المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌45 - باب زيارة أهل الخيرأي قصدهم تشوقا إليهم - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - جـ ٣

[ابن علان]

الفصل: ‌45 - باب زيارة أهل الخيرأي قصدهم تشوقا إليهم

12359 -

(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما أكرم شاب) بتشديد الموحدة (شيخاً) أي داخلاً في سن الشيخوخة: وهو ما بعد الخمسين (لسنه) أي لأجل كبره (إلا قيض) بتشديد التحتية والضاد المعجمة: أي قدر (اله من يكرمه عند سنه) أي كبره، ففيه إيماء إلى وعد من أكرم شيخاً لسنه تعالى بأن يطول عمر المكرم حتى يبلغ ذلك السن ويقدر الله له من يقوم بكرامته فيدان بما دان به (رواه الترمذي وقال: غريب) في «الجامع الصغير» على الحديث علامة الحسن.

‌45 - باب زيارة أهل الخير

أي قصدهم تشوّقاً إليهم

. قال في «المصباح» زاره: يزوره قصده شوقاً إليه فهو زائر وزور وزوّار مثل سافر وسفر وسفار ونسوة زور أيضاً وزوّر مثل نوح وزائرات اهـ. والمراد من أهل الخير حزب الله المنقطعون إليه اللائذون به الحائزون لشرف العلم والعمل به مع الإخلاص فيه، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم أماتنا الله على محبتهم وحشرنا كذلك في زمرتهم (ومجالستهم) أي ليحفظ نفسه ذلك الزمن عن المخالفة لمولاه فإن ذلك أقل ثمرات مجالستهم، ويراعى في ذلك الأدب ويحفظ نفسه من الخواطر بين يدي أهل الله تعالى (وصحبتهم) أي المصاحبة معهم (ومحبتهم) أي تعاطي ما يوصل إليها والمصادر مضافة لمفعولها الفاعل محذوف (وطلب زيارتهم ودعائهم) مصدران مضافان لفاعلهما واستحباب طلبه لزيارتهم له لتعود بركتهم على منزله ومن به وطلبه لدعائهم له لأنه أقرب إلى الإجابة وأرجى إلى الحصول (وزيارة) معطوف على زيارة المضاف إليه الباب: أي وزيارته (المواضع الفاضلة) وفضلها بكونها مساجداً وبكونها مأثورات عن النبيّ أو عن أحد من الصحابة أو عن متعبدات الأولياء الصالحين فالمكان بالمكين.

ص: 219

(قال تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه} ) أي واذكر إذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام، فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذا سمي فتاه وقيل لعبده {لا أبرح} لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله وهو السفر عليه، وقوله ( {حتى بلغ مجمع البحرين} ) من حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه، ويجوز أن يكون لا أبرح بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا تستدعى خبراً، ومجمع البحرين ملقتى بحر فارس والروم مما يلي المشرق، وعد لقاء الخضر فيه، وقيل البحر أن موسى وخضر فإن موسى كان بحر علم الظاهر، وخضر كان بحر علم الباطن، وقرىء مجمع بكسر الميم الثانية على الشذوذ من يفعل كالمشرق والمطلع {أو أمضي حقباً} أي أسير زمناً طويلاً؛ والمعنى: حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب وهو الدهر، وقيل ثمانون سنة، وقيل سبعون سنة، وكان الخضر في أيام أفرندون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى ( {فلما بلغا مجمع بينهما} ) أي مجمع البحرين، وبينهما ظرف وأضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل ( {نسيا حوتهما} ) أي نسي موسى أن يطلب حاله ويتعرفه ويوشع أن يذكر ما رأى من حياته وووقعه في البحر، وكان ذلك العلامة من الله تعالى لموسى على مكان الخضر، وكان الحوت مشوياً فوثب في ذلك المكان في البحر معجزة لموسى أو الخضر ( {فاتخذ سبيله في البحر سرباً} ) فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكاً وسرباً مفعول ثان وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ ( {فلما جاوزا} ) مجمع البحرين ( {قال لفتاه آتنا غداءنا} ) أي ما نتغذى به ( {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} ) قيل لم ينصب حتى جاوز الموعد فلما جاوزه وسأل الليلة والغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع والنصب، وقيل لم يعي موسى في سفر غيره ويؤيده التقييد باسم الإشارة ( {قال: أرأيت إذ أوينا} ) أي أرأيت ما دهاني إذ أوينا ( {إلى الصخرة} ) يعني التي وعد عندها موسى بلقاء الخضر

( {فإني نسيت الحوت} ) أي فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه ( {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} ) أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن أذكره بدل من مفعول أنساني، وهو اعتذار عن نسيانه لشغل الشيطان له بوسواسه، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما جرت بمشاهدة أمثالها عن موسى وألفها قل اهتمامه بها، ولعله نسي ذلك لاستغراقه

ص: 220

في الاستقبال وانجذاب شراشره إلى جانب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان هضماً لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الأخرى يعد من النقصان (واتخذ سبيله في البحر عجباً) سبيلاً عجباً وهو كونه كالسرب أو اتخاذ عجباً والمفعول الثاني هو الظرف. وقيل هو مصدر فعله المضمر: أي قال في آخر كلامه أو موسى في جوابه عجباً تعجباً من تلك الحال وقيل الفعل لموسى: أي واتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً (قال ذلك) أي أمر الحوت (ما كنا نبغ) نطلب لأنه أمارة المطلوب، قال البكري: وحذف الياء على التشبيه بالفواصل، وسهل ذلك أن الباء لا تضم ههنا وقرىء بإثباتها وهو الجيد اهـ. (

{فارتد} ) فرجعا (على آثارهما) في الطريق التي ذهبا منها ( {قصصا} ) يقصان قصصاً: أي يتبعان آثارهما اتباعاً أو مقتصين حتى أتيا الصخرة ( {فوجدا عبداً من عبادنا} ) الجمهور أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان، وقيل اليسع وقيل إلياس ( {آتيناه} ) بالمد أعطيناه ( {رحمة} ) هي الوحي والنبوة ( {من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} ) مما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيب ( {قال له موسى: هل أتبعك} ) في هذا دليل لزيارة أهل الخير في أماكنهم ومصاحبتهم ومجالستهم والتواضع معهم. قال السيوطي في «الإكليل في أحكام التنزيل» : في الآية أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر واستحباب الرحلة في طلب العلم واستزادة العالم من العلم وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة اهـ. ملخصاً.

(وقال تعالى) : ( {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} ) تقدم الكلام عليها في باب فضل ضعفة المسلمين.

