)

.

وفي إحدى المرات التي سجن فيها، وكان مما جرى فيها أن الشرف عبد الله

(2)

أخا شيخ الإسلام ابتهل ودعا الله عليهم، فمنعه الشيخ وقال له:"بل قل: اللَّهمَّ هَب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق"

(3)

.

وعلَّق العلامة بكر أبو زيد رحمه الله على هذا الموقف بقوله: "فلِلَّه ما أعظمه من أدب جم! وما أعظمه من خلق رفيع، وهضم للنفس، وبحث عن الحق! وإن هذه -وايم الله- فائدة تساوي رحلة، وأين هذه من حالنا إذا نيل من الواحد شيء غضب وسخط، وجلب أنواع الدعاء على عدوه؟! فاللهم اجعل لنا ولمن آذانا فيك نورًا نهتدي به إلى الحق"

(4)

.

ويقول ابن كثير رحمه الله: "وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان

(5)

من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه، وأن السلطان

(1)

مدارج السالكين (2/ 328 - 329).

(2)

الإمام العلامة عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن خضر بن تيمية الحراني شرف الدين أخو الشيخ تقي الدين، تفقه ودرس ولم يشتغل بالتصنيف، وكان أخوه يكرمه ويعظمه، مات عليه رحمة الله سنة (727 هـ) قبل أخيه بسنة.

ينظر: المعجم المختص بالمحدثين (121) للذهبي، ت: د. محمد الهيلة، مكتبة الصديق الطائف، ط 1، 1408 هـ، الوافي بالوفيات (17/ 126)، الدرر الكامنة (3/ 42).

(3)

ينظر: ذيل طبقات الحنابلة (4/ 512).

(4)

مقدمة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (30).

(5)

هو الملك الناصر محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي أبو الفتح: من كبار ملوك الدولة القلاوونية، توفي رحمه الله سنة (741 هـ).

ينظر: الدرر الكامنة (5/ 404)، البدر الطالع (2/ 236)، الأعلام (7/ 11).

وهو الذي في عهده أُكرِم شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 298

استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير

(1)

، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضًا! وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحدًا منهم سوء، وقال له: إذا قتلتَ هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارًا، فقال الشيخ: من آذاني فهو في حلٍّ، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي. وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.

قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف

(2)

يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا.

ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة، وعاد إلى بثّ العلم ونشره، وأقبلت الخلق عليه، ورحلوا إليه يشتغلون عليه، ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة والقول، وجاءته الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه، فقال: قد جعلت الكل في

(1)

بيبرس الجاشنكير المنصوري، ركن الدين، الملك المظفر، من سلاطين المماليك بمصر والشام. لما عزل الملك الناصر محمد بن قلاوون نفسه عن الملك فألح القواد على بيبرس أن يتولى السلطة، فتولاها وسمي الملك المظفر، ثم قتله الملك الناصر سنة (709) عليه رحمة الله.

ينظر: البداية والنهاية (18/ 83، 88، 96)، الدرر الكامنة (1/ 168)، الأعلام (2/ 79).

(2)

علي بن مخلوف بن ناهض بن مسلم النويري المالكي قاضي القضاة زين الدين، وكان مشكور السيرة كثير الاحتمال والإحسان للطلبة، وكان لا يعاب إلا بشراسة خلق، وقصور في العلم، مات سنة (718 هـ) رحمه الله.

ينظر: الوافي بالوفيات (22/ 118)، الدرر الكامنة (4/ 152)، رفع الإصر عن قضاة مصر (280) لابن حجر، ت: د. علي محمد عمر، مكتبة الخانجي مصر، ط 1، 1418 هـ.

وهو الذي سعى في سجن شيخ الإسلام، وكان مقربًا من الجاشنكير.

ص: 299

حل"

(1)

.

‌المطلب الخامس: أثر عمل القلب على نظرته التفاؤلية للمستقبل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين:

إن للمؤمن فراسة تزيد بقدر إيمانه وصفاء قلبه وسلامته من الآفات، وتكون له عونًا بعد الله في تفاؤله وثباته، ونظرته الصائبة للأمور، ويروى عنه صلى الله عليه وسلم قوله:«اتَّقُوا فِرَاسَةَ المؤْمِنِ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]

(2)

.

والنظرة التفاؤلية واستشراف المستقبل مع الثقة بنصر الله من أعظم ما يعين على الثبات، ولهذا شواهد من السيرة، منها ما حصل في وقت من أصعب الأوقات التي مرت على المسلمين في يوم الأحزاب الذي قال الله عنه في بيان الحال التي وصلوا إليها:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، في لحظةٍ اشتد فيها الخوف والجوع والبرد، لكنه صلى الله عليه وسلم ينظرُ نظَرَ المتفائل بنصر الله الواثق بربِّه، وإن كانت الأسباب المادية في نظر أهل النفاق وأصحاب القلوب المريضة لا ترى شيئًا يلوح في الأفق القريب، وقد عبر القرآن الكريم بقوله عنهم: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي

(1)

البداية والنهاية (18/ 94 - 95).

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر (5/ 298) ح (3127)، وقال: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روي عن بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قَالَ: للمتفرسين، والحديث ضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (4/ 299) ح (1821) دار المعارف، الرياض الممكلة العربية السعودية، ط 1، 1412 هـ، وفي ضعيف الجامع الصغير (20) ح (127) طبعة المكتب الإسلامي أشرف على طبعه: زهير الشاويش.

ص: 300

قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]، ويقول عنهم سبحانه وتعالى في يوم الأحزاب:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، وفي هذا الموقف العظيم ها هو يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما عرضت صخرة وهم يحفرون الخندق: فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ» فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ:«اللهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» . ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ» وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ:«اللهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» . ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ» وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ:«اللهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا»

(1)

.

ولأتباع الأنبياء نصيب من هذه النظرة المستقبلية التفاؤلية التي تسمى الفراسة.

و"عَنْ أَبِي قُتَيْلَةَ

(2)

أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَجْعَلُهُ اللهُ تَعَالَى

(1)

أخرجه أحمد في المسند (30/ 626) ح (18694)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح وقال (7/ 397): "ووقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول فقال:«بسم الله» ، فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال:«الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة» ، ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر، فقال:«الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض» ، ثم ضرب الثالثة وقال:«بسم الله» ، فقطع بقية الحجر فقال:«الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة» ، وضعف إسناده محقق المسند (30/ 626) ح (18694)، والحديث له شواهد يتقوى بها، والرجل الذي في سنده وهو ميمون بن أستاذ البصري مختلف فيه، وإن كان الأكثرية على تضعيفه، والعلم عند الله تعالى.

(2)

مرثد بن وداعة، أبو قتيلة، الحمصي الكندي. اختلف في صحبته، قال البخاري: له صحبة، وقال أبو حاتم الرازي: ليست له صحبة، وإنما يروي عن عبد الله بن حوالة، وعده مسلم في التابعين.

ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 1386)، أسد الغابة (4/ 363)، الإصابة (6/ 56).

ص: 301

عَلَى أَبْصَارِهِمْ وَفِي قُلُوبِهِمْ، وَذَكَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَوْمَا الْفِتْنَةِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ السَّكُونِ

(1)

: فَأَيْنَ أَسْيَافُنَا؟ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنِّي أَخَافُ إِنْ أَحْضَرْتُهَا أَنْ تَعْوِرَ عَيْنَكَ وَتَكْسِرَ سِنَّكَ، فَحَضَرَ السَّكُونِيُّ يَوْمَ صِفِّينَ، فَتَعَوَّرَتْ عَيْنُهُ وَكُسِرَتْ سِنُّهُ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَاحِدَةٌ كَانَتْ تَكْفِينِي.

وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه فِي غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ

(2)

: نِعْمَ الْفَتَى غُضَيْفٌ؛ تَفَرَّسَ فِيهِ الْخَيْرَ"

(3)

.

ويقول ابن القيم في بيان فراسة شيخ الإسلام ونظرته المستقبلية التفاؤلية: "ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورًا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سفرًا ضخمًا.

أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عامّ ولا سبي عامّ، وأن كَلَب الجيش وحدته في الأموال، وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة.

(1)

السَّكُون قبيلة من القبائل العربية وهي: بطن من بطون كندة، وَهُوَ السّكُون بن أَشْرَس بْن ثَوْر وَهُوَ كِنْدَة.

ينظر: الأنساب للسمعاني (7/ 165) ت: عبد الرحمن المعلمي، مجلس دائرة المعارف العثمانية، ط 1، 1382 هـ، اللباب في تهذيب الأنساب (2/ 125) لابن الأثير، دار صادر بيروت.

(2)

غضيف بن الحارث بن زنيم السكوني الكندي، الشامي. مختلف في صحبته، والصحيح أن له صحبة، قال الذهبي: عداده في صغار الصحابة، وله رواية. كان عابدًا زاهدًا صالحًا، سكن الشام، توفي رضي الله عنه سنة (80 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (3/ 453)، البداية والنهاية (12/ 161)، الإصابة (5/ 247).

(3)

كرامات الأولياء للالكائي من شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (9/ 156). وهذا الأثر عن عمر رضي الله عنه أورده الإمام أحمد في المسند (35/ 221) وفيه زيادة وهذا لفظه: عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ مَرَّ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: نِعْمَ الْفَتَى غُضَيْفٌ، فَلَقِيَهُ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ: أَيْ أُخَيَّ اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: أَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: نِعْمَ الْفَتَى غُضَيْفٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ ضَرَبَ بِالْحَقِّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» قَالَ عَفَّانُ: عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ.

ص: 302

ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينًا، فيقال له: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا .. وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.

ولما طُلب إلى الديار المصرية وأريد قتله -بعدما أنضجت له القدور، وقلبت له الأمور- اجتمع أصحابه لوداعه، وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك، فقال: والله، لا يصلون إلى ذلك أبدًا، قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حبسي، ثم أخرج وأتكلّم بالسنة على رءوس الناس، سمعته يقول ذلك.

ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك، وقالوا: الآن بلغ مراده منك، فسجد لله شكرا وأطال، فقيل له: ما سبب هذه السجدة؟! فقال: هذا بداية ذلِّه ومفارقة عزِّه من الآن، وقرب زوال أمره. فقيل: متى هذا؟ فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته. فوقع الأمر مثل ما أخبر به. سمعت ذلك منه .. وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل، ولم يعين أوقاتها، وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها.

وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته. والله أعلم"

(1)

.

(1)

مدارج السالكين (2/ 458 - 459).

ص: 303

المبحث الثالث:

مواقف من حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله

يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته

المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس:

الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم.

الفرع الثاني: أثر عمل القلب على تعليمه للناس الخير وعلى رأس ذلك التوحيد، وإنكاره للشرك أينما حل، وما تركه للأمة من مؤلفات.

المطلب الثاني: أثر عمل القلب على ثبات الإمام محمد بن عبد الوهاب على عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في سبيل دعوته.

المطلب الثالث: أثر عمل القلب على حسن خلقه رحمه الله، وسلامة قلبه، وعفوه عمن آذوه.

المطلب الرابع: اثر عمل القلب على نظرته التفاؤلية للمستقبل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

ص: 304

‌المبحث الثالث: مواقف من حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله يظهر فيها أثر أعمال القلوب عليه وعلى دعوته

(1)

‌المطلب الأول: أثر عمل القلب على طلبه للعلم، وتعليمه للناس:

‌الفرع الأول: أثر عمل القلب في طلبه للعلم:

ولا شك أن المتأمل في حياة هذا الإمام يرى أثر عمل القلب عليه في طلبه للعلم، فقد أعطاه الله فهمًا وذكاء وجَلَدًا وصبرًا على تعلم العلم، وبارك الله له في علمه وعمله، وقد ولد الشيخ رحمه الله في بلدة العيينة

(2)

في أسرة علمية، تعلم القرآن وحفظه عن ظهر قلب قبل بلوغه عشر سنين، وكان حاد الفهم وقَّاد الذهن ذكيَّ القلب سريع الحفظ، قرأ على أبيه

(3)

في الفقه، وكان رحمه الله تعالى في صغره كثير

(1)

ينظر ذلك في: تاريخ ابن غنام (1/ 208 وما بعدها)، اعتنى به سليمان الخراشي، دار الثلوثية الرياض، ط 1، 1431 هـ، عنوان المجد في تاريخ نجد (1/ 33 وما بعدها) لعثمان بن بشر، ت: عبد الرحمن آل الشيخ، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز الرياض، ط 4، 1402 هـ، مشاهير علماء نجد وغيرهم (16 وما بعدها)، عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي (1/ 125 - 127) لصالح العبود، من مطبوعات عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، ط 2، 1324 هـ، منهج محمد بن عبد الوهاب في التفسير (8 - 12) لمسعد الحسيني، من مطبوعات الجامعة الإسلامية، الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة (27 وما بعدها) لآمنة محمد نصير، دار الشروق بيروت، ط 1، 1403 هـ.

(2)

العُيَيْنة بلدة صغيرة تقع في الشمال الغربي على بعد 80 كلم من مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية. تقع في ملتقى شعاب وادي حنيفة الرئيسية.

ينظر: معجم اليمامة (2/ 198) لعبد الله بن خميس، طبع على نفقة صاحب السمو الملكي سلطان بن عبد العزيز، ط 1، 1398 هـ، الموسوعة العربية العالمية (16/ 758).

(3)

عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن مُشَرَّف التميمي النجدي، وكان عالِمًا وفقيهًا وقاضيًا لبلدة العيينة ثم حريملاء، وقد اعتنى بتربية ابنه محمد عناية كبيرة ورباه تربية إسلامية صحيحة حتى صار من أعظم المجددين في العصور المتأخرة، وتوفي رحمه الله سنة (1153 هـ).

ينظر: الأعلام (4/ 182)، علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 40) لعبد الله البسام، دار العاصمة الرياض، ط 2، 1419 هـ.

ص: 305

المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام، فشرح الله صدره في معرفة التوحيد وتحقيقه ومعرفة نواقضه المضلة عن طريقه، وجدّ في طلب العلم، وأدرك وهو في سن مبكرة حظًّا وافرًا من العلم، حتى إن أباه كان يتعجب من فهمه ويقول: لقد استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام.

وكتب أبوه إلى بعض إخوانه رسالة نوَّه فيها بشأنه وفهمه الجيّد، وأنه بلغ الاحتلام قبل إكمال اثنتي عشرة سنة من عمره، ورآه أهلًا للصلاة بالجماعة إمامًا لمعرفته بالأحكام، وزوَّجه بعد البلوغ مباشرةً، ثم طلب من أبيه الحجَّ إلى بيت الله الحرام، فأذن له فحجَّ وقصد المدينة وأقام فيها شَهرين، ثم رجع بعد ذلك إلى أبيه في العيينة، وأخذ يَدْرُسُ الفقه على مذهب الإمام أحمد على والده، ورزق مع قوة الحفظ سرعة الكتابة، بحيث إنه يخطّ كراسًا بخطّ واضح في الجلسة الواحدة، بلا سأم ولا تعب؛ مما يحير أصحابه.

وقرأ الشيخ في فنون العلم، وصار له فهم قويٌّ وهمَّة عالية في طلب العلم، فصار يناظر أباه وعمه

(1)

في بعض المسائل بالدليل على بعض الروايات عن الإمام أحمد والوجوه عن الأصحاب

(2)

، فتخرَّج عليهما في الفقه، وناظرهما في مسائل قرأها في الشرح الكبير والمغني والإنصاف، لما فيهما من مخالفة ما في متن المنتهى والإقناع.

(1)

وهو إبراهيم بن سليمان بن علي بن مشرف التميمي النجدي وهو فقيه وقاض، توفي سنة (1141 هـ).

ينظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 6)، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 303).

(2)

الوجه: أن يستخرج أصحاب الإمام لمسألة ما حكمًا من مسألة مشابهة وفق قواعد إمام المذهب وأصوله.

ينظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (12/ 256) للمرداوي، دار إحياء التراث العربي، ط 2، مصطلحات المذاهب الفقهية وأسرار الفقه المرموز (350) لمريم محمد صالح الظفيري، دار ابن حزم، ط 1، 1422 هـ.

ص: 306

وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم

(1)

رحمه الله: "أمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك وعدم النسيان، سمع الحديث، وأكثر في طلبه، وكتب ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره، برع في تفسير القرآن، وغاص في دقائق معانيه، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ مثله مع سرعة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، تمسك بأصول الكتاب والسنة، وتأيد بإجماع سلف الأمة"

(2)

.

بعد أن نهل الشيخ من علم أبيه الذي يغلب عليه الجانب الفقهي تطلع إلى المزيد، وذلك بالسير على منهج الأسلاف في الرحلة في طلب العلم الشرعي مهما كلف ذلك من مشقة وعناء.

فبدأ رحلته بحج بيت الله الحرام، فلما قضى حجه سار إلى المدينة النبوية فقضى بها زمنًا أخذ فيه العلم عن علمائها المشهورين في ذلك الزمان، فأقام الشيخ في المدينة ما شاء الله، ثم خرج منها إلى نجد

(3)

، فقصد بلدة العيينة، وأقام بها قرابة سنة، ثم تجهز

(1)

الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم من آل عاصم، أبو عبد الله القحطاني صاحب الدرر السنية وغيرها. وقد قام بعملين عظيمين استغرقا منه جهدًا كبيرًا وهما: جمع فتاوى علماء نجد، وجمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، توفي رحمه الله سنة (1392 هـ).

ينظر: الأعلام (3/ 336)، علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 202)، موسوعة مواقف السلف (9/ 538)

(2)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (16/ 323).

(3)

النجد: ما ارتفع من الأرض، ويقصد به المنطقة التي تقع في وسط المملكة العربية السعودية الممتدة من نفود الدهناء في الشرق إلى أطراف جبال الحجاز الشرقية غربًا، ومن صحراء النفود الكبرى شمالًا إلى أطراف الربع الخالي جنوبًا.

ينظر: المعجم الجغرافي عالية نجد (3) لسعد بن عبد الله بن جنيدل، من مطبوعات دار اليمامة الرياض، الموسوعة الحرة على الشبكة.

ص: 307

إلى البصرة

(1)

، والتقى بعلمائها وقرأ عليهم، وكان في رحلاته لا يفتر عن مهمته الرئيسة: الدعوة إلى التوحيد، ثم رحل الشيخ إلى الأحساء

(2)

، وأخذ عن علمائها، ثم استقر به المقام في نجد وبدأ في نشر دعوته، وعندما استقر الشيخ في نجد لم تنقطع صلته بالعلم، بل كان كما يذكر الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف

(3)

يقرأ على والده، وبعد فراغه من القراءة يخلو بنفسه ويعكف على دراسة الكتاب والسنة وتفاسير علماء السلف الأجلاء وشروحهم بتدبر وإمعان، فبلغ رحمه الله الغاية القصوى والطريقة المثلى في معرفة معاني الكتاب والسنة، واستنباط ما فيهما من الأسرار الشرعية والأحكام الدينية، وأكب على مطالعة مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فازداد بهما علمًا وتحقيقًا ومعرفة، وبصيرة في كتاب الله تعالى، وإدراكًا لمعانيه وأسراره، والاهتداء به في شئون الحياة

(4)

.

وهنا يظهر التوفيق الرباني لهذا الإمام الذي يعده الله لمهمة عظيمة كبيرة، وهي

(1)

البصرة: بناها عتبة بن غزوان رحمه الله سنة (17 هـ) بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي: مدينة عراقية تقع جنوبي العراق بالقرب من التقاء نهري دجلة والفرات. وتعدّ البصرة من أكبر المدن العراقية بعد بغداد، والميناء الرئيس للدولة.

ينظر: البلدان لليعقوبي (159) دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1422 هـ، الموسوعة العربية العالمية (4/ 426)، موقع الموسوعة الحرة على الشبكة.

(2)

محافظة الأحساء من أكبر المحافظات في المملكة العربية السعودية، وتقع في الجزء الشرقي من المنطقة الشرقية، وهي واحة كثيرة النخيل.

ينظر: الموسوعة الحرة على الشبكة.

(3)

عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض سنة (1332 هـ)، ثم انتقل إلى مكة سنة (1353 هـ) وتلقى العلم أولًا في الرياض على مشايخها، فقرأ القرآن الكريم حتى ختمه، وتلقى مبادئ العلوم، ثم لما انتقل إلى مكة أخذ العلم عن جملة من مشايخها الوافدين وغيرهم، وله مجموعة من الكتب منها: مشاهير علماء نجد وغيرهم، وعلماء الدعوة ومناصروها وغير ذلك.

ينظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم (320) فإن لمؤلف الكتاب ترجمة في آخره بعنوان: المؤلف في سطور.

(4)

ينظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم (18).

ص: 308

نشر عقيدة التوحيد على منهج السلف ومحاربة الشرك بكل أنواعه، ولا يثبت في هذه المقامات العظيمة إلا من صدق مع الله وأخلص لله، وأقبل على صلاح قلبه مستعينًا بالله على تحقيق أعمال القلوب وتطبيق ما يدعو إليه عمليًّا في حياته، فحقق التوحيد، وصفَّى قلبه من شوائب الشرك، فعند ذلك يجد عون الله وتوفيقه له وعنايته تحف به من كل جانب، وهذا ما حصل لهذا الإمام رحمه الله، فقد رزقه الله الثبات والصبر على هذه المهمة العظيمة، فقام بها خير قيام، ثم بعد وفاة والده انطلق في دعوته الإصلاحية إلى أن توفاه الله بعد ظهور دعوته وانتشارها، فرحمه الله رحمة واسعة.

‌الفرع الثاني: أثر عمل القلب على تعليمه للناس الخير وعلى رأس ذلك التوحيد، وإنكاره للشرك أينما حل، وما تركه للأمة من مؤلفات

(1)

.

كان الشيخ رحمه الله من منهجه ودأبه أينما حل أن يبيِّنَ التوحيد ودلائله من الكتاب والسنة وأقوال السلف لمن حوله، وينكر ما يرى من الشركيات والبدع؛ لما فيها من قدح في العقيدة الصحيحة أو منافاة لها.

وإن هذا الاصطفاء من الله لهذا الإمام يدل على توفيق الله له ليقوم بهذه المهمة العظيمة، ويواجه بثبات منقطع النظير المقاومة الشرسة لدعوته من القريب والبعيد، وذلك لغربة التوحيد في موطنه وفي سائر بلدان المسلمين، وهذا فيما أحسبه من هذا الإمام -والله حسيبه- دليل على عمل القلب في صدقه مع الله وإخلاصه، وتمكن عظمة التوحيد من قلبه، وشعوره بخطر الشرك العظيم عليه وعلى الأمة، وتمكَّن الشيخ من هذا الثبات العظيم وصبره على ما يلقاه في ذات الله من أذى يسقط تحت وطأته ضعاف القلوب، ويبقى رحمه الله إلى آخر عمره وفيًّا لهذه المهمة في نشر التوحيد ومحاربة الشرك على كل الجبهات، إن هذا لمن الإشارات العظيمة الدالة على تمكن

(1)

ينظر في ذلك: تاريخ ابن غنام (1/ 213 وما بعدها)، وعنوان المجد (1/ 38 وما بعدها)، منهج محمد بن عبد الوهاب في التفسير (13 - 15).

ص: 309

أعمال القلوب في حياة الإمام.

وقد كان الإمام محمد بن عبد الوهاب بارًّا بوالده برًّا عظيمًا، فحينما طلب منه أن يخفِّف من مواجهته للناس بهذا الأمر الذي يكرهونه لغربة التوحيد وتسلّط سدنة الشرك وحماته على مقاليد الأمور، فخاف الأب على ابنه، فأمره أن يكفَّ عن هذا الأمر أو يخفِّف من المواجهة خوفًا عليه، فما كان من الابن إلا أنِ امتثل أمر والده، ولما توفي والده استمر الشيخ في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهر بذلك، وأخذ يقرره للعام والخاص، ويزجر من يرتكب شيئًا من المنكرات، فذاع ذكره في جميع بلدان العارض

(1)

، في حريملاء

(2)

والعيينة والدرعية

(3)

والرياض ومنفوحة

(4)

، وصار له أنصار ومعارضون كما هي سنة الله تعالى الجارية في الصراع بين الحق والباطل.

ثم لما لم يجد الشيخ مناصرة ومؤازرة قوية توجَّه إلى العيينة وأميرُها يومئذ عثمان بن

(1)

العارض: يقصد بها بلدان نجد وقراها، وكذلك قديمًا تسمى جبال طويق بالعارض، وفي القرون المتأخرة صارت تطلق الرياض وما جاورها من مدن وبلدات.

ينظر: الموسوعة الحرة على الشبكة.

(2)

حريملاء: تقع شمال غرب العاصمة الرياض على بعد (80) كلم تقريبًا، وهي تابعة لإمارة منطقة الرياض ومحافظة من محافظتها.

ينظر: مقالة على موقع صحيفة الجزيرة على الشبكة عدد (16190) بعنوان: حريملاء مدينة العلم والعلماء، وينظر أيضًا: الموسوعة الحرة.

(3)

تقع الدرعية شمال غرب الرياض بمسافة (20) كلم، ويشقها وادي حنيفة نصفين، وهي بلاد زراعية، وقد ارتبط ذكرها بالدولة السعودية الأولى.

ينظر: معجم اليمامة (1/ 424)، الموسوعة الحرة.

(4)

بلدة قديمة ولها تاريخ عريق، وسكنها الأعشى الشاعر الجاهلي المعروف وبها قصره، وصارت الآن حيًّا من أحياء مدينة الرياض الجنوبية.

ينظر: معجم اليمامة (2/ 397)، الموسوعة الحرة.

ص: 310

حمد بن معمر

(1)

، فتلقاه بالإجلال والاحترام، فعرض عليه الشيخ دعوته، وبين له التوحيد، ورغبه فيه، فاتبعه وناصره، وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره.

وكان في العيينة وما حولها كثير من القباب والمساجد والمشاهد المبنية على قبور الصحابة، وكثير من الأشجار التي يقدِّسونها ويتبركون بها.

فأمر الشيخ بتغيير تلك المنكرات، فخرج هو والأمير فقطعوا الأشجار، وهدموا المشاهد وعدلوا القبور على السنة.

وهكذا استمرت الأمور على أحسن حال، فعلت كلمة الحق، وأُحيِيَت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأقيمت الحدود، وعاد للعقيدة صفاؤها وأثرها.

وعاد الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتدبرهما وتطبيقهما في واقع الحياة.

فلم يرق ذلك لعلماء السوء وأرباب المصالح، بل أنكرته قلوبهم، وما أنكرت إلا التوحيد وتطبيق القرآن، ولسان حالهم يقول:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، فتألبوا على الإنكار عليه ومخاصمته ومحاربته، وإثارة الشبهات حول دعوته:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، فكتبوا إلى علماء الأحساء والبصرة والحرمين يشوِّهون الحقائق، ويؤلِّبون على الشيخ، ويغرون به العامة والخاصة، وخصوصًا الحكام، حتى وشوا به إلى حاكم الأحساء سليمان بن محمد بن غرير الحميدي

(2)

.

(1)

عثمان بن حمد بن معمّر النجدي رئيس العيينة من بلاد نجد في بدء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تعاون معه على إرساء قواعد التوحيد وإزالة مظاهر الشرك، إلا أنه رضخ لخصوم الدعوة وأمر بإخراج الشيخ من بلدة العيينة، توفي عليه رحمة الله سنة (1136 هـ).

ينظر: إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام (6/ 43) لعبد الله الغازي المكي الحنفي، ت: ابن دهيش، توزيع مكتبة الأسدي بمكة، ط 1، 1430 هـ، الأعلام (4/ 204) مشاهير علماء نجد وغيرهم (19).

(2)

سليمان بن محمد بن غرير الحميدي من بني خالد، وهو خامس حكام دولة بني خالد، وفي آخر حياته ابتعد عن السلطة وتوجه إلى أقليم الخرج، وبقي فيه حتى مات رحمه الله سنة (1166 هـ)، وهو حاكم الأحساء الذي خاف من دعوة الشيخ على سلطانه، كما زين له علماء السوء، فأرسل خطابًا إلى ابن معمر حاكم العيينة يأمره بطرد الشيخ من بلده، وإلا سوف يغزوه ويقطع مرتبه.

ينظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم (21)، محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه (23)، وموقع الموسوعة الحرة على الشبكة.

ص: 311

فكتب سليمان هذا إلى عثمان بن معمر يأمره بقتل الشيخ أو إجلائه عن بلده، وشدَّد عليه، وهدَّده بقطع ما كان يبعث به إليه من خراج.

فلما ورد كتابه على عثمان عظم الأمر في عينه، وعز عليه مخالفة أمير الأحساء، فأمر الشيخ بالخروج من العيينة.

فخرج الشيخ منها محفوفًا برعاية الله سنة (1157 هـ) أو (1158 هـ)، وتوجه إلى الدرعية، حيث كان له أنصار وتلاميذ، فنزل أول ليلة على عبد الله بن سويلم

(1)

، ثم انتقل في اليوم التالي إلى دار تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم

(2)

، ثم كان اللقاء بينه وبين الإمام محمد بن سعود

(3)

أمير الدرعية، وهنا بدأ عصر جديد للدعوة، ومن ثم الظهور والتمكين.

يقول الدكتور صالح العبود

(4)

: "ولما توفي والده عام 1153 هـ أعلن الدعوة إلى

(1)

لم أعثر له على ترجمة.

(2)

لم أعثر له على ترجمة.

(3)

الإمام الرئيس محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان، أول من لقب بالإمامة من آل سعود في نجد. استقر في الدرعية، ثم ولي الإمارة بعد وفاة أبيه ببضع سنين، وفي سنة سبع أو ثمان وخمسين ومائة وألف وفد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية، فاستقبله الأمير ورحب به، ونصره باللسان والسنان، حتى اتسعت دائرة الدعوة السلفية وامتدت إلى بلدان وأمصار شتى. أحيا السنة وأمات البدعة، وجدد الدعوة والجهاد، وأظهر التوحيد، وحارب الشرك. توفي رحمه الله سنة (1179 هـ).

ينظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (16/ 347)، الأعلام (6/ 138)، موسوعة مواقف السلف (8/ 569).

(4)

صالح بن عبد الله بن عبد الرحمن العبود، دكتور في العقيدة الإسلامية، تولى العديد من المناصب منها مديرًا للجامعة الإسلامية، وقبل ذلك كان رئيسًا لقسم العقيدة ومدرسًا بالمسجد النبوي، وله عدة مشاركات في عضوية الكثير من الجهات الحكومية، وله الكثير من المحاضرات والدروس العلمية.

ينظر: مقال بعنوان: ترجمة الشيخ صالح العبود حفظه الله على موقع الآجري على الشبكة.

ص: 312

تصحيح العقائد السائدة بعقيدة السلف الصالح، لكن لم تكن حريملاء صالحة لأن تكون منطلقًا لدعوته، فانتقل منها فيما يقارب عام (1155 هـ) إلى العيينة، وقد ناصره أميرها عثمان بن معمر أولَ الأمر، ثم خذله، فانتقل الشيخ إلى الدرعية والتقى بأميرها الراشد محمد بن سعود، فقام بنصرته، ووفى بعهده، وأتم وعده، فأظهر الله عقيدة السلف الصالح، ونصر الله أهلها، وتوفر الشيخ لنشرها، وتدريس العلوم النافعة، وتأليف الكتب المفيدة في أصول الإسلام وفروعه على طريقة السلف الصالح، وانطلاقًا من العقيدة السلفية السليمة، وقد أخذ عن الشيخ جموع كثيرة، وخلف من تلاميذه العلماء الكبار الذين قاموا بأدوار مهمة عظيمة، وخلف أتباعًا وأنصارًا ودولة ملأ ذكرهم الأسماع في الخافقين، وعظم شأنهم بين العالمين"

(1)

.

"وقد ألف الشيخ محمد رحمه الله مؤلفات كثيرة مفيدة منها: كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات، ومفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد، وكتاب الكبائر، وكتاب أصول الإيمان وفضائل الإسلام، وكتاب أحاديث الفتن، ومختصر السيرة النبوية، ومختصر زاد المعاد، ومختصر الإنصاف والشرح الكبير، ومسائل الجاهلية، ومجموع الحديث رتبه رحمه الله على أبواب الفقه، وكتاب آداب المشي إلى الصلاة، واستنباط القرآن، وكتاب نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين، وكتب رحمة الله رسائل كثيرة في تقرير التوحيد وتوضيحه"

(2)

.

واستخدم الشيخ رحمه الله وتلاميذه من بعده وسيلة مجدية في ذلك الزمن في نشر دعوته وتفنيد الشبهات المثارة ضدها، وتلك الوسيلة هي أسلوب المراسلات العلمية

(1)

عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي (1/ 183).

(2)

مشاهير علماء نجد وغيرهم (26).

ص: 313

الشخصية

(1)

، وهو أسلوب له فوائد منها:

1 -

تأليف القلوب من حيث شعور المرسل إليه بالاختصاص والاصطفاء، وما يكون في الرسالة من ثناء ودعاء ونحوه.

2 -

سهولة حملها ونشرها.

3 -

التركيز على جانب وإشباعه من ناحية الاستدلال وبيان المقصود، أو تفنيد الشبهات.

‌المطلب الثاني: أثر عمل القلب على ثبات الإمام محمد بن عبد الوهاب على عقيدة السلف، وصبره على ما لقيه في سبيل دعوته:

الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله له هدف واضح يسعى لتحقيقه بكل ما يمكن، وهو نشر دعوة التوحيد صافية نقية كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاربة الشرك بكل أنواعه، وشُنت عليه بسبب ذلك حربٌ لا هوادة فيها من القريب والبعيد؛ لأن الشرك ضارب بأطنابه

(2)

في المجتمعات، وعقيدة التوحيد تعيش غربة عظيمة، ومن يلق نظرة على المجتمع في نجد وما حولها في تلك المرحلة

(3)

يرَ أن التبعة ثقيلة عظيمة، تحتاج إلى مصلح من نوع فريد يملك مقومات تؤهله لهذه المهمة

(1)

ينظر نماذج على هذه الرسائل في تاريخ ابن غنام (1/ 318 وما بعدها)، وينظر أيضًا: كتاب الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول)(97) لعبد الله بن صالح العثيمين، من مطبوعات عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 2، 1420 هـ، وقد حلل الدكتور العثيمين أسلوب هذه الرسائل في كتابه هذا، ينظر المرجع السابق (1/ 97 وما بعدها).

(2)

جمع طُنُب ويطلق على معان منها: عروق الشجر وحبال الخيمة التي تشد بها.

ينظر: الصحاح (1/ 172)، مقاييس اللغة (3/ 426) مادة (طنب)، والمقصود أن الشرك متجذر قوي ومتمكن.

(3)

ينظر ما سجله ابن غنام في تاريخه عن الحال التي وصلت لها نجد والأحساء وغيرها من بلاد المسلمين في تلك الفترة من انتشار الشرك والضلال والبعد عن عقيدة التوحيد (1/ 171 - 188).

ص: 314

العظيمة، فكان لها بتوفيق الله وحفظه لدينه الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومن تعاون معه من الأسرة الكريمة من آل سعود.

ودونك هذه النماذج من حياة الشيخ رحمه الله في صبره على دعوته، وثباته على منهجه الذي اختطه لنفسه في كل مراحل حياته من نشر التوحيد أينما حل وكان، وما لقيه من الأذى في سبيل ذلك:

- يذكر ابن بشر

(1)

رحمه الله أن الشيخ لما أنكر الشرك والبدع تجمع عليه أناس في البصرة من رؤسائهم وغيرهم، فآذوه أشد الأذى، وأخرجوه منها وقت الظهيرة، فلما خرج وتوسط في الدرب فيما بينها وبين بلد الزبير

(2)

أدركه العطش وأشرف على الهلاك، وكان ماشيًا على رجليه وحده، فوافاه صاحب حمار مكاري

(3)

يقال له: أبو حميدان

(4)

، فسقاه وحمله على حماره حتى وصل الزبير

(5)

.

- ولما أنكر الشرك والبدع ودعا إلى التوحيد في بلدة حريملاء وقع بينه وبين الناس كلام حتى وصل الأمر إلى والده الذي كلمه فيما يظهر بأن يخفف من هذا الأنكار، فاستجاب لأمر أبيه، وبقي إلى أن توفي، فأعلن إنكاره وصدع بدعوته، ولما أنكر على

(1)

عثمان بن عبد الله بن عثمان بن بشر النجدي يرجع إلى قبيلة بني زيد القضاعية القحطانية، اهتم بتاريخ نجد وكتب فيه كتابه المشهور بعنوان: المجد في تاريخ نجد، وقد عاصر الدولة السعودية الأولى ثم الثانية، توفي رحمه الله سنة (1290 هـ).

ينظر: الأعلام (4/ 209)، معجم المؤلفين (6/ 259)، علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 115).

(2)

مدينة عراقية تقع جنوب العراق بالقرب من البصرة في جنوب غربها.

ينظر: الموسوعة الحرة.

(3)

من أكرى الدار أو الدابة أو السيارة بمعنى: آجره إياها.

ينظر: المغرب في ترتيب المعرب (407)، معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1927) لبرهان الدين الخوارزمي الْمُطَرِّزِىّ، مادة (كري)، المكاري قديمًا من ينقل الناس على الدابة مقابل أجرة.

(4)

لم أعثر له على ترجمة.

(5)

ينظر: عنوان المجد (1/ 36 - 37).

ص: 315

بعض الفاسدين كادوا أن يقتلوه لولا أن حماه الله ببعض جيران الشيخ، لما رأوهم يتسورون عليه يريدون قتله، فصاحوا بهم ففروا، فاضطر الشيخ إلى الخروج إلى بلدة العيينة

(1)

.

ولما نزل الشيخ على ابن معمر أمير العيينة ورحب به وبدعوته قام الشيخ بما يجب عليه من إنكار المنكر بلسانه ويده، وإزالة مظاهر الشرك، وتعاون معه على ذلك ابن معمر، ولما ظهر أمره سعى أعداؤه إلى تأليب الحكام عليه، فأرسل حاكم الأحساء الذي كان يتبع له ابن معمر أن يقتل الشيخ أو يخرجه من العيينة، وهدده بقطع المعونة عنه، فرضخ ابن معمر له، وأمر الشيخ بالخروج، كما سبقت الإشارة إلى ذلك

(2)

، فخرج الشيخ وحيدًا فريدًا لا يملك من الدنيا شيئًا إلا مروحة خوص

(3)

في يده، وفي قلبه ثقة بموعود الله ونصره له، قوي ثابت على مبدئه، يبحث عن مكان آخر ينشر فيه دعوته، لسانه لا يفتر عن ذكر الله والابتهال إليه أن يجعل له مخرجًا وفرجًا لدعوته

(4)

.

وفي هذه المواقف الصعبة التي يسقط فيها أصحاب القلوب الضعيفة، وفي المقابل يظهر أثر عمل القلب في ثبات العبد على الحق والصبر على الأذى في سبيل الله، مع اليقين التام بنصر الله وظهور الحق، وهذا ما كان عليه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فكلّما سُدَّ في وجهه باب فتح الله له بابًا آخر، على رغم ما يواجهه من حرب من القريب والبعيد، وما زاده ذلك إلا إصرارًا على القيام بالدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك أينما حل ورحل، وما ذلك إلا من توفيق الله له.

(1)

ينظر: عنوان المجد (1/ 37 - 38).

(2)

ينظر: ص (314).

(3)

الخوص: ورق النخل.

ينظر: الصحاح (3/ 1038) مادة (خوص)، ومروحة الخوص تصنع باليد من ورق النخل لأجل جلب الهواء على الوجه عند تحريكها باليد.

(4)

ينظر: عنوان المجد (1/ 38 - 40).

ص: 316

‌المطلب الثالث: أثر عمل القلب على حسن خلقه رحمه الله، وسلامة قلبه، وعفوه عمن آذوه:

لقد ضرب الإمام محمد بن عبد الوهاب أروع الأمثلة في الصبر على الأذى في سبيل دعوته، وقد سلك أعداء الدعوة مسالك شتى في محاربتها، ومنها على سبيل الإجمال:

1 -

الكتابة ضدها بالتشويه تارة وبالتنفير منها تارة أخرى.

2 -

مجادلة بعض العلماء لأتباع الدعوة.

3 -

الاتصال بالعلماء وذوي النفوذ خارج نجد وتحريضهم ضد الشيخ ودعوته.

4 -

ترويج الكتب التي ألفها علماء من غير نجد ضد الدعوة ونشرها بين الناس

(1)

.

لكن الشيخ رحمه الله قابل كل ذلك بالحجج البينات القائمة على الدليل، وكان يدعو الله بهدايتهم، حتى لما أظهره الله عليهم عفا عنهم، ولم ينتقم لنفسه، بالرغم من أنهم جرَّدوا ضدَّه وضدَّ دعوته ألسنةً حدادًا، ولم يعاملهم بما عاملوه به؛ إذ لو تمكنوا منه لقطَّعوه أوصالًا، ولكن لما مكنه الله منهم عفا عنهم، حتى إنه لم يستخدم معهم أسلوب اللوم والعتاب

(2)

، وتلك أخلاق الأئمة العظماء التي لا يقوى عليها إلا أفذاذ الرجال.

‌المطلب الرابع: أثر عمل القلب على نظرته التفاؤلية للمستقبل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين:

كان عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقينٌ تامٌّ بأن الله سيعلِي هذه الدعوة،

(1)

ينظر هذه الوجوه الأربعة بشيء من التفصيل في كتاب الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن بحوث أسبوع الشيخ (1/ 111 - 113).

(2)

ينظر: تاريخ ابن غنام (1/ 223 - 224).

ص: 317

وسينصر من ينصرُها، وكان قوله دائمًا لمن يرغب في التعاون معه: النصر مع الصبر على دعوة التوحيد وعلى نشرها، قال ذلك لابن معمر أمير العيينة:"إني أرجو إن أنت قمتَ بنصر لا إله إلا الله أن يُظهرَك الله وتملك نجدًا وأعرابها"

(1)

.

وهذا مثال آخر تظهر فيه نظرة الشيخ الثاقبة ورؤيته الصادقة المتفائلة بأن المستقبل والنصر والتمكين لمن ينشر دعوة التوحيد خالصة لوجه الله.

ودخل محمد بن سعود على زوجته

(2)

فأخبرته بمكان الشيخ، وقالت له: إن هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة، فاغتنم ما خصَّك الله به، فقبل قولها، ويظهر في هذا الموقف أثر المرأة الصالحة على زوجها وبركة مشورتها، ثم دخل عليه أخوه ثنيان

(3)

وأخوه مشاري

(4)

، وأشاروا عليه بمساعدته ونصرته، وألقى الله سبحانه وتعالى في قلبه للشيخ

(1)

عنوان المجد في تاريخ نجد (1/ 38).

(2)

موضي بنت أبي وهطان من آل كثير من بني لام من طيِّئ، زوجة الإمام محمد بن سعود وأم أبنائه عبد العزيز وعبد الله وسعود وفيصل، صاحبة الموقف العظيم في نصرة الدعوة السلفية وإيواء الإمام الحبر محمد بن عبد الوهاب مجدد ما اندرس من معالم الشريعة المحمدية ومحطم المظاهر الشركية، قال عنها ابن مشرف: وكانت ذات عقل ودين ومعرفة رحمها الله.

ينظر: عنوان المجد (1/ 41)، مقال في صحيفة الرياض عدد 13906 على موقعها على الشبكة بعنوان: موضي بنت أبي وهطان الكثيري.

(3)

ثنيان بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان، لم يل الإمارة، وإنما كان يساعد شقيقه الإمام محمد بن سعود في أمورها. وكان حازمًا شجاعًا، ووصفه في مثير الوجد: الزاهد العابد القائم بنصرة الإسلام وإظهاره أيَّد الله به دينه، كان لا يحب الدنيا وملاذها، وترك الإمارة لأخيه محمد، توفي رحمه الله سنة (1186 هـ) كما ذكره ابن بشر، وفي مثير الوجد في أنساب ملوك نجد توفي سنة (1160 هـ) وذكر محقق كتاب مثير الوجد: أن قول ابن بشر في وفاته فيه نظر، والله أعلم.

ينظر: عنوان المجد (1/ 118)، مثير الوجد (123) لراشد بن علي بن جريس، ت: أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، ط 2، 1419 هـ، الأعلام (2/ 101).

(4)

مشاري بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان، هو الذي أيّد أخاه محمد بن سعود في نصرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذا ولده حسن بن مشاري، فإنه قاد السرايا، وقاتل في الحصون والبلاد والقرى مع ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن سعود، وله أولاد فرسان وشجعان قتلوا في حرب إبراهيم باشا لما حاصر الدرعية.

ينظر: إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام (6/ 45).

ص: 318

المحبة، فأراد أن يرسل إليه، فقالوا: سر إليه برجلك في مكانه، وأظهر تعظيمه والاحتفال به؛ لعل الناس أن يكرموه ويعظموه، فقام محمد بن سعود من فوره وسار إليه ومعه أخواه ثنيان ومشاري، فدخلوا عليه في بيت أحمد بن سويلم، فسلم عليه ورحب به، وأبدى غاية الإِكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده، وقال: أبشر ببلاد خيرٍ من بلادك، وأبشر بالعز والمنعة، فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين، وهذه كلمة (لا إله إلا الله) من تمسَّك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأنت ترى نجدًا وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم لبعض، فأرجو أن تكون إمامًا يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك

(1)

.

وهكذا تم اللقاء، وقد حقق الله تلك النظرة الثاقبة التي كان يعتقدها الشيخ فيمن ينصر كلمة التوحيد، وكان من ثمرة ذلك قيام هذا الكيان الشامخ المملكة العربية السعودية، والتي لا تزال على هذا العهد والميثاق في نصرة كلمة التوحيد، وهو سرٌّ من أسرار بقائها وثباتها ونصرها وتمكينها، ولله الحمد والمنة.

(1)

ينظر: عنوان المجد في تاريخ نجد (1/ 41 - 42).

ص: 319

‌الباب الثالث: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه، وفي دعوته

الفصل الأول: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه.

الفصل الثاني: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في دعوته.

ص: 320

‌الفصل الأول: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه

المبحث الأول: سلامة المقصد وخلوصه لله وحده.

المبحث الثاني: الشعور بمعية الله ورعايته له.

المبحث الثالث: الشعور بتوفيق الله وإعانته له.

المبحث الرابع: اليقين بنصر الله تعالى لدينه.

المبحث الخامس: التفاؤل وعدم اليأس.

المبحث السادس: تعلق القلب بالله تعالى.

المبحث السابع: الزهد في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة.

المبحث الثامن: طمأنينة القلب وقوته.

المبحث التاسع: الرضا بما يلقاه في ذات الله تعالى.

المبحث العاشر: المسارعة في فعل القربات.

المبحث الحادي عشر: الثبات.

المبحث الثاني عشر: الفوز والنجاة في الآخرة.

ص: 321

‌توطئة:

إذا اجتهد الداعية في أسباب صلاح قلبه، وجاهد نفسه على ذلك، ودقق في محاسبتها، وقام بتحقيق عمل القلب، وحرص على سلامة قلبه من الآفات، وجد آثار ذلك عليه في نفسه، في قوله وفعله، قال تعالى في بيان إعانته لمن جاهد نفسه في الله:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6]، وقال تعالى:{وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18]، وقال تعالى:{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44].

فيوفق الله الداعية لصلاح نفسه، فيصير بذلك قدوة حسنة للناس، فيعود ذلك بالآثار العظيمة عليه وعلى دعوته، وسيكون الحديث هنا عن آثار عمل القلب على الداعية في نفسه، وفق المباحث الآتية:

المبحث الأول: سلامة المقصد وخلوصه لله وحده.

المبحث الثاني: الشعور بمعية الله ورعايته له.

المبحث الثالث: الشعور بتوفيق الله وإعانته له.

المبحث الرابع: اليقين بنصر الله تعالى لدينه.

المبحث الخامس: التفاؤل وعدم اليأس.

المبحث السادس: تعلق القلب بالله تعالى.

المبحث السابع: الزهد في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة.

المبحث الثامن: طمأنينة القلب وقوته.

المبحث التاسع: الرضا بما يلقاه في ذات الله تعالى.

المبحث العاشر: المسارعة في فعل القربات.

المبحث الحادي عشر: الثبات.

المبحث الثاني عشر: الفوز والنجاة في الآخرة.

ودونك تفصيل هذه الآثار:

ص: 322

‌المبحث الأول: سلامة المقصد وخلوصه لله وحده

إذا حقق الداعية عمل القلب، وعلى رأس ذلك الإخلاص والصدق، وجاهد نفسه وحاسبها على ذلك، وفقه الله لسلامة المقاصد وإخلاص النية لله تعالى، ولذلك أثره العظيم عليه في نفسه، ويمتد الأثر إلى دعوته، ودونك شيئًا من آثار الإخلاص وسلامة المقصد على الداعية في نفسه:

‌1 - قبول الله لعمل العبد:

لأن الإخلاص شرط لقبول العمل، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» .

دل الحديث على أن الله لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصًا لوجهه الكريم، أما إذا أريد بالعمل غير الله فإن الله لا يقبله، ويجعله هباءً منثورًا، قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].

قال ابن القيم رحمه الله: "وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله"

(1)

.

وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

(1)

مدارج السالكين (2/ 89).

ص: 323

والآية تدل على ركني قبول العمل، وهو أن يكون موافقًا لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ويراد به وجه الله وحده لا شريك له

(1)

.

وعلى هذا إذا اجتهد الداعية في سلامة مقاصده وخلوصها لله وحده لا شريك له قبل الله عمله، وبارك له في دعوته، وفتح له مغاليق القلوب.

‌2 - تنفيس الكروب واجابة الدعاء:

ومن آثار إخلاص النية لله تعالى وسلامة المقاصد تنفيس الكروب وإجابة الدعوات.

ذكر الله تعالى عن يونس عليه السلام حينما التقمه الحوت فأطبقت عليه الظلمات

(2)

، توجه إلى ربه مخلصًا في دعوته معترفًا بذنبه، فحصل الفرج ونجا من الكرب، وقد وعد الله أن ينجي كل مؤمن من الكرب إذا أخلص لربه واعترف بذنبه، فقال سبحانه وتعالى:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87، 88].

وعَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ»

(3)

.

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 205).

(2)

في تفسير الطبري (16/ 382): "ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت".

(3)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 65) ح (1462)، والترمذي، واللفظ له في أبواب الدعوات، باب .. (5/ 529) ح (3505)، والحاكم في المستدرك في كتاب التفسير، تفسير سورة الأنبياء (2/ 414) ح (3444) وصححه ووافقه الذهبي، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الأدعية، باب فيما يستفتح به الدعاء من حسن الثناء على الله سبحانه والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم (10/ 159) ح (17271):"رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 637) ح (3383).

ص: 324

ومما يدل على أن الإخلاص في الدعاء سبب لتفريج الكربات ما ورد في السنة من حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة، فسدت باب الغار الذي هم بداخله، «فقالوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ»، وكان كل واحد يتوسل إلى الله بالعمل الصالح الذي أخلص فيه، فكانت دعوة كل واحد منهم يختمها بقوله:«اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ» ، واستجاب الله دعواتهم، فتدحرجت الصخرة عن فتحة الغار، وخرجوا يمشون، ودل ذلك على أثر الإخلاص في تفريج الكروب.

وهذا سياق الحديث بتمامه، فعن عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوِا المبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ» ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ

ص: 325

أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا»، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَسْتَهْزِئ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ»

(1)

.

والداعية إلى الله أحوج ما يكون إلى ما يعينه على ما يواجهه في دعوته من أعباء وكروب.

ولا شك أن للإخلاص أثرَه على الداعية في نفسه في تفريج الكروب التي تواجهه في حياته الدعوية، فإذا شعر بأن الأبواب مقفلة أمام دعوته، وقد أحاطت به الكروب، فيتوجه إلى ربه متضرعًا إليه متطلعًا لفرجه، قال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].

فيجد أثر ذلك في حياته بركة وتوفيقًا وإعانة وسدادًا، يفتح الله له أبواب الفرج وتكشف الكروب، وتهب عليه نسائم رحمة الله التي لا يستطيع أحد أن يمسكها عنه،

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الإجارة، باب من استأجر أجيرا فترك الأجير أجره .. (3/ 91) ح (2272)، ومسلم في كتاب الرقاق، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال (4/ 2099) ح (2743).

ص: 326

قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2].

‌3 - حصْنُ المسلم من نزغات الشيطان والفتن:

إذا أخلص الداعية لربه جعل الله له حصنًا من الشيطان ونزغاته، فلا يتسلط عليه، ويقيه الله شر الفتن.

قال تعالى عن الشيطان: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 39 - 42].

قال الشوكاني

(1)

رحمه الله: "قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام، أي: الذين استخلصتهم من العباد، وقرأ الباقون بكسر اللام، أي: الذين أخلصوا لك العبادة فلم يقصدوا بها غيرك"

(2)

.

وهذا يوسف عليه السلام حماه الله من الفتنة بإخلاصه لربه، قال تعالى: {كَذَلِكَ

(1)

الإمام العلامة المحدث محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني. فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، ولد بهجرة شوكان من بلاد خولان، ونشأ بصنعاء، وولي قضاءها. من مصنفاته: نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، وإتحاف الأكابر، وفتح القدير في التفسير، والدر النضيد في إخلاص أهل التوحيد، وتوفي رحمه الله سنة (1250 هـ).

ينظر: البدر الطالع (2/ 214)، الأعلام للزركلي (6/ 298)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (3/ 2291) جمع وإعداد: وليد بن أحمد الحسين الزبيري، إياد بن عبد اللطيف القيسي، مصطفى بن قحطان الحبيب، بشير بن جواد القيسي، عماد بن محمد البغدادي، مجلة الحكمة، مانشستر، بريطانيا، الطبعة: الأولى، 1424 هـ.

(2)

فتح القدير (3/ 158).

ص: 327

لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

وقال القرطبي: "وقرأ ابن كثير

(1)

وأبو عمرو

(2)

وابن عامر

(3)

: {الْمُخْلِصِينَ} بكسر اللام، وتأويلُها: الذين أخلصوا طاعة الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته، وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلِصًا في طاعة الله تعالى، مستخلَصًا لرسالة الله تعالى"

(4)

.

وكذلك الدعاة إلى الله تعالى يحميهم الله بإخلاصهم من شر شياطين الإنس والجن، ومن الفتن، وبقدر ما يحدث من خلل عند الداعية في إخلاصه يتسلَّط عليه الشيطان وحزبه.

‌4 - نقاء القلب من الحقد والغل

(5)

والخيانة:

إذا سلمت مقاصد الداعية وخلصت النيات لله، أثر ذلك على قلبه في سلامته ونقائه من الغل، وما يترتب عليه من أمراض تعوق الداعية عن التأثير فيمن يدعوهم،

(1)

عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله الكناني فارسي الأصل الإمام، العلم، مقرئ مكة، وأحد القراء السبعة، من الثقات، مات رحمه الله سنة (122 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 318)، تهذيب التهذيب (5/ 367)، الأعلام (4/ 115).

(2)

أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان التميمي المازني المقرئ النحوي، أحد القراء السبعة، كان علامة زمانه في اللغة والنحو وعلم القرآن، ومن كبار العلماء العاملين، توفي رحمه الله سنة (154 هـ)، وقيل: سنة (156 هـ)، وقيل: سنة (157 هـ)، والله أعلم.

ينظر: تاريخ الإسلام (4/ 263)، البداية والنهاية (13/ 433)، تهذيب التهذيب (12/ 178).

(3)

الإمام الكبير وأحد الأعلام: عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم، أبو عمران اليحصبي، مقرئ أهل الشام، أحد القراء السبعة، صدوق في رواية الحديث. توفي رحمه الله سنة (118 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 292)، تهذيب التهذيب (5/ 274)، الأعلام (4/ 95).

(4)

تفسير القرطبي (9/ 170)

(5)

قال الجوهري في معنى الغل: "والغِلُّ بالكسر: الغشُّ والحِقدُ أيضًا، وقد غلّ صدره يَغِلُّ بالكسر غِلًّا، إذا كان ذا غش أو ضِغْنٍ وحقد". الصحاح (5/ 1783) مادة (غلل).

ص: 328

وكما في حديث جبير بن مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى، فَقَالَ:«نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي، فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْر فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ»

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله معلقًا على هذا الحديث في بيان أثر هذه الأعمال على القلب: "أي: لا يبقى فيه غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه، وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤه غلًّا ودغلًا

(2)

، ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح، ومتابعة السنة"

(3)

.

وإذا تحققت هذه الأعمال الثلاثة من: الإخلاص لله، ومناصحة ولاة الأمر، وعدم الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم، وجاهد الداعية نفسه على الالتزام بهذه الخصال العظيمة، سلم له قلبه من مرض الغل الذي يستغله الشيطان في حرف الداعية عن المنهج الصحيح منهج أهل السنة والجماعة؛ ليوقعه في طرق البدعة، فيجر

(1)

أخرجه أحمد في المسند (27/ 300) ح (16738)، وابن ماجه واللفظ له في كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر (2/ 1015) ح (3056)، والحاكم في المستدرك في كتاب العلم (1/ 162) ح (294) وصححه ووافقه الذهبي، وقال في مجمع الزوائد في كتاب العلم، باب في سماع الحديث وتبليغه (1/ 139) ح (593):"وفي إسناده ابن إسحاق عن الزهري، وهو مدلس، وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري، ورجالها موثقون"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1145) ح (6766)، وقال محقق المسند (27/ 301) ح (16738):"حديث صحيح لغيره".

(2)

الدغل: عيب وفساد في الشيء.

ينظر: الصحاح (4/ 1697)، مقاييس اللغة (2/ 284)، المعجم الوسيط (1/ 288) مادة (دغل).

والمقصود هنا أن هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها الحديث إذا وجدت في القلب دب إليه الفساد، وانطوى على العيوب، والله أعلم.

(3)

مدارج السالكين (2/ 89 - 90).

ص: 329

على دعوته شرًّا وبلاء، ويحرم من نصر الله له، فيصير عائقًا في طريق ظهور الدعوة، منفرًا للناس من اتّباعه، ويفتح الباب لأعداء الدعوة من التسلط عليه.

وما يحصل بين الدعاة الذين يظهرون أنهم على منهج السلف من تنازع وخصام يفرح به الشيطان وحزبه، فذلك ناتج عن غل القلوب بسبب ضعف الإخلاص والخلل في المقاصد.

‌5 - قلب المباحات إلى طاعات:

ومن آثار إخلاص النية أن المباحات تصير طاعات يثاب عليها، قال ابن رجب رحمه الله: "ومتى نوى المؤمن بتناول شهواته المباحة التقوِّي على الطاعة، كانت شهواته له طاعة يثاب عليها، كما قال معاذ بن جبل: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي

(1)

، يعني: أنه ينوي بنومه التقوي على القيام في آخر الليل، فيحتسب ثواب نومه كما يحتسب ثواب قيامه"

(2)

.

ومن ذلك جماع الرجل لزوجته الذي فيه حظ الشهوة والجسد واضح، فيجعله الله عملًا يؤجر عليه: قال صلى الله عليه وسلم: «وَفِي بُضْعِ

(3)

أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ:«أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»

(4)

.

قال النووي رحمه الله: "وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف

(1)

ينظر: صحيح البخاري (5/ 161).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 192).

(3)

البضع: الجماع كما قال أهل اللغة.

ينظر: الصحاح (3/ 1187)، مقاييس اللغة (1/ 255) مادة (بضع).

(4)

أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 697) ح (1006).

ص: 330

الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزوجة، ومنعهما جميعًا من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهم به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة"

(1)

.

‌6 - إدراك الأجر وإن عجز عن العمل:

إن المخلص في نيته يدرك الأجر على العمل ولو عجز عنه، ويصل إلى منازل الشهداء والمجاهدين بحسب صدق نيته وإن مات على فراشه، ويجعله الله في صفوف الدعاة المصلحين والمتصدقين ولو عجز بسبب قلة ذات يده، أو بسبب ضعف صحته، أو بأمر حال دون تحقيق مقصده، فإن الله يكتب له أجر ما نوى.

قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ»

(2)

.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَ:«إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟! قَالَ:«وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ»

(3)

.

(1)

شرح النووي على مسلم (7/ 92).

(2)

أخرجه أحمد (29/ 561) ح (18031)، والترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (4/ 563) ح (2325) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 580) ح (3024)، وقال محقق المسند (29/ 562) ح (18031):"حديث حسن".

(3)

أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب .. (6/ 8) ح (4423).

ص: 331

قال ابن عبد البر رحمه الله: "لأن هؤلاء لما نووا الجهاد وأرادوه، وحبسهم العذر، كانوا في الأجر كمن قطع الأودية والشعاب مجاهدًا بنفسه"

(1)

.

وقال ابن حجر رحمه الله: "وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل"

(2)

.

وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ:«إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ؛ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» ، وفي رواية:«إِلَّا شَركُوكُمْ فِي الْأَجْرِ»

(3)

.

قال النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات، فعرض له عذر منعه، حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمنى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه، والله أعلم"

(4)

.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ»

(5)

.

وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»

(6)

.

(1)

التمهيد (12/ 267).

(2)

فتح الباري (6/ 47).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (3/ 1518) ح (1911).

(4)

شرح النووي على مسلم (13/ 57).

(5)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (3/ 1517) ح (1908).

(6)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (3/ 1517) ح (1909).

ص: 332

قال النووي رحمه الله في شرحه للحديثين: "وفي الرواية الأخرى: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» معنى الرواية الأولى مفسر من الرواية الثانية، ومعناهما جميعًا: أنه إذا سأل الشهادة بصدق أعطي من ثواب الشهداء وإن كان على فراشه، وفيه استحباب سؤال الشهادة، واستحباب نية الخير"

(1)

.

(1)

شرح النووي على مسلم (13/ 55).

ص: 333

المبحث الثاني: الشعور بمعية الله ورعايته له

المطلب الأول: من أسباب المعية الخاصة.

المطلب الثاني: من آثار المعية الخاصة.

ص: 334

‌المبحث الثاني: الشعور بمعية الله ورعايته له

ومعية الله هنا هي: المعية الخاصة التي تقتضي المحبة، والنصرة والتأييد، والمعونة والهداية، والحفظ والحماية، والقرب من عباده

(1)

، وحين يشعر الداعية إلى الله بهذه المعية الخاصة، ويحقق أسبابها، والتي لها ارتباط وثيق بأعمال القلوب، فإن لذلك أثره على الداعية في نفسه، وهذا ما سيتضح بإذن الله في نهاية المبحث، وسيكون الحديث في هذا المبحث في مطلبين:

‌المطلب الأول: من أسباب المعية الخاصة.

المطلب الثاني: من آثار المعية الخاصة.

المطلب الأول: من أسباب المعية الخاصة:

‌1 - الصبر:

فهو من أسباب معية الله الخاصة، وحينما يحقق الداعية الصبر ينال بذلك معية الله الخاصة التي يجد أثرها في نفسه وعلى دعوته، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

قال الطبري رحمه الله: "وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فإن تأويله: فإن

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 250)، وتفسير ابن كثير (4/ 615)، وجامع العلوم والحكم (1/ 471)، وتفسير السعدي (74)، والمعية الإلهية في ضوء القرآن الكريم معانيها ودلالاتها (60) للدكتور ناصر الماجد، بحث منشور في مجلة الدراسات القرآنية العدد (10) 1433 هـ، وهي مجلة علمية محكمة، تصدرها الجمعية السعودية للقرآن الكريم وعلومه، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

ص: 335

الله ناصره وظهيره وراض بفعله، كقول القائل: افعل -يا فلان- كذا وأنا معك، يعني: إني ناصرك على فعلك ذلك ومعينك عليه"

(1)

.

وقال الشوكاني رحمه الله: "وإن هذه المعية التي أوضحها الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت كالجبال"

(2)

.

‌2 - التقوى:

هي من أسباب معية الله الخاصة، ومتى ما حقق الداعية إلى الله تعالى التقوى في قلبه، وظهر أثرها على جوارحه، نال معية الله الخاصة، قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

وفي الآية أمر بتقوى الله، وإخبار بأن الله مع المتقين بالنصر والتأييد، والحفظ والرعاية، والعناية بهم في الدنيا والآخرة

(3)

.

وحينما يحقق الداعية الصبر على ما يلقاه في ذات الله، وعلى ما يلقاه من أعباء ومشقات في طريق دعوته، ويحقق التقوى قولًا وعملًا، فإنه يسعد في نفسه بهذه المعية الخاصة من ربه سبحانه وتعالى التي تشعره بقرب ربه منه، وأن ما يواجهه في سبيل الدعوة إلى الله لا يعوقه عن الاجتهاد فيها، وأن الباطل الذي يقف في طريق دعوته، مهما كانت قوته وشدة مكره، فإن الله سيزهقه، ويذهب قوته، ويفسد مكره، قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، وقال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، وقال تعالى عن مكر أعداء الدعوة أن الله سيبطله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ

(1)

تفسير الطبري (2/ 698).

(2)

فتح القدير (1/ 184).

(3)

ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 528)، وتفسير السعدي (89).

ص: 336

أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10]، وكلما قوي في قلب الداعية الصبر والتقوى، لقي آثار ذلك في نفسه ثباتًا وتوفيقًا وإعانة من الله له، تحف به من كل جانب، فلا تسل عن فرحته، وقوة قلبه، وتلذذه بما يقوم به في دعوته إلى الله تعالى.

‌3 - الإحسان:

وهو من أسباب معية الله الخاصة، ويشمل الإحسان في عبادة الله، ومع خلقه، قال تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ويشمل أيضًا الإحسان إلى الخلق ببذل النفع لهم من كل وجه

(1)

.

وإذا أحسن العباد كما ينبغي كان الله معهم، ومن كان الله معهم، فهم في حفظ الله: يكلؤهم، وينصرهم، ويؤيدهم، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم، ويعينهم، ويوفقهم، ويسددهم

(2)

.

‌4 - الإيمان:

هو من أسباب المعية الخاصة، كما قال تعالى:{وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19].

قال السعدي رحمه الله: "ومن كان الله معه فهو المنصور وإن كان ضعيفًا قليلًا عدده، وهذه المعية التي أخبر الله أنه يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان.

فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطًا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه، وإلا فلو قاموا بما أمر الله به من كل وجه، لما انهزم لهم راية انهزامًا مستقرًّا، ولا أديل عليهم عدوهم أبدًا"

(3)

.

(1)

ينظر: تفسير السعدي (452).

(2)

ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 615)، وتفسير السعدي (452).

(3)

تفسير السعدي (318).

ص: 337

‌5 - ذكر الله مع الإقبال عليه بالقلب واللسان:

يستجلب به المعية الخاصة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي» الحديث.

‌6 - الدعاء:

وهو العبادة كما صح بذلك الحديث من أسباب حصول معية الله الخاصة، مع القرب من عبده الذي يدعوه، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي»

(1)

.

‌7 - الوقوف بين يدي الله في الصلاة، والإقبال عليه، وعدم الالتفات بالوجه أو القلب مما تنال به معية الله الخاصة:

قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلا يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدٌ قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلَاةِ» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَالمْ يَلْتَفِتْ» الحديث.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَى رَجُلًا كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، فَقَالَ:«يَا فُلَانُ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟! أَلَا تَنْظُرُ كَيْفَ تُصَلِّي؟! إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يُنَاجِيهِ، إِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي لَا أَرَاكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي كَمَا أَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» .

وهذه الأحاديث تدل على أنه إذا أقبل العبد على صلاته بقلبه ووجهه خاشعًا

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى (4/ 2067) ح (2067).

ص: 338

فيها مستحضرًا لعظمة الله وقربه منه، نال بذلك معية الله الخاصة، ولذلك أثره العظيم على الداعية.

وقد سبق الكلام عن هذه الأحاديث

(1)

.

‌المطلب الثاني: من آثار المعية الخاصة:

وحين يوفق الله عبده ويرزقه معيته الخاصة، فإنه يجد أثرها في نفسه وعلى دعوته:

1 -

توفيق الله وإعانته له.

2 -

رعاية الله وعنايته وحفظه لعبده.

3 -

نصر الله وتأييده.

4 -

طمأنينة القلب، وانشراح الصدر، والثقة في وعد الله، وأوضح ما يكون عند الشدائد.

ودونك على سبيل المثال هذين الموقفين:

الموقف الأول: قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وهو في الغار يطارده أعداؤه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ

(1)

ينظر: ص (169).

ص: 339

قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا! فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ -يَا أَبَا بَكْرٍ- بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟!»

(1)

.

وفي حديث الهجرة الطويل، في آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه:«أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟» ، قال: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُتِينَا، فَقَالَ:«لَا تَحْزَنْ؛ إِنَّ اللهَ مَعَنَا» فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا، أُرَى فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا اللهَ، فَنَجَا، فَرَجَعَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَاهُنَا، فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ، قَالَ: وَوَفَى لَنَا

(2)

.

الموقف الثاني: قال تعالى عن موسى عليه السلام في ثقته بربه لما لحق بهم فرعون وجنوده، فصار العدو من خلفهم والبحر أمامهم، وليس معهم مراكب يجتازون بها البحر، فحصلت هزة قوية جعلت أصحاب القلوب التي ضعف تعلقها بالله تضطرب وتشعر بالهلاك، فقال الله عنهم وعن موسى الواثق بربه الذي تعلق قلبه به، وهو يشعر بقربه منه ومعيته له:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 61 - 68] ..

(1)

أخرجه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب المهاجرين وفضلهم (5/ 4) ح (3653)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (4/ 1854) ح (2381).

(2)

أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 201) ح (3615)، ومسلم واللفظ له في كتاب الزهد، باب في حديث الهجرة ويقال له: حديث الرَّحْلِ بالحاء (4/ 2309) ح (2009).

ص: 340

5 -

تثبيت الله للمؤمن عند لقاء العدو في ساحات الوغى:

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

وهذا النصر والثبات مشروط بنصرتهم لدين الله، فإذا فعلوا ونصروا دينه، وقاموا به في أنفسهم، ودعوا إليه وجاهدوا أعداءه مخلصين لله، كان الله معهم بالنصر والتثبيت.

قال السعدي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: "هذا أمر منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره"

(1)

.

بل ويسخر الله الملائكة تقف معه بالتثبيت والتأييد، كما قال تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]، وهذا ما حصل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر.

6 -

الثبات على المنهج الحق إذا هبّت أعاصير الفتن:

ومن أسباب ثبات الداعية على المنهج الحق شعوره بمعية الله له إذا هو حقق أسبابها التي مر ذكر بعضها، واجتهد في إصلاح قلبه، وتنقيته من الشوائب، ثبته الله على المنهج الحق، ومكن الله له ونصره، وسيأتي مزيد بيان لمسألة الثبات

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (785).

(2)

ينظر: ص (433).

ص: 341

7 -

القوة في الحق وعدم الخوف من غير الله:

وهذه ثمرة من ثمرات معية الله الخاصة لعبده، والداعية أحوج ما يكون لذلك؛ لأنه يواجه شياطين الإنس والجن، الذين يسعون في الأرض فسادًا، فهو بحاجة ماسة لرعاية الله وعنايته به، فإذا حصل ذلك وجد أثره قوة في قلبه، ولا يكون في قلبه خوف من أحد غير الله، قال الله تعالى لنبيه وكليمه موسى ووزيره هارون لما أرسلهما دعاة إلى الله تعالى إلى فرعون الطاغية المتجبر المتكبر:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 43 - 46].

8 -

ولما يشعر الداعية بقرب ربه منه، فيقبل عليه، ويزداد خشوعًا، وذلًّا وخضوعًا لربه، فيسارع ويسابق إلى مرضاته: قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 1 - 9].

ص: 342

المبحث الثالث:

الشعور بتوفيق الله وإعانته له

‌المطلب الأول: نماذج لمن رزقهم الله التوفيق والإعانة.

‌المطلب الثاني: من وفقه الله لعمل صالح وفتح له فيه، فليجتهد فيما فتح له فيه.

ص: 343

‌المبحث الثالث: الشعور بتوفيق الله وإعانته له

ومن آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه أن الله يمكنه من إنجاز أعمال كبيرة في أوقات يسيرة، ويعطيه الله من القوة والجلد والإعانة بقدر إخلاصه وتقواه وصدقه مع الله، ويجد أثر توفيق الله له في دعوته على نفسه وعلى من يدعوهم، وكذلك يجد إعانة الله تحف به من كل جانب، في طلب العلم، أو كتابته، أو قراءته، أو في قيام الليل، وقراءة القرآن، ونحو ذلك من أعمال البر، والشواهد من حياة دعاة الأمة على هذا ظاهرة واضحة، وهذه بعض الأمثلة:

‌المطلب الأول: نماذج لمن رزقهم الله التوفيق والإعانة:

وهذه النماذج -أحسبهم والله حسيبهم ولا أزكي على الله أحدًا- ممن حققوا أعمال القلوب مع الله وصدقوا معه في ذلك، وهم كثير في هذه الأمة في القديم والحديث، ولله الحمد والمنّة، وقد وقع الاختيار على هذه النماذج على سبيل المثال:

النموذج الأول: عن علمين من أعلام هذه الأمة من نماذج كثيرة، سطرها العلماء في كتب السير، وأكتفي بالحديث عن علمين لقصر عمرهما مع إخراج كتب مباركة فيها العلم الكثير، مع قوة التحقيق، وجودة التأليف، نفع الله بها الأمة، وكتب الله لها القبول في الأرض، وقد بارك الله لهما في العمر، ورزقهما توفيقًا وإعانة وصبرًا وجلدًا على البحث العلمي، وهذا أثر من آثار عمل القلب من الإخلاص لله، والتقوى، والتوكل، والصدق.

ص: 344

‌1 - الإمام الحافظ النووي عليه رحمة الله

(1)

:

ولد سنة (631 هـ)، وتوفي سنة (676 هـ)، وعاش ما يقارب (45) عامًا مليئة بالعلم النافع والعمل الصالح، حيث درس ودرّس الكثير من العلوم في شتى الفنون.

قال ابن العطار

(2)

رحمه الله عن الإمام النووي: "ذكر لي شيخنا أنه كان لا يضيِّعُ له وقتًا في ليل ولا نهار، إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق يكرر أو يطالع، وأنه بقي على هذا ست سنين، ثم اشتغل بالتصنيف والإشغال، والنصح للمسلمين وولاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الفقه والحرص على الخروج من خلاف العلماء، والمراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من الشوائب، يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة، وكان محققًا في علمه وفنونه"

(3)

.

برغم العمر القصير للإمام النووي، إلا أنه ترك مؤلفات انتفعت بها الأمة، وجعل الله لها قبولًا عند الناس، وانتفع بها الصغار والكبار، وبقي أثرها، وسيبقى إلى ما شاء الله، والسر في ذلك -والله أعلم- هو ما قاله تلميذه ابن العطار رحمه الله، وهو من أخص تلاميذ النووي، فقد ذكر مراقبته رحمه الله لأعمال قلبه ومحاسبة نفسه على ذلك

(4)

، فأثمر له توفيقًا من الله وإعانة على جودة التأليف والتحقيق في جميع مؤلفاته، وجعل لها سبحانه وتعالى قبولًا عند الأمة، ومنها:

(1)

ينظر ترجمته في: تاريخ الإسلام (5/ 246)، طبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (2/ 153) ت: د. الحافظ عبد الحليم خان، عالم الكتب بيروت، ط 1، 1407 هـ، الأعلام (8/ 149).

(2)

الشيخ الإمام العالم علاء الدين علي بن إبراهيم بن داود بن سليمان بن العطار، شيخ دار الحديث النورية، وسمع من خلائق، وتفقه على الشيخ النووي، ولازمه حتى كان يقال له: مختصر النووي، ورتب فتاوى النووي على أبواب الفقه، وشرح عمدة الأحكام وله غير ذلك، توفي رحمه الله سنة (724 هـ).

ينظر: تذكرة الحفاظ (4/ 198)، البداية والنهاية (18/ 251)، طبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (2/ 270).

(3)

نقله عن ابن العطار في طبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (2/ 155).

(4)

ينظر كلام ابن العطار في طبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (2/ 155).

ص: 345

- وعلى رأسها رياض الصالحين، والأذكار، والأربعون النووية، وهذه الكتب في الغالب لا يخلو منها بيت ولا مسجد.

- وله كتب تعد مراجع في الفقه المقارن، وفقه الإمام الشافعي: كالمجموع وهو بحق يعد موسوعة متميزة في الفقه المقارن، وقد مات رحمه الله قبل إتمامه، وله الروضة، والمنهاج في فقه الإمام الشافعي.

- وله شرحه المتميز على صحيح مسلم.

- وفي المصطلح: الإرشاد، والتقريب.

- وكتب في اللغة، ومنها: تهذيب الأسماء واللغات، وغيرها.

‌2 - العلامة حافظ الحكمي رحمه الله

(1)

:

ولد سنة (1342 هـ)، وتوفي سنة (1377 هـ) عن عمر يناهز (35) عامًا، مليئة بالعلم النافع والعمل الصالح، حيث درس ودرّس الكثير من العلوم في شتى الفنون برغم العمر القصير، إلا أنه ترك مؤلفات عظيمة انتفعت بها الأمة، ومنها:

1 -

ألف منظومة: سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد في ما يقارب (300) بيت وعمره (20) سنة، وشرحها في معارج القبول في ما يقارب 4 سنوات.

ويقع الشرح في مجلدين كبيرين تزيد صفحاتهما في طبعته الأولى على ألف ومائة صفحة.

وهذا الكتاب أهم آثار الشيخ وأشهرها وأغناها عن التعريف، يتمتع الآن بقيمة علمية كبيرة بين طلاب العلم وأساتذة الجامعات الإسلامية، وقد دأبت الرئاسة العامة

(1)

ينظر ترجمته في: كتاب حافظ بن أحمد الحكمي، حياته وآثاره، لسعود السيف، بحث متمم للماجستير من قسم الدعوة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إشراف: الدكتور يوسف أبو هلالة، عام 1406 هـ،

ونبذة عن حياة الشيخ حافظ كتبها ابنه الدكتور: أحمد بن حافظ في مقدمة كتاب معارج القبول.

ص: 346

لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية زمنا طويلًا على توزيعه مجانًا على خريجي الكليات وعلى المدرسين والقضاة؛ لما فيه من فوائد جمة، وما يحويه من معلومات قيمة في موضوعه، ولحسن عرضه وتبويبه واستيفائه لكثير من نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح بما لا يدع زيادة لمستزيد.

وله مؤلفات عديدة في: التوحيد، ومصطلح الحديث، والفقه وأصوله، والفرائض، والتاريخ والسيرة النبوية، والنصائح والوصايا والآداب العلمية، منها ما هو منظوم، ومنها ما هو منثور.

النموذج الثاني: العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله

(1)

.

ولد سنة (1330 هـ) وتوفي سنة (1420 هـ) رحمه الله.

نموذج فريد في البركة والتوفيق والقيام بجلائل الأعمال في أوقات قليلة لا يستطيع غيره أن يقوم بها في أيام، مع كبر سنه وكثرة الأعمال التي يقوم بها، وما ذاك إلا من ثمرات الإخلاص وتوفيق الله له، أحسبه والله حسيبه من أكثر الناس إخلاصًا واجتهادًا في عمل القلب، وحب الخير للناس.

