الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دفاع عن الحديث النبوي والسيرة
تأليف الشيخ المحدث العلامة
محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله
كلمة بين يدي الرسالة
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد فبين يديك أيها القارئ الكريم بحوث علمية حديثية في نقد كتاب (فقه السيرة) للدكتور محمد سعيد البوطي الأستاذ في كلية الشريعة في جامعة دمشق كان وضعه لطلاب السنة الثانية في الكلية وكنت نشرت هذا النقد في مجلة التمدن الإسلامي الغراء بحوثا متتابعة رجوت منها أن يجد الطلاب وغيرهم فيها (نموذجا صالحا للنقد العلمي النزيه القائم على البحث والالتزام للقواعد العلمية الصحيحة عسى أن يزيدهم ذلك عناية بدراسة الحديث الشريف دراسة علمية وبذلك يحيون ما كاد يندرس من هذا العلم العظيم بسبب اقتصار المدرسين والأساتذة على تدريسه دراسة نظرية محضة وإصدارهم على أساسها تأليفاتهم التي يؤلفونها لطلابهم أو لغيرهم غير مراعين فيها أبسط تلك القواعد العلمية من اختيار النصوص الصحيحة والأحاديث الثابتة من المصادر الموثوقة والمراجع المعتمدة مع العزو إليها وتخريجها تخريجا علميا دقيقا فترى أحدهم - وهو أستاذ هذه المادة: الحديث - يورد حديثا نبويا أو خبرا متعلقا بسيرته عليه الصلاة والسلام أو أخلاقه يقول في تخريجه: (رواه أبو داود) أو (رواه ابن هشام في (السيرة) وهو يظن أنه بذلك قد أدى الأمانة العلمية المطوقة في عنقه وأنه نصح لطلابه هيهات هيهات فإن التزام المنهج العلمي المشار إليه في الدراسة الحديثية يوجب عليه قبل هذا التخريج المقتضب أن يدرس إسناد ذلك الحديث أو الخبر ويتتبع رجاله ويتعرف علله وأقوال أهل الاختصاص
[أ]
فيه ثم يحكم عليه بما تقتضيه هذه الدراسة من صحة أو ضعف ثم يقدم خلاصتها إلى طلابه مع التخريج المذكور وإلا فمثل هذا التخريج المبتور الذي جرى عليه الأستاذ المشار إليه مما لا يعجز عنه أحد من الطلاب أنفسهم إن شاء الله تعالى)
ذلك ما كنت كتبته في مقدمة رسالتي (نقد نصوص حديثية في الثقافة العامة)
(1)
للشيخ محمد منتصر الكتاني وهو ينطبق على الدكتور البوطي تمام الانطباق بل إن هذا زاد على الشيخ فادعى لكتابه (فقه السيرة) من الصحة ما ليس له كما كنت أشرت إلى ذلك في التعليق على المقدمة المذكورة فقلت ما نصه:
(ثم وقفت على كتاب (فقه السيرة) للأستاذ الفاضل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي فرأيته نحا فيه نحو الأستاذ الكتاني فأورد فيه كثيرا من الأحاديث الضعيفة والمنكرة بل وما لا أصل له البتة ولكنه زاد عليه فنص في المقدمة أنه اعتمد فيه على ما صح من الأحاديث والأخبار ولكن دراستي للكتاب بينت أنها دعوى مجردة وأن جل اعتماده كان على كتاب فضيلة الشيخ محمد الغزالي: (فقه السيرة) الذي لم يقتصر الدكتور على أن يأخذ اسمه فقط بل زاد عليه فاستفاد منه كثيرا من بحوثه ونصوصه بل وعناوينه كما استفاد من تخريجي إياه المطبوع معه مع اختصار له مخل ليستر بذلك ما قد فعل وقد انتقدني في ثلاث مواطن منه تمنيت - يشهد الله - أن يكون مصيبا ولو في واحد منها ولكنه على العكس من ذلك فقد كشف بذلك كله أن هذه الشهادات العالية وما يسمونه ب (الدكتوراه) لا تعطي لصاحبها علما وتحقيقا وأدبا وإني لأرجو أن تتاح لي الفرصة لأتمكن من بيان هذا الإجمال والله المستعان)
(1) نشرت أولا في مجلة التمدن الإسلامي الغراء (مجلد 33 و 34) ثم أفردت في رسالة وذلك قبل عشر سنين
[ب]
ثم أتيحت لي الفرصة فبينت الإجمال المشار إليه في هذه الرسالة التي يعود الفضل الأول في نشرها للسادة القائمين على مجلة التمدن الإسلامي الغراء وبخاصة منهم الأستاذ أحمد مظهر العظمة شفاه الله وقواه فقد نشرت فيها تباعا في مقالات متسلسلة من العدد (7 - مجلد 42 - 2 - مجلد 44) ثم أفردتها في هذه الرسالة ليعم النفع بها ويطلع عليها من لم يتمكن من متابعتها في المجلة الغراء
هذا وقد نمي إلي أن بعض الأساتذة رأى في ردي هذا على الدكتور شيئا من الشدة والقسوة في بعض الأحيان مما لا يعهدون مثله في سائر كتاباتي وردودي العلمية وتمنوا أنه لو كان ردا علميا محضا
فأقول: إنني أعتقد اعتقادا جازما أنني لم أفعل إلا ما يجوز لي شرعا وأنه لا سبيل لمنصف إلى انتقادنا كيف والله عز وجل يقول في كتابه الكريم في وصف عباده المؤمنين: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون
…
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين
…
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل
…
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم
…
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} فإن كل من يتتبع ما يكتبه الدكتور البوطي في كتبه ورسائله ويتحدث به في خطبه ومجالسه يجده لا يفتأ يتهجم فيها على السلفيين عامة وعلي من دونهم خاصة ويشهر بهم بين العامة والغوغاء ويرميهم بالجهل والضلال وبالتبله والجنون ويلقبهم ب (السلفيين) و (السخفيين) وليس هذا فقط بل هو يحاول أن يثير الحكام ضدهم برميه إياهم بأنهم عملاء للاستعمار. إلى غير ذلك من الأكاذيب والترهات التي سجلها عليه الأستاذ محمد عيد عباسي في كتابه القيم (بدعة التعصب المذهبي)(ص 274 - 300) وغيرها داعما ذلك بذكر الكتاب والصفحة التي جاءت فيها هذه الأكاذيب
ومن طاماته وافتراءاته قوله في (فقه السيرة)(ص 354 - الطبعة الثالثة) بعد أن نبزهم بلقب الوهابية: (ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله
[ج]
صلى الله عليه وسلم وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته) . وهذا كأنه اجترار من الدكتور لفرية ذلك المتعصب الجائر: (إن هؤلاء الوهابيين تتقزز نفوسهم أو تشمئز حينما يذكر اسم محمد صلى الله عليه وسلم
والدكتور حين يلفظ هذه الفرية يتذكر أن الواقع - الذي هو على علم به - يكذبها فإن السلفيين وأمثالهم بفضل الله تعالى - من بين المسلمين جميعا - شعارهم اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون سواه وهو الدليل القاطع على حبهم الخالص له الذي لازمه حبهم لله عز وجل كما قال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} . ولعلم الدكتور بهذا الفضل الإلهي على السلفيين حمله حقده عليهم أن يحاول إبطال دلالة الآية المذكورة على ما سلف بل وعلى تضليل السلفيين مجددا لفهمهم إياها هذا الفهم الواضح وأنها تعني أن الاتباع دليل المحبة وأنها لا تنفك عنه فقال (ص 195 - الطبعة الثالثة) : (ولقد ضل قوم حسبوا أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لها معنى إلا الاتباع والاقتداء وفاتهم أن الاقتداء لا يأتي إلا بوازع ودافع ولن تجد من وازع يحمل على الاتباع إلا المحبة القلبية. . .)
وأقول: إن الذي ضل إنما هو الذي يناقض نفسه بنفسه من جهة فأول كلامه ينقض آخره لأنه إذا كان لا يحمل على الاتباع إلا المحبة القلبية وهو كذلك وهو الذي نعتقده ونعمل به فكيف يتفق هذا مع أول كلامه الصريح في أن المحبة لها معنى غير الاتباع؟ ولو كان الأمر كذلك وثبت الدكتور عليه لأبطل دلالة الآية والعياذ بالله تعالى
ومن جهة أخرى فقد افترى علينا بقوله: (وفاتهم أن الاقتداء. . .) الخ
فلم يفتنا ذلك مطلقا بحمد الله بل نعلم علم اليقين أنه كلما ازداد المسلم اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ازداد حبا له وأنه كلما ازداد حبا له ازداد اتباعا له صلى الله عليه وسلم فهما أمران
[د]
متلازمان كالإيمان والعمل الصالح تماما
فهذا الحب الصادق المقرون بالاتباع الخالص للنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أراد الدكتور أن ينفيه عن السلفيين بفريته السابقة فالله تعالى حسيبه {وكفى بالله حسيبا}
ذلك قليل من كثير من افتراءات الدكتور البوطي وترهاته الذي أشفق عليه ذلك البعض أن قسونا عليه أحيانا في الرد ولعله قد تبين لهم أننا كنا معذورين في ذلك وأننا لم نستوف حقنا منه بعد {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ولكن لن نستطيع الاستيفاء لأن الافتراء لا يجوز مقابلته بمثله وكل الذي صنعته أنني بينت جهله في هذا العلم وتطفله عليه ومخالفته للعلماء وافتراءه عليهم وعلى الأبرياء بصورة رهيبة لا تكاد تصدق فمن شاء أن يأخذ فكرة سريعة عن ذلك فليرجع إلى فهرس الرسالة هذه ير العجب العجاب
هذا وهناك سبب أقوى استوجب القسوة المذكورة في الرد ينبغي على ذلك البعض المشفق على الدكتور أن يدركه ألا وهو جلالة الموضوع وخطورته الذي خاض فيه الدكتور بغير علم مع التبجح والادعاء الفارغ الذي لم يسبق إليه فصحح أحاديث وأخبارا كثيرة لم يقل بصحتها أحد وضعف أحاديث أخرى تعصبا للمذهب وهي ثابتة عند أهل العلم بهذا الفن والمشرب مع جهله التام بمصطلح الحديث وتراجم رواته وإعراضه عن الاستفادة من أهل العلم العارفين به ففتح بذلك بابا خطيرا أمام الجهال وأهل الأهواء أن يصححوا من الأحاديث ما شاءوا ويضعفوا ما أرادوا (ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)
وسبحان الله العظيم إن الدكتور ما يفتأ يتهم السلفيين في جملة ما يتهمهم به بأنهم يجتهدون في الفقه وإن لم يكونوا أهلا لذلك فإذا به يقع فيما هو شر مما اتهمهم به تحقيقا منه للأثر السائر: (من حفر بئرا لأخيه وقع فيه) أم أن
[هـ]
الدكتور يرى أن الاجتهاد في علم الحديث من غير المجتهد بل من جاهل يجوز وإن كان هذا العلم يقوم عليه الفقه كله أو جله
من أجل ذلك فإني أرى من الواجب على أولئك المشفقين على الدكتور أن ينصحوه (والدين النصيحة) بأن يتراجع عن كل جهالاته وافتراءاته وأن يمسك قلمه ولسانه عن الخوض في مثلها مرة أخرى عملا بقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل: كيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره) . أخرجه البخاري من حديث أنس ومسلم من حديث جابر وهو مخرج في (الإرواء)(2515)
فإن استجاب الدكتور فذلك ما نرجو و (عفا الله عما سلف) وإن كانت الأخرى فلا يلومن إلا نفسه والعاقبة للمتقين وصدق الله العظيم إذ يقول: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
…
يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}
وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
دمشق في 27 جمادى الآخرة سنة 1397 هـ
محمد ناصر الدين الألباني
[و]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد:
فهذه تعليقات سريعة على أحاديث كتاب (فقه السيرة) تأليف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في جزأين طبع دار الفكر الحديث في لبنان. قال في المقدمة: (وبعد فهذه أبحاث في فقه السيرة النبوية كنت ألقيتها محاضرات على طلاب السنة الأولى - والثانية - بكلية الشريعة في جامعة دمشق)
أقول: لقد كان من أقوى الحوافز على دراسة هذا الكتاب - مع ضيق الوقت - وضعف الرغبة في قراءة مؤلفات المعاصرين - أنني رأيت مؤلفه الفاضل يقول في مقدمة الجزء الثاني منه (ص 3) : (ولقد سلكت فيه الطريقة التي سلكتها في الجزء الأول فأفردت أبحاث السيرة على شكل نصوص اعتمدت فيها أولا على صحاح السنة ثانيا على ما صح من أخبار السيرة في كتبها وأهم ما اعتمدت عليه من ذلك سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد)
فلما قرأت هذا استبشرت خيرا وقلت في نفسي: إذا صدق الخبر الخبر فلا شك أن الدكتور بكتابه هذا يكون قد طرق بابا جديدا من التأليف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو اختيار الروايات التي صحت فيها من كتب الحديث والسيرة ولازمه الإعراض عن ذكر ما لم يصح منها على طريقة علماء الحديث ونقاده
وهذا أمر هام جدا فإن ما ألف في السيرة النبوية الكريمة حتى الآن يعد بالألوف
[1]
كما قال العلامة السيد سليمان الندوي في كتابه القيم (الرسالة المحمدية)(1)(ص 65) ومع ذلك فإني لا أعلم في كل ما ألف من ذلك من نحا هذا المنحى من الاختيار الذي ذكر فضيلة الدكتور أنه سلكه في هذا الكتاب ولطالما راودتني نفسي أن أسلك هذا السبيل فأضع كتابا جامعا تحت عنوان (صحيح السيرة النبوية) على نحو ما جريت عليه في (صحيح سنن أبي داود) وغيره مما أنا في سبيله الآن ولكن الفرصة لم تسنح لي حتى هذه الساعة للقيام بمثل هذا الواجب فلما قرأت عبارة الدكتور السابقة ظننت أنه قد قام بالواجب وتحقق الرجاء
وكيف لا يكون ذلك واجبا وسيرته صلى الله عليه وسلم إنما هي (صورة للمثل الأعلى في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة كي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه ولا ريب أنه مهما بحث عن مثل أعلى في ناحية من نواحي الحياة فإنه واجد كله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعظم ما يكون الوضوح والكمال
ولذا جعله الله قدوة للإنسانية كلها فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} - الأحزاب 21) كما قال الدكتور في مقدمة كتابه (ص 7 - 8)
ولكن هل استطاع الدكتور أن يحقق الرجاء أو على الأقل أن يحصر اعتماده فيما نقله من النصوص على ما صح منها في كتب السيرة ودواوين السنة التي سماها (صحاح السنة) ؟ ذلك ما أريد أن أبسط الكلام فيه الآن في هذه العجالة راجيا المولى سبحانه وتعالى أن يسدد خطانا ويلهمنا الصواب والإخلاص في أقوالنا وأفعالنا
1 -
لقد استرعى انتباهي قوله تحت عنوان (مصادر السيرة النبوية)(1 / 11) :
(1) وهي ثماني محاضرات في السيرة النبوية ورسالة الإسلام كان ألقاها في جامعة مدارس الهند وهي ذات فوائد هامة تدل على غزارة علم المؤلف رحمه الله تعالى وجزاه خيرا
[2]
2 -
السنة النبوية الصحيحة:
وهي ما تضمنتها كتب أئمة الحديث المعروفين بصدقهم وأمانتهم كالكتب الستة وموطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد (1)
فأقول: إن ما تضمنته الكتب المذكورة وغيرها - باستثناء الصحيحين - ليس كل ما فيها من الحديث صحيحا. بل منه الصحيح والحسن والضعيف وفي بعضها الموضوع أيضا كما هو معلوم عند أهل العلم بالحديث الشريف ويأتي قريبا ذكر بعض النصوص المؤيدة لذلك مما ذكروه في (علم مصطلح الحديث) وعلى ذلك فقول الدكتور في السنة الصحيحة: (هي ما تضمنته كتب أئمة الحديث) تعميم غير صحيح ولقد وددت أن أقول: لعله سبق قلم منه وأنه لم يرد هذا العموم الظاهر منه والمعروف بطلانه بداهة وددت ذلك ولكني لم أجد في كلماته الأخرى وفي المنهج الذي جرى عليه عمليا ما يساعدني على ذلك فقد سبق قوله وهو يتحدث عن طريقته في الكتاب: (اعتمدت فيها على صحاح السنة) فقوله (صحاح) بصيغة الجمع بدل (الصحيحين والسنن الأربعة) - كما هو التعبير العلمي الصحيح - مما يشعر الباحث بأن الكتب التي تجمع الأحاديث الصحيحة فقط ليست محصورة عنده
(1) ثم تبين لي أن الدكتور البوطي قلد في هذا الكلام الدكتور السباعي رحمه الله تعالى فقد قال في كتابه (مذكرات في فقه السيرة)(ص 10) :
(تنحصر المصادر الرئيسية المعتمدة للسيرة على أربعة مصادر. . . . القرآن الكريم ثم السنة الصحيحة التي تضمنتها كتب الحديث المعترف بصدقهم والثقة بهم وهي الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه ويضاف إليها (الموطأ) للإمام مالك (ومسند الإمام أحمد) فهذه الكتب في الذروة العليا في الصحة والثقة والتحقيق أما الكتب الأخرى فقد تضمنت الصحيح والحسن وفي بعضها الضعيف أيضا)
[3]
ب (الصحيحين) من بين كتب السنة. ولا يقال أيضا: (لعله سبق قلم منه) لأنني رأيته أعاد هذا القول (صحاح السنة) في مكان آخر من كتابه (ج 1 ص 15) وهو يعني بذلك الكتب الستة بل لعله يعني معها (الموطأ) و (المسند) فقد قرنهما معها في هذه الكلمة التي نحن في صدد نقدها ومما يؤيد ذلك قوله المتقدم: (اعتمدت) فيها أولا على صحاح السنة ثانيا على ما صح من أخبار السيرة. فهذا نص منه فيما ذكر لأنه صرح بأن أخبار السيرة فيها ما لا يصح فاعتمد هو - بزعمه - على ما صح منها
ولو كانت كتب السنة عنده مثل كتب السيرة في احتوائها على ما صح وما لم يصح ما كان به حاجة إلى هذا التقسيم والتفريق: (. . . صحاح السنة)(. . . ما صح من أخبار السيرة) ولقال مثلا: (اعتمدت فيها على ما صح من كتب السنة والسيرة) فهذا التفريق منه دليل قاطع على أنه يعني ما ذكرنا من أن السنة الصحيحة ليست مختصة ب (الصحيحين) فقط بل السنن الأربعة من صحاح السنة أيضا بزعمه فهل الأمر كذلك؟ ذلك ما سأبينه قريبا ولكني بيانا للحقيقة أقول: إن الدكتور ليس هو أول من أتى بمثل هذا الإطلاق بل هو مسبوق إليه فهذا هو العلامة سليمان الندوي يقول في كتابه (الرسالة المحمدية) ص 63: (ومن الكتب المصنفة في الحديث الكتب الستة الصحاح) وهذا الإطلاق شائع في الهند جدا وسمعته كثيرا من بعض طلابها في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ومن غيرهم أيضا ثم تبعهم على ذلك فضيلة الدكتور وبنى كتابه على هذا الإطلاق فهل هو صحيح؟ والجواب: لا وهاك البيان:
إن هذا الإطلاق خطأ محض ذلك لأنه يخالف الواقع في هذه الكتب ما عدا الصحيحين كما قرره العلماء بهذا العلم في كتبهم ولقد كان له آثار خطيرة في صرف المؤلفين المحدثين عن نقد الأحاديث الواردة فيها بزعم أنها من الصحاح وهذا ما وقع فيه الدكتور نفسه فنجده يكتفي بعزو الحديث إلى بعض السنن فلا فرق عنده بين حديث رواه البخاري أو مسلم وبين آخر رواه أبو داود أو غيره من أصحاب السنن مع أن الواجب النظر في أحاديث السنن لورود
[4]
الأحاديث الضعيفة فيها قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (التقريب) : (وأما تقسيم البغوي أحاديث المصابيح إلى حسان وصحاح مريدا ب (الصحاح) ما في الصحيحين وب (الحسان) ما في السنن فليس بصواب لأن في السنن الصحيح والحسن والضعيف والمنكر)
وقال السيوطي في شرحه: (ومن أطلق عليها الصحيح كقول السلفي في الكتب الخمسة (يعني الستة ما عدا ابن ماجة) : (اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب) وكإطلاق الحاكم على الترمذي (الجامع الصحيح) وإطلاق الخطيب عليه وعلى النسائي اسم (الصحيح) فقد تساهل) قال في (ألفيته) :
يروي أبو داود أقوى ما وجد ثم الضعيف حيث غيره فقد
والنسئي من لم يكونوا اتفقوا تركا له والآخرين ألحقوا
بالخمسة ابن ماجة قيل: ومن ماز بهم فإن فيهمو وهن
تساهل الذي عليها أطلقا صحيحة والدارمي والمنتقى
ودونها مساند والمعتلي منها الذي لأحمد والحنظلي
قلت: ولا أدل على بطلان هذا التقسيم والإطلاق من كون الترمذي نفسه قد صرح في سننه بتضعيف عشرات بل مئات الأحاديث وكشف عن عللها فكيف يصح أن يوصف كتابه ب (الجامع الصحيح) أو يحكم على كل حديث فيه بأنه حسن؟ ونحو هذا يقال في سنن أبي داود وسنن النسائي فإنهما يتكلمان على بعض الأحاديث أحيانا ويضعفانها وأما ما ضعفه العلماء من أحاديث الكتابين فحدث ولا حرج والأمثلة على ذلك كثيرة جدا ومن شاء الوقوف على طائفة منها فليراجع كتبنا: (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) و (تخريج مشكاة المصابيح) وأخيرا كتابنا: (نقد نصوص حديثية للشيخ منتصر الكتاني)
وأما (الموطأ) للإمام مالك فهو مع جلالته لا يخلو من كثير من الأحاديث المرسلة والمعضلة وبعضها مما لم يوجد له أصل أصلا كحديث (إني لا أنسى ولكن
[5]
أنسى) (1) وبعضها وجد له أصل عند بعض المحدثين وفيه الصحيح والضعيف فلا بد من التحري ولذلك قال السيوطي في (التدريب ص 4) : (صرح الخطيب وغيره بأن الموطأ مقدم على كل كتاب من الجوامع والمسانيد فعلى هذا هو بعد (صحيح الحاكم)
وأحصيت ما في (موطأ مالك) وما في (حديث سفيان بن عيينة) فوجدت في كل واحد منهما من المسند خمسمائة ونيف مسندا وثلاثمائة مرسلا ونيفا وفيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسه العمل بها وفيها أحاديث ضعيفة وهاها جمهور العلماء)
قلت: وهذا هو الصواب الذي يشهد به كل عارف بهذا العلم درس أحاديث الموطأ دراسة علمية عن كثب وكل ما قد يقال على خلافه فهو مردود بشهادة الواقع والنقد العلمي الصحيح
وأما مسند الإمام أحمد فهو لغزارة مادته تكثر فيه الأحاديث الضعيفة وهذا مما لا خلاف فيه عند أهل العلم. قال الحافظ العراقي:
(وأما وجود الضعيف فيه فهو محقق بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء)
ذكره السيوطي في كتابه (ص 100) ثم نقل عن الحافظ ابن حجر أنه رد في كتابه (القول المسدد في الذب عن المسند) قول من قال بأن في المسند أحاديث موضوعة
قلت: فهذا موضع خلاف وبحث ولشيخ الإسلام ابن تيمية فيه رأي وسط لا داعي لذكره الآن والقصد بيان أن وجود الأحاديث الضعيفة في المسند أمر متفق عليه بين حفاظ الحديث وقد كشف عن ذلك كشفا عمليا دقيقا العلامة أحمد شاكر فيما علقه على المسند الجديد في طبعته رحمه الله تعالى وجزاه خيرا
(1) انظر الكلام عليه وبيان أنه معارض للأحاديث الصحيحة في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) رقم (101)
[6]
2 -
قوله: (اعتمدت فيها أولا على صحاح السنة)
أقول: سبق بيان خطأ هذا الإطلاق (صحاح السنة) على الكتب الستة والموطأ والمسند التي اعتمد عليها فضيلة الدكتور
فأريد أن أبين الآن حقيقة أخرى ظهرت لي من تتبعي لأحاديث الكتاب وهي:
إن مجموع أحاديث الكتاب بجزأيه ما عدا أحاديث (الصحيحين) أحد عشر حديثا اثنان منهما في الجزء الأول والبقية في الجزء الآخر لمالك منها حديث واحد فقط لا غير مع أنه عزاه للبخاري فهذا يغنيه عن عزوه إليه في مثل كتابه ولأحمد ثلاثة اثنان منها ضعيفان أحدهما لا وجود له عنده في مسنده مع ضعفه والبقية لأصحاب السنن منها اثنان ضعيفان أحدهما للترمذي والآخر لأبي داود فهذا العدد الضئيل بالنسبة لحجم الكتاب مع أن ثلثه ضعيف هل يستحق التقدمة له بهذا القول: (اعتمدت فيها على صحاح السنة) ؟
فإن كل من يقرأ هذا في المقدمة يتوهم أن الكتاب غني المادة من أحاديث هذه الكتب وعند التحقيق لا يجد فيها إلا هذا العدد المحدود
وأما الأحاديث الضعيفة الأربعة فهي:
الأول: قال ص 216: (وقال له بعض الصحابة: يا رسول الله ادع الله على ثقيف فقال اللهم اهد ثقيفا وأت بهم. رواه ابن سعد في (الطبقات) وأخرجه الترمذي في سننه وقد رواه ابن سعد عن عاصم الكناني عن الأشهب عن الحسن)
وعلة الحديث عنعنة أبي الزبير عند الترمذي وقد كنت خرجته في تخريج (فقه السيرة) للغزالي (ص 432 الطبعة الرابعة) فلا أعيد القول في تخريجه
ونأخذ على الدكتور في تخريجه لهذا الحديث أمورا:
[7]
أولا: عزوه لابن سعد بعد الترمذي يوهم أنه لم يخرجه من هو أعلى طبقة منه وممن اعتمدهم في كتابه وليس كذلك فقد أخرجه أحمد ولكن إسناده منقطع كما بينته في المصدر السابق
ثانيا: كان ينبغي أن يذكر في تخريجه إياه قول الترمذي فيه (حسن صحيح) لأنه أقوى لتخريجه ولعله لم يذكر ذلك اعتمادا منه على أن مجرد العزو للترمذي كاف لتصحيحه لكونه من (الصحاح) عنده نقول هذا تنبيها على الطريقة الفضلى في التخريج وإن كنت لا أوافق الترمذي على قوله هذا للعلة السابقة الذكر في إسناده
ثالثا: قوله: (رواه ابن سعد في الطبقات. . . وقد رواه ابن سعد. . .) تكرار مخل في التصنيف لا سيما وهو في التعليق الذي لا يحتمل التطويل فضلا عن التكرير
رابعا: قوله: (وقد رواه ابن سعد عن عاصم الكلابي عن الأشهب عن الحسن) . خطأ صوابه كما في أول (غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للطائف) من (طبقات ابن سعد)(2 / 159 - طبع بيروت) : وعن عمرو بن عاصم الكلابي أخبرنا أبو الأشهب أخبرنا الحسن)
خامسا: إن هذا الإسناد عند ابن سعد ليس لهذا اللفظ من الحديث بل هو بلفظ: (إن الله لم يأذن في ثقيف) . وأما لفظ الترجمة فهو عنده قبيل هذا بدون إسناد فلا فائدة حينئذ من العزو إليه