1360 -

(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد) ظرف للقول (وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بنا إلى أم أيمن) هي بفتح الهمزة والميم وسكون التحتية بينهما مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها صارت إليه بالإرث من أبيه قاله بعض، وقال القرطبي: كانت لأمه آمنة فورثها عنها، ونقله الدميري عن أبي بن شيخ وقال في «الديباجة» : عتقها عبد الله أبو النبي، قال: وقال الواقدي: كانت لعبد المطلب وصارت للنبي

ص: 221

ميراثاً: أي بأن وهبها لابنه عبد الله ثم ورثها النبيّ. 9 إذ من البين أن النبيّ لم يرث عبد المطلب لوجود أولاده. وفي «فتح الباري» في أواخر كتاب الهبة قال ابن شهاب: كان من شأن أم أيمن أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر، فأعتقها ثم أنكحها زيد بن حارثة، وتوفيت بعده بخمسة أشهر واسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان رضي الله عنها، وهي أم أيمن غلبت عليها كنيتها كنيت بابنها أيمن بن عبيد، وهي بعده أم أسامة بن زيد تزوجها زيد بن حارثة بعد عبيد الحبشي فولدت له أسامة، يقال لها مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وتعرف بأم الظباء، وشربت هي وأم أيمن بركة مولاة أم حبيبة جاءت بها من أرض الحبشة بوله. قال السهيلي: أم أيمن بركة المذكورة: أي في الترجمة هي التي هاجرت في حرّ شديد من مكة إلى المدينة وليس معها أحد، فبينا هي كذلك إذ سمعت حفيفاً فوق رأسها، فالتفتت فإذا دلو أدى لها من السماء فشربت منها فلم تظمأ بعدها أبداً، وكانت تتعمد الصوم في خيار القيظ لتعطش فلا تعطش (نزورها) جملة مستأنفة (كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها) كرامة لها وكان يقول أم أيمن أمي، وكان يكرمها ويبرّها مبرّة الأم ويكثر زيارتها، وكان عندها

كالولد ولذا تصخب عليه: أي ترفع صوتها عليه وتدمر: أي تغضب وتضجر فعل الوالدة بولدها، قاله القرطبي. وقال المصنف: في هذه الجملة زيارة الصالحين وفضلها وزيارة الصالح لمن هو دونه، وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره ولأهل ود صديقه، وزيارة جماعة من الرجال المرأة واستصحاب العالم والكبير في العيادة والزيارة اهـ. (فلما انتهيا إليها بكت) تذكراً لعهد المصطفى وزيارتها برئءَتها لكثرة ملازمتها له وعدم مفارقتها له في الغالب (فقالا لها ما يبكيك أما) استفهام تقريري (تعلمين أن ما) أي الذي (عند ا) مما أعد لنبيه مما لا تستطيع العبارة الإعراب عن أدناه فضلاً عن أقصاه (خير لرسول الله) قال تعالى:

{وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى: 4)(قالت: إني لا أبكي أني) أي لأني (لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله) أي لا أبكي لجهلي بأخيرية ما عند الله له وأنا أعلم ذلك كما

ص: 222

جاء عنها عند ابن ماجه قالت: «إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله» (ولكن) استدراك لما قد يتوهم من انتفاء مقتضى البكاء عند علمها بشرف مقامه المنتقل إليه بأن للبكاء سبباً آخر هو قولها (أبكي أن) أي لأن (الوحي قد انقطع من السماء) أي لانقطاع الوحي من السماء عن الأرض بموته، فإن بفتح الهمزة على إضمار حرف التعليل كما ضبطه القرطبي. قال: وانقطاع الوحي سبب اختلاف مذاهب الناس ووقوع التنازع والفتن وحصول المصائب والمحن، ولذا نجم بعده النفاق وفشا الارتداد والشقاق، ولولا أن الله تعالى تدارك الدين بثاني اثنين لما بقي منه أثر ولا عين اهـ. (فهيجتهما) بتشديد التحتية (على البكاء) أي أثارتهما عليه بذكرها ما يدعو إليه (فجعلا) من أفعال الشروع أي فشرعا (يبكيان معها) قال المصنف: فيه البكاء حزناً على فراق الصالحين والأصحاب وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما كانوا عليه (رواه مسلم) في باب فضل أم أيمن ورواه ابن ماجه، ومن العجيب قول الترمذي في الديباجة انفرد به المصنف وهو حديث صحيح رجاله حفاظ ثقات مخرج لهم في الصحيحين أو في أحدهما اهـ.

2361 -

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أن رجلاً زار أخاً له) أي في الدين، وقوله:(في قرية أخرى) في محل الحال من المفعول لتخصيصه بوصف الظرف (فأرصد الله تعالى على مدرجته) أي محل دروجه: أي في طريقه (ملكاً فلما أتى) أي مر الرجل (عليه قال) ظاهره أن الملك خاطبه وشافهه (أين تريد) واستفهم عنه مع إطلاع الله له على ذلك إن كان ليبني ما بشره الله به مما يأتي على جوابه وهو (قال أريد أخاً لي) كائناً (في هذه القرية) قال العاقولي: هو جواب على المعنى الغائي من السؤال، لأن قوله أين تريد؟ يقتضي أن يقول له قرية كذا، فيقول ما تفعل بها؟ فيقول أريد أخاً لي، فقدمه وأجابه من الأول علماً بما يؤول إليه السؤال (قال: هل لك عليه من نعمة) أي عطية بالزيارة (قال لا) أي لا نعمة لي أربها بزيارته. قال القرطبي: أي لم أزره لغرض من أغراض الدنيا

ص: 223

اهـ. وهو تفسير مراد لا بيان لمعنى اللفظ كما هو واضح، ثم استثنى استثناء منقطعاً، قوله (غير) أي لكن (أني أحببته في ا) في تعليلية ومنه حديث «عذبت امرأة في هرّة حبستها» الحديث (قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك) الظرفان متعلقان برسول (كما أحببته فيه) الكاف في محل المفعول المطلق. قال ابن أبي شريف في «شرح المسايرة» في قولهم في تعريف النبيّ إنه إنسان أوحى إليه بشرع، خرج بقوله:«شرع» الوحي بغيره فيكون لغير النبي: أي كحديث الباب، وكقوله تعالى في حق مريم {أرسلنا إليها روحنا} {فأوحينا} (الشعراء: 63) إلى أن قال الملك {إنما أنا رسول ربك} (مريم: 19) الآية، والأصح عدّ نبوتها. وفي المواهب اللدنية قال القرافي كما نقله عنه ابن مرزوق يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي وهو باطل لحصوله لمن ليس بنبي كمريم وليست نبية على الأصح مع قوله تعالى {فأرسلنا إليها روحنا} (مريم: 17) {أن الله يبشرك} (آل عمران: 39) وفي مسلم فذكر حديث الباب وليس بنبوة لأنها عند المحققين إيحاء الله لبعض بحكم إنسان

يختص به كقوله {اقرأ باسم ربك} (العلق: 1) فهذا تكليف يختص به في الوقت فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل {قم فأنذر} (المدثر: 2) كانت رسالة لتعلق هذا التلكيف بغيرة أيضاً، فالنبيّ كلف بما يخصه، والرسول بذلك وبتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقاً اهـ. (رواه مسلم) والمراد من محبة الله تعالى للعبد إرادته الخير والتوفيق له واللطف به. وفي الحديث ما يدل على عظم فضل الحب في الله والتزاور فيه وأنه من أعظم الأعمال وأفضل القرب إذا تجرد عن هوى النفس، قال:«من أحبّ وأبغض وأعطى ومنع فقد استكمل الإيمان» (يقال أرصده لكذا: إذا وكله بحفظه) فمعنى أرصد الله على مدرجه ملكاً: أي جعله يرتقبه وينتظره ليبشره. قال العاقولي: ويقال أرصدته إذا قعدت له على طريقه (والمدرجة بفتح الميم والراء) وسكون الدال المهملة بينهما وبعد الراء جيم ثم هاء (الطريق) أنسب منهم قول القرطبي موضع الدروج وهو المشي وإن كان المآل إلى واحد (ومعنى تربها تقوم بها وتسعى في صلاحها) أي فيتعاهده بسبب ذلك.