وإليك طرفًا من أخباره في ذلك، كما يرويها الشيخ محمد الموسى

(2)

رحمه الله

(1)

ينظر ترجمته في: جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله، رواية الشيخ محمد الموسى رحمه الله مدير مكتب الشيخ، من إعداد الشيخ محمد الحمد، دار ابن خزيمة، ط 1، 1423 هـ، منهج الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله في الدعوة إلى الله تعالى، إعداد: محمد بن خالد البداح، رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراة من جامعة الإمام.

(2)

أبو عبد الله الشيخ محمد بن موسى بن عبد الله الموسى من قبيلة الدواسر، تخرج من كلية الشريعة بالرياض عام 1339 هـ وصار عمله مع هيئة كبار العلماء، ثم صار بعد ذلك من عام 1404 هـ مرافقًا للشيخ ابن باز ومديرًا لمكتبه إلى وفاة الشيخ رحمه الله، قرابة ستة عشر عامًا ملازمًا للشيخ رحمه ملازمة لصيقه في سفره وحضره ومن أعظم ما كسبه من الشيخ تأثره بأخلاقه وعبادته، وتوفي رحمه الله على أثر حادث سير عام (1432 هـ).

ينظر: مقال في صحيفة الرياض العدد 15787 بعنوان: ورحل صاحب ابن باز على موقعها على الشبكة. وترجم له الدكتور محمد الحمد في مقدمة كتاب جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز (17 - 28).

ص: 347

مدير مكتب الشيخ

(1)

، أذكر منها ما يدل على المقصود:

‌أولاً: الوقت في حياته رحمه الله.

للوقت عند سماحة الشيخ منزلة كبرى؛ فهو يدرك أهميته، ويسعى سعيه لاغتنامه بأقصى ما يمكن؛ فلا يكاد يفوت عليه وقت مهما قل أو قصر إلا اغتنمه فيما يرضي الله وينفع الناس، فوقته ما بين قراءة في كتاب، أو إملاء لشفاعة، أو سماع لشكوى، أو حلٍّ لمعضلة، أو إجابة لسائل، أو مهاتفة لمستفت، أو إلقاء دروس، أو محاضرة، أو تعليق على كلمة أو مشاركة في ندوة، أو بإلطاف للضيوف، أو بلهج بذكر الله، كان رحمه الله يتميز بدقته في المواعيد على كثرة ما يقوم به من أعمال، فيأتي أحيانًا قبل الموعد بدقائق حرصًا على الالتزام بالموعد، لا يكاد ينسى موعدًا ضربه لأحد سواء لمن يأتون إليه، أو من يأتي إليهم.

ومن سمات التوفيق في حياة الشيخ رحمه الله بركة الوقت: فالبركة في وقت سماحة الشيخ ظاهرة؛ حيث ينجز الأعمال العظيمة في الأوقات اليسيرة القليلة، فهو يُشْرِف على كثير من المشروعات الكبيرة، ويدير كثيرًا من الأعمال المختلفة المتفرقة بأيسر كلفة، وأخف مؤونة، وأقل وقت.

ولا أبالغ إذا قلت

(2)

: إنه يوجه التوجيهات الكثيرة التي يترتب عليها أعمال عظيمة، وأموال ضخمة بدقائق معدودة، بل ربما لا تتجاوز الدقيقة الواحدة.

وقد حسبت له بعد المغرب في يوم من الأيام ستين إجابة لستين سؤالًا، كل ذلك في جلسة بعد المغرب، مع أنه لم يكن متفرغًا للإجابة وحدها، بل عن يمينه وشماله اثنان من الكتاب يتعاقبان القراءة عليه، والناس يتوالون للسلام عليه، والهاتف لا يقف

(1)

ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله، رواية الشيخ محمد الموسى رحمه الله مدير مكتب الشيخ، من إعداد الشيخ محمد الحمد (164 - 171)، مع بعض التصرف.

(2)

القائل رواي سيرة الشيخ ابن باز محمد الموسى رحمة الله على الجميع.

ص: 348

رنينه إلى غير ذلك.

ومما يحضرني في هذا السياق أنني في إحدى الليالي أنهيت عليه عشر معاملات طلاق من بعد صلاة المغرب إلى أذان العشاء، وكان بجانبه الآخر معالي الدكتور محمد الشويعر

(1)

وربما قرأ مثلي أو أكثر مني.

وفي يوم من الأيام قرأت عليه بعد صلاة الفجر أربعين معاملة في ساعة ونصف الساعة.

وكان من عادته إذا صلى الفجر، ولم يكن عنده دروس أن يلتف الناس حوله يسألونه بعد أن يأتي بالأذكار المعتادة من ورده اليومي، وربما جلس لهم نصف ساعة أو أكثر أو أقل.

لا يستهين بإنجاز أي عمل ولو قل: فربما قضى وقته بأعمال عظيمة يترتب عليها مصالح كبيرة للأمة بعامة، كاجتماعات الهيئة، واللجنة، والرابطة، وغيرها.

وربما لم يكن عنده أعمال كبيرة، فيقضي وقته في رد على الهاتف، أو مسامرة لضيف، أو إجابة لأسئلة امرأة، أو أحد من العوام، بل للرد على بعض الأسئلة التي ترد من بعض الشباب أو الفتيات حول بعض المسابقات الثقافية، فيرد عليه وهو منشرح الصدر؛ فهو لصغار الأمور وكبارها، ويعنيه كثيرًا ألا يضَيع وقته إلا في فائدة أو مصلحة ولو قَلَّت.

اغتنام الوقت في حال السفر: لم يكن الشيخ رحمه الله حريصًا على وقته في الحضر فحسب، بل كان حريصًا كذلك على أوقاته في حال السفر الذي هو مظنة التعب

(1)

فضيلة الدكتور محمد بن سعد بن شويعر أحد كبار مستشاري الشيخ ابن باز رحمه الله، ومن بعده الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي، ورئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية، صاحب الكتاب الفريد تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية، وقام بجمع فتاوى الإمام المجدد ابن باز في نحو (60) مجلدًا.

ينظر: مقال في صحيفة الجزيرة العدد 14860 بعنوان: ابن شقراء د. محمد بن سعد بن شويعر على موقعها على الشبكة، موقع الموسوعة الحرة.

ص: 349

والمشقة، إلا أن الشيخ بمجرد ركوبه السيارة وذكره لدعاء السفر، يلتفت إلى من بجانبه من الكُتَّاب، ويقول له: ما معك؟ فيبدأ بسماع أخبار الصحف، أو قراءة بعض الكتب، أو عرض بعض القضايا والمعاملات.

وهكذا حاله وهو ينتظر موعد إقلاع الطائرة، وبعد أن تقلع حيث يكون معه كاتب، أو كاتبان أو أكثر، فيتعاقبون القراءة عليه إلى حين وصول الطائرة إلى مكان هبوطها في الرياض، أو الطائف، أو غيرهما.

ومما يحضرني من القصص في هذا القبيل ما ذكره الشيخ عبد الرحمن ابن دايل

(1)

وهو من قدامى كتّاب سماحة الشيخ وعمره قريب من عمر سماحة الشيخ، فهو من مواليد 1332 هـ تقريبًا، وقد عاش مع سماحته ما يقارب أربعين سنة؛ يقول: كنا في المدينة إبَّان عمل سماحته في الجامعة الإسلامية، وذات يوم سافر سماحته إلى قرية بدر التي تقع على الطريق بين جده والمدينة على الطريق القديم، حيث ذهب لمهمة دعوة يلقي خلالها محاضرة وكنت أنا والشيخ ابراهيم بن عبد الرحمن الحصين

(2)

معه في السيارة؛ فلما بدأ سيرنا ودعا سماحته بدعاء السفر التفت وقال: توكلوا على الله، يعني ابدؤا بقراءة المعاملات، فقلنا: يا شيخ غفر الله لك نحن دائمًا نقرأ، ولا نتمكن من الخروج

(1)

الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن دايل من أبرز من لازم الشيخ ابن باز رحمه الله منذ عام 1386 هـ إلى أن توفي الشيخ رحمه الله، عمل معه في مكتبه في المنزل ملازمًا له في الليل والنهار حتى يذهب إلى الجامعة الإسلامية، وكان يلازمه كذلك في سفره وحضره.

ينظر: مقال بعنوان عبد الرحمن بن محمد بن دايل ممن قالوا عنه -أي: عن الشيخ ابن باز- على موقع الشيخ على الشبكة، في الرابط:

https:// maserah.binbaz.org.sa/ posts/ 506

(2)

الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الحصين، كان مديرًا لمكتب الشيخ ابن باز مدة طويلة، وكان من الذين يثق فيهم ويرافقونه في سفراته رحمه الله، توفي الشيخ إبراهيم رحمه الله سنة (1410 هـ).

ينظر إلى إشارة بعنوان: ترجمة الشيخ الزاهد العابد الناصح إبراهيم بن عبد الرحمن الحصين على موقع الألوكة على الشبكة، في الرابط:

http:// majles.alukah.net/ t 25571/

ص: 350

خارج المدينة، وهذه هي فرصتنا؛ دعنا نستمتع بالرحلة، وننظر إلى الجبال والأودية، ونتفكر في مخلوقات الله.

فضحك سماحته وقال: اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت؛ ليقرأ الشيخ إبراهيم، وأنت تفكر في مخلوقات الله كما تقول، وبعد أن ينتهي الشيخ إبراهيم، أملي عليك، وينظر الشيخ إبراهيم ويتفكر وقت الإملاء، وهكذا ..

ويقول الشيخ عبد الرحمن ابن دايل: أنتم ما أدركتم نشاط سماحته؛ إذ كان في المدينة لا ينام بعد العشاء إلا متأخرًا، وكان لا ينام بعد الفجر، ولا الظهر، ولا العصر.

‌ثانياً: الهمة العالية:

من العجائب في سيرة سماحة الإمام عبد العزيز ابن باز همته العالية المتجددة، التي تزكو وتتسامى مع تقدمه في العمر.

وإذا أردت الحديث عن همته فإنك تحار؛ فبأي شيء تبدأ، وعن أي مجال تتحدث؟

ذلك أن همته العالية لا تقتصر على مجال معين، أو عمل محدد، بل هي شاملة لشتى الأعمال التي يقوم بها؛ فهمته العالية تتجلى في قراءة الكتب؛ فهو لا يمل قراءتها، بل كثيرًا ما يشرع في قراءة كتب مطولة لا يخطر بالبال أن يتمها؛ لما يُرى من كثرة أعماله، وما هي إلا مدة ثم يتم قراءتها، وتتجلى همته في الاطلاع على المعاملات، والتوجيه بما يلزم؛ فلا يمل ولا يكل من كثرة ما يعرض عليه، وتتجلى في العبادة، وتطبيق السنة في شتى شؤونه.

وتتجلى في زكاء نفسه، وطهارتها، وترفعها عن السفاسف، والمحقرات.

وتتجلى في سخائه، وجوده، وكرمه، في شتى صور السخاء، والجود والكرم.

وتتجلى في اغتنام الأوقات، والقيام بالمشروعات والأعمال العظيمة، التي تقف دونها عقبات، إلى غير ذلك من مجالات همته.

وإن الذي يعمل معه، ويرافقه ليعجب أشد العجب مما يراه من همته رحمه الله.

ص: 351

وإنك لترى الإعياء يبلغ مبلغه بمن يرافقون سماحته، ويعملون معه مع أنهم في قوتهم ونشاطهم، ومع أنهم مجموعة يتعاقبون العمل، ويتناوبون على القراءة عليه، ومرافقته، ومع أنهم يجدون متعة ولذة في العمل معه، ومع أنهم متفرغون له، ومع أن سماحته كبير في السن، ويقوم بأعمال متنوعة كثيرة.

ومع ذلك كله؛ تجد أن سماحة الشيخ يقوم بالأعمال العظيمة بمنتهى اليسر، والسهولة، والسرور، والسكينة، يستوى بذلك حاله في السفر، أو الحضر، أو الصحة، أو المرض.

والشواهد والقصص في هذا السياق لا يمكن حصرها ..

وإليك هذه الحادثة العجيبة التي تبين حال هذا الإمام في صبره وجلده، وتوفيق الله وإعانته له

(1)

:

في عام 1413 هـ كان سماحة الشيخ في مكة المكرمة، ودعي إلى افتتاح أحد المراكز الدعوية في جدة، وألحوا عليه أن يكون الحضور بعد صلاة المغرب؛ حتى لا يطول أمد الحفل إلى ساعات متأخرة.

فقال سماحته: ما يكون إلا الخير، وعندما صلى المغرب قلنا له: نذهب الآن إلى جدة؟

لكن سماحته لم تطب نفسه بترك المجلس بعد المغرب، فقال: بل نذهب إلى مجلسنا المعتاد، وننظر في حاجات الناس، فقلنا له: إذًا نتأخر في الحضور، ونتأخر في الرجوع، فقال: ولو! يعين الله، فجلس في مجلسه المعتاد، ونظر في حاجات الناس، وقرئ عليه ما شاء الله أن يُقرأ، وأجاب على الأسئلة الموجهة إليه، حتى إنني حسبت له ستين

(1)

وكان عمر الشيخ حينها قرابة (83) سنة عليه رحمة الله، وهنا يظهر أثر أعمال القلوب بإمداد الله له بقوة من عنده، تمكنه من القيام بجلائل الأعمال وأشدها على النفوس، يقوم بها بخفة ونشاط عجيب؛ لأن المحرك للبدن هو القلب، فما ضعفت الأبدان من القيام بالأعمال على رغم وجود الشباب والقوة إلا بسبب ضعف القلوب، وكان الشيخ رحمه من القلائل الذين يتميزون بسلامة القلب وصلاحه وتقواه، ولا أزكيه على الله.

ص: 352

إجابة على ستين سؤالًا، بعد ذلك المغرب.

وبعد أن انتهى المجلس قام لصلاة العشاء، ووجهه يتهلل فرحًا وبشرًا؛ بسبب جلوسه للناس.

ثم توجَّه إلى جدة، وكنت في صحبته أنا ومعالي الدكتور محمد الشويعر .. ، وكنا نتناوب القراءة حتى وصلنا إلى جدة.

ولما وصلنا استقبله الناس بجموعهم الكاثرة، فسلم عليهم، ودخل المشروع، واستمع إلى شرح مفصل عنه، وعن نشاطاته وأهدافه، ثم دخل قاعة المحاضرات المكتظة بالناس، واستمع إلى جميع فقرات الحفل وما ألقى فيه من كلمات وقصائد، ثم ألقى كلمته، وبعد أن انتهى الحفل، تناول طعام العشاء، وودع الناس هناك، وعاد إلى مكة، فكنا نتناوب عليه القراءة طوال الطريق؛ فما وصلنا منزله في مكة إلا الساعة الثانية ليلًا، وكان من عادة سماحته أنه يقوم للتهجد في حدود الساعة الثالثة ليلًا، وكان ينبه من معه لقيام الليل، وكان ينبهني أنا، والشيخ عبد العزيز بن ناصر بن باز

(1)

؛ فجزمنا أنه لن يقوم تلك الليلة، بسبب ما لقيه من تعب من أول الليل، وبسبب تأخره في المجيء إلى مكة، فلما جاء وقت قيامه إذا به يوقظنا للقيام، ثم شرع بالقيام، وبقي يصلي ويدعو، ويقرأ حتى أُذِّن بالفجر، فذهبنا إلى مسجد القطان المجاور لنا، فتأخر الإمام فصلى بنا سماحته وتلا الآيات بصوت نديٍّ خاشع، فلما سلم استقبل الناس بوجهه، وألقى فيهم كلمة.

ولما عدنا إلى المنزل قلنا: لابد أن سماحته سينام؛ فماذا بعد هذا الإعياء والنصب؟

فلما وصلنا المجلس ألقى غترته وطاقيته جانبًا، وجلس وقال: بسم الله، ماذا

(1)

مستشار الشيخ ابن باز، عضو مجلس الشورى سابقًا، رئيس اللجنة العلمية بمؤسسة الشيخ ابن باز الخيرية.

ينظر: موقع مؤسسة الشيخ ابن باز الخيرية، ديوانية الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله الثقافية الشهرية، على الرابط:

http:// binbazfoundation.sa/ index 2.php? news=1&read=278

ص: 353

عندكم؟

فأخذت أقرأ عليه المعاملات، وأنا أرى عليه من السرور والانشراح، ما يبهر اللب؛ فبقيت أقرأ عليه حتى السابعة والثلث تقريبًا، فظننت بعدها أنه سينام نومة طويلة؛ فإذا به يقول: ضع منبه الساعة على الثامنة والثلث، فلما جاء ذلك الوقت نهض إلى رابطة العالم الإسلامي؛ لحضور الندوات، والاجتماعات المطولة، التي كانت تعقد آنداك، ولم يرجع إلى منزله إلا الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، ثم أكمل الجلوس مع الحاضرين في المجلس، وتناول معهم الغداء، وصلى العصر وهو في تمام النشاط، والانشراح، ونحن نكاد نسقط على وجوهنا من جراء الإرهاق، وقلة النوم

(1)

.

ومع هذا الجهد العظيم من سماحته رحمه الله في شتى ميادين الخير إلا إن له انتاجًا علميًا غزيرًا في شتى فنون العلم الشرعي في العقيدة والحديث والفقه وغير ذلك، طبع منها قرابة ثلاثين مجلدًا.

‌النموذج الثالث: الدكتور عبد الرحمن السميط رحمه الله

(2)

:

عبد الرحمن بن حمود السميط ولد سنة 1366 هـ، وتوفي رحمه الله في شوال سنة 1434 هـ، داعية كويتي ومؤسس جمعية العون المباشر -لجنة مسلمي إفريقيا سابقًا- ورئيس مجلس إدارتها، حيث تولى منصب أمين عام لجنة مسلمي إفريقيا عام 1401 هـ، وواصل على رأس الجمعية بعد أن تغير اسمها إلى: جمعية العون المباشر في عام 1419 هـ.

(1)

ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله، رواية الشيخ محمد الموسى مدير مكتب الشيخ، من إعداد الشيخ محمد الحمد (164 - 171) مع بعض التصرف.

(2)

ينظر ترجمته في: عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي، لعبد العزيز سعود العويد، آفاق للنشر الكويت، ط 1، 1437 هـ، العمل الإغاثي عند الدكتور عبد الرحمن السميط وأثره في قبول دعوته، إعداد: الأستاذ علي محمد الشهري، مدار الوطن، ط 1، 1437 هـ.

ص: 354

رئيس مجلس البحوث والدراسات الإسلامية، كما أصدر مجموعة من الكتب، منها: لبيك إفريقيا، دمعة على إفريقيا، رسالة إلى ولدي، العرب والمسلمون في مدغشقر، بالإضافة إلى العديد من البحوث وأوراق العمل، ومئات المقالات التي نشرت في صحف متنوعة

(1)

.

هذا الشيخ نموذج فريد في الصبر وبذل المال والوقت والنفس من أجل إغاثة الناس في إفريقيا، أحسبه -والله حسيبه- أنه ممن صدق مع الله، وأخلص لله، ورغب فيما عنده، وتعلق قلبه بالدار الآخرة، وكانت له خبيئة مع الله تمكن بسببها من الوصول إلى القلوب بأيسر طريق، فسلم قلبه من الأحقاد والأضغان، وجعل همه واحدًا وهو إنقاذ إخوانه المسلمين الجوعى في إفريقيا، وما عرف عنه التصادم مع أحد، ولصدقه مع ربه وإخلاصه -ولا أزكي على أحدًا- فقد مكنه الله من القيام بأعمال عظيمة تعجز عنها دول، ودونك شيئًا من سيرته الجميلة، نأخذ منها الدروس والعبر، ونسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يجعله في عليين، مع النبيين والشهداء والصديقين.

من المظاهر الدالة على أثر عمل القلب في دعوة الدكتور السميط رحمه الله -كما أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدًا- النماذج الآتية:

‌1 - إخلاصه رحمه الله في دعوته وعمله الإغاثي، ودونك مثلًا من حياته في بداية عمله كطبيب:

تذكر زوجته أنه بعد سنة من تخرج الدكتور السميط حرص والده على شراء سيارة لابنه تليق به كطبيب، فتقول زوجته: استغربت أنه لم يبادر في مساعدة والده في ذلك، مع العلم أنه مر عليه سنة على عمله في الوظيفة، ثم تقول: علمت فيما بعد بطريق غير مباشر أنه كان يستقطع من راتبه مبلغًا كبيرًا في السنة الأولى لمساعدة

(1)

ينظر: الموسوعة الحرة على الرابط:

https:/ wikipedia.org/ wiki/

ص: 355

عوائل محتاجة، ولم يكن أحد يعلم بذلك

(1)

.

مثال على تواضعه رحمه الله: فقد ضرب أروع الأمثلة في التواضع، وإنك حينما تقرأ هذه النماذج من حياة هذا الرجل؛ لتذكرك بحياة السلف الأول عليهم رحمة الله، ودونك صورة من ذلك كما يرويها من حصلت معه، وهو الأخ يوسف محمد الكندري

(2)

، يقول: "قبل عشر سنوات تقريبًا

(3)

كان أول سفرة لي إلى إفريقيا بصحبة السميط عليه رحمة الله، فقال لي: بما أن هذه هي أول مرة تسافر فيها معي، فأنت في ضيافتي طوال هذه الرحلة، ولكن بشروطي، فأجبته قائلًا: أقبل بشروطك حتى قبل أن أعرفها، فزجرني وعنفني وهو يقول: لا توافق على شيء قبل أن تعرف شروطه .. فكان هذا أول درس أتعلمه منه رحمه الله، أتدرون ماذا كان شروطه؟

قال لي: أنت ضيفي، فلا تطبخ، ولا تغسل، ولا تجلب شيئًا لنفسك، حتى ملابسك أنا أغسلها لك، وأقوم بخدمتك ما دمت في ضيافتي، فإفريقيا بيتي، وكل قادم إليها عن طريقي فهو ضيفي حتى يرجع إلى أهله.

دهشت مما سمعته منه، ولكني تمالكت نفسي، وقلت: يا شيخي، ألازمك في الكويت كل الأوقات أكثر مما يلازمك أبناؤك، وهنا تجعلني ضيفًا عليك، فكيف يستقيم أن يخدم والد ابنه؟!

ضحك السميط رحمه الله كثيرًا ثم قال لي: لقد قلت منذ قليل أن تقبل كل شروطي، فلا مجال للتراجع الآن. وقد كان ما أراد رحمه الله تعالى، فكان يطبخ ويغسل الأواني والملابس، ويكنس الدار بنفسه، وهو سعيد بما يفعل .. وفي أحد الأيام قمت بغسل الأواني بعد وجبة الغداء، وعندما علم بذلك، أمرني بالعودة إلى الكويت، لأنني

(1)

ينظر: عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي (49).

(2)

وهو رئيس قسم المخازن والمشتريات بجمعية العون المباشر.

(3)

وكانت هذه المقالة في عام 1435 هـ، بعد عام من وفاة السميط رحمه الله.

ص: 356

لم ألتزم بآداب الضيافة وشروط الاتفاق"

(1)

.

‌2 - حرصه على عدم الشهرة مع الورع والزهد في الدنيا،

وحب خدمة الناس والقرب منهم دون أن يرجو من أحد جزاء أو شكورًا، وهذه أمور لا تأتي إلا من صلاح في القلب -كما أحسبه والله حسيبه-. ودونك بعض الشواهد من سيرته في هذه الأمور من كتاب عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي

(2)

:

- لقد ضرب رحمه الله أروع الأمثلة في التورع عن المال الذي بين يديه، مع الحرص الشديد على أن يصرفه في مصارفه الصحيحة.

- ومما قيل: إنه كان إذا انتهى الشهر واستلم الراتب الجديد أعاد ما تبقى من الراتب القديم للجمعية.

- وكان رحمه الله لا يبحث عن الشهرة أو الرياء، ولا يسكن الفنادق، ولا يتحرك بالطائرات أو السيارات الفخمة، لا يخصص لنفسه طعامًا خاصًّا أو حارسًا، يعيش بين الناس في القرى والغابات، يجوع ويعطش ويعرى ويمرض.

- وكان لا يحب أن يمدح، ويكره ذلك كرهًا شديدًا، وينزعج منه، ويروي أحد الملاصقين للدكتور السميط

(3)

أنه في مرة أثنى عليه أحد المتبرعين وصار يمدحه أمام الناس، فلما تبرع وخرج، غاب الدكتور السميط، فبحث عنه الموظف، فوجده ينظف دورة المياه، فسأله: لماذا يفعل ذلك؟ فقال له رحمه الله: أما سمعت الرجل يمدح ويثني؟! وأردت أن أعلم نفسي ألا تغتر بالكلام الذي قيل.

- كان بعيدًا عن التكلف في ملبسه ومطعمه ومركبه من بداية حياته، واستمر

(1)

مقال بعنوان: عبد الرحمن السميط (فاتح القلوب) ليوسف محمد الكندري في مجلة الكوثر عدد 178، شوال - ذو القعدة 1435 هـ ص (8). وفي العدد ملف خاص عن الدكتور السميط رحمه الله.

(2)

ينظر: عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي (28، 78، 94 - 98، 104).

(3)

وهو يوسف الكندري.

ص: 357

على ذلك إلى وفاته رحمه الله.

- عاش السميط رحمه الله مثالًا حيًّا لأولئك الرجال المخلصين الذين جُبِلوا على بذل الغالي والنفيس من أجل إيصال الخير إلى المسلمين خاصّة وخدمتهم، وكذلك إيصال الخير والنور إلى غير المسلمين، بعيدًا عن الأضواء والشهرة خفيًّا تقيًّا متحملًا من أجل دعوته المشاق والمخاطر والأمراض، لا يطلب لنفسه مجدًا ولا حظًّا من حظوظ الدنيا، وإنما يطلب من الله الذكر والثناء الحسن، ولو أراد المال والشهرة لنال ذلك بأيسر مجهود، فقد حاز أعلى الشهادات في الطب، لكنه ترك ذلك من أجل إنقاذ إخوانه المسلمين في إفريقيا الذين انطمست لديهم معالم دين الإسلام، فصبر على ذلك، وواصل الليل بالنهار دون كلل ولا ملل، يقطع الفيافي، ويصعد الجبال، ويخوض في المستنقعات الخطرة في ديار لا يعرفه فيها إلا الله، يحفر الآبار، ويربي اليتامى، ويواسى الثكالى، ويبني المساجد والمدارس.

يسعى في مناكب إفريقيا لينشر دعوة الإيمان، مرة راكبًا لعدة ساعات في طرق وعرة، ومرة ماشيًا مئات الأميال، يخترق الأدغال الموحشة والخوف والخطر يحيط به، حتى ناله في سبيل دعوته عدد من الأمراض التي أثخنت جسده المنهك إلى آخر حياته، كما تعرض للموت مرات، فحفظه الله وأنجاه، قال تعالى:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]

(1)

.

وكان يتثمل رحمه الله في حياته الدعوية والإغاثية -فيما أحسبه والله حسيبه- حديث ابن عباس رضي الله عنهما سلوكًا عمليًّا حيث يقول صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ

(1)

ينظر: عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي (116) مع بعض التصرف.

ص: 358

قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»

(1)

.

‌3 - ومما تميز به الدكتور السميط رحمه الله شعوره بالمسؤولية الملقاة على عاتقه نحو إخوانه المسلمين في إفريقيا،

وأن الله سيسأله عنهم: ماذا قدم لهم؟ وهذا الهم لا يغيب عنه ليلًا ولا نهارًا، يشعر بمسؤوليته الفردية، وأن الواجب عليه عظيم، لا يعفيه منه بُعد الديار ولا المرض، ولا قلة ذات اليد، ولا يعلل نفسه بالأماني الخادعة أن هناك من يقوم بالمهمة عنه، أو أنه معذور بسبب مرضه أو بعد الشقة عليه، كلا، لم يكن رحمه الله يلتفت لذلك؛ ليتخلص من مسؤوليته المعلقة برقبته بشتى المعاذير، كما يفعل من قعدت بهم ذنوبهم، وهذا -والله حسيبه- دليل على صلاح القلب وسلامته، ودونك صورة معبرة من ذلك:

يرويها المؤرخ عبد العزيز العويد

(2)

في كتابه الذي سبق ذكره

(3)

، يقول:

لقد كان الكثير من محبي السميط رحمه الله يرحمون حاله، ويتمنون لو ارتاح وعمل في الجانب الإداري؛ لأن العمل الميداني قد أتعب صحته كثيرًا، لكنه يرفض

(1)

أخرجه أحمد في المسند (5/ 18 - 19) ح (2803)، والترمذي واللفظ له في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب .. (4/ 667) ح (2516) وقال:"حديث حسن صحيح"، ومسند أبي يعلى (4/ 430) ح (2556)، وصحح إسناده محققه (4/ 430) ح (2556)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1459) ح (5302)، وصححه محقق مسند أحمد (5/ 19) ح (2803).

(2)

عبد العزيز سعود العويد ولد سنة 1394 هـ، قارئ ومستشار نفسي كويتي، ومؤرخ مهتم بالتاريخ الإسلامي، حاصل على شهادة البكالوريوس والماجستير في علم النفس، إمام وخطيب سابق بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية خلال الفترة (منذ عام 1416 - 1423 هـ). قام بإعداد وتنظيم العديد من الدروس والدورات العلمية الشرعية بدولة الكويت، بإشراف ورعاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، له العديد من البرامج التاريخية التي قدمها من خلال الإذاعة والقنوات الفضائية، له مؤلفات في التاريخ والأدب.

ينظر: الموسوعة الحرة على الشبكة، عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي، وقد ذكر في نهاية الكتاب نبذة عن السيرة الذاتية للمؤلف.

(3)

عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي.

ص: 359

ذلك بشدة، ودونك هذا الموقف المؤثر.

يقول المستشار الدكتور خليفة الشعالي

(1)

: إن حاكم عجمان الشيخ حميد النعيمي

(2)

كان يحب السميط، ويساهم معه في مشاريعه، وقد رافقته مرة في زيارة لحاكم عجمان، وبعد حديث ماتع بينهما نصح سمو الشيخ حميد النعيمي الدكتور السميط رحمه الله بضرورة إيجاد البدلاء له، والراحة في بلده الكويت لمرضه وكبر سنه، وقال له: أنت ما قصرت يا د. عبد الرحمن.

قال: فقام د. السميط، وقال: كيف تقول يا شيخ: ما قصرت؟! لقد قصرت والله في إفريقيا كثيرًا، وأنا اليوم أتجول في الخليج وتركت الأيتام والمحتاجين، لقد قصرت يا شيخ. فاستأذن وخرج وهو يبكي من مجلس الحاكم، وكان في السيارة يبكي ويقول: كيف يقول: ما قصرت؟! لقد قصرت وهو يكررها رحمه الله

(3)

.

4 -

ومن كلماته التي تدل على تعلق القلب بالله والدار الآخرة: أنه كان يتحدث أحد إخوته

(4)

فيقول: كان يمكن للدكتور السميط رحمه الله كأحد أوائل الأطباء الكويتيين أن يعيش حياة رغدة، يمتلك فيها الملايين كما هو الحال مع زملائه

(1)

مستشار حاكم عجمان، متقاعد برتبة لواء، حصل على درجة الدكتوراه في القانون بجامعة ويلز، كان رئيسًا لكلية التعاون الخليجي الجامعية، ثم عميدًا لكلية القانون عجمان، وهو عضو في العديد من المؤسسات الخيرية والتطوعية.

ينظر: صحيفة الخليج الموقع الإليكتروني، ملحق استراحة الجمعة، حوار محمد رضا السيد أجراه مع الدكتور الشعالي بتاريخ 3/ 7/ 2009 م على الرابط:

http:// www.alkhaleej.ae/ supplements/ page/ 8 e 9 e 43 d 7 - 2 dec-4 f 1 b-b 50 f-fcda 41 bf 8 dbe

(2)

الشيخ حميد بن راشد بن حميد النعيمي، عضو المجلس الأعلى لاتحاد الإمارات العربية، وحاكم إمارة عجمان، وهو الحاكم العاشر لها، تولى الحكم بعد وفاة أبيه الشيخ راشد بن حميد النعيمي عام 1401 هـ بعد أن كان وليًّا للعهد.

ينظر: الموسوعة الحرة: https:/ wikipedia.org/ wiki/

(3)

ينظر: عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي (176) مع بعض التصرف.

(4)

عبد السلام السميط.

ص: 360

وطلبته، لكنه يقول: كان بمقدوري أن أعيش مثل هؤلاء، لكنني -والله- أعطف على بعضهم؛ إذ يظنون السعادة فيما تحمله من مال، ويضيف: السعادة ليست كم هو حسابك في هذا البنك أو ذاك، لكن السعادة كم هو رصيدك عند رب العزة والجلال

(1)

.

5 -

ومن الأدلة على صدق الرجل مع الله تعالى وإخلاصه له -فيما أحسبه والله حسيبه- هذه الخلاصة التي نختم بها سيرة الرجل رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه على ما قدم خير الجزاء.

إن المتأمل في سيرة هذا الرجل العظيم ليرى آثار توفيق الله وإعانته له في تلك المنجزات الضخمة التي قام بها من خلال جمعية العون المباشر التي كان يقوم عليها، وهذه المنجزات في الحقيقة تعجز عن القيام بها دول، ودونك شذرات من ذلك:

1 -

توفيق الله له لتمثل أخلاق الإسلام العظيمة قولًا وفعلًا، حيث حرص رحمه الله على أن تكون هذه الأخلاق العظيمة سلوكًا عمليًّا، فطبق أسلوب الدعوة على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن فيما أحسبه على قدر وسعِه، فما عرف عنه رحمه الله التصادم مع الناس، بل كان صاحب لين ورفق، بعيدًا عن الغلظة والشدة على الناس

(2)

.

2 -

صبره على ما لقيه في سبيل نشر دعوته وقيامه بإغاثة الفقراء والمنكوبين في أماكن الصراع، ودونك صورًا شاهدة على ذلك من كتاب العمل الأغاثي عند الدكتور عبد الرحمن السميط وأثره في قبول دعوته

(3)

:

(1)

ينظر: عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي (67).

(2)

ينظر: عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي (224 - 237).

(3)

ينظر: العمل الإغاثي عند الدكتور عبد الرحمن السميط وأثره في قبول دعوته (153 - 156).

ص: 361

• كان يقضي رحمه الله عشرة أشهر إلى أحد عشر شهرًا متنقلًا في إفريقيا، لا يبقى ثلاثة أيام في مكان واحد، ثم قرر أن يأتي بأهله من الكويت، فكانوا ينامون مرة في العراء، ومرة في المساجد، وثالثة في الغابات بين الوحوش والهوام.

• يسير في المستنقعات الطينية الملوثة بروث الحيوانات، وربما يصل الماء إلى الكتف، وفي هذه المستنقعات تماسيح فتاكة، لكن الله أنجاه منها.

ويمشي في بعض الأوقات مسافات طويلة على قدمه حتى تتورم؛ لعدم توفر وسيلة النقل لوعورة المكان، وقد يمر عليه من يوم إلى يومين بلا شرب، وإذا وصل إلى مقصده في تلك القرى النائية، فلا يجد من الماء إلا ما يصلح لشرب الدواب من كثرة ما فيه من الأوساخ والطين والروث، وقد سبب له شربه فشلًا في كليتيه رحمه الله.

• سافر في رحلة في شاحنة قديمة مع مجموعة من الأبقار، في رحلة استمرت عشرة أيام عبر طريق ترابي، وكانت تلك الأبقار تقوم بلحس رأسه إذا تجمع عليه الغبار، وكان ينام في أكواخ مفروشة بروث البهائم، وكم من مرة تعرض لإطلاق نار عشوائي، لا سيما في المناطق التي تعيش حروبًا أهلية.

• كان يعصب الحجر عل بطنه من شدة الجوع، ليوصل رسالة الإسلام إلى تلك المناطق المعزولة التي لم تعرف الإسلام.

• ودونك هذا الموقف العظيم الذي يدل على صبر عظيم تمكن من قلب هذا الرجل، وهو يضحي بنفسه من أجل دعوته، أحسبه والله حسيبه أنه يتلذذ بذلك في سبيل الله، وفي أثناء زيارته لقبيلة بدائية في وسط كينيا لدعوة زعمائها وأبنائها إلى الإسلام قدموا له حليبًا -تعبيرًا عن ضيافتهم له- في إناء قذر جدًّا يصفه الدكتور السميط رحمه الله بقوله:"لم أر أقذر منه في حياتي، يحوم حوله الذباب، وهم ينظرون إليه بدون أدنى حركة لإبعاده! لدرجة أن بعضه سقط في الإناء، فمنه من يسبح فيه، ومنه ما لقي حتفه"، وكان عليه التزامًا بآداب الضيافة أن يلبي هذه الدعوة، مع أنه طبيب يعرف ضرر مثل هذا، لكنه قبِل الضيافة وشرب الحليب من هذا الإناء، ولم

ص: 362

يُظهر أي اشمئزاز أو تهرب من الموقف، ليستميل قلوبهم ويحببهم إلى ما يدعو إليه، ولا سيما أنه قد سمع عن مجموعة من المنصرين الأمريكيين زاروا إحدى القرى الإفريقية لدعوة أهلها إلى النصرانية، فعندما قدم لهم الطعام ترحيبًا بهم عافوه، فكانت نتيجة ذلك أن رفَضَ أهل القرية دعوتهم والدخول في ملتهم، فدعا السميط رحمه الله أهل تلك القرية إلى الإسلام، فدخلوا فيه، حتى إذا عرف سبيلًا إلى نفوسهم علَّمهم أن نظافة البدن والملبس والطعام والشراب والمكان من الإيمان.

وله رحمه الله الكثير من القصص في هذا المجال، أكتفي بما سبق ذكره؛ ليكون نموذجًا من نماذج كثيرة سطرها هذا الرجل العظيم

(1)

.

3 -

حرصه الشديد على العمل المؤسسي المنظَّم الذي لا مجال فيه للفوضوية والحماس المتهوِّر، ولهذا أصبحت جمعية العون المباشر التي أسسها أكبر منظمة عالمية في إفريقيا، ومن إنجازاتها:

- كفالة أكثر من 2000 معلم.

- كفالة ما يزيد على 74457 يتيمًا.

- كفالة أكثر من 7775 طالبًا في الدراسات الجامعية.

- إنشاء وتسيير وإدارة 4 مستشفيات.

- بناء وتسيير 260 مستوصفًا.

- بناء وإدارة 296 مدرسة نظامية من مرحلة رياض الأطفال حتى الثانوية.

- بناء أكثر من 5094 مسجدًا في مختلف الدول الإفريقية.

- بناء وتسيير 36 معهدًا شرعيًّا.

(1)

ومن أراد التوسع في سيرة هذا الرجل العبقري فليعد إلى المراجع السابقة.

ص: 363

- إنشاء وتسيير 63 مركزًا لتدريب النساء وتأهيلهن.

- إنشاء وتسيير 4 جامعات شاملة للعديد من التخصصات الأكاديمية.

- إنشاء 4 محطات إذاعية في إفريقيا، وتشغيل 2496 برنامجًا إذاعيًّا في 19 دولة.

- حفر أكثر من 20306 بئر ماء سطحي وأرتوازي لتوفير الماء النظيف لأهالي القرى والمناطق الفقيرة.

- إجمالي عدد المشاريع التنموية 14072 للأسر الفقيرة

(1)

.

ومع هذا الجهد العظيم كان الرجل يعاني من أمراض عدة زادت عليه في آخر حياته، منها السكري، ويستخدم إبر الأنسولين خمس مرات في اليوم، وأصيب بعدة جلطات بالقلب وبالمخ، ويتناول أكثر من عشرة أدوية يوميًّا

(2)

.

يروي عنه الدكتور جاسم المطوع

(3)

أنه كان رحمه الله يقول: "أعاني من مرض السكر، وأجريت لي ثلاث عشرة عملية، منها ثلاث في القلب، لكنني مجرد ما أجلس

(1)

موقع جمعية العون المباشر على الرابط:

https:// direct-aid.org/ cms/ about-us-ar/ our-achievements-ar

(2)

ينظر: الموسوعة الحرة:

https:/ wikipedia.org/ wiki/

(3)

جاسم محمد بدر المطوع، من مواليد 1384 هـ، من دولة الكويت، حصل على شهادة ليسانس حقوق جامعة الكويت، والماجستير بعنوان الأسرار الزوجية من خلال الكتاب والسنة، والدكتوراه في منهج التربية القيادية للطفل، وهو أعلامي ورئيس قناة أقرأ الفضائية، يعتبر من الرواد في مجال التربية الأسرية في الكويت، له الكثير من الإصدارات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية في هذا المجال.

ينظر: الموقع الرسمي للدكتور جاسم المطوع على الرابط:

http:// www.drjasem.com

والموسوعة الحرة:

https:/ wikipedia.org/ wiki/

ص: 364

مع الأيتام وأعيش معهم فترة أنسى ما بي من أمراض وآلام"

(1)

، فرحمه الله رحمة واسعة.

‌المطلب الثاني: من وفقه الله لعمل صالح وفتح له فيه، فليجتهد فيما فتح له فيه:

‌توطئة:

ذكرت في المطلب الأول نماذج عملية لمن رزقهم الله الصدق والإخلاص وظهر أثر أعمال القلوب على ما حصل لهم من بركة وتوفيق وإعانة من الله، مكنتهم من القيام بجلائل الأعمال، فضربوا أروع الأمثلة في العلم والعمل والدعوة، فنفع الله بهم الأمة نفعًا عظيمًا.

وسيكون الحديث في المطلب الثاني عمن وفقه الله لعمل صالح وفتح له فيه، فليجتهد فيما فتح له فيه، ويبذل وسعه فيما فتح له فيه، ويجتهد في الإخلاص والصدق، ومن المعلوم أن القلة من الناس من يفتح له في أكثر من باب.

1 -

وعلى رأس الأعمال الصالحة: دعوة الناس وتعليمهم الخير، فهو من أفضل الأعمال لمن حسنت نيته:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» .

وعن أَبي عَمَّارٍ الحُسَيْن بْن حُرَيْثٍ الخُزَاعِيَّ

(2)

قال: سَمِعْتُ الفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: "عَالِمٌ عَامِلٌ مُعَلِّمٌ يُدْعَى كَبِيرًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ".

(1)

مجلة الكوثر العدد: 178، ص (12، 13) من مقال: تمنيت لو أن عندنا خمسة من السميط للدكتور جاسم المطوع.

(2)

الحسين بن حريث بن الحسن الخزاعي، الإمام، الحافظ، الحجة، أبو عمار الخزاعي، المروزي، مولى عمران بن حصين، توفي رحمه الله سنة (244 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (8/ 564)، سير أعلام النبلاء (11/ 400)، تهذيب التهذيب (2/ 333).

ص: 365

قال المباركفوري

(1)

رحمه الله: "أي: نسبة شرف العالم إلى شرف العابد كنسبة شرف الرسول إلى شرف أدنى الصحابة"

(2)

.

وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ

(3)

رحمه الله قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، أَتَيْتُكَ مِنَ الْمَدِينَةِ، مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلَا جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» .

ومما يدل على أن الله يفتح لعبده ويوفقه لباب خير -وقل من يفتح له في أكثر من باب- ما ورد من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَنْ

(1)

عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن بهادر الأنصاري المباركفوري. عالم مشارك في أنواع من العلوم. ولد في بلدة مباركفور من أعمال أعظم كره بالهند، ونشأ بها، وقرأ العلوم العربية والمنطق والفلسفة والهيئة والفقه وأصول الفقه، ويعد من أبرز علماء الهند في العصر الحديث، له العديد من المؤلفات باللغة العربية وبالأردية منها: السنن في مجلدين، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي وغير ذلك، توفي رحمه سنة (1353 هـ).

ينظر: منهج المباركفوري في كتابه تحفة الأحوذي (45) رسالة علمية من إعداد الطالب: عبد الله بن رفدان الشهراني، إشراف الدكتور: محمد سعيد البخاري، جامعة أم القرى 1418 هـ، معجم المؤلفين (5/ 166).

(2)

تحفة الأحوذي (7/ 379).

(3)

كثير بن قيس الشامي، ويقال: قيس بن كثير الحمصي، والأكثر على أنه كثير بن قيس، روى عن أبي الدرداء في فضل العلم، وهو من التابعين، وعدُّه من الصحابة وهم.

ينظر: تاريخ دمشق (50/ 42) تهذيب التهذيب (8/ 426)، الإصابة (5/ 489).

ص: 366

أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ شَيْءٍ

(1)

مِنَ الأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ -يَعْنِي الجَنَّةَ-: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ، وَبَابِ الرَّيَّانِ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: مَا عَلَى هَذَا الَّذِي يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، وَقَالَ: هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ»

(2)

.

يقول ابن المبارك رحمه الله عن الإمام مالك: "مَا رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة.

قلت

(3)

: ما كان عليه من العلم ونشره أفضل من نوافل الصوم والصلاة لمن أراد به اللهَ"

(4)

.

وعلى هذا فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يشكر ربه على توفيقه له لهذا العمل العظيم، وأن يبذل وسعه فيما فتح له، ويستعين بالله، ويبذل أسباب النجاح في هذا المجال، ومن أعظمها إخلاصه وصدقه مع ربه، وليعلم أنه قد لا يفتح له في باب آخر من أبواب الخير، فعليه ألا يشتت جهده في أبواب لم يفتح له فيها، ولا ينتقص الآخرين الذين فتح لهم في عمل غير عمله، وكذلك ينبغي الحذر من صرف الناس عن أبواب الخير التي فتحت لهم، بحجة أنها أعمال قاصرة غير متعدية النفع، ونحو ذلك من الأخطاء التي يقع فيها بعض الدعاة.

وذكر ابن عبد البر كلامًا متينًا رصينًا في شرحه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق،

(1)

أي: شيئين من أصناف المال. ينظر: فتح الباري (7/ 28).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لو كنت متخذًا خليلًا» (5/ 6) ح (3666)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة، وأعمال البر (2/ 711) ح (1027).

(3)

القائل الإمام الذهبي رحمه الله.

(4)

سير أعلام النبلاء (8/ 97).

ص: 367

فقال رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفقه والفضائل الحض على الإنفاق في سبيل الخير، والحرص على الصوم.

وفيه أن أعمال البر لا يفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وأن من فتح له في شيء منها حرم غيرها في الأغلب، وأنه قد تفتح في جميعها للقليل من الناس، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من ذلك القليل.

وفيه أن من أكثر من شيء عرف به ونسب إليه، ألا ترى إلى قوله: فمن كان من أهل الصلاة، يريد من أكثر منها فنسب إليها؛ لأن الجميع من أهل الصلاة، وكذلك من أكثر من الجهاد ومن الصيام على هذا المعنى ونسب إليه، دعي من بابه ذلك، والله أعلم.

ومما يشبه ما ذكرنا ما جاوب به مالك

(1)

رحمه الله العُمري العابد، وذلك أن عبد الله بن عبد العزيز العُمري

(2)

العابد كتب إلى مالك يحضّه إلى الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك،

(1)

أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، إمام دار الهجرة، وأحد أئمة المذاهب المتبوعة. قال أبو حاتم: مالك ثقة، وهو إمام أهل الحجاز، وقال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم، وقال: أيضًا لولا مالك وسفيان يعني ابن عيينة، لذهب علم الحجاز. يقول عن نفسه: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك. توفي رحمه الله سنة (179 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (4/ 135)، سير أعلام النبلاء (8/ 48)، البداية والنهاية (10/ 174).

(2)

الإمام، القدوة، الزاهد، العابد، أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله العُمري، وهو قليل الرواية، مشتغل بنفسه، قوال بالحق، أمار بالعرف، لا تأخذه في الله لومة لائم. توفي رحمه الله سنة (184 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 373)، الوافي بالوفيات (17/ 157)، البداية والنهاية (13/ 628).

ص: 368

وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم له والسلام.

هذا معنى كلام مالك لأني كتبته من حفظي، وسقط عني في حين كتابتي أصلي منه"

(1)

.

2 -

وهذه نماذج لبعض العلماء رحمهم الله أذكرها على سبيل المثال لمن فتح الله لهم في باب من أبواب الخير من علم أو عبادة ونحو ذلك، وذكروا ذلك من باب التحدث بنعمة الله:

• قال ابن عقيل

(2)

رحمه الله: "عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعّابًا قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين، وبلغت لاثنتي عشرة سنة، وأنا اليوم لا أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحدة النظر بالعين لرؤية الأهلة الخفية، إلا أن القوة ضعيفة"

(3)

.

• ويقول أبو بكر بن عياش رحمه الله: سمعت أبا إسحاق السبيعي

(4)

يقول: "ذهبت الصلاة مني وضعفت ورق عظمي، إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا

(1)

التمهيد (7/ 184 - 185).

(2)

الإمام، العلامة، البحر، شيخ الحنابلة، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي، الحنبلي، المتكلم، صاحب التصانيف، كان يتوقد ذكاء، وكان بحر معارف، وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه نظير على بدعته، اشتغل بمذهب المعتزلة في بداية حياته وتأثر بهم، وكان يثني على الحلاج، ثم أظهر التوبة من ذلك كله، توفي رحمه الله سنة (513 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 443)، البداية والنهاية (16/ 241)، الأعلام (4/ 313).

(3)

سير أعلام النبلاء (19/ 446).

(4)

أبو إسحاق السَّبِيعِيُّ عمرو بن عبد الله بن علي الهمداني، الكوفي، الحافظ، شيخ الكوفة، وعالمها، ومحدثها، وكان رحمه الله من العلماء العاملين، ومن أعلام التابعين الثقات، توفي رحمه الله سنة (127 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 392)، تهذيب التهذيب (8/ 63)، الأعلام (5/ 81).

ص: 369

البقرة وآل عمران"

(1)

.

• ويذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن همته في العلم شيئًا عجبًا، فيقول رحمه الله: "وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره فكأني وقعت على كنز، ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية

(2)

؛ فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة

(3)

، وكتب الحميدي

(4)

، وكتب شيخنا عبد الوهاب

(5)

، وابن ناصر

(6)

، وكتب أبي محمد بن الخشَّاب

(7)

، وكانت أحمالًا، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني

(1)

صفة الصفوة (2/ 60)، وينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 397).

(2)

وهي المدرسة التي أنشأها ببغداد الوزير نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي.

ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 94).

(3)

النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي، إمام أصحاب الرأي، وفقيه أهل العراق، المجتهد المحقق الإمام، أحد أئمة المذاهب الأربعة. ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد من الصحابة، وكان عاملًا زاهدًا عابدًا ورعًا تقيًّا كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى، وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، توفي عليه رحمة الله في سنة (150 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (15/ 444)، ووفيات الأعيان (5/ 405)، وسير أعلام النبلاء (6/ 390).

(4)

الإمام، الحافظ، الفقيه، شيخ الحرم عبد الله بن الزبير بن عيسى الحُمَيْدِيُّ، أحد كبار المحدثين، توفي رحمه الله سنة (219 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (10/ 616)، تهذيب التهذيب (5/ 215)، الأعلام (4/ 87).

(5)

الشيخ، الإمام، الحافظ المفيد، الثقة، المسند، بقية السلف، أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن بن بندار البغدادي، الأنماطي، كان ثقة دينًا ورعًا طليق الوجه سهل الأخلاق، توفي رحمه الله سنة (538 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (20/ 134)، البداية والنهاية (16/ 334)، الأعلام (4/ 185).

(6)

الإمام، المحدث، الحافظ، مفيد العراق، أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر السَّلامِيُّ، البغدادي. محدث العراق في عصره، توفي رحمه الله سنة (550 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (20/ 265)، البداية والنهاية (16/ 374)، الأعلام (7/ 121).

(7)

الشيخ، الإمام، العلامة، المحدث، إمام النحو، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن عبد الله ابن نصر البغدادي، ابن الخشَّاب، من يضرب به المثل في العربية، توفي رحمه الله سنة (567 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (3/ 102)، سير أعلام النبلاء (20/ 523)، البداية والنهاية (16/ 461).

ص: 370

طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب! فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع"

(1)

.

(1)

صيد الخاطر (454) لابن الجوزي، بعانية: حسن المساحي، دار القلم دمشق، ط 1، 1425 هـ.

ص: 371

‌المبحث الرابع: اليقين بنصر الله تعالى لدينه

إن تعلق قلب الداعية بالله وصدقه وإخلاصه، والشعور بمعية الله ورعايته له، يؤدي ذلك إلى شعور الداعية بأثر من آثار عمل القلب، وهو يقين الداعية بنصر الله لدينه، وذلك يجعله يبذل أسباب النصر في نفسه، ويتحرك بدعوته وهو على يقين أن العاقبة للمتقين، ولكنه مع هذا لا يغفل عن العمل لدينه وفق سنن الله في الكون، فيتحرك بدعوته بقدر وسعه، وما أتاح الله له من الإمكانات، فهو يعرف كيف يسير في دعوته إلى الله على بصيرة، بعيدًا عن العجلة والتسرع، يراعي فقه الموازنات، يضبط نفسه بضوابط فقه الدعوة إلى الله وقواعده، وسيأتي مزيد بيان لهذه الأمور في الفصل الثاني من هذا الباب.

وهو كذلك يعلم يقينًا أنه قد يتأخر النصر لحكمة لا يعلمها إلا الله، فلا يصيبه خوف ولا إحباط وإن تأخر النصر، فهو يعمل لدينه في كل الظروف والأحوال، ومع يقينه في نصر الله لدينه، إلا أنه دائم المحاسبة لنفسه؛ لخوفه أن تؤتى الدعوة من قبله، أو يتأخر النصر بسببه.

‌أسباب حصول اليقين عند الداعية بنصر الله لدينه

كثيرة، منها:

‌1 - ثقة الداعية في ربه بأنه ناصر دينه، وإيمانه ويقينه بوعد الله

سبحانه وتعالى الذي وعد به، وقد جاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله في بيان أن هذا الدين ينصره الله، فقال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33].

ص: 372

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].

وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8، 9].

وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173].

وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

وإن الداعية إلى الله تعالى -وهو يؤمن بهذه الحقيقة والسنة الربانية إيمانًا جازمًا- لا يخالجه شك في ذلك، ومع هذا لا بد أن يبذل الأسباب لنصرة دين الله في نفسه بفعل الأوامر واجتناب النواهي، حتى يأتي وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، كما قال سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟! أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟! قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ

ص: 373

صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»

(1)

.

‌2 - إيمان الداعية بأن نصر الله لدعوته مرتبط بنصرته لربه في نفسه،

وذلك بامتثال أمره واجتناب نهيه، ودعوة الناس إلى ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يكون قدوة حسنة في نفسه، قال تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].

وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

قال ابن سعدي رحمه الله: "هذا أمر منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره"

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة قبل الإسلام (4/ 201) ح (3612).

(2)

تفسير السعدي (785).

ص: 374

‌3 - يقين الداعية بأنه مهما كان كيد العدو ومكره إلا أن الله سيبطله،

ولن يضر الداعية من كيدهم شيئًا، ما دام أنه يجاهد نفسه على التقوى والصبر، قال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].

وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 50 - 53].

وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10].

وقال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].

ويقين الداعية إلى الله بهذه الحقيقة والسنة الربانية يجعله في ثقة تامة بأن نصر الله لدعوته لن يتخلف، ولكن قد يتأخر لحكمة يعلمها الله، فما على الدعاة إلى الله تعالى إلا أن يراجعوا أنفسهم، ويعرفوا من أين أتاهم الخلل، ويسعوا في علاج ما حصل منهم، وإلا فنصر الله للدعوة لا يتخلف إلا بخلل من الدعاة في أنفسهم، أو عدم بذل أسباب النصر كما شرع الله.

وقد وجه الله الخطاب لأعظم جيل حمل رسالة الإسلام، وهو يربيهم ويربي الأمة من بعدهم، على أنه قد يأتي الخلل من قبل من يحملون هذه الدعوة، كما حصل في غزوة أحد من خلل ومخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل الرماة؛ مما ألقى بظلاله على سير المعركة، وتحولها لصالح عدوهم، فقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ

ص: 375

أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات [آل عمران: 165، 166].

‌4 - تعلق قلب الداعية بأن النصر لدعوته من عند الله،

فلا يطلبه من أحد غيره، إنما يتوجه إلى ربه بالدعاء الصادق وقوة الالتجاء إليه أن ينصره، ويشعر بحاجته الماسة لربه في فتح أبواب النصر لدعوته، لا يعتمد على حوله وقوته، ولا يلتفت قلبه إلى أحد سوى ربه؛ لأنه على يقين أن النصر بيد الله لا يملكه أحد غيره، فلا يذل ولا يخضع لأحد، ولا يطلب المدد والإعانة من غير الله، يؤمن بهذه الحقيقة بجزم، ويصدقها بعزم وتوكل صادق على ربه، قال تعالى:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].

وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].

وخذ هذا المثال العظيم على هذا: بات النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بدر يستغيث ربه في إنزال نصره عليه، حتى يشفق عليه الصّديق رضي الله عنه من كثرة الإلحاح على ربه، عن عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ:«اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ

ص: 376

بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ .. الحديث

(1)

.

وإيمان الداعية بهذه السنة الربانية يجعله ثابتًا على المنهج الحق، لا يتنازل عنه؛ لأجل الحصول على عون البشر، بل هو واثق بأن النصر من الله وحده لا شريك له، فلا يتعلق قلبه بغير ربه في نصرة دعوته، إنما عليه أن يبذل أسباب النصر الممكنة له، ويعلق قلبه بربه ويثق في وعده، ويتجرد قلبه من التعلق بالأسباب المادية، فقد يخذله الله بهذه الأمور القلبية الخفية؛ من اعتماد القلب على الأسباب المادية، وهذا مثال ذكره الله في كتابه يربي فيه الأمة على تعلق القلوب به وحده لا شريك له؛ لأنها حين تتعلق بالأسباب المادية يكلها الله إليها، فيغلبهم العدو بقوته، قال تعالى في تعقيبه على أحداث غزوة حنين:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25 - 27].

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر .. (3/ 1383) ح (1763).

ص: 377

‌المبحث الخامس: التفاؤل وعدم اليأس

وهذا المبحث مرتبط ارتباطًا وثيقًا بما قبله من الشعور بمعية الله ورعايته له، واليقين بنصر الله لدينه، فما دام أن الداعية عنده شعور بمعية الله له، وعنده يقين بنصر الله لدينه، فلن يجد اليأس إلى قلبه سبيلًا، وسيكون التفاؤل الحسن هو رائده، حتى في أحلك الظروف وأشدها لا يفارق التفاؤل الحسن قلبه، التفاؤل الذي معه العمل لدعوته أينما كان، وأينما حل، أما التفاؤل السلبي الذي يخدر المشاعر، ولا يكون معه عمل، فهذا لا يقره ولا يؤمن به؛ لأنه يراه مجرد أماني تنقطع لا تدفع للعمل، وهو ينظر في سيرة القدوة صلى الله عليه وسلم، كان التفاؤل رائده في أشد الأوقات وأصعب المواقف؛ لكنه التفاؤل العظيم الذي يحرك الهمة للعمل الجاد المثمر، وفي المقابل كان صلى الله عليه وسلم لا يحب الكلمات المثبطة التي تضعف الهمة عن العمل، وتصيب الإنسان بالإحباط، وتضعف التفاؤل الحسن لديه، ودونك شيئًا من سيرته صلى الله عليه وسلم في هذا المجال:

قال صلى الله عليه وسلم: «وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ»

(1)

.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ»

(2)

.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ»

(3)

.

وقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الفأل (7/ 135) ح (5756).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم (4/ 1746) ح (2223).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم (4/ 1746) ح (2223).

ص: 378

سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

وعَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا! فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ -يَا أَبَا بَكْرٍ- بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!» .

ويَقُولُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنه: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ، فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلًا، فَقَالَ لِعَازِبٍ: ابْعَثِ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي، قَالَ: فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ، وَخَرَجَ أَبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكْرٍ، حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَعَمْ، أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنَ الغَدِ، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ، لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: نَمْ -يَا رَسُولَ اللَّهِ- وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ، فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ

(1)

مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ، يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ -أَوْ: مَكَّةَ-، قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ: انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالقَذَى -قَالَ: فَرَأَيْتُ البَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى يَنْفُضُ-، فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ

(2)

كُثْبَةً

(3)

مِنْ لَبَنٍ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ

(4)

حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْتَوِي مِنْهَا، يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

والمقصود بالنفض هنا أن يتأكد من المكان ألا عدو به، قال ابن فارس رحمه الله:"ويستعار من الباب قولهم: نفضت الأرض، إذا بعثت من ينظر أبها عدو أم لا".

ينظر: مقاييس اللغة (5/ 462) مادة (نفض).

(2)

والقعب: إناء من خشب، والمقصود به هنا القدح الصغير.

ينظر: لسان العرب (1/ 683) مادة (قعب).

(3)

الكثبة: قدر حلبة من اللبن تملأ القدح.

ينظر: الصحاح (1/ 209) مادة (كثب).

(4)

وهو: إناء صغير من جلد يتخذ لوضع الماء فيه.

ينظر: لسان العرب (14/ 25) مادة (أدا).

ص: 379

فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ، فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ مِنَ المَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ:«أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا مَالَتِ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:«لَا تَحْزَنْ؛ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» ، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا -أُرَى فِي جَلَدٍ مِنَ الأَرْضِ، شَكَّ زُهَيْرٌ- فَقَالَ: إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَجَا، فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا، فَلا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ، قَالَ: وَوَفَى لَنَا

(1)

.

وقد سبق أن ذكرت مثالًا على تفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم أرى من المناسب إعادته هنا

(2)

:

والنظرة التفاؤلية واستشراف المستقبل مع الثقة بنصر الله من أعظم ما يعين على الثبات، ولهذا شواهد، منها ما حصل في وقت من أصعب الأوقات التي مرت على المسلمين في يوم الأحزاب الذي قال الله عنه في بيان الحال التي وصلوا إليها:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11]، في لحظةٍ اشتد فيها الخوف والجوع والبرد، لكنه صلى الله عليه وسلم ينظر نظرة المتفائل بنصر الله الواثق بربه، وإن كانت نظرة أهل النفاق وأصحاب القلوب المريضة لا ترى شيئًا يلوح في الأفق القريب، وقد عبر القرآن الكريم بقوله

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 201) ح (3615)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة ويقال له: حديث الرَّحْلِ بالحاء (4/ 2309) ح (2009).

(2)

ينظر: ص (303).

ص: 380

عنهم: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]، ويقول عنهم سبحانه وتعالى في يوم الأحزاب:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، وفي هذا الموقف العظيم ها هو يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما عرضت لهم صخرة وهم يحفرون الخندق، فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم الْمِعْوَلَ فَقَالَ:«بِسْمِ اللهِ» ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ:«اللهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» ، ثُمَّ قَالَ:«بِسْمِ اللهِ» ، وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ:«اللهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» ، ثُمَّ قَالَ:«بِسْمِ اللهِ» وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ:«اللهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» .

ص: 381

‌المبحث السادس:

تعلق القلب بالله تعالى

من أبرز آثار محبة الله والخوف منه ورجائه تعلق القلب به سبحانه وتعالى، وإذا تعلق القلب بالله ظهرت آثار ذلك على الداعية، ولذلك علامات من أبرزها:

‌1 - شدة محبته لله:

ومن العلامات الدالة على تعلق قلب الداعية بربه شدة حبه له، قال تعالى عن المؤمنين بالله حقًّا:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه"

(1)

.

‌2 - عدم خشيته وخوفه من غير الله:

إن القلب الذي تعلق بربه لا يخشى أحدًا سواه، ولا يرهب من صولة الباطل، بل يزيده ذلك ثباتًا وصدقًا مع الله، قال الله تعالى عن الصادقين الذين حاول الأعداء أن يخوفوِّهم بقوة أهل الكفر وإمكاناتهم وعدتهم وعددهم، فقال المؤمنون الصادقون كما ذكر الله عنهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 476).

ص: 382

يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 172 - 175].

‌3 - كثرة ذكره لله تعالى:

ومما يدل على تعلق القلب بالله كثرة ذكر الله على كل الأحوال، كما قال تعالى عن القلوب التي أحبت الله وتعلقت به:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].

والآية تدل على حال أولي الألباب المحبين لله، في صلاتهم، وفي سائر أحوالهم؛ يدامون على ذكر الله بالقلب واللسان في جميع الأحوال؛ لأن الإنسان قلَّ أن يخلو عن واحد من هذه الحالات الثلاث

(1)

.

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ»

(2)

.

والحديث يدل على جواز ذكر الله على كل الأحوال وفي كل الأحيان: متطهرًا، ومحدثًا، وجنبًا، وقائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، وماشيًا، إلا أنه يستثنى من ذلك حال الجلوس على البول والغائط، وحالة الجماع، فإنه يكره ذكر الله في هذه الحالات، والصحيح أن الكراهة كراهة تنزيه وليست كراهة تحريم، فلو ذكر الله في هذه الحالات، فلا إثم عليه

(3)

، والله أعلم.

وكثرة ذكر الله على كل الأحوال وفي كل الأحيان، لها أثرها على نفس الداعية، فيجد من طمأنينة القلب والقوة والنشاط ما يعينه على القيام بدعوته خير قيام.

(1)

ينظر: تفسير البغوي (2/ 152)، وتفسير السعدي (161).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها (1/ 282) ح (373).

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (4/ 65، 68).

ص: 383

وذكر ابن القيم رحمه الله من فوائد الذكر: "أنه قُوتُ القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.

وحضرتُ شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلامًا هذا معناه"

(1)

.

والداعية المتعلق بالله تجده ذاكرًا لله بقلبه ولسانه في كل أحواله، قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، يجد فيه لذته، وطمأنينة قلبه، وما يعينه على أعباء طريق الدعوة الشائك، ويجعله بإذن الله ثابتًا على مبدئه، صابرًا على ما يلقاه في ذات الله؛ لأنه يشعر بقرب الله منه ورعايته له وحفظه وحمايته، وكما في الحديث القدسي يقول الله تعالى:«وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي» .

‌4 - المسارعة والمسابقة إلى أسباب رضوان الله:

ومما يدل على تعلق القلب بالله المسارعة والمسابقة إلى أسباب مرضاة الله من الفرائض والنوافل، ولا شك أن الداعية الذي يريد حياة قلبه لا بد أن يضرب في هذه الغنائم بسهم وافر ويجتهد في ذلك؛ ليكون هذا الزاد من أعظم الأسباب المعينة على القيام بمهمته الدعوية.

وقد سبق الكلام على هذه المسألة في مبحث سابق

(2)

.

‌5 - كثرة تلاوة القرآن الكريم مع التدبُّر:

ومن العلامات الدالة على تعلق القلب بالله تعالى: كثرة تلاوة القرآن الكريم مع تدبره وحضور القلب والتأثر بآياته ونزولها إلى القلب، وهكذا الداعية صاحب القلب

(1)

الوابل الصيب (42).

(2)

ينظر: ص (160).

ص: 384

الحي يكون حاله مع القرآن الكريم كما قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، وقال تعالى:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وقال تعالى:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].

وقد نالوا بركة القرآن الكريم بتدبرهم لآياته كما قال تعالى، وهو يحث عباده على تدبر كتابه الذي أنزله من أجل ذلك، فقال سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

وكيف لا يتأثرون بالقرآن وهو الذي لو نزل على الجبال لتصدعت من خشية الله؟! كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

فإذا تعلق القلب بالله أقبل على تلاوة كتابه متدبرًا له، يجد فيه طمأنينة قلبه وخشوعه، وزيادة إيمانه وثباته.

‌6 - كثرة دعاء الله والالتجاء إليه في جميع الأحوال:

ومن آثار تعلق القلب بالله: كثرة الدعاء والالتجاء إلى الله في جميع الأحوال، والداعية صاحب القلب الحي يدرك مكانة الدعاء وأثره على حياته وعلى دعوته، فقلبه موصول بالله، يشعر بقربه منه كما قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال سبحانه وتعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].

يشعر الداعية بحاجته الماسة لربه، فيقبل على الدعاء والتضرع والابتهال أن يعينه

ص: 385

على هذه المهمة العظيمة مهمة الدعوة إلى الله، وأن يوفقه ويسدده في كل تصرف يقوم به، وأن يفتح له القلوب، ويسأل ربه أن لا تؤتى الدعوة من قبله، وهو يعلم أثر الدعاء ومكانته العظيمة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاء» الحديث

(2)

.

وكثرة الدعاء والالتجاء إلى الله مرتبط كذلك بقضية عظيمة التي سيكون الحديث عنها في علامة تعلق القلب بالله الآتية:

‌7 - يخاف على قلبه من التقلب، فلا يأمن مكر الله:

من العلامات الدالة على تعلق القلب بربه: خوفه على قلبه من التقلب، وعدم أمنه من مكر الله؛ لأن الأمن من مكر الله من صفات أهل الخسارة الذين غفلوا عن الله، ونسوا يوم الحساب، وتمادوا في غيهم وضلالهم، يقول تعالى محذرًا منهم ومنذرًا:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].

(1)

أخرجه الترمذي في أبواب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء (4/ 448) ح (2139) قال:"وهذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1271) ح (7687).

(2)

أخرجه أحمد (37/ 95) ح (22413)، وابن ماجه في كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب في القدر (1/ 35) ح (90)، وابن حبان في صحيحه في باب الأدعية، ذكر الإخبار عما يستحب للمرء من المواظبة على الدعاء والبر (3/ 153) ح (872)، والحاكم في المستدرك في كتاب الدعاء، والتكبير، والتهليل، والتسبيح والذكر (1/ 670) ح (1814) وصححه وأقره الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 279) ح (1638)، وقال محقق المسند (37/ 95) ح (22413):"حسن لغيره".

ص: 386

ومكر الله هو بأسه ونقمته وقدرته عليهم، فيستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويأخذهم في حال غفلتهم وسهوهم

(1)

، ولا يأمن ذلك إلا أهل الغفلة أصحاب القلوب المريضة، قال الحسن البصري رحمه الله:"المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن"

(2)

.

وقال أيضًا رحمه الله في مقارنة بين حال عباد الله المؤمنين وحال المنافقين، فذكر أن المؤمنين عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم:"إن المؤمن جمع إيمانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا"

(3)

.

وقال السعدي رحمه الله عن قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]: "وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنًا على ما معه من الإيمان"

(4)

.

بل لا يزال خائفًا وجلًا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيًا أن يثبت قلبه على دينه إلى أن يلقاه غير مغير ولا مبدل، دائمًا يلهج بالدعاء الذي كان يكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ:«نَعَمْ؛ إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» . تجد المؤمن يعمل ويسعى في كل سبب يخلصه من الشر عند وقوع الفتن، فإن العبد -ولو بلغت به الحال ما بلغت- فليس على يقين من

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 451) تفسير السعدي (298).

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 451).

(3)

مدارج السالكين (1/ 507)، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (2/ 545) للفيروزآبادي، ت: محمد النجار، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة.

(4)

تفسير السعدي (298).

ص: 387

السلامة

(1)

.

ولذا يخاف المؤمن على قلبه من الزيغ، فهو دائم الدعاء بقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

‌8 - كثرة التوبة والاستغفار:

ومن علامات تعلق القلب بالله تعالى: كثرة التوبة والاستغفار، فقلب الداعية الموصول بربه يشعر بتقصيره في حق ربه، ويشعر بأثر الذنب، فهو دائم الاستغفار والتوبة، كما قال تعالى عن عباده المتقين:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

وها هو سيد المرسلين وإمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، يستغفر في المجلس الواحد ويطلب من ربه أن يتوب عليه مائة مرة، كما في الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: «رَبِّ، اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»

(2)

.

(1)

ينظر: تفسير السعدي (298).

(2)

أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار (2/ 85) ح (1516)، والترمذي في أبواب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من مجلسه (5/ 494) ح (3434)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب"، وابن حبان في صحيحه في باب الأدعية، ذكر وصف الاستغفار الذي كان يستغفر صلى الله عليه وسلم بالعدد الذي ذكرناه (3/ 206) ح (927)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (5/ 248) ح (1357) للألباني، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1، 1423 هـ، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (2/ 627) ح (1516):"إسناده صحيح".

ص: 388

وهو الذي قال الله له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، ومع هذا يستغفر ربه ويطلب منه أن يتوب عليه بهذا العدد في مجلس واحد، فكيف بمن عداه من أهل الذنوب؟!

فإذا أراد الداعية أن يفتح الله عليه في دعوته، ويزيده قوة إلى قوته، فليكثر من التوبة والاستغفار الذي يواطئ فيه القلب اللسان، قال تعالى:{وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الآية [هود: 52].

وقد سبق الكلام على الاستغفار والتوبة

(1)

.

(1)

ينظر: ص (193).

ص: 389

المبحث السابع:

الزهد في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة

المطلب الأول: حقيقة الدنيا من خلال نصوص الكتاب والسنة.

المطلب الثاني: مشاهد من بيت النبوة تبين حقيقة الدنيا، وكيف تعامل معها صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: من آثار تعلق القلب بالآخرة.

المطلب الرابع: تنبيهات مهمة حول علاقة المسلم بالدنيا من خلال الميزان الشرعي الصحيح.

ص: 390

‌المبحث السابع: الزهد في الدنيا وتعلق القلب بالآخرة

‌توطئة:

ومن آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه: مجاهدته لنفسه على إرادة الآخرة وتعلق القلب بها، فتكون همَّه الذي يصبح ويمسي عليه، وبما أن الداعية قدوة للناس فعليه أن يتخفف من التعلق بالدنيا وزينتها، وأن يجاهد نفسه على الزهد الحقيقي فيها، ويجاهد كذلك على تفريغ قلبه لآخرته، وإذا حصل ذلك تمكن من التأثير فيمن يدعوهم، وحفظ نفسه من الانشغال بزينة الدنيا عن الآخرة، وهذا حري بكل من يتصدى لدعوة الناس أن يحرص كثيرًا على سلامة قلبه من التعلق بالدنيا حتى لا يكون فتنة لمن يدعوهم، حين يكون همه الدنيا بعمل الآخرة.

وقد ذكر الله في كتابه أن من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فإن الله يعطيه نعيم الآخرة، ومن أراد الدنيا بعمله الصالح، فإنه يعطيه منها ما يشاء، وأما الآخرة فلا نصيب له في نعيمها.

والإرادة من أعمال القلب، وهي تكون بحسب مقصد صاحبها، قال تعالى في بيان ذلك:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 18 - 20].

وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ

ص: 391

يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].

وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].

وإذا تعلق القلب بالآخرة عرف الدنيا على حقيقتها، والآخرة على حقيقتها، كما جاءت بذلك نصوص الكتاب والسنة.

وإذا تبينت حقيقة الدنيا بكل متعها وشهواتها أنها متاع زهيد زائل، لا يساوي بالنسبة للآخرة إلا كقطرة في بحر واسع، زهد فيها أصحاب القلوب الحية، وتعلقت قلوبهم بالآخرة، ودونك توضيح هذا المبحث وفق المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: حقيقة الدنيا من خلال نصوص الكتاب والسنة.

المطلب الثاني: مشاهد من بيت النبوة تبين حقيقة الدنيا، وكيف تعامل معها صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: من آثار تعلق القلب بالآخرة.

المطلب الرابع: تنبيهات مهمة حول علاقة المسلم بالدنيا من خلال الميزان الشرعي الصحيح.

المطلب الأول: حقيقة الدنيا من خلال نصوص الكتاب والسنة:

‌أولًا: نصوص الكتاب التي تبين حقيقة الدنيا بالنسبة للآخرة،

وهذه إشارات على سبيل المثال:

1 -

الدنيا مزينة للناس، وهي متاع زائل قليل بالنسبة للآخرة الباقية، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ

ص: 392

ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 14، 15].

وفي ذلك تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة

(1)

.

قال السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا، وغيرها تبع لها، قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف: 7]، فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين:

قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.

والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانًا لعباده؛ ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقًا يتزودون منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها:{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]، فجعلوها معبرًا إلى الدار الآخرة، ومتجرًا يرجون بها

(1)

ينظر: تفسير البغوي (2/ 15).

ص: 393

الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادًا إلى ربهم

وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم، والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما، واعرض على قلبك المفاضلة بينهما، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15]، أي: عالم بما فيهم من الأوصاف الحسنة والأوصاف القبيحة، وما هو اللائق بأحوالهم، يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء.

فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها، وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه"

(1)

.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].

وقال: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].

2 -

الفوز العظيم يكون بالنجاة من النار ودخول الجنة، والخسارة العظيمة بأن تغره الدنيا عن الآخرة، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا

(1)

تفسير السعدي (124).

ص: 394

تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

قال السعدي رحمه الله: "هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقَل عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير وشر"

(1)

.

3 -

وصف الله الدنيا بأنها لعب ولهو في أكثر من آية؛ ليزهد فيها ويحذر من الاغترار بها، فقال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].

وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].

وقال تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]

(1)

تفسير السعدي (159).

ص: 395

وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

وقال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 - 35].

‌ثانيًا: ورد في السنة الكثير من الأحاديث التي تبين حقيقة الدنيا،

فمن ذلك:

1 -

موضع السوط في الجنة -على صغر الحيز الذي يشغله- خير من الدنيا كلها وما فيها، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»

(1)

.

2 -

حجم الدنيا في الآخرة كنسبة القطرات إلى البحر، فعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ، مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ

(2)

، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟»

(3)

.

3 -

التزهيد في الدنيا وضرب المثل لها بما تزهد فيه النفوس وتنفر منه؛ لبيان

(1)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (4/ 119) ح (3250).

(2)

اليم هو البحر.

ينظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 300)(يمم).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا .. (4/ 2193) ح (2858).

ص: 396

حقارتها وهوانها على الله تعالى، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ

(1)

، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ

(2)

مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ:«أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟! قَالَ:«أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللهِ، لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟! فَقَالَ:«فَوَاللهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ»

(3)

.

4 -

بيان حقارة الدنيا عند من خلقها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا

(4)

، فَقَالَ:«أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا»

(5)

.

(1)

أي: أحاطوا به من كل جانب.

ينظر: الصحاح (4/ 1424)، لسان العرب (9/ 308) مادة (كنف).

(2)

الجدي الأسك الذكر من المعز، والأسك قيل: مقطوع الأذنين، وقيل: من صغرت أذنه حتى لصقت برأسه.

ينظر: النهاية في غريب الحديث (2/ 384)، المعجم الوسيط (1/ 439) مادة (سكك).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (4/ 2272) ح (2957).

(4)

أي: رافعة رجلها من الانتفاخ.

(5)

أخرجه ابن ماجه كتاب الزهد، باب مثل الدنيا (2/ 1376) ح (4110)، والحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق (4/ 341) ح (7847) وصححه وذكر الذهبي أن في سنده زكريا بن منظور ضعفوه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 937) ح (5292)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 230) ح (4110):"حديث حسن بطريقيه وشواهده".

ص: 397

‌المطلب الثاني: مشاهد من بيت النبوة تبين حقيقة الدنيا، وكيف تعامل معها صلى الله عليه وسلم

-:

إن هذه المشاهد من بيت النبوة خير دليل على حقارة الدنيا، وأنها لا تساوي شيئًا، ولهذا لما عرفها صلى الله عليه وسلم على حقيقتها زهد فيها، وعاش فيها عيشة المساكين، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَحِبُّوا الْمَسَاكِينَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُعَائِهِ:«اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ»

(1)

، ورحل صلى الله عليه وسلم عنها ولم يكن لها في قلبه مكان، فقد تعَلّق قلبه بالدار الباقية دار الآخرة.

