الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرابعة
التوقيت في قص الشوارب
بأربعين يوماً. الخامسة ما يفيده التوقيت من استحباب قصها في أثناء المدة وقد قال سندي سئل أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن حلق العانة وتقليم الأظفار كم يترك قال أربعين للحديث الذي يروى فيه وقد بلغني عن الأوزاعي أنه قال للمرأة خمس عشرة وللرجل عشرين فأما الشارب ففي كل جمعة لأنك إذا تركته بعد الجمعة يصير وحشاً.
وقد روى البخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن كان يقلم أظافيره في كل خمس عشرة ليلة ويستحد في كل شهر.
السادسة ما يفيده التوقيت أيضاً من كراهة تركها أكثر من أربعين يوماً. السابعة أن قص الشوارب من الفطرة قال أبو السعادات ابن الأثير والفطرة ههنا الإسلام وقيل السنة. الثامنة أن ذلك من سنن المرسلين. التاسعة إن ذلك من الطهارة التي ابتلى الله بها خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد أمر الله تبارك وتعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته باتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال تعالى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وقال تعالى {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95].
العاشرة إن توفير الشوارب من سنن الأكاسرة وقومهم المجوس. وفي حديث مرسل رواه ابن عساكر في تاريخه عن
الحسن أن توفير الشوارب من أعمال قوم لوط. وقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم.
صححه ابن حبان وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى إسناده جيد وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني إسناده حسن.
وفي المسند أيضاً وجامع الترمذي وسنن النسائي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لم يأخذ شاربه فليس منا» . قال الترمذي هذا حديث صحيح وصححه أيضاً الحافظ الضياء المقدسي وأخرجه في المختارة قال الترمذي وفي الباب عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال ابن مفلح في الفروع وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى.
قلت وفي هذا الحديث أبلغ تحذير من توفير الشوارب كما أن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أبلغ تحذير من توفير الشوارب ومن التمثيل باللحى وغير ذلك مما فيه تشبه بأعداء الله تعالى. فليحذر الذين يخالفون عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
الحادية عشرة إن إعفاء الشوارب مما تكرهه الملائكة وتكره الحضور عند أهله وإذا بعدت الملائكة عن العبد حضرت عنده الشياطين ولا بد.
الثانية عشرة الإنكار مع التغليظ على من حلق لحيته أو أعفى شاربه. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على الرجلين الكافرين وغلظ عليهما وكره النظر إليهما لما رآهما قد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكيف لو رأى من يحذو حذوهما من أمته.
الثالثة عشرة جواز هجر من أعفى شاربه كما هجر عمر رضي الله عنه زياد بن حدير من أجل إعفائه لشاربه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وقال الترمذي حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. وللترمذي والحاكم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
(فصلٌ)
ومن التمثيل المذموم صبغ الشيب بالسواد وقد نهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلظ فيه كما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد والسنن إلا الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد.
ورواه الطبراني في معجمه الصغير بإسناد جيد ولفظه قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتي بأبي قحافة ورأسه ولحيته كأنها ثغامة فقال غيروا الشيب واجتنبوا السواد.
وفي المسند من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه نحوه وإسناده صحيح. وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه وفي إسناده ضعف.
وروى الطبراني أيضاً في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا يوماً عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه اليهود فرآهم بيض اللحى فقال ما لكم لا تغيرون فقيل إنهم يكرهون فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكنكم غيروا وإياي والسواد.
قال الهيثمي فيه ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات وهو حديث حسن
وروى عمر بن شبة في (أخبار المدينة) عن عبد العزيز بن أبي رواد قال اختضب عمرو بن العاص بالسواد فجاء إلى عمر رضي الله عنه فسلم عليه فقال له من أنت قال عمرو بن العاص قال فرضيت بعد أن كان يقال لك كهل قريش أن يقال لك شاب من شباب قريش ثم قال خضاب الإيمان الصفرة وخضاب الإسلام الحمرة وخضاب الشيطان السواد.
وفي مستدرك الحاكم عن أبي عبد الله القرشي قال دخل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما وقد سود لحيته فقال عبد الله بن عمر السلام عليك أيها الشويب فقال له ابن عمرو أما تعرفني يا أبا عبد الرحمن قال بلى أعرفك شيخاً فأنت اليوم شاب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر.
وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يكون في آخر الزمان قوم يسودون أشعارهم لا ينظر الله إليهم. قال الهيثمي إسناده جيد.
وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي من حديث عبيدالله بن عمرو الرقي عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة. إسناده جيد. وقال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتابه (النقد الصحيح) إسناده على شرط الصحيحين.
وقد رواه الحافظ الضياء المقدسي في المختارة وصححه أيضاً غير واحد من الحفاظ وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري إسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع انتهى وقد وهم الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى فأورد هذا الحديث في الموضوعات قال والمتهم به عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري ثم نقل تجريحه عن جماعة قال الحافظ ابن حجر العسقلاني وأخطأ في ذلك فإن الحديث المذكور
من رواية عبد الكريم الجزري الثقة المخرج له في الصحيح انتهى.
وقال الحافظ أيضاً في جوابه عن الأحاديث التي وقعت في (مصابيح السنة) وقيل أنها موضوعة.
حديث (يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بهذا السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنة) أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس، ولم يقع منسوباً في السنن، وفي طبقته آخر يسمى عبد الكريم يروي أيضًا عن عكرمة والأول هو ابن مالك الجزري ثقة متفق عليه أخرج له البخاري ومسلم، والآخر هو ابن أبي المخارق وكنيته أبو أمية وهو ضعيف، فجزم بأنه الجزري الحفاظ أبو الفضل بن طاهر وأبو القاسم بن عساكر والضياء أبو عبد الله المقدسي وأبو محمد المنذري وغيرهم وزاد أنه ورد في بعض الطرق منسوباً كذلك.
قلت وهو مقتضى صنيع من صححه كابن حبان والحاكم انتهى.
وقد جزم المزي في الأطراف بأنه عبد الكريم بن مالك الجزري.
وقال الحافظ المنذري قول من قال أنه عبد الكريم بن مالك الجزري هو الصواب فإنه قد نسبه بعض الرواة في هذا الحديث فقال فيه عن عبد الكريم الجزري وعبد الكريم بن أبي المخارق من أهل البصرة نزل مكة.
وأيضاً فإن الذي روى عن عبد الكريم هذا الحديث هو عبيد الله بن عمرو الرقي هو مشهور بالرواية عن عبد الكريم الجزري وهو أيضاً من أهل الجزيرة. قلت وقد صرح أبو داود في روايته بأن عبد الكريم هو الجزري فلم يبق بعد ذلك لابن الجوزي ولا لغيره متعلق في توهين هذا الحديث وقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديث عبد الكريم الجزري وقال أحمد وابن معين ثقة ثبت.
وقد زعم بعض العصريين أن في متن هذا الحديث نكارة لما فيه من الوعيد الشديد على الصبغ بالسواد وهو على تقرير هذا العصري لا يستحق ما جاء في الحديث من الوعيد الشديد وقد استبدل بزعمه هذا على وضع الحديث. وهذا منه خطأ محض وليس في متن الحديث نكارة كما زعمه فإن الخاضب بالسواد قد خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وارتكب نهيه وقد قال الله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، ففي هؤلاء الآيات أبلغ تحذير من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وارتكاب نهيه.
والخاضب بالسواد قد خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وارتكب نهيه فتعرض بفعله ذلك للوعيد الشديد وهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفى عنه. والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إمرار آيات الوعيد كما جاءت مع الإيمان بها واعتقاد أنها حق.
ومن مذهبهم أيضاً التسليم لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرار أحاديث الوعيد كما جاءت مع الإيمان بها واعتقاد أنها حق قال الحميدي حدثنا سفيان قال قال رجل للزهري يا أبا بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم ليس منا من شق الجيوب ما معناه فقال الزهري من الله العلم وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم وقد ذكر البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم.
وروى أبو نعيم في الحلية من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فسألت الزهري عنه ما هذا فقال من الله العلم وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم أمروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت.
