الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذم قسوة القلب
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام العلامة الحافظ زين الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب - فسح الله في مدته ونفع به:
الْحَمْدُ لِلَّهِ
رسالةٌ في ذمِّ قسوة القلب وذكر أسبابها وما تَئول به.
أمَّا ذمُّ القسوة، فَقَالَ تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (1).
ثم بَيَّن وجه كونها أشدّ قسوة، بقوله:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (1).
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) فوصف أهل الكتاب بالقسوة، ونهانا عن التشبه بهم.
قال بعضُ السلف: لا يكون أشدّ قسوة من صاحب الكتاب إذا قسا.
وفي "الترمذي"(4)، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» (4).
(1) البقرة: 74.
(2)
الحديد: 16.
(3)
الزمر: 22.
(4)
برقم (2411) من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر
…
فذكره.=
وفي "مسند البزَّار"(1)، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَطُولُ الأَمَلِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا".
وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"(2)، من طريق أبي داود النخعي الكذَّاب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس.
وقال مالك بن دينار: ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب. ذكره عبدُ الله بن أحمد في "الزهد"(3).
وقال حُذيفة المرعشي: ما أصيب أحدٌ بمصيبة أعظم من قساوة قلبه. رواه أبو نُعيم (4).
=قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب.
وفي "تحفة الأشراف"(5/ 445): غريب.
ونقل ابن كثير في "تفسيره" قول الترمذي (غريب).
قال الذهبي في "ميزان الاعتدال"(1/ 161) في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن حاطب: ومن غرائبه حديثه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال: قال الترمذي: حسن غريب.
(1)
أخرجه البزار كما فى "كشف الأستار"(3230) من طريق هانئ بن المتوكل ثنا عبد الله بن سليمان وأبان عن أنس به. وقال البزار: عبد الله بن سليمان حدث بأحاديث، لم يتابع عليه، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 226) رواه البزار وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف. وقال الذهبي في "الميزان" (4/ 291): هذا حديث منكر.
ورواه ابن عدي في "الكامل"(3/ 248) من طريق سليمان بن عمرو بن وهب عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس.
وقال ابن عدي عَلَى هذا الحديث وغيره: وهذان الحديثان وضعهما سليمان بن عمرو عَلَى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 175) من طريق حجاج بن منهال عن صالح المري عن يزيد الرقاشي عن أنس به.
وقال: تفرد برفعه متصلاً عن صالح حجاج.
(2)
"الموضوعات"(3/ 125).
(3)
"الزهد"(320).
(4)
في "الحلية"(8/ 269).
وأمَّا أسبابُ القسوة فكثيرة:
منها: كثرةُ الكلام بغير ذكر الله؛ كما في حديث ابن عمر السابق.
ومنها: نقض العهد مع الله تعالى - قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (1).
قال ابنُ عقيل يومًا في وعظه: يا من يجد من قلبه قسوة، احذر أنْ تكون نقضت عهدًا؛ فإنَّ الله يقول:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} الآية (1).
ومنها: كثرةُ الضَّحك؛ ففي الترمذي (2)، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لاً تُكْثِرُوا الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» وقال: روي عن الحسن قوله.
وخرج ابنُ ماجه (3)، من طريق أبي رجاء الجَزَري، عن برد بن سِنان، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» .
(1) المائدة: 13.
(2)
أخرجه الترمذي برقم [2305]، وأحمد في "مسنده"(2/ 310)، وأبو يعلى في "مسنده" برقم [6240]، والطبراني في "الأوسط" برقم [7054]، والبيهقي في "الشعب" برقم [9543]، [11128]، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 295) كلهم من طريق جعفر بن سليمان عن أبي طارق عن الحسن به مطولاً.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سلمان، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئًا، هكذا رُوِي عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، وروى أبو عبيدة الناجي عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو نعيم في "الحلية"(6/ 295): غريب من حديث الحسن، تفرد به جعفر عن أبي طارق.
وقال العجلوني في "كشف الخفا"(1/ 44): رواه أحمد والترمذي بسند ضعيف.
(3)
برقم (4217) من طريق مكحول عن واثلة به مطولاً.