ودونك -أيها الداعية الموفق- هذه الصور الشاهدة على حقارة الدنيا عنده صلى الله عليه وسلم، فاقتد بقدوتك صلى الله عليه وسلم، وعلق قلبك بالدار الآخرة، واحذر من الافتتان بزينة الدنيا وزخارفها، فتفسد عليك قلبك، وتعوقك في طريق دعوتك، أو تقعد بك عنها:

1 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ:«مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟! مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»

(2)

.

(1)

أخرجه الترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم (4/ 577) ح (2352)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء (2/ 1381) ح (4126) وهذا لفظه، والحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق (4/ 358) ح (7911) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 271) ح (1261) وحسنه لغيره في صحيح الترغيب (3/ 244) ح (3193)، وضعف إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 240) ح (4126)، والحديث -والله أعلم- له أصل يترقى به إلى درجة الحسن لغيره، كما قرره الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (3/ 362)، إشراف: الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1405 هـ.

(2)

أخرجه أحمد في المسند (4/ 473) ح (2744)، وابن حبان في باب من صفته صلى الله عليه وسلم وأخباره، ذكر ما مثل المصطفى صلى الله عليه وسلم نفسه والدنيا بمثل ما مثل به (14/ 265) ح (6352)، والحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق (4/ 344) ح (7858) وصححه ووافقه الذهبي، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الزهد، باب في عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف (10/ 326) ح (18299):"ورجال أحمد رجال الصحيح غير هلال بن خباب، وهو ثقة"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 989) ح (5669)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (4/ 474) ح (2744):"إسناده صحيح".

ص: 398

2 -

وقال عمر رضي الله عنه: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلهَا قَرَظًا

(1)

فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ، وَإِذَا أَفِيقٌ

(2)

مُعَلَّقٌ، قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قَالَ:«مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ؟! فَقَالَ:«يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟!» ، قُلْتُ: بَلَى .. الحديث

(3)

.

3 -

وعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ

(4)

قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ رضي الله عنه يَخْطُبُ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي

(5)

؛ مَا يَجِدُ دَقَلًا

(6)

يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ»

(7)

.

(1)

القرظ: ورق شجرة السلم الذي يدبغ به الجلود.

ينظر: النهاية في غريب الحديث (4/ 43) مادة (قرظ).

(2)

الأفيق: هو الجلد الذي لم يدبغ، وقيل: الجلد الذي دبغ بغير القرظ.

ينظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 55) مادة (أفق).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب في الإيلاء، واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم: 4](2/ 1106) ح (1479).

(4)

الحافظ، الإمام الكبير سِمَاكُ بنُ حَرْبٍ بن أوس بن خالد بن نزار بن معاوية بن حارثة بن ربيعة بن عامر بن ذهل بن ثعلبة أبو المغيرة الذُّهلي البكري، أدرك ثمانين صحابيًّا، توفي رحمه الله سنة (123 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (10/ 296)، سير أعلام النبلاء (5/ 245)، الأعلام (3/ 138).

(5)

أي: يتألم من شدة الجوع.

(6)

الدقل: رديء التمر ويابسه، وهو الذي يبقى منثورًا تحت النخلة.

ينظر: النهاية في غريب الحديث (2/ 127) مادة (دقل).

(7)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (4/ 2285) ح (2978).

ص: 399

4 -

وعن عُرْوَةَ بن الزبير

(1)

رحمه الله يروي عن خالته عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ، قَالَ: قُلْتُ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا، فَيَسْقِينَاهُ

(2)

.

5 -

وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ»

(3)

.

6 -

ومع هذا كان صلى الله عليه وسلم إذا تيسر له شيء من نعيم الدنيا الذي أباحه الله له فإنه لا يرده، ولا يمتنع منه بحجة الزهد في الدنيا.

ودونك صورة من حياته صلى الله عليه وسلم ملخصة من زاد المعاد من هديه صلى الله عليه وسلم في الأمور الآتية:

طعامه صلى الله عليه وسلم: كان من هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام لا يرد موجودًا ولا يتكلف مفقودًا، فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:«مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ»

(4)

.

(1)

عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبو عبد الله المدني تابعي جليل، كان فقيهًا، عالِمًا، حافظًا، ثبتًا، حجة، عالِمًا بالسير، وهو أول من صنف المغازي، أحد الفقهاء السبعة. توفي سنة (93 هـ) عليه رحمة الله.

ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 421)، البداية والنهاية (12/ 476)، الأعلام (4/ 226).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (4/ 2283) ح (2972).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (4/ 2281) ح (2970).

(4)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الأطعمة، باب ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا (7/ 74) ح (5409)، ومسلم في كتاب الأشربة، باب لا يعيب الطعام (3/ 1633) ح (2064).

ص: 400

وقد ترك صلى الله عليه وسلم أكل الضب لما لم يعتده، حيث لم يكن في بيئته، ولم يحرمه على الأمة، بل أُكِل على مائدته وهو ينظر

(1)

(2)

.

لباسه صلى الله عليه وسلم: لبس المصطفى صلى الله عليه وسلم القميصَ، وكان أحب الثياب إليه، وكان كمه إلى الرسغ

(3)

.

وكان أحب الألوان إليه البياض.

وهديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس؛ من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة

(4)

، مما أباحه الله سبحانه وتعالى.

‌المطلب الثالث: من آثار تعلق القلب بالآخرة:

‌أولًا: بعده عن المعاصي ونفوره منها، والخوف من عذاب الله:

قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام: 15، 16].

وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر: 13].

(1)

ويشير بهذا إلى حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ. والحديث أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب الضب (7/ 97) ح (5537)، ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الضب (3/ 1543) ح (1946).

(2)

ينظر: زاد المعاد (1/ 142).

(3)

الرُّسْغُ: وهو موصل الْكَف في الذِّرَاعِ.

ينظر: مقاييس اللغة (2/ 391)، لسان العرب (8/ 428) مادة (رسغ).

(4)

زاد المعاد (1/ 132، 135، 138).

ص: 401

‌ثانيًا: تعلق القلب بالآخرة يبعد الداعية عن تشتت الهم في الدنيا:

في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» .

وقد مر ذكر آثار الإيمان باليوم الآخر على القلب

(1)

.

‌المطلب الرابع: تنبيهات مهمة حول علاقة المسلم بالدنيا من خلال الميزان الشرعي الصحيح:

وأختم هذا المبحث بتنبيهات مهمة حول علاقة المسلم بالدنيا من خلال الميزان الشرعي الصحيح، الذي يحرص الداعية على أن يعلِّمه للناس ويمتثله سلوكًا عمليًّا؛ لأنه قدوة للناس، وذلك وفق المسائل الآتية:

‌المسألة الأولى: القلب لا يتعلق إلا بالله وحده، ويكون همه الآخرة:

وسبقت النصوص في بيان أنه لا ينبغي أن تتعلق القلوب بالدنيا، بل تتعلق بالله وحده لا شريك له، وكذلك ينبغي أن يكون هم العبد الآخرة.

‌المسألة الثانية: قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}

[القصص: 77].

قال السعدي رحمه الله في معنى الآية: " {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال، فابتغ بها ما عند الله، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات، وتحصيل اللذات، {وَلَا تَنْسَ

(1)

ينظر: ص (157).

ص: 402

نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي: لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعًا، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعًا لا يثلم دينك، ولا يضر بآخرتك، {وَأَحْسِنْ} إلى عباد الله {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} بهذه الأموال، {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} بالتكبر والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} بل يعاقبهم على ذلك أشد العقوبة"

(1)

.

‌المسألة الثالثة: أن يأكل العبد ويشرب ويلبس مما أباح الله له من غير إسراف ولا كبر:

قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31، 32].

قال الشوكاني رحمه الله في معنى الآيات السابقة: "هذا خطاب لجميع بني آدم وإن كان واردًا على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والزينة: ما يتزين به الناس من الملبوس، أمروا بالتزين عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف.

وقد استُدل بالآية على وجوب ستر العورة في الصلاة، وإليه ذهب جمهور أهل العلم، بل سترها واجب في كل حال من الأحوال وإن كان الرجل خاليًا كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ..

قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالأكل والشرب، ونهاهم عن الإسراف، فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب، وتاركه بالمرة قاتل لنفسه

(1)

تفسير السعدي (623).

ص: 403

وهو من أهل النار، كما صح في الأحاديث الصحيحة

(1)

، والمقلل منه على وجه يضعف به بدنه ويعجز عن القيام بما يجب عليه القيام به من طاعة أو سعي على نفسه وعلى من يعول مخالفٌ لما أمر الله به وأرشد إليه، والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه والتبذير مخالف لما شرعه الله لعباده، واقع في النهي القرآني، وهكذا من حرم حلالًا أو حلل حرامًا، فإنه يدخل في المسرفين ويخرج عن المقتصدين. ومن الإسراف الأكل لا لحاجة، وفي وقت شبع.

قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} الزينة: ما يتزين به الإنسان من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة كالمعادن التي لم يرد نهي عن التزين بها والجواهر ونحوها، وقيل: الملبوس خاصة، ولا وجه له، بل هو من جملة ما تشمله الآية، فلا حرج على من لبس الثياب الجيدة الغالية القيمة إذا لم يكن مما حرمه الله، ولا حرج على من تزين بشيء من الأشياء التي لها مدخل في الزينة ولم يمنع منها مانع شرعي، ومن زعم أن ذلك يخالف الزهد فقد غلط غلطًا بينًا .. وهكذا الطيبات من المطاعم والمشارب ونحوهما مما يأكله الناس، فإنه لا زهد في ترك الطيب منها، ولهذا جاءت الآية هذه معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه أو حرمه على غيره"

(2)

.

‌المسألة الرابعة: الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده:

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» .

(1)

كما في صحيح مسلم (1/ 105) كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة: قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ، عَذَّبَهُ اللهُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّم» .

(2)

فتح القدير (2/ 228).

ص: 404

وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيلَةٌ

(1)

»

(2)

.

وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ؛ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُرَى نِعْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ»

(3)

.

‌المسألة الخامسة: نعم المال الحلال للرجل الصالح، يستعين به على أمر دينه ودنياه،

قَالَ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ»

(4)

.

(1)

من الخيلاء وهو الكِبْر.

ينظر: الصحاح (4/ 1691) مادة (خيل).

(2)

أخرجه أحمد (11/ 294) ح (6695)، والبخاري معلقًا في أول كتاب اللباس، والنسائي في كتاب الزكاة، الاختيال في الصدقة (5/ 79) ح (2559)، وابن ماجه واللفظ له في كتاب اللباس، باب لبس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة (2/ 1192) ح (3605)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (2/ 1252) ح (4381)، وحسن إسناده محقق المسند (11/ 295) ح (6695).

(3)

أخرجه أحمد (11/ 312) ح (6708)، والحاكم في المستدرك في كتاب الأطعمة (4/ 150) ح (7188) وصححه ووافقه الذهبي، وقال محقق المسند (11/ 312) ح (6708):"إسناده حسن".

(4)

أخرجه أحمد (29/ 299) ح (17763)، والبخاري في الأدب المفرد في باب المال الصالح للمرء الصالح (112) ح (299)، وابن حبان في صحيحه في كتاب الزكاة، ذكر الإباحة للرجل الذي يجمع المال من حله إذا قام بحقوقه فيه (8/ 6) ح (3210)، ومسند أبي يعلى (13/ 320) ح (7336)، والحاكم في المستدرك في كتاب البيوع (2/ 3) ح (2130) وصححه ووافقه الذهبي، وقال في مجمع الزوائد في كتاب المناقب، باب ما جاء في عمرو بن العاص رضي الله عنه (9/ 353) ح (15897):"ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (126) ح (229)، ت: الألباني، دار الصديق للنشر والتوزيع، ط 4، 1418 هـ، وقال محقق المسند (29/ 299) ح (17763):"إسناده صحيح على شرط مسلم".

ص: 405

‌المسألة السادسة: إن الذي يسعى على الأرملة، والمسكين، وعلى الأبوين الكبيرين، ويجلب الرزق لأطفاله، ويسعى لإعفاف نفسه يعتبر عمله عبادة، وهو

من المجاهدين في سبيل الله.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ» ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ:«وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ»

(1)

.

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فَرَأَى أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يعفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ»

(2)

.

وعن عمر رضي الله عنه قال: "ما جاءني أجلي في مكان ما عدا الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأنا بين شعبتي رحلي، أطلب من فضل الله"، وتلا:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]

(3)

.

وعَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه: "أَيّمَا رجلٍ جلبَ شَيْئًا إِلَى مَدِينَةٍ من مَدَائِن الْمُسلمين صَابِرًا محتسبًا فَبَاعَهُ بِسعْرِ يَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ اللهِ من الشُّهَدَاءِ"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الساعي على المسكين (8/ 9) ح (6007)، ومسلم واللفظ له في كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم (4/ 2286) ح (2982).

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 129) ح (282)، والمعجم الصغير (2/ 148) ح (940) ت: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار بيروت، عمان، ط 1، 1405 هـ، والمنذري في الترغيب والترهيب كتاب البيوع وغيرها الترغيب في الاكتساب بالبيع وغيره (2/ 335) ح (2610) وقال:"رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح"، وقال في مجمع الزوائد في كتاب النكاح، باب النفقات (4/ 325) ح (7709):"رواه الطبراني في الثلاثة ورجال الكبير رجال الصحيح"، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 306) ح (1692):"صحيح لغيره".

(3)

شعب الإيمان (2/ 450)، وكنز العمال (4/ 123).

(4)

أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (15/ 613) ح (4570) مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وضعفه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (516)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (11/ 694) ح (5416).

ص: 406

‌المسألة السابعة: اليد العليا المنفقه خير من اليد السفلى الآخذة:

عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ»

(1)

.

‌المسألة الثامنة: الإسلام يحث على العمل ويحذر من سؤال الناس:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»

(2)

.

وقَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»

(3)

.

قال النووي: "قيل: معناه يأتي يوم القيامة ذليلًا ساقطًا لا وجه له عند الله، وقيل: هو على ظاهره فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه عقوبة له"

(4)

.

وكما في حديث حَكِيم بْن حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ:«يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى» ، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (2/ 112) ح (1427).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس (2/ 721) ح (1042).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس (2/ 720) ح (1040).

(4)

شرح النووي على مسلم (7/ 130).

ص: 407

أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ -يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ- عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ

(1)

.

‌المسألة التاسعة: اعمل ما في وسعك ولا تنتظر النتائج:

عن أنس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ»

(2)

.

‌المسألة العاشرة: ترك متع الحياة الدنيا التي أباحها الله بحجة أنها تشغل عن العبادة غلو ورهبانية ورغبة عن سنة صلى الله عليه وسلم

-:

عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَقَالَ:«أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟! أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (2/ 123) ح (1472)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة (2/ 717) ح (1035).

(2)

أخرجه أحمد (20/ 296) ح (12981)، والبخاري في الأدب المفرد، باب اصطناع المال (168) ح (479)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 38) ح (9)، وقال محقق المسند (20/ 296) ح (12981):"صحيح على شرط مسلم".

(3)

أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (7/ 2) ح (5063).

ص: 408

وفي صحيح مسلم لفظ مقارب: عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»

(1)

.

‌المسألة الحادية عشرة:

قال ابن رجب رحمه الله: "وليس الذم راجعًا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهادًا وسكنًا، ولا إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن، ولا إلى ما أنبته فيها من الشجر والزرع، ولا إلى ما بث فيها من الحيوانات وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، بل يقع على ما تضر عاقبته، أو لا تنفع كما قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20] "

(2)

.

وقال سعيد بن جبير

(3)

رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]: "متاعُ الغرور ما يُلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يُلهك فليس بمتاع الغرور، ولكنَّه متاعُ بلاغٍ إلى ما هو خيرٌ منه"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (2/ 1020) ح (1401).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 187).

(3)

سعيد بن جبير بن هشام الوالبي مولاهم الكوفي الإمام، الحافظ، المقرئ، المفسر، الشهيد، أحد الأعلام، وكان من كبار علماء التابعين، قتل على يد الحجاج سنة (94 هـ) هذا هو المشهور، وقيل: سنة (95 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 321) البداية والنهاية (12/ 468) الأعلام (3/ 93).

(4)

الزهد لابن أبي الدنيا (174).

ص: 409

وقال يحيى بنُ معاذ الرازي

(1)

رحمه الله: "كيف لا أُحِبُّ دنيا قُدِّر لي فيها قوتٌ، أكتسب بها حياةً، أُدركُ بها طاعةً، أنالُ بها الآخرة؟! "

(2)

.

وقال الحسن البصري رحمه الله: "نعمت الدار كانت الدُّنيا للمؤمن، وذلك أنَّه عمل قليلًا، وأخذ زاده منها إلى الجنَّة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنَّه ضيَّع لياليه، وكان زادُه منها إلى النار"

(3)

.

وسئل

(4)

أبو صفوان الرعيني

(5)

: أي شيء الدنيا التي ذمها الله تعالى في القرآن الذي ينبغي للعاقل أن يجتنبها؟ قال: "كلما أصبت فيها تريد به الدنيا فهو مذموم، وكلما أصبت فيها تريد به الآخرة فليس منها"

(6)

.

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "ليس الزاهد من ألقى هموم الدنيا، واستراح منها، إنما الزاهد من زهد في الدنيا، وتعب فيها للآخرة"

(7)

.

وعلق ابن رجب رحمه على قول أبي سليمان قائلًا: "فالزهد في الدنيا يراد به

(1)

يحيى بن معاذ الرازي الواعظ من كبار المشايخ، له كلام جيد، ومواعظ مشهورة، حكيم أهل زمانه، من كبار الصوفية. توفي رحمه الله سنة (258 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (16/ 306)، سير أعلام النبلاء (13/ 15)، الأعلام (8/ 172).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 193).

(3)

الزهد لأحمد بن حنبل (230).

(4)

وقد سأله أحمد بن أبي الحواري.

ينظر: حلية الأولياء (10/ 5).

(5)

أبو صفوان بن علقمة الرعيني أحد الزهاد العارفين، حكى عن الأوزاعي، ويحيى بن حمزة القاضي، وحكى عنه أحمد بن أبي الحواري.

ينظر: تاريخ دمشق (66/ 304)، جامع العلوم والحكم (2/ 193).

(6)

حلية الأولياء (10/ 5).

(7)

حلية الأولياء (9/ 273).

ص: 410

تفريغ القلب منَ الاشتغال بها؛ ليتفرغ لطلب الله، ومعرفته، والقرب منه، والأُنس به، والشّوق إلى لقائه"

(1)

.

‌المسألة الثانية عشرة: الزهد الذي على منهج السلف وعباراتهم في معناه:

قال أبو مسلم الخولاني

(2)

رحمه الله: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يدي اللَّه أوثق مما في يديك، وإذا أصبت بمصيبة كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من أنها لو بقيت لك"

(3)

.

وسئل أحمد رحمه الله: ما الزهد في الدنيا؟ قال: "قصر الأمل، والإياس مما في أيدي الناس"

(4)

.

وقال أحمد بن حنبل: "الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل العبد عن اللَّه عز وجل، وهو زهد العارفين"

(5)

.

وعلق ابن القيم رحمه الله على قول الإمام أحمد فقال: "وهذا الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدم من كلام المشايخ، مع زيادة تفصيله وتبيين درجاته، وهو من أجمع الكلام، وهو يدل على أنه رضي الله عنه من هذا العلم بالمحل الأعلى، وقد شهد

(1)

جامع العلوم والحكم (2/ 198).

(2)

أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب الداراني، سيد التابعين، وزاهد العصر، فقيه عابد. أصله من اليمن. أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، فقدم المدينة في خلافة أبي بكر، وهاجر إلى الشام، وكان يقال: أبو مسلم حكيم هذه الأمة، مات رحمه الله بدمشق سنة (62 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 7)، الأعلام للزركلي (4/ 75).

(3)

الزهد لأحمد بن حنبل (19).

(4)

الآداب الشرعية (2/ 241).

(5)

الآداب الشرعية (2/ 242).

ص: 411

الشافعي رحمه الله بإمامته في ثمانية أشياء أحدها الزهد"

(1)

.

وقال سفيان الثوري: "الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء"

(2)

.

وفسره الفضيل بن عياض رحمه الله بالقناعة

(3)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف الزهد: "وإن الزهد هو عما لا ينفع؛ إما لانتفاء نفعه، أو لكونه مرجوحًا؛ لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه، وأما المنافع الخالصة أو الراجحة فالزهد فيها حمق"

(4)

.

وعلق ابن القيم رحمه الله على كلام شيخه بقوله: "هذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد وأجمعها"

(5)

.

وأعظم الزهد: الزهد في الحرام، وعلى رأسه الشرك، ويليه بقية الكبائر، ثم الصغائر، ثم ترك الفضول من المباحات التي تحول بينك وبين أداء الحقوق.

وذكر ابن رجب رحمه الله أن الزهد عند السلف له أقسام، فيقول: "وقد قسم كثير من السلف الزهد أقسامًا: فمنهم من قال: أفضل الزهد الزهد في الشرك، وفي عبادة ما عبد من دون الله، ثم الزهد في الحرام كله من المعاصي، ثم الزهد في الحلال، وهو أقل أقسام الزهد، فالقسمان الأولان من هذا الزهد كلاهما واجب، والثالث ليس بواجب، فإن أعظم الواجبات الزهد في الشرك، ثم في المعاصي كلها.

(1)

مدارج السالكين (2/ 14).

(2)

الزهد لوكيع (222) ت: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار المدينة المنورة، ط 1، 1404 هـ.

(3)

ينظر: الزهد الكبير للبيهقي (80)، ت، عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، ط 3، 1996 م.

(4)

مجموع الفتاوى (10/ 615).

(5)

مدارج السالكين (2/ 12) مع تصرف يسير.

ص: 412

وكان بكر المزني يدعو لإخوانه: زهَّدَنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات، فعلم أن الله يراه فتركه

(1)

"

(2)

.

‌المسألة الثالثة عشرة: درجات الزهد:

قسم ابن القيم رحمه الله الزهد إلى: "أقسام:

زهد في الحرام، وهو فرض عين.

وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت التحقت بالواجب، وإن ضعفت كان مستحبًّا.

وزهد في الفضول، وزهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره.

وزهد في الناس.

وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله.

وزهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله، وفي كل ما شغلك عنه.

وأفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ"

(3)

.

وذكر ابن القيم رحمه الله قاعدة مهمة في معنى الزهد، فقال:"فالزهد فراغ القلب من الدنيا، لا فراغ اليدين منها"

(4)

.

وهذا كلام مهم في فهم السلف لمعنى الزهد، فالخلل أن يتعلق القلب بالدنيا ويغفل عن الآخرة، أما إذا كانت الدنيا في اليد وليست في القلب، فهذا مطلوب حتى لا يكون الإنسان عالة على غيره يتكفف أيدي الناس، وكما هو معلوم أن من الصحابة من أشتغل بالتجارة والزراعة، وغير ذلك من المكاسب، وهم سادة الزهاد

(1)

الزهد لابن أبي الدنيا (73) دار ابن كثير دمشق، ط 1، 1420 هـ.

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 185).

(3)

الفوائد (118).

(4)

عدة الصابرين (264).

ص: 413

رضي الله عنهم، ونقل ابن حجر رحمه الله أنه: "قد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته، أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهِل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» ، وقال:«لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» ، فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق.

وقال: وكان الصحابة يتَّجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم"

(1)

‌المسألة الرابعة عشرة: الزهد المنحرف عن منهج أهل السنة هو الزهد الصوفي

(2)

، وهذه إشارات لبعض مظاهره

(3)

مع الرد عليها:

‌1 - ترك الدنيا والابتعاد عنها بالكلية وعدم الاهتمام بها:

قال أبو علي الدقاق رحمه الله: "الزهد أَنْ تترك الدنيا كما هي، لا تقول: أبني رباطًا أو أعمر مسجدًا"

(4)

.

وقال أبو عثمان الحيري رحمه الله: "الزهد أن تترك الدنيا ثم لا تبالي بمن أخذها"

(5)

.

الرد على هذا:

ترك الدنيا بالكلية ليس من الزهد المشروع، فالدنيا مزرعة الآخرة، وترك الدنيا والانزواء عنها مخالف للنصوص التي سيقت في التنبيهات السابقة، وأكتفي هنا بذكر دليل واحد يبطل هذا المنهج، ففي صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ

(1)

فتح الباري (11/ 305 - 306).

(2)

ينظر تعريف الصوفية في ص (123).

(3)

ينظر: أعمال القلوب بين المتكلمين والصوفية (284 - 296).

(4)

الرسالة القشيرية (1/ 240) للقشيري، ت: د. عبد الحليم محمود، د. محمود بن الشريف، دار المعارف القاهرة.

(5)

الرسالة القشيرية (1/ 240).

ص: 414

-صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .

‌2 - الحث على الفقر والترغيب فيه:

قال بشر بن الحارث رحمه الله: "أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر"

(1)

.

وقال ذو النون

(2)

رحمه الله: "علامة سخط الله على العبد خوفه من الفقر"

(3)

.

ويقول إبراهيم بن أدهم

(4)

رحمه الله: "لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجوز ست عقبات"، وذكر منها:"والخامس: أن يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر"

(5)

.

سئل أبو يزيد البسطامي

(6)

رحمه الله: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ فقال:

(1)

الرسالة القشيرية (2/ 433).

(2)

ذو النون المصري ثوبان بن إبراهيم الزاهد العابد، شيخ الديار المصرية، أبو الفيض، ثوبان بن إبراهيم الإخميميّ، وكان حكيمًا فصيحًا زاهدًا، وهو أول من تكلم بمصر في (ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية) فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم. واتهمه المتوكل العباسي بالزندقة، فاستحضره إليه وسمع كلامه. ثم أطلقه، فعاد إلى مصر، توفي رحمه الله سنة (245 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (9/ 373)، سير أعلام النبلاء (11/ 532)، الأعلام (2/ 102).

(3)

الرسالة القشيرية (2/ 433).

(4)

إبراهيم بن أدهم بن منصور القدوة، الإمام، العارف، سيد الزهاد، أبو إسحاق العجلي وقيل: التميمي الخراساني، البلخي، نزيل الشام، قال النسائي: هو ثقة، مأمون، أحد الزهاد. توفي رحمه الله سنة (162 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 387)، البداية والنهاية (13/ 494)، الأعلام (1/ 31).

(5)

الرسالة القشيرية (1/ 217).

(6)

اسمه: طيفور بن عيسى بن آدم بن عيسى بن علي، أحد مشايخ الصوفية، وكان جده مجوسيًّا فأسلم، وقال: إذا نظرتم إلى الرجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة. وقد حكي عنه كلمات فيها شطح، الشّأن فِي صحّتها عَنْهُ، ولا تصحّ عن مسلمٍ، فضلًا عن مثل أبي يزيد، منها: سبحاني، وقوله عن نفسه: ما في الجبة إلا الله، وغيرها. ويقول الذهبي عن كلامه:"وحاشى مسلِم فاسق من قول هذا أو اعتقاده يا حيّ يا قيوم ثبِّتْنا بالقول الثّابت. وبعض العلماء يقول: هَذَا الكلام مقتضاه ضلاله، ولكن له تفسير وتأويل يخالف ظاهره، فالله أعلم". وكانت وفاته سنة (261 هـ) رحمه الله.

ينظر: البداية والنهاية (14/ 556)، تاريخ الإسلام (6/ 345).

ص: 415

"ببطن جائع وبدن عار"

(1)

.

الرد على هذا:

جاءت النصوص بالاستعاذة من الفقر والكفر، وقرن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في الاستعاذة فقال صلى الله عليه وسلم:«اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ»

(2)

.

‌3 - ترك الزواج بحجة الزهد في الدنيا:

نقل الغزالي عن الدراني رحمه الله: "من تزوج، أو سافر في طلب المعيشة، أو كتب الحديث فقد ركن إلى الدنيا"

(3)

.

ويقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: "الذي يريد الولد أحمق، لا للدنيا ولا للآخرة، إن أراد أن يأكل أو ينام أو يجامع نغص عليه، وإن أراد أن يتعبد شغله"

(4)

.

(1)

الرسالة القشيرية (1/ 57).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (34/ 17) ح (20381)، والنسائي في كتاب السهو، باب التعوذ في دبر الصلاة (3/ 73) ح (1347)، وابن حبان (3/ 303) ح (1028)، والحاكم في المستدرك (1/ 90) ح (99) وقال:"حديث صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وابن خزيمة (1/ 389) ح (747)، وقال الألباني في تمام المنة (233):"وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو كما قالا"، وكتاب تمام المنة في التعليق على فقه السنة، للألباني، دار الراية، ط 5، وقال محقق المسند (34/ 17) ح (20381):"إسناده قوي على شرط مسلم".

(3)

إحياء علوم الدين (4/ 229).

(4)

حلية الأولياء (9/ 264).

ص: 416

ويقول الداراني أيضًا: "العيال يضعفون يقين الرجل؛ إنه إذا كان وحده فجاع قنع، وإذا كان له عيال طلب لهم، وإذا جاع الطالب فقد ضعف اليقين"

(1)

.

ويكفي في الرد ما رواه أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .

‌4 - تعذيب الجسد بحجة الارتقاء بالروح حتى يصل الواحد منهم إلى مرتبة الولاية:

يقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله: "لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجوز ست عقبات:

أولها: أن يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة.

والثاني: أن يغلق باب العز ويفتح باب الذل.

والثالث: أن يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد.

والرابع: أن يغلق باب النوم ويفتح باب السهر.

والخامس: أن يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر.

والسادس: أن يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت"

(2)

.

وسئل أبو يزيد البسطامي رحمه الله: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ فقال: "ببطن جائع وبدن عار"

(3)

.

(1)

حلية الأولياء (9/ 260).

(2)

الرسالة القشيرية (1/ 217).

(3)

الرسالة القشيرية (1/ 57).

ص: 417

ويقول الجنيد رحمه الله: "ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات"

(1)

.

وفي الرد على هذا ما ورد من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة بالله من الجوع، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ؛ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»

(2)

.

فلو كان تعذيب الجسد بالجوع المجرد أمرًا مرغوبًا فيه لما تعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه بئس الضجيع، ومعنى الضجيع: من ينام في فراشك، أي: بئس الصاحب الجوع؛ لأنه يعيق عن أداء العبادة على أكمل وجه، ويشوش الدماغ، ويثير الأفكار الفاسدة والخيالات الباطلة

(3)

.

وتعذيب الجسد ليس من منهج الإسلام، بل هو من المناهج الضالة، مستقى من صوفية الهنود ورهبانية النصارى.

‌المسألة الخامسة عشرة: رد مجمل على ما ذكر من أقوال أهل التصوف في الزهد:

وإن الناظر إلى ما سبق من الأقوال ليظهر له بجلاء انحرافها عن المنهج الحق في الزهد، وأنها غلت في رهبانية لا يقرُّها الإسلام، وفيها مخالفة صريحة لنصوص الكتاب

(1)

الرسالة القشيرية (1/ 78).

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة (2/ 91) ح (1547)، والنسائي في كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الجوع (8/ 263) ح (5468)، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب التعوذ من الجوع (2/ 1113) ح (3354)، وابن حبان في صحيحه في باب الاستعاذة، ذكر ما يستحب للمرء أن يتعوذ بالله جل وعلا من الجوع والخيانة (3/ 304) ح (1029)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 155) ح (3002)، وقوى إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (2/ 646) ح (1547).

(3)

ينظر: حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 322)، دار الجيل- بيروت بدون طبعة.

ص: 418

والسنة التي مر ذكر بعضها، والمتأمل في هذه الأقوال يرى تأثرها بفلسفات صوفية الهند

(1)

، وصوفية الفرس واليونان

(2)

.

(1)

كالهندوسية والبوذية.

(2)

وتكلمت الموسوعة الميسرة عن أطوار الزهد عند الصوفية، وقسمته إلى ثلاث طبقات، ولكل طبقة سماتها ورجالها، ودونكها ملخصة:

ظهر في القرنين الثالث والرابع الهجري ثلاث طبقات من المنتسبين إلى التصوف وهي:

الطبقة الأولى: وتمثل التيار الذي اشتهر بالصدق في الزهد إلى حد الوساوس، والبعد عن الدنيا والانحراف في السلوك والعبادة على وجه يخالف ما كان عليه الصدر الأول من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بل وعن عبّاد القرن السابق له، ولكنه كان يغلب على أكثرهم الاستقامة في العقيدة، والإكثار من دعاوى التزام السنة ونهج السلف، وإن كان ورد عن بعضهم -مثل الجنيد- بعض العبارات التي عدها العلماء من الشطحات، ومن أشهر رموز هذا الطبقة: الجنيد، والداراني، وسهل التستري، والسري السقطي، ومعروف الكرخي، وأتى بعدهم ممن سار على طريقتهم مثل: أبي عبد الرحمن السلمي ..

وقد اشترطوا على من يريد السير معهم في طريقتهم أن يَخرُجَ من ماله، وأن يُقلَّ من غذائه، وأن يترك الزواج ما دام في سلوكه.

كثر الاهتمام بالوعظ والقصص مع قلة العلم والفقه والتحذير من تحصيلهما في الوقت الذي اقتدى أكثرهم بسلوكيات رهبان ونُسَّاك أهل الكتاب حيث حدث الالتقاء ببعضهم، مما زاد في البعد عن سمت الصحابة وأئمة التابعين.

الطبقة الثانية: خلطت الزهد بعبارات الباطنية، وانتقل فيها الزهد من الممارسة العملية والسلوك التطبيقي إلى مستوى التأمل التجريدي والكلام النظري، ولذلك ظهر في كلامهم مصطلحات: الوحدة، والفناء، والاتحاد، والحلول، والسكر، والصحو، والكشف، والبقاء، والمريد، والعارف، والأحوال، والمقامات، وشاع بينهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة، وتسمية أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، وسموا غيرهم من الفقهاء أهل الظاهر والرسوم مما زاد العداء بينهما، وغير ذلك مما كان غير معروف عند السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ولا عند الطبقة الأولى من المنتسبين إلى الصوفية، مما زاد في انحرافها، فكانت بحق تمثل البداية الفعلية لما صار عليه تيار التصوف حتى الآن.

ومن أشهر أعلام هذه الطبقة: أبو يزيد البسطامي ت 263 هـ، ذو النون المصري ت 245 هـ، الحلاج ت 309 هـ، أبو سعيد الخزار 277 - 286 هـ، الحكيم الترمذي ت 320 هـ، أبو بكر الشبلي 334 هـ.

الطبقة الثالثة: وفيها اختلط التصوف بالفلسفة اليونانية، وظهرت أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، على أن الموجود الحق هو الله، وما عداه فإنها صور زائفة وأوهام وخيالات موافقة لقول الفلاسفة، كما أثرت في ظهور نظريات الفيض والإشراق على يد الغزالي والسهروردي. وبذلك تعد هذه الطبقة من أخطر الطبقات والمراحل التي مر بها التصوف والتي تعدت به مرحلة البدع العملية إلى البدع العلمية التي بها يخرج التصوف عن الإسلام بالكلية.

ومن أشهر رموز هذه الطبقة: الحلاج ت 309 هـ، السهروردي 587 هـ، ابن عربي ت 638 هـ، ابن الفارض 632 هـ، ابن سبعين ت 667 هـ.

ينظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 252 - 256).

ص: 419

‌المبحث الثامن: طمأنينة القلب وقوته

ومن آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية طمأنينة قلبه وقوته، فلا تهزه عواصف الفتن، ولا تميل به رياح الشهوات، ولا يرجف به المرجفون، بل هو ثابت كالطود الأشم

(1)

، مطمئن القلب بما هو عليه من الحق، قوي شجاع لا يتزحزح عن مبادئه، يواجه الباطل بقوة الحق التي لا يقف أمامها الباطل بل يزهق، ويذهب مهزومًا حقيرًا مدحورًا، قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].

إن الباطل لا يستطيع أن يصمد أمام أهل الحق الذين اطمأنت قلوبهم بما معهم من الحق، وكانت قلوبهم قوية متعلقة بالله تعالى، فهي لا تضعف ولا يدب إليها الوهن مهما كانت قوة الباطل وصلفه.

قال تعالى عن المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم طمأنينة بما معهم من الحق وثقة في الله وقوة به: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173 - 175].

وهكذا القلوب إذا اتصلت بالله وصدقت معه، فإن الله يثبتها على الحق،

(1)

الجبل العظيم المرتفع القمة.

ينظر: الصحاح (5/ 1962) مادة (شمم)، مقاييس اللغة (3/ 430) مادة (طود).

ص: 420

ويطمئن القلب به ويقوى، ولا يفت في عضدها ولا يخيفها إرجاف الشياطين وأوليائهم، وذلك بسبب قوة الإيمان في القلوب، قال تعالى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].

وقد وصف ابن كثير رحمه الله حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما صدقوا مع الله وامتثلوا هذا الدين قولًا وفعلًا، فقال: "وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقًا وغربًا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالبة

(1)

والبربر

(2)

والحبوش

(3)

وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب"

(4)

.

(1)

الصقالبة هم جيل حمر الألوان، صهب الشعور يتاخمون بلاد الخزر، في أعالي جبال الروم. وقيل: الصقالبة بلاد بين بلغار وقسطنطينية، وصار يطلق على الموالي الذين جلبوا من بلاد البلغار والقوقاز وما حولها، وأصبحوا أحد عناصر المجتمع الأندلسي والمغاربي.

ينظر: معجم البلدان (3/ 416)، مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع (2/ 847)، الموسوعة الحرة على الشبكة.

(2)

مجموعة عرقية ثقافية يسكنون شمال أفريقيا مختلفة عن العرب، وهم السكان الأصليون للشمال الأفريقي، ولما جاء الإسلام دخلوا فيه وظهر منهم العلماء والقادة، وهم قبائل وشعوب كثيرة.

ينظر: المسالك والممالك للبكري (1/ 329)، معجم البلدان (1/ 368)، موقع إسلام ويب على الشبكة.

(3)

يطلق على سكان الحبشة.

(4)

تفسير ابن كثير (4/ 72).

ص: 421

وحقيقة الأمر أن الدعوة إلى الله تعالى إنما تؤتى من قبل أصاحبها، ويؤتى الداعية من قبل قلبه وضعف إيمانه، وطمأنينته بغير الحق الذي معه، فإذا حصل الخلل في أعمال القلوب، ضعفت طمأنينة القلب بما معه من الحق، وفي المقابل يسلط الله أهل الباطل عليه عقوبة له، وبالتالي يضعف دفاعه عن الحق بسبب ضعف قلبه، فيصير فتنة لكل مفتون، نسأل الله العافية والسلامة.

ص: 422

‌المبحث التاسع:

الرضا بما يلقاه في ذات الله تعالى

إن رضا الداعية بما يلقاه في ذات الله من أذى إنما هو ثمرة من ثمرات تحقيق أعمال القلب، الذي يثمر له الصبر على ما يلقاه في ذات الله، ويرزقه الله الرضا بما يلقاه في ذاته، فيجد لذته في قلبه، وكلما قوي عمل القلب وجد لذة فيما يلقاه في ذات الله، ودونك نموذجًا يظهر فيه ذلك، وهم سحرة فرعون، يعلنون الرضا بما يلقونه في ذات الله، عندما توعدهم فرعون بالعقوبة التي ظن أنها سترهبهم، وتعيدهم إلى ما كانوا عليه من الطاعة والتقرب له، ولكن القوم ذاقوا حلاوة الإيمان، وعرفوا مرارة الكفر والعصيان، فأصبحوا يجدون لذة فيما يصيبهم في ذات الله، وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، يثبت صاحبه على الحق ثبات الجبال الراسخات، فلا تهزه العواصف، ولا يتزحزح عن الحق الذي معه مهما كانت قوة الباطل وصلفه.

ولنعش مع أحداث هذه القصة كما يذكرها ربنا سبحانه وتعالى في أكثر من سياق، فيقول تعالى:{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 43 - 51].

وقال تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ

ص: 423

خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 65 - 76].

وهذا نموذج آخر على الرضا بما يلقاه في ذات الله: فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ

(1)

سَرِيَّةً عَيْنًا

(2)

، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالهَدَأَةِ

(3)

-وَهُوَ

(1)

الرهط في اللغة: يطلق على المجموعة من الثلاثة إلى العشرة.

ينظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 450) مادة (رهط).

(2)

السرية قطعة من الجيش أكثرها أربعمائة، وسموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، مِنْ الشيء السَّرِيِّ النَّفِيس، وقيل: أصلها من السرى لأنها تخرج في الليل حتى لا يعلم بها أحد.

ينظر: غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 227)، ت: عبد الله الجبوري، مطبعة العاني بغداد، ط 1، 1397 هـ، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 363). مادة (سرى)، والمقصود من إرسال هذه السرية تتبع أخبار العدو.

(3)

ويسمى أيضًا بالْهَدَّة، وهو الموقع الذي حصلت فيه مقتلة الصحابة وهو أسفل الهدة ويسمى الرجيع، وهو ماء يعرف باسم «الْوَطِيَّةِ» ، يقع شمال مكة على مسافة سبعين كلم، ويقع في شرق عسفان يسار الخارج من عسفان إلى مكة، وتسمى المنطقة كلها اليوم بهدى الشام.

ينظر: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة (125) لمحمد بن محمد حسن شُراب، دار القلم الشامية بيروت، دمشق، ط 1، 1411 هـ، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (138)، معجم معالم الحجاز (1825) لعاتق البلادي، دار مكة للنشر والتوزيع مكة المكرمة، ط 2، 1431 هـ.

ص: 424

بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ

(1)

وَأَحَاطَ بِهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ، وَلَا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أَنْزِلُ اليَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالعَهْدِ وَالمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ دَثِنَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ

(2)

فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الغَدْرِ، وَاللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ؛ إِنَّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةً، يُرِيدُ القَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟! مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي

(1)

الفدفد: المكان المرتفع فيه صلابة.

ينظر: تهذيب اللغة (14/ 53) مادة: (فد).

(2)

القسي جمع قوس، وهي آلة رمي النبال.

ينظر: لسان العرب (6/ 185) مادة (قوس)، وينظر أيضاً: غريب الحديث للخطابي (3/ 233)، ت: عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، خرج أحاديثه: عبد القيوم عبد رب النبي، دار الفكر - دمشق، 1402 هـ ..

ص: 425

يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الحِلِّ قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا.

مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ

يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

فَقَتَلَهُ ابْنُ الحَارِثِ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا

(1)

، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ، وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ

(2)

، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا

(3)

.

(1)

القتل صبرًا: كل من قتل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنه مقتول صبرًا.

ينظر: عون المعبود وحاشية ابن القيم (7/ 251).

(2)

أي: مثل السحابة من الزنابير، وقيل: هي ذكور النحل.

ينظر: فتح الباري لابن حجر (7/ 384).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل (4/ 67) ح (3045).

ص: 426

‌المبحث العاشر:

المسارعة في فعل القربات

ومن أثر أعمال القلوب على الداعية في نفسه: مسارعته ومسابقته إلى أسباب رضوان الله، مجتهدًا في إقامة الفرائض، حريصًا على التقرب إلى الله بكثرة النوافل.

قال تعالى في وصف عباده الصالحين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

وقال تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» الحديث.

والمسارعة إلى الطاعات والإكثار من فعل القربات له أثره على الداعية في نفسه مما يعينه على تحمل أعباء الدعوة وتكاليفها الثقيلة؛ ولهذا وجه الله نبيه لقيام الليل؛ ليتمكن من حمل ما سيلقى عليه من القول الثقيل، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 1 - 5].

ص: 427

وقد سبق الكلام على أثر العبادات في صلاح القلب

(1)

.

(1)

ينظر: ص (160).

ص: 428

المبحث الحادي عشر:

الثبات

المطلب الأول: يثبته الله أمام الابتلاء والفتن التي تواجهه في حياته، وفي دعوته.

المطلب الثاني: يثبته الله على المنهج الحق في دعوته إلى الله تعالى، ويحميه من الانحراف عنه.

المطلب الثالث: يثبته الله عند الموت وفي القبر.

ص: 429

‌المبحث الحادي عشر: الثبات

‌توطئة:

ومن الآثار العظيمة لتحقيق عمل القلب على الداعية أن الله يثبته في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]

قال السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها.

وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح، إذا قيل للميت: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي. {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} عن الصواب في الدنيا والآخرة، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم"

(1)

.

وقال رحمه الله في موطن آخر: "وأصل الثبات: ثبات القلب وصبره، ويقينه عند ورود كل فتنة، فقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي

(1)

تفسير السعدي (425).

ص: 430

الْآخِرَةِ}، فأهل الإيمان أهدى الناس قلوبًا، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات، وذلك لما معهم من الإيمان"

(1)

.

فيكون هذا الثبات في عدة أمور، يتم الحديث عنها وفق المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: يثبته الله أمام الابتلاء والفتن التي تواجهه في حياته، وفي دعوته.

المطلب الثاني: يثبته الله على المنهج الحق في دعوته إلى الله تعالى، ويحميه من الانحراف عنه.

المطلب الثالث: يثبته الله عند الموت وفي القبر.

المطلب الأول: يثبته الله أمام الابتلاء والفتن التي تواجهه في حياته، وفي دعوته:

قال تعالى في بيان أن الفتنة لكل مؤمن أمر لا بد منه، والدعاة منهم:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3].

ولكن قد يصيب الدعاة إلى الله من الفتنة والبلاء أكثر من غيرهم، بحسب صلابة دينهم، ولكونهم ورثة الأنبياء في هذا العمل العظيم، عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ:«الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ»

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (867).

(2)

أخرجه أحمد (3/ 78) ح (1481)، والترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4/ 601) ح (2398) وقال:"حسن صحيح"، وابن ماجه واللفظ له في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (2/ 1334) ح (4023)، وابن حبان في صحيحه في كتاب الجنائز، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من توطين النفس على تحمل ما يستقبلها من المحن والمصائب (7/ 161) ح (2901)، والحاكم في المستدرك في كتاب الإيمان (1/ 99) ح (120) وصححه وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 329) ح (3402)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 152) ح (4023).

ص: 431

ولكن الله لا يتخلى عن عبده المؤمن في وقت الشدائد والفتن، فيعطيه من أسباب الثبات بقدر ما معه من الإيمان والعمل الصالح كما سبق.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «تَعَرَّفْ إِلَي الله فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ»

(1)

.

وكذلك ابتلاء الله لعبده يدل على محبته له، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ»

(2)

.

وأصل البلاء: الاختبار

(3)

، ويكون بالخير والشر كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

(1)

أخرجه أحمد في المسند (5/ 19) ح (2802)، والمعجم الكبير للطبراني (11/ 223) ح (11560) وهذا لفظه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 569) ح (2961)، وقال الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (5/ 19):"حديث صحيح".

(2)

أخرجه أحمد في المسند (39/ 35) ح (23623) عن محمود بن لبيد، وعن أنس عند الترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4/ 601) ح (2396) وقال:"هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وابن ماجه واللفظ له في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (2/ 1338) ح (4031)، وذكره في مجمع الزوائد بلفظ مقارب في كتاب الجنائز، باب شدة البلاء، وقال (2/ 291) ح (3736):"رواه أحمد، ورجاله ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 424) ح (2110)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (39/ 35) ح (23623):"إسناده جيد".

(3)

ينظر: الصحاح (6/ 3285) مادة (بلا)، معجم مقاييس اللغة (1/ 293) مادة (بلوى)، تفسير ابن كثير (1/ 259).

ص: 432

ومن‌

‌ عوامل الثبات في الابتلاء

(1)

:

‌1 - الإيمان بالقضاء والقدر:

والإيمان بالقضاء والقدر هو أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ومر الكلام عليه في مبحث سابق

(2)

.

قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23].

وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].

نقل الطبري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} : "يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه"

(3)

.

‌2 - الشعور بمعية الله الخاصة تحف به من كل جانب:

وهذه إضافة إلى ما سبق عن شيخ الإسلام رحمه الله ذكرها الإمام الذهبي -رحمة الله على الجميع- في ثبات شيخ الإسلام على هذا المنهج الحق، وهنا يظهر والله أعلم أثر هذا الشعور العظيم، فقال عنه: "ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون

(1)

ينظر: الثبات على دين الله (335 - 359).

(2)

ينظر: ص (148).

(3)

تفسير الطبري (23/ 421).

ص: 433

والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكاتبوه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر منه من الورع، وكمال الفكر، وسعة الإدراك، والخوف من الله العظيم، والتعظيم لحرمات الله، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله تعالى، فإنه دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل ثابت الجأش

(1)

"

(2)

، وبقي على هذا المنهج صابرًا على الشدائد، محتملًا لها، ثابتًا على الحق، إلى أن توفاه الله رحمه الله رحمة واسعة

(3)

.

‌3 - الصبر وملاحظة حسن الجزاء:

إن مما يعين المؤمن على الثبات: الصبر، وملاحظته للثواب العظيم المترتب على الصبر، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].

وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]

وقال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12]

(1)

أي: قوي شجاع لا تضطرب نفسه عند الفزع من شجاعته.

ينظر: الصحاح (3/ 997)، لسان العرب (6/ 269) مادة (جأش).

(2)

الرد الوافر (34)، ونقل بن حجر في الدرر الكامنة (1/ 185) عن شيخ الإسلام قريبًا من هذا الكلام عن الذهبي، فقال: "وقال الذهبي مترجمًا له في بعض الإجازات

".

(3)

ينظر: الأعلام العلية (75).

ص: 434

وقال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96].

‌4 - التعامل مع البلاء بما يناسبه:

ويكون ذلك بالصبر عند الضراء، والشكر عند السراء، كما قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»

(1)

.

‌5 - الدعاء:

ومما يدفع البلاء ويعين على الثبات الدعاء، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ» الحديث، وقد سبق الكلام عنه

(2)

.

‌6 - البعد عن أسباب عدم الرضا:

إن مما يعين على الثبات على الابتلاء: البعد عما يدل على عدم الرضا من الشكوى إلى المخلوق، أما إلى الله فهي المطلوبة كما تعالى عن يعقوب عليه السلام:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86].

ومما ينبغي الحذر منه، ويدل على عدم الرضا: الجزع والتسخط على القضاء والقدر، وكما في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (4/ 2295) ح (2999).

(2)

ينظر: ص (177).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ليس منا من شق الجيوب (2/ 81) ح (1294)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية (1/ 99) ح (103).

ص: 435

قَالَ صلى الله عليه وسلم:» أَلَا تَسْمَعُونَ؟! إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ» الحديث

(1)

.

‌المطلب الثاني: يثبته الله على المنهج الحق في دعوته إلى الله تعالى، ويحميه من الانحراف عنه:

ولنأخذ مثالًا على أهم ما ينبغي على الداعية أن يحرص عليه، وهو منهج أهل السنة والجماعة في إثبات قضايا العقيدة:

ولا شك أن من أعظم ما ينبغي أن يعتنيَ به الداعية في دعوته للناس حرصَه على منهج السلف في إثبات قضايا المعتقد، والثبات على ذلك، مع كثرة المناهج التي انحرفت عنه، وحاربته وتسعى إلى إضعافه، وجر الناس إلى مناهج منحرفة على أنها هي المنهج الحق.

أقول: الثبات على المنهج الحق منهجِ أهل السنة والجماعة توفيقٌ من الله لعبده الداعية، واصطفاء وهداية، قال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

وقال تعالى عن منهج الأنبياء: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأنعام: 87، 88].

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض (2/ 84) ح (1304)، ومسلم في كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت (2/ 636) ح (924).

ص: 436

وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

وسأقتصر على أبرز القواعد الكبرى التي يتميز بها هذا المنهج العظيم

(1)

وفق المسائل الآتية:

‌المسألة الأولى: الاعتصام بالكتاب والسنة والرجوع والاحتكام إليهما في صغير الأمر وكبيره، والاقتصار في مصدر التلقي عليهما،

وذلك يقوم على الأمور الآتية:

1 -

الاعتقاد الجازم أنه لا يتحقق رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجنته والنجاة من عذابه إلا بالإيمان بهما والعمل بما جاءا به، وما يترتب على هذا من وجوب أن يعيش المسلم حياته كلها اعتقادًا وعملًا وسلوكًا، مستمسكًا ومعتصمًا بهما، لا يزيغ عنهما ولا يتعدى حدودهما.

ومن مستلزمات هذا أن يتحاكم إليهما عند التنازع والاختلاف، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

(1)

ينظر أصول هذا المنهج وقواعده في كتاب: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 51 - 71)، وموقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة (61 - 73)، ومما هو معلوم لدى الباحثين أن الذي قرر هذه القواعد، وانتصر لها في كتبه مع حشد الأدلة، هما الإمامان ابن تيمية وابن القيم في كتبهم المختلفة.

ص: 437

ولقد تربى الصحابة على ذلك، فعاشوا لا يلتفتون إلى غير الكتاب والسنة، وهكذا تربى أتباعهم على منهجهم.

2 -

الاعتقاد الجازم بكمال الدين، يقول تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، ويقول أيضًا:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

يقول ابن تيمية بعد ذكره لهذه الآيات وغيرها: "ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل"

(1)

.

3 -

التعظيم لنصوص الشرع والتسليم لها، والحذر من مخالفتها.

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ

(1)

درء تعارض العقل والنقل (10/ 304)، لابن تيمية، ت: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، ط 2، 1411 هـ.

ص: 438

يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51، 52].

وقال تعالى محذرًا من حال أصحاب القلوب المنكوسة: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 21 - 25].

وقال تعالى في التحذير من مخالفة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وعدم تعظيمه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

ويقول صلى الله عليه وسلم: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ:«اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 890) ح (1218).

(2)

أخرجه الحاكم (1/ 172) ح (319)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 566) ح (2937).

ص: 439

قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» .

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، فلا يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول أحد مهما كانت مكانته، كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! "

(1)

.

ونقل ابن بطة عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: "نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعًا"، ثم جعل يتلو:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وجعل يكررها، ويقول:"وما الفتنة؟ الشرك، لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ فيهلكه"، وجعل يتلو هذه الآية:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]

(2)

.

ويقول الإمام ابن بطة رحمه الله: "فإذا سمع أحدكم حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه العلماء، واحتج به الأئمة العقلاء، فلا يعارضه برأيه، وهوى نفسه، فيصيبه ما توعده

(1)

أخرجه أحمد في المسند بنحوه (5/ 228) برقم (3121)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1210) رقم (2378) لابن عبد البر، ت: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي السعودية، ط 1، 1414 هـ، والفقيه والمتفقه (1/ 377) للخطيب البغدادي، ت: أبي عبد الرحمن عادل الغرازي، دار ابن الجوزي، ط 2، 1421 هـ، وذكره بهذا اللفظ شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (20/ 215).

(2)

الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 261).

ص: 440

الله عز وجل به، فإنه قال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وهل تدري ما الفتنة هاهنا؟ هي والله الشرك بالله العظيم، والكفر بعد الإيمان، فإن الله عز وجل قال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، يقول: حتى لا يكون شرك؛ فإنه قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، يقول: الشرك بالله أشد من قتلكم لهم، ثم قال عز وجل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. أعاذنا الله وإياكم من هذه الأهوال، ووفقنا وإياكم لصالح الأعمال"

(1)

.

4 -

الأدب مع نصوص الكتاب والسنة، وذلك بأن تُراعى ألفاظهما عند بيان العقيدة، وأن لا تستخدم الألفاظ والمصطلحات الموهمة غير الشرعية.

ونقل شيخ الإسلام رحمه الله عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: "لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث"

(2)

.

‌المسألة الثانية: وجوب تقديم الشرع على العقل عند توهم التعارض،

وإلا ففي الحقيقة والواقع لا يمكن أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح، ولقد كان تقديم ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما في غيرهما من معقول أو غيره يعارضها من مسلمات منهج السلف رحمهم الله تعالى.

(1)

الإبانة الكبرى (1/ 267).

(2)

الفتوى الحموية الكبرى (265) لابن تيمية، ت: د. حمد التويجري، دار الصميعي الرياض، ط 2، 1425 هـ.

ص: 441

‌المسألة الثالثة: حجية السنة في العقيدة ومن ذلك خبر الآحاد،

وهذه من القواعد الكبرى في منهج السلف رحمهم الله، تميزوا بها عن كثير من أهل الأهواء والبدع، وما عني أهل السنة بجمع السنة والكلام في متونها وأسانيدها، ونشأة هذا العلم الذي تميزت به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، وبذلوا في سبيل ذلك جهودًا منقطعة النظير، كل ذلك إنما كان منهم حفاظًا على المصدر الثاني الذي هو وحي يوحى من الله تعالى، ولم يميزوا بين الأحاديث المتعلقة بالأحكام والأحاديث المتعلقة بالعقائد.

‌المسألة الرابعة: أن الصحابة أعلم الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالعقيدة

؛ لذلك فأقوالهم وتفاسيرهم للنصوص حجة؛ لأنهم رضي الله عنهم قد اكتمل فيهم الفهم والمعرفة لأصول الدين التي دل عليها كتاب الله المنزل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والصحابة تميزوا في العقيدة وفهمها بعدة ميزات، أهمها:

أ) أنهم شاهدوا التنزيل، وعاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلقى هذا الوحي من ربه الذي ينزل عليه مفرقًا حسب الوقائع والأحداث، فعاصروها جميعًا، واحدة فواحدة، فكيف لا يكونون وهم كذلك أعلم الناس بالتنزيل وأسباب نزوله إن كانت له أسباب، وأعلم الناس بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؟!

وقال ابن القيم رحمه الله عن مكانة ما يراه الصحابة رضوان الله عليهم: "وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرًا من رأينا لأنفسنا، وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمة وعلمًا ومعرفة وفهمًا عن الله ورسوله ونصيحة للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضًّا طريًّا لم يَشُبْهُ إشكال، ولم يَشُبْهُ خلاف، ولم تدنسه معارضة؟! "

(1)

.

(1)

إعلام الموقعين (1/ 64 - 65).

ص: 442

ب) من المعلوم أن حواري الرسل وصحابتهم الذين اتبعوهم وآمنوا بهم هم أكثر الناس فهمًا لرسالتهم وما يتعلق بها من أحكام، سواء في العقيدة أو الشريعة؛ فهم العارفون بدقائقها المدركون لحقائقها، وهم أكمل الناس علمًا وعملًا، ولا يكون من بعدهم أكمل منهم في شيء من ذلك.

ج) لم يكن بين الصحابة خلاف في العقيدة، فهم متفقون في أمور العقائد التي تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح وبيان، وهذا بخلاف مسائل الأحكام الفرعية القابلة للاجتهاد والاختلاف.

د) كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشكل عليهم، وهذا أمر مشهور عنهم رضي الله عنهم.

‌المسألة الخامسة: الأخذ بظواهر النصوص:

ويعتقد أهل السنة أن الله خاطبنا بما نفهم، وأراد منا اعتقاد ظاهر النصوص على الوجه الذي يليق بجلاله، فنصوص الصفات مثلًا تجرى على ظاهرها بلا كيف كما تضافرت على ذلك عبارات السلف، فيثبتون له الصفات الواردة بلا تمثيل؛ لأنه كما قال عن نفسه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فلو كان ظاهر النصوص غير مراد لما خاطبنا بها ربنا سبحانه وتعالى، ولما أمرنا بتدبر كتابه، كما قال سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]

(1)

.

‌المسألة السادسة: الحذر من البدع ومن مسالك أهلها،

ومن ذلك الحذر من الخوض في مسالك علم الكلام، ومجالسة أهل الأهواء أو السماع لهم، وللسلف منهج واضح في التحذير من أهل الأهواء، ومن ذلك:

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى

(1)

ينظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة (72 - 73).

ص: 443

أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ»

(1)

، ولذا كان من منهج السلف رحمهم الله الحذر من مجالسة أهل البدع والأهواء والتحذير من ذلك أشد التحذير؛ لأن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة، من تعرض لها تعلقت بقلبه وأفسدته.

وهذه المجالسة في زمننا لا يلزم منها حضور مجالسهم أو قراءة كتبهم؛ لأن مفهوم المجالسة تغير في زمننا بسبب ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة نتاجهم الفكري الموجود على شبكة الإنترنت، أو المتابعة التي تتم من خلال البث الفضائي.

فيستطيع الواحد في هذا الزمن أن يجالس أهل البدع والأهواء ويرى ويسمع دروسهم وخطبهم ومحاضرتهم ويقرأ كتبهم وهو في بيته، وبينه وبينهم المسافات الشاسعة، وأضف إلى هذا ضعف العلم الشرعي وضعف التمسك بالدين عند المتلقي، وقدرة أصحاب الباطل على المحاجة وتلبيس الحق بالباطل؛ ولذا كان الخطر عظيمًا والخطب جليلًا، وحينها نعرف لماذا يحذر السلف من مجالسة أهل الأهواء، ويحرصون على عدم سماع كلامهم مع قوتهم العلمية، وتمكن الدين من قلوبهم، وقدرتهم على المحاجة والمجادلة، إلا أن السلامة لا يعدلها شيء، والقلوب ضعيفة، والشبه خطافة، والشياطين حاضرة تمد أصحابها بزخرف القول الذي قال الله عنه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].

قال إبراهيم النخعي رحمه الله: "لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم تذهب بنور

(1)

أخرجه أحمد في المسند (1/ 289) ح (143)، وابن حبان في صحيحه في كتاب العلم، ذكر ما كان يتخوف صلى الله عليه وسلم على أمته جدال المنافق (1/ 281)، ح (80)، وقال في مجمع الزوائد في كتاب العلم، باب .. (1/ 187) ح (886):"رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورجاله موثقون"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 107) ح (239)، وقال محقق مسند أحمد (1/ 289):"سنده قوي".

ص: 444

الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البِغْضَة في قلوب المؤمنين"

(1)

.

وذكر الذهبي رحمه الله: "عن سفيان الثوري عليه رحمة الله: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه.

وعنه: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم.

قلت: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة"

(2)

.

ومعنى كلام الإمام الذهبي رحمه الله: أن السلف يحذرون من سماع كلام أهل البدع؛ لأن القلوب ضعيفة سريعة التأثر بما تسمع، والشبه تخطف القلوب، وتميل بها عن طريق الهدى، ويزينها الشيطان فتزل القدم بعد ثبوتها.

وذكر العلماء رحمهم الله

(3)

آثارًا عن السلف في التحذير من مجالسة أهل الأهواء لخطورتها على القلوب، ومن ذلك: "قال أبو قلابة

(4)

رحمه الله: لا تجالسوا أهل الأهواء -أو قال: أصحاب الخصومات-؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.

ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين

(5)

، فقالا: يا أبا بكر،

(1)

الإبانة الكبرى (2/ 439).

والبِغْضَة أي: لا تحبه قلوب المؤمنين. ينظر: الصحاح (3/ 1066 - 1067) مادة (بغض).

(2)

سير أعلام النبلاء (7/ 261).

(3)

ينظر: الشريعة (1/ 435 - 440)، الإبانة الكبرى (5/ 2544 - 2546)، شرح أصول أعتقاد أهل السنة (1/ 101، 150 - 151).

(4)

الإمام، شيخ الإسلام، عبد الله بن زيد أبو قلابة الجرمي البصري، ثقة كثير الحديث، توفي رحمه الله سنة (104 هـ)، وقيل: سنة (105 هـ)، وقيل غير ذلك، والله أعلم.

ينظر: الطبقات الكبرى (7/ 183)، سير أعلام النبلاء (4/ 468)، الأعلام (4/ 88).

(5)

الإمام، شيخ الإسلام محمد بن سيرين أبو بكر البصري مولى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أشعث: كان ابن سيرين إذا سئل عن الحلال والحرام، تغير لونه حتى تقول: كأنه ليس بالذي كان، توفي رحمه الله سنة (110 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (3/ 283)، سير أعلام النبلاء (4/ 606)، الأعلام (6/ 154).

ص: 445

نحدثك بحديث؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا، لتقومان عني، أو لأقومنَّهْ، فقاما. فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما عليك أن يقرأ عليك آية؟!

وقال: خشيت أن يقرآ آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي.

وقال رجل من أهل البدع لأيوب: يا أبا بكر، أسألك عن كلمة؟ فولى، وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة.

وقال ابن طاووس لابن له يكلمه رجل من أهل البدع: يا بني، أدخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع ما يقول، ثم قال: اشدد اشدد.

وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل.

وكان الحسن يقول: شر داء خالط قلبًا -يعني: الأهواء-.

وقال حذيفة: اتقوا الله، وخذوا طريق من كان قبلكم، والله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا -أو قال: مبينًا-"

(1)

.

قال رجل لابن سيرين: "إن فلانًا يريد أن يأتيك، ولا يتكلم بشيء، قال: قل لفلان: لا، ما يأتيني، فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه كلمة، فلا يرجع قلبي إلى ما كان"

(2)

.

ويروي الآجري بسنده عن مهدي بن ميمون

(3)

قال: "سمعت محمدًا -يعني ابن

(1)

كل هذه الآثار عن السلف ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/ 285).

(2)

الإبانة الكبرى (2/ 446).

(3)

مهدي بن ميمون أبو يحيى الكردي الأزدي البصري الإمام، الحافظ، الثقة، أحد الأثبات المعمرين، توفي رحمه الله سنة (172 هـ).

ينظر: الطبقات الكبرى (7/ 280)، سير أعلام النبلاء (8/ 10)، الأعلام (7/ 314).

ص: 446

سيرين- وماراه رجل في شيء، فقال محمد: إني أعلم ما تريد، وأنا أعلم بالمراء منك، ولكني لا أماريك"

(1)

.

وقال الآجري رحمه الله أيضًا في وصاياه القيمة: "ألم تسمع -رحمك الله- إلى ما تقدم ذكرنا له من قول أبي قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم؟! أوَلم تسمع إلى قول الحسن وقد سأله عن مسألة فقال: ألا تناظرني في الدين؟! فقال له الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أنت أضللت دينك فالتمسه؟! أوَلم تسمع إلى قول عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل؟! "

(2)

.

وقال أيضًا معلقًا على تلك الأخبار السابقة من أقوال الأئمة في النهي عن مجالسة أهل الأهواء: "فمن اقتدى بهؤلاء الأئمة سلم له دينه إن شاء الله تعالى، فإن قال قائل: فإن اضطرني في الأمر وقتًا من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الحجة عليهم، ألا أناظرهم؟ قيل له: الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدًّا من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختيارًا، فأثبت الله تعالى الحق مع أحمد بن حنبل ومن كان على طريقته، وأذل الله تعالى المعتزلة وفضحهم، وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد ومن تابعه إلى يوم القيامة، أرجو أن يعيذ الله الكريم أهل العلم من أهل السنة والجماعة من محنة تكون أبدًا"

(3)

.

(1)

الشريعة للآجري (1/ 453).

(2)

الشريعة للآجري (1/ 453).

(3)

الشريعة للآجري (1/ 453).

ص: 447

وقال رحمه الله إضافة إلى ما سبق: "وبعد هذا نأمر بحفظ السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، وقول أئمة المسلمين مثل مالك بن أنس، والأوزاعي

(1)

، وسفيان الثوري، وابن المبارك وأمثالهم، والشافعي رضي الله عنه وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام

(2)

، ومن كان على طريقة هؤلاء من العلماء، وينبذ من سواهم، ولا نناظر، ولا نجادل ولا نخاصم، وإذا لقي صاحب بدعة في طريق أخذ في غيره، وإن حضر مجلسًا هو فيه قام عنه، هكذا أدبنا من مضى من سلفنا"

(3)

.

‌المسألة السابعة: لم يكونوا يتلقَّون النصوص ومعهم أصول عقلية يحاكمون النصوص إليها،

كما فعل الفلاسفة والمعتزلة وأهل الكلام الذين وضعوا أصولًا عقلية، ثم لما جاءوا إلى القرآن والسنة وما فيهما من دلالات في الاعتقاد، نظروا فما وجدوه موافقًا لتلك الأصول العقلية أخذوا به، وما وجدوه مخالفًا لشيء منها أولوه أو أنكروا الاحتجاج به.

‌المسألة الثامنة: الرجوع إلى النصوص الواردة في مسألة معينة، وعدم الاقتصار على بعضها دون البعض الآخر،

وهذا ناشئ من أنهم لا يفرِّقون بين النصوص، وليس لديهم أصول عقلية متقررة سلفًا عندهم، ليأخذوا من النصوص ما وافقها ويدعوا ما خالفها، كما وقع فيه أهل الأهواء كلهم.

(1)

شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام وإمامهم في الفقه والزهد عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمَدَ أبو عمرو الأوزاعي، وكان إمام زمانه، توفي رحمه الله سنة (157 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 107)، البداية والنهاية (13/ 443)، الأعلام (3/ 320).

(2)

القاسم بن سلام بن عبد الله، الإمام المجتهد، أحد أئمة الإسلام، فقهًا، ولغة، وأدبًا، وفضائله جمة، صاحب التصانيف المشهورة، والعلوم المذكورة، وله من المصنفات: الأموال، والناسخ والمنسوخ، وغريب الحديث، وغيرها. توفي سنة (242 هـ) عليه رحمة الله.

ينظر: تاريخ بغداد (14/ 392)، سير أعلام النبلاء (10/ 490)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 67).

(3)

الشريعة للآجري (1/ 453).

ص: 448

‌المطلب الثالث: يثبته الله عند الموت وفي القبر:

من صدق مع الله وحقق أعمال القلب، وصلحت سريرته، وآمن حق الإيمان، فإن الله يوفقه لحسن الخاتمة، فيثبته عند الموت لينطق بكلمة التوحيد، ويثبته عند سؤال الملكين، كما قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

قال البغوي رحمه الله: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني قبل الموت، {وَفِي الْآخِرَةِ} يعني في القبر. هذا قول أكثر أهل التفسير.

وقيل: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} عند السؤال في القبر، {وَفِي الْآخِرَةِ} عند البعث.

والأول أصح"

(1)

.

أي: يثبت الله عبده المؤمن الذي حقق إيمانه باطنًا وظاهرًا؛ ليقول كلمة التوحيد عند موته، ويثبته الله في قبره؛ لينطق الإجابة الصحيحة على أسئلة الملائكة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن الرجل الذي بعث فيكم؟ فيثبته الله بالقول الثابت، كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ

(1)

تفسير البغوي (4/ 349).

ص: 449

كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عليه السلام، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ». قَالَ:«فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» . قَالَ: «فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ -يَعْنِي بِهَا- عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى» . قَالَ: «فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ» . قَالَ: «فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ» . قَالَ: «وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِ» الحديث

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (30/ 499) ح (18534)، والحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان (1/ 93) ح (107) وصححه ووافقه الذهبي، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الجنائز، باب السؤال في القبر (3/ 50) ح (4267):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 344) ح (1676)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (30/ 503) ح (18534):"إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح".

ص: 450

‌المبحث الثاني عشر: الفوز والنجاة في الآخرة

ومن أعظم آثار تحقيق أعمال القلوب: الفوز العظيم في الآخرة بالجنة والنجاة من النار.

قال تعالى وهو يذكر أسباب فوزهم وعلى رأسها أعمال القلوب: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 88 - 90].

وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 31 - 35].

وقال تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 40 - 49].

وغير ذلك من الآيات التي تبين أن أعمال القلوب من أسباب الفوز العظيم بجنات النعيم، وهذا الفوز وصفه الله بالعظيم والكبير والمبين، فقال سبحانه وتعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].

ص: 451

وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية: 30].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11].

ولا شك أن الداعية إلى الله تعالى الذي حقق الإيمان وعمل الصالحات، وجاهد نفسه في تحقيق عمل القلب، ودعا إلى الله على بصيرة، أنه على رأس الفائزين بهذا الفوز العظيم كما أخبر تعالى عن ذلك، فقال سبحانه وتعالى عمن يدعون إلى سبيله، وعن مكانتهم العظيمة عنده سبحانه وتعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

وقال عنهم وهم يدعون إلى الله من ضل إلى الهدى، ويدعونه سبحانه وتعالى أن يغفر لهم تقصيرهم، وقد صبروا على سخرية الساخرين وضحكهم منهم، فكانت العاقبة لهم لما صبروا على دعوة الناس، وصبروا على أذيتهم لهم، فأعقبهم ذلك بأن منّ الله عليهم بهذا الفوز العظيم، فقال تعالى عن أعداء دينه، وهم صرفوا جل وقتهم للسخرية والاستهزاء من المؤمنين، إلى درجة أنهم انشغلوا بالسخرية من المؤمنين عن ذكر الله:{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109 - 111]. ولا شك أن أكثر من يتعرض إلى السخرية والأذى من المؤمنين هم الدعاة إلى الله تعالى.

والبشارات تتوالى على المؤمن الذي عمل الصالحات، وحقق أعمال القلوب بهذا الفوز في الدنيا والآخرة، فقال تعالى:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 64].

ص: 452

وبشارة الدنيا تشمل: الثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به، وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق، وبشارة الآخرة تكون بالجنة عند موته، وفي قبره، وفي يوم القيامة

(1)

.

وقال تعالى عنهم عند الموت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].

يخبر تعالى عن أوليائه الذين قالوا: ربنا الله، أي: صدقوا وآمنوا ورضوا بالله ربًّا قولًا وعملًا، واستسلموا وانقادوا لأمره، واستقاموا على الصراط المستقيم علمًا وعملًا، وأخلصوا دينهم لله، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم، حتى جاءهم الموت وهم على ذلك، فعند الموت تتنزل عليهم الملائكة قائلة لهم:{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمر الآخرة، فإنكم قادمون على ربكم الرحيم، ولا تحزنوا على من بعدكم أي: على ما خلفتموه من أمر الدنيا، من ولد وأهل، ومال أو دَيْنٍ، فإنا نخلفكم فيه، وتبشرهم الملائكة بالجنة، فلا تسل عن فرحتهم وعظيم سرورهم بهذه البشارة العظيم وهذا الفوز العظيم، ثم تقول لهم الملائكة:{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} ، وأي سعادة وفرحة غامرة يشعرون بها وهم يسمعون هذه الكلمات تصافح

(1)

ينظر: تفسير السعدي (368).

ص: 453

أسماعهم من الملائكة وهم يقولون لهم: نحن كنا أولياءكم، أي: قرناءكم في الحياة الدنيا، نسددكم ونوفقكم، ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم؟!

(1)

.

وقال تعالى عن حالهم في عرصات القيامة في مواقف عظيمة تنخلع منها القلوب، وهم يضحكون ويستبشرون، وقد ظهر على وجوههم الفرح والبشر وإشراق الوجه من شدة فرحتهم في ذلك الموقف العظيم، فقال تعالى:{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 33 - 39].

قال البغوي رحمه الله: "ثم ذكر القيامة فقال: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} يعني صيحة القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أي: تبالغ في الأسماع حتى تكاد تصمها. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه .. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} يشغله عن شأن غيره .. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} مشرقة مضيئة. {ضَاحِكَةٌ} بالسرور {مُسْتَبْشِرَةٌ} فرحة بما نالت من كرامة الله عز وجل "

(2)

.

وقال تعالى عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 175 - 177)، وتفسير السعدي (748).

(2)

تفسير البغوي (8/ 339 - 340).

ص: 454

(102)

لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 101 - 103].

قال السعدي رحمه الله: "في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} أي: سبقت لهم سابقة السعادة في علم الله، وفي اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والأعمال الصالحة.

{أُولَئِكَ عَنْهَا} أي: عن النار {مُبْعَدُونَ} فلا يدخلونها، ولا يكونون قريبًا منها، بل يبعدون عنها غاية البعد، حتى لا يسمعوا حسيسها، ولا يروا شخصها. {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} من المآكل والمشارب والمناكح والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مستمر لهم ذلك، يزداد حسنه على الأحقاب.

{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} أي: لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع، وذلك يوم القيامة، حين تقرب النار، تتغيظ على الكافرين والعاصين، فيفزع الناس لذلك الأمر وهؤلاء لا يحزنهم؛ لعلمهم بما يقدمون عليه وأن الله قد أمنهم مما يخافون.

{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} إذا بعثوا من قبورهم، وأتوا على النجائب وفدا لنشورهم، مهنئين لهم قائلين:{هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فليهنكم ما وعدكم الله، وليعظم استبشاركم، بما أمامكم من الكرامة، وليكثر فرحكم وسروركم، بما أمنكم الله من المخاوف والمكاره"

(1)

.

ويقول الله لهم في يوم القيامة يوم توزع عليهم الأنوار التي تضيء طريقهم على الصراط إلى الجنة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

(1)

تفسير السعدي (531).

ص: 455

وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12].

وفي تفسير السعدي: "يقول تعالى مبينًا لفضل الإيمان واغتباط أهله به يوم القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي: إذا كان يوم القيامة، وكورت الشمس، وخسف القمر، وصار الناس في الظلمة، ونصب الصراط على متن جهنم، فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فيمشون بأيمانهم ونورهم في ذلك الموقف الهائل الصعب، كل على قدر إيمانه، ويبشرون عند ذلك بأعظم بشارة، فيقال: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم، وألذها لنفوسهم! حيث حصل لهم كل مطلوب محبوب، ونجوا من كل شر ومرهوب"

(1)

.

ويقول الله لهم وهم قد حطوا رحالهم في الجنة: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 68 - 73].

ويقول الله تعالى لهم وهم يتنعمون بنعيم الجنة:

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].

(1)

تفسير السعدي (839).

ص: 456

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 43].

ويقول تعالى عن أعظم نعيم أهل الجنة وهو رؤية وجه تعالى:

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وصح في ذلك الخبر أن الزيادة رؤية وجه الله تعالى

(1)

.

وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35].

أما الأحاديث الدالة على الفوز بنعيم الجنة فكثيرة، منها:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]»

(2)

.

وأخفى الله ما أعده لعباده الصالحين في جنات النعيم، ووصفه بهذا الوصف المجمل للتتشوق إليه القلوب، وتتعلق به، وتهيج إليه النفوس

(3)

، وتسارع وتسابق في أسباب الحصول على هذا النعيم، كما قال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

وقال تعالى حاثًّا لعباده في المسارعة إلى الجنة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ

(1)

ينظر: صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (1/ 163) ح (181).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (4/ 118) ح (3244)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/ 2174) ح (2824).

(3)

ينظر: تفسير السعدي (497).

ص: 457

رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 13].

والذي ينبغي أن يكون مضمار التنافس على أشده في الحصول عليه، كما قال تعالى بعد ذكر نعيم الجنة:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ

(1)

، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا»

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، لَا يَسْقَمُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَبْصُقُونَ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ، وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَوَقُودُ مَجَامِرِهِمْ الأَلُوَّةُ -قَالَ أَبُو اليَمَانِ: يَعْنِي العُودَ -، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ»

(3)

.

وفي الحديث ما يدل على عظيم نعيم الجنة، ووصفه صلى الله عليه وسلم له للتتشوق النفوس إليها، وتسارع وتسابق وتنافس في أسباب الحصول على هذا النعيم والفوز الكبير، ومن مظاهره التي دلت عليها النصوص السابقة ما يأتي:

1 -

جمال وجوه أهل الجنة الذي يتجدد.

(1)

والمجامر جمع مجمرة، وهي: المبخرة التي يوضع فيها الجمر ليفوح به ما يوضع من البخور. والألوة هي العود الذي يتبخر به، كما فسره أبو اليمان. ينظر: فتح الباري (6/ 324).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (4/ 118) ح (3245).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (4/ 118) ح (3246).

