الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رِسَالَةُ الْمُسْلِمِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِيْن
محاضرة الأستاذ مالك بن نبي
في جامع المرابط في دمشق
19/ 4/ 1392هـ = 22/ 5/ 1972م
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ.
إخواني! أيها الأبناء الكرام!!
إن الظرف الذي يجمعني بكم في هذا البيت من بيوت الله، وأنا على وشك العودة إلى الجزائر، يجعلني أفكر بدلاً من أن أعيد محاضرة سابقة هي الآن بين أيديكم، أن أضيف لها بإيجاز حلقة تمثل امتداداً في سلسلة أفكارها. ففي سلسلة الأفكار التي تناولتها المحاضرة السابقة، انتهيت آخر المطاف إلى نتيجة كبرى، تضع إشارة استفهام على مصير الإنسانية عموماً، في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين، كما تضع إشارة استفهام على دور المسلم في هذا الثلث الأخير. وقد قلت فعلاً في نهاية تلك المحاضرة:
((إن أوربة حققت المعجزات في عالم الاكتشافات
وعالم العلوم
…
ولكنها فقدت في أعماق نفسها البعد الذي كان يروح عليها ويرفه عنها ويسندها في وقت المحن لأنه يربطها بوجود الله. إذا أراد المسلم أن يسدَّ هذا الفراغ في النفوس المتعطشة، النفوس المنتظرة للمسوغات الجديدة
…
فيجب أولاً أن يرفع مستواه إلى مستوى الحضارة أو أعلى منها كي يرفع الحضارة بذلك إلى قداسة الوجود)) (1).
فحضارة القرن العشرين أفقدت أو أتلفت قداسة الوجود، في النفوس وفي الثقافة وفي الضمائر. ولقد أتلفت القداسة لأنها عدتها شيئاً تافهاً لا حاجة لنا به.
ولقد انجرت إلى إتلافها بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم (العلمية)، والتي أخضعت كل شيء وكل فكرة إلى مقاييس الكم منذ عهد ديكارت. لقد حاولت أوربة ونجحت، ونجاحها قد يفسر لنا اليوم على المدى البعيد، فشلها في الاسمرار. لقد نجحت في
(1) صفحة 39 من دور المسلم.
إخضاع كل شيء لمقاييس الكم، ولكن نجاحها يفسر بالتالي الأزمة التي تمرُّ بها اليوم حضارتها، التي فقدت كل مسوغات وجودها لأنها أفقدت الوجود قداسته. كان الوجود مقدساً في كل تفاصيله، في حياة الحشرات كان مقدساً، وحياة الإنسان كان أكثر قداسة، حتى الأشياء التي تلقى في الشوارع، كانت هناك تفاصيل توحي بقداستها، كان المار في الشارع إذا التقى بصره بِفُتَات الخُبز، ينحني ويلتقط هذا الفتات ثم يقبله ويضعه في مكان طاهر، لأنه كان يشعر بقداسة هذه الأشياء. أما الأوربي فلا يهمه هذا ولا يلتفت إليه لأن هذا الفتات من الخبز، لا قيمة له في نظره الكمي، إذ لا ثمن له، لذا يلقى مع الأشياء الأخرى في سلة المهملات. وتركت أوربة في سلة مهملاتها كل قداسة الأشياء، وكل القيم المقدسة، وفي آخر المطاف دار عليها صولجان علمها وطغيانها العقلي، كثعبان التوى على صدرها يضيق عليها الأنفاس، أوربة اليوم لا تتنفس التنفس الطليق، بل تتنفس تحت ضغط عالم الأشياء
المتراكمة. إذ بقدر ما تراكت الأشياء، وبقدر ماتراكت الإمكانيات الحضارية اضمحلت القاعدة الأخلاقية الروحية المعنوية التي تتحمل في كل مجتمع عبء الأثقال الاجتماعية والأثقال المادية، إذ لابدَّ من قاعدة روحية متينة حتى تتحمل هذه الأعباء، هذه الأعباء التي ترزح تحتها أوربة أو الحضارة الغربية اليوم وهي في خضم الأشياء التي تنتجها التكنولوجية.