سادسا: هو باللفظ الآخر ضعيف أيضا لأنه مرسل والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث لا سيما إذا كان من مراسيل الحسن وهو البصري فقد قال فيها بعض الأئمة: (مرسلات الحسن البصري كالريح)
[8]
الحديث الثاني: قال (ص 232) : (روى الإمام أحمد وغيره أن الرجلين والثلاثة كانوا يتعاقبون على بعير واحد وأصابهم عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها. رواه ابن سعد في طبقاته 3 / 220)
قلت: فيه أولا: أن إطلاق العزو لأحمد يفيد اصطلاحا (مسنده) وهذا الحديث ليس فيه ولذلك لم يورده الهيثمي في (مجمع الزوائد) ولو كان فيه لأورده لأنه على شرطه وقال الحافظ السيوطي في (الدر المنثور)(3 / 286) : (وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في (الدلائل) عن عبد الله بن محمد بن عقيل (1) أبي طالب في قوله: {الذين اتبعوه ساعة العسرة} قال. . .) فذكره فلو كان الحديث في (مسند أحمد) لم يدع العزو إليه إلى عزوه إلى هؤلاء الذين هم دونه وإن مما يبعد كونه عنده أنه مرسل فإن ابن عقيل هذا تابعي على ضعف فيه قال الحافظ في (التقريب) : (صدوق في حديثه لين ويقال تغير بآخره من الرابعة) و (المسند) خاص بالموصول من الحديث كما هو معلوم
والدكتور قلد في هذا الإطلاق فضيلة الشيخ محمد الغزالي فهو سلفه فيه في كتابه (فقه السيرة)(ص 440) الذي لم يتورع فضيلة الدكتور من أن يطلق هذا الاسم على كتابه أيضا وقد استفاد من
(1)
الأصل: محمد بن عبد الله بن عقيل وهو خطأ صححته من (ابن سعد) وغيره
[9]
تخريجنا إياه دون أن يشير إلى ذلك كله أدنى إشارة وقد كنت بيضت لهذا الحديث حين خرجت كتاب الغزالي لأني لم أجده في (المسند) وأقول الآن:
إن الحديث أورده الحافظ ابن كثير في (البداية) فقال (5 / 9) : (قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرنا عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله: {الذين اتبعوه ساعة العسرة} قال:) فذكره ورواه ابن سعد (172 - طبع بيروت) من طريق أخرى عن معمر به
ولا يقال: فما بال الحافظ ابن كثير قد أطلق العزو أيضا؟ لأننا نقول: لما ساق الحافظ الحديث بإسناده وهو مرسل كان ذلك قرينة على أنه لا يعني (مسنده) لما سبق بيانه
ثم ساق الحافظ من طريق سعيد بن أبي هلال عن عتبة بن أبي عتبة عن نافع بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن ساعة العسرة فقال عمر: فذكره بنحوه دون الآية. وقال (إسناده جيد)
قلت: وفيه عندي نظر لأن عتبة هذا أورده الحافظ في (اللسان) وقال: (له عن عكرمة ولا يتابع عليه قاله العقيلي) ووافقه الحافظ على ذلك. لكن لعله قد وثقه ابن حبان أو توبع عليه فقد قال الهيثمي في هذا الحديث (6 / 195) :
(رواه البزار والطبراني في (الأوسط) ورجال البزار ثقات)
قلت: وفيه علة أخرى وهي ابن أبي هلال قال أحمد: كان اختلط. نعم يمكن أن يقال: إن الحديث قوي بمجموع الطريقين والله أعلم
وقد رواه ابن حبان في (صحيحه) كما في (موارد الظمآن)(1707) لكن سقط من إسناده عتبة المذكور فلينتبه
[10]
الحديث الثالث: قال (ص 259) : (وروى خبر المصالحة على الجزية (يعني مع وفد نجران) أبو داود في كتاب الخراج باب أخذ الجزية)
قلت: في إسناده أسباط بن نصر الهمداني وهو ضعيف لسوء حفظه قال الحافظ في (التقريب) : (صدوق كثير الخطأ)
ومن طريق أبي داود أخرجه الضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة مما ليس في (صحيح البخاري) و (صحيح مسلم)(58 / 187 / 1) فاقتضى التنبيه
الحديث الرابع: قال (ص 261) وقد ذكر حديث إسلام عدي بن حاتم مفصلا: (رواه ابن إسحاق والإمام أحمد والبغوي في معجمه بألفاظ متقاربة وانظر الإصابة للحافظ ابن حجر: 2 / 461)
قلت: رجعت إلى (الإصابة) فرأيته قال: (وروى أحمد والبغوي في (معجمه) وغيرهما من طريق أبي عبيدة بن حذيفة قال: كنت أحدث حديث عدي بن حاتم فقلت: هذا عدي في ناحية الكوفة فأتيته فقال. . .) قلت: فذكره بنحو سياق كتاب الدكتور وأحضر منه ثم رجعت إلى (مسند أحمد) فوجدت الحديث فيه (4 / 378 و 379) من الوجه المذكور وأبو عبيدة هذا لم يوثقه أحد غير ابن حبان وهو لين التوثيق ولذلك لم يعتمده الحافظ في (التقريب) فقال فيه: (مقبول) يعني عند المتابعة وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة ولما كان الحديث لا يعرف إلا من طريقه فهو ضعيف لا سيما وهو في (الصحيح) مختصر بغير هذا السياق كما يأتي
وأما ابن إسحاق فأورده (4 / 227 - ابن هشام) بدون إسناد فلا فائدة من عزو الدكتور إليه لأن ابن إسحاق لو ساق الحديث بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصرح بسماعه إياه من شيخه الذي رواه عنه لم
[11]
يقبل منه لأنه كان مدلسا ولذلك ترى العلماء المحققين العارفين بهذا الشأن يعللون مئات الأحاديث بعنعنة ابن إسحاق وغيره من المدلسين فكيف يقبل حديثه إذا أعضله ولم يسق إسناده؟ ولست أدري إذا كان هذا مما خفي على الدكتور أم تجاهله لضرورة التأليف فقد رأيته أكثر من مثل هذا العزو الذي لا فائدة فيه وقد مضى بعض الأمثلة منه
نعم قد أخرج البخاري في (المناقب) من (صحيحه) من طريق أخرى عن عدي آخر الحديث بنحوه والذي يتلخص من هذا الفصل أن الدكتور لم يكن الصواب حليفه حين أطلق: (صحاح السنة) على غير الصحيحين من الكتب المتقدمة وأننا أثبتنا له ضعف أربعة أحاديث من أصل أحد عشر حديثا عزاها إليها فكيف يكون الحال لو أن عددها كان بلغ المائة أو المئات؟ لا شك أن نسبة الضعف فيها سيرتفع بنسبة الزيادة فيها
وإذا كان هذا حال أحاديثه التي نقلها من (الصحاح) بزعمه فكيف يكون حال الأحاديث الأخرى التي نقلها من كتب السيرة وقد أشار إلى أن في هذه الكتب ما لا يصح وصرح أنه إنما اعتمد على ما صح من الأخبار فيها؟ ذلك ما أريد تحقيقه في الفصل التالي إن شاء الله تعالى
3 -
وقال الدكتور فيما تقدم: (ثانيا: [اعتمدت] على ما صح من أخبار السيرة في كتبها وأهم ما اعتمدت عليه من ذلك سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد)
قلت: كم كنت مغتبطا لو أن الدكتور كان صادقا في قوله هذا وقبل أن أبين ما فيه أتوجه إلى فضيلته إن سمح بالسؤال الآتي: ما هي القواعد والأصول التي استندت إليها حين حكمت بالصحة على الأخبار التي أوردتها في الكتاب؟ فإن كانت هي أصولا أنت
[12]
وحدك وضعتها واصطلحت عليها فتفضل ببيانها لننظر فيها ونبين لك بطلانها مع ما في ذلك من خروجك عن اتباع الأئمة الأمر الذي تنكر ما دونه على غيرك ممن يتبع الدليل عند اختلافهم فما بالك خالفتهم جميعا؟ وإن كانت هي القواعد المعروفة في علم الحديث الشريف فاسمح لي أن أقول لك بصراحة: إنك بين أمرين:
- إما أنك على علم بها ولكنك لم تلتزمها بل لم تلتفت إليها إطلاقا لتنظر هل تنطبق على الأخبار المشار إليها أم لا؟
- وإما أنك لا علم عندك بها أصلا واستميح القراء عذرا بهذا المصارحة لأنني تألمت على هذا العلم كل الألم أن يتعدى عليه مثل الدكتور تعديا لا أعرف له مثيلا فيما علمت عشرات الأخبار لا يمكن أن تكون صحيحة على وفق القواعد العلمية ومع ذلك يقدمها إلى الطلاب على أنها أخبار صحيحة فإلى الله المشتكى وإليك الأخبار التي عزاها إلى بعض المصادر التي ذكرها في كلمته السابقة صراحة وإشارة مما لا يصح إسناده وأما الأخبار التي أطلقها ولم يعزها إلى أحد فلم أجد فائدة كبرى في إضاعة الوقت باستقصائها وبيان ما لا يصح منها فأقول:
الخبر الأول: قال (1 / 36) : (قال عليه السلام فيما يرويه عن نفسه: (ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية يعملونه غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبينه ثم ما هممت به حتى أكرمني الله بالرسالة قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب فقال: أفعل فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس. . . ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة مثل أول ليلة ثم ما همت بعده بسوء)
[13]
رواه ابن الأثير ورواه الحاكم عن علي ابن أبي طالب وقال عنه صحيح على شرط مسلم ورواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر)
قلت: هذا الحديث ضعيف واغترار الدكتور بتصحيح الحاكم له على شرط مسلم مما يدل على أنه لا علم عنده بتساهل الحاكم في التصحيح في كتابه (المستدرك) كما هو معلوم لدى المشتغلين بهذا العلم الشريف وكتب المصطلح طافحة بالتنبيه على ذلك قال السيوطي في ألفيته:
(وكم به تساهل حتى ورد فيه مناكر وموضوع يرد)
ولذلك وضع عليه الحافظ الذهبي كتابه (التلخيص) وتعقبه في مئات الأحاديث الموضوعة التي رواها الحاكم في (المستدرك) على أنه يشايعه أحيانا على تصحيح بعض الأحاديث ويكون قد نص في بعض كتبه الأخرى على ضعفها
ولهذا الإسناد علتان شرحتهما في (تخريج فقه السيرة للغزالي)(ص 32 - 33) ونقلت هناك عن الحافظ ابن كثير أنه قال: (وهذا حديث غريب جدا وقد يكون عن علي نفسه يعني موقوفا عليه) وأما حديث الطبراني عن عمار ففيه جماعة لا يعرفون كما قال الهيثمي في (المجمع) وذكرته في (التخريج) المذكور (1) والدكتور عافانا الله تعالى وإياه قد وقف عليه ومنه لخص تخريجه للحديث إلا قوله: (رواه ابن الأثير) فهو من عنده ويعني من تاريخه وأنا أترفع عن مثل هذا العزو لأنه ليس من شيمة المحققين الاعتماد على الأخبار المرسلة والمعضلة التي ترسل إرسالا بدون إسناد لا سيما إذا كان مثل هذا الحديث الذي لا يتفق مع كماله صلى الله عليه وسلم وعصمته على الرغم مما وجهه به
(1) وأزيد هنا فأقول: إن حديث عمار مخالف لحديث علي فإن فيه: (. . . على معاديه أما أحدهما فغلبتني عيني وأما الآخر فحال بيني وبينه سامر قومي)
[14]
حضرة الدكتور (ص 39 - 40) وتأوله به فإن التأويل فرع التصحيح ونحن بحاجة أن نسد بعض الثغرات التي ينفذ منها المغرضون على اختلاف مذاهبهم بالنقد العلمي الحديثي الصحيح فإذا لم يصح الحديث فلا مبرر حينئذ للتأويل اتفاقا
الثاني: قال (1 / 60) : (ولذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول الآية: لا أشك ولا أسأل. رواه ابن كثير عن قتادة)
كذا قال الدكتور المسكين: (رواه ابن كثير) ومتى كان ابن كثير راوية؟ فإن قول المرء: رواه فلان معناه عند العلماء بإسناده ولذلك لا يجوز عندهم أن يقال: (رواه البخاري) في حديث عنده لم يسق إسناده بل يقول إشارة إلى ذلك: (رواه البخاري معلقا) ففي قول الدكتور هذا إيهام للقارئ الذي لا علم عنده بطريقة ذكر ابن كثير للحديث أنه رواه بإسناده فالصواب أن يقال: (قال ابن كثير: قال قتادة: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) . فذكره لأنه هو الذي قاله ابن كثير ولا إيهام فيه بل فيه التصريح بأن قتادة بلغه الحديث ولم يسمعه من أحد من الصحابة فهو مرسل فهو ضعيف
وقد أخرجه ابن جرير في (تفسيره)(11 / 116) من طريقين عن قتادة فهو ثابت عنه مرسلا
نعم قد روي موصولا فأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في (المختارة) عن ابن عباس رضي الله عن هما: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} : لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل. ذكره في (الدر المنثور)(3 / 317)
قلت: وهذا مع كونه يختلف بعض الشيء عن مرسل قتادة فإن في هذا إخبارا من ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل وفي المرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نفسه: (لا أشك ولا أسأل) . أقول: مع هذا الاختلاف في اللفظ فإني
[15]
لا أدري حال إسناد هذا الموصول وإن مما يؤسف له أن المصادر التي عزي الحديث إليها لا يوجد شيء منها مطبوعا ولا مخطوطا اللهم إلا (المختارة) للضياء المقدسي فيوجد منها مجلدات بخط المؤلف رحمه الله تعالى لا تزال محفوظة في المكتبة الظاهرية المحروسة وهي مرتبة على مسانيد الصحابة فرجعت إلى مسند ابن عباس منه البالغ عدد صفحاته نحو (460) فمررت عليها كلها باحثا عن هذا الحديث فلم أعثر عليه مع الأسف الشديد ولعله قد أودعه على هامش بعض الصفحات التي كان يستدرك عليها ما قد فاته ويكتبها بخط دقيق أو في بعض الورقات المستدركة والضائعة
نعم وجدت فيه (61 / 266 / 1) حديثا آخر يرويه من طريق أبي داود وهذا في (سننه)(2 / 331) بإسناد جيد عن ابن عباس من رواية أبي زميل قال: (سألت ابن عباس فقلت: ما شئ أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به قال: فقل لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك قال: ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك. . . الآية) قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئا فقل {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} ) وهذا كما ترى غير الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه وأستبعد جدا أن يكون السيوطي عناه فيما عزاه للضياء والله أعلم
الثالث: قال (1 / 97 - 98) : (وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول وفد من خارج مكة. . . وكانوا بضعة وثلاثين رجلا من نصارى الحبشة جاءوا مع جعفر بن أبي طالب. . . فنزل في حقهم قوله تعالى: {الذي آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. . .} رواه ابن إسحاق ومقاتل والطبراني عن سعيد بن جبير وانظر ابن كثير والقرطبي والنيسابوري)
[16]
قلت: هذه مراسيل كلها وليس فيها شيء مسند وابن إسحاق لما رواه في السيرة (2 / 32 - ابن هشام) علقه تعليقا ولم يذكر له إسنادا والروايات على إرسالها مختلفة أشد الاختلاف في تعيين من نزلت الآيات المذكورة في حقهم وفي عددهم كما تراه في بعض المصادر التي أمر الدكتور بالرجوع إليها مثل تفسير القرطبي (13 / 296) وخير منه في هذا (الدر المنثور) للسيوطي (5 / 131 - 133) ورواية الطبراني عن سعيد بن جبير لم يذكرها الهيثمي في (المجمع)(7 / 88) فالله أعلم بصحة هذا العزو وقد رواها ابن أبي حاتم عن سعيد كما في (الدر) وهي مع كونها مرسلة فهي مغايرة لرواية الكتاب وهذه في الحقيقة لابن إسحاق لكن عنده أن عددهم عشرون رجلا ثم إن من الغريب أن يجزم الدكتور بأن الآيات المذكورة نزلت في حق أولئك الأحباش ويعزو ذلك لابن إسحاق مع أن هذا لم يجزم بذلك فقد قال قبل قوله: (فنزل في حقهم. . .) : (ويقال: إن النفر من النصارى من أهل نجران فالله أعلم أي ذلك كان)
ثم هو لم يجزم أيضا - خلافا للدكتور - بأن الآيات نزلت فيهم فقد أتبع قوله السابق بقوله:
(فيقال - والله أعلم - فيهم نزلت هؤلاء الآيات {الذين آتيناهم الكتاب. . .} ) وهكذا ذكره ابن كثير في (تفسيره) عن ابن إسحاق
فكيف استجاز الدكتور الجزم أولا بأن الآيات نزلت في أولئك الأشخاص وليس في ذلك إسناد صحيح؟ وثانيا كيف ينسب ذلك إلى ابن إسحاق وهو قد شك في ذلك ولم يجزم؟ أهكذا يكون صنيع من يقول: (اعتمدت على ما صح من أخبار السيرة) . أفهذا وذاك وما يأتي مما صح. . يا فضيلة الدكتور؟ فإلى
[17]
الله المشتكى من هذا الجهل الفاضح بالأصل الثاني من الشرع ولا حول ولا قوة إلا بالله
الرابع: قال (1 / 101) بعد أن ذكر وفاة خديجة وعمه أبي طالب في العام العاشر من بعثته صلى الله عليه وسلم: (ولقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العام اسم (عام الحزن) لشدة ما كابد فيه من الشدائد في سبيل الدعوة)
قلت: من أي مصدر من المصادر الموثوقة أخذ الدكتور هذا الخبر وهل إسناده - إن كان له إسناد - مما تقوم به الحجة؟ فإني بعد مزيد البحث عنه لم أقف عليه وإنما أورده الشيخ الغزالي في كتابه (فقه السيرة) بدون عزو ولعل الدكتور قلده في ذلك مع أن الغزالي حفظه الله تعالى لم يدع ما ادعاه الدكتور: (أنه اعتمد على (صحاح السنة) و (على ما صح من أخبار كتب السيرة) فلا يرد عليه ما يرد على الدكتور وإن كان من المنهج العلمي الصحيح يوجب الاعتماد على ما صح من الأخبار وإلا فعلى الأقل ذكر الخبر مع المصدر الذي يمكن الباحث من التحقق منه وهذا ما يصنعه المحققون من أهل العلم بطرق التخريج والنقد مثل الحافظ ابن كثير وغيره خلافا للدكتور وأمثاله من المؤلفين النقلة القماشين الجماعين فهو مع جزمه بصحة هذا الخبر بقوله: (ولقد أطلق. . .) لا يذكر على الأقل مصدره فمن أين عرف صحته؟ إذن هذه الصحة وغيرها مجرد دعوى أو هوى من الدكتور ليس إلا
ومما يدل على ذلك أن المصدر الوحيد الذي رأيته قد أورده إنما هو القسطلاني في (المواهب اللدنية) فلم يزد على قوله: (فيما ذكره صاعد) وصاعد هذا هو ابن عبيد العجلي كما قال الزرقاني في شرحه عليه (1 / 244) فما حال صاعد هذا؟ إنه مجهول لا يعرف ولم يوثقه أحد بل أشار الحافظ إلى أنه لين الحديث إذا لم يتابع كما هو حاله في هذا الخبر على أن قول القسطلاني: (ذكره
[18]
صاعد) يشعر أنه ذكره معلقا بدون إسناد فيكون معضلا فيكون الخبر ضعيفا لا يصح حتى ولو كان صاعد معروفا بالثقة والحفظ وهيهات هيهات
الخامس: ذكر (1 / 105 - 107) قصة ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعوته لثقيف وشجهم رأسه الشريف بالحجارة ودعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. . .) وقصته مع عداس النصراني وانكباب عداس عليه صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. وذكر مصدرا لها (طبقات ابن سعد وتهذيب السيرة لابن هشام)
قلت: أما (الطبقات) فلم يذكر من القصة كلها إلا أحرفا يسيرة ومع ذلك فهو عنده (1 / 211 - 212) من قول محمد بن عمر بغير إسناد وغالب الظن أن الدكتور لا يعلم أن ابن عمر هذا هو الواقدي المتروك كما يأتي
وأما (تهذيب السيرة) فقد ذكره (2 / 60) من طريق ابن إسحاق بإسناد له مرسل إلا الدعاء فلم يسق له سندا فقد قال: (فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فيما ذكر لي -: اللهم. . .)
وقد أخرج القصة باختصار - وفيه الدعاء - الطبراني بإسناده عن ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن جعفر وابن إسحاق مدلس وقد عنعنه ولذلك ضعفت الحديث في (تخريج الفقه)(ص 132) والدكتور على علم بذلك فلا هو يستفيد من مثل هذا التحقيق هناك ولا هو يأتي بما ينافيه لينظر فيه وإنما يكتفي بمجرد العزو للمصدرين السابقين وهو يعلم أن فيهما ما لا يصح ثم هو يزعم أنه اعتمد على ما صح فيهما
السادس: قال (1 / 101) : (يقول ابن هشام: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك)
[19]
قلت: أخرجه ابن هشام في (السيرة)(2 / 58) من طريق ابن إسحاق بسنده الصحيح عن عروة بن الزبير قال: فذكره وعروة تابعي لم يدرك الحادثة فهو مرسل والمرسل من أقسام الحديث الضعيف عند المحدثين ولعل الدكتور يعلم ذلك فلا يكون الخبر حينئذ مما صح عنده فلماذا أورده وليس على شرطه؟ أو لعله يظن أن عروة صحابي كأخيه عبد الله بن الزبير وما ذلك ببعيد عن معرفته بهذا العلم الشريف ومنه تصديره إياه بقوله: (يقول ابن هشام) فإن هذا إنما يقال عند أهل العلم فيما كان معلقا بدون إسناد كما سأبينه في الحديث الآتي والواقع هنا أن ابن هشام قد ذكر إسناده كما رأيت فالتصدير المذكور خطأ واضح والصواب: (روى ابن هشام) وروى ابن سعد وهكذا
الحديث السابع: قال (1 / 124) : (يقول ابن سعد في طبقاته ج 1 ص 200 و 201: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج. . . ويقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه. . .)
قلت:
فيه أولا: أن تصديره لهذا الحديث بقوله (يقول ابن سعد) يشعر في اصطلاح المحدثين أنه حديث معلق عند ابن سعد يعني أنه لم يسق إسناده وليس الأمر كذلك كما يأتي ومن المعروف عند أهل العلم أن في صحيح البخاري كثيرا من الأحاديث المعلقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض أصحابه فإذا أراد طالب العلم أن ينقل شيئا من هذه الأحاديث فلا يقول فيها: (روى البخاري) لأن هذا التعبير خاص بالأحاديث المسندة وإنما يقول: (قال البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) ولا يقول في هذا الجنس (روى البخاري) كما ذكرنا إلا أن يقيد ذلك بقوله (روى البخاري معلقا) كما أنه لا يقول في الجنس المسند من الأحاديث قال البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يوهم أنه من المعلقات عنده وهذا ما وقع فيه حضرة الدكتور بتصديره
[20]
للحديث بالقول المذكور فأوهم خلاف الواقع إما لعدم علمه بالفرق بين التعبيرين (قال) و (روى) أو لتساهله في التعبير والأول أليق بحاله الذي يدل عليه أسلوبه في كتابه وكثرة أخطائه فيه من ذلك قوله فيما علقه ابن كثير: (رواه ابن كثير) كما تقدم التنبيه عليه في الحديث الثاني (ص 15)
ثانيا: أن الحديث عند ابن سعد من طريق شيخه محمد بن عمر فقال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني أيوب بن النعمان. . . فذكر له عدة أسانيد وكلها مرسلة ومع إرسالها فشيخه المذكور متهم بالكذب وهو الواقدي المشهور صاحب كتاب (المغازي) المطبوع في الهند ثم في مصر وظني أن الدكتور لا يعلم أن محمد بن عمر هذا هو الواقدي وإن كان يعلم ذلك فظني أنه لا يعرف شيئا من ترجمته عند أهل الحديث ولذلك أنقل شهادة حافظين من حفاظ المحدثين المشهورين فقال الإمام الذهبي في كتابه (الضعفاء والمتروكين) :
(محمد بن عمر بن واقد الواقدي قال النسائي: يضع الحديث وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة والبلاء منه)
وقال الحافظ ابن حجر في (التقريب) : (متروك مع سعة علمه) يعني أنه شديد الضعف في الرواية (1)
وإنما ظننت أن الدكتور لا يعلم ذلك للأمر بحسن الظن بالمسلم وإلا فهل يعقل أن يعرف الدكتور حال الواقدي هذه وسقوط روايته ويعلم
(1) قلت: ولذلك لا ينبغي أن يغتر أحد بما ذهب إليه ابن سيد الناس في مقدمة كتابه (عيون الأثر) من توثيق الواقدي فإنه خالف ما عليه المحققون من الأئمة قديما وحديثا ولمنافاته علم المصطلح على وجوي تقديم الجرح المفسر على التعديل وأي جرح أقوى من الوضع؟ وقد اتهمه به أيضا الإمام الشافعي الذي يزعم البوطي أنه يقلده وأبو داود وأبو حاتم وقال أحمد: كذاب
[21]
مع ذلك أن محمد بن عمر المذكور في سند هذا الحديث هو الواقدي هذا المتهم ثم هو مع ذلك يتجاهل هذه الحقيقة ويروي له عدة أحاديث من رواية ابن سعد عنه هذا بعيد جدا عن مقتضى حسن الظن به أيضا في أمانته العلمية لا سيما وهو قد صرح في مقدمة كتابه أنه اعتمد على ما صح من الأخبار في كتب السيرة فإيراده مثل هذه الأحاديث الواهية يضطرنا إلى افتراض أحد أمرين إما أنه لا يعلم أو إنه يعلم ولا يعمل بما يعلم ولما كان من المقرر عند أهل العلم أن الإنسان إذا وقع بين شرين اختار أقلهما شرا فلذلك قلنا في الدكتور: إنه لا يعلم وما أظنه يفضل هو الأمر الآخر عليه ولا بد من أحدهما وأحلاهما مر
ويشهد لما أقول: أن هذا الحديث قد أخرجه الإمام أحمد في (المسند)(3 / 492 و 4 / 63 و 341 و 5 / 376) والبيهقي بأسانيد عن غير واحد من الصحابة وأحدهما عند ابن إسحاق في (السيرة)(2 / 64 - 65) بنحوه وأحد إسنادي أحمد صحيح وأخرجه البيهقي أيضا كما في (البداية)(3 / 139) وطرفه الأول له شاهد في (المستدرك)(2 / 624) من حديث جابر مطولا وصححه ووافقه الذهبي
قلت: فلو أن الدكتور كان يعلم هذه الطرق ويعلم ذلك الضعف الشديد الذي في طريق ابن سعد بسبب الواقدي المتهم أفتظن أيها القاريء أنه يؤثر هذا الطريق على تلك الطرق وهو يعلم؟ أما أنا فلا أظن إلا خيرا
ومما يؤيد ما ذكرت الحديث الآتي وهو:
الحديث الثامن: قال (1 / 147) : (قال ابن سعد في طبقاته يروي عن عائشة رضي الله عن ها: لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه. . .)