ص: 224

3362 -

(وعنه قال: قال رسول الله: «من عاد مريضاً أو زار أخاً له في ا) مخلصاً في ذلك سبحانه (ناداه مناديان) أي من الملائكة (طبت) أي انشرحت لك عند الله تعالى من جزيل الأجر في ذلك، أو طهرت من الذنوب بغفرانه لك بذلك (وطاب ممشاك) أي عظم ثوابه (وتبؤت من الجنة منزلاً» ) أي اتخذت منها داراً تنزله (ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ) حديث (غريب) .

4363 -

(وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال: إنما) أداة حصر على الراجح كما تقدم أول الكتاب (مثل) بفتحتين الشأن العجيب والأمر الغريب، ويقال بكسر فسكون، وميل بوزن رغيف: أي نظير (الجليس الصالح وجليس السوء) كذا وقفت عليه في الرياض بتوصيف الأوّل وإضافة الثاني، وكأن حكمة ذلك مع التفنن في التعبير الإشارة إلى مجانبة الجليس السيء حيث أطلق عليه لفظ المصدر وهو السوء - بالفتح - مبالغة في التنفير، أما السوء بالضم فاسم مصدر ويجوز ضم وفتح السين فيما ذكر كقولك رجل سوء وفي نسخة من الرياض توصيف الصاحب بوصفه في كليهما (كحامل المسك) أعم من أن يكون صاحبه أو غيره (ونافخ الكير) وهو بكسر الكاف وسكون التحتية معروف وحقيقته: البناء الذي يركب عليه الزق، والزق: هو الذي ينفخ فيه فأطلق على الزق اسم الكير مجازاً لمجاورته له، وقيل واقتصر عليه في القاموس: الكير نفس الزق. وأما البناء فاسمه الكور وهذا فيه لف ونشر مرتب، ثم فصل ثمرة ذينك الحالين فقال (فحامل المسك إما أن يحذيك) بضم التحتية أوله وسكون الحاء المهملة وبالذال المعجمة: أي يعطيك وزنا ومعنى (وإما أن تبتاع) مضارع من باب الافتعال للمبالغة: أي تطلب البيع (منه) وفيه جواز بيع المسك والحكم بطهارته لأنه مدحه ورغَّب فيه، ففيه الرد على من كرهه وهو منقول عن الحسن البصري وعطاء وغيرهما ثم انقرض هذا الخلاف واستقرّ الإجماع على

ص: 225

طهارته وجواز بيعه (وإما أن تجد) من الوجدان بكسر الواو والوجود لغة لبني عامر (منه ريحاً طيبة) أي فجليس الأخيار إما أن يعطي بمجالستهم من الفيوض الإلهية أنواع الهبات حباء وعطاء، وإما أن يكتسب من المجالس خيراً وآداباً يكتسبها عنه، ويأخذها منه، وإما أن يكتسب حسن الثناء بمخاللته ومخالطته (ونافخ الكير) هو بكسر الكاف وسكون التحتية. قال الحافظ في «الفتح» وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه، لكن

أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد. قال ابن التين: وقيل الكير هو الزق والحانوت هو الكور، وقال صاحب المحكم: الزق الذي ينفخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة أن عمر رضي الله عنه رأى كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه اهـ. (إما أن يحرق ثيابك) بناره إن وصلت إليها (وإما أن تجد منه ريحاً منتنة) بضم الميم وكسر المثناة الفوقية وقد تكسر الميم اتباعاً للتاء، وضم التاء اتباعاً للميم قليل، قاله في «المصباح» : أي قبيحة متغيرة، أي فجليس الصاحب السيء إما أن يحترق بشؤم معاصيه، قال تعالى:

{واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال: 25) وقال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود: 113) وإما أن يدنس ثناءه بمصاحبته، وقد ورد «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» ففي الحديث بيان نتائج كل من صحبة الأخيار والأشرار وفي الحديث ضرب المثل وتقدم معناه في الأصل وهو المراد في الحديث، ثم خصص بالقول السائر الممثل مضربه بمورده. قال البيضاوي: الشرط في ضرب المثل أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يتعلق بها التمثيل في العظم والصغر والشرف، وفائدته كشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه ميل الحس وحبّ المحاكاة، وإنما يضرب بما فيه غرابة اهـ. ملخصاً من موضع منه، ولعله حكمة ذكر الظرف بعد تجدد الأول دون الثاني ما في الأول من الكرامة فناسب إكرام المحكى عنه به، وما في الثاني من ضدها فترك دفعاً للمكافحة لما يكره (متفق عليه) قال الحافظ المزيّ في «الأطراف» . أخرجاه في البيوع، وتعقبه الحافظ العسقلاني بأن البخاري إنما أخرجه في الذبائح، نبه عليه القطب الحلبي في «شرحه» ووجدته كذلك. قلت: وقد أخرجه البخاري في أوائل البيوع بتفاوت يسير فصح

ص: 226

ما قاله المزي (ويحذيك: يعطيك) وزناً ومعنىً.

5364 -

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: تنكح) بالبناء للمفعول أي تتزوج (المرأة لأربع) أي من الخصال (لمالها) بدل مطابق، بدل مفصل من مجمل بإعادة العامل اهتماماً (ولحسبها) بفتح المهملتين وبالباء الموحدة: أي نسبها بأن تكون طيبة الأصل، وفي «المصباح» : الحسب ما يعد من المآثر. وقال ابن السكيت: الحسب والكرم يكونان في الإنسان وإن لم يكن لآبائه شرف، ورجل حسيب كريم بنفسه، قال: وأما المجد والشرف فلا يوصف بهما الإنسان إلا إذا كانا فيه وفي آبائه. وقال الأزهري: الحسب الشرف الثابت له ولآبائه: قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لحسبها» أحوج أهل العلم إلى معرفة الحسب لأنه مما يعتبر في مهر المثل، فالحسب الفعال له ولآبائه، مأخوذ من الحساب وهو عد المناقب لأنهم كانوا إذا تفاخروا حسب كل واحد مناقبه ومناقب آبائه، ومما يشهد لقول ابن السكيت قول الشاعر:

ومن كان ذا نسب كريم ولم يكن

له حسب كان اللئيم المذمما

فجعل الحسب فعال الشخص مثل الشجاعة والجود وحسن الخلق، ومنه قوله:«حسب المرء دينه» اهـ، وصحف من ضبطه في الحديث بالنون بدل الموحدة، لأن ذلك مذكور في قوله (ولجمالها) هو كما قال سيبويه رقة الحسن (ولدينها) وأعاد الجارّ في المتعاطفات إيماء إلى أن كل واحد منها مما يقصد على انفراده واستقلاله (فاظفر) أيها المسترشد (بذات الدين) أي بصاحبته وهو أبلغ من صاحبته لأنها كناية (تربت يداك) أي افتقرت وأسند إلى اليدين لأن التصرف يقع بهما غالباً، ولم ترد العرب بهذه الكلمة وأمثالها معناها الأصلي من الدعاء، بل إيقاظ المخاطب للمذكور بعده وحثّ وتحريض عليه ليعتنى به. وقيل معناه: افتقرت إن لم تفعل ما أرشدتك إليه، وقد ورد ما يؤيده. أخرج ابن