من هنا نتصور إذن دور المسلم باعتباره رسالة.
دور المسلم لأنه يعاني أيضاً أزمته الخاصة به وهو يعلم ذلك، إذ لا يمكنه ألا يعلم، وأعداؤه أصبحوا أقرب من قبل من معاقله المقدسة. إنني لا أريد أن أشير هنا إلى أشياء سمعتها أثناء الحجة الأخيرة، أشياء تدل على أن الشعور بالخطر موجود في ضمير كل مسلم شعور بخطر كبير داهم.
إذن نحن نعيش أزمتنا الخاصة بنا ونعيشها بكل
أبعادها، بعدها الإقتصادي مثلاً، يكفينا أن نذكر، على سبيل المثال، أن أحطَّ المستويات الاقتصادية في
العالم، في صورة ما يسمى متوسط دخل الفرد السنوي، هو في البلاد الإسلامية. إن هذا معناه أن أحطَّ الحظوظ!، في هذه الدنيا أصبح للأمة التي خصها الله بالهداية الإسلامية، وخصها الله برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في هذه الدنيا. هذه الأمة أصبحت تعاني الأزمات المتنوعة التي قد نجمعها في كلمة واحدة نسميها الأزمة الحضارية، وهي فعلاً أزمة حضارية لا غير إذن نحن نعاني أزمتنا ومن ناحية أخرى تعاني الإنسانية المتحضرة أزمتها. والأزمة التي تعانيها الإنسانية المتحضرة أخطر وأعمق بكثير من أزمتنا نحن، لأن أزمتنا لا تمس جوهر كياننا الإنساني فيبقى مع أزمتنا على الرغم من كل شيء، شيء من الكرامة أو شيء من التكريم الذي وضعه الله عز وجل في الإنسان على العموم، أما الأزمة التي تنتاب الحضارة أو الإنسان المتحضر اليوم، فهي أحياناً تفقده حتى إنسانيته، فيصبح إما وحشاً مفترساً ضارياً ينقض على كل ما يستطيع تحطيمه، أو يصبح حيواناً تائهاً في المتاهات التي تفتح له بالمخدرات،
هذه هي الأزمة الخطيرة التي تعانيها الإنسانية المتحضرة أو يعانيها الإنسان المتحضر.
إذن الإنسانية بشطريها، بشطرها المتخلف، وبشطرها المتحضر، تعاني أزمة خطيرة هي أخطر أزمة في وجودها على سطح هذه الأرض. وفي حين يسير الزمان كعادته إلى مصب، فإننا نرى خطورة هذا السير من خلال التوقعات التي تصورها لنا ملابسات هذه الفترة من الزمن، التي نعيشها الآن بكل تقلباتها السياسية العسكرية الاقتصادية الثقافية. إننا نتصور أن نهاية هذا الثلث الأخير من القرن العشرين لن تكون كالفترات الأخرى، لأن التاريخ سينفرد إلى حدٍّ كبير بأشياء أخطر مما يتصور العقل، كأنما التاريخ كله تجمع منذ بدايته، أعني منذ بداية دخول الإنسان في العهد الذي يسمى العهد التاريخي، واقترب من مصبه، كالنهر الذي تجمعت كل روافده فيه عندما أصبح قريباً من البحر، ولهذا أصبح الثلث الأخير هذا ممتلئاً بكل التوقعات. وسينصب قريباً في (سنة ألفين) التي تضع
أمام الإنسانية جمعاء أخطر نقط الاستفهام على مصير الإنسانية منذ بدايتها. لأننا لا ندري في الحقيقة كيف تنتهي هذه الحقبة من الزمن.
ونحن باعتبارنا مسلمين أو باعتبارنا بشراً، نشاطر البشرية مصيرها، إن الإنسانية تعيش فعلاً ما يسمنى حالة طوارئ، أمام حالة الطوارئ هذه يطرح سؤال: ما هي رسالة المسلم؟ إن رسالته قد نلخصها في كلمة لا تعطينا حلاً ولكن تشفي إلى حدٍّ ما غليلنا لأنها كلمة مقبولة. وهي مقبولة من ناحية لأن الظروف تفرضها علينا، وتتعارض من ناحية أخرى- ربما في أعماق أذهاننا- مع مقدمات تتنافى مع مقتضيات الرسالة.
