المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل الفطر في السفر رخصة أم عزيمة: - رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار - جـ ٥٢

[أحمد علي طه ريان]

الفصل: ‌هل الفطر في السفر رخصة أم عزيمة:

رخصة الفطر في سفر رمضان وَما يترتب عليها من الآثار 2

الدكتور أحمد طه ريان أستاذ مساعد بجامعة الأزهر

‌هل الفطر في السفر رخصة أم عزيمة:

بعد أن عرفنا مقدار المسافة التي يشرع فيها الفطر للمسافر إذا عزم على قطعها أو تجاوزها، ننتقل الآن إلى بيان مدى هذه المشروعية. وبمعنى أوضح، هل هذه المشروعية تقف عند حدها الأدنى، وهو الإباحة، فيكون المسافر له حرية الفطر مع القضاء في أيام أخر، أو الصيام مع الإجزاء بدون أدنى حرج عليه في فعل أي منهما؟ أو أن هذه المشروعية ترتفع عن هذا الحد إلى مستوى أعلى قليلا عن الإباحة، فتصل إلى حد الندب أو الأفضلية للفطر على الصيام، فيكون من صام في سفره قد ارتكب أمرا مكروها، والمكروه وإن كان لا يعاقب على تركه، لكنه لا يثاب على فعله، كما عرفه بذلك كثير من الفقهاء، أو أن هذه المشروعية للفطر ترتفع إلى درجتها العليا، فتصل إلى درجة الوجوب، فيكون الصائم قد ارتكب أمرا قد حرمه الشارع وبالتالي، يثبت لصومه حكم البطلان، ويجب عليه قضاء هذه الأيام التي صامها في السفر لعدم احتساب الشارع لها.

ص: 66

لبيان ما هو الحق في ذلك نقول:

نقل عن عدد كبير من الصحابة والتابعين والفقهاء عدم مشروعية الصيام في السفر، إلا أن بعضهم قد نقل ذلك عنه بلفظ الكراهة وبعضهم قد نقل عنه بلفظ عدم الإجزاء أو بوجوب القضاء.

ص: 66

فروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما "لأن أفطر في رمضان في السفر أحب إلي من أن أصوم"1.

وقال ابن المنذر: كان ابن عمر وسعيد بن جبير يكرهان صوم المسافر وقال: روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "إن صام قضاه" وقال: وروي عن ابن عباس قوله: " لا يجزئه الصيام"2.

كما نقل عن عبد الرحمن بن عوف قوله: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"3.

وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، قال أخبرني عاصم بن عبيد الله بن عاصم عن ابن عبد الله بن عامر بن ربيعة "أن عمر بن الخطاب أمر رجلا صام رمضان في السفر أن يقضيه، قال: وأخبرنيه عمرو بن دينار عن كلثوم بن جبر عن عمر"4.

وروي عن أبي سعيد مولى المهري، قال:" أقبلت مع صاحب لي من العمرة فوافينا الهلال هلال رمضان فنزلنا في أرض أبي هريرة في يوم شديد الحر فأصبحنا مفطرين إلا رجلا منا واحدا، فدخل علينا أبو هريرة نصف النهار فوجد صاحبنا يلتمس برد النخل. فقال: ما بال صاحبكم؟ قالوا صائم، قال: ما حمله على ألا يفطر؟ قد رخص الله له، لو مات ما صليت عليه". قال الحافظ ابن حجر- عن هذا الأثر- "موقوف صحيح". ونقل محقق المطالب العالية، عن البوصيري قوله عنه:"رجاله ثقات"5.

وقد نقل هذا القول أيضا- بالإضافة إلى سعيد بن جبير- عن عدد من التابعين، كالزهري والنخعي وغيرهما 6.

وقد ذهب إلى ذلك من الفقهاء بعض أصحاب داود الظهري والشيعة الإمامية كما أشرنا من قبل إلى ما قاله ابن حزم بشأن وجوب الفطر على الصائم المسافر إذا بلغ ميلا أو تجاوزه 7.

ويتلخص رأي هذا الفريق، بأن الفطر في السفر عزيمة فمن خالفها وصام فقد اقترف إثما ولا يعتد بما صامه شرعا ويجب عليه قضاء هذه الأيام بعد انتهاء رمضان وانقضاء سفره.

1 السنن الكبرى ج4 ص245.

2 المجموع ج6 ص218.

3 النسائي: إحياء التراث ج4 ص183.

4 المصنف ج4 ص 270.

5 المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية _ وهذا الأثر من مسند مسدد _ج1 ص81.

6 تحفة الأحوذي ج6 ص364، المجموع ج6 ص217، نيل الأوطار ج4 ص51.