ص: 458

2 -

ذهاب أسباب الاختلاف والتباغض من القلوب حتى لا يتكدر النعيم.

3 -

التنعم بالحور العين.

4 -

التلذذ بذكر الله بدون جهد منهم، بل يكون بطريقة لا إرادية، كما يتنفس الإنسان في الدنيا.

5 -

يبعد الله عنهم كل أسباب تكدير النعيم وتنغيصه من الأمور التي تتقذر منها النفوس؛ مثل البصاق والمخاط والحيض عند النساء ونحوه، ويجعل الله الرشح مسكًا يفوح من أجسادهم.

6 -

لا يمرضون لأن في المرض تنغيصًا ومشقة وأذى يتنافى مع التلذذ بنعيم الجنة.

7 -

ومن كمال النعيم وزيادة الترفه في الجنة آنية أكلهم وشربهم من الذهب والفضة.

8 -

ومن كمال التلذذ بالنعيم أن رائحة بخور العود لا تنقطع عنهم، وهذا البخور في الجنة لا يلزم منه أن يكون بنار مما لا يتناسب مع نعيم الجنة، وهذا أمر ممكن حاصل في زمننا، هناك مباخر لا يستخدم فيها الجمر، والله على كل شيء قدير

(1)

.

وعن أَبُي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا»

(2)

.

وهذا النعيم في الجنة لا يستطيع الخيال مهما سبح أن يصل إلى تصوره، وهو مندرج ضمن قول الله تعالى في الحديث القدسي:«أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» .

(1)

وهذا مما أشكل على بعض شراح الحديث، ينظر: فتح الباري (6/ 324).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها (4/ 2176) ح (2828).

ص: 459

ودونك صورًا أخرى من نعيم الجنة:

• تفاضل أهل الجنة في ارتفاع منازلهم:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ:«بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ»

(1)

.

• ذبح الموت حتى تقر أعين أهل الجنة بالخلود في النعيم ويزداد فرحهم:

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إِلَى الجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ»

(2)

.

• من نعيم الجنة العظيم أن يحل الله رضوانه عليهم فلا يسخط عليهم أبداً.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟

(1)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (4/ 119) ح (3256)، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، كما يرى الكوكب في السماء (4/ 2177) ح (2831).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (8/ 114) ح (6548)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2189) ح (2850).

ص: 460

فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟! فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»

(1)

.

• من نعيم الجنة دخول أسواقها كل جمعة مع الزيادة في الحسن والجمال:

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا! فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ، وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا!»

(2)

.

• قياس ما يعطى في الجنة من عظيم النعيم على أدنى أهل الجنة نعيماً:

- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ» ، قَالَ:«فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا -أَوْ: إِنَّ لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا-» ، قَالَ:«فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي -أَوْ: أَتَضْحَكُ بِي- وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟!» ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (8/ 114) ح (6549)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدًا (4/ 2176) ح (2829).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال (4/ 2178) ح (2833).

ص: 461

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ:«فَكَانَ يُقَالُ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً»

(1)

.

- وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: يَا ابْنَ آدَمَ، لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا، فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابُ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟! قَالَ: يَا رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟» ، فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ،

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (8/ 117) ح (6571)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا (1/ 173) ح (186).

ص: 462

فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ»

(1)

.

- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ، وَمَثَّلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلِّهَا» ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ:«فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِيهِ:«وَيُذَكِّرُهُ اللهُ: سَلْ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ، قَالَ اللهُ: هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» ، قَالَ:«ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَتَقُولَانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا، وَأَحْيَانَا لَكَ» ، قَالَ:«فَيَقُولُ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ»

(2)

.

- وعن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه يُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟! فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟! فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا (1/ 174) ح (187).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 175) ح (188).

ص: 463

بَشَرٍ»، قَالَ:«وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الْآيَةَ [السجدة: 17]»

(1)

.

كل هذه الأدلة تقرب لنا شيئاً من نعيم الجنة، وذلك بقياس ما يعطى أقل أهل الجنة منزلة على أعلاهم في المنازل العالية.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 176) ح (189).

ص: 464

الفصل الثاني:

من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في دعوته

المبحث الأول: الإخلاص لله في الدعوة، والتجرد من حظوظ النفس.

المبحث الثاني: الاهتمام العظيم بعقيدة التوحيد.

المبحث الثالث: الدعوة إلى الله على بصيرة.

المبحث الرابع: الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة.

المبحث الخامس: الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة.

المبحث السادس: المجادلة بالتي هي أحسن.

المبحث السابع: الحرص على هداية الناس.

المبحث الثامن: الرحمة والشفقة بالمدعوين.

المبحث التاسع: إقبال الناس على دعوته.

المبحث العاشر: نبذ أسباب التفرق والاختلاف.

المبحث الحادي عشر: التأييد والتمكين في الأرض.

ص: 465

‌الفصل الثاني: من آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في دعوته

‌توطئة:

ولقد وفقني الله تعالى -وله الحمد والمنة- في الفصل السابق لذكر آثار تحقيق أعمال القلوب على الداعية في نفسه، وهذه الآثار التي يجدها الداعية إلى الله تعالى في نفسه يمتد أثرها على دعوته، فإن من آثار ذلك عليه في دعوته أن يرزقه الله السير في دعوته على منهج الأنبياء، ويهديه ويعينه على ذلك، إذا جاهد نفسه لله من أجل صلاح قلبه، فإن الله يهديه لذلك، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وكما قال سبحانه وتعالى في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمّ لأتباع منهجه في الدعوة:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

والمقصود بـ {أُولَئِكَ} في الآية هم الأنبياء الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختاره ابن جرير رحمه الله، حيث يقول في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى ذكره: {أُولَئِكَ} هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين هم الذين هداهم الله لدينه الحق، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم -جل ثناؤه- لذلك، {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم، اقتده يا محمد، أي: فاعمل وخذ به واسلكه، فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاج من سلكه اهتدى.

ص: 466

وهذا التأويل على مذهب من تأول قوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] أنهم الأنبياء المسمون في الآيات المتقدمة

(1)

، وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك"

(2)

.

وقال تعالى عن منهج نبيه في الدعوة إليه تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]

وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

ولا شك أن الداعية إلى الله تعالى الموفق إذا سار على هذا المنهج، نجح في دعوته، وجعل الله له قبولًا وأثرًا على الناس، وثبته وأمده بعونه وتوفيقه، فيبارك الله في دعوته، وينصره ويؤيده.

ودونك شيئًا من معالم هذا المنهج بإجمال، وسيأتي التفصيل في المباحث القادمة بحول الله وإعانته:

- كانت دعوة الأنبياء عليهم السلام خالصة لله، لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورًا.

ص: 467

- كان الأنبياء عليهم السلام أول ما يدعون إليه توحيد الله وإفراده بالعبادة، وتحذير أممهم من الشرك كبيره وصغيره، وتحذيرهم كذلك من الذرائع والسبل الموصلة إليه.

- ومن المعالم البارزة في دعوة الأنبياء الدعوة إلى الله على بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.

- كان الأنبياء عليهم السلام حريصين على هداية الناس، وإنقاذهم من الجاهلية، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

- ومن معالم دعوة الأنبياء عليهم السلام الرحمة والشفقة بالمدعوين، مما يجعل قلوب المدعوين تهوي إليهم، وتقبل عليهم، فيفتح الله لهم مغاليق القلوب.

- ومن المعالم البارزة في دعوة الأنبياء عليهم السلام أنهم يدعون إلى نبذ أسباب التفرق والاختلاف والتنازع، ويحذّرون من ذلك، وفي المقابل يدعون إلى الألفة والمحبة والاجتماع على الحق والاعتصام بالوحي.

- ومن سنن الله الكونية التي يجريها لأنبيائه، وللدعاة إلى الله الذين يقتفون أثر أنبيائه أن ينصرهم الله ويمكن لهم.

وهذا أوان الشروع في تفصيل هذه المعالم لمنهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، وفق المباحث الآتية:

ص: 468

‌المبحث الأول: الإخلاص لله في الدعوة، والتجرد من حظوظ النفس

إن الأنبياء عليهم السلام لا يريدون من أحد جزاء ولا شكورًا على دعوتهم، بل يريدون من الله وحده الأجر والثواب، وكان كل نبي يقول لقومه:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109].

قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم، وقالها نبينا صلى الله عليه وسلم لقومه، كما قال تعالى عنه:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47].

وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].

يقول ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: {قُلْ} -يا محمد- لهؤلاء المشركين: {مَا أَسْأَلُكُمْ} على هذا البلاغ وهذا النصح أجرًا تعطونيه من عَرَض الحياة الدنيا، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أي: وما أزيد على ما أرسلني الله به، ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة"

(1)

.

وهكذا كل داعية إلى الله تعالى صدق مع الله، وأخلص دعوته لله، وسار على منهج الأنبياء عليهم السلام، لا يريد بدعوته من أحد جزاء ولا شكورًا، ولا يريد مكسبًا دنيويًّا، أو شهرة أو ذكرًا وثناء من الناس، لا يريد جاهًا أو منصبًا، أو

(1)

تفسير ابن كثير (7/ 82).

ص: 469

مكاسب سياسية أو نحوها، بل يريد وجه الله تعالى والأجر والثواب منه وحده لا شريك له.

فيكون مقصد الداعية: الدعوة إلى الله وحده لا شريك له، لا يدعو لنفسه ولا لجهة أو طائفة معينة، أو لحزب أو لجماعة، بل همه وغايته من دعوته إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، ويكون دين الله وشرعه هو الظاهر، وهو المحكّم في الأرض، لا ينتصر لنفسه أو لغيره، إنما ينتصر للمنهج الحق

(1)

.

عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

(2)

.

والدعوة إلى الله تعالى من أفضل أنواع الجهاد كما قرره ابن القيم، فيقول رحمه الله:"وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم"

(3)

.

وعلى هذا فينبغي على الداعية أن يتحرر من المقاصد التي تفسد نيته، ويتجرد من حظوظ النفس، والرغبة فيما عند الناس، ويصبر على ما يلقاه في ذات الله، ولا ينتقم لنفسه، ولا يطلب لنفسه شيئًا من الدنيا وحظوظها.

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله كلامًا متينًا رصينًا حول بيان تعلق النفس بالحظوظ

(1)

ينظر: فقه مقاصد الدعوة إلى الله تعالى وأثره في حياة الداعية (133).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (4/ 20) ح (2810) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (3/ 1513) ح (1904).

(3)

جلاء الأفهام (415).

ص: 470

الشخصية وهي تظهر أنها تدعو لله تعالى والأمر على غير ذلك، فيقول: "وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولًا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره، كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا، ثم إذا رُدَّ عليه ذلك وأوذي، أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.

وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلًا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله .. ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة"

(1)

.

والداعية الموفق يسير على منهج قدوته صلى الله عليه وسلم في إخلاص دعوته لله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ

(1)

منهاج السنة النبوية (5/ 254 - 255).

ص: 471

الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وفي قوله تعالى:{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} تنبيه على الإخلاص في الدعوة؛ لأن من الناس من يدعو إلى نفسه

(1)

.

ولأن الدعاة ينقسمون إلى داع إلى الله تعالى، وداع إلى الله -فيما يزعم- وهو يدعو إلى غيره، فالداعي إلى الله هو المخلص الذي يهمه إيصال الناس إلى الله، وأن يحذرهم مما يبعدهم عنه، ولا يريد من أحد جزاء ولا شكورًا، وإنما يريد الجزاء من الله وحده لا شريك له، أما الداعي الذي يزعم أنه يدعو إلى الله وهو في الحقيقة يدعو إلى غيره، قد يكون داعيًا إلى نفسه، لأجل أن يحصل على مكاسب سياسية، أو يدعو لأجل أن يعظّم بين الناس ويحترم، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمرهم به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهيًا أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه

(2)

.

ويغضب لنفسه إذا لم يُسْمَع كلامه أو لم يؤخذ بمشورته؛ لأن المصلحة مثلًا اقتضت عدم الأخذ برأيه، فتثور ثائرته لأجل ذلك، وربما يصل به الشطط إلى البحث عن العيوب لينتقم لنفسه، وإذا حصل خلل ما استغله ليبين أنه لم يؤخذ بمشورته، وهذه نتيجة ذلك، وحين ينكشف ما في النفوس، تظهر أن الحمية هنا ليست لله بل لمصالح شخصية.

وقد يغضب في داخل نفسه إذا لم يصدّر في المجلس، أو لم تقدم له التسهيلات، بحجة سابقته في الدعوة، أو مكانته العلمية، أو منصبه العلمي، أو بأنه القائد والمربي الذي ينبغي احترامه وتبجيله وتقديره فتوسع له المجالس، أو نحو ذلك من الأمور المغلفة بحظوظ النفس.

وقد يكون داعيًا إلى حزب أو جماعة، فهو لا يخرج في دعوته عن مطالب هذه

(1)

ينظر: كتاب التوحيد (21) لمحمد بن عبد الوهاب، ت: عبد العزيز السعيد، من مطبوعات جامعة الإمام بالرياض.

(2)

ينظر: القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 129) لابن عثيمين، دار ابن الجوزي، ط 2، 1424 هـ.

ص: 472

الجهة التي يتبع لها يتلمس رضاها، وقد يترك أمورًا من الدعوة هي من أسسها؛ لأجل أن الجماعة التي ينتمي إليهم لا يريدون ذلك، ومن أوضح الأمثلة على ذلك: ترك الدعوة إلى العقيدة الصحيحة على منهج السلف؛ لأن جماعته الدعوية مثلًا لهم وجهة نظر في هذه المسألة يرون أن الدعوة إلى ذلك تفرق الناس، أو أنهم في الأصل يحاربون دعوة التوحيد.

وقد يكون المنضم إلى هذه الجماعة مقتنعًا بأهمية ذلك، لكنه يتركه حتى لا يخسر الانتماء إليهم، فيترك هذا الحق العظيم الذي هو من أعظم الحقوق في الدعوة إلى الله بمثل هذه الحجج الواهية أو المتوهمة، ولا شك أن هذا الأسلوب في الدعوة يجانب دعوة الأنبياء عليهم السلام.

ص: 473

‌المبحث الثاني: الاهتمام العظيم بعقيدة التوحيد

إن من الأسس البارزة في دعوة الأنبياء عليهم السلام الاهتمام بالعقيدة والحرص على سلامتها.

ولكن لما كانت عقيدة التوحيد التي هي عبادة الله وحده لا شريك له، يحصل فيها الانحراف الكبير من البشر كانت محور اهتمام الأنبياء جميعًا، فقال تعالى في بيان رسالة الأنبياء جميعًا إلى أممهم:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

يقول السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولًا، وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له"

(1)

.

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

قال الطبري رحمه الله في تفسيره للآية: "يقول تعالى ذكره: {وَمَا أَرْسَلْنَا} يا محمد {مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} إلى أمة من الأمم، {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ} لا معبود في السماوات والأرض تصلح العبادة له سواي، {فَاعْبُدُونِ}، يقول: فأخلصوا لي العبادة، وأفردوا لي الألوهة"

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (440).

(2)

تفسير الطبري (16/ 249).

ص: 474

وذكر الله تعالى أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يقولون لأقوامهم: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. قالها نوح، وهود، وصالح، وشعيب، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

وقالها النبي صلى الله عليه وسلم لقومه حتى إنهم عجبوا من هذه الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهي مقتضى كلمة التوحيد: لا إله إلا الله التي بلغها لهم، فقالوا مستعجبين كما ذكر الله عنهم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].

وعَنْ رجل من بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ

(1)

يَتَخَلَّلُهَا يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ تُفْلِحُوا» ، قَالَ: وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ، وَتَتْرُكُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، قَالَ: وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. الحديث

(2)

.

وعَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ

(3)

قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، وَهُوَ يَقُولُ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ تُفْلِحُوا» ، وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وَكَعْبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا

(1)

موضع سوق بالجاهلية لهذيل بالقرب من عرفة في منتصف المسافة بينها وبين ما يسمى اليوم شرائع النخل، من ناحية جبل كبكب.

ينظر: معالم مكة التأريخية والأثرية (243)، معجم معالم الحجاز (1502 - 1503).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (27/ 148) ح (16603)، وقال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد في كتاب المغازي والسير، باب تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسل به وصبره على ذلك (6/ 21 - 22) ح (9830):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (27/ 148) ح (16603):"إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين".

(3)

طارق المحاربي له صحبة، يعد حديثه في الكوفيين.

ينظر: الاستيعاب (2/ 756)، الاصابة (3/ 414).

ص: 475

تُطِيعُوهُ، فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: هَذَا غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قُلْتُ: فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالَ: هَذَا عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ .. الحديث

(1)

.

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن أوصاه بأن أول ما يدعو إليه التوحيد، وقد ورد ذلك بعدة ألفاظ، وكلها بمعنى واحد، وإنما تصرف الرواة في لفظها

(2)

:

1 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»

(3)

.

2 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ

(1)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب الوضوء، باب ذكر الدليل على أن الكعبين اللذين أمر المتوضئ بغسل الرجلين إليهما، العظمان الناتئان في جانبي القدم (1/ 119) ح (159)، وابن حبان في صحيحه في باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر مقاساة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما كان يقاسي من قومه في إظهار الإسلام (14/ 517 - 518) ح (6562)، قال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان (14/ 519) ح (6562):"إسناده صحيح"، وقال الأعظمي محقق صحيح ابن خزيمة (1/ 119) ح (159):"إسناده صحيح".

(2)

وقد أشار ابن حجر رحمه الله إلى احتمال ذلك. ينظر: فتح الباري (13/ 354).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (9/ 114) ح (7371).

ص: 476

فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»

(1)

.

3 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه عَلَى اليَمَنِ قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»

(2)

.

قال ابن حجر رحمه الله في ذكر وجه الجمع بين هذه الألفاظ: "ووجه الجمع بينها: أن المراد بالعبادة التوحيد، والمراد بالتوحيد الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله: «ذَلِكَ» إلى التوحيد، وقوله: «فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ» أي: عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة الإقرار والطواعية، فبذلك يجمع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة وبالله التوفيق"

(3)

.

ومما يدل على أهمية الدعوة إلى التوحيد وأن البداءة تكون به أنه حق الله على العبيد كما في حديث معاذ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ» ، قَالَ:«أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟» فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ لَا

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا (2/ 128) ح (1496)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (1/ 50) ح (19) واللفظ له.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة (2/ 119) ح (1458)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (1/ 51) ح (19).

(3)

فتح الباري (13/ 354).

ص: 477

يُعَذِّبَهُمْ» الحديث

(1)

.

وعلى هذا فكل دعوة لا تجعل التوحيد في أول اهتمامها، فقد انحرفت عن منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، وفي المقابل يحرص الداعية على بيان ما يضاد التوحيد، فينقضه أو ينقص كماله من الشرك بكل أنواعه، والذرائع الموصلة إليه، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام، وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى عن عيسى عليه السلام:{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].

وقال تعالى عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

والآيات في هذا المعنى كثيرة.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (9/ 114) ح (7373) ومسلم واللفظ له في كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 59) ح (30).

ص: 478

المبحث الثالث: الدعوة إلى الله على بصيرة

المطلب الأول: تعريف البصيرة.

المطلب الثاني: أسباب البصيرة.

المطلب الثالث: مجالات البصيرة:

الفرع الأول: البصيرة بمن يدعو إليه، وهو الله سبحانه وتعالى.

الفرع الثاني: البصيرة فيما يدعو الناس إليه.

الفرع الثالث: البصيرة في حال المدعوين، وطرائق دعوتهم.

المطلب الرابع: أسباب ضعف البصيرة.

ص: 479

‌المبحث الثالث: الدعوة إلى الله على بصيرة

‌توطئة:

من توفيق الله تعالى للداعية الذي اجتهد في تحقيق أعمال القلوب أن يرزقه الله البصيرة في دعوته، فيجعل الله له نورًا يفتح له به مغاليق القلوب، ويجعل له أثرًا في المدعوين.

ذكر الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يبين منهجه وطريقته في الدعوة إلى الله تعالى، وكذلك من اتبعه، فقال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، يقول السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} للناس {هَذِهِ سَبِيلِي} أي: طريقي التي أدعو إليها، وهي السبيل الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته، المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره، وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} أي: أحث الخلق والعباد إلى الوصول إلى ربهم، وأرغبهم في ذلك وأرهبهم مما يبعدهم عنه. ومع هذا فأنا {عَلَى بَصِيرَةٍ} من ديني، أي: على علم ويقين من غير شك ولا امتراء ولا مرية، {وَ} كذلك {مَنِ اتَّبَعَنِي} يدعو إلى الله كما أدعو على بصيرة من أمره. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} عما نسب إليه مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في جميع أموري، بل

ص: 480

أعبد الله مخلصًا له الدين"

(1)

.

وسيكون الكلام عن البصيرة في الدعوة وفق المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: تعريف البصيرة.

المطلب الثاني: أسباب البصيرة.

المطلب الثالث: مجالات البصيرة.

المطلب الرابع: أسباب ضعف البصيرة.

المطلب الأول: تعريف البصيرة:

البصيرة في اللغة تطلق على عدة معان منها:

العلم، فيقال: بَصُرْتُ بالشيء: علمته، وهو بصير به، وعلى الرؤية بالعين، فتقول: أبصرت الشيء أي رأيته، وعلى الحجة والاستبصار في الشيء، ومنه قوله تعالى:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]، قال الأخفش

(2)

في معنى الآية: جعله هو البصيرة كما يقول الرجل للرجل: أنت حُجَّةٌ على نفسك.

(1)

تفسير السعدي (406).

(2)

إمام النحو، أبو الحسن سعيد بن مسعدة البلخي، ثم البصري المعروف بالأخفش الأوسط، وله كتاب معاني القرآن، وقد وقع في تأويل بعض الصفات على طريقة أهل الاعتزال، توفي رحمه الله سنة (215 هـ)، وقيل: سنة (225 هـ) وقيل غير ذلك.

ينظر: سير أعلام النبلاء (10/ 206)، البداية والنهاية (14/ 274)، الأعلام (3/ 101).

ومن باب التفريق اشتهر جملة من علماء اللغة بالأخفش وأبرزهم ثلاثة:

1 -

الأخفش الأكبر، واسمه: عبد الحميد بن عبد المجيد، من شيوخ سيبويه.

2 -

الأخفش الأوسط، وهو سعيد بن مسعدة، وهو من تلاميذ سيبويه، وهو أشهر الثلاثة.

3 -

الأخفش الأصغر، واسمه: علي بن سليمان، من تلاميذ المبرد وثعلب، توفي سنة (315 هـ).

ينظر: المزهر في علوم اللغة وأنواعها (2/ 386) للسيوطي، ت: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1418 هـ.

ص: 481

وتطلق على الفطنة

(1)

، تقول العرب: أعمى الله بصائره أي: فِطَنَه

(2)

.

وفي المعجم الوسيط ذكر بعض معاني البصيرة في اللغة: "البصيرة: قوة الإدراك، والفطنة، والعلم والخبرة، ويقال: فراسة ذات بصيرة صادقة، وفعل ذلك عن بصيرة عن عقيدة ورأي، والحجة، والرقيب، والعبرة"

(3)

.

البصيرة في الاصطلاح:

البصيرة في معناها العام: نور يقذفه الله في قلب عبده، يميز به بين الحق والباطل، ويرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل، وتضرره بمخالفتهم

(4)

.

والبصيرة في الدعوة إلى الله تعالى: أن يكون الداعية عالمًا بما يدعو إليه، عالمًا بمن يدعوه، فطنًا مدركًا للأساليب، والطرائق المؤثرة في المدعوين، وكل ذلك في إطار النصوص الشرعية، وما عليه سلف الأمة رحمهم الله

(5)

.

‌المطلب الثاني: أسباب البصيرة:

للبصيرة أسباب من سعى في حصولها وجدها، منها:

‌1 - العلم:

وللعلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أثر على حصول البصيرة لدى الداعية إلى الله تعالى، فإن العلم النافع نور يقذفه الله في القلوب، فبه يفرق العبد بين الحق

(1)

الفطنة أي: الفهم والذكاء.

ينظر: الصحاح (6/ 2177)، مقاييس اللغة (4/ 510) مادة (فطن).

(2)

ينظر: الصحاح (2/ 591 - 592)، مقاييس اللغة (1/ 253)، لسان العرب (4/ 65) مادة (بصر).

(3)

المعجم الوسيط (1/ 59) مادة (بصر).

(4)

ينظر: تفسير البغوي (4/ 284)، مدارج السالكين (1/ 143).

(5)

ينظر: البصيرة في الدعوة إلى الله (18).

ص: 482

والباطل والخطأ والصواب

(1)

، قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].

والنور يهبه الله لمن بذل أسبابه، فالعلم بكتاب الله تعالى وتدبره والعمل به له أثره على حصول نور البصيرة في القلب، قال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]، فالنور في قوله تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} هو القرآن العظيم

(2)

الذي من تمسك به جعل الله له نورًا يشرق في قلبه يعرف به الحق من الباطل، فقال تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: يهدي به الله من اجتهد وحرص على مرضاة الله إلى أقوم طريق وأوضح سبيل، وهو العلم بالحق والعمل به إجمالًا وتفصيلًا، فيخرجهم بالقرآن من ظلمات الكفر والبدعة والمعاصي إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم والذكر، وكل هذه الهداية بإذن الله الذي لا يكون إلا ما يشاء

(3)

.

وجاءت النصوص في بيان أثر العلم بالقرآن والسنة في حصول نور البصيرة الذي له أعظم الأثر في هداية العبد إلى الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا

(1)

ينظر: إعلام الموقعين (4/ 199)، ومفتاح دار السعادة (1/ 127).

(2)

ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 68)، تفسير السعدي (226).

(3)

ينظر: تفسير السعدي (226).

ص: 483

إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 52، 53].

وسمى القرآن روحًا لأنه تحيا به القلوب والأرواح، كما تحيا الأجساد بالروح، وجعله نورًا يهدي به من يشاء، فيستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم

(1)

.

وكذلك العلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بها له أثر في حصول نور البصيرة فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ» الحديث.

ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالنضرة؛ لأنه يحمل الحديث ليعلمه الناس، فإن ذلك من أسباب نور بصيرة قلبه؛ لأن من يعلم الناس الخير، ويبلغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الله له أبواب التوفيق، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» .

وإذا كان الخالق يثني عليه، وبقية المخلوقات تدعو له، فالتوفيق حليفه، ويقذف الله في قلبه نور البصيرة، فيكون له الأثر الكبير على من يدعوهم إلى الخير.

‌2 - الإيمان والتقوى:

ومن أسباب نور البصيرة تحقيق الإيمان والتقوى في القلب، فإذا جاهد الداعية نفسه على تحقيق الإيمان والتقوى في قوله وفعله وظاهره وباطنه، قذف الله في قلبه نور البصيرة، وفتحت أمامه أبواب التوفيق، وجعل الله في قلبه نورًا يفرق به بين الحق والباطل، ويفتح الله له مغاليق القلوب، ويجعل لكلمته ودعوته قبولًا في قلوب الناس؛

(1)

ينظر: تفسير السعدي (762).

ص: 484

لأن من حقق الإيمان والتقوى ظاهرًا وباطنًا، أحبه الله وأقبل بقلوب الناس إليه، وفتح له نور البصيرة وجعل كلماته تصل إلى القلوب، وتأثر فيها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ»

(1)

.

وقد بين الله في كتابه أثر الإيمان والتقوى في حصول البصيرة، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].

وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

كل هذه الآيات تدل على أثر الإيمان والتقوى على العبد، ومن آثارهما أن يؤتيه الله البصيرة، ويوفقه لها.

‌3 - ومن أسباب البصيرة كثرة التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الأدب، باب المقة من الله تعالى (8/ 14) ح (6040)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدًا حببه لعباده (4/ 2030) ح (2637).

ص: 485

يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» الحديث.

وفي الحديث إشارة إلى أن العبد إذا تقرب الله بالنوافل بعد الفرائض أحبه الله تعالى، وجعل جوارحه تتحرك في مرضاة الله تعالى، وإذا كان أمره كذلك رزقه الله البصيرة في دعوته، وأقبل بالقلوب عليه كما سبق.

‌4 - ومن أسبابها الاعتصام بالله:

دلت الآيات على أثر الاعتصام بالله وهو أنه إذا استمسك بدينه بكتاب الله وسنة رسوله وتوكل عليه، فإنه يفتح له نور بصيرته ويوفقه ويسدده، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174، 175].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]. قال ابن كثير رحمه الله: "أي: ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعدة في مباعدة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد"

(1)

.

‌5 - الدعاء والتضرع إلى الله تعالى بقلب حاضر مقبل على الله،

يستشعر حاجته وفقره لتوفيق الله له في كل حاله، وألا يكله إلى حوله وقوته، ويسأل الله أن يرزقه البصيرة في دعوته، وذلك يستدعي أمورًا منها:

أولًا: حسن ظنه بربه، قال صلى الله عليه وسلم:«يقول الله تعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» .

(1)

تفسير ابن كثير (2/ 86).

ص: 486

وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي» .

وقال صلى الله عليه وسلم عَنِ اللهِ عز وجل: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ»

(1)

.

فمن حسُن ظنه بالله بأن يرزقه البصيرة وفقه الله لذلك.

ثانيًا: أن يكثر من الأدعية النبوية التي يظهر منها عجزه وحاجته وفقره إلى ربه، وأن يطلب منه العون والتوفيق، ومن أمثلة ذلك:

- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ»

(2)

.

- وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»

(3)

.

- وعن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: «مَا يَمْنَعُكِ أَنْ

(1)

أخرجه أحمد في المسند (28/ 187) ح (16978)، وابن حبان في صحيحه باب حسن الظن بالله تعالى، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من الثقة بالله جل وعلا بحسن الظن في أحواله به (2/ 401) ح (633)، والحاكم في المستدرك في كتاب التوبة والإنابة (4/ 268) ح (7603) وصححه ووافقه الذهبي، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الجنائز، باب حسن الظن بالله تعالى (2/ 318) ح (3887):"رواه أحمد والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 795) ح (4316)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (25/ 398) ح (16978):"إسناده صحيح".

(2)

أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات، باب .. (5/ 539) ح (3524)، وقال:"حديث غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 868) ح (4777).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (34/ 75) ح (20430)، وأبو داود في أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح (4/ 324) ح (5090)، وابن حبان في صحيحه في باب الأدعية، ذكر وصف دعوات المكروب (3/ 250) ح (970)، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الأذكار، باب ما يقول إذا وقعت كبيرة (10/ 137) ح (17131):"رواه الطبراني، وإسناده حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 361) ح (1823)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه على المسند (34/ 75) ح (20430):"إسناده حسن في المتابعات والشواهد".

ص: 487

تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؟! أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرَفَةَ عَيْنٍ»

(1)

.

- والإكثار من دعاء: «يا مقلب القلوب، ثبتي قلبي على دينك» ، وكان من أكثر أدعية النبي صلى الله عليه وسلم.

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ:«نَعَمْ؛ إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» .

- والإكثار من الدعاء الذي كان يفتتح به صلى الله عليه وسلم صلاته من الليل: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .

يقول ابن القيم رحمه الله: "وشهدت شيخ الإسلام -قدس الله روحه- إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار، والاستغاثة بالله واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفق هذا الافتقار علمًا وحالًا، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد، فقد أعطي حظه من

(1)

أخرجه النسائي في السنن الكبرى في كتاب عمل اليوم والليلة (9/ 212) ح (10330) ت: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، قدم له: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1، 1421 هـ، والبزار في مسنده (13/ 49) ح (6368)، والحاكم في المستدرك في كتاب الدعاء، والتكبير، والتهليل، والتسبيح والذكر (1/ 730) ح (2000) وصححه، وحسن إسناده في الأحاديث المختارة (6/ 300) ح (2319) لضياء الدين المقدسي، ت: ابن دهيش، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 3، 1420 هـ، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الأذكار، باب ما يقول إذا أصبح وإذا أمسى (10/ 117) ح (17008):"رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير عثمان بن موهب، وهو ثقة"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 417) ح (661).

ص: 488

التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"

(1)

.

‌6 - الفراسة

(2)

دليل على البصيرة،

ولها أثر فيها، وعلامة دالة عليها، وللفراسة أسباب، ذكرها شجاع الكرماني رحمه الله فقال:"من غض بصره عن المحارم، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، وكف نفسه عن الشهوات، لم تخطئ له فراسة"

(3)

، وهذه‌

‌ الأسباب من حققها حصل على البصيرة وظفر بالفراسة،

وهي:

‌أ - غض البصر عن المحارم:

إن من ثمرات غض البصر عن المحارم صفاء القلب وسلامته من التعلق بالصور، وذلك الذي يورث نور البصيرة وقوة الفراسة، فإذا تعلقت القلوب بالنظر الحرام انطفأ نور بصيرتها، قال تعالى عن قوم لوط الذين تعلقت قلوبهم وأبصارهم بالنظر والشهوة المحرمة:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، فالتعلق بالصور يوجب

(1)

إعلام الموقعين (4/ 132).

(2)

الفِراسة: تطلق على التثبت والنظر والحذق والتوسم، تقول: تفرس فيه خيرًا، أي: توسمه.

ينظر: الصحاح (3/ 958)، لسان العرب (6/ 160) مادة (فرس).

وفي الاصطلاح: تطلق على معنيين:

الأول: ما دل عليه ظاهر حديث: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» ، وقد سبق تخريج الحديث، ومعناه: وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامة، وإصابة الظن والحدس.

الثاني: يعلم بالدلائل والتجربة، والخلْق والأخلاق، فتعرف به أحوال الناس.

ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 428).

(3)

مجموع الفتاوى (15/ 396)، وينظر أصله في: حلية الأولياء (10/ 237)، صفة الصفوة (2/ 274).

ص: 489

عمى البصيرة، وفساد العقل، وسكر القلب، وهو أشد من سكر الخمر

(1)

.

‌ب - دوام مراقبة الله في الباطن:

وهي من ثمرات إيمان العبد بأن الله مطلع عليه لا يخفى عليه من أمره شيء، عالم بسره ونجواه، يسمعه ويراه، قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78].

وقال تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} البقرة: 77].

وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3].

وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].

ومراقبة الله في الباطن من أسبابها كذلك خشية العبد لربه بالغيب، قال تعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12].

وإذا داوم الداعية على مراقبة الله في سره استنار قلبه، وقويت بصيرته، وصدقت فراسته.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 256 - 257).

ص: 490

‌ت - أن يظهر عليه اتباع السنة في قوله وفعله:

إذا جاهد الداعية نفسه على دوام اتباع السنة، وظهرت عليه آثارها في قوله وفعله، وحرص على الاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في سلوكه وتعاملاته، رزقه الله البصيرة في دعوته، قال تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، قال الطبري رحمه الله:"وإن تطيعوا -أيها الناس- رسول الله فيما يأمركم وينهاكم، ترشدوا وتصيبوا الحق في أموركم"

(1)

.

‌ث - حرصه على أكل الحلال، والابتعاد عن المشتبهات:

أكل الحلال يورث صفاء القلب ورقته ونور بصيرته، فإذا حرص الداعية على تحري أكل الحلال، وابتعد عن المشتبهات، صلح قلبه، ورزق البصيرة في دعوته، فإن من أعظم العوائق التي تبعد الداعية عن التوفيق وتطفئ نور بصيرته وقوعه في أكل الحرام.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]» ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ «يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» .

وإذا لم يستجب الله لدعائه وحيل بينه وبين الإجابة بسبب أكل الحرام، وذلك عقوبة له، ويترتب على هذه العقوبة، ظلمة القلب، وذهاب نور بصيرته، وحرمانه من التوفيق.

(1)

تفسير الطبري (17/ 345).

ص: 491

‌ج - كف النفس عن الشهوات:

ومن أسباب حصول البصيرة في الدعوة: كف الداعية لنفسه عن الشهوات المحرمة أو التي فيها شبهة؛ لأن من وقع في الشهوات أثر ذلك على قلبه، فتضعف بصيرته أو تضمحل.

‌المطلب الثالث: مجالات البصيرة:

للبصيرة عدة مجالات، لا ينجح الداعية في دعوته حتى يلم بها، وهي على سبيل الإجمال:

الفرع الأول: البصيرة بمن يدعو إليه، وهو الله سبحانه وتعالى:

وذلك في عدة أمور:

أولًا: إيمانه الحق بالله تعالى، وتتجلى البصيرة فيه فيما يلي:

- بصيرته في الإيمان بالألوهية والربوبية.

- بصيرته في الإيمان بالأسماء والصفات.

ثانيًا: العلم بشرع الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثالثًا: علمه بوعد الله ووعيده.

الفرع الثاني: البصيرة فيما يدعو الناس إليه، وتبنى على المسائل الآتية:

المسألة الأولى: علمه بالعقيدة الصحيحة وما يضادها.

المسألة الثانية: أن يكون على علم بفقه السيرة النبوية.

المسألة الثالثة: أن يكون ملمًّا بقواعد فقه الدعوة إلى الله وضوابطه.

المسألة الرابعة: أن يكون ملمًّا بقواعد فقه التيسير في الدعوة.

المسألة الخامسة: أن يكون ملمًّا بقواعد فقه مقاصد الدعوة.

المسألة السادسة: أن يكون ملمًّا بفقه السنن الاجتماعية في الدعوة.

الفرع الثالث: البصيرة في حال المدعوين، وطرائق دعوتهم، وفيه مسألتان:

ص: 492

‌المسألة الأولى: الاطلاع على حال المدعوين،

وهذا يستدعي من الداعية أن يكون ملمًّا بما يأتي:

الأول: معرفة الداعية ببيئة المدعوِّين بكل مجالاتها.

الثاني: أن يكون حريصًا على دعوة أهل التأثير في هذه البيئة، وقادة الرأي فيها.

الثالث: أعداء الدعوة، وكيفية التعامل معهم.

‌المسألة الثانية: البصيرة بطريقة الدعوة المناسبة.

وإليك شيئاً من التفصيل اليسير لهذه الفروع والمسائل:

‌الفرع الأول: البصيرة بمن يدعو إليه، وهو الله سبحانه وتعالى

-:

وتتجلى هذه البصيرة في عدة أمور، منها:

‌أولًا: إيمانه الحق بالله تعالى:

إذا قوي إيمان الداعية بالله تعالى، وكان إيمانه حقًّا، وكانت بصيرته في إيمانه بينة واضحة، وحرص على تحقيق أعمال القلب، كان ذلك أدعى لتحركه في دعوته بقوة، وانطلاقة عظيمة لا يعتريها الفتور والعجز والكسل، ولا تعوقه العوائق، مهما كانت قوتها وعظيم أثرها؛ لأنه قلب موصول بإيمانه بالله تعالى، ويستمد قوته في دعوته من قوة بصيرته بإيمانه، وتتجلى البصيرة في الإيمان بالله تعالى فيما يأتي:

‌1 - بصيرة في الإيمان بالألوهية والربوبية:

الداعية المؤمن بأن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فقلبه موصول بالله، متعلق به، منطرح بين يديه، يلتجئ إليه في كل أحواله، لا يلتفت إلى غيره، متبرئ من حوله وقوته، ويؤمن يقينًا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ويؤمن بالله خالقًا رازقًا مالكًا مدبرًا، "فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب

ص: 493

سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون، فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه"

(1)

، قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].

وقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 60 - 64].

(1)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (124) لابن تيمية، ت: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دار البيان دمشق، عام النشر: 1405 هـ.

ص: 494

ومن الأمثلة على وضوح البصيرة في الإيمان بالله ما حصل من سحرة فرعون من إيمان عظيم بالله تعالى، ترتب عليه ثبات عظيم، قال تعالى:{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 38 - 51].

‌2 - بصيرته في الإيمان بالأسماء والصفات:

قال ابن القيم رحمه الله في بيان هذه البصيرة: "فالبصيرة في الأسماء والصفات: أن لا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، بل تكون الشبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله، فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر.

وعقد هذا: أن يشهد قلبك الرب تبارك وتعالى مستويًا على عرشه، متكلمًا بأمره ونهيه، بصيرًا بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعًا لأصواتهم، رقيبًا على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره، نازل من عنده وصاعد إليه، وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك، موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال، منزهًا عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه،

ص: 495

وفوق ما يصفه به خلقه، حي لا يموت، قيوم لا ينام، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بصير يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميع يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقًا وعدلًا، وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبهًا ومثلًا، وتعالت ذاته أن تشبه شيئًا من الذوات أصلًا، ووسعت الخليقة أفعاله عدلًا وحكمة ورحمة وإحسانًا وفضلًا، له الخلق والأمر، وله النعمة والفضل، وله الملك والحمد، وله الثناء والمجد، أول ليس قبله شيء، وآخر ليس بعده شيء، ظاهر ليس فوقه شيء، باطن ليس دونه شيء، أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، كل شيء من مخلوقاته دال عليه، ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه، لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، ولا ترك الإنسان سدى عاطلًا، بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته، وأسبغ عليهم نعمه ليتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته، تعرف إلى عباده بأنواع التعرفات، وصرّف لهم الآيات، ونوع لهم الدلالات، ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب، ومد بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب، فأتم عليهم نعمه السابغة، وأقام عليهم حجته البالغة، أفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته تغلب غضبه.

وتفاوت الناس في هذه البصيرة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها، والعلم بفساد الشبه المخالفة لحقائقها.

وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف، لجهلهم بالنصوص ومعانيها، وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم، وإذا تأملت حال العامة الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم رأيتهم أتم بصيرة منهم، وأقوى إيمانًا، وأعظم تسليمًا

ص: 496

للوحي، وانقيادًا للحق"

(1)

.

‌ثانيًا: العلم بشرع الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم

-:

وبصيرة الداعية بشرع الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم تقوم على التسليم التام، والانقياد الكامل الذي لا تشوبه المعارضة بشبهة تأويل، أو تقليد، أو هوى، كما قال ابن القيم رحمه الله:"فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله والأخذ به، ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقي الأحكام من مشكاة النصوص"

(2)

.

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة"

(3)

.

‌ثالثًا: علمه بوعد الله ووعيده:

وبصيرة الداعية في الوعد والوعيد تقوم على أنه ينظر بعين بصيرته إلى وعد الله

(1)

مدارج السالكين (1/ 145).

(2)

مدارج السالكين (1/ 145).

(3)

تفسير ابن كثير (2/ 349).

ص: 497

ووعيده كأنه يراه، فهو يرجو وعد الله ويخاف وعيده، قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9].

وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].

وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].

وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].

وذكر شيخ الإسلام خلاصة مسألة الوعد والوعيد فقال رحمه الله: "الذي عليه أهل السنة: أن الله لا يخلد في النار أحدًا من أهل الإيمان.

وخالف في ذلك قوم من أهل البدع: الخوارج والحرورية والمعتزلة، فقالوا: إن أهل الكبائر يخلدون فيها، ومن دخلها لم يخرج منها بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وكذبوا.

وعارض هؤلاء قوم من المرجئة: زعموا أن الإيمان حاصل من الخلق جميعهم، وأن إيمان الملائكة والأنبياء والصديقين كإيمان أهل الكبائر وكذبوا.

وغلاتهم تزعم أنه لا يدخل في النار أحد، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وكل هؤلاء ضالون.

فالطائفة الأولى: نظروا إلى نصوص الوعيد. والثانية: نظروا إلى نصوص الوعد.

وأما أهل السنة: فآمنوا بكل ما جاء من عند الله، ولم يضربوا بعض ذلك

ص: 498

ببعض"

(1)

.

‌الفرع الثاني: البصيرة فيما يدعو الناس إليه:

وإذا حقق الداعية البصيرة في الإيمان بربوبية الله وألوهيته، وما له من الأسماء والصفات، فهنا لا بد على الداعية إلى الله تعالى أن يحقق البصيرة فيما يدعو الناس إليه، وإذا وفقه الله لذلك كانت دعوته مباركة ينتفع بها الناس ويقبلون عليها، ويكون لها الأثر فيهم.

وهذه البصيرة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية تبنى على المسائل الآتية:

‌المسألة الأولى: علمه بالعقيدة الصحيحة وما يضادها:

من الضروريات أن يكون الداعية على علم متين بالعقيدة الصحيحة وما يضادها، حتى يبلغها للناس، وأن يكون على بصيرة في ذلك؛ لأجل أن يحسن عرض العقيدة الصحيحة على الناس، وأن يحذرهم كذلك مما يضادها من الشرك، ومن كل ما ينقض العقيدة ويذهب بها كلية، أو ينافي كمالها.

‌المسألة الثانية: أن يكون على علم بفقه السيرة النبوية

(2)

:

وحتى ينجح الداعية في إيصال دعوته للناس كما ينبغي لا بد أن يكون على بصيرة بفقه السيرة النبوية، يترسم معالم الهدي النبوي في سيرته العملية صلى الله عليه وسلم في الدعوة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

(1)

المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 123) لابن تيمية، وهو مجموع مستدرك زيادة على مجموع الفتاوى، يقع في خمسة مجلدات، جمعه ورتبه وطبعه على نفقته: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، ط 1، 1418 هـ.

(2)

للتوسع ينظر: فقه السيرة للغزالي، دار القلم دمشق، خرج أحاديثه الألباني، ط 1، 1427 هـ.

ص: 499

‌المسألة الثالثة: أن يكون ملمًّا بقواعد فقه الدعوة إلى الله وضوابطه:

ومما ينبغي أن يعتنيَ به الداعية في دعوته أن يكون ملمًّا بقواعد فقه الدعوة وضوابطه؛ حتى يكون في دعوته على بصيرة، وأجملها في الآتي:

‌قواعد عامة تضبط فقه الدعوة

(1)

:

1 -

إنما الأعمال بالنيات.

2 -

الأصل في العبادات التوقيف.

3 -

الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين.

4 -

الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها.

5 -

الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم تعارضها مصلحة راجحة.

6 -

من عمل عملًا ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد.

7 -

دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.

8 -

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

9 -

الوسائل لها أحكام المقاصد.

‌قواعد خاصة تضبط فقه الدعوة

(2)

:

1 -

العقيدة أساس الدعوة ومنطلقها.

2 -

توحيد المنهج الدعوي وعدم تعدده وتجزئته.

3 -

كل مقصد دعوي يخالف مقصد الشارع فهو باطل.

4 -

كل مسلك دعوي جر فسادًا أو دفع صلاحًا فهو منهي عنه.

(1)

ينظر للتوسع: كتاب قواعد وضوابط فقه الدعوة عند شيخ الإسلام (101 - 102) لعابد الثبيتي، دار ابن الجوزي، ط 2، 1430 هـ.

(2)

الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية (297 - 298).

ص: 500

5 -

الضرورة الدعوية تقدر بقدرها.

6 -

التدرج في الدعوة.

7 -

معرفة حال المدعوين قبل دعوتهم.

8 -

مخاطبة الناس على قدر عقولهم وأفهامهم.

9 -

رد الاختلاف إلى الكتاب والسنة.

10 -

المشقة تجلب التيسير في الدعوة.

‌المسألة الرابعة: أن يكون ملمًّا بقواعد فقه التيسير في الدعوة

(1)

:

والدعوة تقوم على منهج التيسير، كما في حديث بول الأعرابي في المسجد، وقد جاء فيه أن أعرابيًّا قام فَبَالَ فِي المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ -أَوْ: ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ-؛ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»

(2)

.

وقد جاءت نصوص كثيرة في بيان أن الدين يبنى على اليسر وعدم العنت والمشقة.

قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا

(1)

ينظر في ذلك: منهج التيسير المعاصر (55 - 58) لعبد الله الطويل، دار الهدي النبوي مصر، ط 1، 1426 هـ، التيسير في الفتوى ضوابطه وأثره في النوازل المعاصرة، "بحث ضمن مؤتمر الفتوى واستشراف المستقبل"(657 - 660)، أعد البحث: د. زياد مقداد، أ. نادية الغول، والمؤتمر عقد في كلية الشريعة جامعة القصيم، 1435 هـ.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (1/ 54) ح (220).

ص: 501

حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].

وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»

(1)

.

ولكن لا بد أن يكون الداعية على بصيرة في فقه التيسير، حتى لا يقع الخلل في دعوته بسبب المفاهيم المغلوطة في فهم معنى التيسير في الدين، فيقع في طرفي الأمور؛ إما في الغلو والتشدد والتضييق على الناس فيما وسع الله عليهم، وحملهم على ما يوقع في الحرج والمشقة، بحجة أخذ الدين بقوة، ويرى أن ذلك هو المنهج السليم حتى لا يحصل تمييع بحجة التيسير.

وهناك في الطرف المقابل من يفهم يسر الدين بفهم مغلوط أيضًا، فهو يرى مراعاة رغبات الناس والتنازل عن بعض أمور الدين وثوابته، بحجة أنه يريد جذب الناس للتدين، وحتى لا ينفّر الناس، ويعد ذلك من التيسير.

والوسط في هذه المسألة هو المطلوب، وهو أن يراعي الداعية في قضية التيسير الضوابط التي تضبطها من الخلل، من مثل:

الأول: أن يكون التيسير ثابتًا بالكتاب أو السنة.

الثاني: ألا يعارض نصًّا من الكتاب أو السنة.

الثالث: أن يكون بعيدًا عن تتبع الرخص.

الرابع: أن يكون مقيدًا بمقاصد الشريعة.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر (1/ 16) ح (39).

ص: 502

الخامس: عدم مجاوزة النص في الأخذ بالتيسير.

‌المسألة الخامسة: أن يكون ملمًّا بقواعد فقه مقاصد الدعوة

(1)

:

ولأجل أن ينجح الداعية في دعوته لا بد أن يكون ذا بصيرة بفقه مقاصد الدعوة، وأن يجعل دعوته تحقق المقاصد العظيمة من هذا الفقه.

وبصيرة الداعية في فقه مقاصد الدعوة لا بد أن يراعى فيها ما يلي:

الأول: معرفة أبرز مقاصد الدعوة، حتى يعطيها الداعية من جهده في دعوة الناس ما تستحق، ومن أبرز مقاصد الدعوة:

1 -

تحقيق التوحيد والتحذير من الشرك.

2 -

إقامة الحجة على الناس بالبلاغ المبين.

3 -

هداية الناس إلى الحق وإنقاذهم من النار.

4 -

إظهار الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض.

5 -

إقامة العدل ورفع الظلم.

6 -

حفظ الضروريات الخمس.

7 -

إبراز معاني الرحمة في هذا الدين.

الثاني: أن يراعي في تحقيق هذه المقاصد سنة التدرج، وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد:

والداعية البصير لا يعتسف المراحل لتحقيق هذه المقاصد، فيفسد أكثر مما

(1)

وللتوسع في هذه المقاصد ينظر: فقه مقاصد الدعوة إلى الله تعالى (25 - 85)، رسالة ماجستير في قسم الدعوة والثقافة جامعة أم القرى، للطالب سعد القعود، إشراف أ. د. محمد جمعة، 1431 هـ، وقد طبعته دار أطلس الخضراء الرياض، ط 1، 1433 هـ.

ص: 503

يصلح، وينفر الناس عن دعوته، أو يصطدم مع أصحاب النفوذ وهو في غنية عن ذلك، ويترتب عليه تأخر الدعوة وانحرافها عن مسارها الصحيح، فلا بد إذن من مراعاة سنة التدرج

(1)

، وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد.

‌المسألة السادسة: أن يكون ملمًّا بفقه السنن الاجتماعية في الدعوة

(2)

:

ومن بصيرة الداعية في دعوته أن يكون على علم وإدراك لفقه السنن الاجتماعية في الدعوة، فإن ذلك يكسبه قدرة على السير في طريق الدعوة على بينة، ويأتي الخلل أحيانًا في الدعوة بسبب عدم فقه الداعية للقوانين والسنن الاجتماعية.

وهذه إشارة سريعة إلى بعض هذه السنن المرتبطة بالدعوة:

‌أولًا: سنن عامة لها علاقة بالداعية والدعوة والمدعوين،

أذكر منها على سبيل الإجمال:

1 -

سنة التدرج.

2 -

سنة الابتلاء.

3 -

سنة التغيير.

4 -

سنة الإعداد.

5 -

سنة الخذلان.

6 -

سنة الاستبدال.

7 -

الترف والطغيان والكفر بنعم الله من أسباب هلاك الأمم.

(1)

سيأتي إشارة لسنة التدرج في ص (532)، وكذلك فقه الموازنات ص (535).

(2)

من أراد التوسع فيما يتعلق بهذه السنن فلينظر في ذلك: كتاب السنن الاجتماعية في القرآن الكريم، للدكتور: محمد أمحزون، دار طيبة الرياض، ط 1، 1432 هـ، وكتاب السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد للدكتور: عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1، 1413 هـ.

ص: 504

‌ثانيًا: سنن خاصة بالداعية:

1 -

الصبر واليقين.

2 -

سنة التمكين.

3 -

سنة الاعتدال.

4 -

سنة الحفظ.

5 -

بالإيمان والتقوى يدفع كيد الأعداء.

‌الفرع الثالث: البصيرة في حال المدعوين، وطرائق دعوتهم:

‌المسألة الأولى: الاطلاع على حال المدعوين،

وهذا يستدعي من الداعية أن يكون ملمًّا بما يلي:

الأول: معرفة الداعية ببيئة المدعوين بكل مجالاتها:

ويدل على أهمية معرفة بيئة الداعية حديث معاذ لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» الحديث.

قال ابن حجر رحمه الله في شرحه للحديث: "هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان"

(1)

.

وعلى هذا فالداعية البصير "كالطبيب الحكيم الذي يُشخِّصُ المرض، ويعرف الداء ويُحدّده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعيًا في ذلك قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئًا من أعضائه؛ من أجل استئصال المرض طلبًا لصحة المريض،

(1)

فتح الباري لابن حجر (3/ 358).

ص: 505

وهكذا فالداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويُحدّد الدّاء، ويعرف الدّواء، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم المادة المناسبة بدءًا بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية، مع تشويق المدعو إلى القبول والإجابة"

(1)

.

الثاني: أن يكون حريصًا على دعوة أهل التأثير في هذه البيئة، وقادة الرأي فيها:

وبصيرة الداعية تستدعي منه أن يعرف أهل التأثير في البيئة التي يدعو فيها، وقادة الرأي فيها، ليصدق الله في دعوتهم، ليكسبهم في صف الدعوة، وذلك يذلل الطريق لقبول الناس لدعوته؛ لأن الناس تبع لهم، وكان صلى الله عليه وسلم حريصًا على دعوة ذوي المكانة في قومهم، ولذلك أمثلة منها:

‌1 - حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية عمه:

كان أبو طالب سيد في قومه، فحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلامه إنقاذًا له من النار، وطمعًا في دخول قومه في الإسلام؛ لأنه سيدهم وقوله لا يرد، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له:«أي عم، هذا دين الله، ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم -أو: كما قال صلى الله عليه وسلم بعثني الله به رسولًا إلى العباد، وأنت -أي عم- أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه» ، أو كما قال

(2)

.

‌2 - حرصه صلى الله عليه وسلم على دعوة أشراف القبائل وسادتها، وكان يفعل ذلك في الحج:

كان صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته على وفود العرب في موسم الحج، وفي أسواقهم، وكانت

(1)

مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة (101) للدكتور سعيد بن علي القحطاني، مطبعة سفير الرياض.

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 247) لعبد الملك بن هشام الحميري المعافري، ت: مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ الشلبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط 2، 1375 هـ.

ص: 506

من المناسبات الهامة التي يحرص فيها صلى الله عليه وسلم على دعوة ذوي المكانة من رؤساء العرب

(1)

.

عَنْ رجل من بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَتَخَلَّلُهَا يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ تُفْلِحُوا» ، قَالَ: وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ، وَتَتْرُكُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، قَالَ: وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. الحديث.

‌3 - حرصه صلى الله عليه وسلم على دعوة سادة ثقيف:

ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لدعوة سادة ثقيف وأشرافهم، يقول ابن إسحاق

(2)

رحمه الله: "لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم"

(3)

.

‌4 - حرصه صلى الله عليه وسلم على تألف عبد الله بن أبي ابن سلول، وعدم أذيته، مع عدائه الشديد للدعوة:

ونقل ابن حجر قول الخطابي -رحمة الله على الجميع- في الحكمة من تألف ابن سلول: "إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم"

(4)

.

(1)

ينظر: سيرة ابن هشام (1/ 425).

(2)

العلامة، الحافظ، الأخباري، محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السيرة النبوية، من أقدم مؤرخي العرب، وكان عالِمًا بالسير والمغازي وأيام الناس، وأخبار المبتدأ، وقصص الأنبياء، وتوفي رحمه الله سنة (151 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (2/ 7)، سير أعلام النبلاء (7/ 33)، الأعلام للزركلي (6/ 28).

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 419).

(4)

فتح الباري (8/ 336).

ص: 507

‌5 - حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام زعماء اليهود:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ اليَهُودِ، لآمَنَ بِي اليَهُودُ»

(1)

، قال ابن حجر رحمه الله معلقًا:"والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود، ومن عداهم كان تبعًا لهم"

(2)

.

‌6 - ومن الأمثلة على أثر إسلام القادة قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ

رضي عنهما، وأذكرها بطولها لما فيها من العبر، كما يرويها ابن كثير رحمه الله، فيقول:

"إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطًا من حوائط بني ظفر، على بئر يقال له: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك؛ هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدمًا.

قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتمًا

(3)

، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟

(1)

أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار واللفظ له، باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم، حين قدم المدينة (5/ 70) ح (3941)، ومسلم في كتاب صفة القيامة .. باب نزل أهل الجنة (4/ 2151) ح (2793).

(2)

فتح الباري (7/ 275).

(3)

متشتمًا: من الشتم وهو ذكر الناس بقبيح القول.

ينظر: تحفة المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح (55 - 56) لأحمد بن يوسف اللَّبْلِيُّ الفهري، ت: د. عبد الملك بن عيضة الثبيتي، أصل الكتاب: رسالة دكتوراة لفرع اللغة العربية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، في المحرم 1417 هـ.

ص: 508

اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.

وقال موسى بن عقبة

(1)

: فقال له: علام أتيتنا في دورنا بهذا الوحيد الغريب الطريد، يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه؟ قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أوَتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، قال: أنصفت.

قال: ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله، لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي.

فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلًا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلًا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه؛ وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك.

قال: فقام سعد بن معاذ مغضبًا مبادرًا؛ تخوفًا للذي ذكر له من بني حارثة،

(1)

موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي الإمام الكبير، الثقة، أبو محمد القرشي، وعداده في صغار التابعين، عالم بالسيرة النبويّة، من ثقات رجال الحديث، من أهل المدينة، توفي رحمه الله سنة (141 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (6/ 114)، تاريخ الإسلام (3/ 986)، الأعلام (7/ 325).

ص: 509

وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره؟! قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، قال: فقال له مصعب: أوَتقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.

قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن -وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف-، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته، فأقبل عامدًا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير، فلما رآه قومه مقبلًا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة

(1)

، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة"

(2)

.

الثالث: أعداء الدعوة، وكيفية التعامل معهم:

ومن بصيرة الداعية في دعوته أن يعرف أعداء الدعوة، وكيفية التعامل معهم؛ لأن معرفة أصناف أعداء الدعوة ومواقفهم من الدعوة يمكِّن الداعية من البصيرة في كيفية

(1)

النقيبة: السجية والطبيعة، أي: أنه كريم النفس ومبارك.

ينظر: الصحاح (1/ 227)، لسان العرب (1/ 768)، المعجم الوسيط (2/ 944) مادة (نقب).

(2)

البداية والنهاية (4/ 378 - 381).

ص: 510

التعامل معهم لأجل دعوتهم، أو الرد على شبههم بالطريقة المناسبة التي تدمغ باطلهم فتزهقه، كما قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].

أو التحذير من خطرهم، ويبين لمن يدعوهم شدة خطرهم عليهم، ويحذر من أساليبهم الخادعة، كما تعالى عن المنافقين:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4].

أو على أقل الأحوال أن يكسبهم في عدم الوقوف ضد الدعوة علانية وصراحة، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع المنافقين كعبد الله بن أبي ابن سلول وأتباعه ومن على شاكلته.

وقال تعالى عن أعداء الأنبياء، وكذلك أعداء الدعوة:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].

ثم ختم الآية بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وفي ذلك إرشاد لنبيه إلى كيفية التعامل مع هذا الأمر، وهكذا الداعية البصير يقتدي بنبيه في كيفية التعامل مع هذا الأساليب المزخرفة في صد الناس عن الدعوة.

وأخبر سبحانه وتعالى نبيه بأن هناك قلوبًا سوف تصغى لهؤلاء وتقبل على باطلهم، حتى يكون على بينة من ذلك، فيتعامل معهم بما يناسب، فقال تعالى:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113].

يقول السعدي رحمه الله في بيان الحكمة من وجود أعداء الأنبياء: "ومن حكمة الله تعالى في جعله للأنبياء أعداء وللباطل أنصارًا قائمين بالدعوة إليه أن يحصل لعباده

ص: 511

الابتلاء والامتحان، ليتميز الصادق من الكاذب، والعاقل من الجاهل، والبصير من الأعمى.

ومن حكمته أن في ذلك بيانًا للحق، وتوضيحًا له، فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه، فإنه حينئذ يتبين من أدلة الحق، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته، ومن فساد الباطل وبطلانه، ما هو من أكبر المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون"

(1)

.

‌المسألة الثانية: البصيرة بطريقة الدعوة المناسبة:

الداعية الذي حقق أعمال القلوب، فإن الله يوفقه ليسير في دعوته للناس على بصيرة، ويفتح الله له الطرق المناسبة في دعوة الناس، ويؤتيه الله الحكمة في دعوته، ليعطي لكل من يدعوه ما يناسبه من الطريقة والأسلوب، فمن الناس من يحتاج في دعوته إلى الموعظة الحسنة، واستخدام أساليبها المتنوعة: من خلال الترغيب والترهيب، أو القصة، أو ضرب المثل، أو نحو ذلك من أساليب الموعظة.

ومن الناس من يحتاج في دعوته إلى أساليب الجدال بالتي هي أحسن، وهذا ما سيتم تفصيله

(2)

.

‌المطلب الرابع: أسباب ضعف البصيرة:

كما أن للبصيرة أسبابًا تقويها، وكذلك في المقابل هناك أسباب تضعف البصيرة، فعلى الداعية أن يحذر منها، وهي كثيرة، أذكر منها على سبيل الإجمال:

1 -

الجهل.

2 -

اتّباع الهوى.

3 -

التعصب.

(1)

تفسير السعدي (270).

(2)

ينظر: ص (556).

ص: 512

4 -

التقليد الأعمى.

5 -

المعاصي.

ودونك تفصيل يسير لهذه الأسباب:

‌أولًا: الجهل:

إن مما يضعف البصيرة أو يذهبها: الجهل وعدم العلم؛ لأن الجهل يميت القلوب، فتفقد نور بصيرتها، يقول ابن القيم رحمه الله عن أثر الجهل على القلب: "فإن الجاهل ميت القلب والروح، وإن كان حي البدن فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض، قال الله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69، 70]، وقال تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80]، وقال تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، وشبههم في موت قلوبهم بأهل القبور، فإنهم قد ماتت أرواحهم، وصارت أجسامهم قبورًا لها، فكما أنه لا يسمع أصحاب القبور، كذلك لا يسمع هؤلاء، وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان، ولم تتحرك له: كانت ميتة حقيقة، وليس هذا تشبيهًا لموتها بموت البدن، بل ذلك موت القلب والروح.

وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد من كلام لقمان أنه قال لابنه: يا بني، جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي

ص: 513

الأرض بوابل القطر

(1)

"

(2)

.

وعلى هذا فإن من مات قلبه بالجهل ماتت بصيرته.

‌ثانيًا: اتّباع الهوى:

ومن الأمور التي تُطفِئ نور البصيرة: اتباع الهوى، فهو يعمي القلب، ويضل العبد عن سبيل الله، فيترتب على ذلك عمى البصيرة.

قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].

يقول ابن القيم رحمه عن أثر اتباع الهوى على البصيرة: "فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم .. والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره، فأرته نفسه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل"

(3)

.

ومن كان هذا حاله طمست بصيرته، وغادرت قلبه إلى غير رجعة، إلا أن ينزع من قلبه اتباع الهوى، ثم يتبع الهدى، فحينئذ تعود إلى قلبه أنوار البصيرة، وتقوى بحسب قربه من الحق واتباعه له، وبعده عن اتباع الهوى.

(1)

ينظر: الزهد لأحمد بن حنبل (89).

(2)

مدارج السالكين (3/ 245 - 246).

(3)

مدارج السالكين (1/ 447 - 448).

ص: 514

ثالثًا: التعصب:

ومن أسباب ضعف البصيرة عند الداعية: التعصب المذموم للأشخاص، أو للأحزاب والجماعات، أو لمذهب فقهي؛ فإنه يؤدي به إلى ربط الحق بهؤلاء الذين يتعصب لهم، فتجده يحاول أن يرد الحق إذا جاءه من غير هؤلاء الذين يتعصب لهم، فيقع في اتباع الهوى.

‌رابعًا: التقليد الأعمى:

ويلحق بالتعصب في إطفاء نور البصيرة التقليد الأعمى الذي هو من أسباب التعصب، وسبيله الموصل إليه، والتقليد بهذه الصفة للأشخاص أو المذاهب ونحوها يجعل صاحبه يرفض الحق إذا جاء من غير الذي يقلده، وهو باب من أبواب اتباع الهوى.

‌خامسًا: المعاصي:

ومن أسباب ضعف البصيرة عند الداعية: التساهل في الوقوع في المعاصي، وبالذات ذنوب الخلوات، والمعاصي الخفية التي يصر عليها العبد.

يقول ابن القيم رحمه الله في بيان أثر المعاصي على القلب: "ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب مواد الهداية.

وقد قال مالك للشافعي لما اجتمع به ورأى تلك المخايل: إني أرى الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية

(1)

.

ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل، وظلام المعصية يقوى حتى يصير القلب

(1)

وفي تاريخ دمشق (51/ 286) ذكر قصة قريبة مما سبق، وذلك أنه لما التقى الشافعي بمالك وطلبه الوالي للخروج لمقابلة الشافعي في غير وقت الدرس، فغضب مالك، فقال له الشافعي:"أصلحك الله، إني رجل مطَّلبي، ومن حالي ومن قصتي، فلما أن سمع كلامي نظر إليّ ساعة كان لمالك فراسة، فقال: لي ما اسمك؟ فقلت: محمد، فقال لي: يا محمد، اتق الله واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأن من الشأن".

ص: 515

في مثل الليل البهيم، فكم من مَهْلك يسقط فيه ولا يبصر، كأعمى خرج بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب، فيا عزة السلامة ويا سرعة العطب"

(1)

.

(1)

الجواب الكافي (77 - 78).

ص: 516

المبحث الرابع:

الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة

المطلب الأول: معنى الحكمة.

المطلب الثاني: أسباب الحكمة.

المطلب الثالث: من معالم فقه الحكمة في الدعوة وأساليبها.

المطلب الرابع: عوائق الحكمة.

ص: 517

‌المبحث الرابع: الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة

‌توطئة:

مر في المبحث السابق الكلام عن البصيرة في الدعوة إلى الله وأثرها على الداعية ودعوته، والحكمة لها علاقة وثيقة بالبصيرة لارتباط ما بينهما؛ لأن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى دليل على البصيرة.

ومن توفيق الله تعالى للداعية الذي اجتهد في تحقيق أعمال القلوب أن يرزقه الله مع البصيرة الحكمة في دعوته، قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، قال السعدي رحمه الله:"لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم، وكان ذلك لا يحصل لكل أحد، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرًا كثيرًا، وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما؟! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية، فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك"

(1)

.

(1)

تفسير السعدي (115).

ص: 518

وقال سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم والدعاة إلى الله من بعده، في بيان أساليب الدعوة المؤثرة التي سار عليها الأنبياء عليهم السلام، وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

وسيكون الكلام على هذا المبحث في المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: معنى الحكمة.

المطلب الثاني: أسباب الحكمة.

المطلب الثالث: من معالم فقه الحكمة في الدعوة وأساليبها.

المطلب الرابع: عوائق الحكمة.

المطلب الأول: معنى الحكمة:

الحكمة في اللغة:

تطلق على عدة معان، منها: العلم، فيقال: صاحب حكمة أي: عالم، وتأتي بمعنى إتقان الأمر، فيقال: رجل حكيم، أي: متقن للأمور، وتأتي بمعنى المنع، ومنه الحُكْم؛ لأنه يمنع من الظلم، وسمي لجام الدابة حَكَمَة

(1)

؛ لأنها تمنع الدابة وتردها

(2)

.

والحكمة في الاصطلاح:

لها تعاريف كثيرة، منها:

(1)

الحَكَمَة: حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه، تمنعه عن مخالفة راكبه.

ينظر: لسان العرب (12/ 144) مادة (حكم).

(2)

ينظر: الصحاح (5/ 1901)، مقاييس اللغة (2/ 91)، لسان العرب (12/ 141) مادة (حكم).

ص: 519

1 -

يرى الإمام ابن جرير رحمه الله أن الحكمة: "الإصابة في القول والفعل"

(1)

.

2 -

وقال القرطبي رحمه الله في معنى الحكمة: "وأصل الحكمة: ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم: حكمة؛ لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه، وهو كل فعل قبيح"

(2)

.

3 -

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما الحكمة في القرآن فهي: معرفة الحق وقوله والعمل به"

(3)

.

4 -

وقال ابن القيم رحمه الله: "وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: إنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل. وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان"

(4)

.

5 -

ومنهم من عرفها بوضع الشيء في موضعه

(5)

.

6 -

ومن التعاريف الحسنة للحكمة ما قاله ابن القيم رحمه الله: "الحكمة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي"

(6)

.

7 -

وعرفها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل الأمور منازلها، وتوضع في مواضعها"

(7)

.

وبناءً على ما سبق يمكن أن أضع تعريفًا للحكمة في الدعوة إلى الله تعالى بأنها: "الفقه في الدين والعمل الذي يورّث إصابة الحق في القول والفعل، وإتقان

(1)

ينظر: تفسير الطبري (5/ 8، 10، 12).

(2)

تفسير القرطبي (3/ 330).

(3)

مجموع الفتاوى (2/ 45).

(4)

مدارج السالكين (2/ 448).

(5)

ينظر: الكليات (382).

(6)

مدارج السالكين (2/ 449).

(7)

الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات (35) للشيخ ابن عثيمين، دار الوطن، ط 1426 هـ.

ص: 520

الأمور، ووضعها في موضعها المناسب"، والله أعلم.

‌المطلب الثاني: أسباب الحكمة

(1)

:

في نظري أن أسباب البصيرة التي سبق الكلام عنها

(2)

هي كذلك أسباب للحكمة، ويضاف إليها:

‌1 - العمل بالعلم المقرون بالإخلاص والصدق:

إن العمل بالعلم الذي يرافقه الإخلاص والصدق يورث الحكمة، ويوفق للإصابة في القول والعمل، والداعية لا يكون حكيمًا في دعوته حتى يعمل بالعلم؛ مخلصًا فيه لله يحدوه الصدق مع ربه، وهذا الذي دعوته دواء للقلوب، تقبل عليها؛ تقرّبًا من الله، وتشوّقًا إلى جنته.

وأما إذا لم يعمل الداعية بعلمه أو ضعف إخلاصه وصدقه، نزعت منه الحكمة وكانت موعظته لا أثر لها، ونفرت منه القلوب.

قال مالك بن دينار

(3)

رحمه الله: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا"

(4)

.

(1)

ينظر في ذلك: الحكمة، للدكتور: ناصر العمر (55 - 76)، الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات، الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، للدكتور سعيد القحطاني (96)، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1423 هـ، الرائد دروس في التربية والدعوة، لمازن الفري (3/ 44 - 48)، دار الأندلس الخضراء جدة، ط 2، 1427 هـ.

(2)

ينظر: ص (486).

(3)

مالك بن دينار عَلَمُ العلماء الأبرار، معدود في ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف. توفي رحمه الله سنة (127 هـ)، وقيل: سنة (130 هـ)، وقيل: سنة (131 هـ)، والله أعلم.

ينظر: وفيات الأعيان (4/ 139)، سير أعلام النبلاء (5/ 362)، الأعلام (5/ 260).

(4)

الزهد للإمام أحمد (262).

ص: 521

وقال الذهبي رحمه الله: "فمن طلب العلم للعمل كسره العلم، وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء تحامق، واختال، وازدرى بالناس، وأهلكه العُجْب، ومقتته الأنفس"

(1)

.

‌2 - الحلم والأناة:

من أسباب الحكمة التحلي بخلق الحلم والأناة، وهما خلقان يحبهما الله، قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس:«إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ» الحديث

(2)

، فمن رزقهما أو جاهد نفسه على التحلي بهما، فتح الله عليه الحكمة في دعوته، ونفع الله بها. وتفصيل هذين السببين كما يلي:

الأول: الحِلم:

هو في اللغة: يطلق على ترك العجلة، والعقل، والتثبت في الأمور

(3)

.

وفي الاصلاح: لا يبعد معناه الاصطلاحي عن معناه في اللغة، وهو: ضبط النّفس والطبع عند هيجان الغضب

(4)

على ترك العجلة، وعلى التعقل والتثبت في الأمور

(5)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ

(6)

، إِنَّمَا

(1)

سير أعلام النبلاء (18/ 192).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين، والدعاء إليه (1/ 48) ح (17).

(3)

ينظر: مقاييس اللغة (2/ 93)، لسان العرب (12/ 146) مادة (حلم).

(4)

ينظر: المفردات في غريب القرآن (253).

(5)

ينظر: مقاييس اللغة (2/ 93)، لسان العرب (12/ 146) مادة (حلم).

(6)

وقال في الصحاح (3/ 1243) عن معنى الصرعة: "أي: يصرع الناس كثيرًا".

ص: 522

الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»

(1)

.

والداعية الذي يتحلى بخلق الحلم يرزقه الله الحكمة ويعينه عليها؛ لأن من يضبط نفسه عند الغضب، فسيثمر له ذلك المواقف السليمة، والتصرف بحكمة في المواقف الصعبة.

الثاني: الأناة:

وهو خلق جميل بمعنى: التثبت وترك العجلة

(2)

في الأمور المشكلة

(3)

، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].

قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة.

فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبت وتبين؛ لأن ذلك تحصيل حاصل.

وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (8/ 28) ح (6114)، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب (4/ 2014) ح (2609).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (1/ 189).

(3)

تفسير السعدي (194).

ص: 523

فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي"

(1)

.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وفي الآية الكريمة منهج تربوي عظيم ينبغي أن يسير عليه المسلمون عامة والدعاة خاصة، وهو منهج التثبت والتبين وعدم العجلة، في بناء الأحكام على يأتي من خبر، وبالذات خبر الفاسق أو المجهول، وقال السعدي رحمه الله:"وهذا أيضًا من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه عمل به وصُدِّق، وإن دلت على كذبه كُذِّب، ولم يعمل به. ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا"

(2)

.

ويلحق بالفاسق -والله أعلم- الشخص المجهول أو المصدر المجهول الذي لا يعرف صدقه من كذبه، أو بمصطلح العصر ما يسمى بالشائعات، فينبغي على الداعية أن يتثبت ويتبين عند حصول خبر من هذه المصادر، حتى لا يبني عليه أحكامًا يندم عليها، يكون ضررها عليه وعلى دعوته، قال تعالى في بيان المنهج: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ

(1)

تفسير السعدي (194).

(2)

تفسير السعدي (800).

ص: 524

مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].

يقول السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية مستنبطًا منها قواعد تربوية مهمة: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا لهم وتحرزًا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه؛ ولهذا قال:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ.

وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه: هل هو مصلحة، فيقدم عليه الإنسان، أم لا فيحجم عنه"

(1)

.

‌3 - العدل:

العدل خلق عظيم، ومبدأ أصيل، يبعث على الحكمة؛ وذلك لأن الداعية المحقق للعدل في نفسه ومع الناس قريب من الله، يؤتيه الله الحكمة، ويوفقه لها، والعدل أقرب

(1)

تفسير السعدي (190).

ص: 525

للتقوى كما قال تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقال تعالى عن أثر التقوى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، ومن كان هذا حاله تيسرت له الحكمة ووفق لها.

ولحب الله للعدل جاءت النصوص مرغبة فيه، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

‌4 - الرحمة واللين والرفق:

من رزقه الله الرحمة واللين والرفق وفقه سبحانه وتعالى في أصابة الحكمة والقول بها؛ لأن هذه الأسباب تؤثر في خلق العبد، وتضبط نفسه من التسرع والانفعال الذي يتنافى مع الحكمة، فمن كانت صفاته غلظ القلب نفر الناس عنه، وانفضوا من حوله كما قال تعالى مرشدًا خيرة خلقه صلى الله عليه وسلم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وفي الآية إشارة إلى أن لين قلب الداعية من أعظم أسباب إقبال المدعوين عليه، وأن في المقابل غلظ القلب سبب لنفور الناس عن الداعية مهما أوتي من القدرات

ص: 526

العلمية؛ لأن الغلظ -والله أعلم- ينزع منه الحكمة في التعامل مع الناس، فينفضون عنه.

وقال تعالى في بيان مقصد رسالته صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»

(1)

.

وعَنها رضي الله عنها: أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. قَالَ:«مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ» ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟! رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ»

(2)

.

وعَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ»

(3)

.

وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله (8/ 12) ح (6024)، ومسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (4/ 1706) ح (2165).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا» (8/ 12) ح (6030).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق (4/ 2003) ح (2592).

(4)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق (4/ 2003) ح (2593).

ص: 527

وعَنها رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»

(1)

.

فهذه النصوص تبين أهمية الرفق مع الناس، فإذا اتصف الداعية إلى الله تعالى به فتح الله له مغاليق القلوب، ورزقه الحكمة وإصابة الحق في قوله وفعله.

‌5 - الاستشارة:

ومن أسباب الحكمة استشارة الداعية لأصحاب العلم والخبرة من أولي الألباب قبل أن يقدم على ما يريده من أمور الدعوة في الأمور التي تحتاج إلى اشتراك الرأي فيها، وبالأخص الأمور التي يعود نفعها أو ضررها على الجميع؛ ليوفق فيها للصواب، يقول ابن جرير رحمه الله في ثمرة الاستشارة:"لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك لم يخلهم الله عز وجل من لطفه، وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه"

(2)

.

وإذا كانت الاستشارة مبنية على المحبة والتواد، وإرادة الجميع للصواب، من غير ميل إلى هوى، أو حيد عن هدى، فإن الله يوفقهم ويسددهم

(3)

.

‌المطلب الثالث: من معالم فقه الحكمة في الدعوة وأساليبها

(4)

:

حتى ينجح الداعية في دعوته لا بد أن يكون على اطلاع على معالم فقه الحكمة في الدعوة وأساليبها، وأشير إليه في هذه النقاط الآتية:

‌أولًا: مراعاة التدرج:

ومعنى التدرج في الدعوة: أن يراعي الداعية حال المدعوين، ويترقى بهم في الدعوة شيئًا فشيئًا، يبدأ بالأهم ثم المهم، حتى يصل بهم الغاية المقصودة، وفق طرق مشروعة

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق (4/ 2004) ح (2594).

(2)

تفسير الطبري (6/ 190).

(3)

ينظر: تفسير الطبري (6/ 191).

