الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناس جميعاً يبحثون عن السعادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في الجنة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله؛ الإسلام وسعادة البشرية، هذا هو عنوان لقائنا معكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا سريعاً، فسوف أركز الحديث معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الناس جميعاً يبحثون عن السعادة.
ثانياً: الإسلام وسعادة البشرية.
ثالثاً: السعادة الحقيقية وأسبابها.
فأعرني قلبك وسمعك -أيها الحبيب المبارك- وأسأل الله جل وعلا بدايةً أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أيها الأحبة الكرام: الناس جميعاً يبحثون عن السعادة، غايةٌ يتفق فيها الخلق، الكافر والمؤمن، هذا وإن كان الكافر يبحث عن سعادة الدنيا فحسب؛ فإن المؤمن يبحث عن سعادة الدنيا والآخرة، لكنك لو سألت أي إنسان على ظهر هذه الأرض: لمَ فعلت كذا؟ ولمَ قلت كذا؟ ولمَ سافرت إلى البلد الفلاني؟ لأجابك على الفور بقوله: أبحث عن السعادة، سواء قالها بحروفها أم بمعناها.
إن البحث عن السعادة غاية يتفق فيها الخلق جميعاً، لكن ليس كل باحث عن السعادة يدرك طريقها، فكم من أناس يريدون أن ينقبوا عن الماء وسط النيران، وعن السعادة وسط الركام، فليس كل باحث عن السعادة يدرك طريقها، فهناك من الناس من يظن أن السعادة الحقيقية في جمع المال، وبداية فأنا لا أريد البتة أن أقلل من شأن المال أبداً، إذ أني أعلم يقيناً أن المال عصب هذه الحياة، وأعلم أن أموال المسلمين في بنوك الشرق والغرب هي التي تحرك الآن -بلا منازع- دفة السياسة العالمية، فأنا لا أقلل من شأن المال، بل ما أكرم المال إذا ما حركته أيدي الصالحين والشرفاء! ما أعظمه من نعمة إذا ما عرف الإنسان الغاية من وجود هذا المال، ونظر إلى المال فعلم علم اليقين أن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، فقال: هكذا وهكذا يبذل هذا المال لمرضاة الله عز وجل، وتذكر دائماً قول القائل:
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
ما أخذ شيئاً معه، فما أكرم المال إذا ما عرف الإنسان الغاية من وجوده، وعلم علم اليقين أن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، فاستغل هذه النعمة في وجوده وحياته لمرضاة الرب جل وعلا، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، وفيه قال: إنما الدنيا لأربعة نفر -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أول هؤلاء- فقال: ومنهم رجل أو عبد آتاه الله مالاً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل) أي: عند الله جل وعلا، فما أكرم المال إذا ما عرف الإنسان الغاية منه، واستغله في حياته ووجوده في طاعة الله.
لكنني أقول بملء فمي أيها الخيار الكرام: ليس كل صاحب مال سعيداً، بل قد يكون المال سبباً من أسباب السعادة، وقد يكون المال سبباً من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، وها هو القرآن بين أيدينا نقرؤه في الليل والنهار، لكنه يحتاج إلى تدبر وتفكر، لقد ذكر الله جل وعلا لنا مثلاً في كتابه، يبين لنا فيه أن المال ما كان ولن يكون هو السبب الأوحد للسعادة، إنها قصة رجل آتاه الله من الأموال ما عجز العصبة من أولي القوة أن يحملوا مفاتيح خزائنه، إنها قصة قارون، الذي نظر إليه قطاع عريض من الناس وقالوا على لسان رجل واحد:{إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] فماذا كانت النتيجة يوم أن ذكر بفضل الله جل وعلا فما تذكر وما تدبر، وإنما قال قولة خبيثة يرددها الناس في كل زمان ومكان وإن اختلفت الألفاظ:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] إنه فن الإدارة، فماذا كانت النتيجة؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
