الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علاقة حياة الأرواح بحياة الأجساد
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإنه من كمال عقل الإنسان أن يعمل لمستقبله، وأن يفكر فيما هو مقدم عليه؛ لأنه يرى كل ما في هذا الكون يتغير وينتقل من حال إلى حال، يرى نفسه ولد من أبيه وأمه ضعيفاً عاجزاً لا يفقه أو يعلم شيئاً، كما قال الله عز وجل:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، ثم نما بعد ذلك وكبر، وأعطاه الله عز وجل العقل والأيدي والأرجل والأبصار والشهوات والرغبات، ثم هو ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الشباب، ثم إلى الرجولة، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم يرى نفسه بعد ذلك فجأة قد انتقل عن هذه الحياة ودفن تحت الثرى كما يرى كل يوم عشرات من الناس ينتقلون عن هذه الحياة، وقد كانوا بالأمس أحد الذين يأكلون ويشربون ويتنفسون ويعيشون وسط أهليهم، ثم صاروا وحدهم في قبورهم خلوا بالشقاوة أو السعادة ولا يوجد معهم أحد، أهلوهم يتلقون العزاء في السرادقات أو في البيوت على حسب التزامهم بالكتاب والسنة.
والمقصود: أن كل من دفن فهو متروك في قبره وحيداً، وأهله رغم حبهم الشديد له، ورغم معزته عندهم إلا أنهم تركوه وحده، ولا يملكون غير ذلك، وليس لهم إلا أن يستمروا في الحياة بدونه؛ فنحن نولد قهراً ونموت قهراً، نولد بلا استشارة منا، ونموت أيضاً بلا استشارة منا، والذي يتأمل مدة الحياة على ظهر الأرض بالنسبة إلى ما مضى وإلى ما سيأتي، وبالنسبة إلى مدة حياته في القبر، وما بعد ذلك من البعث والنشور؛ يعلم أن أقل مدة يعيشها الإنسان هي حياته على وجه الأرض.
الإنسان خلقت روحه قبل جسده، كما قال سبحانه وتعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
مسح الله ظهر آدم بيده فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها، ونثرهم وكلمهم فقال:((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))، أي: استنطق هذه الأرواح قبل أن توجد الأجساد، بعد أن خلق أبيهم آدم، وكم مرت من السنين بين تلك اللحظة وبين لحظة ميلادنا! مئات الآلاف من السنين ونحن لا ندرك ذلك، ليس لأن هذا لم يقع ولم يحدث، بل لأنه لم يكن عندنا الآلة التي نستذكر بها ذلك، كما أن كل واحد منا كان جنيناً في بطن أمه، فهل تتذكر وأنت تتحرك في بطن أمك؟ وهل تتذكر صراخك وأنت طفل ولماذا كنت تصرخ؟ ما الذي كان يؤلمك وعمرك بضعة أيام أو أسابيع أو شهور؟ وما الذي كنت تبتسم له؟! أنت لا تتذكر ذلك، مع أنك متأكد من أن هذا قد حدث، وأنك كنت تبكي، وتبتسم وتضحك عندما كانوا يلاعبونك، كما أنك تشاهد كل الأطفال يفعلون ذلك.
أليس في جسمك أثر جرح أصابك وأنت صغير ثم أنت لا تذكره على الإطلاق؟ كل ذلك قد حدث ولكن العقل الإنساني في تلك المرحلة ليس عنده قدرة لاستيعاب تلك الأحداث.
كما أن كل واحد منا لا يتذكر مرحلة النطفة والحيوان المنوي الذي كان يجري بحثاً عن البويضة، فكل واحد منا كان في يوم من الأيام حيواناً منوياً وبويضة، والحيوان المنوي هذا كان وسط مائة مليون حيوان منوي، وكان بويضة لا ترى إلا بالميكروسكوب، وهذا الحيوان المنوي يتسابق مع هذه الملايين الأخرى، ولو سبق حيوان منوي آخر لوجدت احتمالات أخرى تماماً، وكان المولود له شكل وجنس وصفات ثانية، فهل تتذكر ذلك؟ بالقطع لا، فالإنسان عقله لا يستوعب تلك اللحظات، وليس في عقله ما يستوعب تلك اللحظات، فبالأولى ما كان قبل ذلك، فلماذا لا نشعر بهذه المدة الطويلة بين خلق الأرواح إلى ميلاد كل واحد منا؟ لم يكن هناك أجسام أصلاً، كنا ماء وتراباً، كل واحد منا كان طيناً وماء، ثم تحول بالتدريج إلى أن صار هذا الإنسان، ولا يتذكر شيئاً على الإطلاق مما قد حدث له خلال هذه المدة، ولا أين كانت روحه في مستقر الأرواح عند الله سبحانه وتعالى، حتى أذن الله أن تنفخ هذه الروح في هذا الجسد، فبدأت تحيا في بطن أمك ثم ولدت ثم كبرت، ثم تأتي مرحلة أخرى عندما تفارق الروح الجسد مرة أخرى، ويرحل الإنسان عن هذه الحياة، وتبدأ مرحلة جديدة من ملايين أو مئات الآلاف من السنين على الأقل.
والآن يقول العجوز لك: عمري سبعون سنة، وهذا يعني أنه في أواخر العمر، ومن كان في الأربعين يكون قد مضى من عمره أكثر مما بقي، والموت لا يعرف تاريخاً محدداً، فيموت الصغير ويموت الكبير، يموت الطفل ويموت الشيخ، والكل جازم بهذه النهاية، وما من يقين مثل الموت، وكل إنسان مؤمن وكافر مقر بذلك، ولا يوجد إنسان خلد في هذه الحياة.