وذكر الدارقطني في "العلل"(7/ 263 - 265) برقم [1339] الاختلاف في هذا الحديث، ثم قال: والحديث غير ثابت.
ومن طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).
ومنها: كثرةُ الأكل، ولا سيما إِنْ كان من الشُّبهات أو الحرام؛ قال بشر ابن الحارث: خصلتان تُقسِّيان القلب، كثرةُ الكلام وكثرة الأكل. ذكره أبو نُعيم (2).
وذكر المروذي في كتاب الورع، قال: قلتُ لأبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل-: يجد الرجلُ من قَلبه رقَّة وهو شبع؟ قال: ما أرى.
ومنها: كثرةُ الذنوب؟ قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3).
وفي "المسند"، والترمذي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3) "وقال الترمذي: صحيح (4).
قال بعضُ السلف: البدن إذا عري رقَّ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعتهُ.
(1) أخرجه ابن ماجه (4193).
(2)
"الحلية"(8/ 350).
(3)
المطففين: 14.
(4)
رواه أحمد (2/ 297)، والترمذى برقم [3334]، والنسائي في "الكبرى"(6/ 110)، وابن ماجه برقم [4244]، والطبري في "تفسيره"(1/ 112)، (30/ 98)، الحاكم (2/ 562)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 88)، وفي "الشعب" برقم [7203] من طرق عن ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة
…
فذكره.
قال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح عَلَى شرط مسلم ولم يخرجاه.
وفي هذا المعنى يقول ابن المبارك رحمه الله:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ
…
وَيُتْبِعُهَا الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ
…
وَالْخَيْرُ لِلنَّفْسِ عِصْيَانهَا
وأمَّا مزيلاتُ القسوة، فمتعددة أيضاً:
فمنها: كثرةُ ذكر الله الَّذِي يتواطأ عليه القلب واللسان؛ قال المعلَّى بن زياد: إِنَّ رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوه قلبي، قال: أدنه من الذكر.
وقال وهب بن الورد: نظرنا في هذا الحديث، فلم نجد شيئًا أرق لهذه القلوب ولا أشد استجلابًا للحق من قراءة القرآن لمن تدبره.
وقال يحيى بن مُعاذ، وإبراهيم الخواص: دواءُ القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرَّع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
والأصل في إزالة قسوة القلوب بالذكر قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1).
وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (2)، وقال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (3).
(1) الرعد: 28.
(2)
الزمر: 23.
(3)
الحديد: 16.
وفي حديث عبد العزيز بن أبي روَّاد مُرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: تلاوةُ كتاب الله وكثرة ذكره"(1).
ومنها: الإحسانُ إِلَى اليتامى والمساكين؛ روى ابن أبي الدنيا: ثنا علي بن الجعد، حدثني حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن أبي هريرة":"أَنَّ رَجُلًا، شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ: "إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ". إسناده جيد (2).
وكذا رواه ابنُ مهدي عن حمَّاد بن سلمة، ورواه جعفر بن مُسافر: ثنا مُؤمَّل، نا حماد، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا كأنَّه غيرُ محفوظ عن حمَّاد.
(1) أخرجه ابن عدي في "الكامل"(1/ 259)، (5/ 283)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 197)، والبيهقي في "الشعب" برقم [2014]، والخطب في "تاريخه"(11/ 85)، والقضاعي في "مسند الشهاب" برقم [178، 1179]، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 832) من طريق عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا.
قال ابن عدي عن الواسطي: ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا، وإنما ذكرته لأحاديث رواها مناكير عن قوم ثقات.
ونقل الخطيب قول الدارقطني: الغسانى متروك يكذب، ونقله كذلك ابن الجوزي في "العلل"، والذهبي في "الميزان".
وقال أبو نعيم: غريب من حديث نافع وعبد العزيز، تفرد به أبو هشام واسمه عبد الرحيم بن هارون الواسطي.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث مشهور بعبد العزيز، معروف برواية عبد الرحيم بن هارون الغساني عنه، وقد سرقه منه إبراهيم. فأما عبد العزيز، فَقَالَ ابن حبان: كان يحدث عَلَى التوهم والنسيان، فسقط الاحتجاج به، وأما عبد الرحيم، فَقَالَ الدارقطني: متروك الحديث. وأما إبراهيم بن عدي كان يحدث بالمناكير. قال: وعندي أنه يسرق الحديث.