قلت وقد صحح الحفاظ حديث ابن عباس رضي الله عنهما
في الوعيد الشديد لمن خضب بالسواد كما تقدم ذكره. فعلينا أن نسلم للرسول صلى الله عليه وسلم ونؤمن بما قال ونمر هذا الحديث كما جاء مثل نظائره. وليس لنا أن نحكم الآراء فيما تضمنه بأن نقول كما قال ذلك العصري أن الخاضب بالسواد لا يستحق هذا الوعيد الشديد ونحو ذلك من الأقوال التي يفهم منها الاعتراض على الحديث فإن هذا شأن أهل البدع والله أعلم.
وقد جاء في ذم الخضاب بالسواد أحاديث سوى ما تقدم منها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة» .
قال الهيثمي فيه الوضين بن عطاء وثقه أحمد وابن معين وابن حبان وضعفه من هو دونهم في المنزلة وبقية رجاله ثقات. ومنها ما رواه ابن سعد في الطبقات عن عامر مرسلاً أن الله تعالى لا ينظر إلى من يخضب بالسواد يوم القيامة.
ومنها ما رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً أن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب. قيل هو الذي لا يشيب وقيل هو الذي يسود شعره وهذا أظهر لأن الذي لا يشيب خلقة ليس له من عمل في شعره يستحق عليه البغض والمقت بخلاف الذي يسود شعره فإنه مرتكب لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوجب البغض من الله تعالى والله أعلم.
وروى أبو نعيم في الحلية عن كعب الأحبار أنه قال ليصبغن أقوام بالسواد لا ينظر الله إليهم يوم القيامة. وقد ذكر الحافظ ابن حجر عن ابن الكلبي أن أول من اختضب بالسواد من العرب عبد المطلب وأما مطلقاً ففرعون انتهى.
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً السواد خضاب الكافر. وإذا كان الخضاب بالسواد من أفعال الكفار فمخالفتهم مطلوبة شرعاً والتشبه بهم حرام وبغيض إلى الله تعالى.
وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد في الزهد عن عقيل بن مدرك السلمي قال أوحى الله إلى نبي من أنبياء إسرائيل قل لقومك لا يأكلوا طعام أعدائي ولا يشربوا شراب أعدائي ولا يتشكلوا شكل أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي.
(فصلٌ)
وقد اختلف العلماء في الخضاب بالسواد فأجازه قوم ومنعه آخرون والمنع هو الصحيح والحجة في ذلك ما تقدم من حديث جابر وأنس وابن عباس رضي الله عنهم وليس مع المجيزين حجة تصلح لمعارضة هذه الأحاديث. فإن قيل إن حديث جابر وأنس رضي الله عنهما قضية في عين فيختص المنع من السواد بأبي قحافة وحده.
قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه غيروا الشيب واجتنبوا السواد وهذا لفظ عام يتناول أبا قحافة وغيره من هذه الأمة.
وقد احتج الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره من العلماء بهذا الحديث على كراهة الخضاب بالسواد على العموم. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أوضح دليل على العموم والله أعلم.
قال النووي رحمه الله تعالى ويحرم خضابه بالسواد على الأصح وقيل يكره كراهة تنزيه والمختار التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم واجتنبوا السواد. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم وهو الصواب بلا ريب وقيل للإمام
أحمد رحمه الله تعالى تكره الخضاب بالسواد قال أي والله ولأنه يتضمن التلبيس بخلاف الصفرة.
وقال ابن حجر الهيتمي في كتاب الزواجر الكبيرة الحادية عشرة بعد المائة خضب نحو اللحية بالسواد لغير غرض نحو جهاد ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة» . ثم قال تنبيه عد هذا من الكبائر هو ظاهر ما في هذا الحديث الصحيح من هذا الوعيد الشديد وإن لم أر من عده منها انتهى.
وما استثناه من الجواز للجهاد وغيره من الأغراض لا دليل عليه والصواب القول بعموم المنع وعلى ذلك تدل ظواهر الأحاديث عن ابن عباس وجابر وأنس رضي الله عنهم والله أعلم.
وقد تقدم قول الهروي والزمخشري وابن الأثير وابن منظور أن تغيير الشعر بالسواد من التمثيل الذي ورد الوعيد عليه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق» رواه الطبراني.
فإن قيل إن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخضبون بالسواد وذلك يدل على الجواز. فالجواب ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى أن في ثبوته عنهم نظراً قال ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أحق بالاتباع ولو خالفها من خالفها انتهى.