قلت: في إسناده عند ابن سعد (1 / 225 - طبع بيروت) محمد بن عمر الأسلمي وهو الواقدي وقد عرفت من الحديث السابق أنه متهم بالكذب والوضع وأن الدكتور لا يعرف ذلك
[22]
على أن قوله: (قال ابن سعد يروي. . .) ليس تعبيرا علميا فإنه غير ظاهر المراد منه هل هو رواه مسندا أم معلقا؟ راجع الكلام على الحديث السابع ص (20 - 21) والحديث الثاني الذي سبقت الإشارة إليه هناك
الحديث التاسع: قال (1 / 153) في قصة الهجرة: (فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالهجرة وينهاه أن ينام في مضجعه تلك الليلة. سيرة ابن هشام (1 / 155) وطبقات ابن سعد (1 / 212)
قلت: هو عند ابن سعد من رواية الواقدي الكذاب المتقدم وفي إسناد ابن هشام من لم يسم وقد رواه من طريق ابن إسحاق وكذلك أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة)(ص 63) ثم أخرجه من طريق الفضل بن غانم قال ثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر المكي عن عبد الله بن عباس وهذا إسناد متصل لكن الفضل وشيخه سلمة ضعيفان وهو في (السيرة) هكذا: قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح. . . فقد أسقط أحد هذين الضعيفين من السند شيخ ابن إسحاق المجهول الذي لم يسم فظهر السند متصلا لا جهالة فيه وذلك من بلايا الضعفاء وتضليلاتهم التي قد لا تكون مقصودة من بعضهم فمن لم يكن على علم بأحوالهم ولم يأخذ حذره من رواياتهم ضل بهم وهو لا يشعر
الحديث العاشر: قال (1 / 157) : (وخرجت ولائد من بني النجار - فيما يرويه ابن هشام - فرحات بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم وجواره لهن وهن ينشدن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فقال عليه السلام لهن أتحببنني؟ فقلن نعم فقال اللهم يعلم أن قلبي يحبكن)
قلت: هذا لم أره عند ابن هشام في (السيرة) وقد ذكره الحافظ ابن كثير
[23]
نحوه في (البداية)(3 / 199 -. .) من رواية البيهقي في (دلائل النبوة) بإسناده عن إبراهيم بن صرمة بسنده عن أنس قال: فذكره بلفظ: (فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن. . .) فذكره وقال الحافظ: (هذا حديث غريب من هذا الوجه)
قلت: وعلته ابن صرمة هذا فقد قال ابن معين فيه: كذاب خبيث وضعفه غيره وقد أخرجه ابن ماجه في (سننه)(1 / 587) والبيهقي من طريق أخرى عن أنس به وليس فيه أن ذلك كان عند قدومه المدينة وسنده صحيح بل في (صحيح البخاري) وغيره من طريق ثالثة عن أنس أن ذلك كان في عرس ولكنه لم يذكر الرجز
الحادي عشر: قال (2 / 8) : (وقيل له: ألا نسقفه - يعني مسجد المدينة - فقال: (عريش كعريش موسى: خشيبات وثمام - نبت ضعيف قصير - الشأن أعجل من ذلك) طبقات ابن سعد 2 / 5)
قلت: فيه عنده الواقدي وهو كذاب كما تقدم غير مرة ومع ذلك فإن إسناده ينتهي إلى الزهري (1 / 239 - 240 طبع بيروت) فهو مرسل ولو أن الدكتور كلف نفسه قليلا من البحث لوجد من الطرق ما يغنيه عن الاعتماد على رواية الكذاب المذكور ولكنه قنع بما لديه من مصادر قليلة ثم لا عليه بعد ذلك أن لا يحقق وعده الذي قطعه على نفسه من الاعتماد على الأخبار الصحيحة فقد جاء الحديث من طرق عديدة يرتقي بها إلى درجة الحسن في أقل المراتب فأخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) وابن أبي الدنيا في (قصر الأمل)(مخطوطان) عن الحسن البصري مرسلا والسند إليه صحيح وأبو سعيد المفضل الجندي في (كتاب فضائل المدينة)(مخطوط) عن راشد بن سعد مرسلا وإسناده صحيح أيضا وأبو حامد الحضرمي في (حديثه) والمخلص في (الفوائد المنتقاة)
[24]
(9 / 193 / 1) والضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة)(مخطوطات) عن أبي الدرداء مرفوعا وابن أبي الدنيا أيضا عن عبادة بن الصامت وقد خرجت أسانيدها في كتابي: (سلسلة الأحاديث الصحيحة) في المجلد الثاني رقم (616) وعسى أن يطبع قريبا إن شاء الله (1)
أقول: كل هذه الطرق التي بها يتقوى الحديث أهملها الدكتور البوطي ولم يعزها إلى أحد من أولئك المخرجين - مع كثرتهم - فحط بذلك من قوة الحديث وهذا مما لا يجوز عند أهل العلم بالحديث اتفاقا وليس هذا لجهل البوطي بها فقط كما هو شأنه في غيره بل هو أيضا لعجزه وقصر باعه في التخريج وإلا فهو القائل كما سيأتي:
(ولا ينبغي عند التخريج الاقتصار على ذكر الطريق الضعيف والسكوت عن الطريق الصحيح أو المتفق عليه لما في ذلك من الإيهام الواضح الذي يتحاشاه علماء الحديث) . انظر الحديث (الرابع والعشرون) الآتي وتعليقنا عليه تر العجب العجاب من هذا الدكتور المتعالم
الحديث الثاني عشر قال: (2 / 18) : (روى ابن هشام أن النبي عليه الصلاة والسلام. . . كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم)
قلت: هذا مما لا يعرف صحته فإن ابن هشام رواه في (السيرة)(2 / 147) قال: ابن إسحاق. . . فذكره هكذا بدون إسناد فهو معضل وقد نقله ابن كثير (3 / 224 - 225) عن ابن إسحاق ولم يزد عليه
(1) ثم طبع والحمد لله في المكتب الإسلامي
[25]
في تخريجه شيئا على خلاف عادته مما يدل على أنه ليس مشهورا عند أهل العلم والمعرفة بالسيرة والأسانيد
الحديث الثالث عشر: قال (3 / 29) : (فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم. . .)
قلت: هو عند ابن هشام في (السيرة)(2 / 272) قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب
وهذا إسناد مرسل مجهول فهو ضعيف وقد وصله بعضهم وفيه من لا يعرف وآخر كذاب كما كنت خرجته في كتاب الغزالي ص (240) وقال الذهبي فيه: (حديث منكر) فأين الصحة التي وعدت بها يا دكتور؟ لا سيما وقد بنيت عليه فصلا عقدته (2 / 37) بعنوان (أقسام تصرفاته صلى الله عليه وسلم
الحديث الرابع عشر: قال (2 / 44) : (روى ابن هشام عن محمد بن إسحاق أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع. . . فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت. . .)
قلت: إسناده مرسل معلق فإن ابن هشام قال (3 / 51) : (وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال. . .) فذكره. وأبو عون اسمه محمد بن عبد الله الثقفي الكوفي الأعور مات سنة (116) فهو تابعي صغير فلم يدرك الحادثة وعبد الله بن جعفر المخرمي من شيوخ الإمام أحمد مات سنة (170) فبينه وبين ابن هشام
[26]
مفاوز فهو إسناد ضعيف ظاهر الضعف فمن الغرائب أن يستدل الدكتور بمثله على وجوب ستر المرأة لوجهها وهو لو صح لم يدل على أكثر من مشروعية ذلك أما الوجوب فمن أين؟ وقد ذكرت في كتابي (حجاب المرأة المسلمة) اختلاف الفقهاء في ذلك وأن الجمهور على استحباب الستر لا الوجوب وحققت أنه هو الذي يقتضيه الدليل فليراجعه من شاء
ثم إن بعض إخواننا هنا من طلاب كلية الشريعة لما اطلع على هذا تساءل عن تاريخ غزوة بني قينقاع التي وقعت فيها هذه الحادثة؟ فقلت له: وما وراء ذلك؟ قال: إن آية الحجاب نزلت في غزوة الأحزاب كما هو معلوم فإذا كانت الغزوة الأولى قبل هذه كان دليلا على أن حجاب المرأة في الحادثة لم يكن عن أمر به في الآية. فقلت: صدقت. فنظرنا فإذا الغزوة الأولى قد ذكرت في كتب السيرة قبل الأحزاب وعلى ذلك جرى الدكتور نفسه وقال: إنها كانت في السنة الثالثة للهجرة وكانت الأحزاب سنة خمس وقيل سنة أربع منها. فهذا مما يدل على أن الدكتور لما درس الحادثة لم يكن قد استحضر في ذهنه أنها كانت قبل نزول الآية وأن ستر المرأة لوجهها إن صح لم يكن دينيا لا بد من التزامه وإنما كان تعففا منها وإن مما يؤيد ذلك ما في البخاري أن عائشة وأم سلمة رئيت خلاخيل سوقهما يوم أحد وهما يحملان القرب على متونهما فقال الحافظ ابن حجر: (كانت هذه الواقعة قبل الحجاب)(1)
قلت: وغزوة أحد كانت بعد غزوة بني قينقاع أيضا
الحديث الخامس عشر قال: (2 / 49) : (ولبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر)
(1) أنظر كتابي (حجاب المرأة المسلمة)(ص 18) طبع المكتب الإسلامي
[27]
قلت: القاعدة المشار إليها صحيحة لكن الحديث المذكور غير صحيح بل هو مما لا أصل له كما نص على ذلك علماء الحديث كالحافظ العراقي والعسقلاني والسخاوي والسيوطي وغيرهم. قال في (المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة)(ص 91 رقم 178) : (ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة ولا الأجزاء المنثورة وجزم العراقي بأنه لا أصل له (1) وكذا أنكره المزي وغيره)
وكذا في (كشف الخفاء) للعجلوني (1 / 192 / 585) وغيره من الكتب التي وضعت لتمييز ما صح مما لم يصح من الحديث فهل لم يقرأ الدكتور شيئا منها أصلا حتى وقع في هذا التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أن له رأيا خاصا يخالف به حكم أئمة الحديث وأهل العلم به؟ ولقد كان باستطاعته لو اهتدى بهديهم وكان على علم بالحديث أن يستدل على القاعدة المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا) . زاد في رواية: (فإنما أقطع له به قطعة من النار) . أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أم سلمة رضي الله عن ها وترجم له النسائي ثم النووي في (صحيح مسلم ب (باب الحكم بالظاهر) وهو مخرج عندي في (إرواء الغليل)(2702) و (سلسلة الأحاديث الصحيحة)(1192)(2)
(1) كذا في (تخريج الإحياء)(4 / 283) له وقال: (وكذا قال المزي لما سئل عنه) ولا شك ان البوطي قرأ 0 الإحياء) ولو مرة واحدة فهل لم يقرأ تخريج الحافظ العراقي عليه ليعلم منه الحديث الضعيف ومما لا أصل له أم هذا علم لا قيمة له عنده لأنه صار علما لمن ينبزهم الدكتور ب (الوهابية) فهو لا يريد أن يتشبه بهم
(2)
ثم وقفت على الطبعة الثالثة من كتاب الدكتور فإذا به قد أقام هذا الحديث الصحيح مقام ذاك الحديث الباطل ولكنه أساء أيضا حين لم يذكر صاحب الفضل عليه في ذلك وهو الأستاذ الفاضل عيد عباسي فقد كان انتقده في كتابه (بدعة التعصب) وبين له بإيجاز أنه حديث لا أصل له فكان على الدكتور أن يبين ذلك ويشكره عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) ومع ذلك وقع هناك في طامة أخرى لم يسبق إليها حيث رفع حديثا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية البخاري وهو عنده موقوف من قول عمر كما سيأتي في الفصل السابع من (التذييل) بإذن الله تعالى
[28]
الحديث السادس عشر (2 / 68) : (روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء أو الأموات؟ . . .)
قلت: قال في (السيرة)(3 / 100) : قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخو بني النجار. . .) فذكره
قلت: وهذا إسناد معضل وقد روي موصولا كما بينته في (تخريج فقه السيرة للغزالي)(289 - 290)
الحديث السابع عشر قال (2 / 174) : (وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمير الناس زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون رجلا فليجعلوه عليهم. رواه البخاري وأحمد وابن سعد في (طبقاته) ولكن ليس في البخاري: (فإن قتل فليرتض المسلمون منهم رجلا)
قلت: فيه أمور:
أولا: قوله مستدركا: (لكن ليس في البخاري. . .) له مفهوم والدكتور يعلم إن شاء الله تعالى أن مفاهيم الكتب معتبرة وهو أن الإمام أحمد أخرج هذه الزيادة التي ليست في البخاري وليس الأمر كذلك فإن روايته خالية أيضا من هذه الزيادة وقد أخرج الحديث في مواطن من (مسنده) كما كنت
[29]
أشرت إليها بالأرقام في تخريجي ل (فقه السيرة للغزالي)(ص 396) . والدكتور مطلع عليه وقد استفاد منه ومن أصله كما سبقت الإشارة إليه فقد كان باستطاعته أن يستعين بتلك الأرقام لمراجعة رواية أحمد لكي لا يقع في مثل هذا الخطأ فما الذي صده عن ذلك أهو ضيق الوقت أم ظنه أن لا أحد من القراء سيرجع إلى (المسند) فيكشف مثل هذا الخطأ أو غيره مما قد لا يخطر في بال أحد إلا في بال المتهاون بالتحقيق العلمي أو العاجز عنه؟
ثانيا: كيف استجاز الدكتور إيثار رواية ابن سعد على رواية البخاري وهو يعلم أن ليس كل ما فيه صحيح ثابت بخلاف ما في البخاري؟
ثالثا: إن قيل لعلة آثرها لما فيها من الزيادة وهي صحيحة الإسناد عنده؟
فأقول: هيهات هيهات فقد ثبت لدينا من دراستنا لكتابه هذا أنه لا علم عنده أصلا بطريقة تصحيح الأحاديث ونقد الأسانيد ولذا نرى أنه يجب على الدكتور وأمثاله تقليد أهل الاختصاص والمعرفة بذلك من علماء الحديث وأن يقتصروا على نقل أقوالهم تصحيحا وتضعيفا فإن لم يفعلوا ضلوا وأضلوا وقد مضت الأمثلة الكثيرة التي تشهد لما قلنا. هذا شيء وشيء آخر وهو أن الحديث عن ابن سعد (2 / 128 طبع بيروت) بدون إسناد فكيف يمكن الحكم على المعدوم بالصحة؟ نعم قد عرفت مستند ابن سعد في ذلك ألا وهو شيخه الواقدي فقد قال ابن كثير في (البداية)(4 / 241) : (وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان. . .) فذكره
قلت: والواقدي متهم بالوضع كما سبق (ص 21) فلو أن الدكتور يبحث بحث العلماء لا سيما وقد قدم تلك المقدمة الضخمة: (اعتمدت على ما صح من أخبار السيرة في كتبها) وكان قادرا وحريصا على الوفاء بما قال لم يبادر إلى الاعتماد على رواية ابن سعد المعلقة بدون إسناد ولا سيما وفي آخرها ما ينبه
صفحة 30]
اللبيب إلى عدم ثبوتها ولو كان جاهلا بعلم الحديث ونقد الأسانيد ألا وهو قوله (2 / 129) :
(فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم ب (الجرف) فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون: يا فرار () أفررتم من سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار ولكنهم كرار إن شاء الله؟)
فقلت: فهذا منكر بل باطل ظاهر البطلان إذ كيف يعقل أن يقابل الجيش المنتصر مع قلة عدده وعدده على جيش الروم المتفوق عليهم في العدد والعدد أضعافا مضاعفة كيف يعقل أن يقابل هؤلاء من الناس المؤمنين بحثو التراب في وجوههم ورميهم بالفرار من الجهاد وهم لم يفروا بل ثبتوا ثبوت الأبطال حتى نصرهم الله وفتح عليهم كما في حديث البخاري: (. . . حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم) ؟
ومن العجائب أن الدكتور بعد أن ذكر هذا الحديث الصحيح وأتبعه بقوله:
(وهذا الحديث يدل كما ترى أن الله أيد المسلمين بالنصر أخيرا) . فإنه مع ذلك أورد هذه الزيادة المنكرة فقال (2 / 180) :
(وأما سبب قول الناس للمسلمين بعد رجوعهم إلى المدينة: يا فرار. . . فهو أنهم لم يتبعوا الروم ومن معهم في هزيمتهم. . .)
فنقول: إن هذا التأويل بعيد جدا ثم إن التأويل فرع التصحيح كما هو مقرر في (الأصول) فهلا أثبت هذه الرواية يا فضيلة الدكتور حتى يسوغ لك أن تتأولها لتقضي به على هذا المعنى المستنكر الظاهر منها؟ وإلا فالواقع أن الأمر كما تقول العامة: هذا الميت لا يستحق هذا العزاء
[31]
وإن كان هذا التأويل يدل على شيء فهو أن الدكتور لا يفرق بين ما صح وما لم يصح من الأخبار فهو يسوقها كلها مساقا واحدا ويعاملها معاملة واحدة فهو مثلا لا يفرق بين ما رواه البخاري وما رواه ابن سعد ولو بدون إسناد؟ وما هكذا يكون صنيع العلماء
وإذا شئت مثالا على نقيض صنيعه مصدره حافظ من حفاظ المسلمين فخذ الحافظ ابن كثير مثلا فإنه ذكر هذه الرواية المستنكرة في كتابه (البداية)(4 / 248) من رواية ابن إسحاق عن عروة مرسلا ثم قال: (وهذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور: الجيش وإنما كان الذين فروا حين التقى الجمعان وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وهو على المنبر فما كان المسلمون ليسمونهم فرارا بعد ذلك وإنما تلقوهم إكراما وإعظاما)
فليت أن الدكتور رجع إلى كتاب هذا الحافظ فاستعان به على تجلية ما قد يغمض عليه من الحقائق والمعارف لا سيما وموضوعه في نفس موضوع كتابه وفي متناول يده ولكن العجلة في التأليف وعدم التروي في البحث والعجز عن التحقيق فيه وشهوة التأليف فيما ليس من اختصاصه هو الذي يوقع صاحبه في مثل هذه الأخطاء الظاهرة والله المستعان
الحديث الثامن عشر قال (2 / 188) : (ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)
قلت: هذا الحديث على شهرته ليس له إسناد ثابت وهو عند ابن هشام معضل وقد ضعفه الحافظ العراقي كما بينته في (تخريج فقه السيرة)(ص 415) فلست أدري ما الذي منع الدكتور من أن يستفيد من هذا الحافظ تضعيفه
[32]
للحديث فلا يورده في كتابه الذي وصفه بأنه اعتمد فيه على ما صح من أخبار السيرة أليس في هذا إخلالا صريحا بهذا الشرط أم أن الدكتور عنده من العلم ما ليس عند الحافظ فهو يرى أن الحديث صحيح لا يخرج عن شرطه فإن كان كذلك فليثبت لنا ذلك نكن له من الشاكرين؟ أم هو يجري على المشهور أيضا () : الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور؟
الحديث التاسع عشر: قال (2 / 189) : (روى ابن هشام أن فضالة بن عمير الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح. . . ولم أجد ترجمة لفضالة هذا في (الإصابة) ولا في (الاستيعاب)
قلت:
فيه أولا: أن هذا الحديث كالأحاديث السابقة لا يصح لأن ابن هشام لم يذكر له إسنادا متصلا لينظر في رجاله فإنه قال (4 / 59) :
(وحدثني (يعني من يثق به من أهل الرواية في إسناد له كما في حديث قبله) أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد)
وثانيا: أن فضالة هذا قد ترجم له في (الإصابة)(ج 3 ص 201 - 202 رقم الترجمة 6996 طبعة مصطفى محمد بمصر) وهي الطبعة التي يحيل الدكتور عليها فلا أدري كيف لم يجدها فيه لعله لا يحسن حتى المراجعة أو كلف بها بعض طلابه الذين لا يحسنونها أو هم على الأقل لا ينشطون لها
وقد ترجمه مصدر آخر أقدم منه وهو ابن أبي حاتم فقال في (الجرح والتعديل)(23 / 77 / 234) وسبقه البخاري في (التاريخ الكبير)(4 / 1 / 124) :
(فضالة الليثي أدرك الجاهلية روى عنه ابنه عبد الله بن فضالة)
وساق له البخاري حديثا يدل على صحبته لكنه من رواية ابنه عبد الله ابن فضالة ولم يوثقه غير ابن حبان (1 / 137) وقيل له صحبة
[33]
وثالثا: ما فائدة معرفة ترجمة فضالة هذا والسند إليه لا يصح؟ أليس هذا من الأدلة الكثيرة على أن الدكتور لا معرفة عنده مطلقا بطرق التصحيح والتضعيف وإلا فما باله أضاع وقته أو وقت غيره من تلامذته في البحث عن ترجمة فضالة ثم لم يوفق ولو وفق إليها لم يفد ذلك صحة الحديث باتفاق أهل العلم لأنه أعرض عن دراسة الإسناد إليه هذا لو كان بحاجة إلى دراسة فإنه ظاهر الجهالة فإذا كان البوطي بهذه المثابة من الجهل بالحديث فحري به أن لا يدعي ما لا قبل له بتحقيقه من تصحيح أحاديث السنن والسيرة وأن يشتغل بغيره من العلم إن كان يحسنه
الحديث العشرون: قال (2 / 216) : (وقال بعض الصحابة: يا رسول الله ادع الله على ثقيف. فقال: اللهم اهد ثقيفا وأت بهم. رواه ابن سعد في (الطبقات) وأخرجه الترمذي في (سننه) وقد رواه ابن سعد عن عاصم الكلابي عن الأشهب عن الحسن)
قلت فيه أمران:
الأول: أن إسناده عند الترمذي لا يصح فيه عنعنة أبي الزبير وهو مدلس كما بينته في (تخريج الفقه) ص 432
والآخر: أنه عند ابن سعد في (الطبقات) 2 / 159 بدون إسناد
وقوله: (رواه ابن سعد عن عاصم. . .) الخ مع ما فيه من التكرار الذي لا فائدة فيه ففيه وهمان:
أولا: أن هذا الإسناد عن ابن سعد في المكان الذي أشرت إليه إنما هو لحديث آخر غير هذا فإن لفظه: (. . . فأتى عمر فقال: يا نبي الله ادع على ثقيف؟ قال: إن الله لم يأذن في ثقيف. قال: فكيف نقتل في قوم لم يأذن الله فيهم؟ قال: فارتحلوا فارتحلوا)
[34]
فأنت ترى أن هذا الحديث هو غير حديث الباب فإن كان هذا العزو لابن سعد من الدكتور في المرة الثانية لم يكن عن وهم منه فهو من الأدلة الكثيرة على أنه لا يحسن صناعة التخريج البتة إذ لا يجوز أن يقال: روى ابن سعد عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم اهد ثقيفا وأت بهم) لأن الحسن لم يرو ذلك عند ابن سعد وكل من وقف على تخريج الدكتور هذا يفهم منه خلاف ذلك؟ ويغلب على الظن أن ذلك لم يكن إلا عن قصد منه فهو دليل على ما ذكرت لأني رأيته فيما سيأتي لما خرجت حديثا لابن عباس عزوته لأحمد وابن ماجه تعقبني بأنه في (الصحيحين) وتعجب من عدم عزوي الحديث إليهما مع أن هذا العزو لو صدر مني - وأرجو الله أن يصونني من مثله - لكان خطأ محضا كخطأ الدكتور هذا في عزو هذا الحديث لرواية ابن سعد عن الحسن وسيأتي تفصيل الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
الحديث الواحد والعشرون: قال (2 / 246 - 247) في تخريج قصة مسجد الضرار: (تفسير ابن كثير 2 / 387 - 388 ورواه ابن هشام في سيرته على نحو قريب في ج 2 / 322)
قلت:
فيه أولا: أن التخريج لا يعطي - ككثير من تخريجاته - أن القصة صحيحة فإنها عند ابن هشام من طريق ابن إسحاق بدون إسناد وعند ابن كثير من طريقه عن جماعة ذكرتهم في (تخريج الفقه)(ص 488)
وثانيا: أن هذا التخريج اختصره الدكتور من تخريجنا المذكور ويكاد يكون ما ذكره منقولا عنه بالحرف الواحد غير أنه حذف منه تصريحنا في مطلعه بأنه (ضعيف) فما الذي حمل الدكتور على هذا الحذف وعدم ذكر المصدر الذي أخذ منه تخريجه؟ إن كان يجيز له ذلك خشيته أن يقول الناس: إن الدكتور استفاد من تخريج الألباني فهل يجيز له ذلك حذف الحكم بالضعف الذي
[35]
يقتضيه التخريج الحديثي وإيهام الناس أن هذا الحديث من (ما صح من أخبار السيرة) وهو لم يصح ألا فليعلم أن الله تعالى سائله ومحاسبه عن هذا الذي صنعه في هذا الكتاب من تصحيح ما لم يصح من الروايات لا تقليدا منه لأهل العلم ولا اجتهادا منه لأنه ليس من أهل الاجتهاد - باعترافه - في الفقه الذي شهادة الدكتور فيه فضلا عن هذا العلم الشريف الذي لم يشم رائحته بعد
الحديث الثاني والعشرون: قال (2 / 250) في قصة وفد ثقيف: (روى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم كل ليلة بعد العشاء فيقف عليهم يحدثهم حتى يراوح بين قدميه)
قلت فيه مؤاخذات:
الأولى: أن ابن سعد لم يسق إسناده فكيف عرف صحته واعتمد عليه؟
الثانية: أن اقتصاره في العزو عليه يشعر الطالب بأنه لم يروه من هو أشهر منه وأولى بالاعتماد عليه وليس كذلك فقد أخرجه أبو داود في (قيام رمضان) وابن ماجه في آخر (إقامة الصلاة) كلاهما من حديث أوس بن حذيفة وأحمد أيضا (4 / 343) دون المراوحة
الثالثة: أن إسناده لا يصح لأنه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي عن عثمان بن عبد الله بن أوس الطائفي وهذا لم يوثقه غير ابن حبان لكن روى عنه جمع من الثقات غير أن الأول ضعفه الذهبي والعسقلاني فهو علة الحديث
الحديث الثالث والعشرون: قال (2 / 251) في قصة وفد ثقيف أيضا: (قال ابن إسحاق: وسألوه أيضا أن يضع عنهم الصلاة فقال لهم: لا خير في دين بلا صلاة)
قلت: وتمام هذه الرواية عند ابن إسحاق في (السيرة)(4 / 183 - 185) : (فقالوا: يا محمد فسنؤتيكها وإن كانت دناءة)
[36]
قلت: وهذا لا يصح كالأحاديث السابقة لأنه عنده بإسناد معضل والمرفوع منه أخرجه أبو داود وأحمد بإسناد منقطع كما بينته في (تخريج الفقه)(ص 540) فتجاهل الدكتور هذا كغيره - مما سبق - وصححه فالله المستعان
الرابع والعشرون: قال في (حجة الوداع)(2 / 270) : (فلما رأى صلى الله عليه وسلم البيت قال: (اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من عظمه ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتنظيما وبرا) رواه الطبراني وابن سعد)
قلت: وهذا ضعيف جدا بل موضوع. أما ابن سعد فذكره بدون إسناد (2 / 173) وأما الطبراني فأخرجه في (المعجم الكبي)(ج 1 ق 149 / 2 مخطوط) عن حذيفة بن أسيد وفي إسناده عاصم بن سليمان الكوزي. قال الذهبي في (الميزان) : (قال ابن عدي: يعد ممن يضع الحديث وقال الفلاس: كان يضع ما رأيت مثله قط. . . وقال الدارقطني: كذاب)
وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)(3 / 238) بعد أن عزاه للطبراني: (وهو متروك)
قلت: وعلى هذا يرد على الدكتور أمران لا بد له من أحدهما:
الأول: إن كان يعلم هذه العلة ومع ذلك جزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد شمله وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) أخرجه مسلم في مقدمة (صحيحه)(1 / 7) بإسنادين صحيحين عن سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة
والآخر: إن كان لا يعلمها - وهو الظن به - فكيف رواه وحدث به ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع) ؟ أخرجه مسلم أيضا (1 / 8) بإسناد صحيح بل كيف أورده في كتابه الذي زعم
[37]
فيه أنه اعتمد على ما صح من الأخبار؟ والظن به أيضا أنه لا علم عنده بهذين الحديثين وإلا لكانا كافيين في ردعه عن رواية الأحاديث الضعيفة وتحت ستار أنها صحيحة؟ والله المستعان وإنا لله وإنا إليه راجعون
وبهذا ينتهي ما أردت ذكره من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية التي عثرت عليها في كتاب الدكتور البوطي وهي تبين أوضح البيان أن ما قاله في نصوص كتابه (اعتمدت فيها أولا على صحاح السنة. ثانيا على ما صح من أخبار السيرة في كتبها)(1) لم يكن إلا لمجرد الدعاية للكتاب ولفت أنظار الناس إليه وفي تضاعيف الكلام عليها ما يبين أنه ليس عنده من الثقافة والمعرفة بالسنة ومصطلح الحديث وتراجم الرواة ما يمكنه من تنفيذ هذا المنهج الذي زعم أنه اعتمده في كتابه حتى ولو بالاعتماد على العلماء في ذلك وتقليدهم فهو لا يحسن حتى تقليدهم لأنه لا معرفة له بأقوالهم ومع ذلك فهو يحاول أن يعمل عمل الفحول منهم وهيهات فما أشبهه بقول بعض السلف: (ما مثلك إلا مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها)
وقد بقيت لدي أمثلة أخرى من أخطائه التي تدل على مبلغ علمه بهذا الفن الشريف وهي تمثل أنواعا شتى من البعد عن النهج العلمي الصحيح فأقول:
1 -
قال (1 / 31) : (وقد أجمع رواة السيرة أن بادية بني سعد بن بكر كانت تعاني إذ ذاك سنة مجدبة قد جف فيها الضرع ويبس الزرع فما هو إلا أن صار محمد صلى الله عليه وسلم في منزل حليمة واستكان إلى حجرها وثديها حتى عادت منازل حليمة من حول خبائها ممرعة خضراء. . .)