فما هي رسالة المسلم أمام حالة تتطلب الإنقاذ؟
الجواب: إنقاذ نفسه وإنقاذ الآخرين.
هذه هي رسالة المسلم. أليس في أذهاننا مقدمات
سلبية تتناقض مع هذا الزعم، كأننا انجذبنا إلى شيء من الغرور؟ كيف يستطيع الإنسان المسلم الذي لا يتمتع
بالقدر الكافي من الإمكانيات الحضارية حتى لتحقيق لقمة عيشه؟ كيف يستطيع إنقاذ الآخرين؟ وكيف يتطلع لهذه الرسالة؟.
إذا تساءلنا هذا السؤال يجب علينا أيضاً أن نتساءل
بهذا المنطق نفسه: لماذا استطاع ذلك أولئك الأعراب الفقراء في عهد محمد صلى الله عليه وسلم؟ لماذا قام أولئك الأعراب الفقراء الأميون بإنقاذ الإنسانية وشعروا أنهم جاؤوا من أجل إنقاذها؟ فقد كانوا يعلنون هذا في أقوالهم ومخاطباتهم للآخرين سواء من أهل الفرس أو من أهل روما. كانوا يقولون لهم: لقد أتينا لننقذكم. إنهم لم يشعروا بمركب النقص. لماذا لم يشعروا بمركب النقص؟ لأن الإمكانيات الحضارية المتكدسة أمامهم في فارس أو في بيزنطة أو في روما لم تفرض عليهم النقص، وبعبارة أخرى لم تبهرهم، كانوا يشعرون أمام الإمكانيات الحضارية المتكدسة، بإرادة حضارية تفوق كثيراً ما تبقى منها لدى المجتمعات المتحضرة في ذلك العصر. كذلك الحال اليوم لو أننا عقدنا موازنة. فليس إذن من
الصعب أن يقوم هذا المسلم الفقير، الأعزل، هذا المسلم الذي يضحي بمصالحه الكبرى حتى في هيئة الأمم، أن يقوم على الرغم من ذلك بفضل إسلامه فقط، بمهمة الإنقاذ، ولهذه المهمة شروط ربما نشرحها إذا اتسع المجال لذلك. إنه بفضل إسلامه لا غير يستطيع اليوم إنقاذ الإنسانية المتورطة قي الضياع على الرغم من علمها وكبريائها وتكنولوجيتها. غير أن كل رسالة تقوم على إعجاز؛ رسالة موسى قامت على إعجاز، كانت عصا موسى تلتقف ما يأفكون، حتى خرَّ السحرة ساجدين، واعترفوا بإله هارون وموسى. إعجاز عيسى كان إنقاذ المرضى من أمراضهم وإحياء الموتى أحياناً.
إعجاز النبي صلوات الله عليه وأزكى التسليم تعرفونه جميعاً، فقد أيدته السماء بالقرآن وأيدته بخلقه العظيم وأيدته أحياناً بالملائكة. وهلمَّ جرا.
فاليوم أيضاً إذا أراد المسلم أن يقوم برسالة، فهذا يتطلب نوعاً من الإعجاز تفرضه الظروف الخاصة التي تمرُّ بها الإنسانية اليوم، على اعتبار أن الإعجاز هو مجموعة
شروط منطقية وغير منطقية أعني خارجة عن المنطق، مجموعة شروط تحقق أمرين: الاقتناع والإقناع.