وقال الذهبي في "الميزان" عن الواسطي: وله عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا إِنَّ هذه القلوب ..... رواه حفص بن غياث عن عبد العزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره منقطعًا.
(2)
وأخرجه أحمد (2/ 263).
ورواه الجوزجاني: ثنا محمد بن عبد الله الرّقاشي، ثنا جعفر، ثنا أبو عمران الجوني مُرسلاً (1)، وهو أشبه، وجعفر أحفظ لحديث أبي عمران من حمَّاد بن سلمة.
وروى أبو نعيم (2)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر (3)، عن صاحب له: أنَّ أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان: "ارْحَمِ الْيَتِيمَ وَأَدنِهِ مِنْكَ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَشْتَكِي قَسَاوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ:«أَتُحِبُّ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ. فَقَالَ: «أَدْنِ الْيَتِيمَ مِنْكَ، وَامْسَحْ رَأْسِهِ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ وَتَقْدِرُ عَلَى حَاجَتِكَ» .
قال أبو نُعيم: ورواه ابن جابر والمُطعم بن المقدام، عن محمَّد بن واسع أنَّ "أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان .... " مثله.
ونقل أبو طالب أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- فَقَالَ له: كيف يرقُّ قلبي؟ قال: ادخل المقبرة، وامسح رأس اليتيم.
ومنها: كثرةُ ذكر الموت؛ ذكر ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسناده، عن منصور بن عبد الرحمن، عن صفية "أنَّ امرأة أتت عائشة لتشكو إليها القسوة. فقالت: أكثري ذكر الموت، يرق قلبك وتقدرين عَلَى حاجتك. قالت: ففعلت، فآنست من قلبها رشدًا، فجاءت تشكر لعائشة رضي الله عنها".
وكان غيرُ واحد من السلف، منهم سعيد بن جُبير، وربيع بن أبي راشد يَقُولُونَ: لو فارق ذكرُ الموت قلوبنا ساعة لفسدت قلوبُنا.
(1) في الأصل: "مرسل".
(2)
"الحلية"(1/ 214) بهذا الإسناد مطولاً وقال: رواه ابن جابر والمطعم بن المقدام عن محمد بن واسع أن أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان مثله.
قلت: ورواية محمد بن واسع عند البيهقي فى "الشعب" برقم [10657].
(3)
"الجامع" لمعمر بن راشد (11/ 97 مع المصنف) برقم [20029].
وفي "السُّنن"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» الموت.
وروي مُرسلاً عن عطاء الخراساني قال: "مر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمجلس قد استعلاه الضحك فَقَالَ: شُوبوا مجلسكم بذكر مكدّر اللذات. قالوا: وما مُكدر اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت".
ومنها: زيارةُ القبور بالتفكر في حال أهلها ومصيرهم؛ وقد سبق قولُ أحمد للذي سأله ما يُرقُّ قلبي؟ قال: ادخل المقبرة.
وقد ثبت في "صحيح مسلم"(2)، عن أبي هريرة"، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْت» .
وعن بُريدة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ» رواه أحمد (3)، والترمذي وصححه.
وعن أنس، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كُنْتُ قَّدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ قَّدْ بَدَا لِي [أَنَّهَا] (*) تُرِقُّ الْقَلْبَ وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، فَزُورُوهَا وَلاً تَقُولُوا هُجْرًا" رواه الإمام أحمد (4)، وابن أبي الدُّنْيَا.
وذكر ابنُ أبي الدُّنْيَا، عن محمد بن صالح التمار قال: كان صفوانُ بن سليم يأتي البقيع في الأيام فيمر بى، فاتبعته ذات يوم. وقلت: والله لأنظرنَّ ما يصنع. قال: فقنَّع رأسه وجلس إِلَى قبر منها، فلم يزل يبكي حتى رحمته.
قال: ظننتُ أنه قبر بعض أهله. قال: فمر بي مرة أخرى، فاتبعته [فقعد](**)
(1) أخرجه أحمد (2/ 292)، والترمذي (2307)، والنسائي (4/ 4)، وابن ماجه (4258).
(2)
برقم (976).