(4)

ينظر في ذلك: الرائد دروس في التربية والدعوة (3/ 58 - 62 - )، مفهوم الحكمة في الدعوة (26 - 58).

ص: 528

مخصوصة

(1)

.

ويدل على هذا المعلم قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما أرسله داعية إلى أهل اليمن: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» .

وعلى الداعية أن يتعرف على أحكام التدرج التي تناسب المدعوين، فقضية التدرج في دعوة الكفار تختلف عن دعوة غيرهم.

‌ثانيًا: معرفة طبائع النفوس:

إن الحكمة في الدعوة تقتضي أن يعرف الداعية طبائع النفوس ليتعامل معها بالطريقة المناسبة، فالناس "متباينون في طبائعهم، مختلفون في مدركاتهم، في العلم والذكاء، في الأمزجة والمشاعر، مختلفون في الميول والاتجاهات؛ مما يدعو رجل العلم والدعوة إلى تخير المدخل -بل المداخل- المناسبة لتلك النفوس المختلفة والعقول المتباينة.

نعم، إن فيهم الغضوب والهادئ، وفيهم المثقف والأمي، فيهم الوجيه وغير الوجيه"

(2)

، ولكن إذا أحسنتَ تألف قلوبهم أقبلوا عليك، والذي لا يحسن التعامل مع طبائعهم المختلفة، ويعاملهم بطريقة واحدة، ينفرون منه كما تنفر الوحوش، ومما قيل

(1)

ينظر: التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (17) لإبراهيم بن عبد الله المطلق، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، مركز البحوث والدراسات الإسلامية، ط 1، 1417 هـ.

(2)

مفهوم الحكمة في الدعوة (27) د. صالح بن عبد الله بن حميد، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1422 هـ.

ص: 529

عن علي رضي الله عنه: القلوب وحشية، فمن تألفها أقبلت عليه"

(1)

.

يقول الشيخ صالح بن حميد

(2)

حفظه الله في تعليقه على قول علي رضي الله عنه: "إنه يصورها رضي الله عنه وكأنها دواب متوحشة، لا تعرف الألفة في طبعها، ويبدو هذا -والله أعلم- في ميدان النصائح والتوجيهات، فهل رأيت من يرضى أن تنسبه إلى جهل، أو عدم معرفة، أو سوء في التصرف؟!

إن الإنسان يعظم عليه أن ينسب إلى الجهل؛ ولذا تراه يغضب إذا نبه على الخطأ، ويجتهد في مجاهدة الحق بعد معرفته خيفة انكشاف جهله.

إنها في هذا الباب تنفر إذا قرب منها، بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي، ومن كان صاحب حكمة وفطنة في ترويض الوحوش فهو المفلح -بتوفيق الله- في هداية الناس.

وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، وتقصد إلى شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم .. شيء من العناية -غير المتصنعة- باهتماماتهم وهمومهم. وسوف يصل إلى مصدر النبع الخيّر في نفوسهم، وحينئذ يمنحونه حبهم وثقتهم. إن شيئًا من سعة الصدر والإحاطة بطبائع

(1)

ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (1/ 379) للزمخشري توفي 583 هـ، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1412 هـ.

(2)

الشيخ إمام الحرم صالح بن عبد الله بن محمد ابن حميد، ينتهي نسبة إلى قبيلة بني خالد، نشأ وتربى وتعلم على يد والده الإمام العلامة عبد الله ابن حميد، حصل على الدكتوراه في الفقه وأصوله عام 1402 هـ، وباشر في إمامة الحرم المكي عام 1404 هـ، وعمل في الكثير من مناصب الدولة، وله الكثير من المشاركات الدعوية والعلمية وفي الأعمال الخيرية، وله من المصنفات: أثر تطبيق الشريعة في استتاب الأمن، أدب الخلاف، أصول الحوار وآدابه في الإسلام وغير ذلك.

ينظر: أئمة المسجد الحرام 1334 - 1436 هـ (577)، جمعه: عبد الله العلاف الغامدي، دار الطرفين، ط 2، 1436 هـ.

ص: 530

النفوس كفيل بتحقيق الخير في الناس بنتيجة لا يظنها الكثيرون"

(1)

.

‌ثالثًا: مخاطبة الناس على قدر عقولهم:

وفقه الحكمة في الدعوة يستدعي من الداعية أن يدرس واقع الناس، وأحوالهم، وقدراتهم العقلية؛ ليخاطبهم على قدر عقولهم؛ حتى يتمكن من التأثير فيهم، ويقبلون على دعوته، ولا ينفرون منها

(2)

، وينبغي على الداعية الحكيم ألا يخاطب الناس بأمور أعلى من قدراتهم العقلية، فيحصل لبعضهم فتنة، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:«ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»

(3)

، وقال علي رضي الله عنه:«حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!»

(4)

.

‌رابعًا: القول الحسن:

من الحكمة مع المدعوين أن يتلطف بهم في الخطاب، وأن يقول القول الحسن الذي ينفذ إلى القلوب، ويقربها من الخير، قال الله تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، يقول القرطبي رحمه الله:"وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه؛ لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44]، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه"

(5)

.

(1)

مفهوم الحكمة في الدعوة (27 - 30).

(2)

الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى (335).

(3)

أخرجه مسلم موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/ 11).

(4)

البخاري موقوف على علي رضي الله عنه (1/ 37).

(5)

تفسير القرطبي (2/ 16).

ص: 531

‌خامسًا: معرفة فقه الموازنات:

الداعية الحكيم لا بد أن يكون ملمًّا بفقه الموازنات؛ ليعرف قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد، وذلك لأن الشريعة جاءت "بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما"

(1)

، وليس العاقل -كما يقول شيخ الإسلام- "الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:

إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا مِنْ جِسْمِهِ مَرَضَانِ مُخْتَلِفَانِ دَاوَى الْأَخْطَرَا

(2)

وهذا ثابت في سائر الأمور"

(3)

.

‌سادسًا: مراعاة الوقت المناسب:

ومن الحكمة في الدعوة أن يختار الداعية الأوقات المناسبة في وعظه وتذكيره للناس، حتى لا يملوا، ومما يدل على التخول بالموعظة ما ورد عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ:"أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا؛ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى (20/ 48).

(2)

ذكره ابن أيدمر في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 153) ولم ينسبه لأحد، ت: الدكتور كامل سلمان الجبوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1436 هـ.

(3)

مجموع الفتاوى (20/ 54).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب العلم واللفظ له، باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة (1/ 25) ح (70)، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الاقتصاد في الموعظة (4/ 2172) ح (2821).

ص: 532

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "حَدِّثِ الْقَوْمَ مَا حَدَجُوكَ

(1)

بِأَبْصَارِهِمْ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ، فَإِذَا انْصَرَفَتْ عَنْكَ قُلُوبُهُمْ، فَلا تُحَدِّثْهُمْ"، قِيلَ: وَمَا عَلامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "إِذَا الْتَفَتَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَرَأَيْتَهُمْ يَتَثَاءَبُونَ، فَلا تُحَدِّثْهُمْ"

(2)

.

وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ، فَثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَلا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، فَتُمِلَّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ، فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ»

(3)

.

‌سابعًا: الأصل التعريض لا التصريح:

ومعنى التعريض: خلا ف التصريح، وهو ما يفهم به السامع المراد من غير تصريح بالقول

(4)

.

والتعريض من الأساليب الحكيمة المؤثرة في النفوس التي يوفق الله لها أصحاب القلوب الرحيمة، فمن رزق هذا الأسلوب استطاع أن يغير في واقع المدعوين، وكسب قلوبهم، فأما أسلوب التصريح فإنه يؤدي إلى النفور من النصيحة، والتبجح بالمجاهرة، ويهيّج النفس على الإصرار والعناد. أما التعريض فإنه يستميل النفوس الفاضلة

(5)

، ويكبح جماح نفور النفس، فتقبل على الدعوة راغبة طالبة؛ ولذا كان المنهج النبوي

(1)

قال البغوي رحمه الله: "قوله: «حَدَجُوكَ بِأَبْصَارِهِمْ» أي: رموك بها، يريد: حدثهم ما داموا يشتهون حديثك، فإذا أعرضوا عنك، فاسكت". شرح السنة (1/ 314).

(2)

شرح السنة للبغوي (1/ 313).

(3)

شرح السنة (1/ 314).

(4)

ينظر: التعريفات (62).

(5)

ينظر: مفهوم الحكمة في الدعوة (42).

ص: 533

يقوم على التعريض في الغالب، يقول صلى الله عليه وسلم:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! .. »

(1)

.

وإن كان هناك بعض الحالات لا ينفع فيها إلا التصريح دون التعريض، وهذا يرجع إلى توفيق الله للعبد للحكمة؛ ليتعامل مع كل حالة بما يناسبها.

‌ثامنًا: المداراة لا المداهنة:

المداراة صورة من صور التعامل الدال على الحكمة، والموصل إلى المقصود، مع حفظ كرامة ومروءة الداعية والمدعو

(2)

.

والمداراة تعني لين الكلمة وترك الإغلاظ في القول للناس، وتألفهم.

ومن أمثلتها دفع شر الظالم المتسلط بغير العنف، كالملاطفة ودفع المال ونحو ذلك

(3)

.

وقال ابن بطال

(4)

رحمه الله: "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة وسل السخيمة

(5)

"

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (2/ 1020) ح (1401).

(2)

ينظر: مفهوم الحكمة في الدعوة (49).

(3)

ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 305)، ت: أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط 2، 1423 هـ، معجم لغة الفقهاء (417).

(4)

العلامة، أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري، القرطبي، شارح صحيح البخاري، كان من أهل العلم والمعرفة، توفي رحمه الله سنة (449 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 47)، تاريخ الإسلام (9/ 741)، الأعلام (4/ 285).

(5)

السخيمة: الحقد في النفس.

ينظر: تهذيب اللغة (7/ 91)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 351) مادة (سخم).

(6)

شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 305).

ص: 534

وبوب البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: "باب المداراة مع الناس"، وأورد فيه أثرًا عن أبي الدرداء رضي الله عنه: «إِنَّا لَنَكْشِرُ

(1)

فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ»

(2)

، وحديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ» أَوْ: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ» ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الكَلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي القَوْلِ! فَقَالَ:«أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ -أَوْ: وَدَعَهُ- النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ»

(3)

.

وفرق ابن بطال رحمه الله بين المداراة والمداهنة بقوله: "وقال بعض العلماء: وقد ظن من لم ينعم النظر أن المداراة هي المداهنة، وذلك غلط؛ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق بينهما بيّن، وذلك أن المداهنة اشتق اسمها من الدهان الذي يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، وفسرها العلماء فقالوا: المداهنة هي أن يلقى الفاسق المظهر لفسقه فيؤالفه ويؤاكله ويشاربه، ويرى أفعاله المنكرة ويريه الرضا بها، ولا ينكرها عليه، ولو بقلبه وهو أضعف الإيمان، فهذه المداهنة التي برأ الله عز وجل منها نبيه عليه السلام بقوله:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].

والمداراة هي الرفق بالجاهل الذي يستتر بالمعاصي، ولا يجاهر بالكبائر، والمعاطفة في رد أهل الباطل إلى مراد الله بلين ولطف؛ حتى يرجعوا عما هم عليه"

(4)

.

(1)

الكشر: بدو الأسنان عند التبسم.

ينظر: الصحاح (2/ 806)، ولسان العرب (5/ 142) مادة (كشر).

(2)

صحيح البخاري: كتاب الأدب (8/ 31).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس (8/ 31) ح (6131).

(4)

شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 306).

ص: 535

‌تاسعًا: إقالة العثرات وغض الطرف عن الأخطاء:

يقول الشيخ صالح بن حميد حفظه الله: "إقالة العثرات، والغض عن الأخطاء، وأسلوب المداراة المتقرر في الفقرة السابقة، يقود إلى غض الطرف عن أخطاء المقصرين ما دام طريقًا لاستصلاحهم، وإقالة عثرات العاثرين إذا كانوا كرامًا ذوي هيئات، أو كان ذلك سبيلًا إلى دفنها وتقليلها"

(1)

.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا مَرْثَدٍ الغَنَوِيَّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ

(2)

، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ المُشْرِكِينَ، مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى المُشْرِكِينَ». فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: الكِتَابُ، فَقَالَتْ: مَا مَعَنَا كِتَابٌ، فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا، فَقُلْنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الجِدَّ أَهْوَتِ إلى حُجْزَتِهَا، وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتْهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» قَالَ حَاطِبٌ: وَاللَّهِ، مَا بِي أَنْ لَا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ القَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَ، وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا» ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ:«أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟!» فَقَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ» ، أَوْ:

(1)

مفهوم الحكمة في الدعوة (56).

(2)

موضع بقرب حمراء الأسد من حدود العقيق، من نواحي المدينة من جهة مكة، وهو حمى للمدينة، بقرب ذي الحليفة.

ينظر: معجم البلدان (2/ 335)، المعالم الأثيرة في السنة والسيرة (107).

ص: 536

«فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ

(1)

.

‌المطلب الرابع: عوائق الحكمة

(2)

:

فكما سبق أن للحكمة أسبابًا، من أتى بها وجاهد نفسه على العمل بها وفقه الله للحكمة ورزقه إياها، وفي مقابل هذا من وقع في عوائق الحكمة حرم منها ولم يوفقه الله لها، وهذه بعض العوائق في طريق الحكمة:

‌1 - الجهل:

الجهل يعيق عن الحكمة، ويوقع صاحبه في المزالق الخطيرة، والجاهل ما يفسده أكثر مما يصلحه، وكم يُجَرّ على الدعوة من انحرافات بسبب الجهل، وقد ذكر الله في كتابه أن مما يعوق الإنسان عن الحق ويوقعه في رده والبعد عنه الجهل، قال تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]، وقال تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138].

وقد سبق الكلام على هذا الموضوع

(3)

.

‌2 - الهوى وعدم التجرد:

ومما يضاد الحكمة ويعمي القلب عنها الوقوع في الهوى، قال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب .. (5/ 77) ح (3983)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة (4/ 1941) ح (2494).

(2)

ينظر في ذلك: الحكمة للدكتور ناصر العمر (35 - 54)، الرائد دروس في التربية والدعوة (3/ 48 - 55).

(3)

ينظر: ص (516).

ص: 537

سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

وقد سبق الكلام عن الهوى

(1)

.

‌3 - ضعف التعامل مع الأدلة الشرعية:

وذلك يرجع إلى الجهل، والهوى وعدم التجرد لله، وقلة التقوى، فاذا أصيب الداعية بهذه الأمور لم يرزقه الله الحكمة في التعامل مع أدلة الشرع.

وهذا العائق يندرج تحته مجموعة من الأسباب، منها:

الأول: ضعف المعرفة بالقرآن من ناحية: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله

(2)

.

والذي يجهل هذه العلوم لا يوفق للحكمة في فهم القرآن الكريم، ويؤدي إلى تأوُّله على غير مراد الله ورسوله.

الثاني: عدم الجمع بين الأدلة.

ويقع في هذا من أصيب بداء العجلة، وأصاب قلبه الهوى؛ لأنه إذا صبر وتجرد لله وجمع بين الأدلة وفهم مراد الله من مجموعها، يوفقه الله للحكمة في التعامل مع هذه الأدلة، فلا يسقطه الشيطان في مرض الهوى وغوائله.

الثالث: الاستدلال بالدليل في غير موضعه.

ويقع في هذا من أصيب بداء الجهل، وعدم فهم مراد الله من النص، والتسرع في الفتوى بسبب العجلة في تنزيل الدليل على الواقعة بدون تأمل وطلب للتوفيق من الله، وينبغي على من يقوم بمهمة تعليم الناس والإفتاء أن يستلهم عون الله، ويستنزل توفيقه

(1)

ينظر: ص (517).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (5/ 8) فقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن معرفة هذه الأمور المتعلقة بالقرآن من الحكمة.

ص: 538

له وإعانته، بالدعاء والتضرع في أن يلهمه الله الصواب، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، فعليه أن يوجه قلبه ونظره إلى منبع الهدى والرشد والصواب إلى النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح تعصف بذلك النور، فتطفئه أو تكاد، ولا بد أن تضعفه

(1)

.

ويقول ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمه الله: "وشهدت شيخ الإسلام إذا أعيته المسائل واستعصت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيَّتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علمًا وحالًا، وسار قلبه في ميادينه حقيقة وقصدًا، فقد أعطي حظه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق، فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"

(2)

.

‌4 - العجلة وعدم ضبط النفس:

إن العجلة وعدم ضبط النفس من الصفات المذمومة التي تتنافى مع حكمة الداعية، وتجر الدعوة إلى مزالق خطره، وفي الغالب تؤدي إلى تصادم الداعية مع الناس؛ ولذا جاء ذم العجلة وأنها من الشيطان، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَان»

(3)

.

(1)

ينظر: إعلام الموقعين (4/ 131 - 132).

(2)

إعلام الموقعين (4/ 132).

(3)

أخرجه الترمذي عن سهل بن سعد رضي الله عنه بلفظ: (الأناة) بدل (التأني) في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة (4/ 367) ح (2012) وأشار إلى ضعفه بقوله:"هذا حديث غريب"، وأبو يعلى في مسنده من حديث أنس رضي الله عنه (7/ 247) ح (4256)، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب آداب القاضي، باب التثبت في الحكم (10/ 178) ح (20270)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب في كتاب الذكر والدعاء الترغيب في الإكثار من ذكر الله سرا وجهرا (2/ 284) ح (2419):"رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح"، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الأدب، باب ما جاء في الرفق (8/ 19) ح (12652):"رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 404) ح (1795) عن إسناده عن أنس رضي الله عنه:"وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير سعد بن سنان وهو حسن الحديث كما تقدم غير مرة".

ص: 539

وقال المناوي في شرحه لهذا الحديث: "أي: هو الحامل عليها بوسوسته؛ لأن العجلة تمنع من التثبت والنظر في العواقب"

(1)

.

وقال ابن القيم في ذم العجلة: "ولهذا كانت العجلة من الشيطان، فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور، وتمنعه أنواعًا من الخير، وهي قرين الندامة فقل من استعجل إلا ندم"

(2)

.

وكذلك من الصفات التي تنافي الحكمة عدم ضبط النفس عند تعرض الداعية لمواقف يستفزّ فيها، بل ينبغي عليه كظم غيظه، وعدم الغضب لنفسه، قال تعالى في وصف عباده المتقين:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ»

(3)

.

(1)

فيض القدير (3/ 184).

(2)

الروح (258) لابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت.

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (10/ 270) ح (6114)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحلم (2/ 1401) ح (4189)، وصححه الألباني في سنن ابن ماجه (696) ح (4189) طبعة مكتبة المعارف، الرياض، اعتنى به مشهور آل سلمان، ط 1، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (10/ 270) ح (6114) وسنن ابن ماجه (5/ 282) ح (4189).

ص: 540

وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنفذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ»

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» .

وسيأتي مزيد بيان لآفة الاستعجال

(2)

.

‌5 - الخلل في فقه الموازنات:

إن الخلل في فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد في التقديم والدرء يعود بآثاره السلبية على الداعية في دعوته، فلا يصيب الحكمة، فتتعثر دعوته، وقد سبق الكلام على هذا

(3)

.

‌6 - ضيق الأفق وسطحية التفكير:

وهذه الصفة تتنافى مع حكمة الداعية، بل توقع الداعية في أمور تخل بدعوته، وتمكن للأعداء من التسلط عليه، وصرفه عن المنهج الصحيح في الدعوة، ولذلك

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (24/ 384) ح (15619)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب من كظم غيظًا (4/ 248) ح (4777)، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب من كظم غيظًا (4/ 372) ح (2021) وقال:"حديث حسن غريب"، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحلم (2/ 1400) ح (4186)، وحسنه الألباني في سنن أبي داود (718) ح (4777) طبعة مكتبة المعارف، الرياض، اعتنى به مشهور آل سلمان، ط 1، وكذلك في سنن ابن ماجه (695) ح (4186)، وقال الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (24/ 398):"إسناده حسن".

(2)

ينظر: ص (680).

(3)

سبق ص (534).

ص: 541

مظاهر منها:

أ - التسرع في إطلاق الأحكام على الأشخاص والهيئات من غير تثبت وروية.

ب - عدم إلمامه بفقه الواقع الذي يعايشه، فلا يدرك خطر الأعداء وكيدهم، ولا يحذر من مكرهم، وغفلته عن ذلك، وربما يستخدمه أعداء الدعوة لضربها وهو لا يشعر.

ت - الفوضوية والارتجال في المواقف بدون دراسة كافية، والبعد عن التخطيط لدعوته.

‌7 - الاستبداد بالرأي وعدم الاستشارة.

ومن أسباب انعدام الحكمة عند الداعية، أن يستبد برأيه ولا يستشير، وبالذات في الأمور التي يترب عليها مصالح أو مفاسد على الدعوة.

وبعض من ينتسب إلى الدعوة يرى في استشارة الآخرين نقص في قدره عند أتباعه، وربما ردد بعض العبارات التي يظهر منها إعتداده بنفسه كقوله هم رجال ونحن رجال، فقد تكون هذه الأمور يحرم الداعية بسببها من الحكمة في الأمر الذي يريد القيام به، وكم جر من هذه التصرفات من خطر على الدعوة، فقد يتمكن الشيطان وأعوانه من التسلط على الدعوة وأهلها بسبب هذا الخلل.

ص: 542

المبحث الخامس:

الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة

المطلب الأول: تعريف الموعظة الحسنة.

المطلب الثاني: صفات تمكن الداعية من الموعظة الحسنة.

المطلب الثالث: نموذج على الموعظة الحسنة.

ص: 543

‌المبحث الخامس: الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة

توطئة:

قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

فإذا حقق الداعية عمل القلب وجاهد نفسه وحاسبها على ذلك، وفقه الله لأن يتميز في هذه الأساليب في دعوته، فيختار المناسب منها لمن يدعوه، ولا شك أن الموعظة الحسنة منهج نبوي وأسلوب دعوي مؤثر، وبقدر صدق الداعية وإخلاصه لربه يكون لموعظته الأثر الكبير في قلب من يدعوه.

وسيكون الكلام عن الموعظة الحسنة من خلال المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: تعريف الموعظة الحسنة.

المطلب الثاني: صفات تمكن الداعية من الموعظة الحسنة.

المطلب الثالث: نموذج على الموعظة الحسنة.

وفيما يلي تفصيل ذلك:

المطلب الأول: تعريف الموعظة الحسنة:

‌أولًا: التعريف اللغوي:

‌1 - تعريف الموعظة:

من وعظ، تقول: وعظته وعظًا وعِظَة فاتَّعظ، أي: قبل الموعظة.

ص: 544

والوعظ: النصح، والتخويف، والتذكير بالعواقب، وبالخير، وما يرق له القلب من ثواب وعقاب

(1)

.

‌2 - تعريف الحسنة:

من الحسن وهو: ضد القبح

(2)

.

‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:

يقول البغوي رحمه الله في معنى الموعظة الحسنة: "وقيل: الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب.

وقيل: هو القول اللين الرقيق، من غير غلظة ولا تعنيف"

(3)

.

ويقول الشوكاني رحمه الله: "والموعظة الحسنة وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها"

(4)

.

ويقول السعدي رحمه الله عن الموعظة الحسنة: "الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب"

(5)

.

ويقول ابن عاشور

(6)

رحمه الله: "والموعظة: القول الذي يلين نفس المقول له لعمل

(1)

ينظر: الصحاح (3/ 1181)، مقاييس اللغة (6/ 126)، لسان العرب (7/ 466) مادة (وعظ).

(2)

ينظر: الصحاح (5/ 2099)، مقاييس اللغة (2/ 57)، لسان العرب (13/ 114) مادة (حسن).

(3)

تفسير البغوي (5/ 52).

(4)

فتح القدير (3/ 242).

(5)

تفسير السعدي (452).

(6)

المفسر محمّد الطاهر بن محمّد بن محمّد الطاهر بن محمّد الشاذلي، ويعرف بابن عاشور، رئيس المفتين المالكيين بتونس وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس، وله تفسير التحرير والتنوير وغيره، وهو في الصفات على طريقة الأشاعرة، توفي رحمه الله سنة (1393 هـ).

ينظر: الأعلام (6/ 174)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (3/ 2565).

ص: 545

الخير .. ووصفها بالحسن تحريض على أن تكون لينة مقبولة عند الناس"

(1)

.

ولقد جاءت النصوص بالحث على حسن الموعظة، فقال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. يقول ابن القيم رحمه الله: "أطلق الحكمة ولم يقيدها بوصف الحسنة؛ إذ كلها حسنة، ووصف الحسن لها ذاتي، وأما الموعظة فقيدها بوصف الإحسان؛ إذ ليس كل موعظة حسنة"

(2)

.

وقال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وقال تعالى لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]؛ ليكون ذلك منهجًا للدعاة إلى الله تعالى.

ويحسن هنا أن أورد كلامًا سبق ذكره للإمام القرطبي رحمه الله عن القول الحسن مع الناس، فقال عند قوله تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]: "وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه؛ لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44]، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه"

(3)

.

(1)

التحرير والتنوير (14/ 327).

(2)

مدارج السالكين (1/ 444).

(3)

تفسير القرطبي (2/ 16).

ص: 546

‌المطلب الثاني: صفات تمكن الداعية من الموعظة الحسنة

(4)

:

هناك صفات لا بد من توفرها في الداعية حتى تكون مواعظه حسنة، من أهمها على سبيل الإجمال، وقد مرت الإشارة إلى بعضها وسيأتي البعض الآخر:

1 -

الصدق والإخلاص.

2 -

حرصه على نصح المدعوين.

3 -

أن يكون قدوة حسنة.

4 -

الحرص على التمكن العلمي.

5 -

التخول بالموعظة والقصد فيها.

6 -

البعد عن التشهير.

7 -

أن يكون ملمًّا بفقه الدعوة القائم على البصيرة والحكمة.

8 -

الرحمة واللين.

فالرحمة واللين لهما ارتباط وثيق بحسن مواعظ الداعية خاصة، وهما خلقان عظيمان، قال تعالى في بيان أثرهما على المدعوين في إقبالهم على الدعوة والتفافهم حول الداعية:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

يقول السعدي رحمه الله: "فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم، أكمل الأخلاق، التي يحصل بها من المصالح العظيمة ودفع المضار ما هو مشاهد، فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله ويدّعي اتباعه والاقتداء به أن يكون كلًّا على المسلمين، شرس الأخلاق، شديد الشكيمة عليهم، غليظ القلب، فظ القول، فظيعه؟! وإن رأى منهم معصية، أو سوء أدب، هجرهم، ومقتهم، وأبغضهم، لا لين عنده، ولا أدب لديه، ولا توفيق، قد حصل من

(4)

للتوسع في هذه الصفات ينظر: كتاب منهج السلف في الوعظ (101 - 270، 573 - 651) لأبي يزيد سليمان العربي، مكتبة دار المنهاج، ط 1، 1431 هـ.

ص: 547

هذه المعاملة من المفاسد وتعطيل المصالح ما حصل، ومع ذلك تجده محتقرًا لمن اتصف بصفات الرسول الكريم، وقد رماه بالنفاق والمداهنة، وقد كمّل نفسه ورفعها، وأعجب بعمله، فهل هذا إلا من جهله، وتزيين الشيطان وخدعه له؟! "

(1)

.

وبرحمته ولينه وكريم خلقه صلى الله عليه وسلم جذب القلوب إليه أشد من جذب المغناطيس لبرادة الحديد، تعلقت به القلوب وأحبته حبًّا عظيمًا يفوق حب النفس والوالد والولد والناس جميعًا والمال.

يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه في حبه لرسول صلى الله عليه وسلم: "وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ"

(2)

.

ويقول عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه لقريش وهو يصف محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له: "أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ"

(3)

.

وهكذا الداعية الذي يقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم ويسير على منهجه في الرحمة بالمدعوين واللين معهم في مواعظه وتعامله، فيؤدّي ذلك إلى قبول الناس لدعوته، وتنفذ مواعظه إلى قلوبهم، ويقبلون عليها، كما يقبل العطشان على الماء البارد.

(1)

تفسير السعدي (599).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 112).

(3)

أخرجه البخاري (3/ 195).

ص: 548

9 -

الرفق:

والرفق خلق عظيم يرتبط ارتباطاً وثيقاً باللين والرحمة، وهو من الصفات التي تمكن الداعية من الحسن في الموعظة، ومعناه:"لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف"

(1)

، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» .

وعَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ»

(2)

.

وفي رواية للحديث: يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ»

(3)

.

وإذا كان الداعية يتصف بالرفق تجده يحسن القول في وعظه؛ لأن خلق الرفق يمنع من سوء القول في الموعظة، بل يحرص على حسن الموعظة، وعلى الرفق بالمدعوين في تصحيح أخطائهم أو في دعوتهم إلى الخير، فيجعل الله لمواعظه القبول والأثر الحسن.

المطلب الثالث: نموذج على الموعظة الحسنة:

ودونك هذا النموذج العظيم الذي يظهر فيه أثر الموعظة الحسنة على المخاطبين، فآثرت أن أنقله كما هو بدون تعليق عليه؛ لأن تعليقي أحسب أنه يذهب روعته:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ،

(1)

فتح الباري (10/ 449).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق (4/ 2003) ح (2592).

(3)

وهي عند أبي داود من حديث جرير رضي الله عنه، في كتاب الأدب، باب في الرفق (4/ 255) ح (4809)، وصححها الألباني في صحيح الجامع (2/ 1123) ح (6606)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 187) ح (4809):"إسناده صحيح".

ص: 549

وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ:«فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا؟! قَالَ:«فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ» ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ:«يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟!» ، قَالُوا: بَلِ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ:«أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟!» قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟! قَالَ: «أَمَا وَاللهِ، لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ -يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ- فِي لُعَاعَةٍ

(1)

مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟! أَفَلَا تَرْضَوْنَ -يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ- أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ فِي رِحَالِكُمْ؟! فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ»، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ

(2)

، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقُوا

(3)

.

(1)

أي: شيء يسير زهيد قليل.

ينظر: لسان العرب (8/ 320) مادة (لعع).

(2)

أي: بلّوا لحاهم بالدموع.

ينظر: لسان العرب (11/ 208) مادة (خضل).

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (18/ 253 - 255) ح (11730)، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 98) وقال:"وهو صحيح"، وقال محقق المسند (18/ 255) ح (11730):"إسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث هنا، فانتفت شبهة تدليسه، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح".

ص: 550

المبحث السادس:

المجادلة بالتي هي أحسن

المطلب الأول: تعريف الجدل.

المطلب الثاني: أسباب تمكن الداعية من الجدل المحمود، وضوابطه.

المطلب الثالث: مثال على المجادلة بالتي هي أحسن.

ص: 551

‌المبحث السادس: المجادلة بالتي هي أحسن

‌توطئة:

قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]

هناك صنف من المدعوين لا ينفع معهم الأساليب السابقة، بل يحتاجون إلى نوع من المجادلة لهم؛ لأنهم يعتقدون أن ما هم عليه هو الحق، فلديهم شبهة تحول بينهم وبين الصواب، أو أنهم من أهل الباطل الذين يدعون إلى باطلهم، فعلى الداعية إلى الله أن يتعامل مع كل نوع من هؤلاء بما يناسبه من المجادلة بالتي هي أحسن، فيبين للأول بطلان ما يعتقده بتفنيد تلك الشبه التي حالت بينه وبين الحق، ومع النوع الداعي إلى الباطل، "فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلًا ونقلًا.

ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها"

(1)

.

ولا شك أن لعمل القلب أثره على الداعية في مناظرته ومجادلته بالتي هي أحسن، فله أثره العظيم في توفيق الله للداعية وإعانته وتسديده.

وسيكون الكلام في هذا المبحث وفق المطالب الآتية:

(1)

تفسير السعدي (452).

ص: 552

‌المطلب الأول: تعريف الجدل.

‌المطلب الثاني: أسباب تمكن الداعية من الجدل المحمود، وضوابطه.

المطلب الثالث: مثال على المجادلة بالتي هي أحسن.

المطلب الأول: تعريف الجدل:

الجدل لغة: يطلق على عدة معان، منها: الخصومة، فيقال: جادله أي: خاصمه، ويطلق على إحكام الفتل، فتقول: جدلت الحبل أجدله جدلًا، أي: فتلته فتلًا محكمًا، ويطلق على الصرع، يقال: جدلته فانجدل صريعًا، وهو مجدول، ويطلق على مراجعة الكلام

(1)

.

والجدل في الاصطلاح:

عرفه الراغب بقوله: "المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة"

(2)

.

وعرفه ابن منظور فقال: "مقابلة الحجة بالحجة"

(3)

.

وقال الجرجاني: "الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه"

(4)

.

والذي يظهر أن كل تعريف مما سبق راعى جانبًا من جوانب الجدل، وأغفل الجانب الآخر، وبناء عليه فأقول: الجدل محاورة من تريد أن تدله على الخير، أو تدفع باطله، بإبطال حججه، والرد على شبهه، إظهارًا للحق ودفعًا للباطل.

المطلب الثاني: أسباب تمكن الداعية من الجدل المحمود، وضوابطه:

وسأوردها مجملة لأن المقام ليس مقام التفصيل، فمن أراد التوسع فليرجع إلى

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (10/ 342)، الصحاح (4/ 1653)، مقاييس اللغة (1/ 433) مادة (جدل).

(2)

المفردات في غريب القرآن (189).

(3)

لسان العرب (11/ 105).

(4)

التعريفات (74).

ص: 553

المراجع التي اعتنت بذلك

(1)

.

1 -

النية الخالصة الصادقة.

2 -

تسلحه بالعلم الشرعي.

3 -

تمكنه من علم الجدل والمناظرة.

4 -

اطلاعه على ما عند من يريد مجادلته من باطل وشبهات.

إضافة إلى ما سبق فهناك أيضًا ضوابط مهمة لنجاح الداعية في مجادلته بالتي هي أحسن، ومن ذلك:

1 -

الاتفاق قبل المجادلة على قواعد ينطلق منها الحوار والنقاش، ومن ذلك:

أ- الرد إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف.

ب- تقديم النقل ونصوصه على العقل وظنونه.

2 -

التحلي بالأخلاق الإسلامية أثناء الجدال، من القول المهذب، واحترام الآخرين، والبعد عن التجريح، وعن الطعن واللمز والسخرية.

3 -

أن يكون الهدف من المجادلة إظهار الحق، والإقناع به، والتحذير من الباطل، وعدم التلبيس.

4 -

الحذر من الانتصار للنفس، أو الأشخاص، وإيهام الناس أنه ينتصر للحق.

5 -

ألا يكون المجادل عنده قلق، واضطراب نفسي، أو تعكر في المزاج، حتى لا ينعكس ذلك سلبًا على مناظرته.

(1)

ينظر في ذلك: ضوابط المعرفة (372 - 373) لعبد الرحمن حسن الميداني، دار القلم دمشق، ط 14، 1436 هـ، منهج الجدل والمناظرة (699 - 733) لعثمان علي حسن، مكتبة الرشد الرياض، ط 1، 1436 هـ، الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية (730 - 731).

ص: 554

6 -

البعد عن الإيجاز المخل عند عرضه لحججه، أو تفنيده للشبه، وكذلك البعد عن الإسهاب في ذلك، حتى يخرج عن الأمر الذي عقدت من أجله المناظرة.

7 -

توطين نفسه على قبول الحق والأخذ به إذا ظهر ذلك عند مناظِره.

8 -

حسن الاستماع لكلام الخصم.

9 -

التحلي بالعدل والإنصاف.

‌المطلب الثالث: مثال على المجادلة بالتي هي أحسن:

ودونك هذا المثال العظيم على المجادلة بالتي هي أحسن، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

يقول السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} أي: إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك، وما حمله على ذلك إلا {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} ، فطغى وبغى، ورأى نفسه مترئسًا على رعيته، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله، فزعم أنه يفعل كما يفعل الله، فقال إبراهيم:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: هو المنفرد بأنواع التصرف، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة، فقال ذلك المحاج:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، ولم يقل: أنا الذي أحيي وأميت؛ لأنه لم يدع الاستقلال بالتصرف، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه، فزعم أنه يقتل شخصًا فيكون قد أماته،

ص: 555

ويستبقي شخصًا فيكون قد أحياه، فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة فضلًا عن كونه حجة، اطرد معه في الدليل

(1)

، فقال إبراهيم:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} أي: عيانًا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر، {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ، وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقًا في دعواه، فلما قال له أمرًا لا قوة له في شبهة تشوش دليله، ولا قادحًا يقدح في سبيله، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي: تحير فلم يرجع إليه جوابًا، وانقطعت حجته وسقطت شبهته، وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق ويغالبه، فإنه مغلوب مقهور، فلذلك قال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه، ويسر لهم أسباب الوصول إليه، ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير، ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال"

(2)

.

(1)

أي: بمعنى استمر معه في الاستدلال على ربوبية الله.

(2)

تفسير السعدي (111).

ص: 556

‌المبحث السابع: الحرص على هداية الناس

لقد ذكر الله في كتابه حرص الأنبياء على هداية الناس، ومن ذلك حرص نوح عليه السلام على هداية قومه ودعوتهم، فقال تعالى عنه:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 1 - 9].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14].

وتلاحظ ملامح حرصه عليه السلام على هداية قومه واضحة جلية، ومن ذلك:

1 -

إنذاره لقومه من قبل يأتيهم العذاب الشديد.

2 -

وضوح دعوته.

3 -

تنوع أساليب الدعوة.

4 -

الصبر على دعوتهم، والحرص على ذلك قرونًا عديدة.

وذكر الله في كتابه الكثير من أمثلة حرص الأنبياء على هداية أقوامهم، وهذا أمر واضح بين في دعوتهم لأقوامهم؛ ليكون ذلك منهجًا لكل من يقتدي بهم، ويسير على

ص: 557

طريقهم من الدعاة إلى الله تعالى.

ومن أبرز الأمثلة على الحرص الشديد على هداية الناس ما كان من نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر الله في كتابه عن ذلك فقال سبحانه وتعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].

يقول الشيخ السعدي رحمه الله: "ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على هداية الخلق، ساعيًا في ذلك أعظم السعي، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه صلى الله عليه وسلم عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، وقال:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وهنا قال:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها غمًّا وأسفًا عليهم؛ وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرًا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غمًّا وأسفًا عليهم ليس فيه فائدة لك.

وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وموسى عليه السلام يقول:{رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} الآية [المائدة: 25]، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى:

ص: 558

{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] "

(1)

.

والحرص على هداية الناس يدل على قلب رحيم مشفق على العباد، يريد الخير لهم، والنجاة من العذاب، وقد جاء في السنة أمثلة على حرصه صلى الله عليه وسلم الشديد على هداية الناس، فمن ذلك ما يرويه ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى البَطْحَاءِ، فَصَعِدَ إِلَى الجَبَلِ فَنَادَى:«يَا صَبَاحَاهْ» ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ:«أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ؟ أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:«فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! تَبًّا لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] إِلَى آخِرِهَا

(2)

.

وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ

(3)

، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا

(4)

، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ

(1)

تفسير السعدي (470).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1، 2](6/ 180) ح (4972).

(3)

قال النووي رحمه الله في معنى (النذير العريان): "قال العلماء: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة نزع ثوبه وأشار به إليهم إذا كان بعيدًا منهم ليخبرهم بما دهمهم .. قالوا: وإنما يفعل ذلك لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظرًا، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو. وقيل معناه: أنا النذير الذي أدركني جيش العدو فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عريانًا".

ينظر: شرح النووي على مسلم (15/ 48).

(4)

قال الجوهري رحمه الله: "أَدْلَجَ القوم، إذا ساروا من أوّل الليل".

ينظر: الصحاح (1/ 315) مادة (دلج).

ص: 559

أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ»

(1)

.

وعن أَبُي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ

(2)

الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ

(3)

فِيهَا»، قَالَ: «فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ

(4)

عَنِ النَّارِ: هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا»

(5)

.

ولخص الإمام النووي مقصود إيراد الحديث بقوله رحمه الله: "ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم، وقبضه على مواضع المنع منهم بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك لجهله"

(6)

.

وهذا مثل آخر على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الناس: فعَنْ رجل من بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَتَخَلَّلُهَا يَقُولُ: «يَا

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (9/ 93) ح (7283)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم (4/ 1788) ح (2283).

(2)

وهي الحشرات التي تأتي على ضوء النار فتسقط فيها. ينظر: المعجم الوسيط (2/ 682) مادة (فرش).

(3)

التقحم: الرمي بالنفس من غير رويّة في الأمور المهلكة.

ينظر: الصحاح (5/ 2006) مادة (قحم).

(4)

الحُجْزة: وهي معقد الإزار والسراويل، يقال: تحاجز القوم أخذ بعضهم بِحُجْزَةِ بعض، وإذا أراد الرجل أن يمسك من يخاف سقوطه أخذه من مكان معقد الإزار.

ينظر: لسان العرب (5/ 332) مادة (حجز)، طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 223).

(5)

أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم (4/ 1789) ح (2284).

(6)

شرح النووي على مسلم (15/ 50).

ص: 560

أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ تُفْلِحُوا»، قَالَ: وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ، وَتَتْرُكُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، قَالَ: وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. الحديث.

وعَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، وَهُوَ يَقُولُ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ تُفْلِحُوا» ، وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وَكَعْبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُطِيعُوهُ، فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: هَذَا غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قُلْتُ: فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالَ: هَذَا عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ. الحديث.

وهكذا ينبغي على الداعية إلى الله أن يسير على منهج الأنبياء في الحرص على هداية الناس، وبذل كل ما يستطيع من أجل ذلك.

ولا يحرص على هداية الناس إلا أصحاب القلوب السليمة من الغل والحسد والبغض والشحناء، قلوب امتلأت بالرحمة والشفقة وحب الخير للناس، تجد لذتها في إيصال الخير إليهم والصبر على أذاهم، همها دلالة الناس على الخير، وبذل الغالي والنفيس من أجل هدايتهم إلى الله تعالى.

وقد سبق أن ذكرت كلام الإمام أحمد رحمه الله في أثر العلماء الصالحين المصلحين على الناس، فمن المناسب إعادة بعضه هنا، فيقول:"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائه قد هدوه، فما أحسنَ أثرهم على الناس! وأقبح أثر الناس عليهم! "

(1)

.

(1)

الرد على الجهمية والزنادقة (55 - 57).

ص: 561

‌المبحث الثامن: الرحمة والشفقة بالمدعوين

وهذا المبحث له تعلق وثيق بالمبحث الذي قبله، وهو الحرص على هداية الناس، فإذا وفق الله الداعية لذلك، وحرص على تحقيق عمل قلبه، فإن الله يرزقه الرحمة والشفقة بالمدعوين، قال الله تعالى ممتنًا بذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى عن الهدف من إرساله صلى الله عليه وسلم للناس:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى في وصفه صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

لأن الداعية إذا وفقه الله للحرص على المدعوين والرحمة والشفقة بهم ملك القلوب وأثر فيها، ولهذا جاءت الأحاديث مرغبة في هذه الصفة العظيمة، منها ما ورد عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ»

(1)

.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110](9/ 115) ح (7376)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (4/ 1809) ح (2319).

ص: 562

الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»

(2)

.

ودونك -أيها الداعية- أمثلة حية ناطقة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتمثل الرحمة سلوكًا عمليًا في أحوال دعوته للناس؛ لنقتدي بها ونهتدي بنورها في دعوتنا إلى الله تعالى، فإذا امتثل الداعية هذه الرحمة في بيته، ومع الناس أقبلت عليه القلوب، ونجح في دعوته.

والأمثلة على رحمته صلى الله عليه وسلم كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال:

‌1 - رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟!»

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (11/ 33) ح (6494)، وأبو داود واللفظ له في كتاب الأدب، باب في الرحمة (4/ 285) ح (4941)، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين (4/ 323) ح (1924) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، والحاكم في المستدرك في كتاب البر والصلة (4/ 175) ح (7274) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 661) ح (3522)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (2/ 549) ح (2256) قال:"حسن لغيره"، وقال محقق المسند الأرناؤوط (11/ 33) ح (6494):"صحيح لغيره".

(2)

أخرجه أحمد (13/ 378) ح (8001)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الرحمة (4/ 286) ح (4942)، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين (4/ 323) ح (1923) وقال:"هذا حديث حسن"، وابن حبان في صحيحه في باب الرحمة، ذكر البيان بأن رحمة الله جل وعلا لا تنزع إلا من الأشقياء (2/ 213) ح (466)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 550) ح (2261)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند (13/ 378) ح (8001):"إسناده حسن".

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (8/ 7) ح (5998).

ص: 563

وعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ:«مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَارِ، لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ، حَتَّى جَاءَ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ فَقَالَ: «أَثَمَّ لُكَعُ؟ أَثَمَّ لُكَعُ

(2)

؟» يَعْنِي حَسَنًا، فَظَنَنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا تَحْبِسُهُ أُمُّهُ لِأَنْ تُغَسِّلَهُ وَتُلْبِسَهُ سِخَابًا

(3)

، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى، حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اللهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ»

(4)

.

وعن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ المِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«صَدَقَ اللهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (8/ 7) ح (5997)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (4/ 1808) ح (2318).

(2)

يطلق على أكثر من معنى يفهم من السياق، ومنها: الصغير، وهو المقصود هنا.

ينظر: الصحاح (3/ 1280)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 268)، لسان العرب (8/ 322) مادة (لكع).

(3)

السخاب: قلادة من أطياب كالقرنفل والمحلب وغيرهما، يلبسه الصبيان والجواري، وقيل: قلادة من خيط وخرز.

ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 349)، لسان العرب (1/ 461) مادة (سخب).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق (3/ 66) ح (2122)، ومسلم واللفظ له في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما (4/ 1882) ح (2421).

(5)

أخرجه أحمد (38/ 99) ح (22995)، والترمذي في أبواب المناقب، باب .. (5/ 658) ح (3774)، والنسائي في كتاب صلاة العيدين، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة (3/ 192) ح (1585)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1738) ح (6168)، وقال محقق مسند أحمد (38/ 100) ح (22995):"إسناده قوي".

ص: 564

وعَنْ شداد بن الهاد رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ! قَالَ:«كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ»

(1)

.

‌2 - رحمته صلى الله عليه وسلم بالمخطئين:

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ -أَوْ: ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ

(2)

-، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ:«ادْنُهْ» ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ:

(1)

أخرجه أحمد (45/ 613) ح (27647)، والنسائي في كتاب التطبيق، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة (2/ 229) ح (1141)، والحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم (3/ 181) ح (4775) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 773):"وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم ووافقه الذهبي"، وكتاب: أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرياض، ط 1، 1427 هـ، وقال محقق المسند (45/ 614) ح (27647):"إسناده صحيح".

(2)

أي: صبوا على بوله دلوًا كبيرة من الماء.

ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 323 - 324).

ص: 565

فَجَلَسَ قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» . قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» ، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ

(1)

.

‌3 - رحمته صلى الله عليه وسلم بالمرأة:

يقول صلى الله عليه وسلم: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»

(2)

.

فأمر صلى الله عليه وسلم بالوصية بالنساء خيرًا، ثم بين صلى الله عليه وسلم طبيعةً في خلقة المرأة لا بد من الانتباه لها من قبل الأزواج بالأخص، وبقية الأقارب للمرأة، لا بد أن يراعوا هذه الطبيعة في خلقة المرأة التي متى ما أحسنوا التعامل معها، وأخذوا بوصية رسولهم صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك سترفرف أعلام السعادة الزوجية والسعادة في البيت على حياتهم، ولكن حينما يتجاهل الرجل هذه الطبيعة في المرأة التي نبه عليها صلى الله عليه وسلم، يتعكر صفو الحياة في داخل

(1)

أخرجه أحمد (36/ 545) ح (22211)، وقال في مجمع الزوائد (1/ 129):"رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 713):"وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (36/ 545) ح (22211):"إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح".

(2)

أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (4/ 133) ح (3331)، ومسلم واللفظ له في كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء (2/ 1091) ح (1468).

ص: 566

بيوتهم، ويقترب الشيطان منهم، فيحل الشقاق محل الوفاق، والاختلاف والتنازع محل الائتلاف والتوافق، فيجلب الشيطان عليهم بقواته حتى تتمزق البيوت ويتشتت شمل الأسرة، فيفرح الشيطان بهدم ذلك البيت بالطلاق.

ومن أراد النجاح في حياته الزوجية، فعليه الأخذ بوصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء بالرحمة بهن والشفقة عليهن، وتحمل ما يحصل منهن من طبيعة العوج اللاتي فيهن.

مثال على تعامله مع طبيعة المرأة والرحمة بها عند حدوث الغيرة منها التي هي من طبيعة العوج الذي وجد مع المرأة:

عن أنس رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ:«غَارَتْ أُمُّكُمْ» ، ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ

(1)

.

والأمثلة على رحمته صلى الله عليه وسلم كثيرة أكتفى بما ذكر.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الغيرة (7/ 36) ح (5225).

ص: 567

‌المبحث التاسع: إقبال الناس على دعوته

(1)

وتضحية الداعية وحرصه على من يدعوهم، ورحمته وشفقته بهم، ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، مع إخلاصه وصدقه مع الله في دعوته، ومجاهدة نفسه على التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وحرصه على الاستقامة والتقوى، فإن الله يحبه، ويرزقه القبول والوصول إلى قلوب الناس، ويجمع قلوبهم عليه ويؤلف بينها، فيقبلون على دعوته، ولو بعد وفاته، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].

وذكر ابن جرير رحمه الله عن ابن عباس ومجاهد في معنى قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} أي: حبًّا، فيحبهم ويحببهم إلى خلقه

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» الحديث.

فالله إذا أحب عبده جعل له القبول في الأرض، وجعل القلوب تقبل على دعوته، فإذا وعظ أقبل الناس على موعظته.

(1)

ينظر: منهج السلف في الوعظ (582 - 584).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (15/ 642 - 643).

ص: 568

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ» .

وكتب أبو الدرداء رضي الله عنه إلى مسلمة بن مخلد

(1)

وهو أمير بمصر: «أما بعد: فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبه الله، وإذا أحبه الله حببه إلى خلقه، وإذا أبغضه بغضه إلى خلقه»

(2)

.

قال هرم بن حيان

(3)

رحمه الله: "ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان عليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم"

(4)

.

قال أبو حازم

(5)

رحمة الله عليه: "لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله تعالى، إلا أحسن الله فيما بينه وبين العباد، ولا يُعَوِّرُ

(6)

فيما بينه وبين الله تعالى إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، إنك إذا

(1)

مسلمة بن مخلد بن الصامت الأنصاري الخزرجي، وله صحبة، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وله (14) سنة، وكان نائبًا لمصر لمعاوية، من كبار الأمراء في صدر الإسلام، توفي رضي الله عنه سنة (62 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (3/ 424)، الإصابة (6/ 91)، الأعلام للزركلي (7/ 224).

(2)

مصنف ابن أبي شيبة (7/ 113)، الزهد لهناد (1/ 299).

(3)

هرم بن حيان العبدي ويقال: الأزدي، البصري، أحد العابدين، وقال ابن سعد: كان عاملًا لعمر، وكان ثقة، له فضل وعبادة، مات رحمه الله في أحدى غزواته، ولم يعرف تاريخ وفاته.

ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 48)، الأعلام للزركلي (8/ 82).

(4)

التمهيد (21/ 240)، الزهد الكبير للبيهقي (300)، وهذا الأثر مروي أيضًا عن محمد بن واسع، ومجاهد بن جبر رحمهما الله، ينظر: حلية الأولياء (2/ 345، 3/ 280).

(5)

الإمام، القدوة، الواعظ، أبو حازم سلمة بن دينار المديني المخزومي، ويقال له الأعرج، عالم المدينة وقاضيها وشيخها، فارسي الأصل، وكان ثقة كثير الحديث زاهدًا عابدًا، توفي رحمه الله سنة (140 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (6/ 96)، الأعلام للزركلي (3/ 113).

(6)

أي: يفسد ما بينه وبين الله، وقولهم: شاة يعور التي تبول على اللبن فتفسده.

ينظر: المخصص (2/ 246)، لسان العرب (5/ 302) مادة (يعر).

ص: 569

صانعت

(1)

الله مالت الوجوه كلها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبينه شنأتك

(2)

الوجوه كلها"

(3)

.

وقال ابن الجوزي رحمه الله: "وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه أو تأباه، وتذمه أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه وبين الله تعالى، فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر. وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون الحق

(4)

، إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذامًّا"

(5)

.

وقال أيضًا عليه رحمة الله: "والله، لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك!

ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة .. فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر"

(6)

.

ودونك أمثلة تدل على أن القلوب يقبل بها الله على من شاء من عباده، ممن اتصف باللين والرحمة والرفق والصدق مع ربه، وحقق التقوى وحرص على سلامة قلبه من الأمراض:

(1)

كلمة مصانعة حمالة أوجه تحمل معان لا تليق بالله تعالى، من مثل المداهنة، والرشوة.

ينظر: تهذيب اللغة (11/ 281)، مقاييس اللغة (3/ 313) مادة (صنع).

ومقصوده رحمه الله: التعامل مع الله والتعلق به، والبعد عن التعامل مع البشر والتعلق بهم، والله أعلم.

(2)

أي: أبغضتك.

ينظر: الصحاح (1/ 57)، مقاييس اللغة (3/ 217) مادة (شنأ).

(3)

حلية الأولياء (3/ 239)، سير أعلام النبلاء (6/ 100).

(4)

أي: الله تعالى.

(5)

صيد الخاطر (68).

(6)

صيد الخاطر (220).

ص: 570

1 -

قال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وقال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].

وقال تعالى ممتنًّا على عباده المؤمنين: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103].

2 -

قصة الغلام الذي ضحى بنفسه من أجل دعوة الناس إلى الدين الحق، وقال للملك الطاغية الذي يريد قتله:«إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا»

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام (4/ 2299) ح (3005) والحديث بتمامه: عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ".

ص: 571

وهكذا ضحى هذا الغلام بنفسه من أجل دعوة الناس شفقة عليهم وحرصًا على إيصال النور إليهم، فصبر على أن يقتل من أجل دعوتهم إلى الله تعالى، وأقبلوا على الحق بعده، وهو فارق الدنيا شهيدًا في سبيل الله، ولم ير ثمرة دعوته في حياته، لكنه أدى ما عليه أعظم أداء، يكفيه شرفًا عند الله أنه جاد بنفسه من أجل دعوتهم إلى الله، فجزاؤه على الله، وقد لحق به من هداهم الله على يديه شهداء بررة، وخلد الله ذكرهم في كتابه، فقال سبحانه وتعالى:{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 4 - 11].

وهذا على قول بعض المفسرين أن هذه الآيات نزلت في هذا الملك الطاغية وأعوانه، وفي من آمنوا بالغلام، وأحرقوا في الأخدود، وهناك أقوال أخرى في المراد بأصحاب الأخدود

(1)

، والله أعلم.

(1)

ينظر: تفسير الطبري (24/ 273)، تفسير البغوي (8/ 383)، تفسير ابن كثير (8/ 366).

ص: 572

المبحث العاشر: نبذ أسباب التفرق والاختلاف

المطلب الأول: الاعتصام بالكتاب والسنة.

المطلب الثاني: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم وعدم الخروج على ولاة الأمر:

الفرع الأول: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم.

الفرع الثاني: السمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف، والحذر من الخروج عليهم مهما جاروا.

المطلب الثالث: البعد عن سبب الفشل وذهاب الريح.

المطلب الرابع: الحذر من البغي.

ص: 573

‌المبحث العاشر: نبذ أسباب التفرق والاختلاف

‌توطئة:

إنَّ من المقرر في منهج الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم لأممهم التحذير من التفرق والاختلاف، ونبذ أسبابه؛ ولذا جاءت النصوص محذرة من ذلك ومبينة خطره، فقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].

وفي هاتين الآيتين تحذير الأمة من داء التفرق والاختلاف، وقد توعد الله من يقع فيه بالعذاب العظيم والوعيد الشديد؛ لأن التفرق والاختلاف من أعظم أسباب تسلط الأعداء على الأمة، كما في الحديث عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ

(1)

، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوْ: قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا»

(2)

.

(1)

أي: مجتمعهم وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم، وبيضة الدار: وسطها ومعظمها.

ينظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 172).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (4/ 2215) ح (2889).

ص: 574

دل هذا الحديث على أن من أسباب تسلط العدو الخارجي على المسلمين بسبب منهم، وهو التفرق والاختلاف بينهم الذي يؤدي إلى تقاتل بعضهم مع البعض، فحينئذ يتسلط عدوهم عليهم.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ»

(1)

.

وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلَافَهَا، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ، وَقَالَ:«كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا»

(2)

.

وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ:«اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا

(3)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الخلاف شر"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات، وهو الامتناع من أداء حق لزمه، أو طلب ما لا يستحقه (3/ 1340) ح (1715).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (4/ 175) ح (3476).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها .. (1/ 323) ح (432).

(4)

أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب الصلاة بمنى (3/ 328) ح (1960)، والحديث بتمامه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: صَلَّى عُثْمَانُ بمنى أَرْبَعًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:«صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ» ، زَادَ، عَنْ حَفْصٍ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا زَادَ مِنْ هَا هُنَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ فَلَوَدِدْتُ أَنْ لِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَيْنِ مُتَقَبَّلَتَيْنِ. قَالَ: الْأَعْمَشُ، فَحَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ بْنُ قُرَّةَ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ صَلَّى أَرْبَعًا، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا، قَالَ:«الْخِلَافُ شَرٌّ» . والأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (4/ 260) ح (6078) فقال: قال أحمد: وقد روينا بإسناد صحيح عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد في صلاة ابن مسعود أربعًا، وقولهم: ألم يحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين وأبا بكر؟ فقال: بلى. ولكن عثمان كان إمامًا، فأخالفه والخلاف شر. وقال عنه الألباني في صحيح أبي داود (6/ 204) ح (1712):"وهذا إسناد صحيح".

ص: 575

ووقوع التفرق والاختلاف بين المسلمين من آثار الذنوب، ومن أخطرها خطايا القلوب، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا» الحديث

(1)

.

وإذا وقع الداعية في خطايا القلوب نفر الناس عنه، وكان من أسباب وجود الفرقة بين الأمة.

ومن آثار تحقيق أعمال القلوب ومجاهدة النفس على ذلك: أن يوفق الله الداعية في دعوته إلى نبذ أسباب التفرق والاختلاف، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، والآية عامة، فكل من جاهد نفسه في الله وحقق أمر الله في ظاهره وباطنه وفقه الله لأسباب نجاحه وفلاحه في الدنيا والآخرة.

ومن أعظم ما ينبغي أن يحرص عليه الداعية نبذ أسباب التفرق والاختلاف، فإذا جاهد نفسه وأصلح قلبه رزقه الله ذلك، وألف به بين القلوب وجمعها على الخير، كما قال تعالى ممتنًّا على نبيه صلى الله عليه وسلم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

(1)

أخرجه أحمد (9/ 259) ح (5357) واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد في باب هجرة المسلم (145) ح (401)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 128) ح (3362) وقال:"رواه أحمد بإسناد حسن"، وقال في مجمع الزوائد في كتاب البر والصلة، باب حق المسلم على المسلم (8/ 184) ح (13658):"رواه أحمد وإسناده حسن"، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (158) ح (401) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه محقق المسند بشواهده (9/ 260) ح (5357) فقال:"حديث صحيح".

ص: 576

وقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63].

وقال السعدي رحمه الله في معنى قوله تعالى: " {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} وهم الذين هاجروا في سبيل الله، وجاهدوا أعداءهم، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي: الطرق الموصلة إلينا، وذلك لأنهم محسنون، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالعون والنصر والهداية.

دل هذا أن من أحسن فيما أمر به أعانه الله ويسر له أسباب الهداية، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمورًا إلهية خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل الله، بل هو أحد نوعي الجهاد الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول واللسان للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق ولو كانوا من المسلمين"

(1)

.

وعلى هذا فإن من جاهد نفسه على إصلاح قلبه، وفقه الله إلى سبيل الائتلاف والاجتماع، وأبعده عن سُبُل التفرق والاختلاف، فيهديه الله إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج على ولاة الأمر مهما جاروا، ويعصمه الله من سبب الفشل، ويبعده عن البغي والظلم، ويطهر قلبه من الغل الذي هو من أعظم أسباب التفرق والاختلاف، فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَطَاعَةُ ذَوِي الْأَمْرِ، وَلُزُومُ

(1)

تفسير السعدي (636).

ص: 577

الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِهِم»

(1)

، أي: إذا وجدت هذه الأعمال في القلب طهرته من الغش والحقد والضغينة، وإذا سلم القلب من هذه الأمراض سلم من أسباب التفرق والاختلاف، وهناك أسباب إذا تمسك الداعية

(2)

بها سلم من داء التفرق والاختلاف، وسيكون الحديث في هذا الأمر وفق المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: الاعتصام بالكتاب والسنة.

المطلب الثاني: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم وعدم الخروج على ولاة الأمر، وفيه فرعان:

الفرع الأول: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم.

الفرع الثاني: السمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف، والحذر من الخروج عليهم مهما جاروا.

المطلب الثالث: البعد عن سبب الفشل وذهاب الريح.

المطلب الرابع: الحذر من البغي.

المطلب الأول: الاعتصام بالكتاب والسنة

(3)

:

مما لا شك فيه أن الاعتصام بالكتاب والسنة هو سبب النجاة في الدنيا

(1)

أخرجه أحمد (27/ 318) ح (16754)، وأبو يعلى (13/ 408) ح (7413) واللفظ له، والحاكم في المستدرك في كتاب العلم (1/ 162) ح (294) وصححه ووافقه الذهبي، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (27/ 319) ح (16754):"حديث صحيح لغيره"، وصحح إسناده محقق مسند أبي يعلى (13/ 411) ح (7413).

(2)

وإن كانت هذا الأسباب ليست خاصة بالدعاة، بل هي للمسلمين عامة، ولكن الدعاة يلزمهم من باب أولى الأخذ بهذه الأسباب؛ لأنهم قدوة للناس، ويتأثر بهم أتباعهم الذين يقتدون بهم.

(3)

ينظر في هذا الموضوع: الاعتصام بالكتاب والسنة، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، مطبعة سفير، الرياض، توزيع: مؤسسة الجريسي.

ص: 578

والآخرة، والاعتصام يعنى الاستمساك بالشيء

(1)

، والتمسك بالكتاب والسنة عصمة ونجاة من الفتن والضلالات، ومن أسباب التفرق والاختلاف، قال الله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، أي: تمسكوا بدين الله وعهده في كتابه بالأمر بالأُلْفة والاجتماع على الحق، وهناك معان في معنى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} تندرج ضمن المعنى السابق: الجماعة، بعهد الله وأمره، ووردت أقوال كثيرة في معنى {بِحَبْلِ اللَّهِ} ، فقيل: القرآن، وقيل: الجماعة، وقيل: عهد الله، وقيل: دين الله

(2)

.

ويقول القرطبي رحمه الله معلقًا على هذه المعاني: "والمعنى كله متقارب متداخل، فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة؛ فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة، ورحم الله ابن المبارك حيث قال:

إِنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا

مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا"

(3)

.

ومعنى قوله تعالى: {وَلَا تَفَرَّقُوا} أي: "لا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره"

(4)

.

ولقد جاءت النصوص في الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة والتحذير من مخالفتهما، ومن ذلك:

(1)

ينظر: الصحاح (4/ 1608) مادة (مسك).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (5/ 643 - 646)، تفسير القرطبي (4/ 159)، تفسير ابن كثير (2/ 89).

(3)

تفسير القرطبي (4/ 159).

(4)

تفسير الطبري (5/ 647).

ص: 579

قول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وقوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43].

وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].

وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].

وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

هذه الآيات تدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، فإنه لا نجاة للأمة من الفتن والاختلاف والتفرق إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بهما، والتحاكم إليهما في صغير الأمر وكبيره، مع التسليم والانقياد التام لأمر الله ولأمر رسوله دون أدنى ضيق أو حرج.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ:«اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. الحديث.

وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَبْشِرُوا وَأَبْشِرُوا، أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «إِنَّ

ص: 580

هَذَا الْقُرْآنَ سببٌ، طَرفُهُ بِيَدِ اللَّهِ، وطَرفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تضلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أبدًا»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم» الحديث

(2)

.

وجاءت النصوص في التحذير من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

ونقل ابن بطة عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: "نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعًا"، ثم جعل يتلو:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وجعل يكررها، ويقول:"وما الفتنة؟ الشرك، لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ فيهلكه"، وجعل يتلو هذه الآية:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] "

(3)

.

(1)

أخرجه ابن حبان في صحيحه في كتاب العلم، ذكر نفي الضلال عن الآخذ بالقرآن (1/ 329) ح (122)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 41) ح (62):"رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد"، وقال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد في كتاب العلم، باب في العمل بالكتاب والسنة (1/ 169) ح (779):"رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 330) ح (713).

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب العلم (1/ 171) ح (318) وصححه ووافقه الذهبي، وقال الذهبي:"وله أصل في الصحيح"، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب آداب القاضي (10/ 194) ح (20336)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 41) ح (66)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 124) ح (40).

(3)

الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 261).

ص: 581

وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 21 - 23].

ومن أعظم ما يدل على الاعتصام بالكتاب والسنة، ويمنع من التفرق والاختلاف الامتثال والتطبيق في لزوم الرجوع إلى الكتاب والسنة في صغير الأمر وكبيره في كل ما يحصل فيه التنازع، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

‌المطلب الثاني: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم وعدم الخروج على ولاة الأمر

(1)

:

‌الفرع الأول: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم:

ومما يعصم من التفرق والاختلاف لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فعن حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ رضي الله عنه قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ:«نَعَمْ» ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ» ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ» ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ:«هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» ، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ:

(1)

ينظر: الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة (504 - 518) للدكتور عبد الله الدميجي، دار طيبة.

ص: 582

«تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»

(1)

.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة"، قال:"وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام، فافترق الناس أحزابًا، فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك؛ خشية من الوقوع في الشر"

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» الحديث

(3)

.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَرْوِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»

(4)

.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ

(5)

الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَة» الحديث

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 199) ح (3606)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر (3/ 1475) ح (1847).

(2)

نقله ابن حجر عن الطبري في فتح الباري (13/ 37)، ولابن جرير كتاب في الحديث له تعليقات عظيمة عليه، والكتاب مفقود لم يطبع إلا أجزاء يسيرة، ولم أعثر على هذا النقل فيها.

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر (3/ 1476) ح (1848).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (9/ 62) ح (7143)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر (3/ 1477) ح (1849).

(5)

قال أبو عبيد رحمه الله: "بحبوحة الجنَّة يعني وسط الجنَّة، وبحبوحة كلِّ شيء وسطه وخياره".

ينظر: غريب الحديث (1/ 434).

(6)

أخرجه الترمذي من حديث عمر رضي الله عنه في أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (4/ 466) ح (2165) وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب"، ومسند أبي يعلى (1/ 131) ح (141، 142)، وابن حبان في صحيحه، باب إخباره صلى الله عليه وسلم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، ذكر الإخبار عما يظهر في الناس من المسابقة في الشهادات والأيمان الكاذبة (15/ 122) ح (6728)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 498) ح (2546)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لابن حبان (15/ 122) ح (6728):"حديث صحيح"، وقال حسين سليم أسد في تحقيقه لمسند أبي يعلى (1/ 132) ح (141، 142): "رجاله ثقات".

ص: 583

قال ابن عبد البر رحمه الله: "الآثار المرفوعة في هذا الباب كلها تدل على أن مفارقة الجماعة، وشق عصا المسلمين، والخلاف على السلطان المجتمع عليه، يريق الدم ويبيحه ويوجب قتال من فعل ذلك"

(1)

.

وقال النووي رحمه الله: "وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ووجوب طاعته وإن فسق وعمل المعاصي مِنْ أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية"

(2)

.

‌الفرع الثاني: السمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف، والحذر من الخروج عليهم مهما جاروا:

السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية الله وعدم الخروج عليهم مهما جاروا مطلب شرعي لما فيه من المصالح العظيمة، ومن أعظمها المحافظة على دماء المسلمين حتى لا تسفك، وكذلك المحافظة على تماسك المجتمع المسلم، ولذا جاءت النصوص الكثيرة بالسمع والطاعة والتحذير من الخروج، ودونك طرفًا منها:

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ

(1)

التمهيد (21/ 282).

(2)

شرح النووي على مسلم (12/ 237).

ص: 584

عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ»

(1)

.

قال ابن حجر رحمه الله: "واستدل به على المنع من القيام على السلاطين وإن جاروا؛ لأن القيام عليهم يفضي غالبًا إلى أشد مما ينكر عليهم"

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ»

(3)

.

وذكر النووي رحمه الله في شرحه للحديث: "قال العلماء: معناه تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية فلا سمع ولا طاعة كما صرح به في الأحاديث الباقية، فتحمل هذه الأحاديث المطلقة لوجوب طاعة ولاة الأمور على موافقة تلك الأحاديث المصرحة بأنه لا سمع ولا طاعة في المعصية.

والأَثَرة بفتح الهمزة والثاء، ويقال: بضم الهمزة وإسكان الثاء

(4)

، وبكسر الهمزة وإسكان الثاء

(5)

، ثلاث لغات حكاهن في المشارق

(6)

وغيره، وهي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم.

وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسببها

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (9/ 62) ح (7142).

(2)

فتح الباري (2/ 187).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (3/ 1467) ح (1836).

(4)

أي: أُثْرة.

(5)

أي: إِثْرة.

(6)

ينظر: مادة (أثر) في مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 18) للقاضي عياض، المكتبة العتيقة ودار التراث.

ص: 585

اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم"

(1)

.

وعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَالَ:«اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ»

(2)

.

وفي الرواية الأخرى: وَقَالَ: فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ»

(3)

.

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»

(4)

.

وقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رضي الله عنه: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ:«نَعَمْ» ، قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: «يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ» ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ -يَا رَسُولَ اللهِ- إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ

(1)

شرح النووي على مسلم (12/ 224 - 225).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق (3/ 1474) ح (1846).

(3)

وهي عند مسلم في كتاب الإمارة، باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق (3/ 1475) ح (1846).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب السمع والطاعة للإمام (4/ 49) ح (2955)، ومسلم واللفظ له في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (3/ 1469) ح (1839).

ص: 586

وَأَطِعْ»

(1)

.

وفي هذه الأحاديث الصبر على أئمة الجور وعدم الخروج عليهم؛ حتى لو ضربوا ظهرك وأخذوا مالك؛ لأن في الخروج عليهم تفريقًا لكلمة المسلمين، وفتحًا لأبواب التفرق والاختلاف وتسلط الأعداء، والله أعلم.

وقال ابن بطال رحمه الله في شرحه لحديث حذيفة رضي الله عنه: "وفيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك القيام على أئمة الجور، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم وصف أئمة زمان الشر فقال: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»؟! فوصفهم بالجور والباطل والخلاف لسنته؛ لأنهم لا يكونون دُعاةً على أبواب جهنم إلا وهم على ضلال، ولم يقل فيهم: تعرف منهم وتنكر، كما قال في الأولين، وأمر مع ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأمر بتفريق كلمتهم وشق عصاهم"

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ»

(3)

.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا، فَمَاتَ عَلَيْهِ،

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر (3/ 1476) ح (1847).

(2)

شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 33).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر (3/ 1476) ح (1848).

ص: 587

إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».

وعَنْ نَافِعٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»

(1)

.

دلت الأحاديث السابقة على حرمة الخروج على ولاة الأمر وخطره العظيم على من يقع فيه، فإنه يموت ميتة جاهلية، ومعناه أي: على الصفة التي يموت عليها أهل الجاهلية، فوضى على ضلال، لا إمام لهم لأنهم لا يعرفون ذلك

(2)

، وأنه لا حجة له ولا عذر له عند الله؛ لأن في الخروج شرًّا عظيمًا على من خرج وعلى الأمة، ولهذا نقل ابن بطال رحمه الله أن "الفقهاء مجمعون على أن طاعة المتغلب واجبة ما أقام على الجمعات والأعياد والجهاد، وأنصف المظلوم في الأغلب، فإن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من تسكين الدهماء وحقن الدماء

فتسمع له وتطيع في الحق

ما لم يأمر بنقض شريعة، ولا بهتك حرمة لله تعالى، فإذا فعل ذلك فعلى الناس الإنكار عليه بقدر الاستطاعة، فإن لم يستطيعوا لزموا بيوتهم، أو خرجوا من البلدة إلى

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر (3/ 1478) ح (1851).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (12/ 238)، فتح الباري لابن حجر (13/ 7)، وعلق ابن حجر رحمه الله في الفتح (13/ 7) على حديث (ميتة جاهلية) قائلًا:"وليس المراد أنه يموت كافرًا بل يموت عاصيًا، ويحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره ومعناه أنه يموت مثل موت الجاهلي وإن لم يكن هو جاهليًّا، أو أن ذلك ورد مورد الزجر والتنفير وظاهره غير مراد، ويؤيد أن المراد بالجاهلية التشبيه قوله في الحديث الآخر: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» أخرجه الترمذي، وابن خزيمة وابن حبان ومصححًا من حديث الحارث بن الحارث الأشعري في أثناء حديث طويل، وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط من حديث بن عباس، وفي سنده خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ وفيه مقال".

ص: 588

موضع الحق إن كان موجودًا"

(1)

.

قال الإمام أحمد رحمه الله: "ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو الغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق"

(2)

.

وبنحو كلام الإمام أحمد قال علي ابن المديني، وأبو زرعة وابن أبي حاتم الرازيان

(3)

، وغيرهم من أئمة السلف

(4)

.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير"

(5)

، ثم ذكر أمثلة على من خرجوا على السلطان، وما تولد من فعلهم من شر عظيم عليهم وعلى المسلمين، وأنهم لم يقيموا دينًا ولا أبقوا على دنيًا

(6)

.

ثم قال رحمه الله: "كان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث؛ ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة

(1)

شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 328) مع تصرف.

(2)

أصول السنة لأحمد بن حنبل (45 - 47)، دار المنار الخرج، ط 1، 1411 هـ.

(3)

ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 185، 197).

(4)

ينظر: شرح السنة للبربهاري (77)، ت: خالد الردادي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، ط 1، 1414 هـ، متن الطحاوية (68 - 69) للإمام الطحاوي، ت: الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1414 هـ.

(5)

منهاج السنة النبوية (4/ 527 - 528).

(6)

ينظر: منهاج السنة النبوية (4/ 528).

ص: 589

للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم"

(1)

.

ثم قال رحمه الله بعد ذلك: "وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد"

(2)

.

‌المطلب الثالث: البعد عن سبب الفشل وذهاب هيبة الأمة، وهما في معصية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتنازع والاختلاف، وعدم الصبر:

وما يحصل للأمة من هزائم أمام أعدائها وتفرق كلمتها، وذهاب هيبتها بين الأمم يعود إلى أسباب: من أعظمها هذه الأسباب، وقد جاء النص عليها في قول الله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك، فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضًا فيختلفوا فيكون سببًا لتخاذلهم وفشلهم.

{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ، وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله، وامتثال ما أرشدهم إليه- ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقًا وغربًا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر

(1)

منهاج السنة النبوية (4/ 529 - 530).

(2)

منهاج السنة النبوية (4/ 531).

ص: 590

والحبوش وأصناف السودان والقبط، وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب"

(1)

.

نصت الآية الكريمة على سبب الفشل وذهاب الريح في الأمور الآتية:

أولًا: عدم طاعة الله ورسوله.

ثانيًا: التنازع الذي لا يرجع فيه إلى الكتاب والسنة، وإنما يرجع فيه إلى الأهواء وآراء الرجال؛ لأن الواجب عند التنازع الرجوع إلى الكتاب والسنة، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

ثالثًا: الخلل في الصبر مما يمنع معية الله الخاصة.

‌المطلب الرابع: الحذر من البغي:

ومن أسباب التفرق: البغي، وهو: الظلم والتعدي

(2)

، قال ابن كثير رحمه الله:"وأما البغي فهو: العدوان على الناس"

(3)

.

وبين السعدي في تفسيره البغيَ فقال: "كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض"

(4)

.

وذكر الله في كتابه أن البغي من أسباب الاختلاف والتفرق فقال تعالى:

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 72).

(2)

ينظر: الصحاح (6/ 2281)، المعجم الوسيط (1/ 65) مادة (بغى).

(3)

تفسير ابن كثير (4/ 595).

(4)

تفسير السعدي (447).

ص: 591

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213].

وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19].

وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 13، 14].

وقد ربط الله في هذه الآيات بين الاختلاف والبغي، فدل هذا -والله أعلم- على أن البغي من أعظم أسباب الاختلاف والتفرق، وهذا أمر مشاهد محسوس؛ أن ما من أحد يبغي على آخر إلا حصل بينهم الاختلاف والتنازع، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.

وعليه فإن على الدعاة إلى الله تعالى أن يأخذوا حذرهم من هذا الداء العظيم، فيبتعدوا عن البغي على إخوانهم، ويحرصوا على سلامة قلوبهم من هذا الداء، ويجاهدوا أنفسهم على الحذر منه.

والله تعالى يأمر عباده بمحاسن الأخلاق وينهى عن ضدها، كما قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

وقال تعالى في أثر البغي، وأنه يعود وباله على صاحبه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا

ص: 592

بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23].

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن عقوبة البغي معجلة في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه من العذاب في الآخرة، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»

(1)

.

ومن مظاهر بغي بعض الدعاة على إخوانهم:

1 -

اتهام الداعية بما ليس فيه، بدون تثبت وروّية، فتجد البعض يسارع إلى الاتهام في أمور العقيدة بدون تأكد وتثبت.

2 -

السعي في إفشال مشاريع إخوانه الدعاة، بتشويه سمعتهم أمام العامة، وتحريض اتباع الداعية على الانفضاض عنه، والسعي للإضرار بالداعية والكيد له، حسداً وبغياً.

3 -

اتهام الداعية في مقصده ونيته مما لا يعلمه إلا الله، ولا تظهر قرائن واضحة على ذلك الاتهام.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في النهي عن البغي (4/ 276) ح (4902)، والترمذي واللفظ له في أبواب صفة القيامة والرقاق والورع، باب .. (4/ 664) ح (2511) وقال:"هذا حديث صحيح"، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب البغي (2/ 1408) ح (4211)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 673) ح (2537)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 263) ح (4902).

ص: 593

‌المبحث الحادي عشر: التأييد والتمكين في الأرض

إذا أخلص الداعية مع ربه، وصبر على أعباء الدعوة ومشاقها، وتمكن اليقين من قلبه، رزقه الله الإمامة في الدين، وأيده ومكن له ونصره على من يقف في طريق دعوته، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

وتأمل بيقين تام هذه الوعود المؤكدة من الله تعالى بالنصر والتمكين لعباده المؤمنين الصادقين الصابرين، إذا هم حققوا أسباب ذلك، من نصرة الله في أنفسهم بامتثال أمره واجتناب نهيه، والله لا يخلف الميعاد، فقال سبحانه وتعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

وقَالَ المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ

ص: 594

وَإِخْلَاصِهِمْ»

(1)

.

