الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقليد الأئمة الأربعة
ما قيل في تقليد الأئمة الأربعة
(وأما قول السائل) -وفقه الله لفهم المسائل-: حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.
فنقول: هذا الإجماع حكاه غير واحد من المتأخرين، وكلهم نسبوه إلى الوزير أبي المظفر يحيى بن هبيرة صاحب "الإفصاح عن معاني الصحاح"؛ فإنه ذكر نحوا من هذه العبارة، وليس مراده أن الإجماع منعقد على وجوب تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة، وأن الاجتهاد بعد استقرار هذه المذاهب لا يجوز، فإن كلامه يأبى ذلك؛ وإنما أراد الرد على من اشترط في القاضي أن يكون مجتهدا، وأن المقلد لا ينفذ قضاؤه، كما هو مذهب كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين.
وحمل كلام من اشترط في القاضي أن يكون مجتهدا على ما كانت عليه الحال قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة، وأما بعد استقرار هذه المذاهب فيجوز تولية المقلد لأهلها، وينفذ قضاؤه.
وليس في كلامه ما يدل على أنه يجب التقليد لهؤلاء الأئمة؛ بحيث أنْ يُلزم الرجل أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة، ولا يخرج عن مذهب من قلده كما قد يتوهم؛ بل كلامه يخالف ذلك ولا يوافقه.
وعبارته في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة". فإنه قال:"يجوز ذلك".
ثم قال: والصحيح في هذه المسألة أن قول من قال: لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد، فإنه -إنما عنى به- ما كانت الحال عليه قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة التي أجمعت الأمة أن كل واحد منها يجوز العمل به لأنه مستند إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالقاضي الآن، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، ولا يسعى في طلب الأحاديث وابتغاء طرقها، ولا عرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد، فإن ذلك مما قد فرغ منه، ودأب له فيما سواه، وانتهى له الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين إلى ما أراحوا به من بعدهم، وانحصر الحق في أقاويلهم، ودونت العلوم، وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق.
فإذا عمل القاضي في أقضية بما يأخذ عنهم -أو عن الواحد منهم، فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قول قاله. وعلى ذلك، فإنه إذا خرج من خلافهم -متوخيا مواطن الاتفاق ما أمكنه- كان آخذا بالحزم، عاملا بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد؛ فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، مع جواز علمه أن يعمل بقول الواحد.
إلا أنني أكره له أن يكون ذلك، من حيث إنه قد قرأ مذهب واحد منهم، أو نشأ في بلدة لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء، فقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب.
حتى إنه إذا حضر عنده خصمان، وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم نحو الوكيل بغير رضاء الخصم، وكان الحاكم حنفيا، وقد علم أن مالكا والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل، وأن أبا حنيفة يمنعه، فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة، من غير أن يثبت عنده بالدليل ما قاله، ولا أداه اجتهاده إلى أن أبا حنيفة أولى بالاتباع مما اتفق الجماعة عليه، فإني أخاف على هذا من الله عز وجل بأنه اتبع في ذلك هواه، وأنه ليس من الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه.
وكذلك إن كان القاضي مالكيا، فاختصم إليه اثنان في سؤر الكلب، فقضى بطهارته مع علمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته.
وكذلك إن كان القاضي شافعيا، فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمدا، فقال أحدهما: هذا منعني من بيع شاة مذكاة. فقال الآخر: إنما منعته من بيع الميتة. فقضى عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه.
وكذلك إن كان القاضي حنبليا، فاختصم إليه اثنان، فقال أحدهما: لي عليه مال. فقال الآخر: كان له علي مال فقضيته. فقضى عليه بالبراءة من إقراره، مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه، فإن هذا وأمثاله -مما توخى اتباع الأكثرين فيه- أقرب عندي إلى الإخلاص، وأرجح في العمل.
"وبمقتضى هذا فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا صحيحة، وإنهم قد سدُّوا ثغرًا من ثغور الإسلام سَدُّهُ فرْضُ كفاية، ولو أهملت هذا القول ولم أذكره، ومشيت على الطريق التي يمشي عليها الفقهاء، الذين يذكر كل منهم في كتابٍ إنْ صَنَّفه، أو كلامٍ إنْ قالَهُ، أنَّه لا يصح أن يكون قاضيا، إلا من كان من أهل الاجتهاد.
ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة والتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به، ولا يقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية، وهذا غير صحيح، بل الصحيح في المسألة أن ولاة الحكام جائزة، وأن حكوماتهم اليوم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعا. انتهى كلام ابن هبيرة رحمه الله1.
1 في هذا الكلام نظر من وجوه، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن من أصول الشريعة اليسر ورفع الحرج، ومن هدي النبي "ص" أنه ما ُخيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا أفضل مرجح بين ما اختلف فيه الأربعة أو غيرهم، "ومنها" الترجيح بقوة الدليل، "ومنها" أن كتب هذه المذاهب وغيرها لا تغني عن الاجتهاد؛ لأن الناس يحدث لهم أقضية بما أحدثوا من أمور الكسب والعمران والنظم المالية، ومن الفجور أيضا كما قال الإمام عمر بن عبد العزيز "رض"، ويناسب هذا ما قاله الفقهاء في تعليق بعض الأعمال بالعرف الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، وكتبه محمد رشيد رضا.
فقد تضمن هذا الكلام أن تولية المقلد جائزة إذا تعذرت تولية المجتهد، لأنه ذكر أن شروط الاجتهاد ليست موجودة في الحكام، وأن هذا كالإحالة، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم، فينفذ قضاء المقلد للحاجة لئلا تتعطل الأحكام.
وهكذا قال غير واحد من المتأخرين، الذين يذكرون أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدا يذكر هذا، ثم يذكر القول الثاني أنه يجوز تولية المقلد للضرورة، كما ذكره متأخرو الحنابلة والمالكية والشافعية.
وتضمن أيضا كلام ابن هبيرة أن إجماع الأئمة الأربعة حجة، وأن الحق لا يخرج عن أقوالهم، فلا يخرج القاضي عما أجمعوا عليه، فإن اختلفوا فالأولى أن يتبع ما عليه الأكثر، وصرح بأنه يكره له أن يقضي بما انفرد به الواحد منهم عما عليه الثلاثة، لكونه مذهب شيخه أو أهل بلده، وذكر أنه يخاف على هذا أن يكون متبعا لهواه.
وتضمن كلامه أيضا- أن الإجماع انعقد على تقليد كل واحد من المذاهب الأربعة دون من عداهم من الأئمة؛ لأن مذاهبهم مدونة قد حررت، ونقحها أتباعهم، بخلاف أقوال غيرهم من الأئمة، فلأجل هذا جاز تقليدهم، فليس في كلامه إلا حكاية الإجماع على جواز تقليدهم لا على وجوبه.
بل صرح بأن القاضي لا ينبغي له الاقتصار على مذهب واحد منهم لا يفتي إلا به، بل ذكر أن الأولى للقاضي أن يتوخى مواطن الاتفاق
إن وجده، وإلا توخى ما عليه الأكثر، فيعمل بما قاله الجمهور، لا بما قاله الواحد منهم مخالفا الأكثر.
فقضية كلامه أن المقلد لا يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة، بل يجتهد في أقوالهم، ويتوخى ما عليه أكثرهم، إلا أن يكون للواحد منهم دليل، فيأخذ بقول من كان الدليل معه، فيكون من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1.
وهذا من جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم، من أن المقلد إذا كان نبيها، وله ملكة قوية، ونظر فيما تنازع فيه الأئمة الأربعة، وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم، تبين له الراجح من المرجوح، وحينئذ فيعمل بما ترجح عنده أنه الصواب، ولا يخرج بذلك عن التقليد.
فإذا كان الرجل شافعيا أو حنبليا، ونظر في كتب الخلاف، ووجد دليلا صحيحا قد استدل به مالك فعمل بالدليل، كان هذا هو المناسب في حقه، فيجعل إماما بإزاء إمام، ويسلم له الدليل بلا معارض.
وليس هذا من الاجتهاد المطلق، بل هو من الاجتهاد المقيد، فهو يتبع الدليل، ويقلد الإمام الذي قد أخذ به.
وأما الأخذ بالدليل من غير نظر كلام العلماء فهو وظيفة المجتهد المطلق، وأما المقلد الذي لم يجتمع فيه الشروط، ففرضه التقليد وسؤال أهل العلم.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير ما أحب منها، فيفتي به ويعمل به؟
قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم. انتهى كلامه.
