الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مُقدَمة
كان الشعرُ الهُذَلىّ فى كل عهود هذه اللغة موضع اهتمام كبار الرواة كالأصمعىّ وأماثل الأئمة كالشافعىّ، وصدور المؤلفين كأبى سعيد السكرىّ وأبي الفرج الأصفهانىّ، وغيرهم.
وقد ظلّ هذا الشعر الهذلىّ منذ تدوين هذه اللّغة وهو حقيبة نصوصها وجَعْبة شواهدها، وملتقَى حُفّاظها، إليه مرجع علمائها فى الاستشهاد على صحة المفردات، وعليه يعتمد الأئمة في تفسير ما التبس من محكم الآيات؛ فقد كانوا لشدّة عنايتهم بهذه اللّغة الكريمة وحرصهم على بقاء بِنْيَتها صحيحة لا يستشهدون على سلامة تعابيرهم، بما تنطق به عامّة قبائل العرب، وإنما كانوا يخصّون ولا يعمّون.
لقد كانوا لا يأخذون عن لَخْم ولا عن جُذام، ولا عن قضاعة وغسّان وإياد، ولا عن تَغْلب والنَّمِر، وإنما كانوا يأخذون العربية عن قيس وأَسَد وتميم وهُذَيل وبعض كنانة وبعض الطائّيين، ولم يأخذوها عن غيرهم من سائر قبائلهم كما يقول أبو نصر الفارابيّ.
فهذيل كانت فى اعتبار أئمة اللغة إحدى جهاتٍ ستّ لا يقُتْدَى إلا بها ولا تؤخذ اللّغة إلا عنها، فإذا عرفتَ إلى هذا أن قيسا وأسدا وتميما إنما كان
يُعتَمد عليهم في الغريب وفى الإعراب وفى التصريف، استطعتَ أن ترى بداهة أن هذيلا كانت أُولى القبائل الّتى يُقتدى بها في فصاحة اللسان، وسَعَةِ البيان.
فلئن سبقت قريش بأنّها كانت أجوَدَ العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا، لقد جاءت هذيل لاحقةً بها فى هذا المضمار أو تكاد، ولا عجب، فهي تمتّ إلى قريش بالنَّسب وبالصِّهر وبالجِوار.
فالهذليّون -على ما يحقّقه أبو حزم الأندلسىّ فى كتابه (جمهرة أنساب العرب) - هم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
وإذا كانت قريش تسكن مكّة، فقد كانت هذيل تسكن حولها أو قريبا منها. فلا جرَم أن يكون القرشيّون والهذليّون فى الفصاحة قُسَماء، كما كانوا في الجوار والدماء أقرباء.
لقد أعرقتْ هذيل فى الشعر خاصّة، حتى كان الرجل منهم ربمّا أنجب عشرةً من البنين كلّهم شعراء.
قال صاحب الأغانى: كان بنو مُرّة عشرة: أبو خراش وأبو جندب وعروة والأتج والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجُنَادة وسفيان، وكانوا جميعا شعراء دُهاة.
ويقول الأصمعىّ: إذا فاتك الهذلىّ أن يكون شاعرا أو راميا فلا خير فيه. فانظر إلي أىّ حدّ بلغتْ هذه القبيلة من شهرة بالشعر وتجلّة لدى الثقات ومنزلةٍ عند الرواة.
حقّا إن قيام "دار الكتب المصرية" بطبع هذا الديوان لا يعدّ عملا أدبيا فحسب، ولكنّه عملُ مُجْدٍ نبيل. وهكذا قيّض الله لهذه الدار أن تُخرِج من الشعراء الهذليين أكبر عدد عُرِف حتى الآن.
فأكبر الكُتُب المعروفة فى شعر الهذليين ثلاثة، وهي:"ما بقى من أشعار الهذلين" المعروف (بالبقية)، "وشرح ديوان الهذليين لأبى سعيد السكرى" و "مجموعة أشعار الهذليين" المطبوع فى ليبزج، لم يزد أوّلها على سبعة وعشرين شاعرا كما أن الثانى لم يتجاوز تسعة وعشرين، وكذلك الثالث فإنه يشمل ستة شعراء.
هذا كلّ ما جمُع للهذليين فى الشرق والغرب فى القديم والحديث.
أما ديوان الهذليين إخراج "دار الكتب المصرية" وهو الذى نقدّم إليك الآن الجزء الثالث منه فإنه يشمل بقية مجموعة الأستاذ الشنقيطى المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 6 أدب ش.
أما طريقتنا فى إخراجه والمراجع التى رجعنا إليها فيه ففى مقدمتى القسمين السابقين بيانُ شافٍ وتفصيلٌ وافٍ عن ذلك.
ويلاحظ أننا لم نُغفِل مصدرا أخذْنا منه أو نقلْنا عنه إلّا ذكرناه فى موضعه من الحواشى والتعليقات التى أثبتناها فى أواخر الصفحات.
وقد بذلْنا غايةَ الجهد في تحقيق هذا الكّتاب وشرح الغامض من مفرداته مراعين فى ذلك سياقَ العبارات وما تقتضيه أساليب الهذليين، مستعينين بالمصادر التى بين أيدينا، مستضيئين بالممارسة التى خوّلها لنا طولُ نظرنا فى شعر هؤلاء الشعراء وأمثالهم.
هذا والله المسئول أن يهب لأعمالنا حسن القبول،
محمود أبو الوفا
دار الكتب المصرية
12 ربيع الثانى سنة 1369
30 يناير سنة 1950