(1) وأكد ذلك في مقدمة الطبعة الثالثة بقوله: (وأنا أعلم أنني لم أسجل في كتابي هذا من أحداث السيرة إلا أهمها وأصحها) فهل صدق
[38]
قلت: لنا عليه مؤاخذتان:
الأولى: الإجماع المذكور لم يدعه أحد قبل الدكتور فيما علمت فلا قيمة له
والأخرى: أن القصة لم تأت بإسناد تقوم به الحجة وأشهر طرقها ما رواه محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن جعفر عن حليمة بنت الحارث السعدية
أخرجه أبو يعلى (ق 128 / 1) وعنه ابن حبان (2094 - موارد) وأبو نعيم في (دلائل النبوة)(1 / 47) عن ابن إسحاق به وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة)(1 / 108) عنه أيضا إلا أنه قال: حدثنا جهم بن أبي الجهم - مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب وكان يقال: مولى الحارث بن حاطب - قال: حدثنا من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: حدثت عن حليمة بنت الحارث
قلت: وهذا إسناد ضعيف فيه علتان:
الأولى: الاضطراب في إسناده كما هو ظاهر ففي الرواية الأولى عنعنة ابن إسحاق من جميع رواته وفي الأخرى تصريحه بالتحديث مع تصريح الجهم بأنه لم يسمعه من عبد الله بن جعفر وتصريح هذا بأنه لم يسمعه من حليمة فعلى الرواية الأولى فيه انقطاع بين ابن إسحاق والجهم لأن الأول مشهور بالتدليس وعلى الرواية الأخرى الانقطاع في موضعين منه ومنه تعلم وهم الحافظ في (الإصابة) حيث قال (4 / 266) : (وصرح ابن حبان في (صحيحه) بالتحديث بين عبد الله وحليمة) فإنه لا أصل لهذا التحديث عند ابن حبان ولا عند غيره ممن ذكرنا ويستبعد جدا أن يدرك عبد الله بن جعفر حليمة مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان عبد الله ابن عشر سنين وهي وإن لم يذكروا لها وفاة فمن المفروض عادة أنها توفيت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم
[39]
وسواء كان الراجح الرواية الأولى أو الأخرى فالإسناد منقطع لا محالة والعلة الأخرى أن مداره على جهم بن أبي الجهم وهو مجهول الحال قال الذهبي في (الميزان) : (لا يعرف له قصة حليمة السعدية)
وأما ابن حبان فذكره في (الثقات)(1 / 31) على قاعدته في توثيق المجهولين وللقصة عند أبي نعيم طريقان آخران مدارهما على الواقدي وهو كذاب أحدهما عن شيخه موسى بن شيبة وهو لين الحديث كما قال الحافظ في (التقريب) والأخرى عن عبد الصمد بن محمد السعدي عن أبيه عن جده قال: حدثني بعض من كان يرعى غنم حليمة. . . وهؤلاء مجهولون
2 -
قال (1 / 55) : (وجزع النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك جزعا عظيما حتى أنه كان يحاول - كما يروي الإمام البخاري - أن يتردى من شواهق الجبال)
قلت: هذا العزو للبخاري خطأ فاحش ذلك لأنه يوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري وليس كذلك وبيانه أن البخاري أخرجها في آخر حديث عائشة في بدء الوحي الذي ساقه الدكتور (1 / 51 - 53) وهو عند البخاري في أول (التعبير)(12 / 297 - 304 فتح) من طريق معمر: قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة. . . فساق الحديث إلى قوله: (وفتر الوحي) وزاد الزهري: (حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى منه نفسه تبدى له
[40]
جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك)
وهكذا أخرجه بهذه الزيادة أحمد (6 / 232 - 233) وأبو نعيم في (الدلائل)(ص 68 - 69) والبيهقي في (الدلائل)(1 / 393 - 395) من طريق عبد الرزاق عن معمر به
ومن هذه الطريق أخرجه مسلم (1 / 98) لكنه لم يسق لفظه وإنما أحال به على لفظ رواية يونس عن ابن شهاب وليس فيه الزيادة وكذلك أخرجه مسلم وأحمد (6 / 223) من طريق عقيل بن خالد: قال ابن شهاب به دون الزيادة وكذلك أخرجه البخاري في أول الصحيح عن عقيل به
قلت: ونستنتج مما سبق أن لهذه الزيادة علتين:
الأولى: تفرد معمر بها دون يونس وعقيل فهي شاذة
الأخرى: أنها مرسلة معضلة فإن القائل: (فيما بلغنا) إنما هو الزهري كما هو ظاهر من السياق وبذلك جزم الحافظ في (الفتح)(12 / 302) وقال: (وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا)
قلت: وهذا مما غفل عنه الدكتور أو جهله فظن أن كل حرف في (صحيح البخاري) هو على شرطه في الصحة ولعله لا يفرق بين الحديث المسند فيه والمعلق كما لم يفرق بين الحديث الموصول فيه والحديث المرسل الذي جاء فيه عرضا كحديث عائشة هذا الذي جاءت في آخره هذه الزيادة المرسلة
واعلم أن هذه الزيادة لم تأت من طريق موصولة يحتج بها كما بينته في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) برقم (4858) وأشرت إلى ذلك في التعليق على (مختصري لصحيح البخاري)(1 / 5) يسر الله تمام طبعه
[41]
وإذا عرفت عدم ثبوت هذه الزيادة فلنا الحق أن نقول إنها زيادة منكرة من حيث المعنى لأنه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم المعصوم أن يحاول قتل نفسه بالتردي من الجبل مهما كان الدافع له على ذلك وهو القائل: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا) أخرجه الشيخان وغيرهما وقد خرجته في (تخريج الحلال والحرام) برقم (447)
3 -
قال (1 / 115) : (وكان عليه السلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحا ومثليهما مساء كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام
أقول: لا أعرف لهذا الحديث إسنادا فإن كان الدكتور قد وقف عليه فليذكر لنا مصدره لندرسه وما إخاله يصح نعم ذكر ابن سيد الناس في (عيون الأثر)(1 / 91) عن مقاتل بن سليمان: (فرض الله أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرض الخمس ليلة المعراج) ثم ذكر نحوه عن الحربي (1 / 149) ونقل عن ابن عبد البر أنه قال:
(لا يوجد هذا في أثر صحيح) ثم أشار ابن سيد الناس (1 / 152) إلى تضعيف قول الحربي
قلت: ومقاتل بن سليمان متروك شديد الضعف قال الحافظ: (كذبوه وهجروه ورمي بالتجسيم)
4 -
قال (ص 147) : (ولم يهاجر أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متخفيا غير عمر بن الخطاب رضي الله عن هـ فقد روى علي بن أبي طالب رضي الله عن هـ أنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده أسهما (وفيه أنه قال:) (من أراد أن يثكل أمه أو يوتم ولده أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا
[42]
الوادي) قال علي: فما اتبعه إلا قوم من المستضعفين علمهم ما أرشدهم ثم مضى لوجهه. أسد الغابة ج 4 ص 58)
قلت: وعليه مؤاخذتان:
أولا: قوله: (ولم يهاجر. . .) هذا النفي ما مستنده؟ فإن الرواية التي ذكرها عن علي رضي الله عن هـ ليس فيها شيء من ذلك وإن كان عمدة الدكتور فيه إنما هو أنه لم يعلم ذلك إلا عن عمر فالجواب أن العلماء يقولون: إن عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه. وهذا إذا صدر النفي من أهل العلم فكيف إذا كان من مثل الدكتور البوطي؟
ثانيا: جزمه بأن عمر رضي الله عن هـ هاجر علانية اعتمادا منه على رواية علي المذكورة وجزمه بأن عليا رواها وليس صوابا لأن السند بها إليه لا يصح وصاحب (أسد الغابة) لم يجزم أولا بنسبتها إليه رضي الله عن هـ وهو ثانيا قد ساق إسناده بذلك إليه لتبرأ ذمته ولينظر فيه من كان من أهل العلم وقد وجدت مداره على الزبير بن محمد بن خالد العثماني: حدثنا عبد الله بن القاسم الأملي (كذا الأصل ولعله الأيلي) عن أبيه بإسناده إلى علي وهؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين فإن أحدا من أهل الجرح والتعديل لم يذكرهم مطلقا فهل وجدهم الدكتور وعرف عدالتهم وضبطهم حتى استجاز لنفسه أن يجزم بصحة الرواية عن علي أم شأنه فيها كشأنه في غيرها إنما هو جماع حطاب أو كما تقول العامة عندنا في الشام: (خبط لزء) ثم هو إلى ذلك يدعي أنه اعتمد على الروايات الصحيحة
5 -
قال: (2 / 12) : (فقال (عمر) : (أكن الناس من المطر وإياك [أن] (1) تحمر أو تصفر فتفتن الناس) . إعلام الساجد 337)
قلت: هذا الأثر قد رواه البخاري في (باب بنيان المسجد) من
(1) لم ترد في كتاب البوطي وإنما استدركناها من البخاري
[43]
(صحيحه) معلقا مجزوما به (1) فترك الدكتور العزو إليه مع إفادته الصحة إلى عزوه إلى (الإعلام) الذي لا يفيد الصحة تقصير لا يغتفر من مثله لو كان من أهل العلم بالحديث فإن من المعلوم عندهم أنه لا ينبغي عزو حديث هو في (الصحيحين) أو أحدهما إلى السنن الأربعة فضلا عمن دونهم فكيف يجوز عزوه إلى من هو دونهم جميعا كالزركشي صاحب (إعلام الساجد) ؟ قال مغلطاي: (ليس لحديثي عزو حديث في أحد الستة لغيرها إلا لزيادة ليست فيها أو لبيان سنده ورجاله) . نقله المناوي في (فيض القدير)(1 / 280)
6 -
قال (2 / 69) : (وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليهم (يعني شهداء أحد) عشرة عشرة وفي كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين مرة: فضعيف وخطأ راجع مغني المحتاج 1 / 399)
قلت: هذا نوع جديد من تخاليط الدكتور فإنه لم يقنع وبأنواع من الأخطاء التي كشفنا الغطاء عنها فيما مضى لا سيما ما كان منها من الأحاديث الضعيفة التي صححها حتى جاء الآن بنمط جديد من الخطأ ألا وهو تضعيف ما صح من الأخبار فإن هذا الحديث له طرق كثيرة وبعضها حسن وساق الحافظ الزيلعي في (نصب الراية)(2 / 309 - 313) قسما كبيرا منها وكذا الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الدراية)(1 / 243 - 244) و (تلخيص الحبير)(1 / 11) ومال إلى تقويته وهو الذي لا يستطيع خلافه كل حديثي وقف على تلك الطرق ولذلك أوردته في كتابي المفرد: (أحكام الجنائز وبدعها) المسألة (70) على أن في الصلاة على حمزة وغيره من الشهداء أحاديث أخرى بعضها صحيح ذكرته في المسألة (22 و 60) من الكتاب المذكور
(1) وهو في مختصري لصحيح البخاري برقم (118)
[44]
وقد يسترعي انتباه القاريء اللبيب تضعيف الدكتور لهذا الحديث على خلاف عادته ولأول مرة في كتابه فيتساءل عن السبب في ذلك؟ فأقول: لما كان الدكتور شافعي المذهب متعصبا له كما يدل عليه معالجته لبعض المسائل الفقهية في هذا الكتاب وكان الحديث ينص على مشروعية الصلاة على الشهداء ومذهبه يقول بعدم مشروعيتها (1) لذلك ضعفه لا لأن المنهج العلمي الحديثي يقتضي بضعفه كيف والحافظ ابن حجر قد قواه مع أنه شافعي المذهب أيضا كما هو معلوم
وإن مما يسترعي الانتباه أيضا إحالة الدكتور في تضعيف الحديث على كتاب (مغني المحتاج) فإن هذا من كتب الفقه ومن المعروف عند أهل العلم أنه يجب الرجوع في كل علم إلى أهل الاختصاص فيه فهلا أحال الدكتور على كتاب من كتب الحديث الموثوقة كالتي ذكرت آنفا؟ فهل يرضى الدكتور أن يحيله أحد في مسألة فقهية على كتاب من كتب الحديث كالسنن وغيرها؟
نعم لو أن صاحب (مغني المحتاج) وهو الشيخ محمد الشربيني الخطيب (2) كان من المعروفين باشتغاله بعلم الحديث وتحقيقه فيه - بالإضافة إلى معرفته بالفقه الشافعي - لكانت الإحالة المذكورة مقبولة بعض الشيء ولكنه لم يعرف بشيء من ذلك أصلا بل إن كتابه المذكور ليدل دلالة بينة على أنه بعيد جدا عن هذا العلم الشريف بعد غيره عنه بل لعله سلفه في ذلك فانظر إليه مثلا يقول (1 / 5) : (وفي (الإحياء) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قليل من التوفيق خير من كثير من العلم وفي بعض الروايات (العقل بدل العلم) . فمتى كان كتاب (الإحياء) للغزالي مرجعا لأهل العلم في الحديث وهو الذي
(1) بل صرح في (المغني) بأنها تحرم لأنه حي بنص القرآن
(2)
من فقهاء الشافعية في القرن العاشر توفي سنة (988)
[45]
عرف عند المبتدئين في هذا العلم بأنه مكتظ بالأحاديث الضعيفة والموضوعة وبما لا أصل له من الحديث ومنه هذا الحديث بالذات فقد قال الحافظ العراقي في (تخريجه)(1 / 38) : (لم أجد له أصلا) ويقول (1 / 13) : (وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهى في النسب إلى عدنان أمسك ثم يقول: كذب النسابون)
قلت: وهذا حديث موضوع كما بينته في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) رقم (111) وقوله (1 / 45) في حديث الشيخين: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر وترا) : (وصرفه عن الوجوب رواية أبي داود وهي قوله صلى الله عليه وسلم: من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) وهي رواية ضعيفة لا تصلح للصرف المذكور ضعفها البيهقي والعسقلاني كما بينته في كتابي (ضعيف سنن أبي داود) رقم (8) وقوله (1 / 512) : (روى البخاري: من صلى علي عند قبري وكل الله ملكا يبلغني وكفى أمر دنياه وآخرته وكنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة) وهذا عزوه للبخاري خطأ فاحش فإنه حديث موضوع كما بينته في السلسلة المذكورة: رقم (203) ولعله رآه معزوا لابن النجار فظنه محرفا عن البخاري فعزاه إليه بسوء تصرفه وعدم علمه بأن في المحدثين من يعرف ب (ابن النجار) وهو مؤلف (تاريخ المدينة) المعروف ب (الدرر الثمينة) فقد أخرج طرفه الأول منه ثم ذكر الشربيني بعده بسطور حديث (من حج ولم يزرني فقد جفاني) وقال: رواه ابن عدي في (الكامل) وغيره ثم قال: (وهذا يدل على أنه يتأكد للحاج أكثر من غيره)
قلت: نعم بل هو يدل على أن زيارته صلى الله عليه وسلم فرض لأن جفوته صلى الله عليه وسلم معصية وتركها واجب ولكننا نقول له ولأمثاله: أثبت العرش ثم انقش فإن الحديث المذكور موضوع بشهادة الأئمة النقاد مثل
[46]
ابن الجوزي والصغاني والزركشي والذهبي وغيرهم كما بيناه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)(45) وبسط الكلام عليه الحافظ ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي)(ص 75 - 80) وختمه بقوله: (والحاصل: أن هذا الحديث لا يحتج به ولا يعتمد عليه إلا من أعمى الله قلبه وكان من أجهل الناس بعلم المنقولات)
ثم ذكر في نفس الصفحة حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو موضوع أيضا كما قال الحافظ الذهبي وغيره وقد تكلمت عليه في السلسلة المشار إليها آنفا برقم (25)(1) إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي لو تتبعت لكان منها مجلد ضخم هذا حال مؤلف (مغني المحتاج) الذي أحال عليه الدكتور البوطي لمعرفة ضعف الحديث المذكور ومنه يعرف اللبيب حال المحيل عليه في هذا العلم الشريف
7 -
قال (2 / 172) : (روي عن أنس رضي الله عن هـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى)
قلت الحديث في (صحيح مسلم)(6 / 166) فتصديره إياه بقوله (روي) مشعر بأنه ضعيف عنده أوأنه لا يعلم صحته أوأنه يجهل أن هذه الصيغة ونحوها مما بني على المجهول موضوعة عند المحدثين للحديث الضعيف وأنه لا يجوز تصدير الحديث الصحيح بها هذه أمور ثلاثة لا بد للدكتور من أن يلزمه أحدها ولعل آخرها ألزمها به فإنه من الجمهور الذي لا يهتم بالتزام قواعد علماء الحديث كما نبه على ذلك الإمام النووي رحمه الله تعالى وهذا إذا كان الدكتور على علم بها
قال النووي في مقدمة كتابه العظيم: (المجموع شرح المهذب)(1 / 63) : (قال العلماء المحققون من أهل الحديث وغيرهم: إذا كان الحديث ضعيفا
[47]
لا يقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعل أو أمر أو نهى أو حكم وما أشبه ذلك من صيغ الجزم وكذا لا يقال فيه: روى أبو هريرة أو قال أو ذكره أو أخبر أو حدث أو نقل أو أفتى وما أشبهه
وكذا لا يقال ذلك في التابعين ومن بعدهم فيما كان ضعيفا فلا يقال في شيء من ذلك بصيغة الجزم وإنما يقال في هذا كله: روي عنه أو نقل عنه أو حكي عنه أو بلغنا عنه أو يقال أو يذكر أو يحكى أو يروى أو يرفع أو يعزى وما أشبه ذلك من صيغ التمريض وليست من صيغ الجزم قالوا: فصيغ الجزم موضوعة للصحيح أو الحسن وصيغ التمريض لما سواهما وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه فلا ينبغي أن يطلق إلا فيما صح وإلا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم وهذا الأدب أخل به المصنف وجماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم بل جماهير أصحاب العلوم مطلقا ما عدا حذاق المحدثين وذلك تساهل قبيح فإنهم يقولون كثيرا في (الصحيح) : روي عنه وفي (الضعيف) : قال وروى فلان وهذا حيد عن الصواب)
قلت: وقد وقع الدكتور في القبيحتين كلتيهما ففي هذا الحديث الصحيح قال: (روي وفي تلك الأحاديث الضعيفة على كثرتها لم يصدر واحدا منها بصيغة التمريض وإنما بصيغة الجزم
8 -
قال (3 / 181) وقد ذكر قصة تبييت بني بكر خزاعة ليلا وخروج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بما أصابهم قال: (فقام وهو يجر رداءه قائلا: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي) وقال: (إن هذا السحاب ليستهل بنصر بني كعب) روى ذلك ابن سعد وابن إسحاق وهذا النص من رواية ابن سعد. قال ابن حجر: ورواه البزار والطبراني وموسى بن عقبة وغيرهم)
[48]
قلت: في هذا التخريج والعزو أوهام ينبغي بيانها:
أولا: أن القصة ليست من (ما صح من أخبار السيرة) لأنها بهذا النص عند ابن سعد (2 / 134) وابن إسحاق (4 / 32 - 37) بدون إسناد فكيف يمكن الحكم عليها بالصحة؟
ثانيا: هذا النص لم يروه البزار أصلا فعزوه إليه وادعاء أن ابن حجر عزاه إليه خطأ مزدوج فإن كلامه صريح في غير ما نسب الدكتور إليه فإنه ذكر القصة من طريق ابن إسحاق وعنده أن الخزاعي لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد قال:
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
الخ الأبيات فقال الحافظ (7 / 419) : (وقد روى البزار من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بعض الأبيات المذكورة في هذه القصة وهو إسناد حسن موصول ولكن رواه ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة مرسلا وأخرجه أيضا من رواية أيوب عن عكرمة مرسلا مطولا. . . وأخرجه عبد الرزاق من طريق مقسم عن ابن عباس مطولا وليس فيه الشعر وأخرجه الطبراني من حديث ميمونة بنت الحارث مطولا. . . وعند موسى بن عقبة في هذه القصة: قال: ويذكر أن. . .)
قلت: فتبين من كلام الحافظ أن البزار لم يرو القصة وإنما روى منها بعض الأبيات فعزوها إليه خطأ واضح. وإسناد الطبراني ضعيف كما ذكرته في (تخريج الفقه)(ص 404) لكن يظهر من مجموع طرقها أن لها أصلا في الجملة والتحقيق يقتضي تتبع ألفاظ هذه الطرق فما اتفقت عليه منها فهو الثابت وهذا يتطلب الوقوف على بعض المصادر التي ذكرها الحافظ مثل كتاب ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وذلك من غير الميسور الآن
[49]
ثالثا: تبين من كلام الحافظ الذي ذكرته آنفا أن موسى بن عقبة لم يسق الحديث بالإسناد وإنما علقه بقوله: (ويذكر) فقول الدكتور أن الحافظ قال عطفا على البزار والطبراني: (وموسى بن عقبة) فيه إيهام أنه رواه بإسناده وهذا يخالف الواقع في كلام الحافظ كما ذكرنا وإنما أتي الدكتور من قلة معرفته بفن التخريج ففي مثل هذا ينبغي أن يقال: (وموسى بن عقبة معلقا) وكذلك ينبغي أن يقال في رواية ابن إسحاق وابن سعد لهذه القصة دفعا لما يوهم خلاف الواقع
إنكار الدكتور وجود الزيادة في (الطبقات) وهي فيه
9 -
ثم ذكر (2 / 167) قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بكتاب معه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ثم قال: (خبر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى بهذا التفصيل من رواية ابن سعد في طبقاته وقد ذكر ذلك البخاري أيضا مختصرا. . . وقد أسند الشيخ ناصر في تعليقاته على كتاب فقه السيرة للغزالي إلى ابن سعد زيادة على ما ذكرناه لم نجدها في طبقاته وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شواربهما (أي الرسولين الذين أرسلهما إليه باذان) مفتولة وخدودهما محلوقة فأشاح عنهما وقال: ويحكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا يعنيان كسرى. فهذه الزيادة لم نجدها في رواية ابن سعد)
قلت: لو أنك يا دكتور قرأت (الطبقات) بإمعان ونظر وتدبر فكر لوجدت الرواية التي تجزم بنفيها أو على الأقل لو أحسنت الرجوع إليه والبحث فيه لوجدتها ولكن من كان عاجزا عن استخراج ترجمة فضالة الليثي من كتاب (الإصابة) وتراجمه مرتبة على حروف ألف باء (1) فبالأحرى أن يعجز عن استخراج هذا الحديث من (الطبقات) وأحاديثه غير مرتبة على طريقة تشبه في سهولة العثور على المطلوب منه طريقة ترتيب التراجم ثم إن من يقرأ قول الدكتور
(1) انظر الحديث التاسع عشر (ص 33)
[50]
في هذه الزيادة (ولم نجدها في طبقاته) ليتبادر إلى ذهنه أن الدكتور قرأ (الطبقات) كله واستخرج منه فوائده وكنوزه أودعها كتابه هذا ولكنه مع ذلك لم يجد الزيادة فيها والحقيقة أن الدكتور لم يفعل ذلك بل هو لم يتعب نفسه البتة - والله أعلم - في سبيل البحث عن هذه الزيادة في (الطبقات) وكل الذي فعله أنه رجع إليه في الفصل الخاص ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل بكتبه إلى الملوك. . . هذا الفصل الذي نقل منه الدكتور القصة المشار إليها آنفا لم يتعده إلى غيره أصلا ولو فرضنا أنه تعداه فذلك دليل واضح على أن الدكتور لم يتمرن بعد على طريقة البحث والتحقيق وأن بعض طلبته خير منه في هذا السبيل كما يأتي بيانه فإن الحديث الذي يتعقبني فيه لما كنت خرجته في التعليق على (فقه السيرة) للشيخ الغزالي لم يكن تخريجي إياه على طريقة الدكتور الغالبة عليه وهي العزو المهمل من ذكر الأجزاء والصفحات كلا فقد قلت في تخريجه (ص 389) :
(حديث حسن أخرجه ابن جرير (2 / 267 - 267) عن يزيد بن أبي حبيب مرسلا وابن سعد في (الطبقات)(ج 1 ق 2 ص 147) عن عبيد الله بن عبد الله مرسلا أيضا وسنده صحيح ووصله ابن بشران في (الأمالي) من حديث أبي هريرة بسند واه وفيه من الطرق الثلاث زيادة كان يحسن إيرادها وهي: (لكني أمرني ربي عز وجل أن أعفي لحيتي وأن أحفى شاربي)
ففي قولي: " ج " كذا " قسم " كذا " صفحة " كذا أكبر تنبيه للقاريء العادي بله الدكتور أن هذا الحديث في (الطبقات) في مكان آخر غير المكان الذي نقل هو منه القصة المشار إليها فيما سبق وفيه تنبيه آخر وهو قولي (عن عبيد الله مرسلا أيضا وسنده صحيح) . ووجه التنبيه يعرفه الدكتور جيدا فإنه يعلم أن القصة ليس لها إسناد عند ابن سعد بخلاف هذا فكل ذلك كان كافيا لينبه الدكتور على أن لا يبادر بالنقد والإنكار ولكن يبدو أن الإناء امتلأ فلا بد أن ينضح بما فيه نعم لقد وجدنا له عذرا في ذلك ولكنه عذر لا يليق بمقام دكتور مثله
[51]
وقد يقبل ممن هو دون مستوى أي طالب من طلابه في كلية الشريعة وهو أن رقم الصفحات المشار إليها (147) سقط من الآلة الطابعة رقم المئات منها فصار هكذا (ص 47)(1) فمن المحتمل أن الدكتور لم يبحث مطلقا وكل ما فعله أنه رجع إلى هذا الرقم فلما لم يجد الزيادة فيه قال: (لم نجدها في طبقاته) ولو أنه أنصف وكان مخلصا في نقده لقال: (لم نجدها في المكان الذي أشار إليه الألباني من (الطبقات) ولكنه يريد أن يتشبع بما لم يعط وأن ينقد بغير حق فما يكون جزاء من يفعل ذلك إلا أن يصدق فيه قول القائل: (وعلى الباغي تدور الدوائر)
ثم إن الدكتور آثر رواية ابن سعد التي لا إسناد لها على رواية البخاري في (صحيحه) لا لشيء إلا لأنها مفصلة ورواية البخاري مختصرة ثم هو يزعم أنه اعتمد على ما صح من الأخبار لقد صرت أعتقد أن الصحة التي يعنيها الدكتور غير الصحة التي يعنيها أهل العلم فما هي؟ لست أدري إلا أن تكون هي التي توافق هوى الشخص ومزاجه كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين فهل تأثر بهم الدكتور؟ إذا كان الجواب: لا فإذن ما هي الصحة التي يعنيها وهو يسوق عشرات النصوص على أنها صحيحة وهي ليست كذلك على قواعد أهل العلم ما هيه إذن ما هيه؟ (2)
10 -
قال (2 / 287) : (فقد روي عن عائشة رضي الله عن ها أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من البقيع استقبلته
(1) لقد اكتشف الخطأ المطبعي ذلك الطالب الجامعي الذي سبقت الإشارة إليه في آخر الكلام على الحديث (14) ص 26 - 27، أليس كان أستاذه الدكتور أولى بهذا الاكتشاف الخطير
(2)
واعلم أيها القارئ الكريم أن الأستاذ الفاضل عيد عباسي كان نشر في كتابه (بدعة التعصب المذهبي)(ص 316 - 320)
[52]
وهي تقول: وارأساه فقال لها صلى الله عليه وسلم بل أنا والله يا عائشة وارأساه. رواه ابن إسحق وابن سعد)
[53]
قلت: فيه مؤاخذات:
الأولى: اقتصاره في تخريجه على ابن إسحاق وابن سعد وهو يشعر أنه لم يروه من هو أشهر منهما وليس كذلك فقد أخرجه أحمد والدارمي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي كما هو مخرج في كتابي (أحكام الجنائز وبدعها)(ص 50 - طبع المكتب الإسلامي)
والأخرى: تصديره إياه بقوله: (روي) المشعر بأنه ضعيف في اصطلاح المحدثين كما هو مقرر في علم (المصطلح) ونبه عليه الإمام النووي في مقدمة كتابه (المجموع شرح المهذب) . والدكتور في هذا التصدير مخطيء سواء كان يعلم هذا الاصطلاح ووضعه في محله عنده أم لا
أما الأول فلأن إسناده ثابت كما بينته في المصدر السابق فكيف يصدره بصيغة التمريض إن كان يعلم
وأما الآخر وهو أن يكون لا علم عنده بهذا الاصطلاح أو عنده علم به ولكنه وضعه في محله بزعمه فهو زعم باطل كما سبق
من جهله في التخريج وافتراؤه فيه وإصراره عليه
11 -
ذكر (2 / 289 - 290) قصة صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس في مرض موته وفيها: (فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر)
ثم قال معلقا عليه: (رواه البخاري في كتاب الصلاة باب من قام إلى جنب الإمام لعلة ومسلم في كتاب الصلاة باب استخلاف الإمام ومالك في الموطأ كتاب صلاة الجماعة باب صلاة الإمام وهو جالس وغيرهم ومن العجيب أن الشيخ ناصر خرج هذا الحديث في تخريجه لأحاديث فقه السيرة للغزالي فعزاه إلى الإمام أحمد وابن ماجه فقط وزاد على هذا أن أخذ يحقق في نسبة ضعف إليه بسبب أن فيه أبا إسحق السبيعي مع أن الحديث متفق عليه وله طرق غير هذا الذي اهتم بتحقيقه. . .)