الاقتناع أولاً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكن للمسلم إن لم يقتنع بأن له رسالة أن يبلغ الآخرين هذه الرسالة، أو فحوى هذه الرسالة أو مفعول هذه الرسالة. إذن يجب أن يقتنع هو أولاً. وأنا أعني قناعته برسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ولا أتكلم عن اقتناعه بدينه. فكل مسلم مقتنع بدينه من يوم أن نزلت الآية الأولى في غار حراء. ومن يحاول أن يأتي للمسلمين بوسائل لاقتناعهم بدينهم فإنما يضيع وقته وربما يضيع وقت المسلمين أنفسهم. فالمهم في الأمر اليوم أن نلاحظ أن الشكوك التي تسربت إلى عقول الآخرين عن المجتمع الإسلامي إنما تتناول رسالة المسلم لا عقيدته. فهل الإنسان الذي يستمع إلى المسلم وهو يتحدث عن رسالته، إنسان تفحص أو راجع أمر القرآن من حيث هو فكرة صحيحة؟ إن هذا هو من شأن بعض الاختصاصيين: بعض الأفراد من النخبة مثل (لامارتين) الذي خصص
أكبر فصل كتبه إنسان لحياة النبي صلى الله عليه وسلم أو (برناردشو) أو (توماس كارليل). أما الجموع الغفيرة من الناس فلا تصبر لتدليلنا المنطقي أن الله واحد لا شريك له، وأن النبي رسوله، وأن هذا الدين صحيح. لقد أصبح هذا كله مسلمات. أما بالنسبة للآخرين، فإن كان من النخبة فيمكن أن يدركه من خلال كلامنا، وهو في الحقيقة لا ينتظر كلامنا، بل ينصرف بجهده الخاص إلى هذا النبع من النور، ويشعر بأن الإسلام فعلاً حقيقة منزلة من السماء.
أما الجموع الغفيرة، أما مئات الملايين من البشر، الذين تخصهم رسالة المسلم في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين، فهي تقول دعونا نلمس، وقولها آتٍ من كونها نشأت على ما يسمى المنطق العملي أو كما يقول المسيحي منطق القديس (توما). فـ (توما) هذا حينما رجع المسيح بعد أربعين يوماً إلى الحواريين قال لهم إنني عدت من السماء
…
إلخ. ورفعتني الملائكة
…
إلخ فسأله (توما) وأين آثار الصليب على يديك وعلى
قدميك؟ أرني كي ألمس هذه الآثار بيدي لا بعقلي. هذا قولهم بالطبع وليس قولنا، وإنما نذكره بوصفه عينة من تفكيرهم ومن أوضاعهم النفسية أمام الأفكار. فهل هم يتصلون بالأفكار عن طريق المنطق الذي نعتبره نحن السند الأول لإبطال أو تأييد فكرة معينة؟ كلا إنهم لا يطرقون الموضوع من هذا الباب وإنما من باب (سان توما).
فما هو واضح في تصوري أنا المسلم، ليس واضحاً بالنسبة للآخرين الذين ينبغي علي أن أتقدم إليهم، آخذاً بإلاعتبار تصورهم هم لا تصوري أنا عن حقيقة المسلم. لأن حقيقة المسلم محجوبة عن نظر الآخرين. إن حقيقة المسلم، كرامة المسلم، فضيلة المسلم، أخلاق المسلم، شرف المسلم، عزة المسلم؛ كل هذه الأشياء تخفيها عن نظر الآخرين المظاهر الاجتماعية. وهي تشهد بكل أسف في نظر الآخرين على المسلم وضده. فالمسلم فقير، والمسلم جاهل، المسلم كذا
…
الإحصائيات الموجودة في العالم كذا
…
إلخ
…
فنحن حينما تكلمنا عن الإعجاز الذي يتضمن شروط الإقتناع وشروط الإقناع، تكلمنا عن شيء جوهري جداً، أعني أن المسلم لا يستطيع أن يقوم برسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، إلا إذا حقق من خلال منطق خاص لرسالته كل شروط الاقتناع وكل شروط الإقناع.
