المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علاج العجب والرياء والوسوسة - دروس للشيخ محمد المختار الشنقيطي - جـ ٤٥

[محمد بن محمد المختار الشنقيطي]

الفصل: ‌علاج العجب والرياء والوسوسة

‌علاج العجب والرياء والوسوسة

‌السؤال

هناك مجموعة من الأسئلة عن الرياء والعجب، وسائل يعاني من الوسوسة في الرياء، وسائل يسأل: عن معنى قول الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: إن الرجل ليعمل العمل أمام الملأ من الناس وهو أخلص ما يكون، ويعمل العمل في خفاء عن أعين الناس وهو من أقبح الرياء؟

‌الجواب

هنا قضيتان وردت في السؤال: القضية الأولى: قضية العجب، والقضية الثانية: قضية الرياء في العمل الصالح.

أما قضية العجب فهو: شعور من النفس يجعل الإنسان مدلياً على ربه -والعياذ بالله- كأنه يعتقد أنه استوجب الطاعة على الله، وأنه ذاك الرجل الذي قد بلغ ما بلغ من طاعة الله ومرضاة الله بحوله وقوته، نسأل السلامة والعافية.

العُجب من أعظم البلايا وأشد الرزايا، وقد يكون الإنسان من أصلح خلق الله قولاً وعملاً، ولكنه عند الله في سفال بسبب عجبه بعمله، وقد يكون العبد من أقل الناس عملاً، ولكن عنده شعور بالتقصير، وعنده ندم في حق العلي الكبير، ومحبة لأن يكون مكملاً لذلك النقص، وإذا به يرفعه الله بهذا الشعور إلى أعلى الدرجات، إن الندم الذي يصحب التقصير نعمة من الله عز وجل، وإن كان المفروض أن الإنسان يشحذ نفسه إلى الكمال.

لكن المقصود: أن الإنسان قد يغتر بكثرة الصلاح والعمل، وقد بين الله تعالى ذلك حينما قص لنا خبر ذلك الذي عجب بصلاحه وقوله، فأورده الله عز وجل الموارد، وكانت نهايته خسارة الدنيا والآخرة، يقول تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176] انظر ماذا كانت النهاية، النهاية أن جعل بمثابة الكلب -والعياذ بالله- لا يحفظ الخير لربه.

فلذلك يبكى على هذا العبد، أعطاه الله عز وجل ما أعطاه، وبلغه ما بلغه وآتاه، فأدلى على الله بعمله، وكان في عجب من صلاحه حتى تأبى على الرسالة حينما عرضت عليه أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت أرجو أن أكون ذلك الرجل، فعجب بنفسه؛ فأورده الله السفال -والعياذ بالله- كان آتاه الله عز وجل من آياته ما أعطاه، فكانت كلماته عجيبة في التذكير بالله عز وجل، ثم كانت الخاتمة -والعياذ بالله- خاتمة سوء، بماذا؟ بسبب الغرور والعجب.

ولذلك مواضع عديدة ذكر الله عز وجل فيها خاتمة الذين كفروا وقرنها بالغرور، فلذلك الإنسان الصالح الموفق يجاهد نفسه في ترك الغرور، إذا دخل الغرور للداعية أفسد الله دعوته، وإذا دخل الغرور لتالي القرآن حبطت قراءته وذهب أجره، وإذا دخل الغرور للإمام هلك في أمانته، وإذا دخل الغرور للشاب الصالح تلف في صلاحه، الغرور لا يدخل في شيء إلا أهلكه، قال بعض السلف: والله ما دخلت مجلساً وأنا أرى نفسي أحقر القوم إلا رفعني الله فكنت أعلاهم، ولا دخلت مجلساً أرى نفسي أعلى القوم إلا جعلني الله أسفلهم.