7 المحلى ج6 ص364، المجموع ج6 ص217، نيل الأوطار ج4 ص51.

ص: 67

وأهم الأدلة التي استند إليها هذا الفريق ما يلي:

1-

قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: آية 185) .

وجه الدلالة: من المعلوم أن هذه الآية محكمة بإجماع المسلمين لم يرد عليها نسخ ولا تخصيص وقد أَوجبت الصيام على من شهد الشهر صحيحا مقيما، وعلى من شهد الشهر وكان مريضا أو مسافرا، عدة من أيام أخر. ووجوب قضاء أيام السفر بعد رمضان يستلزم وجوب الفطر في رمضان أثناء السفر، وحتى لو عاند وخالف وصام، فإنه لا يعتد بذلك الصيام، بل يجب عليه قضاء هذه الأيام التي صامها 1.

ويناقش هذا الاستدلال بأن الآية قد تضمنت دلالة اقتضاء، وهو تقدير بعض الألفاظ التي لا يتضح المعنى بدونها. والمقدر هنا: عبارة (فَأفطر) فيكون المعنى الإجمالي: ومن كان مريضا أو على سفر- فأفطر- فعدة من أيام أخر- وقد أوضحت السنة هذا المعنى بجلاء تام في أكثر من حديث، فقد جاء في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله: أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" 2 ورفع الجناح يقتضي صحة الصوم وإجزاءه ورفع الإثم عن الصائم.

قد يقال: إن نفي الجناح قد يكون المراد منه نفي الحرمة عن الصائم في السفر لكنه لا يقتضي الاعتداد بما صامه شرعا، أو يكون المراد: لا جناح عليه لو صام في سفره تطوعا أو قضاء لصوم سابق كان عليه.

ويجاب عن ذلك بأن نفي الجناح يقتضي الإباحة والشيء المباح إذا فعل بنية العبادة، فإنه يثاب عليه، حتى الأكل والشرب إذا فعلهما الشخص بنية التقوي على العبادة، فإنه يثاب عليهما.

أما تأويل الحديث على أنه لا جناح عليه في صيام هذه الأيام تطوعا أو قضاء، فهو بعيد، لأن التعبير عن الفطر بكونه رخصة يقتضي جواز العمل بها، أو تركها والعمل بالعزيمة هذا هو المعروف من معنى الرخصة، وإن كان العمل بها أفضل، لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.

3-

الدليل الثاني من أدلة هذا الفريق على وجوب الفطر في السفر وعدم الاعتداد

1 أشار إلى هذه الدلالة من الآية صاحب المحلى ج6ص381.

2 صحيح مسلم ج3 ص145.

ص: 68

بالصيام فيه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم1 فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة"2.

وجه الدلالة: وصف الصائمين في السفر بالعصاة، يقتضي أنهم آثمون، ويقتضي كونهم آثمين أن صومهم غير مجزئ وبالتالي: يجب عليهم القضاء.

ويناقش هذا الاستدلال، بأن وصف الصائمين بالعصيان لا يلزم منه أن يكون الوصف منصبا على الصوم، بل قد يكون منصبا على مخالفتهم أمره صلى الله عليه وسلم بالفطر، وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر الآية 7) . وقال تعالى أيضا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور الآية 63) .

قد يقال: إن تركهم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره لهم بالفطر، يقتضي أَنهم عاصون بالصيام أيضا إلى جانب عصيانهم بمخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر.

فيجاب عن ذلك بأن تشديد الرسول عليه الصلاة والسلام في أمر الفطر ووصف التاركين بالعصيان إنما كان لسبب خاص وهو ملاقاة الأعداء، ومعلوم أن القتال يحتاج إلى قوة. وأن الفطر مما يساعد على إيجاد هذه القوة، ومن هنا يدخل الفطر في وسائل القوة التي أمر الله بإعدادها، بقوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال الآية 60) .

ويقوي هذا المعنى ما جاء في حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، وكانت عزمة فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر"3.

1 كراع الغميم: على ثلاثة أميال من عسفان، القاموس المحيط ج3 ص78.

2 صحيح مسلم ج3 ص142.

3 صحيح مسلم ج3 ص144.

ص: 69

فأمره صلى الله عليه وسلم بالفطر عند قربهم من لقاء عدوهم إنما كان يقصد بذلك تقويتهم في مواجهة عدوهم والأخذ بأسباب هذه التقوية واجب فيكون تركها معصية.