ومن هنا نرى ما يترتب على المسلم من القيام بواجبات ملحة، حتى يفي بشرط إعجازه في هذا الثلث الأخير نحو نفسه ونحو الآخرين، إنه يحتاج أحياناً إلى هذه الوسائل حتى بالنسبة إلى إخوانه المسلمين المعرضين، لأنهم يخضعون هم أيضاً لمنطق (سان توما) الذي يريد أن يمس الأشياء بيده حتى يعترف بوجودها. أليس في صفوف شبابنا عدد يمنطق قضاياه بطريقة (سان توما)، يعني بلمس اليد لا بالنظرة العقلية، بحيث يجب فعلاً أن تتوافر لرسالة المسلم كل شروط الاقتناع وكل شروط الإقناع؟ ولن يتوافر هذا إلا بتغيير. في داخل المسلم، في أغوار نفسه وحول المسلم في
محيطه الخاص أو في محيطه العالمي، لأننا حين تكلمنا في بداية الحديث، عن الأزمة الإنسانية المواجهة لأزمتنا نحن المسلمين، رأينا أزمة إنسانية من أخطر ما واجهته الإنسانية منذ بداية تاريخها، وكنتيجة لهذه الأزمة بصورتيها، الصورة الخاصة بالمسلم والصورة الخاصة بالإنسان المتحضر، أصبح العالم كأنه ازدواجية، ازدواجية بين عنصرين متوازيين لا يتصلان إلا عن طريق شبكة علاقات متناقضة. هناك في العالم اليوم إذا تصورناه كلاً، صلات من الطرف المتقدم ومن الطرف المتخلف الذي يسمى العالم الثالث، إذا تفحصنا كيف تسير العلاقات بين الطرفين نراها تسير وفق ثلاثة أصناف؛ ففي المجال الاقتصادي، أصبح كل شيء في منطق القرن العشرين يفسر بالاقتصاد وأصبح كل شيء يخضع للإقتصاد، نرى أن طرفي العالم يتعاملان على أساس علاقة اقتصادية متناقضة، في طرفها الأول المجتمع الذي ينتج المواد الخام كالنفط وغير ذلك من المواد الأولية، وفي طرفها الثاني من يحول هذه المواد الأولية
إلى منتجات حضارية، وطبعاً على حساب العالم الثالث أي على حساب اقتصاده وعلى حساب! نموه، كما هو ظاهر لنا مثلاً في قضية النفط، خصوصاً قبل خمس أوست سنوات، حين كانت مادة النفط تدر على أصحاب التروستات وعلى أصحاب الاحتكارات عشرات المرات، أكثر مما تدر على أصحاب البلاد المنتجة. هكذا كان الوضع في المجالات الأخرى حيث كانت الصلات الاقتصادية تسير على هذه الوتيرة.
وفي المجال السياسي كانت العلاقة أيضاً متناقضة في طرفيها. كان الحوار بين متكلمين: في الطرف الأول الاستعمار، وفي طرف آخر القابلية للاستعمار. هذا الوضع الذي كان، وأخشى أن أقول ولا يزال قائماً بين الاستعمار وبين القابلية للاستعمار، لأننا لم نغير شروط القابلية للاستعمار في أنفسنا. غيَّرنا بعض السطحيات ولم نغير القابلية للاستعمار، غير أن ضغط بعض الظروف وقوة الأشياء، جعلت بعض المواقف الاستعمارية تتغير إلى حدٍّ ما، ولكن لم تتغير كلها ولن تتغير، مادامت
القابلية للاستعمار هي التي تحاورها في المجال السياسي.
وفي المجال النفسي أو الثقافي هناك محوران: محور
ثقافي هو ما نسميه محور (واشنطن موسكو)، وهو محور واحد لا يختلف فيه شرقه عن غربه ولا غربه عن شرقه في هذه الناحية.
هذا المحور يطرق أو يطرح كل مشكلاته بمنطق القوة. بينما يجب على المحور الآخر أعني محور (طنجة- جاكرتا) الذي نعيش عليه نحن، نحن المجتمعات المتخلفة وخصوصاً نحن المسلمين يجب علينا أن نطرح المشكلات بمنطق البقاء، لأننا بحاجة إلى رفع مستوى بقائنا، إلى مستوى الحضارة، وهذا يتنافى مع طرح القضايا بمنطق القوة، ولا تستطيع ولا تسمح لناظروفنا بغير ذلك، ولا يهمنا ولا يهم الإنسانية التي تعد نفسها متقدمة أن ترجع إلى رشدها. لا يهم أن تطرح أمريكة مثلاً اليوم كل مشكلاتها بمنطق القوة، بينما مجتمعها أيضاً يعاني أعراض التخلف، خاصة المدن الصناعية الكبيرة مثل نيويورك وديترويت وشيكاغو .. إلخ. هذه المدن
أصبحت فيها عينات تدل على أن التخلف بدأ يتفشى في المجتمع الأمريكي، ومع ذلك فأمريكة تخصص كل إمكانياتها لطرح مشكلاتها بمنطق القوة.