1 سورة الزمر آية: 18.
طالب العلم يمكنه معرفة الراجح من الكتب الكبار
وأما إذا وجد الحديث قد عمل به بعض الأئمة المجتهدين، ولا يعلم عند غيره حجة يدفع بها الحديث فعمل به، كان قد عمل بالحديث، وقلد هذا الإمام المجتهد في تصحيحه وعدم ما يعارضه، فيكون متبعا للدليل غيرَ خارجٍ عن التقليد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: طالب العلم يمكنه معرفة الراجح من الكتب الكبار، التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويذكر فيها الراجح، مثل كتاب "التعليق" للقاضي أبي يعلى، و"الانتصار" لأبي الخطاب، و"عمل الأدلة" لابن عقيل، و"تعليق" القاضي يعقوب البرزيني وأبي الحسن الزاغوني.
ومما يعرف منه ذلك كتاب "المغني" للشيخ أبي محمد، وكتاب "شرح الهداية" لجدنا أبي البركات، ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، ومن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع.
وأحمد رحمه الله أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان رحمهم الله؛ ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره، ولا يوجد قول ضعيف في الغالب- إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي، وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحا. انتهى كلامه رحمه الله.
وهو موافق لما ذكره صاحب "الإفصاح" من أن القاضي عليه أن يتوخى إصابة الحق، فيتوخى مواطن الاتفاق، فيعمل بما اتفقوا عليه، فإن لم يكن الحكم متفقا نظر فيما عليه الجمهور إذا لم يكن مع مخالفهم دليل، فليس الناظر في كتب الخلاف ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد. وليس في كلام صاحب "الإفصاح" ما يقتضي التمذهب بمذهب لا يخرج عنه، بل كلامه
صريح في ضد ذلك.
وهذه شبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدعي العلم، وصار بها أكثرهم، فظنوا أن النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل، وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل فقد خرج عن التقليد، ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق.
واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير، حتى آل الأمر بهم إلى أن {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1. وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن من انتسب إلى مذهب إمام فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نص كتاب أو سنة؛ فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته، لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته.
التعصب للمذهب
فلو رأوا أحدا من المقلدين قد خالف مذهبه، وقلد إماما آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدل به، قالوا: هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد، ونزل نفسه منزلة الأئمة المجتهدين، وإن كان لم يخرج عن التقليد، وإنما قلد إماما دون إمام آخر لأجل الدليل، وعمل بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2.
فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلا ردوه إلى نص إمامهم، فإن وافق الدليل نص الإمام قبلوه، وإن خالفه ردوه واتبعوا نص الإمام.
واحتالوا في رد الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها، فإذا قيل: هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟
مثال ذلك: إذا حكمنا بطهارة بول ما يؤكل لحمه، وحكم الشافعي بنجاسته، وقلنا له: قد دل على طهارته حديث العرنيين، وهو حديث صحيح، وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم، فقال هذا المنجس لأبوال مأكول
1 سورة المؤمنون آية: 53.
2 سورة النساء آية: 59.
اللحم: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي؟ فقد سمعها ولم يأخذ بها.
فنقول له: قد خالف الشافعي في هذه المسألة من هو مثله أو أعلم منه، كمالك والإمام أحمد رحمهما الله-، وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بإزاء الشافعي، ونقول: إمام بإمام. وتسلم لنا الأحاديث، ونرد الأمر إلى الله والرسول عند تنازع هؤلاء الأئمة، ونتبع الإمام الذي أخذ بالنص، ونعمل بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1.
فنمتثل ما أمر الله به، وهذا هو الواجب علينا، ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد، بل خرجنا من تقليد إمام إلى تقليد إمام آخر لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض لها ولا ناسخ.
الانتقال من مذهب إلى مذهب لأمر ديني
فالانتقال من مذهب إلى مذهب آخر لأمر ديني بأن تبين له رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الدليل- مثاب على فعله، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر، أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحدا في مخالفة حكم الله ورسوله؛ فإن الله فرض على الخلق طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل حال كما تقدم ذكره.