(3)
أخرجه أحمد (5/ 356، 359، 361)، ومسلم (672)، (3/ 564، 1585)، والترمذي (1054، 1510، 1869).
(*) في الأصل: أنه. والمثبت من "المسند".
(4)
(3/ 237، 250).
(**) في الأصل: "فقعدت".
إِلَى جنب قبر غيره. ففعل مثل ذلك فذكرتُ ذلك لمحمد بن المنكدر، وقلتُ: إِنَّمَا ظننتُ أنه قبر بعض أهله. فَقَالَ محمد: كلهم أهله وإخوانه، إِنَّمَا هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات، كلّما عرضت له قسوةٌ. قال: ثم جعل محمد بن المنكدر بعد يمرّ بي فيأتي البقيع، فسلَّمت عليه ذات يوم، فَقَالَ: ما نفعتك موعظة صفوان. قال: فظنت أنه انتفع بما ألقيتُ إِلَيْهِ منها.
وذكر أيضاً أنَّ عجوزًا مُتَعبِّدة من عبد القيس كانت تُكثر إتيان القبور، فعُوتبت في ذلك. فقالت: إِنَّ القلب القاسي إذا جفا لم يليِّنه إلَاّ رسوم البلى، وإنِّي لآتي القبور وكأني أنظر إليهم وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظر إِلَى تلك الوجوه المتعفِّرة، وإلى تلك الأجسام المتغيِّرة، وإلى تلك الأكفان الدنسة. فيا له منظر لم أَسرّ به (1) قلوبهم، ما أنكل (2) مرارة الأنفس وأشد تلفة الأبدان.
وقال زياد النميري: ما اشتقت إِلَى البكاء إلَاّ مررت عليه. قال له رجل: وكيف ذلك؟ قال: إذا أردتُ ذلك خرجت إِلَى المقابر فجلست إِلَى بعض تلك القبور، ثم فكَّرتُ فيما صاروا إِلَيْهِ من البلى، وذكرت ما نحن فيه من المُهلة. قال: فعند ذلك تختفي أطوَاري!
وقلتُ والله الموفَّق:
أفي دار الخراب تظل تبني
…
وتعمر ما لعمران خُلقتا
وما تركت لك الأيامُ عذرًا
…
لقد وعظتك لكن ما اتعظتا
تُنادي للرحيل بكل حين
…
وتُعلن إنَّمَا المقصودُ أنتا
وتُسمعك النداءَ وأنت لاهٍ
…
عن الداعي كأنَّك ما سمعتا
وتعلم أنَّه سفرٌ بعيد
…
وعن إعداد زادٍ قد غفلتا
(1) بياض بقدر كلمة.
(2)
في الأصل: "نكل".
تنام وطالب الأيام ساعٍ
…
وراءك لا ينام فكيف نمتا
معائب هذه الدُّنْيَا كثير
…
وأنت عَلَى محبَّتها طُبعتا
يضيع العمرُ في لعبِ ولهو
…
ولو أُعطيت عقلاً ما لعبتا
فما بعد الممات سوى جحيمٍ
…
لعاص أو نعيم إِنْ أطعتا
ولست بآمل باطلٍ ردًّا لدنيا
…
فتعملُ صالحًا فِيما تركتا
وأوَّلُ من ألوم اليوم نفسي
…
فقد فعلتْ نظائرَ ما فعلتا
أيا نفسي أخوضًا في المعاصي
…
وبعد الأربعين وفيت ستّا
وأرجو أن يطول العمرُ حتى
…
أرى زاد الرحيل وقد تأتَّى
أيا غُصن الشباب تميل زهوًا
…
كأنك قد مضى زمن وشبتا
علمتَ فدع سبيلَ الجهل واحذر
…
وصيحة قد علمتَ وما عملتا
ويا من يجمع الأموال قل لي
…
أيمنعك الزدى ما قد جمعتا
ويا من يبتغي أمرًا مطاعًا
…
ليسمع [نافذًا](1) مَن قد أمرتا
عججت إِلَى الولاية لا تُبالي
…
أجرت عَلَى البرية أم عدلتا
ألا تدري بأنك يوم صارت
…
إليك بغير سكين ذُبحتا
وليس يقوم فرحةُ قد تولَّى
…
بترحة يوم تسمع قد عُزلتا
ولا تمهل فإن الوقت سيف
…
فإنْ لم تغتنمه فقد أضعتا
ترى الأيام تُبلي كل غُصن
…
وتطوي مِن سرورك ما نشرتا
وتعلم إنَّما الدُّنْيَا منام
…
فأحلى ما تكون به انتبهتا
فكيف تصدّ عن تحصيل باق
…
وبالفاني وزخرفه شُغلتا
هي الدُّنْيَا إذا سرتك يومًا
…
تسوءك ضعف ما فيها سررتا
تغرّك كالسراب فأنت تسري
…
إليه وليس تشعر (2) قد غررتا
واشهد كم أبادت من حبيب
…
كأنك آمن مما شهدتا
وتدفنهم وترجع ذا سُرور
…
بما قد نلت من إرث وحرثا
(1) في الأصل: "نافذ".