أما نحن فمضطرون أن نطرح مشكلاتنا بمنطق البقاء، حتى نستطيع أن نتقدم بعض الخطوات، حتى نستطيع أن نرفع مستوانا إلى مستوى الحضارة، وهنا يفرض علينا طبعاً هذه العلاقات الثلاثية المتناقضة؛ العلاقة الثقافية، العلاقة النفسية، العلاقة السياسية. إذ يجب علينا أن نصفي هذه الخريطة للعلاقات العالمية حتى يتسنى لهذه الإنسانية أن ترفع مستواها إلى مستوى القداسة، أن ترفع هذه الإنسانية مستواها الواقعي ومستواها الثقافي إلى مستوى القداسة، وإلى المستوى الذي تستوعب معه مسوغاتها الجديدة في المرحلة الخطيرة التي تمرُّ بها الإنسانية اليوم، في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين، إذن يجب على المسلم. الذي يضطلع برسالته أن يفكر في إعجازه، وإعجازه لا يتأتى إلا بتحقيق شرط جوهري، وهو تغيير ما بنفسه وتغيير ما في
محيطه مصداقاً للآية الكريمة:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 12/ 13].
ولا يمكنه أن يغير شيئاً في الخارج إن لم يغير شيئاً
في نفسه. وحينما نقول هذه الكلمة نقولها باعتبارها علماً، ولا نقولها فقط تبركاً بآية، نقولها (علماً) ونعلم مقدارها من الصحة العلمية، لا يستطيع مسلم أو غير مسلم أن يغير ما حوله إن لم يغير أولاً ما بنفسه، فهذه حقيقة علمية يجب أن نتصورها قانوناً إنسانياً وضعه الله عز وجل في القرآن، سنة من سنن الله التي تسير عليها حياة البشر.
إذن لكي يتحقق التغيير في محيطنا يجب أن يتحقق
أولاً في أنفسنا. وبذلك تتوفر شروط رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، وإلا فإن المسلم لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين.
ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير، والتغيير
يقتضي تغيير ما في النفوس أولاً، إذا كان منهج الرسالة يقتضي هذا، فإننا نستطيع أن نتكلم عن وسائل الرسالة أو الطرق العملية لتطبيق هذه الرسالة كي تفي بمهمتها، ألا وهي الإنقاذ أو مواجهة حالة إنقاذ أو حالة طوارئ تخص المسلم وتخص الإنسانية عامة. عندها يجب على كل مسلم أن يحقق بمفرده شروطاً ثلاثة:
1 -
أن يعرف نفسه.
2 -
أن يعرف الآخرين، وألا يتعالى عليهم، وألا يتجاهلهم، وهنا يجب أن تحل عقدة نعرفها، وهي أن المسلم يزهد كثيراً في عالم النفوس مما يتصل بالآخرين، لا يجوز للمسلم أن يجهل ما في نفوس الآخرين، ولا يجوز أن يتعالى على الآخرين ولا أن يتسامى عليهم بدعوى أنه أعد للجنة وأعد للتكريم، يجب عليه أن يعلم ما في نفوس الآخرين ويجب عليه أن يعلم ذلك لأمرين لا لأمر واحد، إما لكي يتقي شرهم عن معرفة وإدراك لكل معطيات نفوسهم، وإما لتبليغهم إشراق الإسلام وإشراق الهداية الإسلامية. فهو إن لم يعرف النفوس
فكيف يقدر أن يتصرف معها بحكمة؟ إن لم يعرف نفوس الآخرين وظلت صناديق مغلقة عليه فكيف يبلغها الهداية الإسلامية؟ إنه لن يستطيع. يجب إذن على المسلم بعد أن يعرف نفسه أن يعرف نفوس الآخرين.