ص: 227

ماجه عن ابن عمر قال: قال رسول الله «لا تزوّجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يؤذيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن يطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولامرأة جذماء سوداء ذات دين أفضل» (متفق عليه) روياه في النكاح ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم عن أبي هريرة (ومعناه أن الناس يقصدون) بكسر المهملة الأولى (في العادة من نكاح)(المرأة هذه الخصال الأربع) زاد في شرح مسلم «وآخرهم عندهم ذات الدين» (فاحرص أنت) تفسير لقوله اظفر بضميره المستكن فيه (على ذات الدين) وعطف قوله (واظفر بها واحرص على صحبتها) إطنابا للتأكيد. قال الرافعي في المجلس الثالث عشر من أماليه: يرغب في النكاح لفوائد دينية ودنيوية، والفوائد المتعلقة بمطلق النكاح تحصل بنكاح أيّ امرأة كانت، ثم قال: فمن الدواعي القوية إليه الجمال، وقد نهى عن تزوّج المرأة الحسناء، وليس المراد النهي عن رعاية الجمال على الإطلاق، ألا ترى أنه قد أمر بنظر المخطوبة ليكون النكاح عن موافقة الطبع، ولكنه محمول على ما إذا كان القصد مجرد الحسن واكتفي به عن سائر الخصال، أو على الحسن التام البارع لأنه يخاف بسببه من الإفراط في الإدلال المورث

للوحشة والمنازعة والأطماع الفاسدة، فالمنهل العذب كثير الزحام، ومن شدة الصبوة والميل ولا يؤمن منها تولد أمور مضرّة، ولأنها قد تصرفه عن كثير من الطاعات في غالب الأوقات، ومن الدواعي الغالبة المال وهو غاد ورائح، وإذا كان كذلك فلا يوثق بدوام الألفة سيما إذا قلّ، وقد قيل «من عظمك عند استغلالك استقلك عند إقلالك» وأما إذا كان الداعي الدين فهو الحبل المتين الذي لا ينفصم فكان عقده أدوم وعاقبته أحمد اهـ. ملخصاً.

6365 -

(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا) زيارة (أكثر مما تزورنا) فأكثر مفعول مطلق، ويجوز أن يكون منصوباً على نزع الخافض، قال الحافظ في «الفتح» : روى الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: «احتبس

ص: 228

جبريل عن النبيّ» وروى عبد بن حميد عن عكرمة قال: «أبطأ جبريل في النزول أربعين يوماً، فقال له: يا جبريل ما نزلت حتى اشتقت إليك، فقال: أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل قل له {وما تنزل} الآية. وعند ابن إسحاق عن ابن عباس أن قريشاً لما سألوا عن أصحاب الكهف فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، فلما نزل قال: أبطأت، فذكره اهـ. (فنزلت) أنث باعتبار أنها كلمات (وما نتنزل) قال البيضاوي: التنزل على مهل لأنه مطاوع نزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما يطلق نزل بمعنى أنزل، والمعنى: وما نتنزّل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته (إلا بأمر ربك) قال الحافظ في «الفتح» : الأمر هنا بمعنى الإذن بدليل سبب النزول المذكور ويحتمل الحكم: أي ننزل مصاحبين لأمره تعالى عباده بما شرع لهم، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك عند من يجيز حمل اللفظ على جميع معانيه اهـ. (له ما بين أيدينا وما خلفنا) كذا في الصحيح الاقتصار على ذلك، والمراد ما أمامنا وما خلفنا من الأزمنة والأمكنة، فلا ننتقل من شيء إلى شيء إلا بأمره ومشيئته (رواه البخاري) في التفسير، وكذا رواه الترمذي.

7366 -

(وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان (الخدري) بضم المعجمة وسكون المهملة تقدمت ترجمته رضي الله عنه عن النبي قال: لا تصاحب إلا مؤمناً) فيه نهي عن موالاة الكفار ومودتهم ومصاحبتهم، قال تعالى:{لا تجد قوماً يؤمنون با واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله} (المجادلة: 22) الآية (ولا يأكل طعامك إلا تقي) فيه الأمر بملازمة الأتقياء ودوام مخالطتهم، وترك الفجار فهو نهي له بالمعنى عن إكرام غير التقي وإسداء الجميل إليه وفي «مرقاة الصعود» للسيوطي هذا الحديث في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وإنما حذر من مصاحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، لأن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا

ص: 229

تجالسه ولا تطاعمه ولا تنادمه اهـ. (رواه أبو داود) في الأدب من سننه (والترمذي) في الزهد من «جامعه» (بإسناد لا بأس به) فرواه أبو داود عن عمرو بن عون. ورواه الترمذي عن سويد بن نضر كلاهما عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان عن الوليد بن قيس عن أبي سعيد قال سالم: أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به، وقال الترمذي: إنما نعرفه من هذا الوجه وأشار إلى أنه غريب.

8367 -

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: الرجل على دين خليله) ويروى «المرء بخليله» والخليل الصديق فعيل بمعنى مفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول (فلينظر أحدكم من يخالل) أي فلينظر أحدكم بعين بصيرته إلى أمور من يريد صداقته وأحواله، فمن رآه ورضي دينه صادقه، ومن سخط دينه فليتنبه، ومن رآه يرى له مثل ما يرى له صحه روى ابن عديّ في «الكامل» من حديث أنس «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى له» فأقل درجات الأخوة والصداقة النظر بعين المساواة، والكمال رؤية الفضل للأخ (رواه أبو داود) في أبواب الأدب من السنن (والترمذي بإسناد صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن) قال الحافظ السيوطي في «المرقاة» : هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على «المصابيح» ، وزعم أنه موضوع.d قلت: قال الحافظ العلائي: نسبة هذا الحديث إلى الوضع جهل قبيح، بل هو حسن كما قال الترمذي، فإن موسى بن وردان وثقه العجلي وأبو داود، وقال فيه الإمام أحمد: لا أعلم إلا خيراً. وقال أبو حاتم والدارقطني: لا بأس به. ولم يتكلم فيه أحد، وزهير بن محمد هو المروزيّ، وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غيرهما واحتج به الشيخان في الصحيحين، وذلك يدفع ما تكلم به فيه فتفردّه يكون حسناً غريباً ولا ينتهي إلى الضعف فضلاً عن الوضع اهـ. وقال الحافظ

ص: 230

العسقلاني في رده عليه: قد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقد أورده ابن عديّ في ترجمة زهير، ونقل عن أبي زرعة الدمشقي قال: قلت لمحمد بن السريّ حدثنا أبو مسهر عن يحيى بن حمزة عن زهير به موصولاً فقال: لم يصنع صاحبك شيئاً حدثنا يحيى بن حمزة به مرسلاً، وقال: وقد رواه هشام بن عمار عن الوليد عن مسلم عن زيهر به وزهير بن محمد استشهد به البخاري ولكن قالوا: إن في رواية الشاميين عنه مناكير كأنه لما دخل الشام حدث من حفظه فوهم فروايتهم عنه غير معتبرة، وهذا الحديث مما اشترك فيه الشاميون وغيرهم، وموسى

المذكور وثقه جماعة وضعفه بعضهم، فحديثه من هذه الحيثية من قبيل الحسن اهـ. وبه يعلم ما في قول المصنف بإسناد صحيح ألا أن يريد به المقبول مجازاً فيشمل الحسن اهـ. والله أعلم.