ويتضح من حديث أبي سعيد أيضا، أنهم في حالة بعدهم من عدوهم، أن الفطر ليس بلازم، فمن شاء صام ومن شاء أفطر. وقد فهم الصحابة ذلك، ففي حديث أبي سعيد هذا "فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر".

ومن باب أولى إذا كان السفر لغير الجهاد، فيكون الفطر فيه لمشيئة المسلم إن شاء صام وإن شاء أفطر. وقد ثبت ذلك من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضا، فقد جاء فيه:" لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر".

قد يقال: إن هذه الصيغة- نصوم مع رسوله الله صلى الله عليه وسلم يفهم منها أنهم كانوا يصومون وهم في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يشاركهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الصيام، وفعل الصحابة في حياته صلى الله عليه وسلم ليس حجة.

فيجاب عن ذلك، بأنه يكفي في حجية هذا الفعل، اطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه دون أن ينكره، فيكون سنة تقريرية وهي حجة قد يقال: يحتمل أنه لم يطلع عليهم حتى يكون ذلك سنة تقريرية.

فيجاب عن ذلك: بأنه وإن كان فيه بعد، لكن يكفي في الحجية حدوث هذا الفعل زمن نزول الوحي، لأنه لو كان فيه مخالفة لنزل الوحي ببيانها.

3-

الدليل الثالث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه، فقال: ماله، قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر"1.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى البر- بكسر الباء- يعني الطاعة والعبادة عن الصيام في السفر، أَي ليس من الطاعة والعبادة، أن تصوموا في السفر، وإذا انتفى كان الصيام في السفر من البر، فإن من خالف وصام، فإنه يكون آثما وبالتالي لا يجزئ عنه هذا الصيام.

وقد أجيب عن ذلك، بأن هذا الحديث، قصد بلفظه شخص معين- وهو المذكور في

1 البخاري ج11 ص48 مع شرحه عمدة القارئ، صحيح مسلم ج3 ص142.

ص: 70

الحديث- وما يكون مماثلا له. والمعنى: ليس من البر أن يبلغ الإنسان بنفسه هذا المبلغ بعد أن رخص الله عز وجل له في الفطر1.

ولكن تناقش هذه الإجابة، بما قيل في علم الأصول، بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وترد هذه المناقشة بأن الحديث واقعة عين، ووقائع الأعيان لا يستدل بها على عموم الأحكام، والدليل على عدم قصد العموم في هذا الحديث، ما ثبت من صوم الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان في حديث أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة"2.

وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على القاعدة الشرعية، في رفع مالا يطاق عن هذه الأمة، فيكون مؤداه: أن المريض المقيم، والمسافر المرهق، ومن أجهده الصوم، عليهم أن يفطروا، فإن لم يأخذوا بالرخصة واستمروا على صومهم، حتى خشي عليهم التلف، فإنهم يكونون عصاة بصومهم واستحق من يفعل مثل هذا الفعل، أن يوصف صومه، بأنه ليس من البر، والله أعلم3.

وقد أجاب ابن حزم على ذلك، بأن هذه الحال- المشار إليها في القاعدة السابقة-محرم البلوغ إليها باختيار المرء للصوم في الحضر والسفر، وقد خصص النبي صلى الله عليه وسلم المنع من الصيام في السفر مطلقا بهذا الحديث، فيجب أخذ كلامه عليه الصلاة والسلام على عمومه 4.

ويجاب عن ادعاء العموم من الحديث، بأن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه بعد ذلك، قد بين أن هذا العموم غير مراد، فقد ثبت عنهم الصوم والفطر بعد هذه الواقعة وقد وضحت ذلك في تعليقي على حديث أبي سعيد الخدري الذي جاء فيه: " لقد

1 عمدة الأحكام ج11 ص49.

2 صحيح مسلم ج3 ص 145.

3 انظر الإشارة إلى هذه القاعدة في عمدة القارئ ج11 ص49 كما أشار إليها ابن القيم في تعليقه على عون المعبود ج6 ص49.

4 المحلى ج6 ص383.

ص: 71

رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر" 1 والشريعة كل لا يتجزأ.

وقد رد ابن القيم على أصحاب هذا الاتجاه وهو الاستدلال بعموم النص مع قطع النظر عن فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه المخصص له، فقال:"وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم يحتجون بعموم نص على حكم ويغفلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أَصحابه الذي يبين مراده"2.

4-

الدليل الرابع: من أدلة هذا الفريق الموجب للفطر في السفر: ما رواه أبو سلمة قال: أخبرني عمرو بن أمية الضمري، قال:"قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية، فقلت: إني صائم، فقال: تعال ادن مني حتى أخبرك عن المسافر أن الله عز وجل وضع عنه الصيام ونصف الصلاة"3.

ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:

الوجه الأول:

أنه قد اختلف في سند هذا الحديث اختلافا كثيرا، فقد اختلف فيه على الأوزاعي، حيث رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي سلمة عن أبي أمية الضمري ثم رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي قلابة عن أبي المهاجر عن أبي أمية الضمري ثم رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي قلابة عن أبي أمية الضمري4.

كما اختلف فيه أيضا على معاوية بن سلام وعلي بن المبارك: فقد رواه عثمان عن معاوية عن يحي بن أبي كثير عن أبي قلابة: أن أبا أمية الضمري.. كما رواه عثمان عن علي بن يحي عن أبي قلابة عن رجل أن أبا أمية أخبره 5.

ولهذا الحديث شاهد من حديث أنس بن مالك الكعبي،إلا أنه أَيضا مختلف في إسناده، فقد رواه سفيان الثوري عن أيوب عن قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة، والصوم وعن الحبلى والمرضع"6.

1 صحيح مسلم ج3 ص144.

2 عون لمعبود ج6 ص 49.

3 النسائي ج4 ص179 من المجتبى.

4 النسائي ج4 ص 179 من المجتبى.

5 النسائي ج4 ص 180 من المجتبى.

6 النسائي ج4 ص 181 من المجتبى.

ص: 72

وعن ابن حبان عن عبد الله عن ابن عيينة عن أيوب شيخ من قشير عن عمه.

وعن عبد الله عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا..1.

وقد روى أبو داود هذا الحديث عن طريق شيبان بن فروخ عن أبي هلال الراسبي عن أبي سواد القشيري عن أنس بن مالك- رجل من بني عبد الله بن كعب أخوة بني قشير- وقد رواه بلفظ "أغارت علينا خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهيت- أو قال- فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل فقال: اجلس فأصب من طعامنا هذا، فقلت: إني صائم، قال:- فقال- اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام: إن الله وضع شطر الصلاة- أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع أو الحبلى- والله لقد قالهما جميعا أو أحدهما- قال: فتلهفت نفسي ألا أكون أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم" 2 وقد سكت عنه أبو داود.

وقد رواه الترمذي بنفس اللفظ الذي أورده به أبو داود ثم قال: "حديث حسن"3.

الوجه الثاني:

إن لفظ (وضع) في الحديث يفسر بمعنيين، أولهما: وضع: بمعنى أسقط بلا مقابل وهذا خاص بالنسبة لشطر الصلاة في السفر. وهذا القول مستفاد من الكتاب والسنة، فقد ورد فيهما قصر الصلاة في السفر بلا مقابل.

المعنى الثاني: أن وضع: أي أسقط الوجوب في الحال مع القضاء في المستقبل وهو بالنسبة للصوم للمسافر والمرضع والحامل وإنما قلنا بذلك أيضا للإجماع على أن المسافر والمرضع والحامل إن أفطر كل منهم في رمضان وجب عليه القضاء بعد زوال عذره.

فإسقاط الصوم هنا عن المسافر ليس بإطلاق، بل هو إسقاط للوجوب الفوري مع وجوب القضاء بعد ذلك، إنْ أفطر عملا بالرخصة، أي أن إسقاط الوجوب الفوري هنا رخصة فمن شاء أخذ بها وأفطر، ومن شاء عمل بالعزيمة وترك العمل بالرخصة، وهذا هو مدلول الرخصة، فللمكلف الأخذ بها وهو أفضل، أو العمل بالعزيمة ولا جناح عليه. وقد فسرها صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه حيث قال: يا رسول الله: أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح فقال رسول الله صلى الله

1 النسائي ج4 ص 45 من المجتبى.

2 سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود ج6 ص45 إلى47.

3 سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ج3 ص402.

ص: 73

صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"1.

الدليل الخامس: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر.. قال: "وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره"2.

وفي رواية أخرى عن طريق الزهري أيضا- جاء فيها " قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر"3.

وفي رواية ثالثة: قال ابن شهاب: "فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم"4.

واضح من الحديث أن الفطر في السفر كان آخر الأمرين وأنه قد نسخ حكم جواز الصيام فيه، الذي كان موجودا قبل ذلك.

ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:

أولا: أن عبارة: (فكان الفطر آخر الأمرين) ، من قول ابن شهاب الزهري، وقد أشار إلى ذلك الإمام مسلم من خلال عرضه لسند الحديث، كما أوضحناه في ذكرنا لروايات الحديث الثلاث.