وهذا الذي قاله ابن القيم رحمه الله تعالى من وجوب اتباع السنة واطراح ما خالفها هو الحق الذي لا ريب فيه لقول الله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، الآية ولقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، الآية وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضب الشعر بالصفرة أو بالدهمة أو بالحمرة ونهى أن يخضب بالسواد فوجب امتثال أمره واجتناب نهيه وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد وقال ابن عباس رضي الله عنهما يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر.
وإذا كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما لمن خالف السنة بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكيف بمن عارضها بقول غيرهما فالله المستعان وعلى تقدير ثبوت ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من الخضاب بالسواد فهو محمول على أنه لم يبلغهم النهي عنه والتغليظ فيه ولو بلغهم ذلك لما خضبوا به وحاشاهم أن يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أو يرتكبوا نهيه وهم يعلمون.
وهذا هو المعروف عنهم واللائق بهم فإنهم كانوا خير هذه الأمة وأتقاها وأعظمها طاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأشدها حرصاً على متابعة السنة والبعد عما خالفها.
وقد كان يصدر من كثير منهم مخالفة الأمر الشرعي قبل أن يعلموا به فإذا علموا به أخذوا به ولم يخالفوه والأمثلة على ذلك كثيرة وليس هذا موضع ذكرها. فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وقد وقع مصداق حديث ابن عباس رضي الله عنهما يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام وظهر ذلك في زماننا ظهوراً بيناً وكثر الخضاب به في المنتسبين إلى العلم فضلاً عن العوام فالله المستعان. وما أحسن قول بعضهم:
يا أيها الرجل المسود شيبه
…
كيما يعد به من الشبان
أقصر فلو سودت كل حمامة
…
بيضاء ما عدت من الغربان
وقال آخر
شيب تغيبه كيما تغرّ به
…
كبيعك الثوب مطوياً على حرق
وقال آخر
نسود أعلاها وتأبى أصولها
…
ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
(فصلٌ)
والمشروع تغيير الشيب بغير السواد كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ترك الشيب أبيض ناصعاً لا يغير فذلك من فعل اليهود والنصارى وقد نهينا عن التشبه بهم كما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد والسنن الأربع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم.
هذا لفظهم سوى الترمذي ولفظ الترمذي غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ثم قال الترمذي حديث حسن صحيح وفي رواية للإمام أحمد غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى وأخرجه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ وفي رواية للنسائي أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوا عليهم فاصبغوا. وله أيضاً عن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل رواية الترمذي ولكن قال النسائي كلاهما غير محفوظ.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري قوله إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم يقتضي مشروعية الصبغ والمراد به صبغ شيب اللحية والرأس ولا يعارضه ما ورد من النهي عن إزالة الشيب لأن الصبغ لا يقتضي الإزالة. ثم إن المأذون فيه مقيد بغير السواد لما أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال وجنبوه غيروه السواد انتهى.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية قاله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وقال أيضاً قد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة لمخالفة قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم غيروا الشيب ولا تشبهوا بالسواد.
وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي يا أبا هاشم اختضب ولو مرة واحدة فأحب لك أن تختضب ولا تشبه باليهود انتهى.
وروى الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال يا معشر الأنصار حمروا أو صفروا وخالفوا أهل الكتاب قال الحافظ ابن حجر إسناده حسن قال وأخرج الطبراني في الأوسط نحوه من حديث أنس رضي الله عنه قال وفي الكبير من حديث عتبة بن عبد رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم انتهى.
وقد دل حديث أبي أمامة رضي الله عنه على أن تغيير الشيب يكون بالحمرة أو بالصفرة. وفي المسند والسنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحسن ما غيرتم به هذا
الشيب الحناء والكتم» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضاً ابن حبان.
وفي رواية للنسائي أفضل ما غيرتم به الشمط الحناء والكتم. قال النووي الكتم بفتح الكاف والتاء المثناه من فوق المخففة هذا هو المشهور وهو نبات يصبغ به الشعر يكون بياضه أو حمرته إلى الدهمة وقال ابن حجر العسقلاني الكتم نبات باليمن يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معاً يخرج بين السواد والحمرة انتهى.
وفي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فأخرجت إلينا شعراً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوباً.