[54]
قلت: الذي أعتقده أن القاريء الكريم سيتعجب من تعجب الدكتور إذا ما كشفنا ما في كلامه من تحامل مكشوف وجهل فاضح بعلم التخريج وبين يدي ذلك لا بد من أن أنقل كلامي في تخريج الحديث الذي أشار إليه الدكتور فأبدأ أولا بذكر نصه في كتاب (الفقه) ثم أثني بكلامي عليه قال فضيلة الشيخ الغزالي حفظه الله تعالى (ص 501) :
(قال ابن عباس: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ثم وجد خفة فخرج فلما أحس به أبو بكر أراد أن ينكص فأومأ إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر فكان أبو بكر يأتم بالنبي والناس يأتمون بأبي بكر)
فقلت في تخريجه ما نصه: (صحيح أخرجه أحمد (2055 و 3330 و 3355) وابن ماجة (1 / 373) من طريق أبي إسحاق عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس ورجاله ثقات لكن أعله البوصيري بأن أبا إسحق - وهو السبيعي - اختلط بآخر عمره وكان مدلسا وقد رواه بالعنعنة. قلت: لكن تابعه عبد الله بن أبي السفر إلا أنه قال: عن ابن عباس عن العباس فجعله من مسند العباس وهذا اختلاف يسير لا يضر في صحة الحديث إن شاء الله. وقد رواه من هذا الوجه أحمد أيضا (1784 و 1785)
فإذا وقفت أيها القاريء الكريم على تخريجي هذا وقابلته بما نسبه الدكتور إلي تبين لك الحقيقتان الآتيتان:
الأولى: أن الحديث الذي خرجته هو غير الحديث الذي قال الدكتور فيه رواه البخاري. . . الخ. ويدل على ذلك أمران اثنان:
الأول: أن فيه قوله: (واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر) وهذا ليس في حديث الشيخين
[55]
والآخر: أنه من حديث ابن عباس وحديث الشيخين إنما هو من حديث عائشة كما لا يخفى على من رجع إلى المواطن التي أسماها الدكتور من تلك الكتب وإذا كان كذلك فلا يجوز عند أحد أوتي ذرة من المعرفة بهذا العلم عزو حديث ابن عباس للصحيحين لمجرد أنهما أخرجا أصل الحديث من رواية عائشة رضي الله عن ها. أي فلا يجوز لأحد سليم العقل والعلم أن يقول في حديث ابن عباس: (أخرجه الشيخان) فإنه كذب واضح عليهما وهذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى برهان ولا يناقش فيه أحد من طلاب العلم ولذلك استدركه على الشيخين الضياء المقدسي فأورده في كتابه الذي سماه (الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم)(58 / 185 / 1) . فهل خفي هذا على الدكتور حتى تعجب من عزو الحديث إلى أحمد وابن ماجه فقط أم الأمر كما قيل:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
نسأل الله السلامة
والحقيقة الأخرى: هي أنني صححت الحديث وصرحت بذلك في مطلع التخريج ثم حكيت ما أعله البوصيري ثم رددته بالمتابعة المذكورة فكيف جاز للدكتور أن يوهم القراء أني ضعفت الحديث بقوله: (وزاد على هذا أن أخذ يحقق في نسبة ضعف إليه. . .) أفيفعل هذا من يخاف الله؟ (1)
جهله الفرق بين حديث البخاري الصحيح وحديث الترمذي الضعيف إسنادا ومتنا ثم محاولته ستر ذلك باللف والدوران
(1) قلت: هذا الحديث هو الحديث الثاني الذي كان الأستاذ عيد عباسي بين خطأ الدكتور فيه وافتراءه علي في كتابه القيم (بدعة التعصب المذهبي) كما سبقت الإشارة إليه قريبا (ص 52 - 56) فما استجاب الدكتور لداعي الحق بل أصر وكابر وعاند فأبى
[56]
12 -
قال (2 / 291) : (كان بين يديه (يعني النبي صلى الله عليه وسلم ركوة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات. رواه البخاري في باب مرض الرسول صلى الله عليه وسلم. . . وهذا أيضا مما وهم الشيخ ناصر في تخريجه فقد قال عنه: ضعيف أخرجه الترمذي وغيره عن (كذا) طريق موسى بن سرجس بن محمد عن عائشة. . . وهو مروي في البخاري بطريق غير هذا)
قلت: هذا تدليس بل جهل آخر من الدكتور كنت أود أن لا يتردى
[57]
فيه فأنا لم أخرج البتة هذا النص الذي أورده من رواية البخاري وإنما خرجت نصا آخر في كتاب الشيخ الغزالي بلفظ: (ويقول: اللهم أعني على سكرة الموت) فهذا هو الذي ضعفته وعزوته للترمذي وذكرت في تخريجه (499) أن الترمذي نفسه ضعفه بقوله: (حديث غريب) وقلت: (يعني ضعيف لأن موسى هذا لم يوثقه أحد فهو مجهول)
فهل الدكتور لا يفرق بين رواية البخاري التي هي بلفظ: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات) . وبين رواية الترمذي التي تقول: (اللهم أعني على سكرة الموت) ؟ إذا كان الدكتور لا يفرق بينهما كما يدل عليه كلامه المذكور فقد سقط الكلام معه إذ الأمر حينئذ كما قال الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وإن كان يفرق بينهما كما هو الظاهر لكل ذي عينين فأين الوهم المزعوم يا حضرة الدكتور وما غرضك من ادعائك إياه؟
بل أقول: إنك أنت الواهم أيها الدكتور لأنك تريد مني أن
[58]
أعزو لفظ الترمذي الذي ضعفه الترمذي نفسه إلى البخاري الذي لفظه مغاير للفظ الترمذي وهذا لا يجوز عند من شم رائحة هذا العلم الشريف
وخطأ الدكتور في هذا الحديث كخطئه في حديث ابن عباس المتقدم فكما أراد مني هناك أن أعزوه للشيخين اللذين أخرجاه من حديث عائشة دون الزيادة لمجرد تعلقهما بحادثة واحدة فكذلك أراد مني مثله في هذا الحديث مع أنه ضعيف ويقيني أن الدكتور لا يعلم أن القواعد الحديثية تقتضي أن رواية الترمذي منكرة لمخالفتها لرواية البخاري الصحيحة مع اتحاد راوي الحديث وهي السيدة عائشة رضي الله عن ها لجهالة راويها وثقة راوي رواية البخاري (1)
وإذا كان هذا علم الدكتور في الحديث الشريف عشرات الأحاديث الضعيفة والمنكرة وما لا أصل له يسوقها بصيغة الجزم وقدم لها أنها مما صح من الأخبار وهي ليست كذلك ثم ينتقد غيره بدون علم ولا إنصاف فماذا يكون حال الكتاب في نصوصه الأخرى لو توجهت الهمة إلى نقدها؟
[59]
وختاما فإني أنصح الدكتور أن لا يكتب إلا في علم أتقنه وتمرس فيه مدة من الزمان وأن يكون رائده في ذلك النصح للمسلمين والإخلاص لرب العالمين بعيدا عن التأثر بخلق الحقد والحسد فذلك أجدى له وأنفع في الدنيا والآخرة قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (التقريب)(ص 232) ما مختصره:
[60]
(علم الحديث شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهو من علوم الآخرة من حرمه حرم خيرا عظيما ومن رزقه نال فضلا جزيلا فعلى صاحبه تصحيح النية ويطهر قلبه من أغراض الدنيا وليستعمل الأخلاق الجميلة والآداب ثم ليفرغ جهده في تحصيله ولا يحملنه الشره على التساهل في التحمل فيخل بشيء من شروطه وينبغي أن يستعمل ما يسمعه من أحاديث العبادات والآداب فذلك زكاة الحديث وسبب حفظه وليحذر كل الحذر من أن يمنعه الكبر من السعي التام في التحصيل وأخذ العلم ممن دونه في نسب أو سن أو غيره ولا ينبغي أن يقتصر على سماعه وكتبه دون معرفته وفهمه فليتعرف صحته وضعفه ومعانيه ولغته وإعرابه وأسماء رجاله محققا كل ذلك وليشتغل بالتخريج والتصنيف إذا تأهل له وليحذر إخراج تصنيفه إلا بعد تهذيبه وتحريره وتكريره النظر فيه وليحذر من تصنيف ما لم يتأهل له)
وبهذه النصائح العظيمة أختم هذه البحوث الآن راجيا المولى سبحانه وتعالى أن ينفع بها كل من قرأها بقلب سليم. والحمد لله رب العالمين
[61]
تذييل
وبعد كتابة ما تقدم بزمن بعيد وقفت على الطبعة الثالثة من هذا الكتاب (فقه السيرة) للدكتور البوطي وقد زعم في مقدمتها (أن القاريء لن يرى فيها أي زيادة على الطبعة التي قبلها ولا شيئا من مظاهر التغيير والتبديل إلا ما لا بد منه إصلاحا وتنقيحا) . فوجدت فيها أخطاء عديدة وجهالات جديدة جاءت في الزيادات التي في الطبعة التي قبلها. يعني الطبعة الثانية ولم يتح لي الاطلاع على هذه الطبعة لنرى مدى مطابقة زعمه هذا للواقع فقد سبق للدكتور مثله في مقدمة الطبعة الثانية لرسالته (اللامذهبية) مع أن الواقع شهد بخلافه كما أثبت ذلك بالأرقام صاحبنا الأستاذ عيد عباسي في (ملحق بدعة التعصب المذهبي) ص (51 - 58) ومن ذلك أنه كان عزا في الطبعة الأولى من (اللامذهبية) ص 61 حديثا للبزار والطبراني فقط فزاد في طبعتها الثانية (ص 77)(وروى الشيخان عن عائشة قريبا منه بلفظ. . .) فذكره والعجيب أن هذا التخريج أخذه البوطي من رد الأستاذ عباسي عليه في (بدعة التعصب) دون أن يعزوه إليه تماما كما فعل في بعض تعديلاته السابقة التي نبهت عليها في الأحاديث الثلاثة المتقدمة (ص 50 - 59)(وانظر الملحق المشار إليه ص 53)
ولا فائدة كبرى من التوسع في هذا المجال وإنما المهم الآن أن أنبه على تلك الأخطاء الجديدة كي لا يغتر بها القراء الكرام لا سيما وقد أكد المؤلف في مقدمتها أنه لم يسجل في كتابه هذا من أحداث السيرة إلا أهمها وأصحها فإن الدين النصيحة كما قال صلى الله عليه وسلم ولأذكرها على الترتيب الذي وقعت في كتابه (الفقه) فأقول:
1 -
قال (ص 55 - 56) تعليقا على قصة بحيرا: (باختصار عن سيرة ابن هشام 1 / 180 ورواه الطبري في تاريخه 2 / 287 (1) ورواه البيهقي في سننه وأبو نعيم في الحلية ويوجد بين هذه الروايات بعض الخلاف في التفصيل وانفرد الترمذي بروايته مطولا على نحو آخر ولعل في سنده بعض اللين () فقد قال هو نفسه
[62]
بعد أن رواه: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) وفي سنده عبد الرحمن بن غزوان قال عنه في الميزان: له مناكير ثم قال: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق. . . في سفر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام وقال عنه ابن سيد الناس: في متنه نكارة (راجع عيون الأثر 1 / 43) والغريب أن الشيخ ناصر الدين الألباني قال عنه - رغم هذا - في تخريجه لأحاديث (فقه السيرة) للغزالي: إسناده صحيح ولم ينقل من تعليق الترمذي عليه إلا قوله: هذا حديث حسن. . . ومن عادته أن يضعف ما هو أصح من هذا الحديث بكثير. هذا وأما القدر المشترك من القصة فثابت في الطبعة الأولى بطرق كثيرة لا يلحقها وهن)
وجوابا عليه أقول: إن أمر هذا الدكتور البوطي لعجيب حقا فإنه لم يكتف بما تعقبني به في تلك الأحاديث الثلاثة التي كان أخونا عيد كشف للناس عن جهله فيها فاضطر الدكتور إلى الاعتراف ببعض أخطائه والمكابرة في سواها في هذه الطبعة الثالثة كما سبق بيانه بل إنه عاد إلى الرد علي في هذا الحديث ليؤكد من جديد جهله في علم الحديث وإليك البيان:
أولا: عزوه القصة لابن هشام واعتماده عليه فيها دون الآخرين لا فائدة منه بل هو قلب للصواب لأنها عنده معلقة بدون إسناد وهي عند الآخرين مسندة فالاعتماد عليهم أولى
ثانيا: إن إسناد القصة منتقدة لدى الدكتور فلم يبق في يده شيء ثابت يعتمد عليه فكيف مع هذا يقول فيما تقدم نقله عنه اعتمدت أولا على صحاح السنة. ثانيا على ما صح من أخبار السيرة؟ فكيف يصح هذا الذي اختصر من (سيرة ابن هشام) ولا إسناد له وما من إسناد لا يعرج عليه بل وينتقده؟
ثالثا: قوله (وانفرد الترمذي بروايته مطولا. . .) ليس بصحيح
[63]
فقد شاركه في روايته كذلك مطولا الطبري في الموضع الذي أشار إليه الدكتور طبع دار المعارف برقمه المذكور إلا أن الصواب فيه (2 / 278) وليس (2 / 287) وكذلك رواه الآخران وهذا مما يدل اللبيب أن الدكتور لا ينقل مباشرة عن كتب الأئمة وإلا لما وقع في هذا التقصير الواضح الفاضح
رابعا: قوله (والبيهقي في سننه وأبو نعيم في الحلية) خطأ أيضا نشأ من جهل البوطي بكتب أئمة الحديث وعدم تقليبه إياها واستفادته منها وهو إنما ينقل عمن نقل عنها إلا نادرا وغالب الظن أنه نشأ من كونه رأى بعضهم عزاه للبيهقي وأبي نعيم فتوهم لقلة علمه أن المراد به كتابيهما (السنن) و (الحلية) وإنما المراد كتابيهما المسمى كل منهما ب (دلائل النبوة) وهو فيه عند أبي نعيم (1 / 53) والبيهقي (1 / 308 - 309)
خامسا: قوله (لعل في سنده بعض اللين. . . إلى قوله: من هذا الوجه)
أقول:
أولا: ألا يكفي القاريء الكريم دلالة على جهل البوطي بهذا العلم قوله هذا؟ فإن الذي يريد أن يحقق الكلام على حديث ما لا سيما إذا كان في صدد الرد على غيره كما هو شأن الدكتور هنا لا يسوق الكلام بهذا الوهن كالذي يقال فيه: يقدم رجلا ويؤخر أخرى متوكئا على عصاه (لعل) وهي كلمة طمع وإشفاق كما هو معلوم
وثانيا: إن سلمنا أن في السند بعض الوهن فماذا وما معنى الانتقاد حينئذ وتسويد الورق وإضاعة الوقت على القراء وكل دارس لعلم المصطلح يعلم أن الحديث الحسن فيه بعض الضعف لأنه فوق الحديث الضعيف ودون الصحيح وكذلك راوي الحديث الحسن هو في الحفظ دون راوي الحديث الصحيح فكل حديث حسن فيه بعض اللين ولذلك فلا تعارض بين هذا وبين تحسين الترمذي إياه
والحقيقة أن في كلام البوطي على هذا الحديث ركة وعجمة وجهلا وعيا
[64]
لا يتبين منه مراده لأن قوله هذا واستدلاله بما نقله عن الترمذي يمكن تفسيره بأنه يعني أن الحديث ليس صحيح الإسناد وإنما هو حسن فقط وقول الترمذي دليل على ذلك كما بينت آنفا وحينئذ فهل من أجل هذا الفرق الزهيد نصب نفسه للرد على تصحيح الألباني؟ ذلك مما لا أعتقده بدليل قوله بعد عني: (ولم ينقل من تعليق الترمذي عليه إلا قوله: هذا حديث حسن) . فهذا يشعر القاريء اللبيب أنه يغمز مني لهذا التقصير في النقل عن الترمذي ولا يعقل وجه التقصير في منطق البوطي إلا على اعتبار أن عبارة الترمذي بتمامها أقرب إلى التضعيف منها إلى التصحيح من عبارته حسب نقلي عنه ولذلك غمز مني ولم يدر المسكين أن العكس هو الصواب عند غير البوطي ممن لهم معرفة بهذا العلم فإنهم يعلمون أن الحديث الذي يقول فيه الترمذي: (حسن غريب) هو أقوى من الحديث الذي يقول هو فيه: (حسن فقط) ذلك لأن قوله الأول يعني حديث حسن لذاته وقوله الآخر يعني حسن لغيره وقد أفصح عن هذا الأخير في آخر كتابه (السنن) وبينه الحافظ في (شرح النخبة)(ص 11 - الميمنية) وصرح بعد ذلك (ص 25) أن هذا منحط عن رتبة الحسن لذاته
[65]
فإذا تبين هذا فهل يعقل أن يصدر الغمز المذكور من الدكتور لو كان يعلم أن قول الترمذي: (حديث حسن غريب) أعلى مرتبة من قوله: (حديث حسن) اللهم لا إذ أن هذا القول يفهم منه القاريء العارف بعلم المصطلح أن في إسناد الحديث ضعفا تقوى بمثله كما سبق ولو أن الدكتور كان يفهم هذا لكان صب انتقاده عليه ولأصاب حقا ولكنه لما كان لا يعلم هذه الحقيقة غفل عن هذا النقد الصحيح ووقع في ما ينتقد هو فيه لعدم دراسته لهذا العلم الشريف إلا بمقدار ما يحصل به الشهادة ثم. . . عليه السلام
ويلوح لي أن الذي غر الدكتور وأوقعه في هذا الخطأ الفاحش أن قول العلماء: (حديث غريب) يعنون أنه ضعيف غالبا ولم يعلم أن الغرابة قد تجامع الصحة فضلا عن الحسن أحيانا كما في قول الترمذي في هذا الحديث وهو كما يجمع أحيانا في الحديث الواحد بين لفظي: (حسن صحيح) ويجمع بين لفظي (حسن غريب) وكما أن الحديث الذي قال فيه (حسن صحيح) دون ما قيل فيه (صحيح) على وجه بينه الحافظ (ص 12) فتوهم الدكتور أن الحديث الذي قال فيه الترمذي: (حسن غريب) دون الذي قال فيه: (حسن) في علم البوطي محرم الاجتهاد فيما اختلف فيه الفقهاء والمجتهد اجتهادا مطلقا في علم الحديث والآتي فيه بما لم تستطعه الأوائل
سادسا: قوله (وفي سنده عبد الرحمن بن غزوان قال عنه في الميزان: له مناكير ثم قال: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق. . . في سفر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام)
قلت: وهذا مما يدل على جهل الدكتور بهذا العلم فإن قول الذهبي في ابن غزوان: (له مناكير) ليس جرحا يسقط الحديث عن درجة الثبوت ولو في مرتبة الحسن وذلك من وجهين:
الأول: أن قول الذهبي أو غيره في الراوي: (له مناكير) ليس بجرح مطلقا خلافا لصنيع البوطي هنا لا سيما إذا كان ثقة كما هو شأن ابن غزوان هذا على
[66]
ما يأتي بيانه قال الذهبي في (الميزان)(1 / 56) : (وما كل من روى المناكير ضعيف) . وقال الإمام ابن دقيق العيد: (قولهم: (روى مناكير) لا يقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته وينتهي إلى أن يقال فيه: منكر الحديث لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه) . (راجع فتح المغيث للسخاوي 1 / 346 - 347)
الثاني: أن ابن غزوان هذا قد وثقه جماعة منهم ابن المديني شيخ البخاري وابن نمير ويعقوب بن شيبة والدارقطني وغيرهم وأخرج له البخاري في (صحيحه) فقد جاوز القنطرة كما يقول الذهبي في أمثاله وصحح حديثه هذا جماعة يأتي ذكرهم ومنهم الحافظ ابن كثير فقد قال في (السيرة)(1 / 247) : (وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ ولم أر أحدا جرحه ومع هذا في حديثه غرابة ثم بين وجهها على النحو الآتي ذكره عن ابن سيد الناس فكيف استجاز البوطي كتمان هذه النصوص موهما القراء أن ابن غزوان ليس فيه إلا قول الذهبي: (له مناكير) مع أنه ليس جرحا على التحقيق كما سبق والواقع أنه ثقة عند الجمهور كما رأيت. أفليس هذا من الكتمان الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) . رواه ابن حبان في (صحيحه) والحاكم وصححه هو والذهبي فحسبه
وإن له من مثل هذا الكتمان الشيء الكثير كما يأتي ولا أذهب بك
[67]
بعيدا فإنه لم ينقل كلام الذهبي بتمامه وكذلك صنع في كلام ابن سيد الناس وفي كلامي أيضا فهو يأخذ من كلامهم ما هو له ويدع ما هو عليه تدليسا وتعمية على الناس لأنه لو نقل كلام كل واحد منهم كاملا لظهر التناقض بين كلماتهم ولما استفاد هو من ذلك شيئا مطلقا في تأييد وجهة نظره فهو يريد بها دعم قوله المتقدم: (ولعل في سنده بعض اللين) وإذا بتمام كلامهم رد عليه لأن كلام ابن سيد الناس يؤيد صحة الإسناد وكلام الذهبي صريح في حكمه على الحديث بالوضع والبوطي لا يتبنى لا هذا ولا هذا ولذلك لم ينقله فتمام كلام الذهبي الذي تقدم ص 66 ذكر أوله الذي اقتصر عليه البوطي: (. . . ومما يدل على أنه باطل قوله: (ورده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالا) وبلال لم يكن بعد خلق وأبو بكر كان صبيا)
فأنت ترى أيها القاريء الكريم كيف أن البوطي أخذ من كلام الذهبي وتسلح به ضد تصحيح الألباني وترك هذه التتمة لأنها ترد عليه تبنيه للقصة ولو على مرتبة (بعض اللين) لأن الذهبي يصرح فيها بالبطلان ولو أنه كان عالما حقا أمينا لنقل التتمة ورد عليها بالحجة والبرهان ولكن أنى له ذلك وهو عاجز عن الرد بها على الألباني فكيف يرد على الحافظ الذهبي؟
فإن قيل فهذه التتمة فيها رد عليك أيضا فالجواب نعم ولكني قد رددت عليها مفصلا بعد أن نقلت كلامه هذا في (الميزان) وكلامه في (التلخيص) وكلامه في (تاريخ الإسلام) في مقال لي كنت نشرته في العدد الثامن من المجلد السادس من مجلة (المسلمون) محرم سنة 1379 تحت عنوان (حديث تظليل الغمام له أصل أصيل) ردا على الأستاذ على الطنطاوي الذي زعم يومئذ أنه لا أصل له فمن شاء التفصيل فليرجع إليه
وخلاصة الرد عليه من وجهين:
[68]
الأول: معارضته بتصحيح من صححه وقواه وهم جمع من الأئمة كما يأتي
والآخر: أنه لا يلزم من خطأ الثقة في جملة من الحديث أن يكون الحديث كله منكرا أو موضوعا لأن الوضع إنما يثبت بكون الراوي وضاعا كذابا. وهذا منفي قطعا وإنما يكون المتن نفسه موضوعا بدلالة أمور علمية لا علاقة لها بالإسناد وهذا لا وجود له أيضا هنا مطلقا اللهم إلا جملة أبي بكر وبلال فهي وحدها المنكرة وهذا ما صرحت بإنكاره في تخريجي للحديث في (فقه السيرة) للغزالي فكتمه البوطي أيضا كما يأتي
ثم أتبعت ذلك المقال بمقال آخر كتبته بتاريخ 3 / 1379 ونشر في المجلد 26 من هذه المجلة الزاهرة (التمدن الإسلامي) تحت عنوان (حادثة الراهب بحيرا حقيقة لا خرافة) ص 167 - 175 ردا على من زعم أنه لا سند لها وقد حققت فيه ردا لبعض الشبهات أن الراهب لم يسم مطلقا في هذه الرواية الثالثة عن أبي موسى وإنما سمي في رواية ابن إسحاق التي اعتمدها البوطي وهي ضعيفة معضلة كما تقدم وفي أخرى فيها الواقدي الكذاب
سابعا: قال: (وقال عنه ابن سيد الناس: في متنه نكارة (راجع عيون الأثر 1 / 43)
قلت: قد راجعت فرأيت البوطي قد بتر كلام ابن سيد الناس كما صنع بكلام الذهبي وغيره فإن تمامه في الموضع الذي أشار إليه البوطي لا في غيره
(قلت: ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في (الصحيح) وعبد الرحمن بن غزوان أبو نوح ثقة وقد انفرد به البخاري ويونس ابن أبي إسحق تفرد به مسلم ومع ذلك فيه نكارة وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فكيف وأبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين)
قلت: فلينظر القاريء بأي وجه من دين أو خلق يستجيز الدكتور البوطي
[69]
طي هذه التتمة من كلام ابن سيد الناس وهي ترد عليه رده على الألباني وتؤكد مخالفته لأئمة الحديث المتقدمين منهم والمتأخرين في توثيقهم لابن غزوان بمحاولته (نسبة ضعف إليه) متشبثا بقول الذهبي المتقدم؟
والحقيقة أن كلام ابن سيد الناس مطابق لكلامي تمام المطابقة كما يظهر بداهة لولا أن البوطي بتره أيضا كعادته عامله الله بما يستحق وهو في قوله المتقدم والآتي:
ثامنا: قال: (والغريب أن الشيخ ناصر الدين الألباني قال عنه - رغم هذا () في تخريجه لأحاديث (فقه السيرة للغزالي: إسناده صحيح)
قلت: لست وحدي القائل فإن تمام كلامي بعد ذكري لتحسين الترمذي إياه: قلت: وإسناده صحيح كما قال الجزري وقال: (وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظة) قلت: وقد رواه البزار فقال: (وأرسل معه عمه رجلا)
فأقول الآن: لقد تنبهت لأمر كنت عنه غافلا والفضل في ذلك يعود إلى الحافظ ابن كثير فإن استنكار تلك الزيادة واعتبارها غير محفوظة إنما هو بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن وقتئذ قد بلغ العشر سنين كما تقدم عن ابن سيد الناس ولا يشك أي محدث نبيه أنه لإثبات النكارة المزعومة لا بد من إثبات السند المذكور وأن يكون أصح من إسناد ابن غزوان راوي الحديث وفيه الزيادة حتى يجوز لنا إنكارها
ومن الظاهر من كلام ابن كثير في (السيرة) أنه ليس هناك إلا ما حكاه السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين وعن الواقدي عن داود بن الحصين اثنتي عشرة سنة وبمثل هذا لا يجوز توهيم الثقة لأن الرواية الأولى معضلة والأخرى مرسلة ويكفي في ردها أنها من رواية الواقدي ولعل هذا هو وجه من لم يتعرض لبيان النكارة المذكورة كالترمذي والحاكم والبيهقي. والله تعالى أعلم