وذكر الله في كتابه أنه سيتولى إظهار هذا الدين على جميع الأديان وتأييده بأن الله يتمه، ويظهر أهله العاملين به حقًّا وصدقًا في الباطن والظاهر، فقال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33].

وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8، 9].

وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ» . وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: "قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ"

(2)

.

(1)

أخرجه النسائي في سننه الصغرى بهذا اللفظ من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في كتاب الجهاد، الاستنصار بالضعيف (6/ 45) ح (3178)، وهو أيضًا في السنن الكبرى له (4/ 305) ح (4372)، والسنن الكبرى للبيهقي في كتاب صلاة الاستقساء، باب استحباب الخروج بالضعفاء والصبيان والعبيد والعجائز (3/ 480) ح (6389)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 470) ح (2388)، وأورده شعيب الأرناؤوط في هامش تعليقه على صحيح ابن حبان (11/ 86) ح (4768) وقال:"وهذا إسناد صحيح"، وأصل الحديث في صحيح البخاري بلفظ (4/ 37) ح (2896)«هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟!» .

(2)

أخرجه أحمد (28/ 154 - 155) ح (16957)، والحاكم في المستدرك في كتاب الفتن والملاحم (4/ 477) ح (8326) وصححه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد في المغازي والسير، باب تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسل به وصبره على ذلك (6/ 14) ح (9807):"رواه أحمد، والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح"، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (28/ 155) ح (16957):"إسناده صحيح على شرط مسلم".

ص: 595

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم» (3/ 1523) ح (1920).

ص: 596

‌الباب الرابع: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب

على نفسه وعلى دعوته

الفصل الأول: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على نفسه.

الفصل الثاني: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على دعوته.

ص: 597

الفصل الأول: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على نفسه

المبحث الأول: التعلق بمطامع الدنيا والتنازل عن الأصول من أجلها.

المبحث الثاني: قسوة القلب وتسلط الشيطان.

المبحث الثالث: اتباع الهوى، والوقوع في فتنة الشبهات والشهوات.

المبحث الرابع: التطلع إلى الرياسة للمكاسب الدنيوية.

المبحث الخامس: الركون إلى الكفار والظلمة.

المبحث السادس: الهزيمة النفسية.

المبحث السابع: لبس الحق بالباطل وكتمانه.

المبحث الثامن: العُجْب، والرياء والسمعة، والكبر.

المبحث التاسع: الاستعجال.

المبحث العاشر: الضيق والتبرم من النصيحة، وعدم حب الناصحين.

المبحث الحادي عشر: تتبع العثرات، وتصيد الهفوات، والفرح بزلات الآخرين.

المبحث الثاني عشر: البخل والشح والعجز والكسل والجبن والهم والحزن.

المبحث الثالث عشر: الخذلان وقلة التوفيق.

المبحث الرابع عشر: الغفلة عن الآخرة

الخامس عشر: الخسارة في الآخرة.

ص: 598

‌الفصل الأول: الآثار المترتبة على إهمال الداعية لأعمال القلوب على نفسه

‌توطئة:

إذا أهمل الداعية تحقيق أعمال القلوب، ولم يجاهد نفسه على إصلاح قلبه، ولم يحاسب نفسه، ويتفقد ما فيها من آفات، ويسعى إلى بذل أسباب علاجها، فحينئذ تتمكن من قلبه الأمراض، وتتجذر الآفات في داخله، وتظهر عليه آثارها عليه في نفسه، ومن ثَّم يمتد أثرها إلى دعوته، فيصبح فتنة لكل مفتون، وداعية سوء يجر على أمته ألوانًا من الانحراف، ويسخره أعداء الإسلام لحرب الدين وأهله، ويمكنهم من امتطاء ظهره وهو لا يشعر، فيكون كما قال الله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].

وكما قال تعالى أيضًا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176].

وقال تعالى في بيان أثر الوقوع في أمراض القلوب على من تلبس بذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

ص: 599

وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].

والآيات في ذلك كثيرة.

ودونك شيئًا من آثار إهمال الداعية لعمل القلب على نفسه، أسوقها أولًا على سبيل الإجمال، وفق المباحث الآتية:

المبحث الأول: التعلق بمطامع الدنيا والتنازل عن الأصول من أجلها.

المبحث الثاني: قسوة القلب وتسلط الشيطان.

المبحث الثالث: اتباع الهوى، والوقوع في فتنة الشبهات والشهوات.

المبحث الرابع: التطلع إلى الرياسة للمكاسب الدنيوية.

المبحث الخامس: الركون إلى الكفار والظلمة.

المبحث السادس: الهزيمة النفسية.

المبحث السابع: لبس الحق بالباطل وكتمانه.

المبحث الثامن: العُجْب، والرياء والسمعة، والكبر.

ص: 600

المبحث التاسع: الاستعجال.

المبحث العاشر: الضيق والتبرم من النصيحة، وعدم حب الناصحين.

المبحث الحادي عشر: تتبع العثرات، وتصيد الهفوات، والفرح بزلات الآخرين.

المبحث الثاني عشر: البخل والشح والعجز والكسل والجبن والهم والحزن.

المبحث الثالث عشر: الخذلان وقلة التوفيق.

المبحث الرابع عشر: الغفلة عن الآخرة

الخامس عشر: الخسارة في الآخرة.

ودونك تفصيل هذه الآثار:

ص: 601

‌المبحث الأول: التعلق بمطامع الدنيا والتنازل عن الأصول من أجلها

سبق الكلام عن الحياة الدنيا بتفصيل

(1)

، وأضيف إليه هنا فأقول: لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من خطر التعلق بالدنيا والمنافسة عليها، وبين صلى الله عليه وسلم أثر التنافس على الدنيا، وأن نتيجته الهلاك في أودية الدنيا وشعابها، والإلهاء عما خلقوا له، فعن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَوَاللهِ، مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»

(2)

، وفي رواية للبخاري:«وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُم»

(3)

.

وعلى الداعية أن ينقذ الناس من فتنة الدنيا بقوله وفعله، وأن يكون قدوة حسنة في تخففه منها، فأما إذا كان من المتعلقين بمطامع الدنيا وزهرتها والمنافسين فيها، فقد يبتلى بزيغ القلب، ويصير فتنة لكل مفتون، وهذا لا يحصل إلا إذا حصل الخلل في الأعمال القلبية، وذلك حين امتلأ القلب بحب الدنيا، فغفل عن الآخرة.

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَقْرَ وَنَتَخَوَّفُهُ، فَقَالَ:«آلْفَقْرَ تَخَافُونَ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُصَبَّنَّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبًّا، حَتَّى لَا يُزِيغَ قَلْب أَحَدِكُمْ إِزَاغَةً إِلَّا هِيهْ، وَايْمُ اللَّهِ، لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ»

(4)

.

(1)

ينظر: ص (394).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب .. (5/ 84) ح (4015)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، ولم يذكر له بابًا (4/ 2273) ح (2961).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (8/ 90) ح (6425).

(4)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم (1/ 4) ح (5)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 302) ح (688)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (1/ 5) ح (5).

ص: 602

وعلى ذلك فإذا تعلق قلب الداعية بالدنيا ومطامعها، ونافس عليها أهلها، ألهته وأشغلته عن دعوته، وزاغ قلبه بسببها، وأدى ذلك إلى تنازله عن بعض دينه من أجل الحصول عليها، ووقع في البغي على إخوانه الدعاة، وصار يفري

(1)

في أعراضهم، ويسعى في الإيقاع بهم، وتشويه سمعتهم؛ ليتقرب إلى من يجد عندهم الدنيا، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: «الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ

(2)

، وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَاجُشُ

(3)

فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ»

(4)

.

وفي الحديث -والله أعلم- إشارة إلى ارتباط هذه الآفات بالتنافس على الدنيا الذي يؤدي إلى البغي وظلم الآخرين من أجل الحصول على لُعَاعَةٍ من هذه الدنيا، فيبغي على إخوانه ويظلمهم؛ لأجل الحصول على حطام الدنيا، ويتنازل عن أصول دينه؛ ليظهر في أعين من يتقرب إليهم من أجل دنياهم بمظهر القريب منهم وهو يحقق

(1)

أي: يقول فيهم الشيء العظيم من البهتان والافتراء.

ينظر: الصحاح (6/ 2454) مادة (فرا).

(2)

الأشر والبطر بمعنى متقارب: الطغيان عند النعمة، وكفر النعم وعدم شكرها، وشدة الفرح والمرح مع الكبر.

ينظر: الصحاح (2/ 579)، لسان العرب (4/ 69)، معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 216) مادة (أشر، بطر).

(3)

التناجش مأخوذ من نجش، فيقال: نجشت الصيد أي استثرته، والأصل فيه تنفير الوحش من مكان إلى مكان. وهو في البيع والشراء: أن يزيد في ثمن السلعة ولا يريد شراءها، ولكن ليغرر بغيره ويزيد في سعرها.

ينظر: الصحاح (3/ 1021)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 21)، معجم لغة الفقهاء (475) مادة (نجش).

(4)

أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه (4/ 185) ح (7311) ووافقه الذهبي، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1086):"إسناده جيد"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 290) ح (680).

ص: 603

لأعداء الدين ما يصبون إليه من تشويه للدين بحجة اليسر ومسايرة العصر، فيكون فتنة لكل مفتون.

ودونك أمثلة على تنازل بعض الدعاة عن أصول دينه من أجل الدنيا:

1 -

كتمان الحق ولبسه بالباطل، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

2 -

المداهنة للمبطلين، والمجادلة عنهم، وتبرير أفعالهم المخالفة للشرع.

3 -

القول على الله بغير الحق؛ لأجل إرضاء أهل الدنيا؛ ليحصل على شيء مما في أيديهم منها.

ص: 604

المبحث الثاني:

قسوة القلب وتسلط الشيطان

المطلب الأول: قسوة القلب.

المطلب الثاني: تسلط الشيطان.

ص: 605

‌المبحث الثاني: قسوة القلب وتسلط الشيطان

توطئة:

ومن آثار ضعف تحقيق عمل القلب على الداعية، وبالأخص حين يتعلق قلبه بالدنيا، فيفتن بها، ويغفل عن آخرته: قسوة قلبه، فإن الله تعالى يعاقبه بقسوة القلب وتسلط الشيطان.

ودونك تفصيل هذا الأمر في المطلبين الآتيين:

‌المطلب الأول: قسوة القلب:

القسوة في اللغة: الصلابة في كل شيء، والقسوة: غلظ القلب وشدته، يقال: الذنب مقساة للقلب، وحجر قاسٍ: صلب، وقسا القلب إذا ذهب منه اللين والرحمة والخشوع

(1)

.

ومعنى قسوة القلب: غلظه وشدته، وذهاب معاني اللين والرحمة والخشوع منه، وخلوه من الإنابة والإذعان لآيات الله، ولا يتأثر بالمواعظ

(2)

.

وقد ذم الله قسوة القلب فقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (9/ 179)، الصحاح (6/ 2462)، لسان العرب (15/ 180 - 181) مادة (قسا).

(2)

ينظر: المفردات (671)، لسان العرب (15/ 181)، فتح القدير (1/ 118)، تفسير السعدي (55).

ص: 606

وقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].

وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

وفي الآيات بيان أن القلوب تصيبها القساوة العظيمة بسبب الغفلة وتتابع الذنوب على القلب.

قال مالك بن دينار رحمه الله: "إن لله عقوبات في القلوب والأبدان: ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب"

(1)

.

وأما‌

‌ أسباب قسوة القلب

فكثيرة، فمنها

(2)

:

‌1 - نقض العهد مع الله تعالى،

قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} أي: فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم، أي: أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي: فلا يتعظون بموعظة

(1)

حلية الأولياء (6/ 287).

(2)

ينظر: ذم قسوة القلب (58 - 68)، مدارج السالكين (1/ 451 - 457).

ص: 607

لغلظها وقساوتها"

(1)

.

وقال السعدي رحمه الله في بيان معنى قسوة قلوبهم: "قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي: غليظة لا تجدي فيها المواعظ، ولا تنفعها الآيات والنذر، فلا يرغّبهم تشويق، ولا يزعجهم تخويف، وهذا من أعظم العقوبات على العبد، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى والخير إلا شرًّا"

(2)

.

‌2 - تعلق القلب بغير الله،

فإذا تعلق القلب بغير الله أصابه من الخذلان وقلة التوفيق بقدر ذلك التعلق، ووكله الله إلى نفسه، وضربه بالقسوة عقوبة له.

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن وكل إِلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب، وأغلق عنه باب الفوز والسعادة"

(3)

.

‌3 - كثرة الضحك،

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُكْثِرُوا الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ»

(4)

.

ومن أعظم العلامات الدالة على موت القلب قسوته العظيمة.

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 66).

(2)

تفسير السعدي (225).

(3)

طريق الهجرتين (12).

(4)

أخرجه مطولًا أحمد (13/ 458) ح (8095)، والترمذي في أبواب الزهد، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس (4/ 551) ح (2305) وقال:"وهذا حديث غريب".

وأخرجه بهذا اللفظ البخاري في الأدب المفرد، باب الضحك (233 - 234) ح (253)، وكذلك ابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء (2/ 1403) ح (4193)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 32) ح (506)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تعليقه على سنن ابن ماجه (5/ 285) ح (4193).

ص: 608

‌4 - كثرة تتابع الذنوب على القلب،

مع الإصرار على الذنب وعدم الاستغفار والتوبة، قال تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الران بتتابع الذنوب على القلب، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَاكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]» .

وذكر ابن جرير رحمه الله عن الحسن رحمه الله في قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قال: "الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، فيموت"

(1)

.

‌5 - كثرة الأكل لا سيما أكل الحرام والمشتبهات،

أما أكل الحرام فأثره على قسوة القلب كبير، فهو من أسبابها، وضرره عليه واضح بين، ويليه في الضرر أكل المشتبهات، وقد جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ذكر الحلال البين، والحرام البين، والمشتبه، ثم عقب صلى الله عليه وسلم بذكر أن الجسد في صلاحه وفساده مرتبط بالقلب، وفي ذلك إشارة إلى أن فساد القلب وقسوته مرتبط بالحرام البين، ويليه في الضرر أكل المشتبه والله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم:«الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .

وكثرة الأكل والإفراط في الشبع دائمًا -حتى من المباحات- يدخل في الإسراف

(1)

تفسير الطبري (24/ 201).

ص: 609

الذي قال الله تعالى عنه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وعَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»

(1)

.

وقال بشر الحافي رحمه الله: "خصلتان تقسيان القلب كثرة الكلام، وكثرة الأكل"

(2)

.

‌ولقسوة القلب آثار على الداعية،

منها:

‌1 - لا ينتفع بمواعظ القرآن،

ولا يتأثر بها، ويحرم من تدبره، كما قال تعالى عن أصحاب القلوب المريضة التي ضربت بالقسوة، فحيل بينها وبين تدبر القرآن:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

‌2 - نفور الناس منه وانفضاضهم من حوله

؛ لأن قسوة القلب وفظاظته من الأسباب العظيمة لنفور الناس من الداعية، قال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ

(1)

أخرجه أحمد في المسند (28/ 422 - 423) ح (17186)، والترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل (4/ 590) ح (2380) واللفظ له وقال:"حسن صحيح"، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب الاقتصاد في الأكل وكراهية الشبع (2/ 1111) ح (3349)، وابن حبان في صحيحه في باب الفقر والزهد والقناعة، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ترك الفضول في قوته .. (2/ 449) ح (674)، والحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق (4/ 367) ح (7945) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في الفتح (9/ 528)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 336) ح (2265)، وصححه بمجموع طرقه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (4/ 448) ح (3349).

(2)

حلية الأولياء (8/ 350).

ص: 610

اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وهذه الآية تدل على منة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن رزقه الله اللين والرحمة، فلو كان فظًّا غليظ القلب لانفض عنه الناس، وتركوا دعوته، وهو مرسل من الله، فكيف بمن عداه؟!

‌3 - ضعف تأثيره في الناس،

فمواعظه لا تصل إلى القلوب، وتزل عنها كما يزل القطر عن الصفا.

‌4 - تسلط الشيطان عليه،

وهذا سيأتي تفصيله في المطلب الثاني.

‌المطلب الثاني: تسلط الشيطان:

ومن مداخل الشيطان التي يتسلط من خلالها على العبد: ضعفه في تحقيق عمل القلب، فضعف الإخلاص مثلًا عند الداعية يفتح الباب لتسلط الشيطان عليه؛ لأن المخلص لا يقدر عليه الشيطان كما أخبر الله عنه، فقال تعالى:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]، قال الشوكاني رحمه الله: " {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام

(1)

، أي: الذين استخلصتهم من العباد. وقرأ الباقون بكسر اللام

(2)

، أي: الذين أخلصوا لك العبادة فلم يقصدوا بها غيرك"

(3)

.

(1)

{الْمُخْلَصِينَ} .

(2)

{الْمُخْلِصِينَ} .

(3)

فتح القدير (3/ 158).

ص: 611

وإذا ضعف الإخلاص تسلط عليه الشيطان، وأضعف همته عن الدعوة، بل قد يتولى ويفر من ميدانها، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]، قال السعدي رحمه الله في تفسيره للآية: "يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم أحد وما الذي أوجب لهم الفرار، وأنه من تسويل الشيطان، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم، فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي؛ لأنها مركبه ومدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان، قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].

ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار، والمصائب المكفرة، {حَلِيمٌ} لا يعاجل من عصاه، بل يستأني به، ويدعوه إلى الإنابة إليه، والإقبال عليه.

ثم إن تاب وأناب قبل منه، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب، ولم يصدر منه عيب، فلله الحمد على إحسانه"

(1)

.

وعلى هذا فقد يتولى الداعية عن دعوته بسبب خطيئته، التي يستثمرها الشيطان في تخويفه بأتباعه، قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، أي: يخوفكم الشيطان

(1)

تفسير السعدي (153).

ص: 612

بأوليائه بأنهم أصحاب بأس وشدة

(1)

، قال ابن القيم رحمه الله: "المعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه، قال قتادة: يعظمهم في صدوركم

(2)

، ولهذا قال:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، فكلما قوى إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوى خوفه منهم"

(3)

، فإذا تسلط الشيطان على الداعية، وقع مفعول هذا التخويف في قلبه، فضعفت همته، وربما أدى به تخويف الشيطان من أوليائه إلى التولي والانزواء عن ميدان الدعوة، والركض في ميادين الدنيا والانشغال بها.

من‌

‌ أسباب تسلط الشيطان:

‌1 - عدم الاعتصام بالكتاب والسنة،

مما يؤدي بالعبد إلى الوقوع في سبل الشيطان، فيتسلط عليه، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 173).

(2)

لم أجده عن قتادة عند غير ابن القيم.

وقد ورد في تفسير البغوي قريب من هذا؛ لكن نقله عن السدي فقال رحمه الله في تفسيره (2/ 139): " {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي: يخوفكم بأوليائه، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني: يخوف المؤمنين بالكافرين قال السدي: يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم، يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود: (يخوفكم أولياءه) ".

ونقل ابن أبي حاتم (3/ 820) في تفسيره: "عن أبي مالك قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] قال: يعظّم أولياءه في أعينكم".

(3)

إغاثة اللهفان (1/ 110)، وقول الإمام ابن القيم رحمه الله أن جميع المفسرين على هذا القول فيه نظر والله أعلم؛ لأن هناك قولًا ثانيًا في تفسير الآية قال به أيضًا الحسن والسدي، كما نقله عنهما القرطبي في تفسيره (4/ 282):"والمعنى يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم".

وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (6/ 364): "والأظهر أن قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} حذف فيه المفعول الأول، أي: يخوفكم أولياءه، بدليل قوله بعده: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} الآية".

ص: 613

وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:«هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا» ، قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ:«هَذِهِ السُّبُلُ، لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]

(1)

.

‌2 - الذنوب،

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].

وفي الآية دليل على أن الشيطان يتسلط على العبد، فيوقعه في المنكر؛ لأنه وجد مدخلًا عليه بسبب ذنوبه، فالذنوب الباب الذي يدخل منه الشيطان إلى النفوس، فيستزلها ويوقعها فيما يبعدها عن الله.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (7/ 436) ح (4437)، وابن حبان في صحيحه باب الاعتصام بالسنة .. ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم .. (1/ 180) ح (6)، والحاكم في المستدرك في كتاب التفسير (2/ 261) ح (2938) وصححه ووافقه الذهبي، وقال في مجمع الزوائد في كتاب التفسير، قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153](7/ 22) ح (11005): "رواه أحمد والبزار، وفيه عاصم بن بهدلة، وهو ثقة، وفيه ضعف"، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 58) ح (166)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (7/ 436) ح (4437):"إسناده حسن من أجل عاصم، وهو ابن أبي النجود، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي بكر -وهو ابن عياش- فمن رجال البخاري، وأخرج له مسلم في المقدمة".

ص: 614

‌3 - ضعف الإيمان والتوكل،

قال تعالى عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99].

ويتسلط الشيطان على العبد إذا ضعف إيمانه وتوكله على الله، فإذا قوي إيمان الداعية وصدق في توكله على الله حماه الله من كيد الشيطان، ولا يتمكن أعوان الشيطان من التأثير عليه، وصرفه عن دعوته.

‌4 - تعلق القلب بالدنيا،

والافتتان بشهواتها المحرمة، من المال والنساء، قال تعالى:{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6].

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» .

والافتتان بالدنيا مدخل لتسلط الشيطان بسبب تعلق القلب بها، فإذا فتن الداعية بالدنيا، وصارت أكبر همه ومبلغ علمه، تمكن الشيطان من استغلال هذا الضعف فيه؛ ليغره ويخدعه ويصرفه عن دعوته بشتى الصوارف.

‌5 - الغفلة عن ذكر الله

؛ لأن مما يحصن العبد من تسلط الشيطان عليه ذكره لله تعالى، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ» .

ص: 615

قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19].

ومعنى {اسْتَحْوَذَ} أي: غلب واستولى على قلوبهم حتى أنساهم ذكر الله تعالى

(1)

.

‌6 - ومن أسباب تسلط الشيطان ترك صلاة الجماعة،

والبعد عن جماعة المسلمين، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» ، قَالَ زَائِدَةُ: قَالَ السَّائِبُ: يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ: الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَة» الحديث.

وتفرد الداعية عن إخوانه الدعاة واستبداده بالرأي، وعدم التشاور مع إخوانه يفتح للشيطان عليه بابًا، فيتسلط عليه، ويوقعه فيما يضر بدعوته.

(1)

ينظر: تفسير البغوي (8/ 62)، تفسير ابن كثير (8/ 53).

(2)

أخرجه أحمد (36/ 42) ح (21710)، وأبو داود واللفظ له في كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة (1/ 150) ح (547)، والنسائي في كتاب الإمامة، باب التشديد في ترك الجماعة (2/ 106) ح (847)، وابن حبان في صحيحه باب فرض الجماعة والأعذار التي تبيح تركها، ذكر استحواذ الشيطان على الثلاثة إذا كانوا في بدو أو قرية ولم يجمعوا الصلاة (5/ 457) ح (2101)، والحاكم في المستدرك في كتاب التفسير (2/ 524) ح (3796) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 994) (5701) وقال في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 301) ح (427):"حسن صحيح"، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (36/ 42) ح (21710).

ص: 616

المبحث الثالث:

اتباع الهوى، والوقوع في فتنة الشبهات والشهوات

المطلب الأول: اتباع الهوى.

المطلب الثاني: الوقوع في فتنة الشبهات والشهوات.

ص: 617

‌المبحث الثالث: اتباع الهوى، والوقوع في فتنة الشبهات والشهوات

‌توطئة:

إذا تعلق القلب بالدنيا أصابته القسوة وفتن بها، وتسلط عليه الشيطان، وتمكَّن منه الهوى فصار متبعًا له بعيدًا عن الهدى، فوقع صريعًا أمام فتن الشهوات والشبهات، وسيكون الحديث عن هذا المبحث في المطلبين الآتيين:

‌المطلب الأول: اتباع الهوى.

المطلب الثاني: الوقوع في فتنة الشبهات والشهوات.

المطلب الأول: اتباع الهوى:

ومن آثار الخلل في عمل القلب حصول الزيغ فيه، وذلك بعدوله عن اتباع الحق مع علمه به، فيعاقبه الله بأن يزيغ القلب عن الهدى، فيميل عن اتباع الحق إلى اتباع الهوى، فيصير داعية ضلال بسبب ما في قلبه من مرض اتباع الأهواء، كما قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

وذكر ابن جرير رحمه الله عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: "هم الخوارج"

(1)

.

وينطبق على هؤلاء قول الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8].

ونقل البغوي رحمه الله عن سعيد بن جبير رحمه الله قوله: "نزلت في أصحاب الأهواء والبدع"، وذكر أيضًا عن قتادة رحمه الله أنه قال: "منهم الخوارج الذين

(1)

تفسير الطبري (22/ 612).

ص: 618

يستحلون دماء المسلمين وأموالهم، فأما أهل الكبائر فليسوا منهم؛ لأنهم لا يستحلون الكبائر"

(1)

.

وقال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] "

(2)

.

ويقول السعدي رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} : "وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده ليس ظلمًا منه، ولا حجة لهم عليه، وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعدما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه، وتقليب القلوب عقوبة لهم وعدلًا منه بهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] "

(3)

.

إن خطر اتباع الهوى في كونه يؤدي بصاحبه لاتخاذه إلهًا يعبده، فيصرفه كيف يشاء، ويظن أنه على الهدى وهو يعبد الهوى، وزين له الشيطان ذلك، كما قال

(1)

تفسير البغوي (6/ 413).

(2)

تفسير ابن كثير (8/ 109).

(3)

تفسير السعدي (858).

ص: 619

تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]، وقال تعالى في بيان ذلك:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

وخطورة اتباع الأهواء تكمن في أن من يقع فيها يسير في طريق الضلالة، وهو يظن أنه على الحق؛ لأن الهوى يعميه عن الحق، ويصم أذنه عن سماعه.

ومن آثار اتباع الهوى على الداعية:

1 -

قلة التوفيق وحصول الخذلان.

2 -

كثرة الشكوك والحيرة.

3 -

نفوره من الناصحين، وقربه من المادحين.

4 -

تعصبه لقوله وفعله، فلا يقبل أن يستشير، ولا يوفق لأن يستخير.

5 -

يتسلط عليه أعداء الدين، فيستغلونه في تشويه الدين، وسمعة أهل المنهج الحق؛ لأنهم يحققون له ما يحبه من المدح والثناء، وإبرازه على أنه الداعية المستنير.

6 -

يتعصب لحزبه ويقدم أقوال الرجال على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.

7 -

يكشف الله أمره للناس، فينفر منه أهل الخير، ويكون فتنة لكل مفتون.

8 -

يقوده هواه إلى الانغماس في الفتن، وسيأتي تفصليه في المطلب الثاني.

‌المطلب الثاني: الوقوع في فتنة الشبهات والشهوات:

معنى الشهوات والشبهات:

1 -

الشهوات: جمع شهوة وهي في اللغة والاصطلاح بمعنى واحد: نزوع النفس إلى ما تريده، فتحبه وترغب فيه بشدة، كشهوة الطعام والمال،

ص: 620

وشهوة الرجل للمرأة والعكس، ونحو ذلك

(1)

.

2 -

الشبهات: جمع شبهة، ولها في اللغة معان منها: التماثل والالتباس، والأمور المشتبهات المشْكِلات

(2)

.

والشبهة في الاصطلاح: ما التبس أمره بين الحلال والحرام، والحق والباطل

(3)

.

ومن آثار الخلل في عمل القلب بعد اتباعه للهوى: سقوط صاحبه في براثن

(4)

فتن الشبهات والشهوات.

‌أولاً: فتنة الشبهات:

وفتنة الشبهات من أخطر الفتن على القلوب، والمتبع لهواه يسقط في هذه الفتنة لأسباب، منها:

1 -

بسبب اتباع المتشابه، وذلك ناتج عن زيغ القلب الذي يجعله يبحث عن المتشابه ليوظفه لصالحه في نشر الفتنة التي وقع فيها وزينها له الشيطان، وقد بين الله في كتابه أن القرآن منه محكم وهو أكثره، ومنه متشابه، فتجد أهل الهوى الذين زاغت قلوبهم بسبب ضلالهم يتبعون هذا المتشابه ويتركون المحكم، فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} الآية [آل عمران: 7].

(1)

ينظر: المفردات (468)، لسان العرب (14/ 445)، المعجم الوسيط (1/ 498) مادة (شها).

(2)

ينظر: الصحاح (6/ 2236)، لسان العرب (13/ 503)، المعجم الوسيط (1/ 471) مادة (شبه).

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (11/ 27)، جامع العلوم والحكم (1/ 199)، المعجم الوسيط (1/ 471).

(4)

هي: مخلب السبع أو الطير الجارح.

ينظر: الصحاح (5/ 2078)، لسان العرب (13/ 50)، المعجم الوسيط (1/ 46) مادة (برثن).

ص: 621

قال السعدي رحمه الله: "وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين الذي لا يشتبه بغيره، ومنه آيات متشابهات، تحتمل بعض المعاني، ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها، حتى تضم إلى المحكم.

فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف -لسوء قصدهم- يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة وآرائهم الزائفة، طلبًا للفتنة، وتحريفًا لكتابه، وتأويلًا له على مشاربهم ومذاهبهم لِيَضِلوا ويُضِلوا"

(1)

. ثم أتم كلامه بعد ذلك في تفسير تكملة الآية والتي تليها عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7، 8]، فقال رحمه الله

(2)

: "وأما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم، فأثمر لهم العمل والمعارف، فيعلمون أن القرآن كله من عند الله، وأن كله حق، محكمه ومتشابهه، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف.

فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان، يردون إليها المشتبه، الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم وناقص المعرفة، فيردون المتشابه إلى المحكم، فيعود كله محكمًا، ويقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ} للأمور النافعة، والعلوم الصائبة، {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: أهل العقول الرزينة، ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب، وأن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة والعقول الواهية والقصود السيئة.

وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور، وما

(1)

تفسير السعدي (962).

(2)

أي: السعدي.

ص: 622

تنتهي وتؤول إليه، تعين الوقوف على {إِلَّا اللَّهُ} حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى، وإن أريد بالتأويل معنى التفسير ومعرفة معنى الكلام كان العطف أولى، فيكون هذا مدحًا للراسخين في العلم أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة، محكمها ومتشابهها، ولما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين ومستقيمين، دعوا الله تعالى أن يثبتهم على الإيمان، فقالوا:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي: لا تملها عن الحق إلى الباطل، {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} تصلح بها أحوالنا {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي: كثير الفضل والهبات، وذلك أن الله تعالى ذكر عن الراسخين أنهم يسألونه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم"

(1)

.

2 -

ومن أسباب الوقوع في الشبهات ما يحصل من مرض للقلب بسبب كسب العبد، فقد أخبر سبحانه عن الأسباب التي بها تزيغ قلوب أهل الأهواء الذين اتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة ورغبة في تأوله على غير مراد الله تعالى، وذلك ناتج عن كسبهم وسعيهم في الضلال والإضلال، فيعاقبهم الله بعدم عصمتهم من فتنة الشبهات، فيقعوا فيها، وما ظلمهم الله لكنهم ظلموا أنفسهم، كما قال الله عنهم:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127]، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، فالعبد إذا تولى عن ربه، وأعرض عن الحق، ووالى أعداءه، ورأى الباطل فاختاره، وكره الحق واتباعه، فإن الله يوله ما تولى، ويزيغ قلبه عقوبة له على ما

(1)

تفسير السعدي (962).

ص: 623

حصل منه من زيغ وانحراف، وما ظلمه الله، ولكنه ظلم نفسه، فلا يلم إلا نفسه الأمّارة بالسوء

(1)

....

وعلى هذا فلا بد للداعية من الإكثار من هذا الدعاء: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، وما يماثله من أدعية طلب الثبات على الحق، كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ:«نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» ، فإن القلوب لا يثبتها على الدين إلا الله تعالى.

‌ثانياً: فتنة الشهوات:

وأما فتنة الشهوات فتكمن خطورتها في أنها مزينة تميل إليها القلوب، وتقبل عليها، وتنشغل بها عن الدعوة من مثل فتنة المال والنساء، قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، وكم سقط من دعاة صرعى أمام هذه الشهوات المزينة، فاجتالتهم الدنيا بزخارفها وزينتها، وتسلط عليهم الشيطان، فأبعدهم عن ركب الدعوة، وقعدت بهم شهواتهم، وتنكبوا الطريق الحق، وفتنوا بالدنيا، وقد وصف الله حال من صرعته الدنيا، فترك الانتفاع بآيات الكتاب، ومال إلى الشهوات، وأخلد إلى الأرض وزينتها، فخسر خسرانًا مبينًا، فقال تعالى عنه وعمّن يشبهه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ

(1)

تفسير السعدي (962).

ص: 624

آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176].

قال السعدي رحمه الله في فوائد الآيات: "وفي هذه الآيات: الترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من الله لصاحبه، وعصمة من الشيطان، والترهيب من عدم العمل به، وأنه نزول إلى أسفل سافلين، وتسليط للشيطان عليه، وفيه أن اتباع الهوى وإخلاد العبد إلى الشهوات يكون سببًا للخذلان"

(1)

.

آثار الوقوع في فتنة الشبهات والشهوات على الداعية:

1 -

الغفلة عن الآخرة.

2 -

الوقوع في طرق أهل الأهواء، فيكون فتنة لكل مفتون.

3 -

الانشغال عن الدعوة بالمال والنساء.

4 -

التعلق بالدنيا ومطامعها، وحدوث التنازلات في الأصول من أجلها، وقد سبق الكلام على ذلك أكثر من مرة.

(1)

تفسير السعدي (309).

ص: 625

‌المبحث الرابع: التطلع إلى الرياسة للمكاسب الدنيوية

ومن آثار الخلل في تحقيق عمل القلب على الداعية في نفسه: تطلعه إلى الرياسة والمكاسب المادية من خلالها، وهو يدخل في فتنة الشهوات التي سبق الحديث عنها في المبحث السابق.

والتطلع إلى الرياسة وطلبها يفسد على المرء دينه، كما في حديث كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»

(1)

.

وقال ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "فهذا مثل عظيم جدًّا ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم، وقد غاب عنها رعاؤها ليلًا، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها.

ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساده لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم؛ بل إما أن يكون مساويًا وإما أكثر، يشير إلى أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم

(1)

أخرجه أحمد في المسند (25/ 61) ح (15784)، والترمذي في أبواب الزهد، باب .. (4/ 588) ح (2376) وقال:"حسن صحيح"، وابن حبان في صحيحه في باب ما جاء في الحرص وما يتعلق به، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من مجانبة الحرص على المال والشرف؛ إذ هما مفسدان لدينه (8/ 24) ح (3228)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 314) ح (1710)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (25/ 62) ح (15784).

ص: 626

مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل.

فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا"

(1)

.

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير"

(2)

.

وقال أبو نعيم رحمه الله: "والله ما هلك من هلك إلا بحب الرياسة"

(3)

.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: "ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها، وعادى"

(4)

.

وقال سعيد بن محمد الحداد

(5)

رحمه الله: "ما صد عن الله مثل طلب المحامد، وطلب الرفعة"

(6)

.

وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: "اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، مشغوفًا بالتردد إليهم، والمرآة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتًا إلى ما يعظم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق، وأصل الفساد؛ لأن كل

(1)

مجموع رسائل ابن رجب (1/ 64).

(2)

جامع بيان العلم وفضله (1/ 571).

(3)

جامع بيان العلم وفضله (1/ 571).

(4)

سير أعلام النبلاء (7/ 262).

(5)

الإمام، شيخ المالكية، أبو عثمان، سعيد بن محمد بن صبيح بن الحداد المغربي، صاحب سحنون، وهو أحد المجتهدين، وكان بحرًا في الفروع، ورأسًا في لسان العرب، بصيرًا بالسنن، قال ابن حارث: له مقامات كريمة، ومواقف محمودة في الدفع عن الإسلام، والذب عن السنة، توفي رحمه الله سنة (302 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 205)، شذرات الذهب (4/ 12)، موسوعة مواقف السلف (4/ 503).

(6)

سير أعلام النبلاء (14/ 214).

ص: 627

من طلب المنزلة في قلوب الناس اضطر أن ينافقهم بإظهار ما هو خال عنه، ويجر ذلك إلى المراءاة بالعبادات، واقتحام المحظورات، والتوصل إلى اقتناص القلوب"

(1)

.

آثار التطلع للرياسة للمكاسب الدنيوية على الداعية

(2)

:

وقد سبق بعض الآثار، وأضيف إليه الآتي:

1 -

من طلب العلم لأجل الشرف في الدنيا حَرَمَه الله رائحة الجنة، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي رِيحَهَا

(3)

.

قال ابن رجب رحمه الله في تعليقه على الحديث: "وسبب هذا -والله أعلم- أن في الدنيا جنة معجلة، وهي معرفة الله ومحبته، والأنس به والشوق إلى لقائه، وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة.

ولهذا كان أشد الناس عذابًا في الآخرة عالم لم ينفعه الله بعلمه، وهو أشد الناس حسرة يوم القيامة، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها وأحقرها، فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة، فباعها ببعر أو شيء مستقذر لا ينتفع به، بل حال من

(1)

مختصر منهاج القاصدين (211).

(2)

ينظر في ذلك: مجموع رسائل ابن رجب (1/ 79، 91، 95).

(3)

أخرجه أحمد (14/ 169) ح (8457)، وأبو داود في كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى (3/ 323) ح (3664)، وابن ماجه في كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به (1/ 92) ح (252)، والحاكم في المستدرك في كتاب العلم (1/ 160) ح (288) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1060) ح (6159)، وقال في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 153) ح (105):"صحيح لغيره"، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (14/ 169) ح (8457).

ص: 628

يطلب الدنيا بعلمه أقبح وأقبح، وكذلك من يطلبها بإظهار الزهد فيها، فإن ذلك خداع قبيح جدًّا"

(1)

.

2 -

حرمانه من الحياة الطيبة في الدنيا، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في حديث أبي هريرة وكلام ابن رجب عليه الذي تقدم قريبًا.

وهذه الحياة الطيبة حرمها من تطلع إلى الشرف في الدنيا، كما أثر عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قوله:"لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"

(2)

.

ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل والرياسة الفانية.

3 -

طلب الشرف في الدنيا يمنع الشرف في الآخرة، ولا يجتمع معه، والسعيد من آثر الباقي على الفاني؛ لحديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى»

(3)

.

4 -

بروز ظاهرة التنازع والافتراق والاختلاف المذموم بين الدعاة بسبب تعلق القلب بحب الرياسات، ومن علامة ذلك أنه إذا لم يعط مكانة ومركزًا يجعل الناس

(1)

مجموع رسائل ابن رجب (1/ 79).

(2)

ينظر: حلية الاولياء (7/ 370).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (32/ 470) ح (19697)، وابن حبان في صحيحه في باب الفقر والزهد والقناعة، ذكر الإخبار بأن الإمعان في الدنيا يضر في العقبى .. (2/ 486) ح (709)، والحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق (4/ 343) ح (7853) وصححه وأعله الذهبي بالانقطاع، وذكره الحاكم مرة أخرى في (4/ 354) ح (7897)، وصححه، ووافقه الذهبي هنا، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب الزهد، باب فيمن أحب الدنيا (10/ 249) ح (17825):"رواه أحمد، والبزار، والطبراني، ورجالهم ثقات"، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 266) ح (3247):"صحيح لغيره"، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (32/ 470) ح (19697):"حسن لغيره".

ص: 629

يقبلون عليه، فإنه يفتعل النزاع والخصومات، وربما يسعى بالتحريش ليفرق الصف، أو ليلتفت إليه بأنه شخص مهم لا يمكن تجاوزه.

5 -

فشل بعض المشاريع الدعوية القائمة بسبب وجود هذه الآفة في قلوب من يقومون عليها، أو فشلها قبل قيامها؛ لأنه أوكل القيام بها لمن ابتلوا بحب الشرف، فنزع الله منهم البركة ولم يوفقهم لنفع الناس.

6 -

استخدام الدعوة جسرًا للحصول على المكاسب المادية أو المعنوية من جاه ونحوه.

ص: 630

‌المبحث الخامس: الركون إلى الكفار والظلمة

ومن مظاهر ضعف أعمال القلوب: ميل القلب إلى الكفار والظلمة والركون إليهم، قال تعالى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].

الركون لغة: الميل إلى الشيء، والسكون إليه

(1)

.

وفي الاصطلاح: قال البغوي رحمه الله: "هو المحبة والميل بالقلب"

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله في تعريفه: "الركون: حقيقة الاستناد والاعتماد، والسكون إلى الشيء والرضا به"

(3)

.

وعرفه السعدي رحمه الله بقوله: "والمراد بالركون الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم"

(4)

.

وقال ابن جرير رحمه الله في معنى الآية: "يقول تعالى ذكره: ولا تميلوا -أيها الناس- إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} بفعلكم ذلك، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من ناصر ينصركم وولي يليكم، {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} يقول: فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله، بل يخليكم

(1)

ينظر: الصحاح (5/ 2126)، لسان العرب (13/ 185) مادة (ركن).

(2)

تفسير البغوي (4/ 204).

(3)

تفسير القرطبي (9/ 108).

(4)

تفسير السعدي (391).

ص: 631

من نصرته، ويسلط عليكم عدوكم"

(1)

.

وعلى هذا فإن ميل الداعية إلى الظلمة وركونه إلى أعداء الله يكون سببًا لتسلط الأعداء عليه في الدنيا، ثم لا يجد نصر الله حليفه، بل يخذله ويتركه لعدوه يتسلط عليه، فيصرفه عن دعوته، وتصيبه الفتنة والعذاب الأليم في الآخرة، فتمسه النار.

وقال تعالى محذرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من الميل اليسير إلى الكفار، في وعيد تنخلع منه القلوب، وإذا كان هذا الوعيد العظيم مع نبيه صلى الله عليه وسلم وحاشاه أن يقع في ذلك- فكيف بمن عداه؟!

{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73 - 75].

قال السعدي رحمه الله في معنى الآيات: "يذكر تعالى منته على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظه له من أعدائه الحريصين على فتنته بكل طريق، فقال:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي: قد كادوا لك أمرًا لم يدركوه، وتحيلوا لك، على أن تفتري على الله غير الذي أنزلنا إليك، فتجيء بما يوافق أهواءهم، وتدع ما أنزل الله إليك.

{وَإِذًا} لو فعلت ما يهوون {لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} أي: حبيبًا صفيًّا، أعز عليهم من أحبابهم؛ لما جبلك الله عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، المحببة للقريب والبعيد، والصديق والعدو.

(1)

تفسير الطبري (12/ 599).

ص: 632

ولكن لتعلم أنهم لم يعادوك وينابذوك العداوة إلا للحق الذي جئت به، لا لذاتك، كما قال الله تعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، {وَ} مع هذا فـ {لَوْلَآ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} على الحق، وامتننا عليك بعدم الإجابة لداعيهم، {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} من كثرة المعالجة، ومحبتك لهدايتهم.

{إِذًا} لو ركنت إليهم بما يهوون {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي: لأصبناك بعذاب مضاعف، في الحياة الدنيا والآخرة؛ وذلك لكمال نعمة الله عليك، وكمال معرفتك.

{ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} ينقذك مما يحل بك من العذاب، ولكن الله تعالى عصمك من أسباب الشر، ومن البشر، فثبتك وهداك الصراط المستقيم، ولم تركن إليهم بوجه من الوجوه، فله عليك أتم نعمة وأبلغ منحة

وفي هذه الآيات دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملقًا لربه أن يثبته على الإيمان، ساعيًا في كل سبب موصل إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق- قال الله له:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} ، فكيف بغيره؟!

وفيها: تذكير الله لرسوله منته عليه، وعصمته من الشر، فدل ذلك على أن الله يحب من عباده أن يتفطنوا لإنعامه عليهم -عند وجود أسباب الشر- بالعصمة منه، والثبات على الإيمان.

وفيها: أنه بحسب علو مرتبة العبد وتواتر النعم عليه من الله يعظم إثمه، ويتضاعف جرمه، إذا فعل ما يلام عليه؛ لأن الله ذكر رسوله لو فعل -وحاشاه من ذلك- بقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا

ص: 633

نَصِيرًا} "

(1)

.

ومن أبرز مظاهر الميل إلى الكفار والظلمة عند الداعية ظاهرة الهزيمة النفسية، وهذا ما سيكون الحديث عنه في المبحث الآتي.

(1)

تفسير السعدي (463 - 464).

ص: 634

‌المبحث السادس: الهزيمة النفسية

(1)

من آثار الخلل في الإيمان وأعمال القلب: ضعف العزة بالإسلام والوقوع في الهزيمة النفسية، وهي: شعور المسلم بالضعف والهوان والضعة أمام أعدائه، وشعوره بالعجز عن مجاراتهم، أما التفوق عليهم فلا يخطر له ببال، ويؤدي هذا الشعور إلى ذوبان الشخصية الإسلامية، والتبعية للغرب والتقليد الأعمى؛ مما يجعل المسلم يفقد كل معاني العزة بدينه، فيتفلت من تبعات دينه

(2)

، ويقذف في قلبه الوهن الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا» ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ» ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ:«حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» .

وإذا أصاب هذا الداء العضال الداعية الذي ينبغي أن يسعى في إنقاذ الأمة من هذه الهزيمة النفسية، فإذا حل بقلبه هذا الأمر، يصبح معول هدم في يدي أعداء الإسلام، يضربون به الأمة في مقاتلها، ويصير فتنة لكل مفتون، وينبت في قلبه مرض النفاق وهو لا يشعر، وكم جر هؤلاء على الأمة من بلايا ورزايا، تتجرع الأمة مرارتها في كل زمن يظهرون فيه، وهم الذين خافهم النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وحذرها منهم، كما في حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ» .

(1)

ينظر في هذا الموضوع بتوسع كتاب: المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية، لعبد الله الشبانة، دار طيبة الرياض، ط 3، 1471 هـ.

(2)

ينظر: المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية (41).

ص: 635

وللهزيمة النفسية مظاهر عند من يصابون بها ممن يَّدعون أنهم دعاة، منها:

1 -

إفساد عقائد المسلمين؛ ولذلك عدة أمثلة، منها:

أ - إهمال توحيد الألوهية وعدم الدعوة إليه بحجة أنه يفرق المسلمين.

ب - هدم عقيدة السلف في توحيد الأسماء والصفات بحجة تقديم العقل على النقل، أو تشويهها بتحريفها بالتأويل الباطل تارة، أو تعطيلها، أو تفويضها تارات أخرى.

ت - هدم عقيدة الولاء والبراء بحجة التقارب بين الأديان والتسامح.

ث - إنكار بعض المسلمات العقدية كبعض قضايا الغيب، وأشراط الساعة، بحجة أنها لا يقبلها العقل، أو أن أحاديثها آحاد.

2 -

التساهل في الفتوى، ولي أعناق النصوص بحجة التيسير، وتغير الفتوى بتغير الزمان.

3 -

الدعوة إلى العلمانية، والديمقراطية، والليبرالية، بحجة أنا إذا أردنا أن نتقدم فلنأخذ بما عند الغرب.

4 -

التقليد الأعمى لمظاهر الحضارة الغربية في السلوك، والدعوة إلى ذلك، وله أمثلة، منها:

أ - الدعوة إلى التبرج والسفور.

ب - التساهل في خلوة الرجل بالمرأة.

ت - الدعوة إلى اختلاط الرجال بالنساء.

ث - الدعوة إلى تحديد النسل.

5 -

ومن المظاهر الدالة على الهزيمة النفسية والرضوخ لضغطها ما يقع فيه بعض الدعاة من لبس الحق بالباطل وكتمانه، وسيأتي تفصيله في المبحث الآتي.

ص: 636

‌المبحث السابع: لبس الحق بالباطل وكتمانه

من آثار الخلل في أعمال القلب لبس الباطل بالحق؛ لأجل أن يجد قبولًا عند الناس، أو أنه يكتم الحق؛ لأجل الحصول على مكاسب دنيوية، أو لأجل أن يتزلف إلى من يريد الحظوة عندهم، أو يستسلم لضغط الواقع تحت سياط هزيمة النفس من الأعداء، وهذا الأمر من لبس الحق بالباطل وكتمانه من أخطر الصفات على الداعية التي ينبغي عليه الحذر منها أشد الحذر، وأن يحاسب نفسه عليها محاسبة دقيقة؛ لأنها من أخبث صفات المغضوب عليهم، ولهذا قال بعض السلف:"من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود"

(1)

، وقد قال سبحانه وتعالى في ذكر صفتهم:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42].

قال السعدي رحمه الله: "ثم قال: {وَلَا تَلْبِسُوا} أي: تخلطوا {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} فنهاهم عن شيئين: عن خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم تمييز الحق، وإظهار الحق؛ ليهتدي بذلك المهتدون، ويرجع الضالون، وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته؛ ليميز الحق من الباطل، ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم، فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم.

ومن لبس الحق بالباطل، فلم يميز هذا من هذا، مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه وأمر بإظهاره، فهو من دعاة جهنم؛ لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم

(1)

ينظر: البداية والنهاية (19/ 42) فقد نقله عن سفيان بن عيينة رحمه الله.

ص: 637

بغير علمائهم، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين"

(1)

.

ووجه الله الخطاب لأهل الكتاب موبخًا لهم في إضلالهم الناس بخلط الحق بالباطل، وكتمان الحق وهم يعلمون، وفي ذلك تحذير لمن يدعون الناس ويعلمونهم أن يسلكوا مسلكهم، فقال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، وقال السعدي رحمه الله في معنى الآية:"فوبخهم على لبس الحق بالباطل وعلى كتمان الحق؛ لأنهم بهذين الأمرين يضلون من انتسب إليهم، فإن العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل فلم يميزوا بينهما، بل أبقوا الأمر مبهمًا وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره، ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب، ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه، والمقصود من أهل العلم أن يظهروا للناس الحق ويعلنوا به، ويميزوا الحق من الباطل، ويظهروا الخبيث من الطيب، والحلال والحرام، والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة، ليهتدي المهتدون، ويرجع الضالون، وتقوم الحجة على المعاندين، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] "

(2)

.

من صور لبس الحق بالباطل أو كتمان الحق عند بعض الدعاة:

ولعل من أبرز صوره في هذا الزمن البحث عن الآراء الشاذة، وتتبع زلل العلماء وإبرازه للناس على أنه خلاف معتبر، ولي أعناق النصوص أو ردها بحجج واهية؛ لأجل اللبس على الناس لقبول هذا الرأي الشاذ، وفي المقابل كتمان القول الحق في المسألة أو رده؛ لأنه لا يوافق هواه أو هوى من يفتي لهم، وهذا من الرأي الذي جاء

(1)

تفسير السعدي (51).

(2)

تفسير السعدي (134).

ص: 638

تحذير السلف من القول به، فقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه يَوْمًا:"إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ، وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ، وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟! مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ"، فقيل لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟! قَالَ: "بَلَى، اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مَا هَذِهِ؟ وَلَا يُثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا"

(1)

.

يقول الأوزاعي رحمه الله: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآثار الرجال وإن زخرفوا لك القول"

(2)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله: "والمقصود أن السلف جميعهم على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة، وأنه لا يحل العمل به لا فتيًا ولا قضاء، وأن الرأي الذي لا يعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته، فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه، من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه"

(3)

.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ

(1)

أبو داود (4/ 202)، والحاكم في المستدرك (4/ 507).

(2)

جامع بيان العلم وفضله (2/ 1071) رقم (2077).

(3)

إعلام الموقعين (2/ 146 - 147).

ص: 639

بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174].

والآيات وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، حينما كتموا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، والصحيح أنها عامة في كل من يشابههم في كتم الحق

(1)

، ويؤيد كونها عامة قول أبي هريرة رضي الله عنه: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ! وَاللَّهُ المَوْعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ؟! وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا، أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا:«لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ، فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا أَبَدًا» ، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرُهَا، حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ، ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ، مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ تِلْكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَاللَّهِ لَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] إِلَى قَوْلِهِ: {الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]

(2)

.

وقال ابن جرير رحمه الله في بيان أن هذه الآية عامة في كل من كتم علمًا: "وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معنيٌ بها كلُّ كاتمٍ علمًا فرض الله تعالى بيانه للناس"

(3)

.

(1)

ينظر في تفسير هذه الآيات: تفسير الطبري (2/ 729 - 732)، تفسير ابن كثير (1/ 472 - 473)، تفسير السعدي (77).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما جاء في الغرس (3/ 109) ح (2350)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه (4/ 1940) ح (2493).

(3)

تفسير الطبري (2/ 731).

ص: 640

وفي الآيات تحذير من كتمان الحق، وبيان خطورة ذلك، وما يترتب عليه من عقوبات، منها:

1 -

يلعنهم الله: أصل اللعن: الطرد والإبعاد، بمعنى: يطردهم من القرب منه، ويبعدهم عن رحمته

(1)

.

2 -

يلعنهم اللاعنون: اختلف المفسرون في المراد باللاعنين على أقوال كثيرة، والذي رجحه ابن جرير رحمه الله بعد أن استعرض أقوال المفسرين في ذلك ما ذكره في قوله رحمه الله:"وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: اللاعنون: الملائكة والمؤمنون؛ لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحل بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161]، فكذلك اللعنة التي أخبر الله -تعالى ذكره- أنها حالة بالفريق الآخر الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس، هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، وهم اللاعنون؛ لأن الفريقين جميعًا أهل كفر"

(2)

.

وأيد الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله ترجيحه بأنه لم يرد نص على بقية المخلوقات

(3)

.

وذكر القرطبي رحمه الله أنه قد جاء نص عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:

(1)

ينظر: تفسير الطبري (2/ 232 - 233)، تفسير القرطبي (2/ 186)، تفسير السعدي (77).

(2)

تفسير الطبري (2/ 737).

(3)

ينظر: تفسير الطبري (2/ 737 - 738).

ص: 641

159]، قَالَ:«دَوَابُّ الْأَرْضِ» ، وقال: "أخرجه ابن ماجه

(1)

وسنده حسن"

(2)

.

وكذلك فسر السعدي عليه رحمة الله بأن اللاعنين جميع الخلق، فقال:" {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها، فهذا عليه هذا الوعيد الشديد"

(3)

.

وهذا الذي أراه هو الأولى؛ أن اللاعنين جميع الخلق، لورود الدليل بذلك وإن كان فيه مقال، إلا أنه يشهد له حديث:«إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» ، ووجه ذلك أنه إذا كان يحصل هذا لمعلم الخير، فكذلك في المقابل تلعن جميع المخلوقات من يكتم العلم عن الناس، والله أعلم.

3 -

يأكلون في بطونهم النار: أي: ما يأكلونه في مقابل كتمان الحق سيكون نارًا تأجج في بطونهم يوم القيامة؛ لأن الثمن الذي حصل لهم على كتمان الحق إنما حصل لهم بأقبح المكاسب، وأعظم المحرمات، فكان جزاؤهم من جنس عملهم

(4)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب العقوبات (2/ 1334) ح (4021)، وضعفه الألباني في تحقيقه لسنن ابن ماجه (2/ 1334) ح (4021)، وضعف إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 151) ح (4021).

(2)

ينظر: تفسير القرطبي (2/ 187).

(3)

تفسير السعدي (77).

(4)

ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 483)، تفسير السعدي (82).

ص: 642

4 -

لا يكلمهم الله يوم القيامة: لأنه غضبان عليهم، فكتموا الحق وهم يعلمون، فلا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم، بل يوبخهم، ويسخط عليهم، ويعرض عنهم

(1)

.

5 -

لا يزكيهم الله: قال السعدي رحمه الله: "أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله، والاهتداء به، والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله، وأعرضوا عنه، واختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة"

(2)

.

لهم عذاب أليم في الآخرة: لهم عذاب موجع في الآخرة في النار، لأنه ذكر عنهم في منتصف الآية {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} ، وهذا كما قال تعالى عمن يأكلون أموال اليتامى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وختم الآية بأن الذين يكتمون الحق لهم عذاب مؤلم في الآخرة، ثم قال عنهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175].

ولا يسلم من تلك العقوبات إلا من استثناه الله وتوفرت فيه الصفات الآتية التي قال الله عنها: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]، وهي: التوبة، والإصلاح، والبيان، وقال السعدي رحمه الله في ذكر معنى هذه الصفات: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أي: رجعوا عما هم عليه من

(1)

ينظر: تفسير البغوي (1/ 184)، تفسير ابن كثير (1/ 483)، تفسير السعدي (82).

(2)

تفسير السعدي (82).

ص: 643

الذنوب، ندمًا وإقلاعًا، وعزمًا على عدم المعاودة، {وَأَصْلَحُوا} ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن.

ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضًا، حتى يبين ما كتمه، ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه؛ لأن توبة الله غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة تاب الله عليه؛ لأنه {التَّوَّابُ} أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح بعد الذنب إذا تابوا، وبالإحسان والنعم بعد المنع إذا رجعوا، {الرَّحِيمُ} الذي اتصف بالرحمة العظيمة، التي وسعت كل شيء، ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا وأنابوا، ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم، لطفًا وكرمًا"

(1)

.

وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].

قال السعدي رحمه الله: "الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه الله الكتب وعلمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصًا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه، ويوضح الحق من الباطل.

فأما الموفقون، فقاموا بهذا أتم القيام، وعلموا الناس مما علمهم الله؛ ابتغاء مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفًا من إثم الكتمان.

وأما الذين أوتوا الكتاب، من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم، فلم يعبؤوا بها، فكتموا الحق، وأظهروا الباطل، تجرُّؤًا على محارم

(1)

تفسير السعدي (77).

ص: 644

الله، وتهاونًا بحقوق الله وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمنًا قليلًا وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات والأموال الحقيرة، من سفلتهم المتبعين أهواءهم، المقدمين شهواتهم على الحق، {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ؛ لأنه أخس العوض، والذي رغبوا عنه -وهو بيان الحق الذي فيه السعادة الأبدية والمصالح الدينية والدنيوية- أعظم المطالب وأجلها، فلم يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا العالي النفيس إلا لسوء حظهم وهوانهم، وكونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له"

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(2)

.

وفي لفظ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَجَّمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»

(3)

.

قال الخطابي رحمه الله: "والمعنى: أن الملجم لسانه عن قول الحق والإخبار عن العلم والإظهار له يعاقب في الآخرة بلجام من نار.

وخرج هذا على معنى مشاكلة العقوبة الذنب كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ".

(1)

تفسير السعدي (160).

(2)

أخرجه أحمد (13/ 325) ح (7943)، وأبو داود واللفظ له في كتاب العلم، باب كراهية منع العلم (3/ 321) ح (3658)، والترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم (5/ 29) ح (2649) وقال:"حديث حسن"، وابن ماجه في كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب من سئل عن علم فكتمه (1/ 98) ح (266)، والحاكم في المستدرك في كتاب العلم (1/ 181) ح (344) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 160) ح (120)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (13/ 325) ح (7943).

(3)

وهو عند أحمد أخرجه في المسند (16/ 351) ح (10597)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (16/ 351) ح (10597):"حديث صحيح".

ص: 645

قال: "وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه فرضه؛ كمن رأى كافرًا يريد الإسلام يقول: علموني ما الإسلام؟ وما الدين؟ وكمن يرى رجلًا حديث العهد بالإسلام لا يحسن الصلاة وقد حضر وقتها، يقول: علموني كيف أصلي؟ وكمن جاء مستفتيًا في حلال أو حرام يقول: أفتوني وأرشدوني، فإنه يلزم في مثل هذه الأمور أن لا يمنعوا الجواب عما سألوا عنه من العلم، فمن فعل ذلك كان آثمًا مستحقًّا للوعيد والعقوبة.

وليس كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها"

(1)

.

(1)

معالم السنن (4/ 185).

ص: 646

المبحث الثامن:

العُجْب، والرياء والسمعة، والكبر

المطلب الأول: العُجْب.

المطلب الثاني: الرياء والسمعة.

المطلب الثالث: الكبر.

المطلب الرابع: كيفية التخلص من هذه الآفات.

ص: 647

‌المبحث الثامن: العُجْب، والرياء والسمعة، والكبر

‌توطئة:

مطلوب من الداعية أن يتفقد قلبه، ويحاسب نفسه على آفات القلوب، ويحذر من تسللها إلى قلبه، ومن تلك الآفات العجب، والرياء والسمعة، ومن أشدها خطرًا الكبر والتعالي على الناس. وهذه الآفات أو بعضها إذا تسللت إلى قلب الداعية أفسدت عليه قلبه، فقسى وأظلم، وتسلطت عليه شياطين الإنس والجن، وكان فتنة لكل مفتون.

ودونك تفصيل الكلام على هذه الآفات وفق المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: العُجْب.

المطلب الثاني: الرياء والسمعة.

المطلب الثالث: الكبر.

المطلب الرابع: كيفية التخلص من هذه الآفات.

وفيما يلي بيان ذلك:

المطلب الأول: العُجْب:

‌أولًا: تعريف العُجْب:

العُجْبُ لغة: يطلق على الكبر بالنفس، يقال: معجب بنفسه، وذلك لمن يروقه نفسه، فهو مزهوٌّ بما يكون منه حسنًا أو قبيحًا، وقد يكون العجب بالشيء، فيقال: معجب برأيه وبنفسه

(1)

.

(1)

ينظر: مقاييس اللغة (4/ 243)، المفردات (547)، لسان العرب (1/ 582) مادة (عجب).

ص: 648

العُجْبُ اصطلاحًا:

قال عبد الله بن المبارك رحمه الله عن العجب: "أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك"

(1)

.

وقال الغزالي رحمه الله عن العجب: "استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم"

(2)

.

وقال أبو العباس القرطبي

(3)

: "إعجاب الرجل بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال والاستحسان مع نسيان منة الله تعالى"

(4)

.

وقال الجرجاني: "العجب: هو عبارة عن تصور استحقاق الشخص رتبة لا يكون مستحقًّا لها"

(5)

.

ومن خلال ما سبق يتضح أن العجب مرتبط بالنفس، وهو أن يرى بأن عنده ما ليس عند غيره، وملاحظته لنفسه بعين الكمال والاستحسان، مع نسيان أن المنعم عليه هو الله تعالى.

(1)

شعب الإيمان (10/ 514).

(2)

إحياء علوم الدين (3/ 371).

(3)

أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي.

من الأئمة المشهورين والعلماء المعروفين، ومن كتبه: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، شرح به كتابه الذي اختصره من صحيح مسلم، وقع في تأويل بعض الصفات على طريقة الأشاعرة، توفي رحمه الله سنة (656 هـ).

ينظر: البداية والنهاية (17/ 381)، الأعلام للزركلي (1/ 186)، موسوعة مواقف السلف (7/ 359).

(4)

المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (5/ 406) لأبي العباس القرطبي، ت: محيي الدين مستو وآخرون، دار ابن كثير دمشق، بيروت، ط 1، 1417 هـ.

(5)

التعريفات (147).

ص: 649

‌ثانيًا: حكم العجب:

دلت نصوص الكتاب والسنة على تحريم العجب، ومن ذلك:

قال تعالى في وصية لقمان لابنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي: لا تُمِلْهُ وتعبس بوجهك للناس؛ تكبُّرًا عليهم وتعاظمًا. {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أي: بطرًا، فخرًا بالنعم، ناسيًا المنعم، معجبًا بنفسك. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} في نفسه وهيئته وتعاظمه، {فَخُورٍ} بقوله"

(1)

.

وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي الله عنه: «ثلاث مهلكات .. » ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وأمّا المهلكاتُ: فَشُحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع، إعجابُ المرءِ بنفِسِه"

(3)

.

وعَن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ لمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا

(1)

تفسير السعدي (649).

(2)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء (7/ 141) ح (5789)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه (3/ 1654) ح (2088).

(3)

أخرجه البزار في مسنده (13/ 114) ح (6491)، والطبراني في المعجم الأوسط (5/ 328) ح (5452) ت: طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين القاهرة، وحسنه المنذري بمجموع طرقه في الترغيب والترهيب (1/ 174) ح (654)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 312) ح (453):"حسن لغيره".

ص: 650

هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ: الْعُجْبَ»

(1)

.

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ -وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ- «إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدُونَ وَيَدْأَبُونَ، حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ، وَتُعْجِبَهُمْ نُفُوسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ»

(2)

.

ودلت هذه النصوص على أن العجب محرم ومن كبائر الذنوب، بل عده شيخ الإسلام رحمه الله من الشرك، فقال:"وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، والمعجب لا يحقق قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فمن حقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} خرج عن الرياء، ومن حقق قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خرج عن الإعجاب"

(3)

.

مما يدل على خطر العجب على الأمة، وأثره العظيم في حصول الهزيمة، ما ذكره الله في تعقيبه على غزوة حنين وهو يربي الأمة على الحذر من هذه المسالك، حينما حصل هزيمة في أول المعركة بسبب العجب بالكثرة وتعلق القلب بها، فقال سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ

(1)

أخرجه البزار في مسنده (13/ 326) ح (6936)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 399) ح (6868)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب الزهد، باب ما جاء في العجب (10/ 269) ح (17948):"رواه البزار، وإسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 938) ح (5303).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (20/ 243 - 244) ح (12886)، وأبو يعلى (7/ 116) ح (4066)، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها (4/ 519) ح (1895):"وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (20/ 244) ح (12886):"إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وقال محقق مسند أبي يعلى (7/ 116) ح (4066):"إسناده صحيح".

(3)

مجموع الفتاوى (10/ 277).

ص: 651

كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، وكان من أسباب الخلل والهزيمة العجب الذي أدى إلى ركون القلب إلى الكثرة والاعتداد بها بأنهم لن يهزموا، وغفلوا عن أن النصر من الله، وليس بالكثرة ولا بالقوة المادية، فأصابهم الخذلان، ولم تغن عنهم الكثرة شيئًا، فحصلت الهزيمة والفرار في أول المعركة من هؤلاء، وثبّت الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، ونصرهم في نهاية المعركة، حيث قال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].

ومن أقوال السلف في التحذير منه:

- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب"

(1)

.

- وعن كعب رضي الله عنه أنه قال لرجل رآه يتبع الأحاديث: "اتق الله، وارض بالدون من المجلس، ولا تؤذ أحدًا، فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سفالًا ونقصانًا"

(2)

.

- وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "علامة الجهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه"

(3)

.

- وعن مسروق

(4)

رحمه الله قال: "كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء

(1)

أدب الدين والدنيا (237) للماوردي، دار مكتبة الحياة، تاريخ النشر: 1986 م.

(2)

حلية الأولياء (5/ 376).

(3)

جامع بيان العلم وفضله (1/ 569).

(4)

الإمام، القدوة، العلم، مسروق بن الأجدع بن مالك الوادعي الهمداني أبو عائشة الوادعي، الهمداني، الكوفي. من كبار التابعين الثقات، توفي رحمه الله سنة (63 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (15/ 311)، سير أعلام النبلاء (4/ 63)، الأعلام (7/ 215).

ص: 652

جهلًا أن يعجب بعمله"

(1)

.

- وقال أبو وهب المروزي

(2)

رحمه الله: "سألت ابن المبارك: ما الكبر؟ قال: أن، تزدري الناس. فسألته عن العجب، قال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئًا شرًّا من العجب"

(3)

.

- وعن خالد بن يزيد بن معاوية

(4)

رحمه الله قال: "إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا بنفسه، فقد تمت خسارته"

(5)

.

- وكان يحيى بن معاذ رحمه الله يقول: "إياكم والعجب؛ فإن العجب مهلكة لأهله، وإن العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"

(6)

.

وقيل لعبد الله بن المبارك: ما الذنب الذي لا يغفر؟ قال: "العجب"

(7)

.

ويقصد ابن المبارك رحمه الله أن العجب من الكبائر التي لا تغفر إلا بالتوبة.

(1)

جامع بيان العلم وفضله (1/ 569).

(2)

محمد بن مزاحم، أبو وهب المروزي، مولى بني عامر، أخو سهل بن مزاحم، كان خيرًا فاضلًا، وثقه ابن حبان، توفي سنة (209 هـ) عليه رحمة الله.

ينظر: الثقات لابن حبان (9/ 58)، تهذيب الكمال في أسماء الرجال (26/ 395)، تاريخ الإسلام (5/ 189).

(3)

سير أعلام النبلاء (8/ 407).

(4)

خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأمير، أبو هاشم الأموي، حكيم قريش وعالمها في عصره، وكان شاعرًا، وله معرفة بالعلوم الطبيعية توفي رحمه الله سنة (90 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 411)، البداية والنهاية (12/ 428)، الأعلام (2/ 300).

(5)

مساوئ الأخلاق (263).

(6)

شعب الإيمان (9/ 395).

(7)

شعب الإيمان (9/ 396).

ص: 653

‌ثالثًا: صور من العجب عند الداعية المبتلى به

(1)

:

1 -

كثرة الحديث عن نفسه ومنجزاته وأعماله الدعوية إما تصريحًا أو تلميحًا.

2 -

حبه ونشاطه في الأعمال التي فيها ظهور أمام الجمهور، وفي المقابل البعد أو الكسل عن الأعمال التي لا يراه فيها الناس؛ لأن الظهور أمام الناس يلبي رغبة العجب التي في نفسه.

3 -

يحب من يقدمه ويثني عليه، وينفر من الذين لا يثنون عليه، ولا يحب النشاط الدعوي في هذه الأماكن التي لا يثنى عليه فيها.

4 -

الضيق والتبرم من النصيحة، والبعد عن الناصحين.

5 -

حبه للتصدر وحرصه عليه قبل أن يتأهل لذلك.

6 -

الفرح بذكر أو سماع عيوب إخوانه من الدعاة؛ مما يؤدي به إلى البحث والتنقيب عن عيوبهم، ونسيان عيوب نفسه، وهو يظن أنه بذلك يظهر قدرته العلمية.

7 -

عدم استشارة أهل العلم، معتدًّا برأيه، ويظن أنه ليس بحاجة إلى استشارة أحد لكمال عقله.

‌رابعًا: خطر العجب على الداعية:

العجب له خطر عظيم على الداعية في نفسه، وعلى دعوته، ومن ذلك:

1 -

نفور الناس منه، ومن دعوته.

2 -

سبب للكبر والغرور والتعالي على الناس.

3 -

سبب للرياء والسمعة.

(1)

ينظر: مختصر منهاج القاصدين (234)، مقال بعنوان العجب داء القلوب الخفي في موقع المسلم على الشبكة، الإخلاص حقيقته ونواقضه (486 - 487)، نضرة النعيم (11/ 5380).

ص: 654

4 -

نسيان الذنوب والتمادي في التقصير، ولا يوفق للتوبة.

5 -

الإصرار على الأخطاء في دعوته، وعدم سماع العلماء الناصحين اعتدادًا برأيه.

6 -

وقد مر في فقرة سابقة في هذا المطلب تحذير السلف من العجب، وبيان خطره، ما يكفي للنفور منه والبعد عنه

(1)

.

7 -

سبب للخذلان وقلة التوفيق.

‌المطلب الثاني: الرياء والسمعة:

وفيه فرعان: الفرع الأول: الرياء، والفرع الثاني: السمعة.

‌الفرع الأول: الرياء:

‌أولًا: تعريفه:

الرياء في اللغة: مشتق من الرؤية، وقال ابن فارس رحمه الله:"وَرَاءَى فُلَانٌ يُرَائِي، وَفَعَلَ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لِيَرَاهُ النَّاسُ"

(2)

.

وتعريفه في الشرع: وردت له تعاريف كثيرة، ومن أجمعها تعريف ابن حجر رحمه الله:"إِظْهَارُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهَا، فَيَحْمَدُوا صَاحِبَهَا"

(3)

.

‌ثانيًا: حكم الرياء:

الرياء من الشرك الأصغر، وهو أيضًا من الشرك الخفي؛ ولذا كان خطره عظيمًا، وشره مستطيرًا، فلا بد من الحذر منه، والانتباه له ولعظيم ضرره.

ومن الأدلة على ذلك:

قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ

(1)

ينظر: ص (657).

(2)

مقاييس اللغة (2/ 473) مادة (رأى)، وينظر كذلك: فتح الباري (11/ 336).

(3)

فتح الباري (11/ 336).

ص: 655

رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38].

والآيات تدل على عظيم خطر الرياء وأن من تلبس به وأنه من الشرك، ومن صفات المنافقين، وصاحبه الشيطان قرين له فساء قريناً.

قال سفيان الثوري رحمه الله عند قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]: "ويل لأهل الرياء! ويل لأهل الرياء! هذه آيتهم وقصتهم"

(1)

.

وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»

(2)

.

وذكر الخطابي رحمة الله في معني الحديث: أن من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جزاه الله على ذلك بأن يشهره ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه

(3)

.

وأضاف ابن حجر إلى ما ذكره الخطابي، فقال: "وقيل: من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله، فإن الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة ومعنى «يرائي»: يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم

(1)

تفسير القرطبي (15/ 265).

(2)

أخرجه البخاري واللفظ له عن جندب رضي الله عنه في كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة (8/ 104) ح (6499)، ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (4/ 2289) ح (2986).

(3)

ينظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي (3/ 2257)، ت: محمد بن سعود آل سعود، مركز البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، ط 1، 1409 هـ.

ص: 656

لا لوجهه"

(1)

.

وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ:«الرِّيَاءُ؛ إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!»

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»

(3)

.

وذكر الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في شرحه على التوحيد أن الرياء على درجتين:

الأولى: رياء المنافقين؛ بأن يظهر الإسلام ويبطن الكفر؛ لأجل رؤية الخلق، وهذا مناف للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله، وقد وصف المنافقين بقوله:{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، فقوله تعالى:{يُرَاءُونَ النَّاسَ} الرياء الأكبر الذي هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.

الثانية: وهو أن يرائي المسلم بعمله أو ببعض عمله، فهذا شرك خفي ينافي كمال التوحيد

(4)

.

(1)

فتح الباري (11/ 336).

(2)

أخرجه أحمد (39/ 43 - 44) ح (23636)، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 34) ح (50)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب الإيمان، باب ما جاء في الرياء (1/ 102) ح (375):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 120) ح (32)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (39/ 44) ح (23636):"إسناده حسن".

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (4/ 2289) ح (2985).

(4)

ينظر: التمهيد (396).

ص: 657

‌ثالثًا: صور من الرياء عند من ابتلي به من الدعاة

(5)

:

1 -

الصور التي مرت في العجب تنطبق على الرياء لتقارب الآفتين.

2 -

ينشط في العبادة إذا رآه الناس، ويحسنها ويتقنها من أجل شعوره برؤية الناس له، كما في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ:«الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»

(6)

.

3 -

يحافظ على البعد عن محارم الله إذا كان الناس يرونه، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها؛ لأنه لا ينتهي عن المحارم إلا مخافة من الناس، ولهذا عقوبته عظيمة، كما في الحديث عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» .

وهذا يحصل من بعض من ينتسبون للدعوة، تجده ينتهك محارم الله إذا خلا بجواله أو جهاز حاسبه أو بالقناة الفضائية التي تعرض ما حرم الله.

4 -

يطلب العلم وهمه أن يرى تعظيم الناس له، وقضاء حاجاته، وتقديمه في المجالس.

(5)

ينظر: إحياء علوم الدين (3/ 297)، نضرة النعيم (10/ 4553)، الإخلاص حقيقته ونواقضه (336 - 339).

(6)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة (2/ 1406) ح (4204)، والحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق (4/ 365) ح (7936) وصححه ووافقه الذهبي، وحسن إسناده البوصيري في زوائد ابن ماجه (4/ 236) ح (1505)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 119) ح (30).

ص: 658

5 -

الرّياء بالقول، وهو أن يقوم بهذه الأعمال من أجل الناس، ويكون مهتمًّا بالوعظ والتّذكير والنّطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار؛ لإظهار غزارة العلم، ومن ذلك تحريك الشّفتين بالذّكر في محضر النّاس، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أمامهم.

6 -

المراءاة بالأصحاب والزّائرين، كأن يطلب المرائي من عالم أن يزوره ليقال: إنّ فلانًا قد زار فلانًا، ومن ذلك كثرة ذكره للشّيوخ الذين قابلهم وزارهم، ويحرص على إظهار ذلك للناس من خلال الوسائل المتاحة له، لا لأجل الاقتداء ونشر الخير، وإنما لأجل أن يشعر الناس بمكانته.

رابعًا: خطر الرياء على الداعية

(1)

:

1 -

نفور الناس منه، ومن دعوته.

2 -

خذلان الله له وقلة توفيقه.

3 -

تسلط الأعداء عليه من شياطين الإنس والجن.

4 -

يحبط أعماله الدعوية وينزع الله منها البركة.

5 -

لا يسلم المرائي من أن يفضح الله أمره في الدّنيا، ويظهر عيوبه، فيسقط من أعين النّاس وتذهب هيبته، ناهيك عن حسرته يوم القيامة.

6 -

من يرائي بالأعمال الصالحة أول من تسعر به النار، كما في الحديث أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ حَدَّثَ أَنَّ شُفَيًّا الأَصْبَحِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ المَدِينَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:

(1)

ينظر: نضرة النعيم (10/ 4567).

ص: 659

أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثْنَا قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ» ، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» . وَقَالَ الوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَحَدَّثَنِي العَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا، فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ؟! ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ،

ص: 660

وَقُلْنَا: قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ، ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].

‌الفرع الثاني: السمعة:

‌أولًا: تعريفها:

في اللغة مأخوذة من الفعل سَمِعَ، وهي حب سماع الذكر الحسن عنه بالأذن فيقال: فَعَلَهُ سمعةً أي: ليسمع به الناس

(1)

.

وفي الاصطلاح: لا يختلف عن المعنى في اللغة أي يحب أن يسمع من الناس الذكر الحسن عنه، فيظهر العبادة لأجل سماع الناس، أو يتحدث بعمله ليُسْمِع الناس، ويقصد المدح والثناء

(2)

.

‌ثانيًا: والفرق بينها وبين الرياء

كما قال ابن حجر: أن السمعة تتعلق بحاسة السمع

(3)

، والرياء يتعلق بحاسة البصر

(4)

. وكلاهما بمعنى متقارب في نتيجة الحكم عليهما كما سيأتي.

(1)

ينظر: مقاييس اللغة (3/ 102)، الصحاح (3/ 1232)، لسان العرب (8/ 165) مادة (سمع).

(2)

ينظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (452)، المفيد في مهمات التوحيد (129) د. عبد القادر صوفي، دار الأعلام، ط 1، 1422 هـ.

(3)

أي: الأعمال التي تسمع من تلاوة أو ذكر أو دعاء ونحو ذلك؛ لأجل سماع مدح الناس.

(4)

ينظر: فتح الباري (11/ 336).

ص: 661

‌ثالثًا: حكم السمعة:

السمعة حكمها كحكم الرياء، فكل ما ورد في الرياء من الأدلة يرد فيها، وقد جاء في السنة ما يبين عظيم خطرها، ومن ذلك:

قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» .

عن جندب رضي الله عنه: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَة» الحديث

(1)

.

وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ

(2)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ»

(3)

.

وحكمها حكم الرياء، وبالذات حينما تقارن العمل.

قال ابن حجر رحمه الله: "والسمعة .. مشتقة من سمع، والمراد بها نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر"

(4)

.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعد أن ذكر تعريف الرياء: "ويدخل في ذلك

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الاحكام، باب من شاق الله شق الله عليه (9/ 64) ح (7152).