3 -
ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرِّف الآخرين بنفسه، لكن بالصورة المحببة، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلف وأصناف التقهقر، كل أصناف التخلف وأصناف التأخر. ويجب عليه أولاً أن يقوم بهذه التصفية حتى يقدم للآخرين صورة مقبولة محببة بوصفها عينة من العينات البشرية التي يصنعها الإسلام، أما إذا تقدم المسلم إلى الآخرين بوصفه عورة يجب أن يستحى منها، فالعورة تستر ولا تكشف، والعورة لا يمكنها أن تبلغ إشعاعاً. الجهل عورة الفقر الذي يسببه كسلنا، وكسلنا عورة، الفوض عورة وهذه العورات كلها لا تستطيع ولا تتيح لشخصية المسلم أن تبلغ إشراق الإسلام.
إذن هناك شروط ثلاثة يجب أن تتحقق، أن يعرف المسلم نفسه بالتدقيق وألا يغالط نفسه في معرفة نفسه، لأنه طالما عمي المسلم بسبب هذه المغالطة؛ يا ليته لم يلعن طيلة القرن الماضي الاستعمار بل القابلية للاستعمار، ولو فعل ذلك لكان اليوم ذا صورة محببة ومرضية لنفسه وللآخرين.
إذن يجب على المسلم أن يعرف نفسه من دون مغالطة، وأن يعرف نفوس الآخرين من دون كبرياء وتعال، وبكل أخوة وصدق وإخلاص أن يحبهم لوجه الله حتى تصل إليهم عن طريق وعلى جسر هذه المحبة، حرارة الإسلام، حرارة الحب الإسلامي وكل ما يناط بمفهوم التغيير، يجب أن نتوخى فيه أمراً ألا وهو أن كل فكرة لها جانبان:
جانب الصحة، وجانب الصلاحية.
قد تكون فكرة ما صالحة وليست صحيحة، وقد تكون فكرة صحيحة ثم فقدت في الطريق صلاحيتها لأية أسباب. ألسنا نشعر نحن مثلاً بأن ديننا وهو
أوضح من حيث الصحة من شمس النهار، أنه إلى حدٍّ ما وبسببنا نحن، وبسبب تقاعسنا وتكاسلنا ونومنا في النهار فقد بعض صلاحيته. كأن هذه الفكرة المقدسة التي أنزلها الله على محمد عليه الصلاة والسلام، هذه الفكرة- التي لا يختلف في صحتها عقل سليم مع عقل سليم- تبدو اليوم وكأنها فقدت صلاحيتها.
أين كرامة المسلم؟ أين عزة المسلم؟ أين مجد المسلم؟ أين علم المسلم؟ أين نزاهة المسلم؟ أين بطولة المسلم؟ أين استشهاد المسلم؟ أين شهادة المسلم ولو على نفسه؟
المسلم فرّط في كل هذا. المسلم فرط وضيع وأتلف كل هذا.
والغرب أو الحضارة الغربية أتلفت مسوغات وجودها، وهي تعاني هذه الأزمة التي أشرت إليها. والمسلم يضيع القيم الإسلامية التي كانت تشرق على وجهه، وتجعله في نظر الآخرين أجمل صورة إنسانية في
التاريخ، فقد كان أحد المؤرخين في أوائل القرن التاسع عشر، هو المستشرق (فرينو) الذي ترجم جغرافية أبي الفداء، يذكر في مقدمته وهو يعلق في مقطع يخص رحلة أبي الفداء إلى نواحي (الفولغا)، حيث كانت تعيش قبائل صقالبة متوحشة كما يصفها أبو الفداء، وكان أبو الفداء مرتدياً لباسه العربي وعمته العربية.
ففرينو هذا وكأنه لاحظ شيئاً غريباً، يقول: كان العربي يريد أن يظهر في كل مكان بزيه القومي، نعم لأن صورته في نظر الآخرين كانت هي الصورة المثلى لبني آدم بفضل الإسلام.
أقول هذه الكلمات، وصية لإخواني ولأبنائنا الكرام من الطلبة، وأدعو الله أن تتحقق رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين بفضل هؤلاء الشباب، وإخوانه في مصر، وإخوانه في ليبيا، وإخوانه في الجزائر، وإخوانه في كل البلاد الإسلامية
…
أن تتحقق هذه الرسالة لإنقاذ المسلم من كسله ولإنقاذ الإنسان المتحضر من استهتاره والسلام عليكم.