زاد أحمد وابن ماجه بالحناء والكتم. وفي سنن أبي داود والنسائي عن أبي رمثة رضي الله عنه قال أتيت أنا وأبي النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد لطخ لحيته بالحناء.
وفي رواية للنسائي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ورأيته قد لطخ لحيته بالصفرة. ورواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه ولفظهما قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران وله شعر قد علاه الشيب وشيبه أحمر. زاد الحاكم مخضوب بالحناء.
وفي رواية للإمام أحمد قال فرأيت برأسه ردع حناء قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي مستدرك الحاكم أيضاً عن محمد بن عبد الله بن زيد أن أباه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر هو ورجل من الأنصار فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه فأعطاه فقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه قالوا فإنه عندنا مخضوب بالحناء والكتم قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الحافظ في تلخيصه.
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال خضب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بالحناء والكتم وفي رواية اختضب أبو بكر رضي الله عنه بالحناء والكتم واختضب عمر رضي الله عنه بالحناء قال النووي معناه خالصاً لم يخلط بغيره انتهى.
وهو بفتح الباء وإسكان الحاء. وروى مالك في الموطأ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قال وكان جليساً لهم وكان أبيض اللحية والرأس قال فغدا عليهم ذات يوم وقد حمرهما قال فقال له القوم هذا أحسن فقال إن أمي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلي البارحة جاريتها نخيلة فأقسمت علي لأصبغن وأخبرتني أن أبا بكر الصديق كان يصبغ.
وفي سنني أبي داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب بالحناء فقال ما أحسن هذا قال فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال هذا أحسن من هذا قال فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال هذا أحسن من هذا كله.
وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر.
وقال الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه دخلت أنا وأخي رافع بن عمرو على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنا مخضوب بالحناء وأخي مخضوب بالصفرة فقال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا خضاب الإسلام وقال لأخي رافع هذا خضاب الإيمان رواه الإمام أحمد قال الهيثمي وفيه عبد الصمد بن حبيب وثقه ابن معين وضعفه أحمد وبقية رجاله ثقات.
وروى البخاري في تاريخه والحسن بن سفيان في مسنده عن حسان بن أبي جابر السلمي رضي الله عنه قال كنا نطوف مع النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت فرأى قوماً صفروا لحاهم وآخرين حمروها فسمعته يقول مرحباً بالمصفرين والمحمرين.
وفي سنني أبي داود والنسائي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه وليس عنده ذكر الورس والزعفران وفي رواية لأبي داود والنسائي عن زيد بن أسلم قال رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصفر لحيته بالخلوق فقلت يا أبا عبد الرحمن إنك تصفر بالخلوق قال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر بها لحيته ولم يكن
شيء من الصبغ أحب إليه منها. وذكر تمام الحديث. وهذا لفظ النسائي.
وفي سنن ابن ماجه عن سعيد ابن أبي سعيد أن عبيد بن جريج سأل ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيتك تصفر لحيتك بالورس فقال ابن عمر رضي الله عنهما أما تصفيري لحيتي فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته. إسناده صحيح وهو مخرج في الصحيحين لكن بغير هذا اللفظ وقد رواه الإمام مالك في موطئه والإمام أحمد في مسنده من طريق مالك بنحو رواية ابن ماجه.
وقال أبو مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه كان خضابنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالورس والزعفران رواه الإمام أحمد. وقد أفادت هذه الأحاديث أن الألوان التي يصبغ بها الشيب ثلاثة الأحمر والأصفر والأدهم وهو ما بين الحمرة والسواد.
وأفاد حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن أحسنها الصفرة ثم الدهمة ثم الحمرة. وقد كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يخضب بالحمرة قال أبو داود رأيت أحمد يخضب بالحمرة ورأيته قبل ذلك يخضب لحيته ولا يخضب رأسه وكان الشيب في رأسه يومئذ قليلاً. وقال أحمد رحمه الله تعالى إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به.
وقال صالح بن الإمام أحمد جاء رجل من جيراننا قد خضب فقال أبي إني لأرى الرجل يحيي شيئاً من السنة فأفرح به.