9368 -

(وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال: المرء) بفتح الميم وسكون الراء وبالميم بعده: أي الشخص (مع من أحب) وكونه معه لا يستلزم مساواته له في منزلته وعلوّ مرتبته لأن ذلك متفاوت بتفاوت الأعمال الصالحة والمتاجر الرابحة. قال في «الفتح» : المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعية وإن تفاوتت الدرجات اهـ. (متفق عليه) أي من حديث أبي موسى، ورواه أحمد والشيخان والنسائي من حديث أنس والترمذي من حديثه وزاد «له ما اكتسب» والشيخان من حديث ابن مسعود كذا يؤخذ من «الجامع الصغير» .

(وفي رواية) للبخاري في أبواب الأدب عن أبي موسى الأشعري (قال: قيل للنبيّ الرجل) أل فيه للجنس (يحبّ القوم) أي من أهل الصلاح (ولما يلحق بهم) قال أهل العربية: لما تنفي الماضي المستمر فدل عل نفيه في الماضي وفي الحال، بخلاف لم فإنها للنفي في الزمن الماضي مطلقاً (قال: المرء مع من أحبّ) هو عامّ، فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً من المؤمنين كان معه في الجنة بحسن النية لأنها الأصل، والعمل تابع لها ولا يلزم من كونه معهم كونه في منزلتهم، ولا أن يجزى مثل جزائهم من كل وجه.

ص: 231

10369 -

(وعن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً) هو يختص بسكان البوادي من العرب وغيرهم أما العرب فأولاد إسماعيل عليه السلام، وفي البخاري وهو في مسلم أيضاً بلفظ «أن رجلاً» وفي الفتح للحافظ أنه ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد، وحديثه بذلك مخرج عند الدارقطني، ومن زعم أنه أبو موسى أو أبو ذرّ فقد وهم لأنهما وإن اشتركا في معنى الجواب، وهو أن المرء مع من أحبّ إلا أنهما اختلفا في السؤال، فإن كلاً من أبي موسى وأبي ذرّ سأل «عن الرجل يحبّ القوم ولما يلحق بهم» وهذا سأل «متى الساعة» اهـ. (قال: يا رسول الله متى الساعة) أي القيامة، وعبر عنها بذلك لأنها تظهر في أدنى لحظة (قال له رسول الله: ما أعددت لها) أي حتى تسأل عنها، إذ هي زمن الجزاء ويوم الدين، قال العاقولي: وقوله: «ما أعددت لها» من أسلوب الحكيم لأنه سأل عن الوقت فقيل له مالك ولها إنما يهمك التزود لها والعمل بما ينفعك فيها، فطرح الرجل ذكر أعماله لأنه كان لا يرى لها قدراً، ونظر إلى ما في قلبه من مخصوص محبة الله سبحانه ورسوله فقدمه بين يديه (قال: حبّ الله و) حبّ (رسوله) يجوز رفعه نظراً لصدر جملة السؤال، ونصبه نظراً لعجز جملته، وقد قرىء بالوجهين «العفو» في قوله تعالى:{يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة: 19) نظراً لما ذكر، والمراد من حبّ الإنسان ورسوله طاعتهما والانقياد لأحكامهما (قال: أنت مع من أحببت) واللفظ عام لكون كل محبّ مع محبوبه من خير أو شرّ، ومعية الله مع الإنسان بالنصر والإعانة والتوفيق (متفق عليه) أخرجه البخاري في أبواب الأدب (وهذا لفظ مسلم) في أبواب البر والصلة (وفي رواية لهما) أي عن أنس أيضاً، قال:(ما أعددت لها من) صلة لتأكيد النفي واستغراقه (كثير) بالمثلثة (صوم ولا) كثير (صلاة ولا) كثير (صدقة) يحتمل أن يراد من المثبت من ذلك الغرض فيكون كقول البوصيري:

ولم أصلّ سوى فرض ولم أصم

أي سواء، ويحتمل أن يكون بعض النوافل إلا أنها غير كثيرة وفي العبارة توجيه

ص: 232

(ولكني) في نسخة من مسلم «ولكن» استدراك مما يوهمه الكلام السابق من نفي تقديم ما يرجو ثمرته في آخرته أي ولكن لي أعظم الذخائر هو أني (أحبّ الله ورسوله) قال: «فأنت مع من أحببت» .

11370 -

(وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو ذرّ (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولالله، كيف تقول في رجل أحبّ قوماً ولم يلحق بهم) عند ابن حبان: ولا يستطيع أن يعمل بعملهم (فقال رسول الله: المرء مع من أحبّ. متفق عليه) أخرجاه في الأبواب المذكورة وأخرجه أبو نعيم وزاد «وله ما اكتسب» .

12371 -

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: الناس) أي باعتبار الأفراد (معادن) أي أصولاً للخير والشر بحسب ما جعلهم الله مستعدين له. والمعادن جمع معدن بكسر الدال لأنه موضع العدل: أي الإقامة اللازمة وسمي المعدن بذلك لأن الناس يقيمون فيه شتاء وصيفاً قاله الجوهري (كمعادن الذهب والفضة) وجه الشبه. اشتمال المعدن على الجواهر المختلفة نفاسة وخسة وكل معدن يخرج منه ما في أصله، وكذا كل إنسان يظهر منه ما في أصله من خسة أو شرف (خيارهم في الجاهلية) أي أشرافهم فيها وهي ما قبل الإسلام سموا به لكثرة جهالاتهم (خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) بكسر

ص: 233

القاف: أي علموا وبضمها، وتقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة أن الضم هو المشهور، ومعناه صار الفقه سجيتهم: أي فقد وصل بما حازه في شرف الإسلام والفقه فيه إلى ما كان عنده من الشرف والكرم والسماحة ونحوها في الجاهلية، وهذه القطعة من الحديث تقدم الكلام عليها في باب التقوى في آخر حديث أبي هريرة «قيل يا رسول الله من أكرم الناس» الحديث (والأرواح جنود مجندة) معطوف على جملة «الناس معادن» : أي جموع مجتمعة وأنواع مختلفة (ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) قال السيوطي: قال الخطابي: قوله الأرواح الخ يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشرّ، فالخير يحن إلى شكله والشرير إلى نظيره، فتعارف الأرواح بحسب الباع التي جبلت عليها من خير أو شر، فإذا اتفقت تعارفت وإن اختلفت تناكرت. قلت: وحكاه المصنف في شرح مسلم عنه وعن غيره، ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء «إن الأرواح خلقت قبل الأجسام فكانت تلتقي وتلتئم، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم، فتميل الأخيار إلى الأخيار والأشرار إلى الأشرار» قال ابن الجوزي: يستفاد من الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة عن ذي فضل وصلاح،

فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته فيتخلص من الوصف المذموم وكذا عكسه. وقال ابن عبد السلام: المراد بالتعارف والتناكر التقارب في الصفات والتفاوت فيها، لأن الشخص إذا خالفتك صفاته أنكرته، والمجهول ينكر لعدم العرفان، فهذا من مجاز التشبيه، شبه المنكر بالمجهول والملائم بالمعلوم (رواه مسلم) بجملته (وروى البخاري قوله والأرواح إلى آخره من رواية عائشة) أي فهذا اللفظ لهما لكن من طريقين.