وبعد أفلا ترى أيها القاريء الكريم كم في نقل البوطي عني وعن ابن سيد الناس
[70]
من الإخلال بالأمانة العلمية في النقل؟
1 -
أوهم القاريء أنني متفرد بالتصحيح المذكور والواقع أنه سبقني إليه ابن سيد الناس والجزري كما ترى وغيرهم ممن يأتي ذكرهم قريبا
2 -
أوهمهم أنني اقتصرت على تصحيح الإسناد دون أن أبين ما في متنه من جملة غير محفوظة والواقع خلافه بل تبعت ابن سيد الناس والجزري في استنكار تلك الجملة التي استند إليها الذهبي في الحكم على الحديث كله بالوضع فأخطأ كما سبق بيانه وزدت عليهما أنني ذكرت لفظ رواية البزار الذي لا غبار عليه فكيف استساغ الدكتور البوطي هذا النقل المبتور؟ فإذا كان لا يستحي أن يفتضح بذلك عند القراء بعد انكشاف أمره أفلا يخشى الله؟ وصدق الله القائل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
والحقيقة أن علماء الحديث متتابعون على تصحيح هذا الحديث وتوثيق ابن غزوان مع بيان أكثرهم لنكارة الجملة كما حققته في المقال المنشور في مجلة (المسلمون) وقد سبقت الإشارة إليه فإليك أسماء المصححين له منهم:
1 -
الترمذي
2 -
الحاكم
3 -
ابن سيد الناس
4 -
الجزري
5 -
ابن كثير
6 -
العسقلاني
7 -
السيوطي
والخلاصة أن البوطي قد خالف كل هؤلاء الأئمة حين حاول أن (يحقق في نسبة ضعف إليه) فلم ينجح لجهله وعدم معرفته بعلم الجرح والتعديل. مع ما جاء في كلامه من كتمان العلم وإيثاره رواية ابن إسحاق التي لا إسناد لها على رواية ابن غزوان الثقة
[71]
تاسعا: قوله: ولم ينقل من تعليق الترمذي عليه إلا قوله: (هذا حديث حسن)
قلت: نعم فكان ماذا؟ فإن تمام قول الترمذي (غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) فهل في هذا التمام ما يدعمه أم ما يرد عليه؟ إن البوطي يظن الأول وذلك من جهله البالغ بهذا العلم كما سبق بيانه في الفقرة الخامسة فلا داعي للإعادة
عاشرا: قوله: ومن عادته أن يضعف ما هو أصح من هذا الحديث بكثير
قلت: وهذا إفك وبهت مبين لا حيلة لنا فيه إلا أن يصفع به وجهه ويقال له {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وإلا فإن أجهل الناس وأفسقهم لا يعجزه أن يفتري مثله فالله حسيبه
حادي عشر: قوله: (وأما القدر المشترك من القصة فثابت بطرق لا يلحقها وهن)
قلت: عليه أمور اخترنا منها:
الأولى: هذا كلام رخيص فما هو القدر المشترك من القصة؟ فهلا بينه وساق الروايات التي تؤيده؟
الثانية: قوله: فثابت بطرق كثيرة لا يلحقها وهن
قلت: هذا زعم أيضا إذ ليس للقصة طرق لا يلحقها وهن إلا هذه الطريق الموصولة عن أبي موسى وقد فعل الدكتور فيها ما فعل مع أن الحافظ ابن كثير قال (1 / 248) : إنها أصح من غيرها وصححها غيره من الأئمة المتقدمين والمتأخرين وقد ذكرت أسماءهم قريبا فانظر إلى هذا الدكتور كيف يتكلم في علم لا يعرفه ولا يتبع أقوال العارفين به من العلماء
2 -
قال (ص 155) في صلب الكتاب: (احذر وأنت تبحث عن قصة الإسراء والمعراج أن تركن إلى ما يسمى ب (معراج ابن عباس) فهو كتاب ملفق من مجموعة أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند)
[72]
أقول: يتظاهر الدكتور في هذه الفقرة بمظهر المحدث القدير النقاد للأحاديث الموضوعة والمشفق على الأمة أن يغتروا بها فإذا به ينقلب الأمر عليه لجهله بهذا العلم والكتابة فيه إلى نقيض ما رمى إليه. ألا وهو تحذيره من الركون إلى الأخذ بكل ما في الكتاب المذكور لقوله فيه (فهو ملفق من مجموعة أحاديث. . .) الخ فهل كل ما في الكتاب ملفق باطل؟ ذلك ما أريد بيانه ببعض الأمثلة لكي لا يغتر بهذه الكلمة من ابتلي بقراءة كتابه هذا (فقه السيرة) أو بالتتلمذ عليه والإصغاء لجهالاته وادعاآته
جاء في الكتاب المذكور (معراج ابن عباس) الحقائق الآتية:
1 -
قال في البراق (ص 2) : (وإذا هو دابة تشبه الدواب فوق الحمار ودون البغل)
2 -
وفي (ص 5) : (فطرق جبريل الباب فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل قالوا: ومن معك؟ قال: محمد قالوا: أأرسل إليه؟ قال: نعم قالوا: مرحبا بك وبمن معك)
3 -
وفي (ص 25) : (وفي حديث آخر: لا يفنى أكثر أمتك إلا بالطعن والطاعون)
4 -
(ص 27) : (وفرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة في كل يوم وليلة)
تلك أمثلة أربعة مما جاء في كتاب (معراج ابن عباس) وهي كلها صحيحة ثابتة في عدة أحاديث صحيحة فالمثال الأول أخرجه الشيخان وقد عزاه إليهما الدكتور نفسه (ص 146) وهو من حديث أنس وله شواهد كثيرة منها عن حذيفة وقد خرجته في (الأحاديث الصحيحة)(ص 874)
وكذلك المثال الثاني والرابع فهما في (الصحيحين) أيضا من حديث أنس المشار إليه آنفا
والمثال الثالث حديث صحيح أخرجه أحمد (6 / 133 و 145 و 255)
[73]
من حديث عائشة مرفوعا وله شواهد مخرجة عندي في (الروض النضير 526) و (إرواء الغليل 1636) فكيف يجوز للدكتور أن يقول في الكتاب المذكور أنه (ملفق من مجموعة أحاديث باطلة) وفيه هذه الأمثلة المجموعة من الأحاديث الصحيحة؟ إني على مثل اليقين أن الدكتور لم يقرأ الكتاب المذكور مطلقا أو عند كتابته هذه الكلمة على أقل تقدير وإلا لم يقع في مثل هذا الخطأ الفاحش وفيه إبطال بعض ما اعترف هو بصحته قبله بصفحات مما جاء في المثال الأول كما سبقت الإشارة إليه ويؤيدني فيما أقول أنه كتب في حاشية الصفحة (146) ما نصه:
(وحاذر أن تعتمد على مثل كتاب (معراج ابن عباس) فهو مليء بالكذب والأباطيل وابن عباس بريء من هذا الكتاب)
وهذا كلام سليم لا يرد عليه ما أوردته على قوله السابق وهو على الغالب مما استفاده من غيره وربما نقله بالحرف الواحد فلما تصرف فيه بقلمه ونقله من الحاشية إلى صلب الكتاب وقع فيما ذكرنا من الجهل الفاضح ولولا حبه تكثير صفحات الكتاب والتظاهر بالتحقيق الذي هو به غير حقيق لما وقع منه ذلك فاللهم هداك
3 -
قال في حاشية (ص 197) بعد أن نبه إلى معجزة فرس سراقة وغوص قائمتيها في الأرض ومعجزة خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته وقد أحاط به المشركون وتبرك أبي أيوب الأنصاري وزوجه ثم استطرد فذكر تبرك أم سلمة بشعره صلى الله عليه وسلم وأم سليم بعرقه وغير ذلك ثم علق عليه فقال:
(يرى الشيخ ناصر الألباني أن مثل هذه الأحاديث لا فائدة منها في هذا العصر ذكر ذلك في نقد له على أحاديث كان قد انتقاها الأستاذ محمد المنتصر الكتاني لطلاب كلية الشريعة
ونحن نرى أن هذا كلام خطير لا ينبغي أن يتفوه به مسلم فجميع أقوال
[74]
الرسول وأفعاله وإقراراته تشريع والتشريع باق مستمر إلى يوم القيامة ما لم ينسخه كتاب أو سنة صحيحة ومن أهم فوائد التشريع ودليله معرفة الحكم والاعتقاد بموجبه
وهذه الأحاديث الثابتة الصحيحة لم ينسخها كتاب ولا سنة مثلها فمضمونها التشريعي باق إلى يوم القيامة ومعنى ذلك أنه لا مانع من التوسل والتبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام فضلا عن التوسل بذاته وجاهه عند الله تعالى وأن ذلك ثابت ومشروع مع الزمن فكيف يقال مع ذلك أنه لا فائدة منها في هذا العصر؟
أكبر الظن أن السبب الذي ألغى فائدتها بنظر الأستاذ الشيخ ناصر أنها تخالف مذهبه في التوسل غير أن ذلك وحده لا يكفي موجبا لنسخها وإنهاء فائدتها كما هو معلوم)
هذا كلام البوطي بالحرف الواحد نقلته على طوله وقلة فائدته ليكون القراء على يقين من مبلغ علم هذا الرجل وخوفه من الله تعالى وعدم مبالاته بتهمة الأبرياء والطعن فيهم بغير حق ولبيان هذه الحقيقة هنا أقول:
أولا: إن ما نسبه إلي من الرأي إن هو إلا اختلاق وإن مما يدل على جرأة الرجل وقلة خوفه من الله وحيائه من الناس عزوه ذلك إلى نقدي لأحاديث الكتاني وليس فيه هذه الفرية الباطلة كما سترى ولو كان الدكتور ينتقد بإخلاص وعلم لنقل عبارتي وانتقدها انتقادا علميا موضوعيا ولكنه يعلم أنه لو فعل ذلك لانكشف عند القراء ولذلك هو جرى على هذه الطريقة من النقد يعزو القول إلى القائل وهو لم يقل ذلك أصلا أو قال شيئا منه ولكن الدكتور يأخذ بعضا ويترك بعضا كمثل من يقول {ولا تقربوا الصلاة} ويسكت فاسمع نص كلامي في نقدي المذكور للكتاني قلت (ص 56) منه ما نصه:
(6 - إيراده أحاديث لا يترتب على معرفتها اليوم كبير فائدة تحت العناوين الآتية (ص 21) : (التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره) . وذكر فيه حديث
[75]
علي بن أبي طالب وفيه أمره صلى الله عليه وسلم له ولغيره أن يشربا من إناء مج فيه صلى الله عليه وسلم وأن يفرغاه على وجوههما ثم قال: (تبرك الصحابة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أورد فيه حديث طلق بن علي وفيه أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وتمضمض ثم صبه في إداوة لهم ثم أعاد الترجمة ذاتها وذكر تحتها حديثا ثالثا فيه تبرك أسماء بجبته صلى الله عليه وسلم ثم أعاد الترجمة للمرة الرابعة وأورد فيه حديثا في تبرك أم سلمة بشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فما هو الفائدة من تكرار هذه العناوين والتراجم في الوقت الذي لا يمكن اليوم التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم لعدم وجودها؟ وما يفعلونه اليوم في بعض البلاد من التبرك في بعض المناسبات بشعرة محفوظة في زجاجة فهو شيء لا أصل له في الشرع ولا يثبت ذلك بطرق صحيحة
نعم إنما يستفيد من هذه التراجم بعض مشايخ الطرق كما سبق ذكره في المقدمة ولعل المصنف وضع هذه التراجم مساعدة منه لهم على استعباد مريديهم وإخضاعهم لهم باسم التبرك بهم والله المستعان)
هذا الذي قلته في النقد المذكور نقلته مضطرا بالحرف الواحد ليقابله القاريء الكريم بما نسبه البوطي إلي ليتبين له افتراؤه وغلواءه في قوله: (هذا كلام خطير لا ينبغي أن يتفوه به مسلم) فأنت ترى أن الدكتور تعمد حذف لفظة (كبير) المضافة إلى (فائدة) والتي هي نص صريح في أنني لا أنفي الفائدة كما لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى وقد عللت ذلك بتعليل بين فقلت: (لا يمكن اليوم التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم لعدم وجودها. . .) فتبقى الفائدة التي ليست بكبيرة إنما هي معرفتها لمجرد العلم بالشيء ولا الجهل به فكيف ينسب البوطي إلي تلك الفرية: (هذه الأحاديث لا فائدة منها في هذا العصر) ؟
ثانيا: هب أنني قلت ذلك فهلا ذكر السبب الذي قلته في تعليل ذلك بديل أن يكتمه عن الناس فيوقعهم في الولوغ في عرض الألباني وذهابهم
[76]
مذاهب شتى في تعليل ذلك والطعن فيه أم أن هذا هو الذي يقصده البوطي بكل ما يكتبه ضد الألباني وليس هو النصح لهم؟
ثالثا: أما كان من الواجب على الدكتور البوطي أن يرد على تعليلي المذكور إن كان عنده رد بديل أن يأخذ من نقدي المتقدم على الكتاني - على طوله - تلك الجملة المبتورة (لا فائدة منها) فيكذب علي
رابعا: لا أشك أن هناك خلافا كبيرا بيننا وبين الدكتور البوطي في تقدير فائدة أحاديث التبرك فهي عندي وعند كل ذي علم فيما أعتقد غير ذي موضوع اليوم وهذا لا ينافي فائدة معرفتها كما سبق بيانه بينما يرى الدكتور أنها ذات موضوع لأنها تدل على التبرك وهو والتوسل بمعنى واحد عنده كما يدل عليه قوله المتقدم: (ومعنى ذلك أنه لا مانع من التوسل والتبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام فضلا عن التوسل بذاته وجاهه. . .) الخ وأصرح منه قوله في صلب الكتاب في الصفحة (197) : (فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد وهو التماس الخير والبركة عن طريق التوسل به وكل من التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم عند الله والتوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه أفراد وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذي ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة وكل الصور الجزئية له تدخل تحت عموم النص بواسطة ما يسمى ب (تنقيح المناط) عند علماء الأصول)
وصرح في مكان آخر (ص 355) أن المناط إنما هو كونه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق
فأقول: في هذا الكلام خبط وخلط كثير وادعاء ما لا أصل له وما لا يعقل كما أنه ليس هناك ولا حديث واحد يثبت به مطلق التوسل الذي زعمه الدكتور (المقلد الذي يقول ما لم يقله أي مجتهد في الدنيا) فهلا ذكر شيئا من تلك الأحاديث التي تثبت مطلق التوسل وبين وجه دلالتها على ما زعم وأعرض عن هذا الكلام والجعجعة التي لا طحن فيها
[77]
ثم كيف يجعل التوسل بمعنى التبرك والتوسل عنده لا يستلزم حضور المتوسل به كما هو صريح كلامه وبين التبرك الذي يقتضي حضور الشيء المتبرك به كما هو ظاهر الأحاديث التي ذكرها الأستاذ البوطي ومن قبله الكتاني وغيرهما؟ وإلا فكيف يمكن التبرك بها؟
وأيضا فكلامه صريح في جواز التوسل بقوله في دعائه: (اللهم إني أتوسل إليك بفضلات نبيك وعرقه و. . .) وغير ذلك مما يستحي من كتابته فضلا عن النطق به كل مسلم عاقل غيور على مقام الألوهية ويا خجلتاه إذا قام الدكتور على المنبر يوم الجمعة يدعو بهذا الدعاء تحقيقا منه لما ذهب إليه من فلسفة التوسل بالفضلات
وتا الله لقد ازددنا يقينا بعدم مشروعية التوسل بالذات لما رأينا الدكتور البوطي قد استلزم منه مشروعية التوسل بجزء من أجزاء الذات حتى ولو كان من الجنس الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يتطهر ويتنزه منه كما هو ثابت في (الصحيحين) وغيرهما من كتب السنة المطهرة
خامسا: لقد تبين مما سبق أن ما ظنه الدكتور البوطي من السبب ظن إثم لأني أولا لم ألغ فائدة أحاديث التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه. وثانيا لأنه قائم على تسويته الباطلة بين التبرك والتوسل من جهة وعلى مشروعية التوسل بالذات من جهة أخرى وكلاهما غير صحيح كما قدمنا ولو بإيجاز
وأما غمزه إياي بالشذوذ في قوله: (أنها تخالف مذهبه في التوسل) فهو ناشئ من عدم مراعاته الأدب مع الأئمة الذين يخالفون رأيه - ولا أقول مذهبه - فإنه لا مذهب له على الرغم من لا مذهبيته وإلا فأين هو من قول الإمام أبي حنيفة: (أكره أن يسأل الله إلا بالله) فلم يجز الإمام السؤال بالذات فضلا عن الفضلات كما هو رأي المقلد المجتهد الجامع للمتناقضات وما ذهب إليه الإمام هو مذهب صاحبيه أيضا فضلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من المحققين وهو المذهب المنصور بالأحاديث النبوية والآثار السلفية كما تراه مفصلا في رسالتي الخاصة في التوسل مع الرد على شبهات المخالفين ونقدها رواية
[78]
ودراية ومن ذلك الرد مفصلا على البوطي في خلطه بين التوسل والتبرك وتجويزه التوسل بالفضلات وما يصل هذا المقال إلى أيدي القراء الكرام إلا وتكون الرسالة قد تداولتها الأيدي وانتفع بها إن شاء الله كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ومعذرة إلى القراء مما اضطررنا إليه من الإطالة في الرد على البوطي في هذه الفقرة التي جرتنا إلى الخروج عما نحن بصدده من الرد عليه من الناحية الحديثية المحضة التي توجهت إليها في هذه المقالات دون مناقشته في آرائه الفقهية التي خالف فيها الأدلة الشرعية ولعلي أتفرغ بعد للكتابة في ذلك بإذن الله تعالى
ولنعد الآن إلى ما نحن بصدده فأقول:
4 -
قال (ص 213) : (وقد ذكر ابن إسحاق هذا الكتاب بدون إسناد وذكره ابن خيثمة فأسنده: حدثنا أحمد بن جناب أبو الوليد حدثنا عيسى بن يونس ثنا كثير ابن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار فذكر نحو ما ذكر ابن إسحاق. انظر عيون الأثر لابن سيد الناس)(1 / 198)
أقول فيه مؤاخذات:
أولا: هذا الإسناد لا قيمة له لأن كثير بن عبد الله بن عمرو المزني ضعيف جدا قال الذهبي في (الضعفاء والمتروكين) : (قال الشافعي عنه: من أركان الكذب وقال ابن حيان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة وقال آخرون: ضعيف)
ثانيا: إن كان الدكتور لا يعلم هذا الضعف الشديد لجهله بتراجم رواة الحديث فلماذا ذكر إسناده؟ وطلابه وجمهور قراء كتابه هم بالطبع ليسوا خيرا منه في ذلك وإن كان يعلمه فلم كتمه ولم يبينه؟ ألا يحق لنا مع هذا كله أن نروي قول من قال:
[79]
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ثالثا: إن كان يعلم ذلك فما الفائدة من ذلك سوى تضخيم حجم الكتاب ألا يعلم الدكتور أن الحديث الضعيف لا يتقوى بما هو شديد الضعف عند علماء الحديث ولا يستشهد به لا سيما إذا كان المشهود له لا إسناد له أصلا كما هو شأن هذا الكتاب عند ابن إسحاق
رابعا: كيف يتفق هذا كله مع قوله أنه اعتمد على ما صح من أخبار السيرة فأين الصحة فيما لا سند له وشاهده ضعيف جدا؟
خامسا: قوله: (ابن خيثمة) خطأ يدل على مبلغ علم الدكتور بالتراجم والصواب (ابن أبي خيثمة) كما في (العيون) وغيره
5 -
ثم قال عقب ذلك مباشرة (ص 214) : (وذكره الإمام أحمد في مسنده فرواه عن سريج قال: حدثنا عباد عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار. . . الخ. انظر مسند أحمد 21 / 10 شرح البنا)
قلت: فيه مؤاخذات أيضا:
الأولى: أن إسناده ضعيف لا تقوم به حجة لأن حجاجا هذا هو ابن أرطاة وقد قال فيه الحافظ في (التقريب)(صدوق كثير الخطأ والتدليس) ويبدو أن الشيخ عبد الرحمن البنا توهم أنه غيره من الثقات فقال: (وسنده صحيح) الثانية والثالثة والرابعة مثل ما تقدم في الحديث الذي قبله
الخامسة: قوله: (. . . الخ) فأقول: فيه إيهام بما يخالف الواقع لا يصدر ممن يهمه أن يكون كلامه أو ما يكتبه مطابقا للواقع فإن كل من يقف على قوله هذا بعد الحديث الذي قبله وفيه (فذكر نحو ما ذكره ابن إسحاق) ثم عطف عليه فقال: (وذكره الإمام أحمد في مسنده. . .) لا يفهم منه إلا أن الذي ذكره أحمد هو مثل أو على الأقل نحو ما ذكره ابن إسحاق في المعنى والتمام وهذا خلاف رواية أحمد فإنها مختصرة جدا بالنسبة لسياق ابن إسحاق فإن لفظها:
[80]
(كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين)
فأين هذا السياق المختصر من سياق ابن إسحاق الذي يبلغ نحو صفحتين من قياس صفحة هذه المجلة؟ ويكفيك دلالة على ذلك أن البوطي ذكر منه (13) فقرة وهي مع ذلك قل من جل
فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه في كتاباته لا يتحرى الصواب والتعبير الدقيق المطابق للواقع هذا إن لم يكن متعمدا لذلك ليسد الطريق على من قد ينتقده في اعتماده رواية ابن إسحاق التي لا سند لها فسندها هو بالحديثين المذكورين كشاهدين لها وفيهما ما علمت من الضعف الشديد في الأول والاختصار الشديد مع الضعف في الآخر
6 -
قال (ص 226) بعد أن ذكر حديث الحباب بن المنذر في إشارته على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول في مكان غير المكان الذي نزله صلى الله عليه وسلم: (روى ابن هشام في سيرته حديث الحباب بن المنذر هذا عن ابن إسحاق عن رجال من بني سلمة فهي فيما رواه ابن هشام رواية عن قوم مجهولين وذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث في (الإصابة) فرواه عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغير واحد في قصة بدر وهذا سند صحيح والحافظ ابن حجر ثقة فيما ينقل ويروي. (راجع الإصابة 1 / 302)
أقول: لنا عليه ملاحظات:
الأولى: إعلاله رواية ابن هشام بأنها عن قوم مجهولين ليس بقادح لأنهم جمع تغتفر جهالتهم عند أهل العلم بهذا الشأن لا سيما ويحتمل أنهم من الصحابة لأن ابن إسحاق رواه هكذا: فحدثت عن رجال من بني سلمة فلو أن ابن إسحاق صرح بالتحديث عن الرجال لانتفى الاحتمال المذكور لأن ابن إسحاق من أتباع التابعين ولجزمنا بأن الحديث مرسل
[81]
ولكن قوله: (فحدثت) دليل على أن بينه وبين الرجال واسطة ومن الممكن أن يكون من التابعين فيظل الاحتمال المذكور قائما وإنما العلة القادحة في هذه الرواية هي جهالة الواسطة مع احتمال الإرسال
الثانية: قوله في رواية عروة: (وهذا إسناد صحيح) ليس بصحيح على إطلاقه لأمرين:
الأول: أن ابن إسحاق فيه كلام من قبل حفظه والذي استقر عليه رأي العلماء المحققين أن حديثه في مرتبة الحسن بشرطين: أن يصرح بالتحديث وأن لا يخالف من هو أوثق منه
والأمر الآخر: أن عروة تابعي لم يدرك الواقعة فالصواب أن يقال: إسناده مرسل حسن وحينئذ فهو إسناد ضعيف لأن المرسل من أقسام الضعيف على قواعد علماء الحديث كما هو مقرر في محله ولا أجد وجها لقول الدكتور المذكور إلا أنه يظن أن عروة بن الزبير صحابي كأخيه عبد الله فإن كان كذلك فهو ظن عجيب ينبئ عن مبلغ علم الدكتور برجال السلف وقد مضى له حديث آخر من هذا النوع في الفصل الثالث الحديث السادس ص (19 - 20)
الثالثة: قوله عن الحافظ: (فرواه عن ابن إسحاق عن يزيد) خطأ ومثله قوله بعد: (ينقل ويروي) لأن الرواية عند المحدثين لا تعني مجرد ذكر المروي ونقله وإنما ذكره بإسناد الراوي له منه إلى منتهاه وقد سبق تفصيل ذلك في الرد على قول الدكتور: (روى ابن كثير)(ص 15) فراجعه ولو قال: (يروي وينقل) لكان أقرب إلى الصواب على اعتبار قوله: (وينقل) تفسيرا لقوله: (يروي) أما العكس فغير صحيح لما ذكرته
الرابعة: قوله عن الحافظ أيضا: (عن ابن إسحاق عن يزيد) خطأ منه على الحافظ لأنه إنما قال: (قال ابن إسحاق في (السيرة) : حدثني يزيد
[82]
بن رومان. . .) وفرق كبير بين القولين عند من يعلم أن ابن إسحاق مدلس وإنه إذا قال (عن) فليس بحجة وإذا قال: (حدثني) فهو حجة فلو كان الدكتور على علم بهذا لم يقل على الحافظ ما لم يقل إن شاء الله تعالى
الخامسة: لا شك أن الحافظ ثقة بل فوق الثقة لكن ذلك لا يعني أنه معصوم عن الخطأ كما تقول الشيعة في أئمتهم وهذه الرواية التي ذكرها عن عروة لم أر أحدا ذكرها كابن سيد الناس وابن كثير وغيرهما وبالإضافة إلى ذلك فهي ليست في (سيرة ابن هشام)(2 / 272) . نعم قد جاء فيها قبل ذلك (1 / 263) : (قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال. . .)