ولذلك كان من سما ت السلف الصالح رحمهم الله أنهم ما كانوا يغترون، ولذلك تقرأ في قصصهم وتراجمهم، فتجد أن من أبرز الصفات التواضع واحتقارهم لأنفسهم، كان إبراهيم النخعي هو المرجع في الفتوى في الكوفة، ذلك الإمام الجليل والعابد الصالح، وكان آية في الفقه والفهم، ومع ذلك كان لا يجلس تحت سارية في مجلس بعينها خوف الغرور والشهرة، كان يخاف أن يجلس تحت سارية حتى لا يقصده الناس في ذلك الموضع رحمه الله، وهو إمام جليل ذو قدم راسخة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، حتى أثر عنه أنه مكث ثلاثين سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام رحمة الله عليه، ومع ذلك يحتقر نفسه هذا الاحتقار.

كان سفيان الثوري رحمه الله وهو من أئمة السلف والمحدثين الأجلاء، إذا جلس في المجلس وهو إمام وأي إمام، صلاح وديانة واستقامة وعفة، كان إذا جلس في المجلس ضم ركبة إلى ركبة، وأدلى بعينيه بين ركبتيه أو على ركبتيه، كأنه من الجلاس فيجلس في أطراف المجلس؛ من التواضع واحتقار النفس.

من كمال الرجل وصلاحه إذا ازداد من الخير لا يغتر بل ينزل إلى الناس.

إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خير تواضع وانحنى كريم الأصل، من كثرة الخير الموجود فيه يتواضع للناس ولا يغتر، ما يريد من الناس أن تقوم له وتقعد وتبجله، ويأخذ الدنيا كلها سمعةً ورياء، لا، ما يريد هذا، يريد فقط مرضاة الله عز وجل، ثم تجده يتدلى للناس مثل غصن الشجرة إذا جاء الثمر فيه ماذا يفعل؟ كلما ثقلت الثمرة ماذا يفعل الغصن؟ ينزل، وصف الله الجنة فقال:{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:23].

فلذلك هكذا أهل الخير والصلاح، إذا كنت على صلاح واستقامة تواضعت للناس، الشاب الصالح الذي أصلح الله قوله وعمله ليس عنده غرور لا في القول ولا في العمل، إذا جئت قلت له: الناس يفعلون الجرائم وكذا.

يقول لك: أنا المجرم، المسيء، المقصر في جنب الله عز وجل.

ما يقول: فعل الله بهم وفعل، يغتر بنفسه، تقول له: الناس.

يقول: دع الناس، أين أنا وأنت من رحمة الله عز وجل؟ أين أنا وأنت من طاعة الله؟ ويتهم نفسه بالتقصير، هذا شأن أهل الصلاح والفلاح -ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم- فلذلك من طريق الكمال وطريق أهل الكمال احتقار النفس حتى تسمو إلى درجات الرضا.

الأمر الثاني الذي ورد في السؤال: الرياء: وهو لا يأتي إلا بسبب ضعف الإيمان، والله تعالى أشار إلى أن الرياء من صفات أهل النفاق، وجعل من علامة النجاة منه تحقيق التوبة بثلاثة أمور: فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145 - 146] إذاً تابوا وأصلحوا، الذي هو تحقيق التوبة، فأصبحا بمثابة الشرط الواحد، واعتصموا بالله فأصبح معاذاً لهم وملاذاً، وأخلصوا دينهم لله.

إذاً كيف ينجو الإنسان من الرياء؟ بهذه الأمور: التوبة من الرياء، وإصلاح العمل، بعد أن كان يرائي يصبح ما يرائي؛ لأنه من دلائل التوبة الصادقة، واعتصموا -الاعتصام بالله- والمراد بذلك: الاعتصام بكتاب الله، فيقدم ويؤخر الرجل وفق تقديم القرآن وتأخيره، ثم الأمر الأخير: وأخلصوا دينهم لله، فيرجع إلى الإخلاص، إخلاص الديانة والعبودية لله، فالرياء بلاء من الله تبارك وتعالى يبتلى به العبد، وسببه -كما قال العلماء-: ضعف الإيمان، ولذلك يجعل الله عز وجل في ضد أهل النفاق أهل الإيمان، ولما ذكر الله توبة المنافقين قال:{فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146].