وذاكر أحمد رحمه الله تعالى رجلاً فقال لم لا تختضب فقال أستحي قال سبحان الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المروذي قلت - يعني لأحمد - يحكى عن بشر بن الحارث أنه قال قال لي ابن داود خضبت قلت أنا لا أتفرغ لغسلها فكيف أتفرغ لخضابها فقال أنا أنكر أن يكون بشر كشف عمله لابن داود.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم قال غيروا الشيب. وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما خضبا والمهاجرون فهؤلاء لم يتفرغوا لغسلها النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالخضاب فمن لم يكن على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين في شيء.
(فصلٌ)
وقد ابتلي كثير من الناس بمشابهة اليهود والنصارى في عدم تغيير الشيب. وقد رأيت بعض العلماء في زماننا مصرين على هذه المشابهة. وما ذاك إلا من قلة مبالاتهم بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصبغ الشيب ومخالفة أعداء الله تعالى ورغبتهم عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان علي وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وهؤلاء أعظم جرماً من الجهال لأمرين أحدهما مخالفتهم لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم على بصيرة وليست المعصية ممن يعلم كهي ممن لا يعلم. وقد جاء في بعض الآثار أنه يغفر للجاهل سبعين مرة قبل أن يغفر للعالم مرة وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى حدثنا سفيان بن عيينة سمعت فضيل بن عياض يقول يغفر لجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد وقال المروذي في كتاب الورع سمعت إبراهيم بن الشماس يقول رأيت الفضيل وأشار إلى قصر أم جعفر بمكة فقال يغفر الله لصاحبة هذا القصر سبعين مرة. من قبل أن يغفر لي مرة هي تعمل الشيء بجهل وأنا أعمله بعلم.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس رضي الله
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء. ورواه أبو بكر المروذي في كتاب الورع وأبو نعيم في الحلية والحافظ الضياء المقدسي في المختارة كلهم من طريق أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
الأمر الثاني أن الجهال يقتدون بالعلماء ويحتجون بأفعالهم فإذا كان اقتداؤهم بالعالم في معصيته كان عليه وزره وأوزار الذين يقلدونه والدليل على ذلك قول الله تعالى {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
فينبغي للعلماء أن يكونوا أتبع الناس لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وأبعدهم عن نواهيه ليكونوا قدوة حسنة لغيرهم من الناس فيحوزوا أجور أعمالهم ومثل أجور من تبعهم على الهدى كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
والدعاء إلى الهدى أو إلى الضلالة يكون بالقول ويكون بالفعل ولاسيما إذا كان الفعل من عالم يقتدي به الناس. وقد روى مالك في الموطأ عن نافع أنه سمع أسلم مولى عمر بن الخطاب
يحدث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ثوباً مصبوغاً وهو محرم فقال عمر ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة فقال طلحة يا أمير المؤمنين إنما هو مدر فقال عمر إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس فلو أن رجلاً جاهلاً رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام فلا تلبسوا أيها الرهط شيئاً من هذه الثياب المصبغة.
وروى أبو نعيم في الحلية عن موسى بن أعين قال قال لي الأوزاعي يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك فأما إذا صرنا يقتدى بنا ما أرى يسعنا التبسم. وروى أبو نعيم أيضاً عن محمد بن الطفيل قال رأى فضيل بن عياض قوماً من أصحاب الحديث يمزحون ويضحكون فناداهم مهلاً يا ورثة الأنبياء مهلاً. ثلاثاً. إنكم أئمة يقتدى بكم.
وقال المروذي سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن النزول في دور قوم وذكرت من تكره ناحيته بعبادان أو بطرسوس فقال لا تنزلها.
قلت لأبي عبد الله إن ابن المبارك قال إن كان عالما لم أر أن ينزل فيها فإن كان جاهلاً كان أمره أسهل قال أبو عبد الله العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل.
قلت وقد رأينا ورأى غيرنا من اقتداء الجهال بالعلماء في زلاتهم ومن اقتداء التلاميذ بذوي الجهل المركب من أساتذتهم
في جهالاتهم ومخالفاتهم شيئاً كثيراً أو أمراً عجيباً وشاهد العيان يغني عن الحجة والبرهان. وكثيراً ما يتترس الجهال بالعلماء ويحتجون بأفعالهم السيئة أو بسكوتهم عن النهي وإنكار المنكر وقد سمعنا من ذلك شيئاً كثيراً بعضه بالمشافهة وبعضه بالنقل الثابت فالله المستعان.