13372 -

(وعن أُسير بن عمرو ويقال ابن جابر، وهو بضم الهمزة) وذكره الحافظ العسقلاني بالتحتية بدلها، قال: وقيل أصله أسير فسهلت الهمزة (وفتح السين المهملة) وسكون التحتية بعدها راء. قال الحافظ في «التقريب» : مختلف في نسبه فقيل كندي، وقيل غير

ص: 234

ذلك، وقيل له رؤية، وقيل إن ابن جابر آخر تابعي. وفي «أسد الغابة» هو ابن عمرو الكندي السلولي وقيل الدريكي، وقيل الشيباني له صحبة مخضرم. توفي النبيّ وهو ابن عشر سنين، قاله ابن معين. وقيل كان له إحدى عشرة سنة. قال ابن معين: أبو الخيار الذي يروى عن ابن مسعود اسمه أسير بن عمرو أدرك النبيّ وعاش إلى زمن الحجاج، روى عن النبي حديثين، أحدهما في تلقيح النحل، والآخر في الحجامة. وقال ابن المديني: أهل البصرة يقولون أسير بن جابر ويروون عنه عن عمر بن الخطاب حديث أويس القرني، وأهل الكوفة يسمونه أسير بن عامر اهـ. ملخصاً (قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن) هم الجماعات الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم مدد (سألهم: أفيكم أويس بن عامر) كذا رواه مسلم وهو المشهور. قال ابن ماكولا: ويقال أويس بن الخليص اهـ. قال: وكنيته أبو عمرو. قال قائل: قتل بصفين، وسيأتي بيان الخلاف فيذلك عند ذكر ترجمته، فما زال كذلك (حتى أتى على أويس رضي الله عنه وهو تصغير أوس، وهو الذئب وبه سمي الرجل، وقيل سمي بمصدر أست الرجل أوساً إذا أعطيته فالأوس العطية. قاله القرطبي: وفي كلامه الترضي على غير الصحابي، وفيه خلاف الأصح جوازه كما في «التقريب» للنووي، وعن بعض الحنفية يقال فيما دون الصحابة رحمه الله ولا يقال فيه رضى الله عنه تمييزاً لهم بذلك عن باقي الأمة كامتياز المعصوم بالدعاء له بالصلاة (فقال: أنت أويس بن عامر) بتقدير همزة الاستفهام وحذفت تخفيفاً بدليل قوله (قال: نعم) وكذا الهمزة مقدرة بعده في أول كل سؤال (قال: من مراد) اسم قبيلة، قال ابن الكلبي: واسم مراد

جابر بن مالك بن أدد بن يشجب بن يعر بن زيد بن كهلان بن سبأ (ثم من قرن) بفتح القاف والراء وبالنون من مراد، وهو قرن بن رماد بن ناجية بن مراد، وما ذكرنا من أنه بطن من مراد وإليه ينسب هو الصواب، ولا خلاف فيه، وفي «صحاح الجوهري» أنه منسوب إلى قرن المنازل المعروف ميقات إحرام أهل نجد. قال المصنف: وهذا غلط فاحش (قال

نعم، وكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم) أبقى ليذكر مكان به من هذا الداء، ثم عوفي فيبعثه ذلك على الزيادة في الشكر (قال: نعم، قال لك والدة؟ قال نعم) ظاهره أنها كانت موجودة ذلك الحين (قال: فإني سمعت

ص: 235

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن) إضافة أمداد لأهل يجوز أن تكون بيانية، والأقرب كونها لاميَّة، والظرف محتمل لكونه لغواً متعلقاً بيأتي، ولكونه مستقراً حالاً من أويس أو صفة لأمداد، وكونه حالاً أنسب مما بعده، وعليه فيكون (من مراد) حالاً منه مترادفة أو حالاً منه متداخلة (ثم من قرن وكان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم) سيأتي في الرواية الآتية «إلا موضع الدينار أو الدرهم» بالشك (له والدة) اسمها و (هو بها بر) بفتح الباء الموحدة: أي بالغ في البرّ والإحسان إليها (لو أقسم على ا) أي أقسم عليه بحصول أمر (لأبرّه ا) بحصول ذلك المقسم على حصوله (فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) لا يفهم من هذا أفضليته على عمر، ولا أن عمر غير مغفور له للإجماع على أن عمر أفضل منه لأنه تابعي والصحابي أفضل منه، إنما مضمون ذلك الإخبار بأن أويساً ممن يستجاب له الدعاء، وإرشاد عمر إلى الازدياد من الخير واغتنام دعاء من ترجى إجابته، وهذا نحو مما أمرنا النبي به من الدعاء له، والصلاة عليه وسؤال الوسيلة له وإن كان النبي أفضل ولد آدم، وكذا ما يأتي من قوله لعمر:«أشركنا في دعائك يا أخي» ثم سأله عمر ذلك بقوله (فاستغفر لي فاستغفر له) ففيه طلب الدعاء من

الصالحين وإن كان الطالب أفضل (فقال له عمر: أين تريد؟ فقال: الكوفة) هي البلدة المعروفة بالعراق، وسميت بذلك لاستدارة بنائها (قال ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح (أكتب لك إلى عاملها) أي ليقوم من بيت مال المسلمين منها بكفايتك (قال: أكون) أي كوني (في غبراء الناس أحبّ إلي) فالأصل أن أكون فحذف أن فارتفع الفعل أو أطلق وأريد منه المصدر فهو نظير قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» توجهيه المذكورين (فلما كان من العام المقبل) بضم الميم وكسر الموحدة اسم فاعل، وهو بالنسبة لعام ملاقاة عمر له (حج رجل من أشرافهم) أي أشراف أهل الكوفة ولعل إضافته إليهم لسكناه بينهم، وإلا فسيأتي ما قد يؤخذ منه أنه من مراد وسكت عن بيانه وتعيينه المصنف والقرطبي وكأنه لعدم وقوفهما عليه، والمراد بشرفه ظهوره وغناؤه (فوافق عمر) يحتمل أن يكون فاعل وافق ضميراً يعود إلى رجل، وأن يكون

ص: 236

الفاعل عمر ومفعول الفعل ضمير متصل بالفعل محذوف وهذا أقرب ليوافق قوله (فسأله عن أويس فقال: تركته رثّ البيت) أي رثّ متاعه، وهو المتاع الدون أو الخلق البالي. وقال المصنف: هو بمعنى قوله بعده: قليل المتاع، ويجوز أن لا يقدر مضاف بمعنى أن بيته الذي هو به خلق بال (قليل المتاع) قال في «المصباح» : المتاع في اللغة كل ما ينتفع به كالطعم والبرّ وأثاث البيت، وأصل المتاع ما يتبلغ به من ذلك وتقليله من المتاع زهد في الدنيا وإعراض عنها (قال) أي عمر (سمعت النبيّ يقول: أتى علكيم) وفي نسخة بالإفراد خطاباً لعمر ويناسبه قوله: فإن استطعت (أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برّ لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفرلك فافعل) هذا كله مرفوع كما تقدم مع الكلام عليه وهو من جملة معجزاته، لما فيه من الإخبار عن الأمر قبل وقوعه وذكره باسمه وصفته وعلامته واجتماعه بعمر، فكان كما أخبر عنه، وفيما