ولذلك بعض المفسرين يأتي بعبارة لطيفة يقول: فأولئك مع المؤمنين، ولم يقل الله تعالى: في المؤمنين؛ لأن تحقيق النجاة من الرياء أمر من الصعوبة بمكان، فقال: مع المؤمنين، ولم يقل: في المؤمنين، ثم قال:{وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:146] ما قال: وسوف نؤتيهم أجراً عظيماً، وهذه نكات لطيفة في القرآن أشار إليها الإمام القرطبي وغيره في تفسيره.

المقصود: أن الإنسان إذا أراد أن ينجو من الرياء، ينظر أولاً: ما سبب الرياء؟ الرياء ما يمكن أن يدخل القلب إلا إذا ضعف فيه الإيمان، فالجاهل بربه هو الذي يرائي، ولذلك عظم عنده الشيطان، ومحبة رؤية بني الإنسان له في طاعته وذكره وشكره، وهان عليه ألا ينظر الله إليه -نسأل الله السلامة والعافية- ما عرف الله عز وجل، لو عرف من هو الله الذي يتعبده كان بكل قلبه يتمنى فقط أنه يقف بالطاعة وليس أن يرائي في الطاعة.

فذلك أول طريق للعلاج من الرياء: الإيمان، أن تتعرف على الله عز وجل، ولذلك جرب، سبحان الله! إذا قرأت شيئاً من صفات الله عز وجل الواردة في القرآن أحببت الله، وأحببت أن تعمل العمل بينك وبين الله، ولذلك من دلائل النجاة من الرياء: أن تجد العبد أحب ما يكون إليه أن يكون العمل بينه وبين الله، لا ترمقه عين، ولا تسمع به أذن، بل بعضهم يتمنى ذلك، ويفرون من رؤية ومعرفة الناس، كل ذلك خشية الفتنة.

وهذا هو شأن السلف الصالح رحمهم الله، إن كانوا علماء عجبت لفرارهم من الرياء، حتى إن الواحد يدخل بين الناس كواحد منهم.

عبد الله بن المبارك رحمه الله لما أراد أن يستقي من البئر قال له أحد تلامذته: نسقيك يا إمام! فقال: رويداً هلم بنا ندخل مع الناس.

فدخل مع الناس، هذا ضربه، وهذا أصاب من ثوبه ما أصاب من طشاش الطين، فتغيرت ثيابه، وتغير لونه من الزحام، فلما خرج قال له تلميذه: قد كنا نكفيك المئونة، أي: هلاّ تركتنا نكفيك المئونة؟ قال: ما طاب لنا العيش إلا بهذا، دخلنا مع الناس وخرجنا مع الناس.

أي: كواحد من الناس.

فهذه من دلائل أهل الصلاح، والله إذا دخل الصلاح إلى القلب تمنى الواحد أنه في عافية من أن يراه أحد، العبد الصالح شأنه عجيب، والله تعالى وصفه بذلك فقال:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا} [القصص:83] لمن يا رب؟ {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83] فالعلو هو شأن أهل الرياء، يحبون أن يرتفعوا إلى الأنظار، ويكسبوا تمجيد، وثناء، ومدح الناس، يريد أن يكون ذلك الرجل الذي يشار إليه بالبنان، ولكن العبد الصالح لا يريد هذا.

والله إنه يبلغ بالعبد في الإخلاص أنه يكره أن الناس تعرفه، ويمقت ذلك، ويحاول أن يتهرب منه، بل إنني أذكر بعض العلماء رحمة الله عليهم ذات مرة في موقف من المواقف حصلت قضية فبكى وكان في مجلسه وكان مع بعض الطلاب وكنت معهم، فقيل له: ما هذا؟ قال: هذا من البلاء الذي بليت به، أصبحت معروفاً بين الناس، يا ليت أن الناس ما عرفوني.

هذه فتنة، هذا بلاء، وجلس ي

ص: 4