(2)
زاد في الأصل: "أن".
وتنساهم وأنت غدًا ستفنى
…
كأنك ما خلقت ولا وجدتا
تُحدِّث عنهم وتقول كانوا
…
نعم كانوا كما والله كنتا
حديثك هم وأنت غدًا حديث
…
لغيرهم فأحسن ما استطعتا
يعود المرء بعد الموت ذكرًا
…
فكن حسن الحديث إذا ذكرتا
سل الأيام عن عم وخال
…
ومالك والسؤال وقد علمتا
ألست ترى ديارهم خلاء
…
فقد أنكرت منها ما عرفتا
ومنها: النظرُ في ديار الهالكين، والاعتبار بمنازل الغابرين.
روى ابنُ أبي الدُّنْيَا في كتاب "التفكر والاعتبار"، بإسناده عن عُمر بن سليم الباهلي، عن أبي الوليد، أنَّه قال: كان ابن عمر إذا أراد أنْ يتعاهد قلبَه يأتي الخربة فيقف عَلَى بابها، فيُنادي بصوت حزين، فيقول: أَين أهلك؟ ثم يرجع إِلَى نفسه، فيقول: كل شيء هالكٌ إلَاّ وجهه".
وروى في كتاب "القبور" بإسناده، عن محمَّد بن قُدامة قال: كان الرَّبيعُ ابن خُثيم إذا وجد من قلبه قسوةً يأتي منزل صديق له قد مات في الليل فيُنادي: يا فُلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان. ثم يقول: ليت شِعري، ما فعلتَ وما فُعل بك؟ ثم يبكي حتى تسيل دموعه، فيعرف ذاك فيه إِلَى مثلها.
ومنها: أكلُ الحلال؛ روى أبو نُعيم وغيرهُ، من طريق عُمر بن صالح الطرسوسي، قال: ذهبتُ أنا ويحيى الجلاء -وكان يقال إنّه من الأبدال- إِلَى أبي عبد الله أحمد بن حنبل فسألتُه، وكان إِلَى جنبه بوران وزُهير الجمال، فقلت: رحمك الله يا أبا عبد الله، بم تلين القلوبُ؟ فنظر إِلَى أصحابه فغمزهم بعينه، ثم أطرق ثم رفع رأسه، فَقَالَ: يا بني بأكل الحلال. فمررتُ كما أنا إِلَى أبي نصر بشر بن الحارث، فقلتُ له يا أبا نصر، بم تلين القلوب؛ فَقَالَ: ألا
بذكر الله تطمئن القلوب. قلت: فإني جئتُ من عند أبي عبد الله قال: هيه.
أي شي قال لك أبو عبد الله؟ قلت: قال: بأكل الحلال. فَقَالَ: جاء بالأصل، جاء بالأصل. فمررتُ إِلَى عبد الوهاب الوراق، فقلتُ: يا أبا الحسن بم تلين القلوب؟ فَقَالَ: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت: [فإني جئتُ من عند](1) أبي عبد الله. فاحمرت وجنتاه من الفرح. فَقَالَ لي: أي شيءٍ قال أبو عبد الله؟ قلتُ: بأكل الحلال. فَقَالَ: جاءك بالجوهر، جاءك بالجوهر، الأصل كمال الأصل.
قال بعضهم عنه: لقد حكيت ولكن فاتك الأنسب.
والحمد لله وحده.
…
(1) في الأصل: "فبأي شيء جئت من".