(فصلٌ)
ومن التمثيل المذموم تقزيع شعر الرأس بأن تحلق جوانبه أو مقدمه أو مؤخره أو وسطه أو مواضع منه ويترك باقيه. والتقزيع من فعل اليهود والنصارى والمجوس وقد ابتلي كثير من سفهاء المسلمين بالتشبه بهم في أفعالهم الذميمة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي شروط عمر رضي الله عنه على أهل الذمة أن يحلقوا مقادم رؤوسهم ليتميزوا بذلك عن المسلمين فمن فعله من المسلمين كان متشبهاً بهم.
وقد ثبت النهي عن القزع كما سيأتي والصحيح من قولي
العلماء أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما عرفت إباحته وقد نقل هذا عن مالك والشافعي وهو قول الجمهور واختاره البخاري رحمه الله تعالى قال في آخر كتاب الاعتصام من صحيحه. باب. نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما تعرف إباحته قال الحافظ ابن حجر أي بدلالة السياق أو قرينة الحال أو قيام الدليل على ذلك انتهى.
وفي الصحيحين والمسند والسنن إلا الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع. والقزع أن يحلق رأس الصبي فيترك بعض شعره. وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال احلقوه كله أو اتركوه كله. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وساق مسلم إسناده وأحال بالمتن على ما تقدم.
وفي المسند أيضاً عن صفية بنت أبي عبيد قالت رأى ابن عمر رضي الله عنهما صبياً في رأسه قنازع فقال أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق الصبيان القزع. قال النووي رحمه الله تعالى أجمع العلماء على كراهة القزع قال العلماء والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق وقيل لأنه زي اليهود انتهى.
وفي سنن أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى غلاماً له قرنا أو قصتان فقال احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود. قلت وقريب من هذا ما يفعله كثير من السفهاء في زماننا من جز شعر الرأس وترك قنزعة في مقدمه
كأنها قنزعة الديك وقد قيل إن هذا من فعل اليهود في زماننا. وبالجملة فهو من التمثيل بالشعر مع ما فيه من التشبه باليهود وبالدجاج وكفى بذلك سفالاً ورعونة فينبغي الزجر عنه وتأديب من يفعله.
وروى الطبراني وغيره عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً. حلق القفا من غير حجامة مجوسية. قال المروذي سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا قال هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم قال وكان أبو عبد الله لا يحلق قفاه إلا في وقت الحجامة.
وقال المروذي أيضاً قلت لأبي عبد الله يكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه قال أما أنا فلا أحلق قفاي وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة فيه كراهية قال إن حلق القفا من فعل المجوس ورخص في وقت الحجامة قال وسمعت مثنى الأنباري يقول سألت أبا عبد الله عن حلق القفا قال لا إلا أن يكون في وقت الحجامة.
وذكر الخلال بإسناده عن الهيثم بن حميد قال حف القفا من شكل المجوس. وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه قيل له لم قال كان يكره أن يتشبه بالعجم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى القزع أربعة أنواع أحدها أن يحلق من رأسه مواضع من ههنا ومن ههنا مأخوذ من تقزع
السحاب وهو تقطعه. الثاني أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما يفعله شمامسة النصارى. الثالث أن يحلق جوانبه ويترك وسطه كما يفعله كثير من الأوباش والسفل. الرابع أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره فهذا كله من القزع.
قلت ومن القزع أيضاً ما يفعله كثير من الجهال من حلق بقعة في أحد جوانب الرأس إذا أرادوا التحلل من الحج. وقد رأيت بعض الحلاقين عند جمرة العقبة يقزعون رؤوس الجهال ويزعمون أن ذلك يجزيهم عن الحلق فيجمعون بين فعل ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الإفتاء بغير علم.
والظاهر أنهم أخذوا فتياهم هذه من قول بعض العلماء أنه يجزئ التقصير من بعض جوانب الرأس. فجعلوا التقزيع من الرأس بالحلق كالتقصير منه. وهذا خطأ وجهل فإن الحلق لا بد فيه من استيعاب جميع الرأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم احلقوه كله أو اتركوه كله وأما التقصير فقد اختلف العلماء فيه فقال بعضهم يجب التقصير من جميع الرأس لا من كل شعرة بعينها وقال آخرون يجزئ التقصير من بعضه والأول أرجح.