ثانيا: ينبغي أن يفهم أن مراد الزهري من الأمرين: هما عزيمة الصيام في السفر والرخصة في الفطر فيه، وعلى هذا يكون الدليل متمشيا مع رأي الجمهور.

أما أن يحمل الأمران على عزيمة الصيام في السفر، وعزيمة الفطر فيه دائما فلا، لأنه يتناقض مع فهم راوي الحديث نفسه، وهو ابن عباس رضي الله عنهما فقد ورد عنه في الصحيحين "سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة. قال ابن عباس- عقب ذلك مباشرة- فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر"5.

1 صحيح مسلم ج 3 ص 145.

2 صحيح مسلم ج 3 ص 141.

3 صحيح مسلم ج 3 ص 141.

4 صحيح مسلم ج3 ص 141.

5 صحيح مسلم ج 3 ص 141 وصحيح البخاري ج11 ص 42 المطبوع مع شرح عمدة القارئ.

ص: 74

فقول ابن عباس: "فمن شاء صام ومن شاء أفطر" أدل على فهم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدق من فهم ابن شهاب رضي الله عنه، وأولى بالاعتبار منه. وأما الآثار التي نقلت عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن وجوب الفطر في السفر، ففي بعضها ضعف من جهة سندها أو هي معارضة بما هو أقوى منها، وبعضها الآخر، إما أن يكون قد ذكر على سبيل التغليظ والتشديد وإما ن يكون على سبيل الاجتهاد الشخصي من صاحبه في فهم النصوص، ونبين ذلك بشيء من الإيضاح فنقول:

(أ) - ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، من قوله: لا يجزئه الصيام وما ورد بمعناه عنه، فإنه يتعارض مع ما هو أقوى منه، وهو رواية ابن عباس لحديث صيامه صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح حتى بلغ الكديد ثم أفطر- وقد قال ابن عباس معقباً على الحديث: لقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر.. وقد تقدم ذلك قريبا، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما فهو أقوى.

(ب) - وأما ما نقل عن عبد الرحمن بن عوف من قوله: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر". فقد قال البيهقي: "هو موقوف، في إسناده انقطاع، وقد روى مرفوعا وإسناده ضعيف" 1وقد نقل النووي قول البيهقي هذا في المجموع واحتج به على من تمسك بهذا الأثر. لكن صاحب الجوهر النقي قد تعقب قول البيهقي السابق: فذكر أن هذا الأثر، قد رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، وقد قال ابن معين والنسائي: لم يسمع من أبيه، فهذا معنى قول البيهقي: وفي إسناده انقطاع: إلا أن ابن حزم صرح بسماعه من أبيه، وتابع حميد بن عبد الرحمن أَخاه أبا سلمة فرواه عن أبيه كذلك. كذا أخرجه النسائي في سننه بسند صحيح، وذكر ابن حزم أن سنده في غاية الصحة وعلى فرض صحة نسبة هذا القول إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فإنه يحمل، إما على التشديد في قبوله الرخصة ردا على من تركها رغبة عنها، أو على أن ذلك اجتهاد منه في فهم النص القرآني. وعليه، فلا يكون حجة لأنه يتعارض مع تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للرخصة والذي أشرنا إليه قريبا..

(ج) - أما ما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من أن رجلا صام رمضان في السفر فأمره عمر أن يقضيه"، ففي سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم، قال عنه ابن حجر في التقريب:"ضعيف".

1 السنن الكبرى ج4 ص 244.

ص: 75

(د) أما ما نقل عن أبي هريرة، عن قوله: في حق الرجل الذي صام في السفر، "لو مات ما صليت عليه"، فإنه قد تبين من خلال القصة، ضعف الرجل عن الصيام في السفر، ومن كان هذا حاله فإنه ينبغي أن يشدد عليه في الأخذ بالرخصة، فحاله هذه قريبة الشبه بحالة الرجل الذي قال صلى الله عليه وسلم في حقه:"ليس من البر الصيام في السفر"، أي أن من ضعف عن الصيام في السفر، فلا ينبغي أن يشدد على نفسه حتى يفضي إلى هلاكها، فإن هذا الفعل ليس من البر في شيء.

أحوال القلب

قال أبو بكر الوراق:

للقلب ستة أشياء:

حياة، وموت، وصحة، وسقم، ويقظة، ونوم. فحياته الهدى.. وموته الضلالة.. وصحته الصفاء، وعلته العلاقة، ويقظته الذكر، ونومه الغفلة.

وقال أبو حاتم: موت القلب من أربعة أشياء: فضول الكلام ومجالسة الجهال وأكل الشبهة وكثرة الضحك.

ص: 76