قلت: فذكر طرفا من غزوة بدر ثم أتبعه بأطراف أخرى كثيرة منها مصدرا كل طرف منها بقوله: (قال ابن إسحاق) . ثم قال ابن هشام قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال. . . الخ فذكر قصة الحباب
قلت: فمن المحتمل أن الحافظ لما نقلها وقع بصره على الإسناد الأول عن عروة ولم يقع نظره على إسناده الثاني: عن رجال من بني سلمة فصارت من رواية عروة ولكن لقائل أن يقول: هذا احتمال قوي لولا أن الحافظ قرن إلى عروة قوله: (وغير واحد) وهذا ليس في السيرة مطلقا فمن أين جاء به؟
فأقول: وهذا مما لا جواب عليه عندي الآن ويحتمل احتمالا بعيدا أن يكون الحافظ نقل رواية عروة وغير واحد من (سيرة ابن إسحاق) مباشرة فيكون فيها ما ليس في (سيرة ابن هشام) عنه وهذا مستبعد جدا والله أعلم
7 -
قال (ص 246) : (ولبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عمر رضي الله عن هـ: (إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ويقول فيما رواه الشيخان: (إنكم تختصمون إلي. . .) الحديث)
قلت: وهذه خطيئة فاحشة لا تطاق فإن الحديث عند البخاري وغيره ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول عمر رضي الله عن هـ موقوفا عليه وهو عند
[83]
البخاري في أول كتاب (الشهادات) من طريق عبد الله بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عن هـ يقول: (إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم) . وكذلك أخرجه الإمام أحمد من طريق أخرى عن عمر موقوفا بنحوه
وغالب الظن في تعليل صدور هذه الخطيئة من الدكتور البوطي إنما هو عدم الاطلاع على ما جاء في السنة كما ينبغي أولا وسرعة النقل بغير وعي وانتباه ثانيا لأنه ينقل ما لم يهضمه وإلا فإنه لو كان واعيا لم يقع منه ذلك بإذن الله ولعله لما رأى في الحديث قول: (رسول الله صلى الله عليه وسلم توهم أن الذي بعده هو قوله صلى الله عليه وسلم ومن قول الدكتور بعده: (ويقول فيما رواه الشيخان. . .) يعلم القاريء أن قوله في الحديث الأول: (يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس زيادة من الطابع غفل عنها الدكتور عند تصحيح التجارب بدليل عطفه الحديث الثاني على الحديث الأول الذي صرح الدكتور وكتب بقلمه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعطف عليه الثاني وهذا معروف رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الأول ولولا ذلك التصريح لم يصح العطف المذكور كما هو ظاهر
ومن طرائف الدكتور وغرائبه أنه كان جعل في الطبعة الأولى مكان حديث عمر هذا حديثا آخر لفظه فيها: (ولبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) . فلما انتقده صاحبنا الأستاذ عيد عباسي وبين له أن هذا الحديث لا أصل له حذفه وطبع الدكتور مكانه حديث عمر هذا الموقوف عند البخاري فعزاه إليه مرفوعا وهذا إن دل على شيء فهو أن الدكتور لم يكن موفقا في هذا التعديل الذي ازداد به بعدا عن الصواب ولعل الدكتور قد أخذ درسا بألا يستكبر مرة أخرى عن الاعتراف بخطئه وشكر من نبهه إليه فيعطي بذلك درسا عمليا للطلاب والقراء مذكرا لهم بأخلاق العلماء الأتقياء
8 -
قال (ص 288) : (وثبت في الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
[84]
سأل جابرا في غزوة ذات الرقاع هل تزوجت بعد؟ قال: نعم)
قلت ليس في (الصحيحين) ولا في أحدهما ذكر غزوة ذات الرقاع فعزو الدكتور ذلك إليهما من أخطائه التي لا تتناهى وإنما ذلك في (سيرة ابن هشام) عن ابن إسحاق عن جابر وسنده حسن وكذلك رواه أحمد (375 - 376) وعلق البخاري طرفا من أوله في (المغازي) بل عنده في (الشروط) معلقا أيضا من طريق أخرى عن جابر ما يؤخذ منه أن ذلك كان في غزوة تبوك ولكن رجح الحافظ رواية ابن إسحاق عليها فيراجعه من شاء
9 -
قال (ص 366 - 367) وقد ذكر حديث تقبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب بين عينيه والتزامه إلياه عند قدومه من الحبشة
(والحديث رواه أبو داود بسند صحيح)
قلت: هذا خطأ كخطئه في قوله المتقدم في حديث عروة المرسل: (إسناد صحيح) كما سبق بيانه (ص 81 فقرة 6) فإن أبا داود أخرجه في آخر كتابه من طريق علي بن مسهر عن أجلح عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى جعفر بن أبي طالب فالتزمه وقبل ما بين عينيه
قلت: فالشعبي تابعي معروف لم يدرك الحادثة بطبيعة الحال فالإسناد منقطع مرسل والأجلح وهو ابن عبد الله بن حجية الكندي مختلف فيه فوثقه جماعة وضعفه آخرون منهم أبو داود نفسه وقال العقيلي: روى عن الشعبي أحاديث مضطربة لا يتابع عليها وأورده الذهبي في (الضعفاء) رقم (229) من (المغني) وقال: (شيعي لا بأس بحديثه ولينه بعضهم وقال الجوزجاني: الأجلح مفتر) وقال الحافظ في (التقريب) : (صدوق شيعي)
قلت: فمثله لا يصحح حديثه إلا من لا معرفة عنده بعلم مصطلح الحديث وتراجم الرجال وإنما يحسنه فقط إذا لم يكن من المتشددين فالصواب إذن
[85]
أن يقال: (رواه أبو داود بسند حسن مرسل) والأصوب أن يقال رواه أبو داود بسند ضعيف لأن أكثر القراء لا يعلمون أن المرسل - عند المحدثين - من قسم الحديث الضعيف كالمنقطع والمدلس والمعضل وغيرها
وهذا كله بالنسبة لرواية أبي داود وإلا فقد رواه الحاكم (3 / 211) من طريق الحسن بن الحسين العرني ثنا أجلح بن عبد الله عن الشعبي عن جابر قال: فذكر الحديث هكذا مسندا عن جابر لكن العرني هذا أورده الذهبي في (الضعفاء) وقال (1389) : (ليس بصدوق)
قلت: فمثله لا يحتج به مطلقا فكيف إذا خالف مثل علي بن مسهر الثقة المحتج به في (الصحيحين) بل لو رواه الثقات عن الأجلح مسندا عن جابر لم يصح لأنه خالف ثقتان وهما إسماعيل بن أبي خالد وزكريا بن أبي زائدة فروياه عن الشعبي مرسلا. أخرجه الحاكم فكيف وقد وافقهما الأجلح في الرواية الصحيحة عنه ولذلك قال الذهبي في (تلخيص المستدرك) : (قلت: والمرسل هو الصواب)
10 -
ثم قال: (وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عن ها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله)
قلت: إسناده ضعيف مسلسل بثلاثة ضعفاء على نسق واحد كما بينته في نقدي للكتاني (ص 16 - الحديث الثامن) ولذلك قال الذهبي: (حديث منكر) فكيف يلتقي إيراد الدكتور لهذا الحديث في كتابه مع قوله أنه اعتمد فيه على صحاح السنة؟ وإذا كان له رأي خاص ينافي حكم الإمام الذهبي وما شرحته هناك فهلا رد علينا كما فعل في الأحاديث الثلاثة التي سبق الرد عليه فيها أم أنه مقتنع في نفسه بضعف إسناده المشروح هناك فإنه مطلع عليه قطعا ولذلك لم يتوجه لنقده وحينئذ فالوزر في إيراده أكبر. أصلحه الله وهداه
[86]
11 -
ذكر (ص 441) حديث عمر بن الخطاب في مسابقته لأبي بكر الصديق وتصدق أبي بكر بكل ماله وقوله رضي الله عن هـ: (أبقيت لهم الله ورسوله) . وقال في تخريجه في الحاشية: (رواه الترمذي والحاكم وأبو داود وفي سنده هشام بن سعد عن زيد بن أسلم وقد ضعفه الإمام أحمد والنسائي (الأصل الكسائي) واعتبره الحافظ ابن حجر من المرتبة الخامسة فقال عنه:
صدوق له أوهام إلا أن الذهبي نقل عن أبي داود أنه أثبت الناس إذا روى عن زيد بن أسلم كما في هذا الحديث ونقل عن الحاكم أن مسلما أخرج له في الشواهد)
وقال الدكتور عقب الحديث في صلب الكتاب: (وإذا صح هذا الحديث. . .) وأشار إليه (ص 451) وقال: (على ما فيه من احتمالات الضعف التي بينتها في تخريج الحديث)
قلت: وهذا نوع جديد من الدكتور في التخريج فبينما كنا نراه سابقا يقتصر في تخريج الأحاديث على مجرد ذكر من خرجه دون أن يحكم عليه بما يستحقه من صحة أو ضعف وكثيرا ما يكون ضعيفا فيسكت عليه موهما صحته كما سبق مرارا إذا بنا نراه هنا يعكس ذلك ويحاول أن يضعف الحديث الثابت متمسكا بما في هشام بن سعد المذكور من الكلام مع أن حديثه عند أهل المعرفة بعلم الجرح والتعديل وتراجم الرجال لا ينزل عن مرتبة الحسن لأنهم يعلمون أن مجرد كون الراوي متكلما فيه لا يجعل حديثه في مرتبة الضعف لأن هناك مرتبة وسطى بينها وبين مرتبة الصحة وهي الحسن وهشام هذا من هذا القبيل لا سيما في روايته عن ابن أسلم لكثرة روايته عنه وصحبته إياه فلا جرم أنه صحح حديثه الترمذي والحاكم والذهبي بل واحتج به وعلقه الإمام البخاري في (صحيحه) بصيغة الجزم (رقم 228 - مختصر صحيح البخاري) ولذلك خرجته في (صحيح أبي داود)
[87]
ومع هذا كله نجد الدكتور البوطي يتجاهل إن لم يكن يجهل تصحيح هؤلاء الأئمة إياه ويحاول نسبة الضعف إليه كأنه ينظر إلى نفسه أنه بلغ المرتبة العليا في علم الحديث ونقده وأخذ الاستقلال التام فيه ولو أن غيره فعل ذلك - لا سيما إذا كان من السلفيين - لقام وقعد وأرعد وأزبد وتظاهر بالحمية الإسلامية والغيرة الدينية على مقام الأئمة في صدور الأمة ولنسبه إلى الطعن فيهم وعدم توقيرهم تماما كما يقول هو في السلفيين ويتهمهم بالتهم الكثيرة لأنهم لا يلتزمون مذهب إمام معين وإنما يأخذون بقول أي إمام منهم فيما وافق الكتاب والسنة عندهم فليتأمل القاريء الكريم في حكمة الحكيم العليم كيف يجعل الدائرة تدور على الباغي. هذا أولا
وأما ثانيا: فلينظر اللبيب إلى قوله: (وعلى ما فيه من احتمالات الضعف التي بينتها)
فأقول: فأين هذه الاحتمالات المزعومة؟ فإن الدكتور لم يبين إلا احتمالا واحدا وهو مع ذلك مردود بتصحيح أولئك الأئمة له
ثالثا: لقد قال الحافظ في (الفتح)(3 / 229) في الحديث وقد علق البخاري طرفا منه كما تقدم: (هذا مشهور في السير ورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم. . .) فذكره ثم قال: (تفرد به هشام بن سعد عن زيد وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه)
فأقول: لقد ذكر الدكتور كثيرا من أحاديث السيرة وقصصها مما دون هذا الحديث في الشهرة وفيها مما لا يعرف له إسناد مطلقا ذكرها على أنها صحيحة فكيف لم يشفع لديه شهرة هذا الحديث مع تصحيح الأئمة له أن يورده دون أي نقد له من نفسه؟ وهو يعلم أنه لا منهج له ولا مذهب له يلتزمه في تصحيح الأحاديث
[88]
وتصنيفها وإنما أمره في ذلك كما تقول العامة (قطع ولحش)
رابعا: لقد قدم البوطي الترمذي والحاكم على أبي داود في الذكر والمعروف عند العلماء خلافه فلا أحد منهم يقدم الترمذي فضلا عن الحاكم على أبي داود بل يقولون: رواه أبو داود والترمذي والحاكم كما يقولون: رواه البخاري ومسلم وأبو داود ولا يعكسون ذلك مطلقا وذلك تأدب منهم من باب إنزال الناس منازلهم
فهل لم يحفظ البوطي هذا الأدب منهم إلى اليوم وقد صار دكتورا أم تبين له من العلم ما لم يحط به الأوائل واستجاز مخالفتهم في أدبهم ونهجهم؟
ولا يظنن القاريء أن ذلك سبق قلم من الدكتور فقد قال في صفحة 450: (ذكرنا الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود عن تقديم أبي بكر ماله كله. . .) وقال في الصفحة التي بعدها: (إن حديث الترمذي والحاكم وأبي داود)
وهذا إن دل على شيء فهو أن الدكتور لا يرجع إلى كتب الحديث إلا نادرا جدا وإلا لم يخف عليه أدبهم في الترتيب المذكور وهذا بين لا يخفى والحمد لله. لقد كدت أقول لكثرة هذه الأخطاء: إن هذه التخريجات والتعليقات ليست بقلم الدكتور نفسه بل هي بقلم أحد طلابه ومن غير النابغين منهم
12 -
قال (ص 442) : (وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة. . .)
قلت: فذكر الحديث بطوله وعلق عليه بقوله: (رواه أحمد في مسنده وأورده الحافظ ابن كثير في تاريخه ثم قال: رواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش)
أقول: هذا التعليق مع قصره فيه تكرار مخل لا يخفى على القاريء وأسوأ منه نقله كلام ابن كثير مبتورا فإن تمام كلام ابن كثير (. . . عن الأعمش به) وقد يكون لفظة (به) سقطت من الطابع ولم يتنبه لها الدكتور عند تصحيح التجارب ولكن مع ذلك ما فائدة هذا النقل حينئذ لا سيما وهو أمر لم يجر عليه
[89]
الدكتور في كل تعليقاته دون تمهيد وتوضيح له؟ وما معنى قوله: (عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش وهل منتهى هذا الإسناد وهو الأعمش واسمه سليمان بن مهران من صغار التابعين فيكون الحديث على هذا مرسلا أهذا هو المعنى المقصود من الإسناد المذكور كلا فما هو إذن؟ ولو فرضنا أن لفظة (به) سقطت من الطابع وليس من الدكتور نفسه
لقد ذكر الحافظ ابن كثير الحديث وقدم بين يديه إسناده فقال: (رواه الإمام أحمد عن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري - شك الأعمش - قال. . .)
قلت: فذكر الحديث ثم قال في آخره: (ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش به)
فبهذا يمكن لمن كان عنده معرفة بالحديث وأسانيده أن يفهم أن قول ابن كثير هذا معناه أن مسلما رواه من طريق أبي كريب الذي تابع أبا معاوية شيخ الإمام أحمد على روايته للحديث عن أبي معاوية عن الأعمش به أي بإسناد الأعمش المذكور عند أحمد أي أن كلا من أبي معاوية وأبي كريب روى الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري
هكذا على الشك بين أبي هريرة وأبي سعيد الخدري
إذا عرفت هذا أيها القاريء الكريم فقل بربك ما هي الفائدة التي يجنيها قاريء كتاب البوطي لو أنه تولى بيان هذا المعنى الذي أراده ابن كثير بقوله المتقدم فكيف وهو عنده غير مبين؟ فما كان أغناه عن ذكرها لو اقتصر في التخريج على قوله: (رواه أحمد ومسلم) كما هي عادته عن هذا الكتاب وغيره
وبعد هذا فإنه تبين للقراء خطأ جديد للأستاذ البوطي في تخريجه المذكور وهو أنه عزا الحديث لرواية أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة وهو عندهما عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري على الشك كما بينته وكذلك عزاه ابن كثير إليهما
[90]
13 -
ذكر (ص 502) الحديث المتفق عليه: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقال عقبه: كأنه يحذر المسلمين من أن يصنعوا صنيعهم به
قلت: هذا القول من الدكتور ينبئ العالم بالحديث بأحد أمرين: إما أن الدكتور من الجهل بحيث لا علم له بالحديث أو أنه يتعمد تحريف رواية الحديث ذلك أن التحذير المذكور الذي جعله الدكتور من قوله هو من تمام الحديث المتفق عليه وهو من حديث عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عن هما فقد قالا عقب الحديث مباشرة (يحذر ما صنعوا) . هكذا أخرجه البخاري (1 / 422 و 6 / 386 و 10 / 227 - فتح الباري) ومسلم (2 / 67) والدارمي (1 / 326) وأحمد (1 / 218) وصرح هذا أنه من قول عائشة رضي الله عن ها وهذه فائدة فاتت الحافظ ابن حجر التنبيه عليها فقال في الفتح (1 / 423) : (قوله: (يحذر ما صنعوا) جملة أخرى مستأنفة من كلام الراوي كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت فأجيب إلى ذلك)
فإذن قوله: (يحذر ما صنعوا) من كلام راوي الحديث كما صرح الحافظ وهو عائشة رضي الله عن ها كما في رواية أحمد فكيف جعلها الدكتور من كلامه هو؟ وصنعه هذا يذكرني بنوع من أنواع جرح رواة الحديث وهو المعروف بسرقة الحديث كان الراوي يبلغه حديث يرويه بعضهم فيسرقه منه ويركب عليه إسنادا من أسانيده ثم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما الدكتور فقد نسب الحديث إلى نفسه إلا أنني لا أستطيع أن أجزم بأنه تعمد ذلك ليقيني أن محفوظاته للأحاديث النبوية قليلة جدا فمن المحتمل احتمالا قويا أنه لا يعلم أن في الحديث تلك الجملة: (يحذر ما صنعوا) فشرحه من عندياته على أن في قول الدكتور: (كأنه صلى الله عليه وسلم يحذر. . .) تشكيكا واضحا في أنه صلى الله عليه وسلم أراد التحذير
[91]
وهذا مخالف مخالفة صريحة لجزم السيدة عائشة بذلك بقولها: (يحذر ما صنعوا) كيف لا والشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ كما قال صلى الله عليه وسلم (1) فتأمل ما يصنع الجهل بالحديث من التحريف والتبديل للنص الصريح الصحيح
14 -
قال (ص 521) وهو يسرد الوجوه الدالة على مشروعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم: (الوجه الثاني ما يثبت من إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على زيارة قبره صلى الله عليه وسلم والسلام عليه كلما مروا على الروضة الشريفة. روى ذلك الأئمة الأعلام وجماهير العلماء بما فيهم ابن تيمية رحمه الله
أقول: هذا كذب على الأئمة الأعلام وبخاصة ابن تيمية شيخ الإسلام فإن أحدا منهم لم يرو عن المذكورين زيارتهم للقبر الشريف كلما مروا على الروضة فضلا عن أن ينقلوا الإجماع عليه بل نص الإمام مالك على كراهة ذلك. وأقوال العلماء الشاهدة لما أقول كثيرة اجتزيء منها على قولين اثنين: أحدهما لابن تيمية المفترى عليه والآخر للإمام النووي باعتباره من أئمة الشافعية الذين يقلدهم الدكتور البوطي
1 -
أما ابن تيمية فأقواله كثيرة جدا في هذا الصدد وإليك نصين منها:
الأول: قوله: (ولم يكن الصحابة يدخلون عند القبر ولا يقفون عنده خارجا مع أنهم يدخلون مسجده ليلا ونهارا وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه ولا يأتون القبر إذ كان عندهم مما لم يأمرهم به ولم يسنه لهم وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام عليه في الصلاة وعند دخولهم المساجد وغير ذلك ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضا. فلهذا رأى من رأى من العلماء هذا جائزا اقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم وابن عمر كان يسلم
(1) قلت وهو مخرج عندي في (الأحاديث الصحيحة) رقم (1904)
[92]
ثم ينصرف ولا يقف يقول: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف. ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر بل كان الخلفاء وغيرهم يسافرون للحج وغيره ويرجعون ولا يفعلون ذلك إذ لم يكن هذا عندهم سنة سنها لهم. وكذلك أزواجه كن على عهد الخلفاء وبعدهم يسافرون إلى الحج ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك. وكانت أمداد اليمن الذين قال الله تعالى فيهم: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} على عهد أبي بكر وعمر يأتون أفواجا من اليمن للجهاد في سبيل الله ويصلون خلف أبي بكر وعمر في مسجده ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة ولا يقف في المسجد خارجا منها لا لدعاء ولا لصلاة ولا لسلام ولا لغير ذلك وكانوا عالمين بسنته كما علمتهم الصحابة والتابعون)
كذا في كتابه (الجواب الباهر في زوار المقابر)(ص 60 - الطبعة السلفية)
الثاني: قوله في رده على الأخنائي (ص 45) : (وأما ما يظن أنه زيارة لقبره صلى الله عليه وسلم مثل الوقوف خارج الحجرة للسلام والدعاء فهذا لا يستحب لأهل المدينة بل ينهون عنه لأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - الخلفاء الراشدين وغيرهم - كانوا يدخلون إلى مسجده للصلواة الخمس وغير ذلك والقبر عند جدار المسجد ولم يكونوا يذهبون إليه ولا يقفون عنده وقد ذكر هذا مالك وغيره من العلماء ذكروا أنه لا يستحب بل يكره للمقيمين بالمدينة الوقوف عند القبر للسلام أو غيره لأن السلف الصالح لم يكونوا يفعلون ذلك إذا دخلوا المسجد للصلوات الخمس وغيرها على عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عن هم فإنهم كانوا يصلون بالناس في المسجد وكان الناس يقدمون من الأمصار يصلون معهم. ومعلوم أنه لو كان مستحبا لهم أن يقفوا حذاء القبر ويسلموا أو يدعوا أو يفعلوا غير ذلك لفعلوا ذلك ولو فعلوه لكثر وظهر واشتهر. لكن مالك وغيره خصوا سن ذلك عند السفر لما نقل عن ابن عمر قال القاضي عياض:
[93]
قال مالك: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. قيل له: فإنه ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة وفي الأيام المرة أو المرتين أو أكثر من ذلك عند القبر يسلمون ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده)
2 -
قال النووي في كتابه (مناسك الحج)(69 / 2 - مخطوط) : (كره مالك رحمه الله لأهل المدينة كلما دخل أحدهم وخرج الوقوف على القبر. قال وإنما ذلك للغرباء. قال: ولا بأس لمن قدم من سفر وخرج إلى سفر أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر رضي الله عن هما. قال الباجي: فرق مالك بين أهل المدينة والغرباء لأن الغرباء قصدوا ذلك وأهل المدينة مقيمون بها وقد قال صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)
قلت: وهذه الأقوال من الإمام النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية صريحة في إبطال الإجماع الذي نقله البوطي بل هي ناطقة بعدم مشروعية ما ذكره وأنه ذب على العلماء عامة وابن تيمية خاصة فيما عزاه إليهم من الرواية فماذا يقول المنصف المتجرد في مثل هذا الإنسان الذي لا يبالي بما يخرج من فيه. فإلى الله المشتكى
ثم قال الدكتور: (الوجه الثالث: ما ثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره صلى الله عليه وسلم منهم بلال رضي الله عن هـ رواه ابن عساكر بإسناد جيد)
قلت فيه أمور:
أولا: أنه أبهم على القراء نص رواية ابن عساكر واكتفى بالإشارة إليها
[94]
لأنه لو ساقها بتمامها لتبين للناس بطلانها ولو لم يقفوا على ضعف إسنادها فكان لا بد من أن أسوق الرواية ليتيقن القراء الكرام معنا أن الدكتور لا يجري فيما يكتب على منهج علمي محقق وإنما هو الهوى والغرض وعلى القاعدة المزعومة (الغاية تبرر الوسيلة) فروى الحافظ ابن عساكر في (تاريخ دمشق) في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء الأنصاري (ج 2 ق 4 25 / 1) بإسناده عنه قال: حدثني أبي محمد بن سليمان عن أبيه سليمان ابن بلال عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: (فذكر قصة قدوم بلال إلى الشام في عهد عمر ثم قال) :
(ثم إن بلالا رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزينا وجلا خائفا فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه وأقبل الحسن والحسين فجهل يضمهما ويقبلهما فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر ففعل فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلما أن قال: (الله أكبر) عجت المدينة فلما أن قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) زاد عجيجها فلما أن قال: (أشهد أن محمدا رسول الله) صلى الله عليه وسلم خرج العواتق من خدورهن فقالوا: (أبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما رؤي يوم أكثر باكيا ولا باكية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم)
قلت: فهذه الرواية باطلة موضوعة ولوائح الوضع عليها ظاهرة من وجوه عديدة أهمها:
1 -
قوله: (فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجهل يبكي عنده) فإنه يصور لنا أن قبره صلى الله عليه وسلم كان ظاهرا كسائر القبور التي في المقابر يمكن لكل أحد أن يأتيه وهذا باطل بداهة عند كل من يعرف تاريخ دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عن ها
[95]
وبيتها الذي لا يجوز لأحد أن يدخله إلا بإذن منها كذلك كان الأمر في عهد عمر رضي الله عن هـ فقد ثبت أنه لما طعن رضي الله عن هـ أمر ابنه عبد الله أن يذهب إلى عائشة ويقول لها: إن عمر يقول لك إن كان لا يضرك ولا يضيق عليك فإني أحب أن أدفن مع صاحبي. فقالت: إن ذلك لا يضرني ولا يضيق علي. قال: فادفنوني معهما. أخرجه الحاكم (3 / 93)
ثم أخرج (4 / 7) بإسناده الصحيح عنها قالت: (كنت أدخل البيت الذي دفن معهما والله ما دخلت إلا وأنا مشدود علي ثيابي حياء من عمر رضي الله عن هـ)
ولقد استمر القبر الشريف في بيت عائشة إلى ما بعد وفاتها بل إلى آخر قرن ثم الصحابة رضي الله عن هم ثم أدخلوا البيت وضموه إلى المسجد لتوسعته فصار بذلك في المسجد على النحو المشاهد اليوم فيظن من لا علم عنده بحقيقة الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات دفنه الصحابة في المسجد - وحاشاهم من ذلك - وإنما دفنوه في البيت ثم حدث بعد ذلك ما ذكرنا خلافا لما يظنه كثير من الجهال ومنهم واضع هذه القصة الذي أعطى صورة للقبر مخالفة للواقع يومئذ وللصحابة رضي الله عن هم كما شرحه شيخ الإسلام وغيره من المحققين وذكرت طرفا منه في كتابي (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) فليراجعه من شاء
2 -
قوله: (ويمرغ وجهه عليه) . قلت: وهذا دليل آخر على وضع هذه القصة وجهل واضعها فإنه يصور لنا بلالا رضي الله عن هـ من أولئك الجهلة الذين لا يقفون عند حدود الشرع إذا رأوا القبور فيفعلون عندها ما لا يجوز من الشركيات والوثنيات كتلمس القبر والتمسح به وتقبيله وغير ذلك مما هو مذكور في محله وإن كان يجيز ذلك بعض المتفقهة الذين لا علم عندهم بالكتاب والسنة ينير بصائرهم وقلوبهم ممن يسايرون العامة على أهوائهم ويبررون لهم كثيرا من ضلالاتهم
ولقد أعجبني حقا أن لا يكون الدكتور البوطي منهم في هذه المرة فقد
[96]
رأيته يقول في آداب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم (ص 523) : (فإياك أن تهجم عليه أو تلتصق بالشبابيك أو تتمسح بها كما يفعل كثير من الجهال فتلك بدعة توشك أن تكون محرمة)
فهذا القول من الدكتور على ما فيه من التردد في حكم ما ذكر مما يدل على أنه لم يفقه بعد قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) يدل دلالة واضحة على أنه لا يمكن أن يعتقد أن بلالا مرغ وجهه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحق وحينئذ فكيف يحتج الدكتور برواية ابن عساكر هذه وفيها هذا المنكر باعترافه؟ الحق أن الدكتور لا يريد التحقيق ولو أراده لما أمكنه لأنه لا يملك الوسائل التي تمكنه من ذلك فهو يأخذ من الرواية الواحدة ما يشتهي ويحتج به ويعرض عما لا يشتهي بل وينكره وإلا فماذا يقول الدكتور لمن قد يحتج عليه من المبتدعة والمتفقهة برواية ابن عساكر هذه على جواز التمرغ بالقبر الشريف وهو نفسه قد احتج بها وقواها؟
3 -
قوله: (خرج العواتق من خدورهن. . .) الخ كلام شعري خيالي ظاهر الوضع وإلا فما علاقة خروجهن بسماعهن الشهادة الأخرى وقولهن (أبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك جزم الحافظ ابن حجر بأن هذه القصة موضوعة كما يأتي
ثانيا: قول البوطي: (رواه ابن عساكر بإسناد جيد)
فأقول: فيه مؤاخذتان:
الأولى: أن هذا التجويد ليس من علم الدكتور واجتهاده لأنه لا علم عنده مطلقا يؤهله لإصدار مثل هذا الحكم كما عرف القراء من المقالات السابقة وإن كان هذا الحكم خطأ في ذاته كما يأتي فكان من الواجب عليه أن يعزوه إلى من نقله عنه لكي لا يتشبع بما ليس له لقوله صلى الله عليه وسلم (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه
[97]
الثانية: أن القول المذكور إنما هو للشيخ السبكي الشافعي قاله في كتابه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) وقد رده الحافظ المحقق محمد بن عبد الهادي الحنبلي في كتابه العظيم: (الصارم المنكي في الرد على السبكي)(ص 210 - 215) وأطال النفس فيه بما حاصله أن إسناده لا يصلح الاعتماد عليه ولا يرجع عند التنازع إليه عند أحد من أئمة هذا الشأن. وسأبين علته قريبا إن شاء الله تعالى فهل الدكتور على علم بهذا ومع ذلك آثر عليه قول السبكي لا لشيء إلا لأنه شافعي المذهب مثله أم أنه لم يعلم به مطلقا؟ الأمر كما قيل:
فإن كنت لا تدري
الثالثة: أن إسناد القصة أبعد ما يكون عن الجودة فإنه عند ابن عساكر كما سبق - من رواية إبراهيم بن محمد بن سليمان عن أبيه سليمان بن بلال وهذا إسناد مظلم فيه مجهولان:
الأول: سليمان بن بلال قال الحافظ ابن عبد الهادي: (غير معروف بل هو مجهول الحال (كذا الأصل) قليل الرواية لم يشتهر بحمل العلم ونقله ولم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمنا ولم يذكر البخاري ترجمته في كتابه وكذلك ابن أبي حاتم ولا يعرف له سماع من أم الدرداء)
قلت: فهو مجهول العين وما في الأصل (مجهول الحال) لعله خطأ مطبعي أو سبق قلم من المؤلف رحمه الله تعالى وتبعا للبخاري وابن أبي حاتم لم يذكره الذهبي في (الميزان) ولا الحافظ في (اللسان)
والآخر: إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال قال الحافظ ابن عبد الهادي (شيخ لم يعرف بثقة وأمانة ولا ضبط وعدالة بل هو مجهول غير معروف بالنقل ولا مشهور بالرواية ولم يرو عنه غير محمد بن الفيض روى عنه هذا الأثر المنكر)
وأورده الذهبي في (الضعفاء) وقال: (لا يعرف) وقال في (الميزان)(فيه جهالة حدث عنه محمد بن الفيض الغساني)
[98]
وأقره الحافظ ابن حجر في (اللسان) وزاد عليه فقال:
(ترجمه ابن عساكر ثم ساق روايته عن أبيه عن جده عن أم الدرداء عن أبي الدرداء في قصة رحيل بلال إلى الشام وفي قصة مجيئه إلى المدينة وأذانه بها وارتجاج المدينة بالبكاء لأجل ذلك وهي قصة بينة الوضع)
قلت: وقد أشار إلى ضعف هذه القصة كل من الحافظين المزي وابن كثير. أما الأول ففي ترجمة بلال في كتابه (تهذيب الكمال) والآخر في ترجمته من كتابه (البداية)(2 / 102) فهؤلاء خمسة من الحفاظ المشهورين - وكلهم شافعية من حظ البوطي إلا ابن عبد الهادي - جزموا بعدم صحتها ما بين مصرح بالوضع ومضعف يقابلهم السبكي وحده الذي جود إسنادها والنقد العلمي يقطع بوهمه إن لم يقل باتباعه لهواه ومع هذا قلده فضيلة الدكتور دون أولئك فماذا يقول كل متجرد عن الهوى منصف في هذا الدكتور الذي يؤلف في السيرة ويقرر أحكاما شرعية وهو لا يحسن الاتباع ولا التقليد فاللهم هداك
تنبيهان:
الأول: محمد بن سليمان بن بلال ترجمه الحافظ ابن عبد الهادي (ص 224) بما يؤخذ منه أنه مجهول الحال لكني وجدت ابن أبي حاتم روى في (الجرح والتعديل)(3 / 2 / 267) عن أبيه أنه قال فيه: (ما بحديثه بأس) وبذلك تجنبت إعلال القصة به أيضا
والآخر: أورد البوطي رواية ابن عساكر السابقة عن بلال محتجا بها على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مخالفته - بزعم البوطي - الإجماع القائل بمشروعية زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وهي فرية على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حمل رايتها الشيخ الأخنائي والسبكي وغيرهما قديما وزيني دحلان وأمثاله في محاربته لمجدد دعوة التوحيد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ومن تبعهم عليها من المتقدمين والمتأخرين ومنهم البوطي المسكين فقال (ص 520) :
[99]
(واعلم أن زيارة مسجده وقبره صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات إلى الله عز وجل أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كل عصر إلى يومنا هذا لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية غفر الله له فقد ذهب إلى أن زيارة قبره غير مشروعة)
ثم استدل على الإجماع المذكور بوجوه أربعة منها رواية ابن عساكر ثم قال: (فاعلم أنه لا وجه لما انفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفعه هذه الأوجه في غير دافع والقول بأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم غير مشروع)
قلت: وهذا كذب وافتراء عظيم من هذا الدعي على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فكتبه وفتاويه طافحة مصرحة بمشروعية زيارة قبور المسلمين عامة وزيارة قبره عليه الصلاة والسلام خاصة كما يعلم ذلك كل من اطلع على شيء من كتب الشيخ ودرسها ومن ذلك كتابه (الرد على الأخنائي) وهو من المعاصرين للشيخ الذين ردوا عليه بظلم مقرونا بالافتراء عليه ومن ذلك التهمة التي تلقفها البوطي عنه أو عن أمثاله من المفترين الكذابين دون أن يرجع إلى بعض كتب الشيخ ليتبين حقيقة الأمر فقد قال الشيخ رحمه الله في أول (الرد على الأخنائي) بعد أن ذكر فريته المذكورة عليه: (والمجيب (يعني نفسه) قد عرفت كتبه وفتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور وفي جميع مناسكه يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد ويذكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مسجده والأدب في ذلك)
وقال في أول كتابه (الجواب الباهر في زوار المقابر)(ص 14) : (قد ذكرت فيما كتبت من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب وذكرت السنة في ذلك وكيف يسلم عليه فهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين. . .)