فالواجب على الحلاقين وغيرهم من الجهال أن يسألوا أهل العلم عما يأتون وما يذرون. ولا يجوز لهم الجمود على الجهل ولا القول في دين الله بغير علم.
ويجب على أهل الحسبة وغيرهم من ولاة الأمور أن يأخذوا على أيدي السفهاء من الحلاقين ومن يوافقهم على فعل ما نهى
عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن القزع أيضاً حف جوانب الرأس ومعالجة باقيه بالدهن والمشط حتى يصير على شكل ما يفعله الإفرنج في زماننا وغيرهم من أمم الكفر والضلال وهو الذي يسمونه التواليت.
وقد تهوك في هذا الفعل الذميم من سفهاء المسلمين ما لا يحصيه إلا الله تعالى. وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من تشبه بقوم فهو منهم» .
وتقدم أيضاً حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس منا من تشبه بغيرنا» . فما أسفه رأي من آثر التشبه بأعداء الله ورغب عن التشبه بأولياء الله.
(فصلٌ)
وإذا علم أن التمثيل باللحى من المنكرات فالواجب على كل مؤمن إنكار ذلك على فاعليه بحسب القدرة. وكذلك يجب الإنكار بحسب القدرة على من أعفى شاربه أو قزع رأسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية للنسائي من رأى منكم منكراً فغيره بيده فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه قد برئ وذلك أضعف الإيمان.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن سول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من نبي بعثه الله في أمه قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» .
ورواه الإمام أحمد في مسنده مختصراً. وعلى ولاة الأمور وأهل الحسبة من وجوب تغيير هذه المنكرات وغيرها من المنكرات ما ليس على غيرهم قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره.
والقدرة هي السلطان والولاية فذووا السلطان أقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم فإن مناط الوجوب القدرة فيجب على كل إنسان بحسب قدرته قال الله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها ولا يتم إلا بالعقوبات الشرعية فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن انتهى.
فبين رحمه الله تعالى أن ذوي السلطان والولاية هم أهل القدرة وأن عليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم وأنه يصير فرض عين عليهم إذا لم يقم به غيرهم. فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة أن يتقوا الله تعالى في أداء هذا الفرض المتعين عليهم وليحذروا سوء عاقبة التغافل عنه والتهاون به فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث المنذر بن جرير عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب.
ورواه الإمام أحمد أيضاً وابن ماجه من حديث عبيد الله بن جرير عن أبيه رضي الله عنه بنحوه. ورواه أبوداود في سننه عن ابن جرير عن جرير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب من أن يموتوا» .
وفي المسند من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده فقلت يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون قال بلى قالت فكيف يصنع بأولئك قال يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان.
وفي المسند أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه فقالت وفيهم أهل طاعة الله قال نعم ثم يصيرون إلى رحمة الله» .
وفي مستدرك الحاكم عن الحسن بن محمد بن علي عن مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة أو على بعض أزوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال «إذا ظهر السوء فلم ينهوا عنه أنزل الله بهم بأسه فقال إنسان يا نبي الله وإن كان فيهم الصالحون قال نعم يصيبهم ما أصابهم ثم يصيرون إلى مغفرة الله ورحمته» .
وفي المسند من حديث عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى لا يعذب
العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرون فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة. وروى مالك في الموطأ عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول كان يقال إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم.
وقال الإمام أحمد في كتاب الصلاة جاء الحديث عن بلال بن سعد أنه قال الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة. قال أحمد رحمه الله تعالى وإنما تضر العامة لتركهم لما يجب عليهم من الإنكار والتغيير على الذي ظهرت منه الخطيئة. وهذا آخر ما تيسر جمعه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
وقد كان الفراغ من تسويد هذه النبذة في يوم الأربعاء الموافق لليوم السادس من شهر الله المحرم سنة 1378 هـ ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في يوم السبت الموافق لليوم الخامس من شهر شوال سنة 1381 هـ على يد جامعها الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.