فعل عمر الله عنه تبليغ الشريعة ونشر السنة والإقرار بالفضل لأهله، والثناء على من لا يخشى عليه عجب بذلك ليقينه وكمال إيمانه، والخطاب باستطعت من النبي لعمر رضي الله عنه، وهو حكى لفظ خطابه له، وليس مدرجاً في آخر الخبر خطاباً لذلك الشريف كما قد يتوهم، فإن كون المصطفى يأمر عمر مع كونه أفضل من أويس بأن يطلب منه الدعاء أبلغ في إظهار فضله وإثارة رغبة المخاطب لطلب الدعاء منه فلهذا قال (فأتى) أي ذلك الرجل (أويساً فقال استغفر لي، فقال) أي أويس (أنت أحدث عهداً بسفر صالح) أي أقرب، وعهداً منصوب على التمييز كقوله تعالى:

{هم أحسن أثاثاً} (مريم: 74) وأشار إلى فضل السفر الصالح وأن القادم منه أرجى لإجابة دعائه فلذا سأل منه أويس الدعاء بقوله: «فاستغفر لي» وقد ورد «إذا لقيت الحاج فمره فليستغفرلك» وفي حديث آخر إن الله يغفرللحاج ولمن استغفر له الحاج حتى يرجع إلى بيته، (فقال) أي الرجل (استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي) وكأن الرجل طلب من أويس ثالثاً الدعاء ففطن أنه عرف بمقامه (فاقل: لقيت عمر) بتقدير همزة

ص: 237

الاستفهام (قال نعم، فاستغفر له) أنه علم أنه أعلمه بعلي مقامه وأنه لما علم ذلك لا يتركه حتى يدعو له ودعا له بطلب المغفرة لورود ذلك في حديث عمر (ففطن) بكسر الطاء المهملة (له الناس) وأقبلوا عليه (فانطلق على وجهه) خارجاً لأن في ذلك إشغالاً له عن شأنه المتوجه هو إليه من إفراد الحق بالقصد والانقطاع إليه من الخلق (رواه مسلم) انفرد به عن باقي الستة ذكره في الفضائل، وقال في آخر الحديث: قال ابن المنير: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟

(وفي رواية لمسلم أيضاً عن أسير بن جابر) المرويّ عنه الحديث الأول رضي الله عنه زيادة في الحديث (أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر رضي الله عنه، وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس) لعله الذي عبر عنه في الرواية السابقة بقوله: «من أشرافهم» ولعل سخرياه منه لغني ذلك الرجل وغروره. بما هو فيه من الجاه والمال، واحتقار أويس لرثاثته وقلة متاعه زهداً في الدنيا واطراحاً لها وإعراضاً عن زهراتها، والسخرياء: الاستهزاء، وسخر من باب تعب كما في «المصباح» (فقال عمر: هل ههنا أحد من القرنيين) بفتح القاف والراء نسبة لقرن بطن من مراد كما تقدم (فجاء ذلك الرجل فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع) أي يترك (باليمن غير أم له) وهذا مما زادت به هذه الرواية على ما قبلها (قد كان به بياض) هو الذي عبر عنه في الرواية السابقة بقوله برص (فدعا الله فأذهبه) ليس ذلك منه اعتراضاً على مولاه وعدم رضاه بقضاه ولكن لعله دعاه لذلك أمر آخر مطلوب من برّ والدته، وأن لا تقذر مخالطته وتستنكف من خدمته وهو شديد العناية بها (إلا موضع الدينار، أو) شك من الراوي (الدرهم) والشك في ذلك عند مسلم في طريق زهير بن حرب بهذا اللفظ، فيحتمل كون الشك منه، أو من أحد شيوخه والطريق المجزوم فيها بأنه موضع الدرهم السابقة، رواها مسلم عن شيوخه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، ومحمد بن المثنى، وابن بشار قال: واللفظ لابن المثنى، والطريقان مختلفان في رجال الإسناد إلى أسير (فمن لقيه منكم فليستغفر

ص: 238

لكم) أي فليطلب منه ذلك كما قال في الرواية الآتية «فمروه فليستغفر لكم» ثم إن كان اللفظان من عمر، فيحتمل على أنه تارة باللفظ وتارة بالمعنى، ويحتمل أنه تعدد ذكره منه فتارة ذكر بلفظ إحدى الروايتين، وأخرى بلفظ الأخرى، وفيه على الاحتمال الأول دليل جواز الرواية بالمعنى بشرطه.

(وفي رواية له) أي لمسلم (عن عمر رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة، وكان به بياض فمروه) فيه دليل لعدم اعتبار الاستعلاء والعلو في الأمر خلافاً لبعض الأصوليين (فليستغفر لكم) كأن حكمه الإتيان بالمؤكده في صدر الجملة ما قد يعتري الناظر له في التردد في أخيريته على التابعين فأكد ذلك لذلك، قال المصنف في شرح مسلم: وهذا الحديث صريح في أنه خير التابعين، وقد قال أحمد وغيره: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. والجواب أن مرادهم أن سعيداً أفضل في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه لا في الخير عند الله تعالى اهـ. قال في «الإرشاد» عن أحمد بن حنبل قال: أفضل التابعين سعيد بن المسيب، قيل فعلقمة والأسود، فقال سعيد: وعلقمة والأسود.d وعنه لا أعلم في التابعين مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم، وعنه أفضلهم قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق، وعن عبد الله بن جنين الزاهد قال: أهل المدينة يقولون: أفضل التابعين ابن المسيب، وأهل الكوفة يقولون: أويس القرني، وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري والله أعلم. ومثله في «التقريب» له باختصار قال السيوطي في «شرح التقريب» واستحسنه: أي ما قال ابن حنيف - ابن الصلاح. وقال العراقي: الصحيح بل الصواب ما ذهب إليه أهل الكوفة لما ثبت في صحيح مسلم، وأشار إلى الحديث قال: فهذا قاطع للنزاع، قال: وأما تفضيل أحمد لابن المسيب وغيره فلعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده أو أراد الأفضلية في العلم لا الخيرية، قال السخاوي: فقد فرق بينهما بعض شيوخ الخطابي فيما حكاه الخطابي عنه، وأما قوله لعل أحمد لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده فإنه أخرجه في «مسنده» من الطريق التي خرّجها مسلم منها بلفظ:«إن خير التابعين رجل يقال له أويس» لكن قد أخرجه في «المسند» أيضاً بلفظ: «إن من خير التابعين» فقال: حدثنا أبو نعيم ثنا شريك فذكره بذلك. قال

السخاوي: وكذا رواه الجماعة عن شريك فزال الحصر اهـ. (قوله غبراء الناس بفتح الغين المعجمة وإسكان الباء) الموحدة (وبالمد) قال القرطبي: هذه الرواية الجيدة فيه

ص: 239

(وهم فقراؤهم وصعاليكهم ومن لا يعرف عينه من أخلاطهم) قال القرطبي: والغبراء الأرض، يقال:«الفقراء بنو الغبراء» كأن الفقر ألصقهم بها، قال القرطبي: وقد روى غبَّر بضم الغين وتشديد الموحدة جمع غابر كشاهد وشهد، ويعني به بقايا الناس ومتأخريهم، وهم ضعفاء الناس لأن وجوه الناس يتقدمون للأمور ويصحبون بها ويتقاضون فيها، ويبقى الضعفاء لا يلتفت إليهم ولا يؤبه بهم، فأراد أويس أن يكون خاملاً بحيث لا يلتفت إليه. طالباً للسلامة وظافراً بالغنيمة اهـ. والمعنى الأول يئول إلى هذا أيضاً. والصعاليك بمهملتين أوله، جمع صعلوك بضم الصاد المهملة: الفقير كما في «الصحاح» ، وقوله من لا يعرف عينه: أي لخموله وعدم ظهوره (والأمداد جمع مدد) بفتح أوّليه (وهم الأعوان والناصرون الذين كانوا يمدون) من الإمداد: أي اتصال المدد (المسلمين في الجهاد) وقضية ترتيب المتن تقديم بيان الأمداد على ما قبله لأنه كذلك فيه.