(2)

أخرجه أحمد (11/ 430) ح (6839)، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الزهد، باب ما جاء في الرياء (10/ 222) ح (17660):"رجال أحمد، وأحد أسانيد الطبراني في الكبير رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (11/ 430) ح (6839):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(3)

أخرجه أحمد في المسند (11/ 566) ح (6986)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 117) ح (25)، وقال محقق المسند (11/ 566) ح (6986):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(4)

فتح الباري (11/ 336)

ص: 662

من عمل العمل ليسْمَعَه الناس"

(1)

.

‌رابعًا: ما يستثنى من السمعة:

ويستثنى من السمعة المحرمة ما يعمله الإنسان المقتدى به، فيظهر العمل ليقتدي به الناس، بشرط أن يحرص على سلامة نيته من مقصد السمعة المذمومة، وذلك بحبه لسماع ثناء الناس ومدحهم.

وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث

(2)

استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة، قال ابن عبد السلام

(3)

: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به، أو لينتفع به ككتابة العلم

(4)

، ومنه حديث سهل الماضي في الجمعة:«لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي»

(5)

قال الطبري: كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال: فمن كان إمامًا يستن بعمله عالمًا بما لله عليه قاهرًا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي؛ لصحة

(1)

القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 124).

(2)

يقصد ابن حجر رحمه الله حديث: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» .

(3)

عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم، الشيخ عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي، شيخ المذهب ومفيد أهله، الملقب بسلطان العلماء، بلغ رتبة الاجتهاد، وقصد بالفتاوى من الآفاق، وصاحب مصنفات حسان; منها التفسير، واختصار النهاية، والقواعد الكبرى، والصغرى، وغير ذلك، وعرف الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين، توفي رحمه الله (660 هـ).

ينظر: البداية والنهاية (17/ 441)، الأعلام (4/ 21)، موسوعة مواقف السلف (7/ 388).

(4)

لم أجده بهذا اللفظ فيما تيسر لي من كتب العز بن عبد السلام، ووجدت قريباً منه في كتابي: الفوائد ومقاصد الرعاية.

ينظر: الفوائد في اختصار المقاصد (125 - 127)، مقاصد الرعاية لحقوق الله (98) كلاهما للعز بن عبد السلام، ت: إياد خالد الطباع، دار الفكر المعاصر، دار الفكر - دمشق، ط 1، 1416 هـ.

(5)

وهو في مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة (1/ 386)(544).

ص: 663

قصده، ومن كان بخلاف ذلك، فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف، فمن الأول حديث حماد بن سلمة

(1)

عن ثابت

(2)

عن أنس قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ ويرفع صوته بالذكر، فقال:"إِنَّهُ أَوَّابٌ" قال: فإذا هو المقداد بن الأسود أخرجه الطبري

(3)

.

ومن الثاني حديث الزهري عن أبي سلمة

(4)

عن أبي هريرة قال قام رجل يصلي، فجهر بالقراءة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسمعني، وأسمع ربك» أخرجه أحمد

(5)

، وابن أبي خيثمة

(6)

، وسنده حسن"

(7)

.

(1)

حماد بن سلمة بن دينار البصري الإمام، القدوة، شيخ الإسلام، وكان مع إمامته في الحديث إمامًا كبيرًا في العربية، فقيهًا، فصيحًا، رأسًا في السنة، كان شديدًا على المبتدعة، توفي رحمه الله سنة (167 هـ).

ينظر: الثقات لابن حبان (6/ 216)، سير أعلام النبلاء (7/ 444)، الأعلام (2/ 272).

(2)

ثابت بن أسلم أبو محمد البُنَانِي الإمام، القدوة، شيخ الإسلام، أبو محمد مولاهم، البصري. أحد أئمة التابعين في البصرة، وكان رأسًا في العلم، والعمل ثقة رفيعًا، توفي رحمه الله سنة (127 هـ).

ينظر: تهذيب الكمال (4/ 342)، سير أعلام النبلاء (5/ 220)، تاريخ الإسلام (3/ 382).

(3)

لم أقف عليه فيما تيسر من مصادر، ولكني وجدت قريبًا منه في مسند أحمد (31/ 306) ح (18971) ولفظه: عَنِ ابْنِ الْأَدْرَعِ قَالَ: كُنْتُ أَحْرُسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَخَرَجَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ: فَرَآنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقْنَا، فَمَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، يُصَلِّي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، قَالَ: فَرَفَضَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْرَ بِالْمُغَالَبَةِ» ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا أَحْرُسُهُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي بِالْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«كَلَّا إِنَّهُ أَوَّابٌ» ، قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْن. وقال في مجمع الزوائد (9/ 369) ح (15982):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وحسن إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 285) ح (1709)، والحديث ضعف إسناده محقق المسند (31/ 306) ح (18971).

(4)

أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي الحافظ أحد الأعلام بالمدينة، وكان إمامًا حجة، واسع العلم، فقيهًا كثير الحديث، توفي سنة (94 هـ)، وقيل: سنة (104 هـ) عليه رحمة الله.

ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 287)، تاريخ الإسلام (2/ 1199)، تهذيب التهذيب (12/ 115).

(5)

مسند أحمد (14/ 72) ح (8326).

(6)

النحوي، المقرئ: أحمد بن زهير بن حرب الإمام أبو بكر بن أبي خيثمة البغدادي، أبو بكر النسائي الحافظ، صاحب التاريخ الكبير الكثير الفائدة، كان ثقة، عالمًا، متقنًا، حافظًا، بصيرًا بأيام الناس، راوية للأدب، توفي رحمه الله سنة (279 هـ).

ينظر: تاريخ بغداد (5/ 265)، سير أعلام النبلاء (11/ 492)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (1/ 196).

ولم أعثر على هذا الحديث في كتب ابن أبي خيثمة المطبوعة والعلم عند الله.

(7)

فتح الباري (11/ 337).

ص: 664

‌خامسًا: من مظاهر السمعة عند من ابتلي بها

(1)

:

1 -

كثرة إطراء النفس والحديث عنها.

2 -

التمطيط بقراءة القرآن وإخراجها عن الحد المشروع في القراءة، حتى يخيل لك أنه لا يقرأ وإنما ينشد شعرًا، ويتفاعل مع جماهير السامعين ويردد الآية لا للتدبر، وإنما للتمطيط وزيادة التنغيم والدخول من مقام إلى مقام آخر، حتى يشبع رغبة في نفسه بحب ثناء الناس ومدحهم.

3 -

لا يحب الناصح، ويرى أنه ينزل من قدره.

4 -

إذا ألقى درسًا أو موعظة ولم يلق مدحًا ولا ثناء يغضب في داخل نفسه، وربما لا يواصل درسه أو مواعظه في نفس المكان.

5 -

كثير النقد والاعتراض على الآخرين.

6 -

يتصيد الأخطاء ويفرح بها، ويضخمها وهي صغيرة؛ ليشعر من يسمعه أنه عنده غيرة على الدين.

‌سادسًا: تنبيه:

أما ما يسمعه الإنسان عنه من ثناء حسن من غير قصد لذلك، وتطلع إليه، فلا يدخل في السمعة المذمومة؛ لأن هذا مما استثناه الحديث، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ

(1)

الأخلاص حقيقته ونواقضه (368 - 370).

ص: 665

لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ:«تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»

(1)

.

نقل النووي كلام العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» فقال رحمه الله: "قال العلماء: معناه: هذه البشرى المعجلة له بالخير وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له، فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث

(2)

، ثم يوضع له القبول في الأرض، هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم"

(3)

.

قال السيوطي

(4)

رحمه الله: "قال: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» أي: هذه البشرى المعجلة دليل للبشرى المؤخرة إلى الآخرة"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره (4/ 2034) ح (2642).

(2)

يشير رحمه الله إلى حديث: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ» ، وحديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فَيُحِبُّهُ النَّاسُ؟ قَالَ:«تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» . أخرجه أحمد في المسند (35/ 379) ح (21477)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (35/ 379) ح (21477).

(3)

شرح النووي على مسلم (16/ 189).

(4)

الإمام الكبير صاحب التصانيف النحوي اللغوي المفسر عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، جلال الدين، حافظ مؤرخ أديب، وله الكثير من المصنفات في شتى الفنون منها: الدر المنثور، تدريب الراوي، الاتقان في علوم القرآن وغيرها، في تفسيره يميل إلى طريقة الأشاعرة في الصفات، توفي رحمه الله سنة (911 هـ).

ينظر: البدر الطالع (1/ 328)، الأعلام (3/ 301)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (2/ 1153).

(5)

شرح السيوطي على مسلم (5/ 556) ت: أبو إسحاق الحويني، دار ابن عفان، الخبر، ط 1، 1416 هـ.

ص: 666

‌سابعًا: خطر السمعة على الداعية:

يقال هنا ما قيل في خطر الرياء

(1)

لتقارب الآفتين، ويضاف ما ورد في الحديث:«مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَة» الحديث.

يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ الراوي: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ.

ففي هذين الحديثين بيان عقوبة من يقع في السمعة في الدنيا والآخرة.

وذكر أهل العلم

(2)

في شرح هذا الحديث عدة معان تدل على خطورة السمعة، ودونك أهمها:

1 -

أنه إذا عمل يريد سماع ثناء الناس ليكرموه ويعظموه ويعتقدوا خيره سمع الله به يوم القيامة الناس وفضحه.

2 -

يفضحه الله في الدنيا ويظهر ما كان يبطنه ويخفيه عن الناس.

3 -

وقيل: إذا أراد بالسمعة الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة.

4 -

وقيل: المعنى: من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه وسمعه المكروه.

5 -

وقيل: المعنى: من نسب إلى نفسه عملًا صالحًا لم يفعله وادعى خيرًا لم يصنعه، فإن الله يفضحه ويظهر كذبه.

‌المطلب الثالث: الكبر:

‌أولًا: تعريفه:

الكبر: العظمة، وكذلك الكبرياء. ويقال: ورثوا المجد كابرًا عن كابر، أي: كبيرًا عن كبير في الشرف والعز، والاستكبار الامتناع عن قبول الحق، وأعظم التّكبّر التّكبّر

(1)

ينظر: ص (664).

(2)

ينظر في ذلك: شرح النووي على مسلم (18/ 116)، فتح الباري لابن حجر (11/ 336 - 337).

ص: 667

على الله بالامتناع من قبول الحقّ والإذعان له بالعبادة

(1)

.

الكبر في الشرع: يكفي في تعريفه ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» .

ومعنى الحديث: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ» بمعنى رد الحق ودفعه وإنكاره ترفعًا وتجبرًا، «وَغَمْطُ النَّاسِ» أي: احتقارهم

(2)

.

‌ثانيًا: حكم الكبر:

جاءت النصوص بالتحذير والتنفير منه، فقال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40].

وقال تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72].

(1)

ينظر: مقاييس اللغة (5/ 154)، المفردات في غريب القرآن (697)، لسان العرب (5/ 126) مادة (كبر).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (2/ 90).

ص: 668

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].

وكل هذه الآيات تبين خطورة هذا الذنب العظيم، وقبحه وعظيم حرمته عند الله، وأثره على من يقع فيه.

قال القرطبي رحمه الله: " {يَطْبَعُ اللَّهُ} أي: يختم {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} حتى لا يعقل الرشاد ولا يقبل الحق"

(1)

.

وقال تعالى عن قول قوم صالح لمن آمن منهم: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 76].

وقال السعدي رحمه الله: "حملهم الكبر أن لا ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء"

(2)

.

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» .

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ»

(3)

.

قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: "فالضمير في «إزاره ورداؤه» يعود إلى الله

(1)

تفسير القرطبي (15/ 313).

(2)

تفسير السعدي (295).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكبر (4/ 2023) ح (2620).

ص: 669

تعالى للعلم به، وفيه محذوف تقديره: قال الله تعالى: «ومن ينازعني ذلك أعذبه» ومعنى «ينازعني» : يتخلق بذلك، فيصير في معنى المشارك، وهذا وعيد شديد في الكبر مصرح بتحريمه"

(1)

.

وعن حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»

(2)

.

وقال النووي رحمه الله: "أما العُتُل .. فهو الجافي الشديد الخصومة بالباطل، وقيل: الجافي الفظ الغليظ، وأما الجَوَّاظ .. فهو الجموع المنوع، وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين .. وأما المتكبر والمستكبر فهو صاحب الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس"

(3)

.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مفصلًا القول في حكم الكبر: "فالذي في قلبه كبر، إما أن يكون كبرًا عن الحق وكراهة له، فهذا كافر مخلد في النار ولا يدخل الجنة؛ لقول الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، ولا يحبط العمل إلا بالكفر كما قال تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

وأما إذا كان كبرًا على الخلق وتعاظمًا على الخلق، لكنه لم يستكبر عن عبادة الله، فهذا لا يدخل الجنة دخولًا كاملًا مطلقًا لم يسبق بعذاب؛ بل لا بد من عذاب على

(1)

شرح النووي على مسلم (16/ 173).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2190) ح (2853).

(3)

شرح النووي على مسلم (17/ 188).

ص: 670

ما حصل من كبره وعلوائه على الخلق، ثم إذا طهر دخل الجنة"

(1)

.

وبهذا يتضح أن منه ما هو كفر أكبر يخلد في النار، ومنه ما هو كبيرة من الكبائر وصاحبه على خطر عظيم.

‌ثالثًا: صور من الكبر عند من ابتلي به:

1 -

رد الحق وعدم قبوله بحجج واهية ظاهرها شيء قد يقبل عند الناس، وباطنها الكبر، منها بحجة أنهم أقل علمًا، أو أصغر سنًّا، أو لا يملكون خبرة كافية ونحو ذلك من الحجج، التي يبرر بها رده للحق.

2 -

احتقار الناس وازدراؤهم، والتعالي عليهم بنسبه أو بمنصبه أو بشهادته العلمية أو بماله ونحو ذلك.

3 -

النفور من مجالسة الفقراء والمساكين وعامة الناس بحجة أن ذلك يسقط هيبته ومكانته العلمية.

‌رابعًا: خطر الكبر على الداعية:

1 -

انفضاض الناس من حوله، ونفورهم من دعوته.

2 -

الذل والهوان والخذلان وقلة التوفيق وتسلط الشياطين في الدنيا.

3 -

الذل والهوان في الآخرة ودخول أشد العذاب في النار، كما في الحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ، يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي

(1)

شرح رياض الصالحين (3/ 541 - 542).

ص: 671

جَهَنَّمَ، يُقَالُ لَهُ: بُولَسُ، فَتَعْلُوَهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ، عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ»

(1)

.

‌المطلب الرابع: كيفية التخلص من هذه الآفات:

ولتقارب هذه الآفات العجب والرياء والكبر، فإني أجمل أهم أسباب التخلص منها في النقاط الآتية:

‌أولًا: مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته،

وبالأخص أسماء الله السميع البصير العليم الخبير؛ فإن لها أثرًا عظيمًا في بعد القلب عن مزالق هذه الآفات؛ لأنه يستحي من الله أن يطلع على قلبه وفيه شيء من الآفات، فيمقته:

ودونك هذه الأدلة من كتاب الله تذكر القلوب باطلاع الله عليها وعلمه بها وسمعه وبصره المحيط بكل شيء، وإن المتدبر لهذه الآيات بقلبه، وهو يستحضر معناها وأثرها على قلبه، سيكون لذلك أعظم الأثر في محاسبة نفسه على التخلص من هذه الآفات.

قال تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77].

وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].

وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78].

(1)

أخرجه أحمد (11/ 260) ح (6677)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع، باب .. (4/ 655) ح (2492) وقال:"حديث حسن"، وقال البغوي في شرح السنة (13/ 167) ح (3590):"هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 107) ح (2911) وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (11/ 260) ح (6677).

ص: 672

وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99].

وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3].

وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5].

وقال تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23].

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: 4 - 6].

وقال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13، 14].

وقال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234].

وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16].

قال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].

وقال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13].

ص: 673

وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61].

وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].

والآيات في هذا المعنى كثيرة، والناظر في هذه الآيات بقلب حاضر يتدبر كلام الله ويؤمن بيقين أن الله مطلع عليه عالم بسره ونجواه يسمعه ويراه، فلا بد أن يحدث في قلبه خوفًا وحياء من الله، وحذرًا من الوقوع في هذه الآفات.

‌ثانيًا: من أعظم أسباب علاج هذه الآفات الاطلاع على آثارها في الدنيا والآخرة:

وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في خطر هذه الآفات

(1)

.

‌ثالثًا: من أسباب علاج هذه الآفات الدعاء بأن يذهبها الله من قلب العبد.

‌رابعًا: الاستعاذة بالله من هذه الآفات،

كما في الحديث عن معقل بن يسار قال: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟» قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ»

(2)

.

‌خامسًا: محاسبة النفس، ومجاهدتها على التخلص من هذه الآفات.

(1)

ينظر خطر العحب (660)، خطر الرياء (665)، خطر الكبر (677).

(2)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد (377) ح (716) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (265 - 266) ح (554)، وصححه أيضًا في صحيح الجامع (1/ 694) ح (3731)، وحسنه لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 121) ح (36)، وقد قال العلامة ابن باز رحمه الله في برنامج الفتاوى الشهير (نور على الدرب) عن هذا الحديث:"لا أعلم به بأسًا سنده لا أعلم به علة".

ينظر: الموقع الرسمي لسماحة الشيخ الإمام ابن باز على الرابط:

ttps:// binbaz.org.sa/ fatwas/ 11434/

وبناء على ما قاله هذان العَلمان في الحكم على الحديث فهو حديث صحيح، والله أعلم.

ص: 674

‌المبحث التاسع: الاستعجال

وهي آفة تصيب بعض الدعاة بسبب قلة صبرهم وضعف البصيرة والحكمة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الداء

(1)

، وسأضيف إلى ما سبق الآتي:

‌أولًا: معناه: لغة:

الاستعجال من العَجَلَةِ وهي: الإسراع بخلاف البطء.

يقال: أعجله وعجله تعجيلًا، أي: استحثه

(2)

.

والاستعجال في الاصطلاح: هو العجلة، وقد عرفها الراغب رحمه الله بقوله:"العَجَلَةُ: طلب الشيء وتحرّيه قبل أوانه، وهو من مقتضى الشّهوة"

(3)

.

‌ثانيًا: حكمه:

قسم العلماء الاستعجال إلى ممدوح ومذموم، ولكل منهما صور، والذي يهمني في هذا المبحث الاستعجال المذموم وهو الغالب عليه، وعده ابن حجر الهيتمي

(4)

(1)

ينظر: ص (542).

(2)

ينظر: الصحاح (5/ 1760)، مقاييس اللغة (4/ 237)، لسان العرب (11/ 425) مادة (عجل).

(3)

المفردات (548).

(4)

أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، الفقيه المحدث الصوفي، له تصانيف كثيرة منها: الزواجر عن أقتراف الكبائر، تحفة المحتاج لشرح المنهاج في فقه الشافعية وغير ذلك، له كلمات جيدة في الرد على القبورية وفضح الروافض وبيان ضلالهم، توفي رحمه الله سنة (965 هـ).

ينظر: النور السافر عن أخبار القرن العاشر (258) لمحيي الدين العيدروس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ، الأعلام (1/ 234) موسوعة مواقف السلف (8/ 536).

ص: 675

رحمه الله من كبائر الذنوب

(1)

، وجاءت النصوص بذمه، ومنها:

قول الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].

قال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن عجلة الإنسان، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله {بِالشَّرِّ} أي: بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال تعالى:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة

وفي الحديث: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ»

(2)

، وإنما يحمل ابن آدم على ذلك عجلته وقلقه؛ ولهذا قال تعالى {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} "

(3)

.

وقال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37].

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: "أي: طَبْعُ الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرًا من الأشياء وإن كانت مضرة"

(4)

.

وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ

(1)

ينظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 141) لابن حجر الهيتمي، دار الفكر، ط 1، 1407 هـ.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (4/ 2304) ح (3009).

(3)

تفسير ابن كثير (5/ 49) مع بعض التصرف اليسير.

(4)

تفسير القرطبي (11/ 288).

ص: 676

وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 53، 54]

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَان» ، وسبق الكلام على الحديث

(1)

.

وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟! أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟! قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» .

قال أبو إسحاق القيرواني

(2)

رحمه الله: "قال بعض الحكماء: إياك والعجلة؛ فإنّ العرب كانت تكنيها أمّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة"

(3)

.

‌ثالثًا: خطر الاستعجال:

إن الداعية إلى الله تعالى بحاجة ماسة إلى ضبط النفس والتأني، والبصيرة

(1)

ينظر: ص (532).

(2)

إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحُصري القيرواني الأديب، شاعر المغرب، وله من المصنفات زهر الآداب وثمر الألباب وغيره، توفي رحمه الله سنة (453 هـ).

ينظر: وفيات الأعيان (1/ 54)، سير أعلام النبلاء (18/ 139)، الأعلام (1/ 50).

(3)

زهر الآداب وثمر الألباب (4/ 942).

ص: 677

والحكمة، والبعد عن الاستعجال، وأن يسير في دعوته وفق منهج الأنبياء مع التدرج وعدم طوي المراحل بعجلة؛ لأن الدعوة توجه إلى أقوام بعضهم ألفت نفسه المنكر، بل يصل الأمر ببعضهم لجهله أن يرى أن الدعاة يقفون في طريق رزقه، ويواجهها كذلك أعداء شرسون في عدائهم، يستميتون في الدفاع عن باطلهم، متمرسون في البحث عن الثغرات، ليصدوا الناس عن الخير ببعض ما يصدر من الدعاة من خلل في فقه الموازنات، فإذا استعجل الداعية في دعوته وتحمس حماسًا غير منضبط بضوابط الفقه في الدعوة، فإنه يخسر أكثر مما يكسب، إن الناس إذا ألفوا المنكر وأراد الداعية أن يبعدهم عنه بدون مقدمات توقظ في القلب مخافة الله وخشيته، وذلك عن طريق الترغيب والترهيب أولًا قبل الكلام في إنكار المنكر الذي إلفه الناس، فإنه قد ينفر الناس من دعوته، كما تقول عائشة رضي الله عنها:"إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا .. "

(1)

.

وربما يؤدي استعجال الداعية إلى تعثر الدعوة أو إيقاف مناشطها، كما يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله لابنه عبد الملك

(2)

الذي كان يرى سرعة التغيير والعجلة فيه.

قال ابن عبد الحكم المصري

(3)

رحمه الله: "لما ولي عمر بن عبد العزيز قال له ابنه

(1)

البخاري (6/ 185).

(2)

عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز الأموي، وكان يَفْضُلُ على والده في العبادة والانقطاع عن الناس، كان رجلًا صالحًا يعين أباه على رد المظالم ويحثه على ذلك، مات في حياة أبيه عليه رحمة الله سنة (100 هـ).

ينظر: تاريخ دمشق (37/ 38)، تاريخ الإسلام (2/ 1134)، البداية والنهاية (12/ 674).

(3)

عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث، أبو محمد المصري الإمام، الفقيه، مفتي الديار المصرية، المالكي، صاحب مالك، وله كتاب مناقب عمر بن عبد العزيز وغيره، وقد سارت بتصانيفه الركبان، توفي رحمه الله سنة (214 هـ).

وفيات الأعيان (3/ 34)، سير أعلام النبلاء (10/ 220)، الأعلام (4/ 95).

ص: 678

عبد الملك: إني لأراك -يا أبتاه- قد أخرت أمورًا كثيرة، كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها، ولوددت أنك قد فعلتَ ذلك ولو فارت بي وبك القدور. قال له عمر: أي بني، إنك على حسن قسم الله لك، وفيك بعض رأي أهل الحداثة، والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئًا من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم؛ خوفًا أن ينخرق علي منهم ما لا طاقة لي به"

(1)

.

وقريبًا من هذا ذكر الشاطبي

(2)

فقال رحمه الله: "وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: ما لك لا تنفذ الأمور؟! فوالله، ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. قال له عمر: لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"

(3)

.

‌رابعًا: من صور الاستعجال ومظاهره عند من ابتلي به من الدعاة:

1 -

التصادم مع الناس، لأجل تغيير المنكرات بدون فقه الأمر والنهي.

(1)

سيرة عمر بن عبد العزيز (57) لأبي محمد عبد الله بن عبد الحكم المصري، ت: أحمد عبيد، عالم الكتب بيروت، ط 6، 1404 هـ.

(2)

أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، الشهير بالشاطبي، أصولي حافظ محدث، لغوي مفسر مع الصلاح والعفة، والورع واتباع السنة واجتناب البدع، وله من المصنفات الاعتصام والموافقات، وله القدم الراسخ والإمامة في الفنون فقهًا وأصولًا وتفسيرًا وحديثًا وعربية وغيرها، مع التحري والتحقيق. توفي رحمه الله سنة (790 هـ).

ينظر: نيل الابتهاج بتطريز الديباج (48) لأحمد بابا بن أحمد التكروري التنبكتي السوداني، عناية وتقديم: الدكتور عبد الحميد عبد الله الهرامة، دار الكاتب، طرابلس ليبيا، ط 2، 2000 م، الأعلام (1/ 75) موسوعة مواقف السلف (8/ 404).

(3)

الموافقات (2/ 148) للشاطبي، ت: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1، 1417 هـ.

ص: 679

2 -

التصادم مع الحكومات لأجل المسارعة بتطبيق شرع الله، وتغيير المنكرات الظاهرة باليد دون أن يملك سلطة، ودون مراعاة فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، وعدم مراعاة أوضاع المجتمعات وأحوال الناس، وتسلط الأعداء، وسنن الله في الكون.

3 -

إبراز قدوات للناس ليسوا بأهل لذلك؛ بسبب قلة العلم وضعف التربية، فيؤدي إلى تشويه سمعة الدعاة ونفور الناس من الدعوة.

ص: 680

‌المبحث العاشر: الضيق والتبرم

(1)

من النصيحة، وعدم حب الناصحين

(2)

الضيق من النصيحة الحقة، وعدم حب الناصحين دليل على مرض في القلب وفساد فيه، وهو من أحوال الضالين أعداء الرسل.

ذكره الله في كتابه على لسان نبيه صالح عليه السلام، وهو يخاطب قومه، فقال تعالى:{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79].

قال السعدي رحمه الله: " {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} صالح عليه السلام حين أحل الله بهم العذاب، {وَقَالَ} مخاطبًا لهم توبيخًا وعتابًا بعدما أهلكهم الله: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أي: جميع ما أرسلني الله به إليكم، قد أبلغتكم به وحرصت على هدايتكم، واجتهدت في سلوككم الصراط المستقيم والدين القويم، {وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}، بل رددتم قول النصحاء، وأطعتم كل شيطان رجيم"

(3)

.

ورد النصيحة الحقة وعدم قبولها دليل على الكبر في القلب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الكبر: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» .

(1)

أي: التضجر من النصيحة.

ينظر: تهذيب اللغة (15/ 159) مادة (برم).

(2)

ينظر في ذلك: الأحكام الفقهية المتعلقة بالنصيحة (21 - 23) بحث منشور في مجلة البحوث والدراسات الشرعية، العدد الثاني، شوال عام 1433 هـ، وهي مجلة علمية متخصصة محكمة، تصدر من مصر.

(3)

تفسير السعدي (295).

ص: 681

وبطر الحق رده، والنصيحة من الحق، خاصة إذا كانت بما أمر الله به أو نهى الله عنه، فردها والضيق منها أمر محرم، يكون من باب المكابرة والإعراض، وينطبق عليه قول الله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

ويجب قبول النصيحة ممن بذلها وعدم ردها إذا كانت حقًّا؛ لأنها داخلة في الاستجابة لله والرسول، وقد أمر الله بذلك، والأمر يقتضي الوجوب، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

والنصيحة التي يجب قبولها لا بد أن تشتمل على الدليل الشرعي، ولأن الناصح إذا أمر بحق عليه من الله برهان من كتاب أو سنة صحيحة، فما على المنصوح إلا أن يرضى ويسلم، ويقول: سمعنا وأطعنا، كما قال الله عن المؤمنين:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، ولا يرد النصيحة، فيكون من الذين قال الله فيهم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]، ورد النصيحة الحقة يدخل في كره الحق الذي كان سببًا لدخول النار والمكوث فيها، كما الله تعالى عن أهل النار:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 74 - 78].

وإذا كان الداعية مصابًا بهذا الداء، ينفر من نصيحة الناصحين الصادقين، ويضيق بها، ويظهر عليه التبرم منها، فليسارع في علاج قلبه، ويسأل الله أن يطهر قلبه

ص: 682

من الأمراض التي فيه، ويجاهد نفسه على ذلك؛ حتى يجد نفسه تقبل على قبول نصح الناصحين، والانتفاع بتذكير المذكرين؛ لأن المسلم مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيبًا نصحه وسدده، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ» الحديث

(1)

، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ موقوفًا قَالَ رضي الله عنه:"الْمُؤْمِنُ مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيبًا أصلحه"

(2)

.

بل يعتبر الداعية الموفق أن من ينصحه يسدي له خدمة عظيمة ينبغي أن يدعو له، كما دل على ذلك قول عمر رضي الله عنه:"رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي"

(3)

.

وفي المقابل على الداعية الناصح أن يلتزم بالشروط والضوابط الشرعية في نصحه، حتى لا يكون سببًا في نفور الناس من النصيحة، ودونك بعض شروط وضوابط النصيحة الحقة

(4)

:

‌1 - الإخلاص لله تعالى:

أن يكون مقصد الناصح وجه الله تعالى، لا يريد جزاء ولا شكورًا من المنصوح، وإنما يريد بنصحه دلالته على الخير، أو تحذيره من الشر.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في النصيحة والحياطة (4/ 280) ح (4918)، وحسن إسناده في الأحاديث المختارة (6/ 179) ح (2185)، وحسنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (639)، وحسن إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 596) ح (926)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 279) ح (4918).

(2)

الجامع لابن وهب (300)، ت: مصطفى أبو الخير، دار ابن الجوزي، الرياض، ط 1، 1416 هـ، والبخاري في الأدب المفرد (93) رقم (238)، وهو في صحيح الأدب المفرد (106) رقم (238).

(3)

الدارمي في سننه (1/ 509) في رسالة عباد الشامي، ت: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1412 هـ.

(4)

ينظر في ذلك: فقه النصيحة (47 - 59) للدكتوره: الجوهرة الطريفي، المعهد العالي للدعوة والاحتساب، جامعة الإمام، 1435 هـ، الأحكام الفقهية المتعلقة بالنصيحة (27 - 34).

ص: 683

‌2 - أن يكون المنصوح به صوابًا دل عليه الشرع:

كما سبق أن يدل على المنصوح به الكتاب والسنة الصحيحة.

‌3 - العلم الشرعي المؤهل للناصح:

لأن الناصح بلا علم ما يفسده أكثر مما يصلحه، فقد ينفر المنصوح بأسلوبه، وقد تكون موعظته ليست حسنة كما أمر الشرع بذلك.

‌4 - العلم بحدود ما ينصح به،

وذلك وفق الأمور الآتية:

أ - أن يكون معروفًا دل الدليل عليه، أو منكرًا دل الدليل على النهي عنه.

ب - إذا كان المنهي عنه منكرًا، فيكون ظاهرًا من غير تجسس.

ت - أن لا يكون الْمُنْكَرُ من المسائل الخلافية الاجتهادية، وذلك بأن يكون في المسائل التي فيها مجال للنظر والاختلاف لعدم وجود الدليل، قال ابن القيم رحمه الله:"وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهِدًا أو مقلِّدًا"

(1)

.

أما إذا كانت المسألة خلافية، لكن ثبت فيها نص أو نصوص صريحة تدل على صحة أحد الأقوال فيها، فهذه تكون فيها النصيحة؛ لأن المخالف خالف نصًّا أو نصوصًا صريحة تدل على صحة أحد الأقوال في المسألة المختلف فيها.

‌5 - أن تكون النصيحة سرًّا:

وذلك أدعى لقبولها، ويتأكد ذلك إذا كان المنصوح له سلطة على الناصح؛ كالوالدين، وولاة الأمر، وأهل العلم.

‌6 - أن تكون النصيحة بشفقة ورحمة ورفق لا ازدراء فيها ولا تعيير:

قال ابن رجب رحمه الله في كتابه المهم في هذا الشأن (الفرق بين النصيحة

(1)

إعلام الموقعين (3/ 224).

ص: 684

والتعيير): "فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة"

(1)

.

‌7 - أن يسلك طريق الحكمة في النصيحة.

‌8 - اختيار الوقت المناسب للنصيحة:

وقد مر الكلام على هذه الأمور في مسألة الحكمة

(2)

.

‌9 - الصبر على الأذى:

صبر الناصح على الأذى من المنصوح أدب مهم لنجاح الداعية في نصحه، قال لقمان لابنه كما ذكر الله تعالى في وصيته الثمينة:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

‌10 - أن يكون الناصح قدوة حسنة:

وهذا أدعى لقبول النصح، وبما أن النصح داخل في الأمر والنهي، فإنه يقتضي التنبيه على مسألة مهمة، وهي عدم الاحتجاج بحديث:«يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟! أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟! قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ»

(3)

أي: لا يحتج به على ترك الأمر والنهي والنصح، خوفًا من الوقوع في هذه العقوبة، ولا شك

(1)

الفرق بين النصيحة والتعيير (19) علق عليه وخرج أحاديثه: علي حسن علي عبد الحميد، الناشر: دار عمار، عمان، ط 2، 1409 هـ.

(2)

ص (532، 536).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة (4/ 121) ح (3267)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله (4/ 2290) ح (2989).

ص: 685

أنه ينبغي على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون قدوة حسنة ليكون لأمره ونهيه أثر، لكن لا يسقط الأمر والنهي لأجل قصور الآمر والناهي وتفريطه، بل يجب الأمر والنهي بحسب وسعه، ولا يسقط عنه حتى لو كان يقع فيما ينهى عنه أو يترك ما يأمر به، وقال القرطبي رحمه الله:"وليس من شرط الناهي أن يكون عدلًا عند أهل السنة، خلافًا للمبتدعة حيث تقول: لا يغيره إلا عدل، وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس"

(1)

.

وقال ابن عطية رحمه الله

(2)

عند تفسير قوله تعالى: {(78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ} [المائدة: 79]: "والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليمًا من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضًا، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضًا، واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية؛ لأن قوله: {لَا} و {مُنْكَرٍ} يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي"

(3)

.

(1)

تفسير القرطبي (4/ 47).

(2)

الإمام، العلامة، شيخ المفسرين، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي الغرناطي، وكان رحمه الله إمامًا في الفقه، وفي التفسير، وفي العربية، قوي المشاركة، ذكيًّا فطنًا مدركًا، من أوعية العلم، يقول الذهبي عنه في تاريخ الإسلام:"ولو لم يكن له إلّا تفسيره الكبير لكَفَاه"، وتوفي رحمه الله سنة (541 هـ)، وقيل:(542 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 587)، تاريخ الإسلام (11/ 787)، الأعلام (3/ 282).

(3)

تفسير ابن عطية (2/ 224) واسم تفسيره: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ت: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1422 هـ.

ص: 686

وقال النووي رحمه الله: "قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلًا ما يأمر به مجتنبًا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلًّا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخلَّ بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟! "

(1)

.

وفي تفسير القرطبي رحمه الله: "قال الحسن لمطرف بن عبد الله

(2)

: عظ أصحابك، فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله، وأيُّنا يفعل ما يقول؟! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.

وقال مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن

(3)

: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق؛ من ذا الذي ليس فيه شيء؟! "

(4)

.

‌11 - أن يكون المنصوح به مقدورًا على فعله:

ألا يشتط الناصح فيقع في إيقاع الناس في العنت والمشقة ونصحهم بما لا يقدرون على فعله، فيكون سببًا لنفورهم من الحق، والدين مبني على اليسر ودفع المشقة والعنت عن الناس، وهذا يستدعي من الناصح أن يكون على علم بحال المدعوين وقدراتهم الجسمية والعقلية، وأن يلم بفقه الموازنات وفقه التيسير.

(1)

شرح النووي على مسلم (2/ 23).

(2)

مطرف بن عبد الله بن الشِّخِّيْرِ الحَرَشِيُّ العامري الإمام، القدوة، الحجة، أبو عبد الله من كبار التابعين، كان رأسًا في العلم والعمل، توفي رحمه الله سنة (86 هـ)، وقيل غير ذلك.

ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 187)، الأعلام (7/ 250)، موسوعة مواقف السلف (1/ 486).

(3)

ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ الإمام مفتي المدينة، وعالم الوقت أبو عثمان، ويقال: أبو عبد الرحمن القرشي التيمي مولاهم المشهور بربيعة الرأي، قال الذهبي: وكان من أوعية العلم. وقال النووي: اتفق العلماء من المحدثين، وغيرهم على توثيقه وجلالته وعظم مرتبته في العلم والفهم. توفي سنة (136 هـ) عليه رحمة الله تعالى.

ينظر: تاريخ بغداد (8/ 420)، تهذيب الأسماء (1/ 188)، وفيات الأعيان (2/ 288)، سير أعلام النبلاء (6/ 89).

(4)

تفسير القرطبي (1/ 367 - 368).

ص: 687

‌المبحث الحادي عشر: تتبع العثرات، وتصيد الهفوات، والفرح بزلات الآخرين

(1)

إن من علامات مرض القلب: تتبع الداعية لعورات إخوانه من الدعاة، والبحث عن عيوبهم، والفرح بزلاتهم، ونسيانه لعيوب نفسه؛ ولذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظيم العقوبة لمن كان هذا حاله، فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ»

(2)

.

وتتبع العورات والكلام في ظهور إخوانه من الدعاة، وتلبيس ذلك بلبوس النصح، وهي إلى التعيير والفضيحة أقرب، هي في الحقيقة من الغيبة التي قال الله عنها في صورة تَنْفُرُ منها النفوس وتكرهها؛ لعظيم قبحها، فقال تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].

(1)

ينظر في هذا: الجامع في أسباب وعلاج الانحراف (644 - 648) لعبد الوهاب الحدائي، الناشر المتميز، الرياض، ط 1، 1439 هـ.

(2)

أخرجه أحمد (33/ 20) ح (19776)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الغيبة (4/ 270) ح (4880)، ومسند أبي يعلى (13/ 419) ح (7423)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب الأدب، باب ما جاء في الغيبة والنميمة (8/ 93) ح (13141):"رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات"، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 589) ح (2340):"حسن صحيح"، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (33/ 20) ح (19776):"صحيح لغيره"، وحسن إسناده محقق مسند أبي يعلى (13/ 420) ح (7423).

ص: 688

وعرفها النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يلتبس أمرها على أحد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»

(1)

.

وإذا كان الداعية يذكر إخوانه في مجالسه بما هو فيهم من العيب والخلل، ولم يقم بدوره في نصحهم نصيحة المشفق عليهم المحب لهم الخير، فهو في الحقيقة ممن يأكلون لحوم الموتى، وهو يشعر أو لا يشعر، ومهما زين له الشيطان عمله ذلك فأخرجه في قالب التحذير من المنكرات، والحرص على سلامة الأمة منها، والتحذير من دعاة السوء، ونحو ذلك من لبس الحق بالباطل ليروج على الأتباع، وهو في الحقيقة ممن وقع في الغيبة وأكل لحوم إخوانه، وجر على نفسه وأتباعه شرًّا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} الآية [فاطر: 8].

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، -قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ: تَعْنِي قَصِيرَةً-، فَقَالَ:«لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» الحديث

(2)

.

قال النووي رحمه الله: "أي: خالطته مخالطة يتغيرُ بها طعمُه أو ريحُه لشدّة نتنها وقبحها. وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث يبلغُ في الذمّ لها هذا المبلغ"

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة (4/ 2001) ح (2589).

(2)

أخرجه أبو داود واللفظ له في كتاب الأدب، باب في الغيبة (4/ 269) ح (4875)، والترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب .. (4/ 660) ح (2502) ح (2503) وقال:"حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 77) ح (2834)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 237) ح (4875).

(3)

الأذكار (338).

ص: 689

وفي عون المعبود: "أي: لو خلط (بها) أي: على فرض تجسيدها وتقدير كونها مائعًا (البحر) أي: ماؤه (لمزجته) أي: غلبته وغيرته وأفسدته"

(1)

.

وهذا يدل على عظم خطر الغيبة، وإذا كان مجرد الإشارة عن صفية بقصرها عدّها النبي صلى الله عليه وسلم كلمة عظيمة، لو قدر مزج ماء البحر بها لغيرته على عظم البحر واتساعه، وصعوبة تغيره لشدة ملوحته، فكيف بما هو أشد من الإشارة؟!

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ»

(2)

.

وكفى بهذه العقوبة رادعًا وزاجرًا عن هذا الذنب العظيم، لو تخيل المغتاب هذه العقوبة لفر هاربًا هائمًا على وجهه من هذه الخطيئة، أي ألم حسي ونفسي يشعر به هؤلاء المغتابون وهم يجرحون بأظفار من نحاس قوية شديدة الأثر تنغرس في أشرف ما فيهم وجوههم، وإذا الدماء والصراخ والعويل، ثم ينزلون بأظفارهم إلى صدورهم، فيخمشونها ويجرحونها، ثم تستمر العقوبة لا تتوقف عنهم، ومعها الآلام والحسرات، في مشهد تنخلع منه القلوب؟!

أقوال السلف في التحذير من تتبع العثرات، وتصيد الهفوات، والفرح بزلات الآخرين:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء"

(3)

.

(1)

عون المعبود وحاشية ابن القيم (13/ 151).

(2)

أخرجه أحمد (21/ 53) ح (13340)، أبو داود في كتاب الأدب، باب في الغيبة (4/ 269) ح (4878)، ومعجم الطبراني الأوسط (1/ 7) ح (8)، وصحح إسناده الضياء في المختارة (6/ 265) ح (2286)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 79) ح (2839)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (21/ 53) ح (13340).

(3)

الصمت لابن أبي الدنيا (133) ت: أبي أسحاق الحويني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1410 هـ.

ص: 690

وقال ابن حبان

(1)

رحمه الله: "الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه"

(2)

.

وقال عون بن عبد الله

(3)

رحمه الله: "ما أحسب أحدًا تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه"

(4)

.

ويقول الحسن البصري رحمه الله: "ابن آدم، إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا"

(5)

.

مما أثر عن السلف قولهم: "أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم، ولا في

(1)

الإمام، العلامة، الحافظ الكبير، المجود، شيخ خراسان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي، من أوعية العلم في الفقه، واللغة، والحديث، والوعظ، ومن عقلاء الرجال، صنف المسند الصحيح، يعني به: كتاب (الأنواع والتقاسيم)، وكتاب الثقات، وكتاب الضعفاء، وفقه الناس بسمرقند. توفي رحمه الله سنة (354 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 92)، البداية والنهاية (15/ 281)، الأعلام (6/ 78).

(2)

روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (125) لابن حبان، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت.

(3)

الإمام، القدوة، العابد، أبو عبد الله الهذلي، عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي، أخو فقيه المدينة عبيد الله، وكان من أفقه أهل المدينة، توفي رحمه الله سنة (116 هـ).

ينظر: سير أعلام النبلاء (5/ 103)، الأعلام (5/ 98)، موسوعة مواقف السلف (2/ 145).

(4)

الصمت (132).

(5)

الصمت (131).

ص: 691

الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس"

(1)

.

ويقول الفضيل رحمه الله: "يكون شغلك في نفسك، ولا يكون شغلك في غيرك، فمن كان شغله في غيره فقد مُكِرَ بهِ"

(2)

.

وقال السري السقطي

(3)

رحمه الله: "ومن علامة الاستدراج العمى عن عيوب النفس"

(4)

.

وقال بكر بن عبد الله المزني

(5)

: "إذا رأيتم الرجل موكلًا بعيوب الناس ناسيًا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكِرَ به"

(6)

.

وعن محمد بن سيرين رحمه الله قال: "التقي عن الخطائين مشغول، وإن أكثر الناس خطايا أكثرهم ذكرًا لخطايا الناس"

(7)

.

ويقول الحسن رحمه الله: "والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة

(8)

في

(1)

ذكره ابن أبي الدنيا في الصمت (130) عن: خصاف، وخصيف، وعبد الكريم بن مالك رحمهم الله.

(2)

حلية الأولياء (8/ 102).

(3)

الإمام، القدوة، السَّرِيُّ بن المغَلِّسِ السَّقَطِيُّ أبو الحسن البغدادي، كان من المشايخ المذكورين، وأحد العباد المجتهدين، من كبار أئمة التصوف، توفي رحمه الله سنة (253 هـ)، وقيل غير ذلك.

ينظر: تاريخ بغداد (10/ 260)، سير أعلام النبلاء (12/ 185)، الأعلام (3/ 82).

(4)

حلية الأولياء (10/ 124).

(5)

الإمام، القدوة، الواعظ، الحجة، بكر بن عبد الله بن عمرو أبو عبد الله المزني، البصري، أحد الأعلام، يذكر مع الحسن، وابن سيرين، وكان ثقة ثبتًا مأمونًا، كثير الحديث، حجة، وكان فقيهًا، توفي رحمه الله سنة (106 هـ)، وقيل غير ذلك.

ينظر: الطبقات الكبرى (7/ 209)، سير أعلام النبلاء (4/ 532)، تهذيب التهذيب (1/ 484).

(6)

صفة الصفوة (2/ 147).

(7)

المجالسة وجواهر العلم (5/ 166) لأبي بكر الدينوري، ت: أبو عبيدة آل سلمان، دار ابن حزم، بيروت، 1419 هـ.

(8)

داء يصيب أعضاء الإنسان فيأكلها حتى يتساقط لحمها ويقال له: الجذام.

ينظر: المطلع على ألفاظ المقنع (394)، المعجم الوسيط (1/ 113) معجم لغة الفقهاء (161).

ص: 692

جسده"

(1)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله: "فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس، هذا من علامة الشقاوة"

(2)

.

(1)

الصمت (129).

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 298).

ص: 693

‌المبحث الثاني عشر: البخل والشح والعجز والكسل والجبن والهم والحزن

هذه عقوبات يسلطها الله على من يشاء، ممن أعرضوا عن ذكره، قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله كثيرًا من هذه الآفات، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ: «التَمِسْ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ» ، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي وَأَنَا غُلَامٌ رَاهَقْتُ الحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»

(1)

.

ولخص ابن حجر رحمه الله معنى الأربع الآفات الأولى فقال: "إن الهم لما يتصوره العقل من المكروه في الحال، والحزن لما وقع في الماضي، والعجز ضد الاقتدار، والكسل ضد النشاط، والبخل ضد الكرم، والجبن ضد الشجاعة"

(2)

. ثم ذكر رحمه الله معنى بقية الآفات، فقال: "قوله: «وَضَلَعِ الدَّيْنِ» أصل الضَّلَع وهو بفتح المعجمة واللام الاعوجاج يقال: ضلع بفتح اللام يضلع أي: مال، والمراد به هنا: ثقل الدَّين وشدته، وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاء، ولا سيما مع المطالبة، وقال بعض السلف: ما دخل هم الدين قلبًا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من غزا بصبي للخدمة (4/ 36) ح (2893).

(2)

فتح الباري (11/ 178).

(3)

وهذه المقولة عن السلف نقلها أيضاً شيخ ابن حجر ابن الملقن في كتابه التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 298)، ت: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، وقام على تحقيقه مجموعة من محققي الدار، الناشر: دار النوادر، دمشق، سوريا، ط 1، 1429 هـ.

ص: 694

قوله: «وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» أي: شدة تسلطهم كاستيلاء الرِّعَاعِ

(1)

هَرْجًا وَمَرْجًا

(2)

، قال الكرماني: هذا الدعاء من جوامع الكلم"

(3)

.

وعلى الداعية أن يكثر من هذا الدعاء كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الآفات إذا أصيب بها الداعية أو ببعضها أقعدته عن دعوته، وفتن بها.

ومن الأمراض التي تصيب الدعاة بسبب هذه الآفات:

1 -

الفتور.

2 -

ضعف الإرادة ونزول الهمة.

3 -

التسويف وضعف القدرة على التغيير.

4 -

الشح وعدم البذل في مجالات الخير.

5 -

كثرة الأوهام والوساوس المقعدة عن الانطلاق في مجالات الدعوة.

6 -

هم الدَّيْنِ والتفكير فيه، يشغل الداعية ويعوقه عن دعوته.

(1)

الرعاع: سفلة الناس الهمج.

ينظر: مقاييس اللغة (2/ 375) مادة (رعع)، لسان العرب (2/ 392) مادة (همج).

(2)

الهرج والمرج: الاختلاط والاضطراب، وشدة القتل.

ينظر: الصحاح (1/ 341)، لسان العرب (2/ 365)، المعجم الوسيط (2/ 980) مادة (مرج).

(3)

فتح الباري (11/ 174).

ص: 695

‌المبحث الثالث عشر: الخذلان وقلة التوفيق

ومن آثار تعلق القلب بغير الله تعالى، وضعف تحقيق عمله في توكله على الله والاستعانة به، والخلل في المقاصد والنيات، فإنه بقدر ذلك يحصل الخذلان من الله وقلة التوفيق.

ومعنى الخذلان في اللغة: يطلق على ترك نصرة المسلم، وعدم عونه، وخذلان الله للعبد أن لا يعصمه من السيئات والشبه، فيقع فيها

(1)

.

والمقصود بالخذلان هنا ضد التوفيق، وهو أن لا يعينه الله، ولا ينصره، ولا يعصمه، بل يكله إلى نفسه، كما قال تعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].

يقول ابن القيم رحمه الله: "فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك"

(2)

، وقال رحمه الله في موضع آخر:"وإذا قام العبد في الحق لله؛ ولكن قام بنفسه وقوته، ولم يقم بالله مستعينًا به متوكلًا عليه مفوضًا إليه بريًّا من الحول والقوة إلا به، فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك"

(3)

. وعلى هذا فلا بد للداعية من الاستعانة بالله تعالى، والتضرع بقلب مقبل على الله مع التوكل عليه، والبراءة من الحول والقوة، ليسلم من الخذلان، ويجد توفيق الله تعالى يحف به.

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (7/ 140)، الصحاح (4/ 1683)، لسان العرب (11/ 202) مادة (خذل).

(2)

الوابل الصيب (7).

(3)

إعلام الموقعين (2/ 122).

ص: 696

ومن أعظم علامة الخذلان أن لا يثبته الله عند الموت، بسبب ذنوب خفية في القلب وسريرة أسرها بينه وبين الله من خطايا القلوب التي لا يعلمها إلا الله، فيختم له بسوء الخاتمة، ويكله الله في هذه اللحظات العظيمة إلى نفسه وشيطانه، فلا يوفق لقول: لا إله إلا الله؛ ولذا ينبغي على الداعية أن يتفقد قلبه ويتوب إلى الله من ذنوب السرائر التي متى ما أصر عليها العبد ولم يتب منها، فإنها تكون سببًا لهلاكه وسوء خاتمته عند الموت، وسيأتي في نهاية هذا المبحث عند ذكر أسباب الخذلان ذكر الأحاديث في خطر الذنوب، يقول الربيع بن خثيم رحمه الله في التحذير من ذنوب السرائر:"السرائرَ السرائرَ اللاتي يخفين من الناس وهن لله بوادٍ، التمسوا دواءهن، وما دواؤهن إلا أن يتوب، ثم لا يعود"

(1)

.

وللخذلان وقلة التوفيق أسباب، منها:

1 -

تعلق القلب بغير الله، فإن القلب إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى نفسه، وخذل أعظم الخذلان، يقول ابن القيم رحمه الله:"فأعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت"

(2)

.

2 -

الخلل في النية، يقول ابن القيم رحمه الله:"فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى؛ فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان"

(3)

.

(1)

الطبقات الكبرى (6/ 185) لابن سعد، ت: إحسان عباس، دار صادر، بيروت ط 1، 1968 م، حلية الأولياء (2/ 108)، سير أعلام النبلاء (4/ 259).

(2)

مدارج السالكين (1/ 455).

(3)

إعلام الموقعين (4/ 152).

ص: 697

3 -

الضعف في التوكل على الله والاستعانة به؛ لأن التوكل على الله والاستعانة به ودعاءَه مما يقوي الداعية وييسر له الأمور.

ومما أثر عن بعض السلف قوله: "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله"

(1)

.

قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

وللداعية نصيب من التوفيق والتأثير بحسب استعانته بالله وتوكله عليه، وكذلك له نصيب من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة توكله واستعانته بربه

(2)

.

4 -

اتباع الهوى، قال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

يقول ابن القيم رحمه الله: "إن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفق لكان كذا وكذا، وقد سد على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق"

(3)

.

5 -

العجب بالنفس أو بالعمل أو بكثرة الأتباع سبب لخذلان الله للعبد، وأن يكله إلى نفسه فلا ينصره، قال تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

6 -

التساهل في الذنوب وبالأخص صغائر الذنوب، وعدم التوبة، عن سهل بن سعد رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 32 - 33).

(2)

ينظر: مدارج السالكين (1/ 103).

(3)

روضة المحبين (479) لابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1403 هـ.

ص: 698

الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»

(1)

.

وفي الرواية الأخرى: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا

(2)

.

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]» .

وذكر ابن جرير رحمه الله في تفسيره عن الحسن البصري رحمه الله قوله في بيان خطر تتابع الذنب على القلب مع عدم التوبة عند قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قال: "الذنب على الذنب حتى يعمى القلب،

(1)

أخرجه أحمد في المسند (37/ 467) ح (22808)، وقال في مجمع الزوائد في كتاب التوبة، باب فيما يحتقر من الذنوب (10/ 190) ح (17462):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 744) ح (389)، وقال محقق المسند:(37/ 466) ح (22808): "إسناده صحيح".

(2)

عند أحمد في مسنده (6/ 367) ح (3818)، وجوَّد إسنادها العراقي في تخريج كتاب الإحياء (1909) وقال في مجمع الزوائد في كتاب التوبة، باب فيما يحتقر من الذنوب (10/ 189):"رواه أحمد، والطبراني في الأوسط، ورجالهما رجال الصحيح غير عمران بن داود القطان، وقد وثق"، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 643) ح (2470):"صحيح لغيره"، وقال محقق المسند (6/ 368) ح (3818):"حديث حسن لغيره".

ص: 699

فيموت"

(1)

.

وتأمل معي هذا الحديث الذي يظهر خطر ذنوب السرائر حين يخلو الإنسان بربه، ولا يراه أحد من البشر ممن كان لا يفعل تلك الأمور أمامهم حياء منهم أو خوفًا من عقوبتهم، أو رغبة في البقاء معهم من أجل الاستفادة من الميزات التي يحصل عليها ببقائه معهم، فعن ثوبان رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» .

وفي هذا الحديث بيان أن من أعظم أسباب سوء الخاتمة والخذلان وخسارة الحسنات في الآخرة الاعتداء على محارم الله في حال خلوة الإنسان عن الناس، وبعده عن نظرهم، وربما كان يظهر أعمالًا صالحة من قيام ليل ونحوه، ويجلس مع الصالحين، لكنها لا تنفعه، لتجرئه على محارم في حال خلوته.

7 -

الافتراق والتنازع في الدين، وهو من الأسباب العظيمة للخذلان، قال تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

(1)

تفسير الطبري (24/ 201).

ص: 700

‌المبحث الرابع عشر: الغفلة عن الآخرة

والغفلة: تطلق على معان منها: ترك الشيء إما تعمدًا أو سهوًا

(1)

.

والغفلة: غيبة الشيء عن بال الإنسان، وعدم تذكُّره له

(2)

.

وعلى هذا فيكون معنى الغفلة عن الآخرة: غيبة الآخرة عن القلب، وعدم تذكره لها؛ لأن القلب عمي عنها، وتعلق بالدنيا، كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. والقلوب تعمى عن الآخرة، وهذا هو العمى المهلك؛ لأن عمى القلب يضر في الدين، فيعمى القلب عن الآخرة ويغفل عنها، قال البغوي رحمه الله في معنى الآية:"معناه أن العمى الضار هو عمى القلب، فأما عمى البصر فليس بضار في أمر الدين، قال قتادة: البصر الظاهر: بلغة ومتعة، وبصر القلب: هو البصر النافع"

(3)

.

وبقدر تعلق القلب بالدنيا وافتتانه بها وبتقصيره في تطهير قلبه من دواخل السوء، تحصل له الغفلة عن الآخرة، حيث يقول الله تعالى عن حال الغافلين عن الآخرة:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

قال البغوي رحمه الله في معنى قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : "يعني: أمر معاشهم، كيف يكتسبون ويتجرون، ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون، وكيف يبنون ويعيشون، قال الحسن: إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه

(1)

ينظر: تهذيب اللغة (8/ 133)، مقاييس اللغة (4/ 386)، لسان العرب (11/ 497) مادة (غفل).

(2)

معجم اللغة العربية المعاصرة (2/ 1630) مادة (غفل).

(3)

تفسير البغوي (5/ 391).

ص: 701

ولا يخطئ، وهو لا يحسن يصلي، {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ساهون عنها جاهلون بها، لا يتفكرون فيها ولا يعملون لها"

(1)

.

وذكر السعدي في معنى هذه الآية كلامًا نفيسًا، فقال رحمه الله: "وهؤلاء الذين لا يعلمون أي: لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها، وإنما {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فينظرون إلى الأسباب، ويجزمون بوقوع الأمر الذي في رأيهم انعقدت أسباب وجوده، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئًا، فهم واقفون مع الأسباب غير ناظرين إلى مسببها المتصرف فيها.

{وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها، فعملت لها وسعت، وأقبلت بها وأدبرت، وغفلت عن الآخرة، فلا الجنة تشتاق إليها، ولا النار تخافها وتخشاها، ولا المقام بين يدي الله ولقائه يروعها ويزعجها، وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة عن الآخرة.

ومن العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب.

وأظهروا من العجائب الذرية والكهربائية والمراكب البرية والبحرية والهوائية ما فاقوا به وبرزوا، وأعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزًا عما أقدرهم الله عليه، فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء، وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم، وأشدهم غفلة عن آخرتهم، وأقلهم معرفة بالعواقب، قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون، وفي ضلالهم يعمهون، وفي باطلهم يتردَّدون، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون.

ثم نظروا إلى ما أعطاهم الله وأقدرهم عليه من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها

(1)

تفسير البغوي (6/ 262).

ص: 702

وما حرموا من العقل العالي، فعرفوا أن الأمر لله، والحكم له في عباده، وإن هو إلا توفيقه وخذلانه، فخافوا ربهم، وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم من نور العقول والإيمان حتى يصلوا إليه، ويحلوا بساحته، وهذه الأمور لو قارنها الإيمان وبنيت عليه؛ لأثمرت الرقي العالي والحياة الطيبة، ولكنها لما بني كثير منها على الإلحاد لم تثمر إلا هبوط الأخلاق وأسباب الفناء والتدمير"

(1)

.

‌أسباب الغفلة عن الآخرة:

وأسباب الغفلة عن الآخرة لا تخرج عن سببين عظمين، ذكرهما الله في كتابه، فقال تعالى:{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6].

وبيّن الله في هذه الآيات أن ما يغر الناس ويخدعهم ويجعلهم في غفلة عن الآخرة لا يخرج عن سببين عظمين، وبقية الأسباب تندرج تحتهما، وهما:

السبب الأول: الاغترار بزينة الحياة الدنيا ولذاتها وشهواتها المزينة، ومتعها التي تغر النفوس التي ضعف إيمانها بالغيب، وتعلقت بالمتاع المادي المحسوس، قال تعالى في التحذير من ذلك:{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر: 5]، وقال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].

(1)

تفسير السعدي (637).

ص: 703

وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

يقول الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} التي يتمتع منها هؤلاء المشركون {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} يقول: إلا تعليل النفوس بما تلتذ به، ثم هو منقض عن قريب، لا بقاء له ولا دوام، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} يقول: وإن الدار الآخرة لفيها الحياة الدائمة التي لا زوال لها، ولا انقطاع، ولا موت معها"

(1)

.

والآيات في هذا المعنى كثيرة في كتاب الله تعالى، وقد سبق الكلام في ذلك

(2)

.

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»

(3)

.

قال النووي رحمه الله: "ومعنى «الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ» يحتمل أن المراد به شيئان:

أحدهما: حسنها للنفوس ونضارتها ولذتها، كالفاكهة الخضراء الحلوة، فإن النفوس تطلبها طلبًا حثيثًا، فكذا الدنيا.

والثاني: سرعة فنائها كالشيء الأخضر في هذين الوصفين.

ومعنى «مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا» : جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته، أم بمعصيته وشهواتكم"

(4)

.

(1)

تفسير الطبري (18/ 440).

(2)

ينظر: ص (394).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء (4/ 2098) ح (2742).

(4)

شرح النووي على مسلم (17/ 55).

ص: 704

والسبب الثاني: أن يغره الشيطان ويخدعه بالأماني الكاذبة، قال تعالى:{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6].

وقال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]، يعدهم ويمنيهم ويخدعهم بالوساوس بأنهم أهل الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة، وقد كذب عليهم وغرهم، كما قال تعالى عنه في يوم القيامة:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]

(1)

، وقد سبق الكلام عن الشيطان وعداوته لبني الإنسان

(2)

.

ولا شك أن للغفلة عن الآخرة أسبابًا أخرى، لكنها -في نظري- لا تخرج في مجملها عن هذين السببين، والله أعلم.

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 416).

(2)

ينظر: ص (616).

ص: 705

‌المبحث الخامس عشر: الخسارة في الآخرة

إن إهمال تحقيق أعمال القلوب، والتقصير في محاسبة النفس، ومجاهدتها في ذلك، والوقوع في داء الغفلة عن الآخرة، وتعلق القلب بالدنيا والافتتان بها، يعود بالخسارة العظيمة في الآخرة، وتكون الخسارة أعظم من شخص يدل الناس على الآخرة بقوله، ويفتنهم بفعله، بتشبثه بالدنيا ونسيان الآخرة، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 41، 42]. وسياق الآيات وإن كان في اليهود الذين كتموا حكم الله في رجم الزاني، فكل من شابههم في صفتهم التي منها كتم الحق وأكل السحت يصيبه ما أصابهم في الدنيا والآخرة، ولهذا قال بعض السلف:"من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود"

(1)

.

وفي تفسير المنار: "ولذلك قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي: أولئك الذين بلغت منهم الفتنة هذا الحد هم الذين لم تتعلق إرادة الله تعالى بتطهير قلوبهم من الكفر والنفاق؛ لأن إرادته تعالى إنما تتعلق بما اقتضته حكمته البالغة وسننه العادلة، ومن سننه في قلوب البشر وأنفسهم أنها إذا جرت على الباطل والشر، ونشأت على الكيد والمكر، واعتادت اتخاذ دينها شبكة لشهواتها وأهوائها، ومردت على الكذب والنفاق، وألفت عصبية الخلاف والشقاق، وصار ذلك من ملكاتها الثابتة وأخلاقها الموروثة الثابتة، تحيط بها خطيئتها، وتطبق عليها ظلمتها، حتى لا يبقى لنور الحق منفذ ينفذ منه إليها"

(2)

.

(1)

ينظر: البداية والنهاية (19/ 42) فقد نقله عن سفيان بن عيينة رحمه الله.

(2)

تفسير المنار (6/ 323) لمحمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة النشر: 1990 م.

ص: 706

فكل من شابههم من أصحاب القلوب المريضة في استغلال الدين لشهواته، ولي أعناق النصوص لأجل أن توافق أهواءه، أصابه الخزي في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.

وهذه‌

‌ أهم مراحل خسارة أصحاب القلوب المريضة في الآخرة:

عند الموت يخذلون فلا يثبتهم الله لقول: لا إله إلا الله، ولا يوفقهم لحسن الخاتمة، قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

وفي الاعتصام: "إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا قط، ولا علم به والحمد لله، وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، أو لمن كان مستقيمًا ثم تغيرت حاله، وخرج عن سننه، وأخذ في غير طريقه، فيكون عمله ذلك سببًا لسوء خاتمته، وسوء عاقبته والعياذ بالله، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] "

(1)

.

وأخبر سبحانه وتعالى عن حالهم بأن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم عند الموت بسبب فساد قلوبهم وأمراضها، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ

(1)

نقله الشاطبي عن عبد الحق الأشبيلي في الاعتصام (1/ 224 - 225)، ت: الجزء الأول: د. محمد بن عبد الرحمن الشقير، الجزء الثاني: د سعد بن عبد الله آل حميد، الجزء الثالث: د. هشام بن إسماعيل الصيني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1429 هـ.

ص: 707

بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 25 - 29].

وفي يوم القيامة يذهب الله أعمالهم من بين أيديهم ويجعلها هباءً منثورًا، فعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» .

فغفلتهم عن علم الله واطلاعه عليهم في الدنيا جعلهم ينتهكون محارم الله إذا خلوا وأبعدوا عن أعين الناس، يقول تعالى:{كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت: 22، 23].

قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ} "أي: وما كنتم تختفون عن شهادة أعضائكم عليكم، ولا تحاذرون من ذلك، {ظَنَنْتُمْ أَنَّ} بإقدامكم على المعاصي {اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)} فلذلك صدر منكم ما صدر، وهذا الظن، صار سبب هلاكهم وشقائهم؛ ولهذا قال:{ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} الظن السيئ، حيث ظننتم به ما لا يليق بجلاله، {فَأَصْبَحْتُمْ} أي: أهلككم {مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} لأنفسهم وأهليهم وأديانهم؛ بسبب الأعمال التي أوجبها

ص: 708

لكم ظنكم القبيح بربكم، فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء، ووجب عليكم الخلود الدائم في العذاب الذي لا يفتر عنهم ساعة"

(1)

.

وأما في النار فعقوبته كما في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟! قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ» .

قال ابن حجر رحمه الله: "والْأَقْتَابُ جَمْعُ قِتْبٍ .. هي الأمعاء واندلاقها خروجها بسرعة"

(2)

.

وفي رواية يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يُطَاعُ فِي مَعَاصِي اللهِ تَعَالَى، فَيُقْذَفُ فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ، فَيَسْتَدِيرُ فِيهَا كَمَا يَسْتَدِيرُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَا، فَيَأْتِي عَلَيْهِ أَهْلُ طَاعَتِهِ مِنَ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُل، أَيْنَ مَا كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِهِ؟! فَيَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ آمُرُكُمْ بِأَمْرٍ، وَأُخَالِفُكُمْ إِلَى غَيْرِهِ»

(3)

.

(1)

تفسير السعدي (747).

(2)

فتح الباري (13/ 52).

(3)

وهي عند الإمام أحمد (36/ 128) ح (21794)، وقال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (36/ 128) ح (21794):"حديث صحيح".

ص: 709

الفصل الثاني:

من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على دعوته

المبحث الأول: التفرق والاختلاف والتنازع وذهاب الريح.

المبحث الثاني: تسلط الأعداء على الأمة.

المبحث الثالث: تسلط أعداء الأمة على الدعاة، وتنفير الناس من دعوتهم.

المبحث الرابع: نفور الناس من الدعاة، وتفرقهم عنهم.

المبحث الخامس: تأخر النصر.

ص: 710

‌الفصل الثاني: من آثار إهمال الداعية لأعمال القلوب على دعوته

إن الداعية إذا أهمل تحقيق أعمال القلب في نفسه، وفرط في محاسبتها على ذلك، فتمكنت أمراض القلوب منه، انعكس أثر ذلك على دعوته، فحدث التفرق والاختلاف، وهبت ريح التنازع، ودب داء الفرقة بين الأمة ودعاتها، وذهبت هيبتها من قلوب أعدائها، فتسلط الأعداء عليها، ومن ثَمّ تسلطوا على دعاتها، وتمكنوا من إحداث شرخ بين الأمة ودعاتها، وشوهوا سمعة الدين وأهله، وصدوا الناس عن الصراط المستقيم، وزينوا لهم سبل الجحيم، ونفر الناس من الدعاة، وتفرقوا عنهم، وذلك لأن هؤلاء الدعاة أسهموا في تمكين العدو من ذلك، بسبب بتفرطيهم وأهمالهم في تحقيق أعمال القلوب ومحاسبة النفس عليها، فحين تعلقت قلوبهم بالدنيا وغفلوا عن الآخرة، فصاروا قدوة سيئة لاتباعهم في تكالبهم على الدنيا، وغفلتهم عن الآخرة، إن هؤلاء بفعلهم هذا أسهموا في تأخر النصر عن الأمة، وأطالت أمد المعركة مع أعداء الدين، فانتشر الفساد في الأرض، وفتن الناس في دينهم، وضعف الدعاة في صد هجمة الباطل، وتقهقروا عن القيام بدورهم في إنقاذ الأمة، لأنهم ما صدقوا مع الله وتعلقت قلوبهم بغيره، فتمكن الشيطان وأعوانه من نشر باطلهم بدون مقاومة تذكر من هؤلاء الدعاة، بل ربما تمكن الشيطان وأعوانه من استخدام هؤلاء الدعاة في نشر الباطل، وتلبيس الحق بالباطل وكتمان الحق.

ودونك تفصيل هذه الآثار في المباحث الآتية:

ص: 711

‌المبحث الأول: التفرق والاختلاف والتنازع وذهاب الريح

(1)

وقد سبق الكلام على هذه الآفات

(2)

التي يقع فيها من ابتلي بفساد النيات والمقاصد، والحسد، والبغض لإخوانه.

وهذه الآفات طالما جرت إلى فساد ذات البين التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحذر أمته بأنها الحالقة، فيقول: «وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ

(3)

هِيَ الْحَالِقَةُ» الحديث

(4)

، وفسرها في الحديث الآخر بأنها تحلق الدين

(5)

.

وهذه الآفات كم جرت على الأمة من رزايا وبلاء، ترتب عليه انصراف الناس عن دعوة هؤلاء الدعاة؛ لما يرون بينهم من التنازع والتهارش

(6)

وهم يزعمون أنهم

(1)

أي ذهاب القوة والهيبة من قلوب الأعداء، فيغلبونكم. ينظر: الصحاح (1/ 368) مادة (روح)، مقاييس اللغة (2/ 464) مادة (ريح).

(2)

ينظر: ص (579).

(3)

أي: الاختلاف والتنازع والشحناء والبغضاء.

(4)

أخرجه أحمد (45/ 500) ح (27508)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين (4/ 280) ح (4919)، والترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب .. (4/ 663) ح (2509) وقال:"حسن صحيح"، وابن حبان في صحيحه باب الصلح، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم إصلاح ذات البين بين المسلمين (11/ 489) ح (5092)، وصححه الألباني صحيح الترغيب والترهيب (3/ 70) ح (2814)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (45/ 500) ح (27508).

(5)

سيأتي ص (723)، ومعنى الحالقة أي: تهلك وتستأصل الدين، كما يستأصل موس الحلاقة الشعر.

ينظر: النهاية (1/ 428) مادة (حلق)، ويعني ذلك: لا تبقي شيئًا من الحسنات. ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 404)، ت: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الثقافة القاهرة، ط 1، 1424 هـ.

(6)

قال في مقاييس اللغة (6/ 46) عند مادة (هرش): "الهاء والراء والشين: كلمة واحدة، هي مهارشة الكلاب: تحريش بعضها على بعض. ومنه يقاس التهريش، وهو الإفساد بين الناس".

ص: 712

يسعون في إنقاذ الأمة ويريدون السير بها إلى بر الأمان، فلما رأى الناس اختلاف الدعاة، وتفرق كلمتهم، وطعن بعضهم في بعض، وربما يصل الأمر مع بعضهم البعض إلى أشد من ذلك من التكفير والقتل، أو على الأقل الأذية باليد واللسان، فأدى ذلك إلى نفور الناس من هؤلاء الدعاة، وانفضوا من حولهم.

الأضرار المترتبة على التفرق والاختلاف والتنازع وأثرها على الدعوة:

‌1 - فشل الدعاة في إيصال الخير للناس،

ونقلهم من حالة السوء والتقصير إلى حالة الاستقامة والتمسك؛ لخذلان الله لهم بسبب تنازعهم، ولذا كم فشلت مشاريع دعوية كانت تقوم بدور كبير في تعليم الناس الخير، فلما هبت عليها ريح الاختلاف والتنازع توقفت، وحرم الناس من خيرها، كل جماعة تريد أن تستخدمها لمصالحها الحزبية الضيقة.

‌2 - ذهاب الريح والهيبة من القلوب وقلة الاحترام والتقدير،

وضعف أثر التربية، وبالتالي ضَعُفَ أثر الدعاة على الناس.

قال تبارك وتعالى آمرًا بطاعة الله ورسوله، ومحذرًا الأمة من التنازع ومبينًا أثر ذلك:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

‌3 - ضَعُفَ الاعتصامُ بالكتاب والسنة،

وهبت ريح الأهواء والبدع، ووقع الضلال والانحراف عن الصراط المستقيم، ولما خالفوا قول الله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وخالفوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ:«اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ»

ص: 713

ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. الحديث، ولم يمتثلوا قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» .

ولما حصل ذلك منهم سلط الله عليهم الاختلاف والتفرق، وذهاب الهيبة منهم من قلوب الأعداء، فتسلط عليهم عدوهم، وسعى في إبعادهم عن الدعوة بكل ما يستطيع، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الموضوع

(1)

.

‌4 - وقوع الهلاك الذي حذر منه النبي أمته،

فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا» ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .

‌5 - أدى الاختلاف والتنازع إلى انصراف طلاب العلم عنه،

وانشغالهم بالرد على بعضهم، فحصل الجهل، وفهم الدين على حسب الأهواء، وليس على منهج الأنبياء، ومنهم من أقبل على العبادة بجهل، وترك طلب العلم ومجالسة العلماء، فدب إليهم داء الافتراق والتنازع، فهلكوا ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى سفك الدماء، كما قال ابن سيرين رحمه الله:"إن قومًا تركوا طلب العلم ومجالسة العلماء، وأخذوا في الصلاة والصيام حتى يبس جلد أحدهم على عظمه، ثم خالفوا السنة، فهلكوا وسفكوا دماء المسلمين، فوالذي لا إله غيره، ما عمل أحد عملًا على جهل إلا كان يفسد أكثر مما يصلح"

(2)

.

(1)

ينظر: ص (721، 723).

(2)

الاستذكار (8/ 616).

ص: 714

‌المبحث الثاني: تسلط الأعداء على الأمة

لما دب إلى القلوب داء الأمم قبلنا الحسد والبغضاء، وتمكن حب الدنيا من القلوب، وكره الدعاة وأتباعهم الموت في سبيل الله، وظهر التفرق، والتحزب، والتنازع، تداعت الأعداء على هذه الأمة كما يتداعى الأكلة على موائد الطعام، مع كثرة الأمة إلا أنهم لا وزنهم لهم ولا قيمة؛ لأنهم مشغولون بأنفسهم عن أعدائهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحالة، فقال:«يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا» ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ» ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ:«حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» .

وحب الدنيا باب الشيطان الكبير الذي يدخل منه إلى القلوب، ويسعى في التفريق والتحريش به بين المؤمنين، ويُمكّن من خلاله لتسلط الأعداء؛ ولهذا -والله أعلم- نجد أن الله تعالى يقدم التحذير من الاغترار بالدنيا على التحذير من الاغترار بالشيطان، فقال تعالى:{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]؛؛ لأن القلوب إذا تعلقت بالدنيا أحبتها وزهدت في الآخرة، وكرهت لأجلها الموت في سبيل الله، ورضيت بأن تعيش لشهواتها، وأخلدت إلى الأرض، فتسلطت عليها شياطين الجن والإنس، وأشغلتها بالتنازع والافتراق، وضربت قلوب بعضها ببعض، ومن ثَمَّ تُرِكت الدعوة أو ضعف الاهتمام بها، وأقبلت النفوس على الدنيا تسابق إليها وتنافس فيها،

ص: 715

ودب إلى القلوب داء الأمم الحسد والبغضاء كما قال صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟! أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»

(1)

.

واستغلَّ الشيطان هذه الأجواء ليستفيد من إذكاء نار الفتنة وزيادة الفرقة والتنازع بتحريشه بينهم، كما في حديث جَابرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»

(2)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 29) ح (1412)، والترمذي واللفظ له في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب .. (4/ 664) ح (2510) وذكر أن الحديث مختلف فيه، وجوّد إسناده كل من المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 285) ح (4084) والهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب الأدب، باب أجر السلام (8/ 30) ح (12732)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 23) ح (2695).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينًا (4/ 2166) ح (2812).

ص: 716

المبحث الثالث: تسلط أعداء الأمة على الدعاة، وتنفير الناس من دعوتهم

وإذا سعى الشيطان ليفرق بين المسلمين، فحدث التنازع والاختلاف بينهم، عند ذلك تسلط أعداء الأمة عليها، وسعوا في صرفها عن دينها، وفي إبعادها عن دعاتها، بتشويه سمعتهم، وصرف الناس عنهم، فإذا كان الدعاة لديهم خلل في علاقتهم بربهم، بسبب القصور في تحقيق أعمال قلوبهم الذي أحدث خللًا في سلوكهم، فصاروا قدوات سيئة؛ لأن القلب إذا فسد فسدت سائر الجوارح، وظهر الخلل في سلوك صاحب القلب المريض، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، فإذا حصل الخلل في سلوك من ينتسب إلى الدعوة صرف الله القلوب عن حبهم، كما قال صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» .

وهنا يتمكن أعداء الدعوة من مرادهم، فيحدث الإرجاف والتخويف من قبل الشيطان وحزبه، وتقوى دعاية أهل الباطل، فتجد آذانًا صاغية من أتباع الدعاة -بسبب الدعاة أنفسهم- لأنهم رسموا صورة قبيحة في أذهان أتباعهم بتكالبهم على الدنيا، والتساهل في ارتكاب الحرام بأدنى الحيل، وتنازعهم وتفرقهم واختلاف كلمتهم، وطعن بعضهم في بعض، فلم يكونوا قدوة صالحة، فضعف تأثيرهم، وصدّق أتباعهم

ص: 717

ما يقال عنهم، أو على الأقل اهتزت صورتهم في أعين المدعوين؛ لأنهم رأوا بأعينهم من مظاهر الخلل الواضحة عند هؤلاء الدعاة في أقوالهم وأفعالهم، وهذا ما مكّن لأعدائهم ما يسعون له من التشويه وتنفير الناس عنهم.

ومن ثَمَّ تسلطت عليهم شياطين الإنس والجن، فبثوا الرعب في قلوبهم وقلوب أتباعهم، حتى انصرفوا عن الدعوة بسبب تخويف الشيطان لهم بأوليائه، كما قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. قال ابن كثير رحمه الله: "أي: يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة"

(1)

.

وإنما يؤتى الدعاة من قبل أنفسهم بسبب الخلل الذي في قلوبهم الذي يعلمه الله من ضعف الإيمان والتعلق بالحياة الدنيا، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].

وقال تعالى عما حصل من خلل في غزوة أحد بسبب تعلق القلوب بالدنيا: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152].

وفي غزوة حنين حينما اغترت بعض القلوب بالكثرة، وحصل العجب في القلوب، وضعف تعلق القلب بالله في النصر، حصلت الهزيمة في أول المعركة؛ ليربي الأمة ويعطيها درسًا تنتفع به في كل زمان، فقال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ

(1)

تفسير ابن كثير (2/ 172).