وهناك من الأحبة من يحلو له أن نذكره بمثل من الواقع المعاصر، وها هي قصة عجيبة -أيها الإخوة- لعل البعض منكم قد تابع فصولها العجيبة، ألا وهي قصة: كرستينا أونتس، ابنة الملياردير أونتس، الذي يملك المليارات والجزر والأساطيل والأموال الضخمة، ولما توفي هذا الرجل ورثت هذه البنت مع زوجة أبيها هذه التركة الضخمة، ونظر العالم كله إلى هذه الفتاة الصغيرة على أنها قد حصلت السعادة من كل أطرافها، بل ودخلت قصر السعادة من أبوابه ونوافذه، فما هي الحقيقة؟ تزوجت هذه الفتاة برجل أمريكي عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقها أو طلقته، ثم تزوجت بعد ذلك برجل يوناني عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقها أو طلقته، ثم تزوجت للمرة الثالثة برجل شيوعي، فتعجب الناس! كيف تلتقي قمة الرأسمالية بـ الشيوعية والنظريتان لا مجال للالتقاء بينهما البتة؟! وفي مؤتمر صحفي اقترب منها أحد الصحفيين وقال: كيف قبلت الزواج من رجل شيوعي؟ فقالت بالحرف الواحد: أبحث عن السعادة، ثم عاشت معه فترة قصيرة وطلقها أو طلقته، وتزوجت للمرة الرابعة برجل فرنسي، وفي عرس زواجها أو حفل زواجها اقتربت منها صحفية وقالت: هل أنتِ أغنى امرأة في العالم؟ فردت: نعم، أنا أغنى امرأة، ولكني أشقى امرأة.
هذا هو المال ما حصل لها السعادة، فكم من أصحاب الأموال لا يشعرون بلذة السعادة، ولا يشعرون بطعمها، فليس كل صاحب مال سعيداً، فقد يكون المال سبباً من أسباب السعادة إذا اتقى الإنسان ربه وعرف الغاية من هذا المال، وأنفقه في مرضاة الكبير المتعال، وعلم يقيناً أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وقد يكون المال سبباً من أسباب الشقاء في الدنيا بل والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل السعادة.
وهناك من الناس -أيها الخيار الكرام- من يعتقد أن السعادة الحقيقية في منصبٍ يجلس عليه أو يجلس فيه، وقد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، إذا نظر صاحب المنصب إلى المنصب على أنه أمانة، فاتقى فيه ربه جل وعلا، وتدبر دوماً قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر يوم أن انطلق ليطلب منه المسئولية والأمانة فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على كتف أبي ذر وقال:(يا أبا ذر! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) والحديث رواه مسلم، فمن نظر إلى المنصب على أنه أمانة، وراقب الله جل وعلا بالليل والنهار، سعد بمنصبه في الدنيا بل والآخرة.
ورضي الله عن عمر بن الخطاب الذي نظر إليه عثمان بن عفان يوماً من الأيام، في وقت تكاد حرارة الشمس أن تذيب الحديد والصخور والحجارة، وينظر عثمان من شرفة من شرفات بيته، فرأى رجلاً في وقتٍ شديد الحر يجري في الصحراء فقال:[من هذا الرجل الذي خرج في هذا الوقت القائظ؟! فاقترب منه فإذا به أمير المؤمنين، إنه عمر، وينادي عثمان: يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الوقت الشديد الحر؟ فقال عمر -الذي عرف قدر هذه الأمانة-: بعير من إبل الصدقة قد ندّ يا عثمان، وأخشى عليه الضياع، وأخشى أن أسأل عنه بين يدي الله يوم القيامة، فقال عثمان: فتعال إلى الظل وإلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك بالبحث عن هذا البعير، فنظر إليه عمر الفاروق رضي الله عنه، وقال: عد إلى ظلك ومائك البارد، يا عثمان! أأنت ستحمل عني وزري أمام الله يوم القيامة، فقال عثمان قولته الخالدة: والله لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر].
إنها الأمانة أيها الأحبة! فلو نظر الإنسان إلى وظيفته وإن صغرت على أنها أمانة؛ فيسر للناس مصالحهم، وذلل العقبات، ويسر الأسباب، وفتح للناس الأبواب، وفك ضيق المعسر، واستغل هذا المنصب لمرضاة