وقد شرح هذا ابن عبد الهادي في رده على السبكي فليراجعه من شاء الزيادة فماذا يقول القائل في الدكتور البوطي وفريته هذه؟ هل لم يطلع على
[100]
هذه المصادر التي تحول بينه وبينها؟ أم اطلع عليها وعلم أن شيخ الإسلام بريء منها ثم أصر على اتهامه بها لما في قلبه من الغل والحقد على شيخ الإسلام ابن تيمية بصورة خاصة والسلفيين بصورة عامة غير مبال بمثل قوله تعالى: {إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم} وقوله عز وجل {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
وسواء كان هذا أم ذاك فالله سبحانه هو حسيب البوطي وأمثاله ونحن إنما علينا أن ندافع عن الذين آمنوا ونبريء ساحتهم مما اتهموا به من الأكاذيب والأباطيل التي يكون الدافع عليها تارة الجهل وأخرى الظلم وقد يجتمعان
ومن النوع الأول قوله (لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية) . فإن من الواضح أن اسم الإشارة (ذلك) يرجع إلى كل من زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره وهذه فرية جديدة تفرد بها البوطي دون أسلافه المشار إليهم فإن زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم مما يقول شيخ الإسلام بمشروعيته أيضا بل إنه يقول بمشروعية السفر إليه خاصة كما سبق دون السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم خاصة وظاهر كلام البوطي أنه لا يفرق بين الزيارتين كأسلافه السابقين ومن الدليل على ذلك قوله عقب ما سبق نقله عنه آنفا: (وجملة ما اعتمده ابن تيمية في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. . .) وهذا إنما استدل به ابن تيمية لإثبات مشروعية السفر إلى المسجد دون القبر فيرد البوطي استدلاله بأن الحديث كناية عن أن أولى الأماكن بالاهتمام للتوجه إليها من مسافات بعيدة هذه المساجد الثلاثة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص أماكن أخرى غير هذه المساجد بالزيارة () مثل زيارته عليه الصلاة والسلام مسجد قباء كل أسبوع
فتأمل كيف يخلط بين الزيارة بسفر وهو المنفي في الحديث الأول وبين الزيارة بدون سفر وهو المثبت في حديث قبا فلا تعارض بينهما كما هو ظاهر وهو ما ذهب
[101]
إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لأنه يقول بمشروعية زيارة مسجد قباء وزيارة قبور البقيع والشهداء وغيرها من القبور ولكنه لا يجيز السفر إليها كما يدل عليه الحديث الأول فهو قائل بالحديثين بينما البوطي - هداه الله - ليس عنده من العلم ما يوفق بينهما لو كانا متعارضين - إلا بتعطيل دلالة الأول منهما بأنه كناية وهذا خلاف ما فهمه السلف من الصحابة وغيرهم فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عن هما أنه نهى رجلا أراد الذهاب إلى الطور فقال له: (دع عنك الطور فلا تأته) واحتج عليه بحديث النهي عن شد الرحال وثبت نحوه عن غير واحد من الصحابة كما تراه مبسوطا في كتابي (أحكام الجنائز)(ص 224 - 231) فلو كان الحديث يعني ما ذهب إليه البوطي ما استقام نهي ابن عمر عن الذهاب إلى الطور ترى آلبوطي أصاب أم ابن عمر؟ فاللهم هداك
وليس غرضي الآن مناقشة البوطي في كل ما جاء في هذه المسألة من تخاليط لأن لهذا مجالا آخر وهو الذي سبقت الإشارة إليه في بيان الأخطاء الفقهية - وما أكثرها - وإنما هو التنبيه فقط على افترائه على شيخ الإسلام ابن تيمية وتحذير القراء من أن يغتروا بمثله والله تعالى المسؤول أن يسدد خطانا ويخلص نوايانا ويوفقنا للعمل الصالح الموافق للكتاب والسنة
15 -
ثم قال الدكتور في حاشية (ص 521) : (هنالك أيضا طائفة من الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في فضل زيارة قبره لا يخلو معظمها من ضعيف أو لين وهي وإن كانت ترتقي في مجموعها إلى درجة القوة فقد آثرنا أن لا نسوقها مع هذه الدلائل التي ذكرناها حتى لا يتعلق المخالفون بما قد يطيب لهم التعلق به من لين أو ضعف فيها فيجدوا بذلك منفذا للانتصار لرأي ابن تيمية على ما فيه من شذوذ)
أقول: لقد ذكرني هذا بالمثل المشهور: أحمق من نعامة
[102]
ذلك لأنها إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لكي لا يراها الصياد لحماقتها وهكذا مع الدكتور فإنه بإيثاره أن لا يسوق تلك الأحاديث توهم أن ينجو من النقد والكشف عن الخطأ وما هو بناج فالأحاديث المشار إليها معروفة الضعف والنكارة سواء ساقها أم لم يسقها
ولو أنه أراد النجاة حقا لاستغنى عن هذه الحاشية ولما سود بها كتابه ولم يفتح باب الانتقاد عليه ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ويظهر للناس الحقيقة الجلية وما ينبغي الاضطلاع بهذا العلم الشريف حتى لا يغتروا بالمؤلف وبكتابه مرة أخرى فيضلوا عن سواء السبيل. ويبدو أن الذي اضطره إلى هذا القول إنما هو شعوره بجهله وعجزه عن إثبات ما زعمه من القوة فلم يسعه إلا الدعوى التي لا يعجز عنها أي جاهل ولم يكتف بها حتى لجأ إلى تبريرها بما يضحك الثكلى وليس هذا فقط بل إنه أعرض عن أقوال الأئمة الصريحة في تضعيف جميع طرق الأحاديث المشار إليها وفيهم جماعة من كبار أئمة الشافعية الذين يتعصب لهم الدكتور عادة كالإمام النووي والحافظ ابن حجر العسقلاني فضلا عن غيرهم من الحفاظ المحققين كما سأبينه بإذن الله تعالى مفصلا ما في قوله هذا من الجهل والتجاهل والافتراء والتقليد الأعمى واتباع الهوى
لقد قلد في دعواه ارتفاع حديث فضل زيارة قبره صلى الله عليه وسلم إلى درجة القوة بعض الفقهاء المتقدمين المقلدين الذين لا علم عندهم بهذا العلم الشريف مثل الأخنائي والسبكي وغيرهم من المتأخرين وهو يعلم أن الذين ردوا عليهم من أهل المعرفة بهذا العلم قد بينوا بطلان الدعوى المذكورة بما لا يدع شبهة فهذا هو الأخنائي يقول: (ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة وغيرها مما لم يبلغ درجة الصحيح لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح)
فرد ذلك عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بوجوه يهمنا منها بعضها فقال رحمه الله (ص 87) وكأنه يرد على البوطي لتشابه ما بينه وبين الأخنائي
[103]
(الثالث) أنه قول لم يذكر عليه دليلا فإذا قيل له: لا نسلم أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب وهو لم يذكر شيئا من تلك الأحاديث فبقي ما ذكره دعوى مجردة تقابل بالمنع
(الوجه الرابع) أن نقول: هذا قول باطل لم يقله أحد من علماء المسلمين العارفين بالصحيح وليس في الأحاديث التي رويت بلفظ: زيارة قبره حديث صحيح عند أهل المعرفة ولم يخرج أرباب الصحيح شيئا من ذلك ولا أرباب السنن المعتمدة كسنن أبي داود والنسائي والترمذي ونحوهم ولا أهل المسانيد التي من أهل هذا الجنس كمسند أحمد وغيره ولا في موطأ مالك ولا مسند الشافعي ونحو ذلك. ولا احتج إمام من أئمة المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم بحديث فيه ذكر زيارة قبره فكيف يكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث؟ ومن أين لهذا وأمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة وهو لا يعرف هذا الشأن؟
(الوجه الخامس) قوله: وغيرها بما لم يبلغ درجة الصحيح. . . فنقول له لا نسلم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به وهو لم يذكر إلا دعوى مجردة فتقابل بالمنع
(الوجه السادس) أن يقال: ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به بل كلها ضعيفة بل موضوعة كما بسط في مواضع وذكرت هذه الأحاديث وذكرت كلام الأئمة عليها حديثا حديثا بل ولا أعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم البتة فلم يكن هذا اللفظ معروفا عندهم ولهذا كره مالك التكلم به (1) بخلاف لفظ (زيارة) مطلقا فإن هذا اللفظ معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. . .)
(1) قلت: وقد يستنكر الدكتور البوطي وأمثاله من ذوي الأهواء ثبوت هذا عن مالك فماذا يفعل وهو في (المدونة)(2 / 132) ؟
[104]
أقول: فما الذي صرف الدكتور البوطي عن الاعتماد على هذا الكلام لشيخ الإسلام وهو أعلم من السبكي وغيره ممن يقلده البوطي بما لا يصح المفاضلة بينهما كما يقول مالك بكراهة التكلم بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فضلا عن غيره من أئمة الحديث كما يأتي. لولا الهوى وخوف أن يقال فيه (وهابي) أم أن الدكتور لضيق عطنه وقلة اطلاعه لا علم عنده بوجهة نظر ابن تيمية هذه وأقوال الموافقين له من العلماء وهذا مما استبعده وسواء كان هذا وذاك فأحلاهما مر
وكذلك ما الذي منعه من الانتفاع بنقد الحافظ محمد بن عبد الهادي للشيخ السبكي في كتابه (الصارم المنكي في الرد على السبكي) . وقد تتبع فيه أحاديث السبكي في الزيارة حديثا حديثا وبين عللها وأقوال أئمة الحديث فيها من (ص 10 - 171) وفصل القول فيها تفصيلا لا يدع أي شك في قلب أحد من المنصفين بضعفها وعدم ثبوت شيء منها إطلاقا وأنه ليس فيها ما يقوي بعضه بعضا لشدة ضعفها واضطراب أسانيدها وتضارب ألفاظها ولذلك فإني أرى لزاما علي أن أوجز الكلام عليها هنا بمقدار ما يكشف عن عللها وتقوم الحجة به على البوطي وأمثاله من المقلدين والمغترين بها {ليحيى من حي عن بينة} محيلا لمن شاء التفصيل إلى كتاب الحافظ ابن عبد الهادي فإنه جمع فأوعى وكتاب التلخيص لابن حجر (ج 2 / 266 و 267) وإلى كتابي (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) فقد كنت بسطت الكلام فيه على بعضها رقم (25 و 47 و 204)
الحديث الأول عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) وله عنه طرق:
الأولى: من رواية موسى بن هلال العبدي وهو مجهول وقد اضطرب في إسناده فقال مرة: عن عبد الله بن عمر وقال مرة: عن عبيد الله بن عمر عن نافع عنه. قال البيهقي:
[105]
(وسواء قال عبيد الله أو عبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر لم يأت به غيره) وقال فيه العقيلي: (لا يصح حديثه ولا يتابع عليه) . ثم ساقه بإسناده وقال عقبه: (ولرواية في هذا الباب فيها لين) . وفي نقل الحافظ ابن حجر عنه أنه قال: (ولا يصح في هذا الباب شيء) . والمعنى واحد وهو أن طرقه كلها ضعيفة وذلك مما صرح به الحافظ في آخر كلامه على الحديث
وعبيد الله - المصغر - ثقة بخلاف أخيه عبد الله - المكبر - فإنه ضعيف ورجح ابن عدي أنه هو صاحب هذا الحديث ووافقه الإمام ابن خزيمة وصرح بأن الثقة لا يروي هذا الخبر المنكر كما قال الحافظ ابن حجر ولذا قال النووي: (إسناده ضعيف جدا)
الثانية: من رواية عبد الله بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر
وعبد الله بن إبراهيم وهو ابن أبي عمرو الغفاري متهم بالكذب والوضع ونحوه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فإنه ضعيف جدا وهو راوي حديث توسل آدم عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وسلم وهو موضوع كما بينته في (الأحاديث الضعيفة) رقم (25) وقد قال النووي في هذه الطريق أيضا: (إسناده ضعيف جدا)
الثالثة: من رواية مسلمة بن سالم الجهني عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عنه بلفظ: (من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة)
ومسلمة هذا مجهول ويقال فيه مسلمة بن سالم الجهني قال أبو داود: ليس بثقة. وقد اضطرب في إسناده فرواه مرة هكذا. وقال مرة: عن عبد الله بن عمر عن نافع. وهذا هو الأشبه أنه من روايته عن عبد الله بن عمر العمري المكبر المضعف فيكون الجهني هذا متابعا لموسى بن هلال الذي في الطريق الأولى
[106]
إلا أن متابعته له مما لا يفرح بها العلماء لأنه غير ثقة كما عرفت ولو نفعت لم يتقوى الحديث بها لأن فوقهما عبد الله بن عمر الضعيف على أنه ليس فيه زيارة القبر الشريف فيمكن حمله على زيارته في حياته وهذا مما لا شك في شرعيته. فتنبه ولا تكن من أهل الأهواء الغافلين
ثم إن المحفوظ في هذا المعنى ما رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أشهد (وفي رواية: أشفع) لمن مات بها) أخرجه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان في (صحيحه) . فهذا هو أصل الحديث ولفظه فحرفه أولئك المجهولون والضعفاء عمدا أو سهوا واغتر بهم من لا علم عندهم
الرابعة: من رواية حفص بن سليمان أبي عمر عن الليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه بلفظ: (من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي) زاد بعضهم (وصحبني)
وهذا منكر جدا حفص بن سليمان وهو الأسدي القاريء الغاضري متروك متهم بالكذب والوضع وقد تفرد به كما قال البيهقي وليث بن أبي سليم ضعيف مختلط وهو مخرج في (الضعيفة) برقم (47)
الخامسة: من رواية محمد بن محمد بن النعمان بن شبل: حدثني جدي قال: حدثني مالك عن نافع عنه بلفظ: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)
وهذا موضوع كما قال ابن الجوزي والذهبي والزركشي وغيرهم كما تراه في (الضعيفة)(4) والآفة من محمد بن محمد أو من جده النعمان بن شبل وكلاهما متهم ورجح ابن عبد الهادي الأول فليراجعه من شاء. وليس فيه أيضا ذكر زيارة القبر الشريف
الحديث الثاني: عن عمر مرفوعا بلفظ: (من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا) . يرويه سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي: حدثني رجل من آل عمر عنه
وهذا متن مضطرب وإسناد مظلم سوار هذا مجهول لا يعرف وبعض
[107]
الرواة يقلبه فيقول: ميمون بن سوار. وشيخه رجل لم يسم وهو أسوأ حالا من المجهول وقد اضطربوا فيه فبعضهم يقول: (رجل من آل عمر) كما في هذه الرواية وبعضهم يقول: (رجل من ولد حاطب) . وبعضهم يدخل بينه وبين سوار هارون بن قزعة وهو مجهول أيضا وبعضهم يقول فيه هارون بن أبي قزعة وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في (الضعفاء) وقال البيهقي: (هذا إسناد مجهول)
الحديث الثالث: عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: (من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتب له حجتان مبرورتان)
وهذا موضوع آفته أسيد بن زيد الجمال الكوفي قال ابن معين: (كذاب سمعته يحدث بأحاديث كذب) ومع ذلك فليس فيه ذكر القبر مطلقا
وله عنه طريق آخر بلفظ: (من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي) ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا أو قال شفيعا)
وهذا موضوع أيضا في إسناده فضلة بن سعيد بن زميل مجهول لا يعرف إلا في هذا الخبر الذي تفرد به ولم يتابع عليه وقال الذهبي: (هذا موضوع)
الحديث الرابع: عن علي مرفوعا: (من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن حج ولم يزر قبري فقد جفاني)
وهذا موضوع آفته أنه من رواية النعمان بن شبل المتقدم اتهمه الحافظ موسى بن هارون الحمال وقال ابن حبان: (يأتي عن الثقات بالطامات وعن الأثبات بالمقلوبات) وهو يرويه عن محمد بن الفضل بن عطية وكان كذابا كما قال ابن معين وقال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب وهذا يرويه عن جابر الجعفي وهو رافضي متروك شديد الضعف قال أبو حنيفة رحمه الله: ما رأيت أكذب منه
الحديث الخامس: عن ابن مسعود مرفوعا بلفظ: (من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه)
وهذا حديث باطل ظاهر البطلان ولذلك قال السيوطي وغيره: إنه حديث
[108]
موضوع وهو مخرج في (الأحاديث الضعيفة) برقم (204)
الحديث السادس: عن أبي هريرة مرفوعا: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي)
وهذا موضوع في إسناده خالد بن يزيد العمري قال ابن معين وأبو حاتم: (كذاب) . وقال ابن حبان: (يروي الموضوعات عن الأثبات)
قلت: والسند إليه مظلم فيه من لا يعرف
الحديث السابع: عن أنس وله عنه لفظان بطريقين:
الأول: بلفظ: (من زارني محتسبا كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة)
وفي إسناده سليمان بن يزيد الكعبي قال أبو حاتم: (منكر الحديث) . ثم هو منقطع لأن الكعبي هذا لم يسمع من أنس
والآخر بلفظ: (ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له من عذر)
وهذا موضوع في سنده سمعان بن المهدي قال الذهبي: (لا يكاد يعرف ألصقت به نسخة مكذوبة رأيتها قبح الله من وضعها) . قلت: وإسناده إليه ظلمات بعضها فوق بعض وليس فيه ذكر القبر أيضا
الحديث الثامن: عن رجل عن بكير بن عبد الله مرفوعا: (من أتى المدينة زائرا وجبت له شفاعتي يوم القيامة)
وهذا باطل كما قال ابن عبد الهادي وإسناده مرسل أو معضل وفيه الرجل المبهم وليس فيه ذكر القبر
قلت: هذه هي الأحاديث التي أشار إليها الدكتور البوطي وتلك طرقها التي زعم أن الحديث يرتقي بمجموعها إلى درجة القوة دون أن يجري أي دراسة حولها - لو كان يستطيعها - ليعلم شدة ضعفها وتنافر متونها فيحول ذلك بينه وبين الزعم المذكور ولكن إذا كان لا يستطيع تلك الدراسة فهل لا يحسن التقليد أيضا؟ فهو بدل أن يقلد شيخ الإسلام الذي صرح بتضعيف الحديث من جميع طرقه كما رأيت يقلد الأخنائي أو بدل أن يقلد الإمام النووي الذي
[109]
ضعف جدا طريقيه المتقدمين - وهما أشهر طرقه - قلد السبكي الذي قوى الحديث خلافا لكل من تكلم على الحديث من المتقدمين عليه علما وزمنا الذين جزموا بأنه حديث منكر كابن خزيمة والبيهقي وغيرهما ممن تكلموا على مفردات طرقه والعسقلاني والذهبي والسيوطي فضلا عن ابن تيمية وابن عبد الهادي فلو أن الدكتور كان يحسن التقليد على الأقل لقد هؤلاء لاختصاصهم بهذا العلم وكثرة عددهم وتقدمهم ولكن صدق الله العظيم {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}
واعتقادي أن الدكتور يظن {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} أن أي حديث كثرت طرقه تقوى بها وهذا جهل مخالف لما هو مقرر في علم مصطلح الحديث قال ابن الصلاح في (المقدمة)(ص 36 - 37) بعد أن ذكر الحديث الحسن لغيره وهو الذي جاء من أكثر من وجه ليس فيه مغفل كثير الخطأ: (لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوما بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة مثل حديث (الأذنان من الرأس) ونحوه فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن لأن بعض ذلك يعضد بعضا كما قلتم في الحسن على ما سبق آنفا؟ وجواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت فمنه صنف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر. ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا. وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة)
أقول: إي والله إنه لمن النفائس العزيزة التي يغفل عنها كثير من المشتغلين
[110]
بهذا العلم فضلا عن غيرهم ممن لا معرفة لهم به مطلقا كهذا الذي نحن في صدد الرد عليه والتحذير من آثار جهله ولذلك فإنه لما لخص الحافظ ابن كثير كلام ابن الصلاح هذا في (مختصره)(ص 43) وأقره عليه علق عليه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله بقوله: (وبذلك يتبين خطأ كثير من العلماء المتأخرين في إطلاقهم أن الحديث الضعيف إذا جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفا لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرهم يرفع الثقة بحديثهم ويؤيد ضعف روايتهم وهذا واضح)
قلت: إذا أمعن القاريء النظر في تلك الطرق المتقدمة لحديث الزيارة لم يجد فيها أي صفة من تلك الصفات التي ذكرها ابن الصلاح في الطرق التي يتقوى الحديث بها فليس فيها مثلا راو واحد على الأقل هو من أهل الصدق علمنا أنه ضعيف الحفظ بل هم من المتهمين بالكذب أو المعروفين بالضعف الشديد أو من المجهولين أو المبهمين مع عدم سلامة الحديث من الاضطراب والنكارة في المتن كما أنه ليس فيها طريق واحدة مرسلة أرسلها إمام حافظ
من أجل ذلك نجد كثيرا من الأحاديث الضعيفة قد جزم العلماء بضعفها مع أن لها طرقا كثيرة وقد ضرب ابن الصلاح لذلك مثلا بحديث: (الأذنان من الرأس) وفيه عندي نظر من وجوه أهمها أنني وجدت له طريقا قوية الإسناد ولذلك خرجته في (صحيح أبي داود)(123) و (سلسلة الأحاديث الصحيحة) برقم (26) وهذا مطبوع فليراجعه من شاء
ولذلك فالأولى عندي التمثيل بحديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثا من السنة كنت له شفيعا يوم القيامة) كما فعل الحافظ السخاوي في (فتح المغيث)(1 / 71) وقال عقبه: (فقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه مع كثرة طرقه)
والجهل بهذه القاعدة الهامة يؤدي إلى تقوية كثير من الأحاديث الضعيفة
[111]
من أجل طرقها بل وقد يؤدي إلى الالتحاق ببعض الفرق الضالة فهذا مثلا حديث: (إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه) فقد روي من حديث أبي سعيد وعبد الله بن مسعود وجابر وسهل بن حنيف وغيرهم ومع ذلك فهو معدود في جملة الأحاديث الموضوعة ومثله حديث: (علي خير البشر من أبى فقد كفر) له طرق كثيرة أيضا والأمثلة من هذا النوع كثيرة جدا لا تكاد تحصر فراجع إن شئت كتابي (سلسلة الأحاديث الضعيفة) ففيها الشيء الكثير منها: (55 و 133 و 134 و 139 و 143 (52) و 226 و 230 و 266 و 332 و 337 و 451 و 583 و 585 و 649. . .)
أقول: هذه الأمثلة من الأحاديث الموضوعة ينبغي أن تكون عند الدكتور البوطي صحيحة لأنه يصدق فيها قوله المتقدم: (بعضها يقوي بعضا. . .){فهل من مدكر} ؟
وفي الختام أذكره بنصيحتي التي كنت قدمتها إليه مقرونة بالاستشهاد بكلام الإمام النووي قبيل هذا التذييل راجيا أن لا أضطر مرة أخرى إلى إضاعة الوقت في الرد على جهالاته وافتراءاته سائلا المولى سبحانه وتعالى أن يصلح أعمالنا ويخلص نوايانا ويجمع بين قلوبنا على كتاب ربنا وسنة نبينا إنه سميع مجيب
دمشق 3 ربيع الأول سنة 1396