ص: 718

كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

فعدم الإيمان أو ضعفه أو تعلق القلب بالدنيا، أو حصول الأمراض في القلب من عجب أو رياء أو تعلق بغير الله وغيرها من أسباب الخلل مما يؤدي إلى تسلط العدو على الدعاة وبث الدعاية ضدهم، لكن إذا قوي إيمان الداعية وتعلق قلبه بالله وتدرع بالصبر والتقوى، حينها يقوى خوفه من الله، ويخرج الله من قلبه الخوف من أولياء الشيطان، ولم يتمكنوا من صده عن الدعوة، ولا يمكنّهم الله من تشويه سمعته بما قذف في قلوب عباده من حبه، بل يفشل الله خططهم، ويجعل مكرهم يحيق بهم، كما نصت على ذلك الآيات حيث بين سبحانه وتعالى أن التقوى والصبر يدفعان كيد العدو، فلا يضر الداعية ولا يسري مفعوله في قلبه، فقال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].

قال السعدي رحمه الله في تعليقه على الآية: "فإذا أتيتم بالأسباب التي وعد الله عليها النصر -وهي الصبر والتقوى- لم يضركم مكرهم، بل يجعل الله مكرهم في نحورهم؛ لأنه محيط بهم علمه وقدرته، فلا منفذ لهم عن ذلك، ولا يخفى [عليهم]

(1)

منهم شيء"

(2)

.

وقد أخبر تعالى عن حال من يفسدون في الأرض ولا يصلحون، إذا واجهوا أهل الحق الأقوياء بإيمانهم وتمسكهم بالحق الذي معهم، كيف أن الله يدافع عن أهل الحق ويحطم مكر عدوهم ويدمره، فقال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ

(1)

هكذا في الأصل، ولا يستقيم المعنى بذلك، فالصحيح:(عليه).

(2)

تفسير السعدي (145).

ص: 719

ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 48 - 53].

وأخبر سبحانه وتعالى أن المكر السيّئ لا يحيق إلا بصاحبه، فيهلكه الله به، وقد جرت سنة الله بذلك، وسنته سبحانه وتعالى لا تتبدل ولا تتحول، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 42، 43].

وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه يدافع عن عباده المؤمنين، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]، وقد تكفل بنصرهم بكل أنواع النصر إذا هم صدقوا في إيمانهم، وجاهدوا أنفسهم في إصلاح خلل قلوبهم، واجتهدوا في العمل الصالح، فقد وعد سبحانه وتعالى فقال:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64].

ص: 720

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى سيتولى محاربة من يحارب أولياءه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ» الحديث.

ولكن قد يتأخر النصر، ويُمَكَّنُ للعدو إلى حين ابتلاءً وتمحيصًا، ولله في ذلك حكمة، ليظهر في الواقع معلوم الله، فيعرف الصادق من الكاذب، ويميز بين المؤمن وغيره، ويتخذ من المؤمنين شهداء، ثم تحدث سنة الله في محق أعداء الدين، قال تعالى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139 - 141].

وفي الآيات السابقة التي أنزلها الله ضمن آيات عقّب بها الله على غزوة أحد؛ لتكون درسًا للمؤمنين إلى قيام الساعة ينتفعون بها، ويأخذون منها العبر والعظات في حياتهم، يقول السعدي رحمه الله: "وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك، ولهذا قال تعالى:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

ثم سلاهم بما حصل لهم من الهزيمة، وبيَّن الحِكَم العظيمة المترتبة على ذلك، فقال:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} ، فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح، ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون، كما قال تعالى:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104].

ص: 721

ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس، يوم لهذه الطائفة، ويوم للطائفة الأخرى؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية، وهذا بخلاف الدار الآخرة، فإنها خالصة للذين آمنوا.

{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء؛ ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام، في الضراء والسراء، واليسر والعسر، ممن ليس كذلك.

{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} وهذا أيضًا من بعض الحكم؛ لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس؛ لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم، وتقاعدوا عن القتال في سبيله، وكأن في هذا تعريضًا بذم المنافقين، وأنهم مبغضون لله، ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله.

{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].

{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وهذا أيضًا من الحكم أن الله يمحص بذلك المؤمنين من ذنوبهم وعيوبهم، يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله يكفر الذنوب، ويزيل العيوب، وليمحص الله أيضًا المؤمنين من غيرهم من المنافقين، فيتخلصون منهم، ويعرفون المؤمن من المنافق.

ومن الحكم أيضًا أنه يقدر ذلك، ليمحق الكافرين، أي: ليكون سببًا لمحقهم واستئصالهم بالعقوبة، فإنهم إذا انتصروا، بغوا، وازدادوا طغيانًا إلى طغيانهم، يستحقون

ص: 722

به المعاجلة بالعقوبة رحمة بعباده المؤمنين"

(1)

.

وسيأتي مزيد بيان حول أسباب تأخر النصر في مبحث قادم

(2)

.

وفي المقابل ذكر الله حال أصحاب القلوب المريضة، عندما يحصل لهم فتنة من أعداء الدعوة يجعلونها كفتنة الله، وينكصون على أعقابهم، ويظهر علم الله فيهم في الواقع، فيُعْلَمُ المؤمن الصادق من المنافق، كما قال تعالى عنهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 10، 11].

قال البغوي رحمه الله: "قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أصابه بلاء من الناس افتتن، {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} أي: جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة، أي: جزع من عذاب الناس ولم يصبر عليه، فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه، هذا قول السدي وابن زيد، قالا: هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر"

(3)

.

ويقول السعدي رحمه الله: "لما ذكر تعالى أنه لا بد أن يمتحن من ادَّعى الإيمان، ليظهر الصادق من الكاذب

(4)

، بيَّن تعالى أن من الناس فريقًا لا صبر لهم على المحن، ولا ثبات لهم على بعض الزلازل فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ

ص: 723

فِي اللَّهِ} بضرب، أو أخذ مال، أو تعيير؛ ليرتد عن دينه، وليراجع الباطل، {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} أي: يجعلها صادَّة له عن الإيمان والثبات عليه، كما أن العذاب صادٌّ عما هو سببه.

{وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} لأنه موافق للهوى، فهذا الصنف من الناس من الذين قال الله فيهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].

{أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} حيث أخبركم بهذا الفريق الذي حاله كما وصف لكم، فتعرفون بذلك كمال علمه وسعة حكمته.

{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} أي: فلذلك قَدَّرَ مِحَنًا وابتلاء؛ ليظهر علمه فيهم، فيجازيهم بما ظهر منهم، لا بما يعلمه بمجرده؛ لأنهم قد يحتجون على الله، أنهم لو ابتُلُوا لَثَبَتُوا"

(1)

.

(1)

تفسير السعدي (627).

ص: 724

المبحث الرابع: نفور الناس من الدعاة، وتفرقهم عنهم

‌توطئة:

وقد ذكرت في المبحث السابق كيف أن الأعداء يشوهون سمعة الدعاة بما يظهر عليهم من خلل وقصور في سلوكهم وسوء خلق في تعاملهم، فأضيف هنا أنه إذا فرط الداعية في أعمال القلوب، وفي تحقيقها ومحاسبة نفسه ومجاهدتها على ذلك، انعكس أثر ذلك على سلوكه فظاظة في القلب، وقلة رحمة بالمدعوين، وانعدامًا للرفق، وغير ذلك من الآثار، وهذه الأخلاق الذميمة ستؤدي إلى نفور المدعوين منه ومن دعوته، وانفضاضهم من حوله، ودونك شيئًا من أسباب نفور الناس من بعض الدعاة، بسبب صفات السوء التي وقعوا فيها، ومنها:

‌1 - سوء أخلاق الداعية:

سوء الخلق عند الداعية من الأسباب العظيمة التي تجعل الناس ينفرون من دعوته، وينفضون من حوله، ودونك صورًا من سوء الخلق التي يتصف بها بعض الدعاة، فتكون سببًا لنفور الناس منهم ومن دعوتهم، ومن تلك الأخلاق السيئة:

أ - غلظ القلب وقلة الرحمة فيه، قال الله تعالى عن أثر هذا الخلق السيّئ:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

ب - أن يحرم الداعية من الرفق: عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ» ، وفي رواية عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ» ، وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» .

ص: 725

وقد مر الكلام على الرفق في أكثر من موطن في هذه الدراسة

(1)

.

ت - اتصاف الداعية بالشح والبخل

(2)

:

إذا اتصف الداعية بالشح والبخل نفر الناس منه؛ لأن الداعية لا بد أن يكون قدوة حسنة في البذل والإنفاق والكرم كما كان القدوة لجميع الدعاة إلى الله، يقول الواصف له صلى الله عليه وسلم أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ»

(3)

.

وعن جُبَيْرِ بْنُ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ، مُقْبِلًا مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ

(4)

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ

(5)

نَعَمًا، لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلَا كَذُوبًا، وَلَا جَبَانًا»

(6)

.

(1)

ينظر: ص (530).

(2)

الشح أشد البخل، فهو بخل مع حرص.

ينظر: مقاييس اللغة (3/ 178)، المفردات في غريب القرآن (ص: 446)، لسان العرب (2/ 495) مادة (شح).

وقال الخطابي رحمه الله في التفريق بين البخل والشح: "الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال البخل إنما هو في إفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة. وقال بعضهم: البخل أن يضن بمال، والشح أن يبخل بماله وبمعروفه". معالم السنن (2/ 83 - 84).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل (8/ 13) ح (6033)، ومسلم واللفظ له في كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدمه للحرب (4/ 1802) ح (2307).

(4)

أي استمسكوا وتعلقوا به.

ينظر: النهاية في غريب الحديث (3/ 288)، المعجم الوسيط (2/ 622) مادة (علق).

(5)

قال ابن قتيبة في غريب الحديث (1/ 273): "العضاه كل شجر له شوك مثل الطَّلْح والسَّلَم والسَّمُر والسِّدْر".

(6)

أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه (4/ 94) ح (3148).

ص: 726

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم عن هذه الأخلاق السيئة: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» الحديث

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» الحديث

(3)

.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكُمْ والشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» الحديث

(4)

.

وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ كثيرًا من مجموعة من الأخلاق السيئة منها البخل، كما ذكر عنه

(1)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم (6/ 186) ح (4997)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (4/ 1803) ح (2308).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4/ 1996) ح (2578).

(3)

أخرجه أحمد (15/ 433) ح (9693)، والنسائي في كتاب الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (6/ 13) ح (3110)، وابن حبان في صحيحه في باب الوعيد لمانع الزكاة، ذكر نفي اجتماع الإيمان والشح عن قلب المسلم (8/ 43) ح (3251)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1262) ح (7616)، وصححه بمجموع طرقه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (15/ 433) ح (9693).

(4)

أخرجه أحمد (11/ 26) ح (6487)، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب في الشح (2/ 133) ح (1698)، وابن حبان في صحيحه في كتاب الغضب، ذكر الزجر عن الظلم والفحش والشح (11/ 579) ح (5176)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 701) ح (2604)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (11/ 26) ح (6487).

ص: 727

أنس رضي الله عنه

(1)

.

ث - استخدام أساليب الشتم والتجريح مع المدعوين:

إن من سمات منهج الأنبياء في دعوتهم اللين في القول، والبعد عن الفظاظة وسيّئ القول، كما وجه الله موسى وهارون عليهما السلام في دعوتهم للطاغية فرعون بالقول اللين معه؛ لعله يتذكر أو يخشى، فقال سبحانه وتعالى:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44].

وفي هذا دليل على أن منهج الداعية في الدعوة إلى الله تعالى يكون بالرفق واللين ولطيف الكلام، مع حسن الأدب، من دون غلظة في القول أو فظاظة في الفعل، حتى لا ينفر الناس من الداعية؛ وليكون كلامه أوقع في النفوس وأبلغ

(2)

.

وقد حث الله عباده على القول الحسن مع الناس في أكثر من آية؛ ليكون منهجًا يسير عليه المؤمن، والدعاة إلى الله تعالى من باب أولى، فقال تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].

(1)

كما ورد في حديث أنس رضي الله عنه: فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» وقد سبق تخريجه.

(2)

ينظر: تفسير البغوي (5/ 274)، تفسير ابن كثير (5/ 295)، تفسير السعدي (506).

ص: 728

وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 33 - 36].

ووقوع من يدعو إلى الله في القول السيّئ والسب والفحش في القول ليس من منهج الأنبياء، ولهذا جاء في السنة في بيان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نفي هذه الصفات عنه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ:«إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا»

(1)

.

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا، وَلَا لَعَّانًا، وَلَا سَبَّابًا، كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ

(2)

: «مَا لَهُ؟! تَرِبَ جَبِينُهُ»

(3)

.

ومما يدل على قبح هذه الصفات أن الله لا يحبها، ولا يحب لعبده أن يتصف بها، فقَالَ صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّش»

(4)

.

والفحش هو القبيح من القول والفعل

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 189) ح (3559)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب في كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم (4/ 1810) ح (2321).

(2)

هو الذي يعاتب صديقه إشفاقًا عليه ونصيحة له.

ينظر: لسان العرب (1/ 577) مادة (عتب).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (8/ 15) ح (6046).

(4)

أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (4/ 1707) ح (2165).

(5)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 147).

ص: 729

ومن كانت لديه هذه الأخلاق السيئة نفر الناس من دعوته، ولو كان يملك قدرة علمية كبيرة.

ج - العجب والغرور والكبر:

وسبق الكلام على هذه الأخلاق السيئة

(1)

.

‌2 - القدوة السيئة من قبل بعض الدعاة:

الداعية إلى الله لا بد أن يكون قدوة حسنة في قوله وفعله، وخصوصًا أمام أهل بيته، ومن يقوم بدعوتهم؛ لأنهم يأخذون قوله وفعله على سبيل الاقتداء، فحينئذ كان لزامًا عليه أن يستشعر خطر القدوة السيئة؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يتحمل أوزار من اقتدى به، ويؤدي أيضًا إلى نفور الناس من دعوته، ولهذا قال تعالى محذرًا من ذلك ومبينًا خطره:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].

وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»

(2)

.

ومن منهج الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم أنه لا يخالف قولهم فعلهم، كما قال

(1)

ينظر: العجب (654)، الرياء (661)، الكبر (673).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/ 2059) ح (1017).

ص: 730

تعالى عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

وفي الحديث يقُولُ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ، مَا لَكَ؟! أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟! فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» .

وهناك صور تمثل القدوة السيئة من قبل بعض الدعاة، مثل:

- وقوعه في بعض مظاهر الشرك والخلل في مقام توحيد الألوهية، كحضور الموالد، وعدم إنكاره على ما يحصل من مظاهر شركية عند القبور.

- التفريط في الصلوات.

- التساهل في صلاة الجماعة.

- التساهل في أكل المال الحرام.

- البذاءة في اللفظ.

- إخلاف الموعد.

- الركون إلى الدنيا وتعلق القلب بها، ويظهر هذا في كثرة حديثه عن الدنيا.

- ضياع الأوقات.

- السلبية وعدم تحمل المسؤولية.

- كثرة الهزل والضحك والمزاح.

- عدم الجدية في طلب العلم.

ص: 731

- التساهل في النظر إلى الحرام أو سماعه.

- وقوعه في الغيبة.

وقوع بعض الدعاة في مثل هذه الأخطاء يجعلهم قدوة سيئة، مما يلقي بظلاله على تربيتهم لأتباعهم، فيقتدون بهم في هذه الصفات القبيحة، وقد ينفر منهم بعض المدعوين فلا ينتفعون بهم.

وقد يكشف الله حالهم بالابتلاءات فيعرفون على حقيقتهم كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الآية [آل عمران: 179].

قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "أي: ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط وعدم التميز حتى يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب.

ولم يكن في حكمته أيضًا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل الله رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم.

فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين: مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين، ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب، وليظهر عدله وفضله، وحكمته لخلقه"

(1)

.

‌3 - ضعف الصلة بالله،

ويكون بتقصير الداعية في الفرائض وفي نوافل العبادات مما يجعل القلوب تنصرف عنه

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (158).

(2)

وقد سبق الكلام عن أثر العبادات على الداعية في صلاح قلبه الذي يجعل قبولاً عند الناس، فاذا صلته بربه انصرفت القلوب عنه وعن دعوته ينظر مثلاً: ص (160، 573).

ص: 732

4 -

مخالفة الداعية لوصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما حين بعثهما إلى اليمن في مهمة دعوية: فقال صلى الله عليه وسلم: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا»

(1)

.

وقال ابن حجر رحمه الله في فوائد الحديث: "وفي الحديث الأمر بالتيسير في الأمور، والرفق بالرعية وتحبيب الإيمان إليهم، وترك الشدة لئلا تنفر قلوبهم، ولا سيما فيمن كان قريب العهد بالإسلام أو قارب حد التكليف من الأطفال، ليتمكن الإيمان من قلبه ويتمرن عليه"

(2)

.

‌5 - وقوع الداعية في أعمال تنفر المدعوين،

ويكون بتكليفهم بما يشق عليهم، ويعجزون عن القيام به، وذلك بعدم مراعاة أحوالهم:

مثال على ذلك: إطالة الصلاة بهم إطالة تخالف منهج التيسير، وقد ورد في النصوص ما يبين المنهج الشرعي في العبادة المبني على التيسير، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].

وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلَانٌ فِيهَا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب فضل الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه (4/ 65) ح (3038)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير (3/ 1359) ح (1733).

(2)

فتح الباري (13/ 163).

ص: 733

أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ»

(1)

.

وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الجميع- كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ البَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا، فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا البَارِحَةَ، فَقَرَأَ البَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! -ثَلَاثًا- اقْرَأْ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَنَحْوَهَا»

(2)

.

وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الأذان، باب من شكى إمامه إذا طول (1/ 142) ح (704)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة في تخفيف الصلاة في تمام (1/ 340) ح (466).

(2)

أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا (8/ 26) ح (6106)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء (1/ 339) ح (465).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس (1/ 173) ح (868).

ص: 734

‌المبحث الخامس: تأخر النصر

الذي أعنيه هنا بتأخر النصر ما يكون بسبب الذنوب التي انطوت عليها القلوب، وقد سبق الحديث عن آثارها في الفصل السابق، ولا أقصد في هذا المبحث تأخر النصر ابتلاءً واختبارًا وتمحيصًا ولرفعة الدرجات، وقد حصل ذلك للأنبياء عليهم السلام ولأتباعهم، كما قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

قال السعدي رحمه الله: "يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها.

ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.

فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أي: الفقر، {وَالضَّرَّاءُ} أي: الأمراض في أبدانهم، {وَزُلْزِلُوا} بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل والنفي وأخذ الأموال وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال وآل بهم الزلزال إلى أن استبطؤوا نصر الله مع يقينهم به.

ولكن لشدة الأمر وضيقه قال {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ

ص: 735

اللَّهِ}، فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى:{أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.

فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

وقوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان"

(1)

.

وقال تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

والظن في هذه الآية ليس من باب الشك؛ لأن الأنبياء منزهون عن ذلك، وإنما المراد به كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما: ما يخطر بالبال وتحدث به النفس من استبطاء النصر على ما تقتضيه الطبيعة البشرية من الضعف، وظن الأنبياء أنهم أُخْلِفوا، كما قال الله:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}

(2)

، وهذا ما مال له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر أن ظاهر الآية معه

(3)

.

(1)

تفسير السعدي (96).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (13/ 393)، تفسير البغوي (4/ 286)، تفسير القرطبي (9/ 276).

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (15/ 176).

ص: 736

وكذلك فسر السعدي رحمه الله هذه الآية، ومال في تفسيرها إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما، حيث قال: "يخبر تعالى أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل.

حتى إن الرسل -على كمال يقينهم، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده- ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس، ونوع من ضعف العلم والتصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} وهم الرسل وأتباعهم، {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي: ولا يرد عذابنا، عمن اجترم، وتجرأ على الله، فما له من قوة ولا ناصر"

(1)

.

أمثلة على أسباب تأخر النصر، نذكرها على سبيل الإجمال؛ لأنه مر الكلام عليها فيما سبق:

‌أولًا: الخلل في الإيمان بالله تعالى

ويشمل:

أ - ضعف عقيدة التوحيد.

ب - ضعف الإيمان باليوم الآخر وتعلق القلب بالدنيا.

ت - وجود أمراض القلب ولذلك عدة صور، منها:

1 -

ضعف التوكل على الله.

2 -

ضعف الإخلاص والخلل في المقاصد.

3 -

العجب والكبر والرياء وحب السمعة.

4 -

الخلل في الصبر والتقوى.

(1)

تفسير السعدي (407).

ص: 737

‌ثانيًا: الفرقة والاختلاف والتنازع.

‌ثالثًا: الغفلة عن ذكر الله.

‌رابعًا: التقصير في الفرائض والواجبات وارتكاب المنهيات،

وله عدة صور منها:

1 -

التهاون بالصلاة.

2 -

قطيعة الرحم.

3 -

أذية الجار.

4 -

التساهل في أكل المال الحرام، وارتكاب الحيل من أجل ذلك.

5 -

الوقوع في آفات اللسان.

6 -

السماع والنظر إلى الحرام.

‌خامسًا: التقصير في الإعداد المادي:

أما الإعداد المادي فقد أمر الله به، وأن يكون بحسب الوسع، فقال سبحانه وتعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].

وقال ابن كثير رحمه الله: "ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أي: مهما أمكنكم، {مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} "

(1)

.

وقال السعدي رحمه الله: "أي: {وَأَعِدُّوا} لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أي: كل ما تقدرون عليه من القوة

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 80).

ص: 738

العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»

(1)

. ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال؛ ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته.

فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابًا منها، كالسيارات البرية والهوائية المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورًا بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة وجب ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"

(2)

.

وغير ذلك من الأسباب التي يتأخر النصر بسببها، والأسباب المعنوية أكثر أثرًا وخطرًا من الأسباب المادية.

(1)

والحديث أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه (3/ 1522) ح (1917) ولفظه: عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» .

(2)

تفسير السعدي (324).

ص: 739

‌الخاتمة

أهم النتائج.

أهم التوصيات والمقترحات.

ص: 740

ملخص لأهم النتائج والتوصيات والمقترحات.

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على نبينا وإمامنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، وبعد أن وفقني الله تعالى للعيش في ظلال هذا البحث الموسوم بـ (أثر أعمال القلوب على الداعية والدعوة) وقد كانت فترة ممتعة من جوانب كثيرة ومهمة صعبة ومرتقاً عال من جوانب أخرى، وقد أعانني الله فله الحمد والمنة، وها أنا أصل إلى خاتمة هذا البحث؛ فأقول مستعيناً بالله تعالى، متبرئاً من حولي وقوتي مسطراً في خاتمة هذا البحث خلاصة مركزة لأهم ما توصلت إليه من نتائج وتوصيات:

‌أولاً: أبرز النتائج.

• ظهر للباحث بجلاء المكانة العظيمة لأعمال القلوب من خلال نصوص الكتاب والسنة فقد كثرت النصوص في كتاب الله العظيم وفي سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في بيان المكانة الرفيعة والمنزلة العالية لعمل القلب، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله وهو أحد أطباء القلوب: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح

ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان"

(1)

.

وأعمال القلوب هي الأصل، وهي فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، من تركها بالكلية فهو إما كافر أو منافق، وأعمال الجوارح تابعة ومتممة لأعمال

(1)

بدائع الفوائد (3/ 192 - 193)

ص: 741

القلوب، فلا تتم إلا بها

(1)

.

• ولعمل القلب أثره العظيم في حياة المسلم بعامة وفي حياة الدعاة بخاصة، والنصوص حافلت بذكر أثر عمل القلب على صاحبه حينما يحققه ويجتهد في ذلك.

• ولا يصلح القلب ليظهر أثره على صاحبه إلا بقيام المسلم بتحقيق أسباب صلاح القلب، فهناك ارتباط وثيق بين صلاح الظاهر وصلاح الباطن.

• وإن المتأمل في حياة سلف الأمة يرى الدلائل العظيمة على أثر عمل القلب في حياتهم، وإن الناظر بعين البصيرة يرى بجلاء آثار الأعمال القلبية في حياة سلف الأمة، وما رفع الله ذكرهم وعطر الزمان بأخبارهم وسيرهم، ونشر علمهم في الأرض إلا تلك السرائر من خبايا أعمال القلوب التي تحققت فيهم.

• إن المتأمل في حياة دعاة الأمة وعلى رأسهم العلماء الذين اجتهدوا في تحقيق عمل القلب في حياتهم وحاسبوا أنفسهم على ذلك، يرى تلك الآثار العظيمة عليهم وعلى دعوتهم:

- من سلامة المقاصد وخلوصها لله وحده، وما وجدوه في قلوبهم لما صدقوا مع الله تعالى من الشعور القوي المتمكن في القلب الذي يجعلهم يستشعرون معية الله الخاصة ورعايته وتوفيقه وإعانته لهم.

- يقينهم بنصر الله لدينه، وتعلق قلوبهم بالله أثمر تفاؤلاً حسناً وقطع دابر اليأس من قلوبهم، فهم في أحلك الظروف وأشدها لا يفارق الفأل الحسن قلوبهم فلهذا ثبتهم الله أمام أعاصير الفتن، وضربوا أروع الأمثلة في الثبات على الحق والدعوة إليه بدون ملل ولا كلل، مهما كان صلف الباطل وقوته، فلما قويت قلوبهم بإيمانهم الصادق وحَمْلُهم للحق بحق وصدق وإخلاص، كانت كلماتهم ومواقفهم تنزل على الباطل فتدمغه فاذا

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 184 - 185)، بدائع الفوائد (3/ 187 - 188).

ص: 742

هو زاهق، كما قال الله تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].

ولهذا نصرهم الله ونصر بهم دعوته فكانوا دعاة إلى بحق أوصل نور هذا على أيديهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، وفتحوا الله لهم قلوب العباد قبل البلاد.

- معرفتهم بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة جعلهم يزهدون في الدنيا وتتعلق قلوبهم بالآخرة، الزهد الصحيح على منهاج النبوة زهد لم يتكدر بمشارب صوفية استقت زهدها من الهندوس والبوذيين أو من رهبانية نصرانية.

- لما تعلقت قلوبهم بالله رزقهم حلاوة الإيمان وطعمه فاطمأنت القلوب بالحق وقويت فلا ترهبها صولة الباطل، ولا تخويف الشيطان بأوليائه، كما قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، بل هم يتلذذون بما يجدونه في ذات الله.

- ولما حققوا عمل القلب تشوقوا إلى مرضاة الله وكانوا يسارعون إلى فعل القربات وهم لها يسابقون.

- ومن أعظم آثار تحقيق عمل القلب الفوز العظيم في الآخرة.

• ولما صدقوا مع الله وحققوا عمل القلب وفقهم الله في دعوتهم للسير على منهج الأنبياء، والذي من معالمه:

- كانت دعوة الأنبياء عليهم السلام خالصة لله، لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورًا.

- كان الأنبياء عليهم السلام أول ما يدعون إليه توحيد الله وإفراده بالعبادة، وتحذير أممهم من الشرك كبيره وصغيره، وتحذيرهم كذلك من الذرائع والسبل الموصلة إليه.

- ومن المعالم البارزة في دعوة الأنبياء الدعوة إلى الله على بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.

ص: 743

- كان الأنبياء عليهم السلام حريصين على هداية الناس، وإنقاذهم من الجاهلية، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

- ومن معالم دعوة الأنبياء عليهم السلام الرحمة والشفقة بالمدعوين، مما يجعل قلوب المدعوين تهوي إليهم، وتقبل عليهم، فيفتح الله لهم مغاليق القلوب.

- ومن المعالم البارزة في دعوة الأنبياء عليهم السلام أنهم يدعون إلى نبذ أسباب التفرق والاختلاف والتنازع، ويحذّرون من ذلك، وفي المقابل يدعون إلى الألفة والمحبة والاجتماع على الحق والاعتصام بالوحي.

- ومن سنن الله الكونية التي يجريها لأنبيائه، وللدعاة إلى الله الذين يقتفون أثر أنبيائه أن ينصرهم الله ويمكن لهم.

• من القواعد المسلمة أن الدعوة لا تأتى إلا من قبل أهلها، ولا يحصل انحراف في الدعاة أو منهجهم في الغالب إلا إذا قصروا في عمل القلب، فاذا حصل الخلل في عمل القلب وأهمل الداعية تحقيقه، ولم يبذل أسباب صلاح قلبه، ولم يجاهد نفسه على ذلك، ظهرت الآثار المرة على الداعية في نفسه ومن ثم على دعوته:

- وما يصيب الدعاة من خلل وقصور في دعوتهم، مرجعه الأول إلى القلب وما تراه اليوم من ضعف في الدعاة انعكس أثره على الأمة فظهرت نوابت الغلو وتمكنت من بعض القلوب بسبب الخلل في عمل القلب، أو في المقابل - وهو الأكثر- التفريط والتضييع للدعوة وتمييع الدين والهزيمة النفسية أمام العدو، فتلك مظاهر تخبر عما حصل من خلل في عمل القلب.

- تعلقت القلوب بالدنيا وتنازلت عن أصول دينها من أجل لعاعة من الدنيا، فقست القلوب، وتسلطت الشياطين.

- وظهر اتباع الهوى والولوغ في فتن الشبهات والشهوات، ولهث بعض الدعاة وراء الرياسات للمكاسب الدنيوية، فركنوا إلى الكفار والظلمة علهم يجدون ما

ص: 744

يبحثون عنه من الجاه والمال، فتسلقوا على أكتاف الدعوة طلباً للدنيا، فتسلط عليهم الأعداء ونفر الناس منهم.

- لما غزت الهزيمة النفسية قلوب بعض الدعاة، وقعوا بسبب ذلك في لبس الحق بالباطل وكتمانه، بحجة يسر الدين وتقريب الدين وعصرنته ليقبلوا عند من يسمونه بالآخر، فظهرت الفتاوى التي يلبس فيها الحق بالباطل ويكتم الحق إما رغبة في الحصول على الدنيا، أو رهبة من العدو الذين يخوفهم الشيطان به.

- وظهرت على بعض الدعاة أمراض القلوب من العجب،، والرياء، وحب السمعة والشهرة، وظهر الكبر، والبغضاء والشحناء والبغي .. فظهرت آثار ذلك من الضيق والتبرم من نصح الناصحين الصادقين، بل وصل الأمر إلى النفور من النصيحة وعدم حب الناصحين، وظهرت كذلك تتبع العثرات وتصيد الهفوات، والفرح بزلات الآخرين، وحصل التفرق والاختلاف وصار الولاء والبراء وفق الحزبيات الضيقة.

- ولما حصل الخلل في عمل القلب نتج عن ذلك الخذلان وقلة التوفيق من الله تعالى، فهزم الدعاة وضعفت شوكتهم، وتسلط عليهم العدو، ونفر اتباعهم منهم، وتأخر النصر عن الأمة بسببهم.

- ومن أعظم آثار الخلل في عمل القلب الخسارة الآخرة.

ص: 745

‌ثانياً: أبرز التوصيات والمقترحات.

يوصي الباحث بالآتي:

- أن يهتم المسلم بعامة والداعية بخاصة في تحقيق أعمال القلوب، وتفقد القلب ومحاسبة النفس على ما يحصل من خلل في هذه الأمور.

- الحرص على سلامة القلب لأنه الذي ينفع صاحبه يوم القيامة.

- ويرى الباحث أن من المناسب أن تقرر مادة دراسية في كليات الدعوة ومعاهد الحسبة تتعني بأعمال القلوب وأثرها على الداعية والمحتسب.

- وأرى أن تهتم جمعيات الدعوة ومراكز الدعوة ببرامج تستهدف بها دعاتها في أعمال القلوب وأثرها على الداعية وذلك بتخصيص دورات في هذا المجال.

- وأوصي بأن تهتم وزارة الشؤون الإسلامية بهذا الأمر وتوجه الدعاة والخطباء للأعتناء بأعمال القلوب وأثرها، ويعطونه نصيباً موفوراً من خلال خطب الجمعة ودروس المساجد والمحاضرات والكلمات الوعظية.

- يوصي الباحث بأن تؤلف كتب من قبل المختصين للتدارسها من قبل الأئمة على جماعة المسجد، ومن الأفكار المقترحة أن يؤلف كتاب على غرار رياض الصالحين تجمع فيه الآيات والأحاديث التي تعتني بأعمال القلوب وآفاتها مع ذكر الآثار لكل عمل بشكل مختصر.

- إنشاء مواقع على الشبكة تعتني بالمادة العلمية وتكون متجددة، ويقوم عليها من يهتم بهذا الأمر من المؤهلين لذلك، ومن المختصين بالبرمجة.

- أن تؤلف رسائل علمية تركز على أثر عمل القلب على المسلم في جانب العقيدة، وفي الجانب العبادي.

- إنشاء أكاديمية تعتني بأعمال القلوب وأثرها وتستقطب من يهتم بهذا الأمر لعمل كتب دراسية تقرر على الدارسين في هذه الأكاديمية، مع إنشاء قناة فضائية ترتبط بهذه الأكاديمية تبث البرامج الموجهة للمسلمين، ويستقطب من أهل الإعلام من لهم ميول في هذا الموضوع، ويكون لها موقع على الشبكة.

ص: 746

‌فهرس المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

• الإبانة الكبرى، لابن بطة، ت: رضا معطي، وعثمان الأثيوبي، ويوسف الوابل، والوليد بن سيف النصر، وحمد التويجري، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض.

• إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، للبوصيري، ت: دار المشكاة للبحث العلمي، دار الوطن الرياض، ط 1، 1420 هـ.

• الأحاديث المختارة، لضياء الدين المقدسي، ت: ابن دهيش، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 3، 1420 هـ.

• الأحكام الفقهية المتعلقة بالنصيحة، بحث منشور في مجلة البحوث والدراسات الشرعية، العدد الثاني، شوال عام 1433 هـ، وهي مجلة علمية متخصصة محكمة، تصدر من مصر.

• إحياء علوم الدين، للغزالي، دار المعرفة بيروت.

• الإخلاص حقيقته ونواقضه، رسالة ماجستير، للباحث: عبد الله بن عيسى الأحمدي، إشراف: أ. د. محمد حسان كسبة، جامعة أم القرى، عام 1424 هـ.

• الإخلاص والنية، لابن أبي الدنيا، ت: إياد الطباع، طبعة دار البشائر، ط 1، 1413 هـ.

• الآداب الشرعية والمنح المرعية، لابن مفلح، الناشر: عالم الكتب.

• أدب الدين والدنيا، للماوردي، دار مكتبة الحياة، تاريخ النشر: 1986 م.

• الإرشاد، للجويني، ت: د. محمد يوسف موسى، مكتبة الخانجي مصر، 1369 هـ.

• إرواء الغليل، للألباني، إشراف: الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1405 هـ.

ص: 747

• الاستذكار، لابن عبد البر، ت: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1421 هـ.

• الاستيعاب، لابن عبد البر، ت: البجاوي، دار الجيل بيروت، ط 1، 1412 هـ.

• أسد الغابة، لابن الاثير، دار الفكر بيروت، 1409 هـ.

• الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية، للدكتور عبد الرحيم المغذوي، دار الحضارة الرياض، ط 2، 1431 هـ.

• الإسلام أصوله ومبادئه، لمحمد بن عبد الله السحيم، طبعته وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، ط 1، 1421 هـ.

• الإصابة، لابن حجر، ت: عادل الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1415 هـ.

• أصول السنة لأحمد بن حنبل، دار المنار الخرج، ط 1، 1411 هـ.

• أضواء البيان، للشنقيطي، دار الفكر بيروت، 1415 هـ.

• الاعتصام بالكتاب والسنة، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، مطبعة سفير، الرياض، توزيع: مؤسسة الجريسي.

• الاعتصام، للشاطبي، ت: الجزء الأول: د. محمد بن عبد الرحمن الشقير، الجزء الثاني: د سعد بن عبد الله آل حميد، الجزء الثالث: د. هشام بن إسماعيل الصيني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1429 هـ.

• أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، للخطابي، ت: محمد بن سعد آل سعود، مركز البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، ط 1، 1409 هـ.

• أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة، لحافظ الحكمي، ت: حازم القاضي، طبعة وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، ط 2، 1422 هـ.

ص: 748

• الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، لعمر بن علي البزار، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت، ط 3، 1400 هـ.

• إعلام الموقعين، لابن القيم، ت: محمد عبد السلام، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1411 هـ.

• الأعلام، للزركلي، دار العلم للملايين، ط 15، 2002 م.

• أعمال القلوب بين المتكلمين والصوفية وموقف أهل السنة منهم، رسالة دكتوراه، للباحث: مطر سالم بن حميد العازمي، إشراف: أ. د. محمد السيد الجليند، جامعة القاهرة، عام 2010 م.

• أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السنة والجماعة وعند مخالفيهم، رسالة دكتوراه، للباحث: سهل بن رفاع العتيبي، إشراف: الشيخ الدكتور عبد الرحمن البراك، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام 1423 هـ، وقد طبعت الرسالة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1426 هـ وتقع في (1046) صفحة.

• أعمال القلوب عند الإمام ابن القيم جمعًا ودراسة، رسالة ماجستير، للباحثة: وفاء بنت زيد العزيري، إشراف: الدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي، جامعة الملك سعود، عام 1425 هـ.

• أعمال القلوب عند الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله جمعًا ودراسة، رسالة ماجستير، للباحث: عبد الله بن عبد الرحمن بن ناجي الرحيلي، إشراف: الدكتور ذياب بن مدحل دخيل العلوي، الجامعة الإسلامية، عام 1434 هـ.

• أعمال القلوب عند شيخ الإسلام ابن تيمية جمعًا ودراسة، رسالة ماجستير، للباحث: غزمند مهمتي بن عمر، إشراف: الدكتور محمد بن خليفة التميمي، الجامعة الإسلامية، عام 1432 هـ.

• أعمال القلوب للدكتور خالد السبت، دار ابن الجوزي، ط 1، 1439 هـ.

ص: 749

• أعمال القلوب وأثرها في الإيمان، رسالة دكتوراه، للباحث: محمد دوكوري بن محمد، إشراف: الدكتور أحمد عطية الغامدي، الجامعة الإسلامية، عام 1417 هـ.

• أعمال القلوب، للمنجد، مجموعة زاد للنشر الخبر، جدة، توزيع مكتبة العبيكان الرياض، ط 1، 1438 هـ.

• إغاثة اللهفان، لابن القيم، ت: محمد الفقي، مكتبة المعارف الرياض.

• إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام، لعبد الله الغازي المكي الحنفي، ت: ابن دهيش، توزيع مكتبة الأسدي بمكة، ط 1، 1430 هـ.

• الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، للدكتور عبد الله الدميجي، دار طيبة.

• الأنساب، للسمعاني، ت: عبد الرحمن المعلمي، مجلس دائرة المعارف العثمانية، ط 1، 1382 هـ.

• الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، دار إحياء التراث العربي، ط 2.

• الإيمان بالقضاء والقدر، للحمد، دار ابن خزيمة الرياض، ط 4، 1435 هـ.

• الإيمان والرد على أهل البدع (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام، الجزء الثاني)، لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1 بمصر، 1349 هـ، النشرة الثالثة، 1412 هـ.

• أئمة المسجد الحرام في العهد السعودي من عام 1343 هـ-1436 هـ، جمع وإعداد: عبد الله آل علاف الغامدي، دار الطرفين الطائف، ط 2، 1436 هـ.

• الإيناس في فتح قلوب الناس، للدكتور سيد العفاني، دار العفاني القاهرة، ط 1، 1436 هـ.

ص: 750

• البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري، البحر الرائق لابن نجيم المصري، وعلى هامشه منحة الخالق لابن عابدين، وتكملة البحر الرائق للطوري، دار الكتاب الإسلامي، ط 2.

• البداية والنهاية، لابن كثير، ت: عبد الله التركي، دار هجر، ط 1، 1418 هـ، سنة النشر 1424 هـ.

• بدائع الفوائد، لابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت.

• البدر الطالع، للشوكاني، دار المعرفة بيروت.

• البرصان والعرجان والعميان والحولان، للجاحظ، ت: عبد السلام هارون، ـ دار الجيل بيروت، ط 1، 1410 هـ.

• بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادى، ت: محمد علي النجار،

• بغية الوعاة، للسيوطي، ت: محمد أبو الفضل، المكتبة العصرية لبنان.

• البلدان، لليعقوبي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1422 هـ.

• تاريخ ابن الوردي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1417 هـ.

• تاريخ ابن غنام، اعتنى به سليمان الخراشي، دار الثلوثية الرياض، ط 1، 1431 هـ.

• تاريخ الإسلام، للذهبي، ت: د. بشير عواد، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2003 م. مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي، ت: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، ط 3، 1985 م.

• التاريخ الكبير، للبخاري، دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد، مراقبة محمد عبد المعيد خان.

• التاريخ المعتبر في أنباء من غبر، لمجير الدين العليمي، ت: لجنة مختصة من المحققين، إشراف: نور الدين طالب، دار النوادر، سوريا، ط 1، 1431 هـ.

• تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ت: الدكتور بشار عواد معروف، دار

ص: 751

الغرب الإسلامي بيروت، ط 1، 1422 هـ.

• تاريخ دمشق، لابن عساكر، ت: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر 1415 هـ.

• التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، ت: محمد الفقي، دار المعرفة بيروت.

• تحفة المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح، لأحمد بن يوسف اللَّبْلِيُّ الفهري، ت: د. عبد الملك بن عيضة الثبيتي، أصل الكتاب: رسالة دكتوراة لفرع اللغة العربية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، في المحرم 1417 هـ.

• تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، المؤلفون: العِراقي، ابن السبكى، الزبيدي، استِخرَاج: أبي عبد اللَّه مَحمُود بِن مُحَمّد الحَدّاد، دار العاصمة للنشر الرياض، ط 1، 1408 هـ.

• تخريج أحاديث الإحياء، للعراقي، طبعة دار ابن حزم بيروت، ط 1، 1426 هـ، مطبوع بهامش إحياء علوم الدين.

• التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، لإبراهيم بن عبد الله المطلق، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، مركز البحوث والدراسات الإسلامية، ط 1، 1417 هـ.

• تدريب الراوي، للسيوطي، ت: أبي قتيبة الفاريابي، دار طيبة.

• تذكرة الحفاظ، للذهبي دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419 هـ، البداية والنهاية.

• ترتيب المدارك وتقريب المسالك، للقاضي عياض، ت: ابن تاويت الطنجي وآخرين، مطبعة فضالة المغرب، ط 1.

• ترجمة الشيخ الزاهد العابد الناصح إبراهيم بن عبد الرحمن الحصين على موقع الألوكة على الشبكة.

• الترغيب والترهيب، للمنذري، ت: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط 1، 1417 هـ.

ص: 752

• التعريفات الفقهية، للبركتي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1424 هـ.

• التعريفات، للجرجاني، ت: ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1403 هـ.

• تفسير ابن أبي حاتم، ت: اسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، السعودية، ط 3، 1419 هـ.

• تفسير ابن كثير، ت: سامي سلامة، دار طيبة، ط 2، 1420 هـ.

• تفسير البغوي، ت: محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش، دار طيبة، ط 4، 1417 هـ.

• تفسير الرازي، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط 3، 1420 هـ.

• تفسير السعدي، ت: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 هـ.

• تفسير السمعاني، ت: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس دار الوطن الرياض، ط 1، 1418 هـ.

• تفسير الطبري، ت: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة، ط 1، 1422 هـ.

• تفسير القرطبي، ت: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية القاهرة، ط 2، 1384 هـ.

• التفسير القيم، لابن القيم، ت: مكتب الدراسات والبحوث بإشراف الشيخ إبراهيم رمضان، دار ومكتبة الهلال بيروت، ط 1، 1410 هـ.

• تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة النشر: 1990 م.

• تلبيس إبليس، لابن الجوزي، دار الفكر لبنان، ط 1، 1421 هـ.

• تمام المنة في التعليق على فقه السنة، للألباني، دار الراية، ط 5.

• التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الحنبلي، ت: مفيد أبو عمشة ومحمد

ص: 753

بن علي بن إبراهيم، الناشر: مركز البحث العلمي جامعة أم القرى، طبعة دار المدني، ط 1، 1406 هـ.

• التمهيد لشرح كتاب التوحيد، لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار التوحيد، ط 1، 1424 هـ.

• التمهيد، لابن عبد البر، ت: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية المغرب، 1387 هـ.

• التمهيد، للباقلاني، ت: عماد أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، ط 1، 1407 هـ.

• التنوير شرح الجامع الصغير، لمحمد بن إسماعيل الأمير، ت: د. محمد إسحاق، مكتبة دار السلام الرياض، ط 1، 1432 هـ.

• تهذيب التهذيب، لابن حجر، مطبعة دائرة المعارف النظامية الهند، ط 1، 1326 هـ.

• تهذيب الكمال، للمزي، ت: بشار عواد، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1، 1400 هـ.

• تهذيب اللغة، للأزهري، ت: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث، بيروت، ط 1، 2001 م.

• التوضيح لشرح الجامع الصحيح، لابن الملقن، ت: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، وقام على تحقيقه مجموعة من محققي الدار، الناشر: دار النوادر، دمشق، سوريا، ط 1، 1429 هـ.

• التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، مكتبة أضواء السلف الرياض، ط 1، 1419 هـ.

• التوكل على الله تعالى وعلاقته بالأسباب، للدكتور عبد الله الدميجي، دار الوطن الرياض، ط 1، 1417 هـ.

• التوكل على الله، لابن أبي الدنيا، ت: مصطفى عبد القادر عطا، مؤسسة

ص: 754

الكتب الثقافية بيروت، ط 1، 1413 هـ.

• تيسير العزيز الحميد، لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، ط 1، 1423 هـ.

• التيسير في الفتوى ضوابطه وأثره في النوازل المعاصرة، "بحث ضمن مؤتمر الفتوى واستشراف المستقبل"، أعد البحث: د. زياد مقداد، أ. نادية الغول، والمؤتمر عقد في كلية الشريعة جامعة القصيم، 1435 هـ.

• الثبات على دين الله، للدكتور الأمين الصادق، دار ابن الجوزي، الرياض، ط 2، 1431 هـ. جلاء الأفهام، لابن القيم، ت: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، دار العروبة الكويت، ط 2، 1407 هـ.

• الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة، لابن قطلوبغا الحنفي، ت: شادي آل نعمان، مكز النعمان للبحوث والدراسات صنعاء، ط 1، 1432 هـ.

• الثقات، لابن حبان، طبع بإعانة: وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، تحت مراقبة: الدكتور محمد عبد المعيد خان مدير دائرة المعارف العثمانية، دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، ط 1، 1393 هـ.

• الثقات، للعجلي، ت: عبد العليم البستوي، مكتبة الدار المدينة النبوية، ط 1، 1405 هـ.

• ثلاثة الأصول وشروط الصلاة والقواعد الأربع، لمحمد بن عبد الوهاب، من مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، ط 1، 1421 هـ.

• جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، ت: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 7، 1422 هـ.

• جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ت: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي السعودية، ط 1، 1414 هـ.

• الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، لمحمد شمس وعلي العمران، تقديم أبو بكر زيد، دار عالم الفوائد مكة، ط 2، 1422 هـ.

ص: 755

• الجواب الكافي، لابن القيم، ت: محمد الاصلاحي، وخرج أحاديثه: زائد النشيري، دار عالم الفوائد مكة، ط 1، 1429 هـ.

• جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رحمه الله، رواية الشيخ محمد بن موسى الموسى، مدير مكتب بيت الشيخ، إعداد: دكتور محمد بن إبراهيم الحمد، دار ابن خزيمة، ط 1، 1423 هـ.

• حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد، دار السلام، ط 1، 1322 هـ.

• حاشية السندي على سنن ابن ماجه، الناشر: دار الجيل - بيروت، بدون طبعة.

• حافظ بن أحمد الحكمي، حياته وآثاره، لسعود السيف، بحث متمم للماجستير من قسم الدعوة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إشراف: الدكتور يوسف أبو هلالة، عام 1406 هـ.

• الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، للدكتور سعيد القحطاني، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1423 هـ.

• الحكمة، للدكتور: ناصر العمر، الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات.

• حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، دار السعادة مصر، 1394 هـ.

• حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني، دار السعادة مصر، 1394 هـ.

• الخراسانية في شرح عقيدة الرازيين، لعبد العزيز الطريفي، مكتبة دار المنهاج الرياض، ط 1، 1437 هـ.

• الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام، لناصر العقل، دار إشبيليا الرياض، ط 1، 1419 هـ.

• الخوف والرجاء في الكتاب والسنة، رسالة ماجستير، للباحث: عبد الرحمن سليمان علي الشمسان، إشراف: الدكتور عبد المحسن بن حمد العباد، الجامعة

ص: 756

الإسلامية، عام 1411 هـ.

• الدر الفريد وبيت القصيد، لابن أيدمر، ت: الدكتور كامل سلمان الجبوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1436 هـ.

• الدر المنثور، للسيوطي، دار الفكر بيروت.

• درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، ت: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، ط 2، 1411 هـ.

• الدرر السنية في الأجوبة النجدية، لمجموعة من علماء الدعوة، جمع عبد الرحمن بن قاسم، ط 6، 1416 هـ.

• الدرر الكامنة، لابن حجر العسقلاني، ت: محمد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية الهند، ط 2، 1392 هـ.

• الذخيرة للقرافي، ت: محمد حجي وآخرين، دار الغرب الإسلامي بيروت، ط 1، 1994 م. الأمنية في إدراك النية، للقرافي، دار الكتب العلمية بيروت.

• الذريعة الى مكارم الشريعة، للراغب الأصفهاني، ت: د. أبو اليزيد العجمي، دار السلام القاهرة، ط 1428 هـ.

• ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي، ت: د عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان - الرياض، ط 1، 1425 هـ.

• الرائد دروس في التربية والدعوة، لمازن الفريح، دار الأندلس الخضراء، جدة، ط 2، 1427 هـ.

• ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، للزمخشري، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1412 هـ.

• الرد الوافر، لابن ناصر الدين، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت، ط 1، 1393 هـ.

• الرد على الجهمية والزنادقة للأمام أحمد، ت: صبري بن سلامة شاهين، دار الثبات، ط 1.

ص: 757

• الرد على الجهمية والزنادقة، للأمام أحمد، ت: صبري بن سلامة شاهين، دار الثبات، ط 1.

• الرسالة القشيرية، للقشيري، ت: د. عبد الحليم محمود، د. محمود بن الشريف، دار المعارف القاهرة.

• الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول)، لعبد الله بن صالح العثيمين، من مطبوعات عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 2، 1420 هـ.

• الرضا عن الله بقضائه، لابن أبي الدنيا، ت: ضياء الحسن السلفي، الدار السلفية بومباي، ط 1، 1410 هـ.

• رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر، ت: د. علي محمد عمر، مكتبة الخانجي مصر، ط 1، 1418 هـ.

• الروح، لابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت.

• روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، لابن حبان، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت.

• روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1403 هـ.

• روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لابن قدامة المقدسي، مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، 1423 هـ.

• رياض الصالحين، للنووي، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 3، 1419 هـ.

• زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، ت: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي بيروت، ط 1، 1422 هـ.

ص: 758

• زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، مؤسسة الرسالة بيروت، مكتبة المنار الكويت، ط 27، 1415 هـ.

• الزهد الكبير، للبيهقي، ت: عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، ط 3، 1996 م.

• الزهد والورع والعبادة، لابن تيمية، ت: حماد سلامة ومحمد عويضة، مكتبة المنار الأردن، ط 1، 1407 هـ.

• الزهد، لهناد بن السري، ت: عبد الرحمن الفريوائي، دار الخلفاء الكويت، ط 1، 1406 هـ.

• الزهد، لوكيع، ت: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار المدينة المنورة، ط 1، 1404 هـ.

• الزهد، لابن أبي الدنيا، دار ابن كثير دمشق، ط 1، 1420 هـ.

• الزهد، للإمام أحمد، وضع حواشيه: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1420 هـ.

• زوائد ابن ماجه للبوصيري، ت: محمد الكشناوي، دار العربية بيروت، ط 2، 1403 هـ.

• سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1.

• سلسلة الأحاديث الضعيفة، للألباني، دار المعارف، الرياض الممكلة العربية السعودية، ط 1، 1412 هـ.

• السنة، للخلال، ت: د. عطية الزهراني، دار الراية الرياض، ط 1، 1410 هـ.

• سنن ابن ماجه، ت: شعيب الأرناؤوط، دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ.

• سنن ابن ماجه، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي.

ص: 759

• سنن ابن ماجه، طبعة مكتبة المعارف، الرياض، اعتنى به مشهور آل سلمان، ط 1.

• سنن أبي داود، ت: شعيب الأرناؤوط، دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ.

• سنن أبي داود، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا بيروت.

• سنن أبي داود، ت: مستو، دار ابن كثير، دمشق، ط 2، 1410 هـ.

• سنن أبي داود، طبعة مكتبة المعارف، الرياض، اعتنى به مشهور آل سلمان، ط 1.

• السنن الاجتماعية في القرآن الكريم، للدكتور: محمد أمحزون، دار طيبة الرياض، ط 1، 1432 هـ.

• السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، للدكتور: عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1، 1413 هـ.

• سنن الترمذي في سننه ت: أحمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة (جـ 4، 5)، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، ط 2، 1395 هـ.

• سنن الترمذي، طبعة مكتبة المعارف، الرياض، اعتنى به مشهور آل سلمان، ط 1.

• سنن الدارمي، رسالة عباد الشامي، ت: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1412 هـ.

• السنن الكبرى، للبيهقي، ت: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 1424 هـ.

• السنن الكبرى، للنسائي، ت: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، قدم له: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1، 1421 هـ.

ص: 760

• سنن النسائي، ت: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط 2، 1406 هـ.

• سنن النسائي، طبعة مكتبة المعارف، الرياض، اعتنى به مشهور آل سلمان، ط 1.

• سير أعلام النبلاء، للذهبي، ت: مجموعة من المحققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1405 هـ.

• سيرة ابن هشام، لعبد الملك بن هشام الحميري المعافري، ت: مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ الشلبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط 2، 1375 هـ.

• شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، ت: محمود الأرناؤوط، وخرج أحاديثه عبد القادر الأرناؤوط، دار ابن كثير دمشق بيروت، ط 1، 1406 هـ.

• شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، ت: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة السعودية، ط 8، 1423 هـ.

• شرح الاصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار، ت: الدكتور عبد الكريم عثمان، مكتبة القاهرة، ط 3، 1416 هـ.

• شرح الرسالة التدمرية، للدكتور محمد الخميس، دار أطلس الخضراء، طبعة 1425 هـ.

• شرح الزرقاني على الموطأ، ت: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الثقافة القاهرة، ط 1، 1424 هـ.

• شرح الزركشي على مختصر الخرقي، دار العبيكان، ط 1، 1413 هـ.

• شرح السنة للبربهاري، ت: خالد الردادي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، ط 1، 1414 هـ.

• شرح السنة، لأبي محمد الفراء البغوي، ت: شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي دمشق بيروت، ط 2، 1403 هـ.

ص: 761

• شرح السيوطي على مسلم، ت: أبو إسحاق الحويني، دار ابن عفان، الخبر، ط 1، 1416 هـ.

• شرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 10، 1417 هـ.

• شرح العقائد النسفية، للتفتازاني، أعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى بغداد.

• شرح النووي على مسلم، المسمى المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط 2، 1392 هـ.

• شرح ثلاثة الأصول لمحمد بن صالح العثيمين، دار الثريا، ط 4، 1424 هـ.

• الشريعة، للآجري، ت: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن الرياض السعودية، ط 2، 1420 هـ.

• شعب الإيمان، للبيهقي، ت: د. عبد العلي، مكتبة الرشد الرياض بالتعاون مع الدار السلفية بومباي، ط 1، 1423 هـ.

• شفاء العليل، لابن القيم، دار المعرفة بيروت، ط: 1398 هـ.

• الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة، لآمنة محمد نصير، دار الشروق بيروت، ط 1، 1403 هـ.

• الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، طبعة الحرس الوطني السعودية.

• الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا، ت: محمد رمضان خير يوسف، دار ابن حزم بيروت، ط 1، 1418 هـ.

• الصحاح، للجوهري، ت: أحمد عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1407 هـ.

• الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات، للشيخ ابن عثيمين، دار الوطن، ط 1426 هـ.

ص: 762

• صحيح ابن حبان، بترتيب: ابن بلبان، ت: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1408 هـ.

• صحيح ابن خزيمة، ت: د. الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط 3، 1424 هـ.

• صحيح الأدب المفرد، ت: الألباني، دار الصديق للنشر والتوزيع، ط 4، 1418 هـ.

• صحيح البخاري، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية بيروت، ط 3، 1409 هـ.

• صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري، ت: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط 1، 1422 هـ.

• صحيح الترغيب والترهيب، للألباني، مكتَبة المَعارف لِلنَشْرِ والتوزيْع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1421 هـ.

• صحيح الجامع وزيادته، للألباني، طبعة المكتب الإسلامي.

• صحيح سنن أبي داود، للألباني، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1، 1423 هـ.

• صحيح سنن النسائي، للألباني، مكتبة المعارف الرياض، ط 1، 1419 هـ.

• صحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج النيسابوري ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت.

• صحيفة الخليج الموقع الإليكتروني، ملحق استراحة الجمعة، حوار محمد رضا السيد أجراه مع الدكتور الشعالي بتاريخ 3/ 7/ 2009 م.

• صفة الصفوة، لابن الجوزي، ت: أحمد بن علي، دار الحديث القاهرة، الطبعة: 1421 هـ.

• صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرياض، ط 1، 1427 هـ.

ص: 763

• الصمت، لابن أبي الدنيا، ت: أبو إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي بيروت، ط 1، 1410 هـ.

• الصواعق المرسلة، لابن القيم، ت: علي الدخيل، دار العاصمة الرياض، ط 1، 1408 هـ.

• صيد الخاطر، لابن الجوزي، بعانية: حسن المساحي، دار القلم دمشق، ط 1، 1425 هـ.

• ضعيف الجامع الصغير، للألباني، طبعة المكتب الإسلامي أشرف على طبعه: زهير الشاويش.

• ضوابط المعرفة، لعبد الرحمن حسن الميداني، دار القلم دمشق، ط 14، 1436 هـ.

• طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، ت: محمد حامد الفقي، دار المعرفة بيروت.

• طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، ت: د. محمود الطناحي، ود. عبد الفتاح الحلو، دار هجر، ط 2، 1413 هـ.

• طبقات الشافعية، لابن قاضى شهبة، ت: د. الحافظ عبد الحليم خان، عالم الكتب بيروت، ط 1، 1407 هـ.

• طبقات الصوفية، للسلمي، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1419 هـ.

• الطبقات الكبرى، لابن سعد، ت: إحسان عباس، دار صادر، بيروت ط 1، 1968 م.

• طرح التثريب في شرح التقريب، لزين الدين العراقي وأكمله ابنه أحمد، الطبعة المصرية القديمة، وصورتها دور عدة منها: دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، ودار الفكر العربي.

• ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي، للدكتور سفر الحوالي، دار الحسن البصري، ط 1، 1438 هـ.

ص: 764

• عبد الرحمن السميط أسطورة العمل الإغاثي، لعبد العزيز سعود العويد، آفاق للنشر الكويت، ط 1، 1437 هـ.

• عدة الصابرين، لابن القيم، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، ط 3، 1409 هـ.

• العدة في أصول الفقه، لأبي يعلى، ت: د. أحمد بن علي سير المباركي، بدون ناشر، ط 2، 1410 هـ.

• العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير، للشنقيطي، ت: خالد السبت، إشراف بكر أبو زيد، دار عالم الفوائد مكة، ط 2، 1426 هـ.

• العقيدة الصحيحة وما يضادها، لابن باز، طبعة الجامعة الإسلامية، السنة السابعة العدد الثالث: المحرم 1395 هـ.

• عقيدة الصوفية وحدة الوجود الخفية، للدكتور أحمد القصير، مكتبة الرشد، ط 1، 2424 هـ.

• العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: أشرف بن عبد المقصود، أضواء السلف الرياض، ط 2، 1420 هـ.

• عقيدة أهل السنة والجماعة، للعثيمين، طبعة الجامعة الإسلامية، ط 4، 1422 هـ.

• عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، لصالح العبود، من مطبوعات عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ط 2، 1324 هـ.

• علماء نجد خلال ثمانية قرون، لعبد الله البسام، دار العاصمة الرياض، ط 2، 1419 هـ.

• العمل الإغاثي عند الدكتور عبد الرحمن السميط وأثره في قبول دعوته، إعداد: الأستاذ علي محمد الشهري، مدار الوطن، ط 1، 1437 هـ.

• عنوان المجد في تاريخ نجد، لعثمان بن بشر، ت: عبد الرحمن آل الشيخ، من

ص: 765

مطبوعات دارة الملك عبد العزيز الرياض، ط 4، 1402 هـ.

• عون المعبود، للعظيم آبادي، ومعه حاشية ابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت، ط 2، 1415 هـ.

• العين ت: د. مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.

• غريب الحديث للخطابي، ت: عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، خرج أحاديثه: عبد القيوم عبد رب النبي، دار الفكر - دمشق، 1402 هـ.

• غريب الحديث، لابن سلام، ت: د. محمد عبد المعيد خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، ط 1، 1384 هـ.

• الفتاوى، للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، ت: سليمان العمير، مجمع الفقه الإسلامي بجدة، دار عالم الفوائد، إشراف العلامة بكر أبو زيد، ط 1، 1426 هـ.

• فتح الباري لابن حجر، دار المعرفة بيروت، 1379 هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

• فتح الباري، لابن حجر، دار المعرفة بيروت، 1379 هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

• فتح الباري، لابن رجب.

• فتح الباري، لابن رجب، ت: مجموعة من المحققين، مكتبة الغرباء الأثرية المدينة النبوية، الحقوق: مكتب تحقيق دار الحرمين القاهرة، ط 1، 1417 هـ.

• فتح القدير، للشوكاني، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، ط 1، 1414 هـ.

• الفتوى الحموية الكبرى، لابن تيمية، ت: د. حمد التويجري، دار الصميعي الرياض، ط 2، 1425 هـ.

ص: 766

• الفرق بين الفرق، لأبي منصور البغدادي، دار الآفاق الجديدة بيروت، ط 2، 1977 م،.

• الفرق بين النصيحة والتعيير، لابن رجب، علق عليه وخرج أحاديثه: علي حسن علي عبد الحميد، الناشر: دار عمار، عمان، ط 2، 1409 هـ.

• الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لابن تيمية، ت: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دار البيان دمشق، عام النشر: 1405 هـ.

• الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، مكتبة الخانجي القاهرة.

• فقه السيرة للغزالي، دار القلم دمشق، خرج أحاديثه الألباني، ط 1، 1427 هـ.

• فقه النصيحة، للدكتوره: الجوهرة الطريفي، المعهد العالي للدعوة والاحتساب، جامعة الإمام، 1435 هـ.

• فقه مقاصد الدعوة إلى الله تعالى، رسالة ماجستير في قسم الدعوة والثقافة جامعة أم القرى، للطالب سعد القعود، إشراف أ. د. محمد جمعة، 1431 هـ، وقد طبعته دار أطلس الخضراء الرياض، ط 1، 1433 هـ.

• الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، ت: أبي عبد الرحمن عادل الغرازي، دار ابن الجوزي، ط 2، 1421 هـ.

• الفوائد في اختصار المقاصد، للعز بن عبد السلام، ت: إياد خالد الطباع، دار الفكر المعاصر، دار الفكر - دمشق، ط 1، 1416 هـ.

• الفوائد، لابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت، ط 2، 1393 هـ.

• فيض القدير لزين الدين المناوي القاهري، المكتبة التجارية الكبرى مصر، ط 1، 1356 هـ

• القضاء والقدر، للمحمود، مدار الوطن للنشر الرياض، ط 2، 1418 هـ.

• قواعد وضوابط فقه الدعوة عند شيخ الإسلام، لعابد الثبيتي، دار ابن الجوزي، ط 2، 1430 هـ.

• القول السديد، لابن سعدي، ت: المرتضي الزين أحمد، مجموعة التحف

ص: 767

النفائس الدولية، ط 3.

• القول المفيد على كتاب التوحيد، لابن عثيمين، دار ابن الجوزي، ط 2، 1424 هـ.

• الكامل في التاريخ لابن الاثير، ت: عمر تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1417 هـ.

• الكامل في التاريخ، لابن الأثير، ت: تدمري، دار الكتاب العربي بيروت، ط 1، 1417 هـ.

• كتاب الاعتقاد، لابن أبي يعلى، ت: محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار أطلس الخضراء، ط 1، 1423 هـ.

• كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين، لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ت: بشير عيون، مكتبة المؤيد الطائف، مكتبة دار البيان دمشق، ط 1، 1411 هـ.

• كتاب التوحيد، لمحمد بن عبد الوهاب، ت: عبد العزيز السعيد، من مطبوعات جامعة الإمام بالرياض.

• كشف الظنون، لحاجي خليفة، مكتبة المثنى، بغداد، ط 1941 م.

• الكليات، للكفوي، ت: عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة.

• اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير، دار صادر بيروت.

• لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط 3، 1413 هـ.

• لوامع الأنوار البهية، للسفاريني، مؤسسة الخافقين ومكتبتها دمشق، ط 2، 1402 هـ.

• الماتريدية دراسة وتقويمًا، لأحمد بن عوض الله الحربي، دار العاصمة، ط 1، 1413 هـ.

• متن الطحاوية، بتعليق الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، ط 2، 1414 هـ.

• متن الطحاوية، للإمام الطحاوي، ت: الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت،

ص: 768

ط 2، 1414 هـ.

• مثير الوجد، لراشد بن علي بن جريس، ت: أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، ط 2، 1419 هـ.

• المجالسة وجواهر العلم، لأبي بكر الدينوري، ت: أبو عبيدة آل سلمان، دار ابن حزم، بيروت، 1419 هـ.

• مجلة الكوثر العدد: 178 مقال: تمنيت لو أن عندنا خمسة من السميط للدكتور جاسم المطوع.

المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، جـ 1، 2، 3: 1416 هـ، جـ 4، 5: 1412 هـ، جـ 6: 1393 هـ.

• مجمع الزوائد، للهيثمي، ت: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ،

• مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جمع: عبد الرحمن بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416 هـ.

• مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، جمع وترتيب: فهد بن ناصر السليمان، دار الوطن، ط 1413 هـ.

• محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا، ت: المستعصم بالله أبي هريرة مصطفى بن علي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1406 هـ.

• المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية، ت: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1422 هـ.

• المحن، لأبي العرب المغربي،، ت: الدكتور: عمر سليمان العقيلي، وطبع الكتاب عدة طبعات منها: بدار العلوم الرياض السعودية، الطبعة: الأولى، 1404 هـ.

• مختصر منهاج القاصدين، لأبي العباس، أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة

ص: 769

المقدسي، قدم له: الأستاذ محمد أحمد دهمان، مكتبة دار البيان، دمشق، ط 1398 هـ.

• المخصص، لابن سيده، ت: خليل جفال، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط 1، 1417 هـ.

• مدارج السالكين، لابن القيم، ت: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي بيروت، ط 3، 1416 هـ.

• المدخل إلى علم الدعوة، للدكتور محمد البيانوني، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1435 هـ.

• مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، لسبط ابن الجوزي، لمجموعة من المحققين، دار الرسالة العالمية دمشق، ط 1، 1434 هـ.

• مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع المسالك والممالك للبكري.

• مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعلي القاري، دار الفكر، بيروت ط 1، 1422 هـ. تحفة الأحوذي، للمباركفوري، دار الكتب العلمية بيروت.

• المزهر في علوم اللغة وأنواعها، للسيوطي، ت: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1418 هـ.

• مستدرك الحاكم، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1411 هـ.

• المستدرك على مجموع الفتاوى، لابن تيمية، وهو مجموع مستدرك زيادة على مجموع الفتاوى، يقع في خمسة مجلدات، جمعه ورتبه وطبعه على نفقته: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، ط 1، 1418 هـ.

• المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية.

• مسند أبي يعلى الموصلي، ت: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث دمشق، ط 1، 1404 هـ.

ص: 770

• مسند أحمد، ت: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرين، إشراف: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 هـ.

• مشاهير علماء نجد وغيرهم، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، إشراف دار اليمامة الرياض، ط 1، 1392 هـ،

• مصطلحات المذاهب الفقهية وأسرار الفقه المرموز، لمريم محمد صالح الظفيري، دار ابن حزم، ط 1، 1422 هـ.

• مصنف ابن أبي شيبة، ت: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد الرياض، ط 1، 1409 هـ.

معارج القبول بشرح سلم الوصول، لحافظ الحكمي، ت: عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم الدمام، ط 1، 1410 هـ.

• المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، لمحمد بن محمد حسن شُراب، دار القلم الشامية بيروت، دمشق، ط 1، 1411 هـ.

• معالم السنن، للخطابي، المطبعة العلمية حلب، ط 1، 1351 هـ.

• معجم الأدباء، لياقوت الحموي، ت: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1414 هـ.

• المعجم الاشتقاقي المؤصل للدكتور محمد حسن جبل، مكتبة الآداب القاهرة، ط 1، 2010 م.

• المعجم الأوسط، للطبراني، ت: طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين القاهرة.

• معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار صادر بيروت، ط 2، 1995 م.

• المعجم الجغرافي عالية نجد، لسعد بن عبد الله بن جنيدل، من مطبوعات دار اليمامة الرياض.

• معجم الشيوخ الكبير، للذهبي، ت: محمد الهيلة، مكتبة الصديق الطائف، ط 1، 1408 هـ.

ص: 771

• المعجم الصغير، للطبراني، ت: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار بيروت، عمان، ط 1، 1405 هـ.

• المعجم الكبير، للطبراني، ت: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية القاهرة، ط 2، ويشمل القطعة التي نشرها لاحقا المحقق الشيخ حمدي السلفي من المجلد 13، دار الصميعي الرياض، ط 1، 1415 هـ.

• معجم اللغة العربية المعاصرة، للدكتور أحمد مختار عبد الحميد ومعه فريق عمل، عالم الكتب، ط 1، 1429 هـ.

• المعجم المختص بالمحدثين، للذهبي، ت: د. محمد الهيلة، مكتبة الصديق الطائف، ط 1، 1408 هـ.

• معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، لعاتق البلادي، دار مكة للنشر مكة، ط 1، 1402 هـ.

• معجم المؤلفين، لعمر كحالة، مكتبة المثنى بيروت، دار إحياء التراث العربي بيروت.

• المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة لإبراهيم مصطفى وآخرين، دار الدعوة.

• معجم اليمامة، لعبد الله بن خميس، طبع على نفقة صاحب السمو الملكي سلطان بن عبد العزيز، ط 1، 1398 هـ.

• معجم لغة الفقهاء، لمحمد قلعجي وقنيبي، دار النفائس، ط 2، 1408 هـ.

• معجم معالم الحجاز، لعاتق البلادي، دار مكة للنشر والتوزيع مكة المكرمة، ط 2، 1431 هـ.

• المعلم بفوائد مسلم، للمازري، ت: محمد الشاذلي النيفر، الدار التونسية والمؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر، ط 2، 1988 م.

• المعية الإلهية في ضوء القرآن الكريم معانيها ودلالاتها، للدكتور ناصر الماجد، بحث منشور في مجلة الدراسات القرآنية العدد (10) 1433 هـ، وهي مجلة

ص: 772

علمية محكمة، تصدرها الجمعية السعودية للقرآن الكريم وعلومه، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

• المغني، لابن قدامة المقدسي، مكتبة القاهرة، ط: عام 1388 هـ.

• مفتاح دار السعادة، لابن القيم، دار الكتب العلمية بيروت.

• المفردات، للراغب الأصفهاني، ت: صفوان الداودي، دار القلم، دمشق، بيروت، ط 1، 1412 هـ.

• المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، لأبي العباس القرطبي، ت: محيي الدين مستو وآخرون، دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب، دمشق بيروت، ط 1، 1417 هـ.

• مفهوم الحكمة في الدعوة، د. صالح بن عبد الله بن حميد، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1422 هـ.

• المفيد في مهمات التوحيد، د. عبد القادر صوفي، دار الأعلام، ط 1، 1422 هـ.

• مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل أو مختصر رعاية المحاسبي، للعز بن عبد السلام، ت: إياد خالد الطباع، دار الفكر - دمشق، ط 1، 1416 هـ.

• مقال بعنوان عبد الرحمن بن محمد بن دايل ممن قالوا عنه -أي: عن الشيخ ابن باز- على موقع الشيخ على الشبكة.

• مقال بعنوان: ترجمة الشيخ صالح العبود حفظه الله على موقع الآجري على الشبكة.

• مقال بعنوان: عبد الرحمن السميط (فاتح القلوب) ليوسف محمد الكندري في مجلة الكوثر عدد 178، شوال - ذو القعدة 1435 هـ.

• مقال في صحيفة الجزيرة العدد 14860 بعنوان: ابن شقراء د. محمد بن سعد بن شويعر على موقعها على الشبكة،

ص: 773

• مقال في صحيفة الرياض العدد 15787 بعنوان: ورحل صاحب ابن باز على موقعها على الشبكة.

• مقال في صحيفة الرياض عدد 13906 على موقعها على الشبكة بعنوان: موضي بنت أبي وهطان الكثيري.

• مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، ت: نعيم زرزور، المكتبة العصرية، ط 1.

• مقالة على موقع صحيفة الجزيرة على الشبكة عدد (16190) بعنوان: حريملاء مدينة العلم والعلماء.

• مقاييس اللغة، لابن فارس، ت: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1399 هـ.

• الملل والنحل، للشهرستاني، مؤسسة الحلبي.

• مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ت: د. عبد الله التركي، دار هجر، ط 2، 1409 هـ.

• منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، ط 1، 1406 هـ.

• منهج ابن الجوزي في الدعوة، للدكتور عبد الرحيم المغذوي، من مطبوعات الجامعة الإسلامية ط 1، 1431 هـ.

• منهج ابن تيمية المعرفي، د. عبد الله الدعجاني، من مطبوعات تكوين للدراسات والأبحاث، ط 1، 1435 هـ.

• منهج الإسلام في تزكية النفس وأثره في الدعوة إلى الله تعالى، رسالة دكتوراه، للباحث: أنس أحمد كرزون، إشراف: الدكتور أحمد أبو السعادات، جامعة أم القرى، عام 1415 هـ.

• منهج الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله في الدعوة إلى الله تعالى، إعداد: محمد بن خالد البداح، رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراة من جامعة الإمام.

ص: 774

• منهج التيسير المعاصر، لعبد الله الطويل، دار الهدي النبوي مصر، ط 1، 1426 هـ.

• منهج الجدل والمناظرة، لعثمان علي حسن، مكتبة الرشد الرياض، ط 1، 1436 هـ.

• منهج السلف في الوعظ، لأبي يزيد سليمان العربي، مكتبة دار المنهاج، ط 1، 1431 هـ.

• منهج المباركفوري في كتابه تحفة الأحوذي، رسالة علمية من إعداد الطالب: عبد الله بن رفدان الشهراني، إشراف الدكتور: محمد سعيد البخاري، جامعة أم القرى 1418 هـ.

• منهج محمد بن عبد الوهاب في التفسير، لمسعد الحسيني، من مطبوعات الجامعة الإسلامية.

• الموافقات، للشاطبي، ت: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1، 1417 هـ.

• المواقف، للإيجي، ت: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل بيروت، ط 1، 1977 م.

• مؤسسة أعمال الموسوعة الرياض، ط 2، 1419 هـ.

الموسوعة الحرة على الشبكة.

• الموسوعة الحرة على الشبكة، وموقع الشيخ صالح آل الشيخ على الشبكة.

• الموسوعة الفقهية الكويتية، صادر عن وزارة الأوقاف الكويتية، ط 1404 - 1427 هـ.

• الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، للندوة العالمية للشباب الإسلامي، إشراف د. مانع الجهني، من مطبوعات دار الندوة العالمية، ط 4، 1420 هـ.

• الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة، جمع وإعداد: وليد بن أحمد الحسين الزبيري، إياد بن عبد اللطيف القيسي، مصطفى بن

ص: 775

قحطان الحبيب، بشير بن جواد القيسي، عماد بن محمد البغدادي، مجلة الحكمة، مانشستر، بريطانيا، الطبعة: الأولى، 1424 هـ.

• موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية، للمغرواي، المكتبة الإسلامية القاهرة والنبلاء للكتاب مراكش، ط 1.

• موقع إسلام ويب على الشبكة.

• الموقع الرسمي لسماحة الشيخ الإمام ابن باز على الشبكة.

• الموقع الرسمي للدكتور جاسم المطوع على الشبكة.

• موقع جمعية العون المباشر على الشبكة.

• موقع مؤسسة الشيخ ابن باز الخيرية، ديوانية الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله الثقافية الشهرية.

• موقف ابن تيمية من الأشاعرة، للدكتور عبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد الرياض، ط 1، 1451 هـ.

• موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة، للدكتور سليمان الغصن، دار العاصمة الرياض، ط 2، 1433 هـ.

الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، تمت طبعاته جـ 1، 2، 3: 1416 هـ، جـ 4، 5: 1412 هـ، جـ 6: 1393 هـ.

• نبذة في العقيدة الإسلامية، لابن عثيمين، دار الثقة مكة، ط 1، 1412 هـ.

• نبذة مختصرة عن السيرة الذاتية لفضيلة العلامة الشيخ بكر عبد الله أبو زيد على موقع صيد الفوائد على الشبكة، موقع الموسوعة الحرة على الشبكة.

• نزهة النظر، لابن حجر العسقلاني، ت: عتر، مطبعة الصباح، دمشق، ط 3، 1423 هـ،.

• نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، لعدد من المختصين بإشراف إمام الحرم المكي صالح بن حميد، دار الوسيلة جدة، ط 4.

ص: 776

• نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام، لسارة بنت عبد المحسن آل سعود، دار المنارة جدة، ط 1، 1411 هـ.

• نفح الطيب، للتلمساني، ت: إحسان عباس، دار صادر بيروت.

• النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، ت: طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية بيروت، 1399 هـ.

• النور السافر عن أخبار القرن العاشر، لمحيي الدين العيدروس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ.

• نيل الابتهاج بتطريز الديباج، لأحمد بابا بن أحمد التكروري التنبكتي السوداني، عناية وتقديم: الدكتور عبد الحميد عبد الله الهرامة، دار الكاتب، طرابلس ليبيا، ط 2، 2000 م.

• الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم، ت: سيد إبراهيم، دار الحديث القاهرة، ط 3، 1999 م.

• الوافي بالوفيات، للصفدي، ت: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث بيروت، 1420 هـ.

• الورع لأحمد رواية المروذي، ت: سمير الزهيري، دار الصميعي الرياض، ط 1، 1418 هـ.

• الورع، لابن أبي الدنيا، ت: أبي عبد الله محمد الحمود، الدار السلفية الكويت، ط 1، 1408 هـ.

• وفيات الأعيان، لابن خلكان، ت: إحسان عباس، دار صادر بيروت، ط 19، 1971، 1994 م.

• اليقين في الاعتقاد حقيقته ونواقضه، رسالة ماجستير، للباحث: عبد الله بن علي بن عبد الله الرشيد، إشراف: أ. د. سعود بن عبد العزيز العريفي، جامعة أم القرى.

ص: 777