الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: الصحبة مع المناسبة مؤثرة وإنكار تأثيرها مصادم للبداهة ومعارض للعرف والعادة، حتى قال بعض الحكماء في شعره: من أنكر آثار الصحبة يتقرر جهله عندنا. ولما لم يكن بين المسلم والكافر مناسبة حرم أثر الصحبة. على أنه روي أن هذين الكافرين أدركتهما بركة صحبة يوسف عليه السلام فأسلما. فالصديق رضي الله عنه مع المناسبة التامة لم يكون محروما ولا يكون مستفيدا من كمالاته. كيف وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما صب الله شيئا في صدري إلا وقد صببته في صدر أبي بكر" رضي الله عنه. وكلما كانت المناسبة أكثر كانت فوائد الصحبة أوفر. ولهذا صار الصديق رضي الله عنه أفضل الصحابة رضي الله عنهم. ولم يدرك أحد منهم درجته لأنه كان أكثرهم مناسبة. قال عليه الصلاة والسلام: "ما فضل أبي بكر بكثرة الصلاة ولا بكثرة الصيام ولكن بشيء وقر في قلبه" قال العلماء: وذلك الشيء حب النبي صلى الله عليه وسلم والفناء فيه. فإذا كان هذا حاله كيف يكون قابلا للذم واللعن {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (1)
قال علماء ما وراء النهر: تسليم علي رضي الله عنه الخلافة للخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم
وعدم اعتراضه عليهم بالمنع بل مبايعته لهم ومتابعته إياهم مع كمال شجاعته وشدة بأسه دليل واضح على صحة خلافتهم؛ وإلا لزم نقصه.
وأجابت الشيعة بأنه كان مشغولا بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه، فجمع أبو بكر وعمر الناس في سقيفة بني ساعدة وأخذا منهم البيعة من غير علمه رضي الله عنه ولما اطلع عل ذلك لم يباشر الحرب لقلة الأتباع وخوف هلاك أهل الحق بأجمعهم أو لعلة أخرى مما يضاهي ما قلنا، وهذا لا يدل على صحة خلافتهم، كيف وكان علي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم أشجع منه وأقوى فلم يقاتلا كفار قريش وخرجا منها خفية ثم صالحا في الحديبية على الوجه المعلوم في السير. فكل ما يصلح جوابا هنالك يصلح جوابا ههنا بالطريق الأولى. ويتأتى مثل هذا الكلام في إملاء الله تعالى لأعدائه. ألا ترى كيف سلط الله فرعون على مصر أربعمائة سنة يدعي الألوهية واملأ لشداد ونمرود دهرا طويلا مع قدرته في إهلاكهم في طرفة عين، ولكن هنالك حكم ومصالح لا يمكن أن يحيط بها بشر. وقولكم: مبايعته لهم، قلنا: وقوع البيعة من غير إكراه وتقية ممنوع.
(1) الكهف: 5
أقول: علماء ما وراء النهر جعلوا مجموع تسليم الخلافة وعدم الاعتراض دليلا على حقية خلافتهم، فلا يرد النقض بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم حرب كفار قريش وإملاء الله لفرعون؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذمهم واعترضهم بالرد وأظهر شناعة فعلهم وما سلم لهم ما هم فيه قط. فأين هذا من ذاك؟ ولما لم تجد الشيعة مساغا لإنكار بيعة علي للصديق رضي الله عنهما لأنه من الخبر المتواتر وإنكاره يصادم بداهة العقل التجأوا إلى القول بالإكراه والتقية ولم يجدوا مخلصا أحسن منه؛ وهو باطل. والصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل دفنه إنما اشتغلوا بنصب الإمام لأنهم رأوه واجبا بعد انقراض زمان النبوة بل أهم الواجبات، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش وجهاد الكفار وحفظ بيضة الإسلام وذلك لا يتأتى إلا بنصب الإمام، وما لا يتأتى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا فهو واجب. ولهذا قال الصديق رضي الله عنه: يا أيها الناس من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله تعالى حي لا يموت، لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم. فقالوا: صدقت فبايعه عمر ثم بايعه المهاجرون والأنصار، وصعد أبو بكر المنبر ونظر في وجوه القوم فلم ير الزبير فدعا به فجاء فقال: ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين؟ فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فبايعه ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا رضي الله عنه فدعا به فجاء فقال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين؟ فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه. وأظهر علي رضي الله عنه العذر في تأخيره البيعة فقال: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة مع أن لنا فيها حقا وأنا نرى أبا بكر أحق الناس بالخلافة وإنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وكبره ولقد أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي. فثبتت خلافته رضي الله عنه بالإجماع واندفع احتمال الإكراه والتقية. قال الإمام الشافعي رحمه الله: "أجمع الناس على خلافته وذلك لأنه اضطر الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبي بكر رضي الله عنه فولوه رقابهم".
وأيضا اجتمعت الأمة على حقية خلافة أحد الثلاثة أبي بكر وعلي وعباس رضي الله عنهم ولم ينازعا أبا بكر رضي الله عنه بل بايعاه فانعقد الإجماع على خلافته إذ لو لم يكن على الحق لنازعاه كما نازع علي معاوية رضي الله عنهما ولم يبال بسفك الدماء مع إن الطلب إذ ذاك أشد وفي أول الأمر أسهل لقرب عهدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وشدة رغبتهم في تنفيذ أحكامه، وأيضا طلب عباس من علي رضي الله عنهما البيعة فلم يقبلها والزبير وبنو هاشم معه فلو لم يكن الحق لأبي بكر رضي الله عنه لقبل، والإجماع كاف في ثبوت خلافة الصديق رضي الله عنه وإن لم يكن نص كما قال جمهور العلماء بل الإجماع أقوى من النصوص غير المتواترة إذ مدلوله قطعي ومدلولها ظني. ومع هذا فالنصوص قد وردت كما ذكره بعض المحققين. وإنما معنى قول الجمهور أنه لم ينقل لأحد نصا جليا، والإكراه والتقية إنما يحتملان لو لم يكن أهل ذلك العصر تابعين للحق ولا مبشرين بقوله صلى الله عليه وسلم:«خير القرون قرني» قال ابن الصلاح والمنذري: الصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم. وقال ابن حزم: الصحابة رضي الله عنهم كلهم من أهل الجنة قطعا، قال الله تعالى:{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} (1) والصحابة رضي الله عنهم هم المخاطبون فثبت لكل منهم الحسنى وهي الجنة. وقيد الإنفاق والقتال خرج مخرج الغالب ولا مفهوم له فلا يخرج من لا يتصف بذلك منهم. أو نقول المراد من اتصف بذلك ولو بالقوة وباعتبار العزم. وأيضا الإكراه والتقية يستلزمان نقص علي رضي الله عنه إذ في تسليمه الخلافة بالإكراه ترك العزيمة وفي التقية كتمان الحق وهو منهي عنه؛ ولما لم يكن الرجل من عامة المؤمنين راضيا بترك الأولى وبارتكاب المنهي عنه فأسد الله وزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من الشجاعة في الدرجة المعلومة أولى بأن لا يفعل ذلك. وهل القول بهما إلا كمال الجهل وفرط الضلالة فتخيلوا القدح مدحا والنقصان كمالا {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} (2)
(1) الحديد: 10
(2)
فاطر: 8