وقد ذكرنا أن الشافعي رحمه الله قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
الانتقال من مذهب إلى مذهب لمجرد الهوى
الانتقال من مذهب إلى آخر
وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب لمجرد الهوى أو لغرض دنيوي، فهذا لا يجوز، وصاحبه يكون متبعا لهواه؛ وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو محرما، ثم يعتقده غير واجب
1 سورة النساء آية: 59.
أو محرم بمجرد هواه، وذلك مثل أن يكون طالبا للشفعة بالجوار، فيعتقدها أنها حق، ويقول: مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أرجح من مذهب الجمهور. ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار اعتقد أنها ليست ثابتة، وقال: مذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح.
ومثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد -كما هو مذهب الأئمة الثلاثة- فإذا كان جدا مع أخ اعتقد أن الجد يسقط الإخوة كما هو مذهب أبي حنيفة، فهذا ونحوه لا يجوز، وصاحبه مذموم، بل يجب عليه أن يعتقد الحق فيما له وعليه، ولا يتبع هواه، ولا يتبع الرخص، فمتبع الرخص مذموم، والمتعصب للمذهب مذموم، وكلاهما متبعٌ هواه.
المتعصبون لمذاهب الأئمة يأخذون من الأدنى دون الأعلى
والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم -في أكثر المسائل- قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر فالآخر، وكلما تأخر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا -أو كادوا- يهجرون كلام من فوقه.
فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدمين هجرا ورغبة عنه، حتى إنَّ كُتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم فهي مهجورة.
فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في "الإقناع" و"المنتهى"، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد رحمه الله، مع أن كثيرا من المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من عرفه.
وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم، بل قد هجروا كتب المتأخرين، ف"المغني" و"الشرح" و"الإنصاف" و"الفروع"، ونحو هذه الكتب التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة أو خلاف الأصحاب
لا ينظرون فيها.
فهؤلاء -في الحقيقة- أتباع الحجاوي وابن النجار لا أتباع الإمام أحمد. وكذلك متأخرو الشافعية هم -في الحقيقة- أتباع ابن حجر الهيتمي صاحب "التحفة"، وأضرابه من شراح "المنهاج"، فما خالف ذلك من نصوص الشافعي لا يعبؤون به شيئا.
وكذلك متأخرو المالكية هم -في الحقيقة- أتباع خليل، فلا يعبأون بما خالف مختصر خليل شيئا، ولو وجدوا حديثا ثابتا في الصحيحين لم يعملوا به إذا خالف المذهب، وقالوا: الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1.
فكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم، فلا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها.
وأما كتب الحديث -كالأمهات الست وغيرها من كتب الحديث وشروحها، وكتب الفقه الكبار، التي يذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين- فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل. ويعتذرون بأنهم قاصرون عن معرفتها؛ فالأخذ بها وظيفة المجتهدين، والاجتهاد قد انطوى بساطه من أزمنة متطاولة، ولم يبقَ إلا التقليد، والمقلِّد يأخذ بقول إمامه، ولا ينظر إلى دليلِه وتعليلِه.
ولم يميزوا بين المجتهد المطلق -الذي قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، فهو يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد- وبين المجتهد في مذهب إمامه، أو في مذهب الأئمة الأربعة من غير خروج عنها. فهو ملتزم لمذهب إمام من الأئمة، وينظر في كتب الخلاف، ويمعن النظر في الأدلة، فإذا رأى الدليل بخلاف مذهبه قلَّد الإمام الذي قد أخذ بالدليل، فهو اجتهاد مشوب بالتقليد، فينظر إلى ما اتفقوا عليه ويأخذ به، فإن اختلفوا نظر في الأدلة، فإن وجد مع أحدهم دليلا أخذ بقوله، فإن لم يجد في المسألة
1 سورة المؤمنون آية: 53.
دليلا من الجانبين أخذ بما عليه الجمهور، فإن لم يجد ذلك، بل قوي الخلاف عنده من الجانبين التزم قول إمامه إذا لم يترجح عنده خلافه.
فأكثر المقلدين لا يميزون بين المجتهد المستقل من غيره، وجعلوهما نوعا واحدا، وهذا غلط واضح؛ فإن من كان قاصرا في العلم لا يستقل بأخذ الأحكام من الأدلة، بل يسأل أهل العلم، كما نص عليه الإمام أحمد رحمه الله في رواية ابنه عبد الله، وقد ذكرناه فيما تقدم.
الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة وتوخي الحق بما دل عليه الدليل
وأما الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة وتوخي الحق بما دل عليه الدليل وبما عليه الجمهور، فهذا هو الذي لا ينبغي العدول عنه، وهو الذي ذكره صاحب "الإفصاح".
لزوم التمذهب بمذهب بعينه
وأما لزوم التمذهب بمذهب بعينه؛ بحيث لا يخرج عنه وإن خالف نص الكتاب أو السنة، فهذا مذموم غير ممدوح، وقد ذمه صاحب "الإفصاح" كما تقدم ذكره، بل قد ذمه الأئمة رضي الله عنهم.
قال الشافعي رحمه الله: طالب العلم بلا حجة كحاطب ليل يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه.
وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟!
فقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم ابن جميل (قال) : قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوما وضعوا كتابا يقول أحدهم: حدثنا فلان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا. ويأخذ بقول إبراهيم، قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت:
إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يستتابون.
وقال أبو عمر بن عبد البر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك، فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال: قلدت؛ لأنَّ كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها، والذي قلَّدتُه قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلَم مني.
قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على تأويل شيء من الكتاب، أو حكاية عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم، ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه؟
فإن قال: قلدته؛ لأني أعلم أنه على صواب. قيل له: علمت ذلك من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع؟
فإن قال: نعم. أبطل التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل.
وإن قال: قلدته؛ لأنه أعلم مني. قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا، ولا تخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك.
فإن قال: قلدته؛ لأنه أعلم الناس. قيل له: فهو إذًا أعلم من الصحابة. فكفى بقول مثل هذا قبحا1،.
فإن قال: أنا أقلد بعض الصحابة. قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟ على أن القول لا يصح بفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.
وقد ذكر ابن مدين، عن
1 إنه -على قبحه بمخالفة إمامه وسائر الأئمة على تفضيل الصحابة على أنفسهم- باطل بالبداهة، فإن المجتهد لا يمكنه أن يعرف أعلم الناس على الإطلاق، فضلا عن المقلد الذي لا يعرف أدلة أحد منهم.
عيسى بن دينار، عن القاسم عن مالك قال: ليس كلما قال الرجل قولا -وإن كان له فضل- يتبع عليه؛ لقوله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1.
فإن قال: قصري وقلة علمي تحملني على التقليد. قيل له: أما من قلَّد فيما ينزل به أحكام شريعة عالما يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به فمعذورٌ لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة؛ لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.
ولكن من كانت هذه حاله هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله، فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، يصيرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته، ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن صاحبه يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؟
فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بذلك جهلا وردا للقرآن، قال الله عز وجل:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2، وقال تعالى:{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3.
وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يستيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا.
ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "من أفتى بفتيا وهو يعمي عنها كان إثمها عليه" 4 موقوفا ومرفوعا، قال وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث "5 قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. انتهى كلام أبي عمر -رحمه الله تعالى.
فتأمل ما في هذا الكلام، من الرد على من يقول بلزوم المتذهب بمذهب من هذه المذاهب الأربعة، لا يخرج عن ذلك المذهب، ولو وجد
1 سورة الزمر آية: 18.
2 سورة الإسراء آية: 36.
3 سورة الأعراف آية: 28.
4 الدارمي: المقدمة (160) .
5 البخاري: النكاح (5144)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2563)، والترمذي: البر والصلة (1988) ، وأحمد (2/245،2/287،2/312،2/342،2/517،2/538)، ومالك: الجامع (1684) .
دليلا يخالفه، لأن الإمام صاحب المذهب أعلم بمعناه، ويجعل هذا عذرا له في رد الحديث، أو ترك العمل به.
وتأمل قوله: لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. ومراده: إذا كان المقلد قادرا على الاستدلال، وأما العاجز عنه فهو كالأعمى، يقلد في جهة القبلة، فهو معذور إذا كان عاجزا.
وقد حكى الإمام أبو محمد بن حزم الإجماع على أنه لا يجوز التزام مذهب بعينه لا يخرج عنه، فقال: أجمعوا على أنه لا يجوز لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله. انتهى.
فحكاية الإجماع من هذين الإمامين -أعني أبا عمر بن عبد البر وأبا محمد بن حزم- كافٍ في إبطال قول المتعصبين للمذهب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين. آمين.