(فائدة) قال القرطبي: كان أويس من أولياء الله المخلصين المخففين الذين لا يؤبه بهم، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عنه ووصفه بوصفه ونعته بنعته وعلامته لما عرفه أحد، وكان موجوداً في حياة النبي وآمن به وصدقه ولم يلقه ولا كاتبه، فلم يعدّ من الصحابة، وقد أخبر النبيّ أنه من التابعين حيث قال:«إنه خير التابعين» وقد اختلف في زمن وفاته، فروي عن عبد الله بن مسلم قال:«عزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا مرض علينا فحملناه فلم يستمسك فمات، فنزلنا فإذا قبر محفور وماء مسكوب وكفن وحنطوط، فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره فإذا لا قبر ولا أثر» وروي عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل من الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ قلنا نعم، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أويس خير التابعين بإحسان» وعطف دابته فدخل مع أصحاب عليّ قال عبد الرحمن: فوجد في قتلى أصحاب عليّ. وله أخبار كثيرة وكرامات ظاهرة ذكرها أبو نعيم وأبو الفرج بن الجوزي في كتابيهما اهـ كلام القرطبي. وقد أفرد بعض فضلاء زبيد بعضها جزءاً في مناقبه وقفت عليه وهو حسن.

14373 -

(وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنت النبي في العمرة) فيه

ص: 240

استئذان التلميذ لأستاذه، والمريد لشيخه في مهامته إذا كان مع من ذكر في أمر جامع بهم يجمعهم طاعة الله ليكون على ذهنه إذا تفقده، قال تعالى:{إنما المؤمنون الذين آمنوا با ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} (النور: 62)(فأذن لي) في ذلك ودعا لي بالمغفرة، قال ابن رسلان: روى الثعلبي عن ابن أبي جمرة الثمالي، واسمه ثابت بن أبي صفية «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه، فيعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء منهم» . (وقال: لا تنسنا يا أخيّ) بفتح الياء المشددة وكسرها قراءتان في السبع في يا بني، وظاهر أنهما على ضم الهمزة والتصغير، وعليه اقتصر الشربيني الخطيب في «شرح جمع الجوامع» ، وفي «شرح جمع الجوامع» للمحلي بعد ذكر الحديث وأخي بضم الهمزة مصغر لتقريب المنزلة: أي لا للتحقير، وبفتحها روايتان اهـ. (من دعائك) فيه دليل على استحباب طلب المقيم من المسافر ووصيته له بالدعاء في مواطن الخير ولو كان المقيم أفضل من المسافر، وإن كان يعرف أنه يدعو له فلا بأس أن يذكره بالدعاء له لا سيما إن كان سفره عبادة كحج أو عمرة أو غزو فتتأكد الوصية كما تقدم، وفي الحديث:«يغفر للحاجّ ولمن استغفر له الحاجّ» والعمرة في معنى الحج، وهذا الحديث يؤيده.

وقال عمر: (فقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلمة) أراد بها معناها اللغوي، وهو الجمل المفيدة وهل هو مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل أو استعارة مصرحة شبه الكلام بالكلمة في توقف فهم المراد على تمام كل منهما، فأطلق عليه اسمها وجهان ذكرهما شيخنا الشيخ المحقق عبد الرحمن الحساني، والمشهور في كتب النحو: الأول منهما، وعليه اقتصر ابن رسلان في «شرح السنن» (ما يسرّني أن لي بها) أي «بدلها فالباء فيه بمعنى البدل، ومنه قول الحماسي» .

فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا.

(الدنيا) وما فيها، قال ابن رسلان: فيه فضل الدعاء بظهر الغيب واستحبابه للحاج إذا حضر في الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء لنفسه ولإخوانه في الله تعالى بأعيانهم، ومن سأله الدعاء ووعده فيتعين ويتأكد عليه الدعاء له اهـ. وهذا الحديث دليل قول المصنف في الترجمة وطلب الدعاء منهم، وذكر لدليل ندب زيارة المواضع المأثورة قوله:

(وفي رواية) هي لأبي داود قال بعد إيراد الحديث كما تقدم من طريق شعبة، قال شعبة: ثم لقيت عاصماً بعد بالمدينة فحدثته فـ (ـقال) في حديثه (أشركنا) بفتح الهمزة: أي اجعلنا شركاء معك (يا أخي) بالوجهين (في) صالح (دعائك حديث صحيح. رواه أبو داود) في باب الدعوات آخر كتاب الصلاة (والترمذي) في الدعوات من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) لعل صحته لغيره، وإلا ففي سند أبي داود والترمذي عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب ليس من رجال الصحيح، إنما روى له البخاري في كتاب خلق الأفعال، وفي سند الترمذي أيضاً سفيان بن وكيع وهو الراوي، وقد تكلم فيه من قبيل دخوله

ص: 241

في صنعة الوراقة، وقد رواه ابن ماجه في الحج من «سننه» عن أبي بكر بن شيبة عن وكيع عن سفيان عن عاصم أيضاً والله أعلم.

15374 -

(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبيّ يزور قباء) بضم القاف وتخفيف الباء وبالمد وهو مذكر منون مصروف في اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى صاحب المطالع وغيره فيه لغة أخرى وهي القصر حكاها في «المطالع» عن الخليل، وأخرى وهي التأنيث وترك الصرف والمختار ما قدمت، وهو الذي قاله الجمهور ونقله صاحب المطالع عن أبي عبيد البكري وعن أبي علي القالي، كذا في «التهذيب» للمصنف، وجمعت هذا كله من عبارة «المغني» للشيخ محمد طاهر الهندي الفتني: قباء بالمد والتذكير والصرف أشهر من أضدادهن، وبضم القاف وخفة الموحدة، وفي «المصباح» هو بضم القاف ويقصر ويمد ويصرف ولا يصرف، وفي عبارته إبهام تساوي الوجوه وقد علمت الأشهر منها. قال السمهودي: هو قرية حوالي المدينة. قال ابن جبير: مدينة كبيرة كانت متصلة بالمدينة المقدسة. وفي خط المداعي إنما سميت قباء ببئر كانت هناك تسمى قباراً فتطيروا منها فسموها قباء كما نقله ابن زبالة. قال الباجي: على ميلين من المدينة ونقله النووي عن العلماء. وفي «مشارق عياض» ثلاثة أميال، وهو معنى قول الحافظ ابن حجر على فرسخ من المدينة. قال السمهودي: وقد اختبرت ذلك فرأيته على فرسخ من باب جبريل إلى باب مسجد قباء اهـ. (راكباً وماشياً) أي تارة وتارة، ويحتمل أن يكون باعتبار بعض المسافة

ص: 242