المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجوب التوسط في الإنفاق - دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - جـ ٢٩

[محمد الحسن الددو الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌الوسطية في الإسلام

- ‌كمال الإسلام وعدم قبوله للزيادة والنقص

- ‌العبادة لمصلحة العابد

- ‌الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف

- ‌بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي

- ‌وجوب الاعتدال في الأمر كله

- ‌خطورة الغلو في الدين

- ‌براءة الدين من التكلف

- ‌النقص والتقصير في جانب الاعتقاد يؤدي إلى التفريط في أمور كثيرة

- ‌خطورة التسامح والمحاباة على حساب الدين

- ‌وجوب إعطاء كل ذي حق حقه

- ‌الاجتهاد الزائد في العبادة شر وضلال

- ‌يبتلى المبالغون في العبادة باحتقار المنهج المستقيم

- ‌يبتلى المبالغون في العبادة بالابتداع

- ‌يبتلى المبالغون في العبادة بالغرور

- ‌يبتلى المبالغون في العبادة بقولهم بوحدة الوجود وترك العمل

- ‌التفريط سبب لسوء الخاتمة

- ‌التقصير في العبادة رضا بالدون ودناءة في الهمة

- ‌التقصير في العبادة غلظ في الطبع وجفاء

- ‌التقصير في السنن خلل يتعدى إلى الفرض

- ‌وجوب لزوم المنهج الوسطي في العبادة وهو المنهج النبوي

- ‌وجوب التوسط في جمع المال

- ‌البلايا التي يصاب بها المفرطون في أمر الدنيا

- ‌التقصير في جمع الدنيا ليس منهجاً نبوياً ولا فعله السلف

- ‌البلايا التي يصاب بها المبالغون في جمع الدنيا

- ‌وجوب التوسط في الإنفاق

- ‌الوسطية في الخلق

- ‌شر الجمع بين الإفراط والتفريط في جانب الخلق

- ‌وجوب التوسط في معاملة النساء

الفصل: ‌وجوب التوسط في الإنفاق

‌وجوب التوسط في الإنفاق

جانب آخر من هذه الجوانب يتعلق بالمال، فهذا الدين دين وسط بين الإفراط والتفريط، وقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، فالذين يسرفون هم المفرطون الذين يبالغون في إنفاق المال فيضعونه في غير محله الشرعي وكأنه ملك لهم يتصرفون فيه حيث شاءوا وكيف شاءوا، والواقع أنه أمانة عندهم من الله سبحانه وتعالى استخلفهم فيها لينظر كيف يعملون.

ولهذا أدب الله رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا المنهج القويم، فقال:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]، فلابد أن يكون الإنسان متوسطاً في الصرف، وألا يكون مسرفاً وألا يكون مقصراً، فالحد الوسط هو المنهج الصحيح وهو الاعتدال في هذا الباب، الذين يفرطون في جانب الإنفاق يسرفون فيبالغون في الإنفاق، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو في أمور الآخرة، فيتجاوزون الحد المرضي شرعاً، ففي أمور الآخرة ينفقون أكثر مما حدده الشارع ويريدون بذلك المبالغة فيرجعون إلى الحد الذي ذكرناه في الإفراط في العبادة.

ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أنفق جذاذ نخله جميعاً في يوم واحد، غضب عليه غضباً شديداً، وعندما سمع أن رجلاً من الأنصار -وكان عليه دين- قد دبر ستة أعبُد، فعندما توفي جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد هذا التصرف وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وجعل له الثلث فقط.

وقد كان كثيراً ما يرد التصرفات في هذا الجانب إذا كان فيها غلو ومبالغة، فقد قال لـ كعب بن مالك عندما بشره بأن الله قد تاب عليه:(يا كعب بن مالك! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: يا رسول الله! أمن عند الله أم من عندك؟ فقال: بل من عند الله، فقلت: يا رسول الله! إن من تمام توبتي أن أخرج من مالي كله في سبيل الله، فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك).

وكذلك عندما جاء يعود سعد بن أبي وقاص في حجة الوداع وهو مريض قال: (قلت له: يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا بنية لي، أفأتصدق بمالي كله في سبيل الله؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثيه؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: فالثلث والثلث كثير -وفي رواية: كبير- إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، فقلت: يا رسول الله! أأخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليه حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك، وعسى الله أن ينفع بك أقواماً ويضر بك آخرين)، فكان سعد آخر العشرة موتاً، وورثه اثنا عشر ولداً من أولاده لصلبه.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من أولئك المبالغة في الإنفاق، وفي المقابل قد يقبل من بعض الناس ذلك؛ لعلمه بقوة إيمانه واستقامته على المنهج كـ أبي بكر، فقد خرج من ماله كله في سبيل الله وقبل ذلك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما جعل الله في قلبه من الإيمان والقناعة؛ ولأنه مكتسب عارف بأمور التجارات أيضاً؛ ولأنه -قطعاً- سيؤدي حقوق عياله ولا يمكن أن يظلمهم حقاً لهم، فلذلك قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أما من سواه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم ولا يقبل منهم هذا النوع من المبالغات.

وكذلك فإن الذي يبالغ في السرف فيما يتعلق بأمور الدنيا لابد أن يكون من المبذرين وهم إخوان الشياطين، وهذا النسب من شر الأنساب، نسأل الله السلامة والعافية.

وقد بين الله سبحانه وتعالى ضرر التبذير وأثره العظيم، وبين أنه سبحانه وتعالى لا يحب المسرفين، ولذلك قال العلامة محمد مولود بن أحمد رحمه الله: والسرف السرف إن السرفا عنه نهى الله تعالى وكفى ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف فيكفي في كف كفك عن الإسراف أن الله لا يحب المسرفين، فالسرف في أمور الدنيا يقتضي من الإنسان أن تكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه وأن يحبها حباً شديداً فهو يتتبع موضاتها ويشتغل بها غاية الاشتغال، فكلما ازداد حطبها ازداد لهبها، ويزداد الإنسان ولوعاً بها ويتعلق قلبه بها حتى يؤثرها على الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، وقد قال الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وقال تعالى:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19].

كذلك في المقابل التقصير في مجال الإنفاق مقتضٍ للبخل، وأن لا يؤدي الإنسان الحقوق التي عليه، فالذي يمنع رفده ويأكل وحده ويضرب عبده شر الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(شر الناس من منع رفده وأكل وحده وضرب عبده).

قوله: (من منع رفده) معناه: منع الماعون ولم يعط خيره للآخرين، فلم ينفعهم مما آتاه الله، فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن ننفق مما آتانا فقال:{امِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وهذا يشمل الإنفاق على النفس، والأهل، والجيران، والإنفاق في أمور الدنيا، والإنفاق في أمور الدين، وتركه من التقصير والتقتير وهما مذمومان شرعاً.

فالمقترون مقصرون عن أداء الحقوق وهم متصفون بصفة البخل التي هي شر الصفات، والذي يتصف بها ويصاب بالشح لابد أن يبتلى بنقص الإيمان وتراجعه دائماً، ولذلك قال الله تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فالشحيح لا يفلح أبداً، فلذلك لابد من التوسط في هذا المنهج بين المبالغة بالإنفاق وبين التقتير والتقصير.

ص: 26