المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، - رسالة في الأدب لأصحاب الطلب

[عبد الفتاح مصيلحي]

فهرس الكتاب

‌مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

إنَّ الله سبحانه وتعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق، ويُعَلِّم الناس مكارمها، وكذلك ليدل الناس على معالي الأمور، وينهاهم عن سفاسفها.

ولقد اعتنى الإسلام بتربية المسلم على الأخلاق الحسنة، والآداب الراقية المهذبة أيما اعتناء؛ وذلك لأنَّ حسن أخلاق المسلم، وحسن أدبه هو عنوان سعادته في الدنيا والآخرة.

قال ابن القيم رحمه الله:

وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب.

ص: 3

فانظر إلى الأدب مع الوالدين:

كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة

(1)

، والإخلال به مع الأم تأويلًا وإقبالًا على الصلاة كيف امتُحِن صاحبه بهدم صومعته، وضرب الناس له، ورميه بالفاحشة

(2)

.

(1)

يشير إلى حديث ابن عمر المتفق عليه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " انطلق ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غارٍ، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم قال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي طلب شجرٍ يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر - زاد بعض الرواة: والصبية يتضاغون عند قدمي - فاستيقظا، فشربا غبوقهما: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج

".

(2)

يشير إلى حديث أبي هريرة المتفق عليه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى بن مريم، وصاحب جريج - وكان جريج رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه، وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغيٌّ يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه، فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي، فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي، فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه، ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا. أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا .... "

ص: 4

وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر: كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان

(1)

.

لذا عني الإسلام بالدعوة إلى حسن الهدي والسمت والأخلاق، وكَثُرَ ورود ذلك في الكتاب والسنة، فمن ذلك أمر الله تعالى المسلم أن لا يقول إلا القول المهذب الحسن، فقال تعالى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وليس هذا خاصًّا بمخاطبته للمسلم فقط، بل إنَّ هذا للمسلم وغيره، فلفظ الناس لفظ عام؛ لذا كان خلق المسلم، وحسن سمته، وهديه، وأدبه صفة لازمة له مع جميع الناس، وكان هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه، فإذا سلم اليهود أوالنصارى عليه، وقالوا: السام عليك لم يقل: وعليكم السام، بل كان يقول وعليكم، عن أنس قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السام عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وعليك، أتدرون ما يقول؟ قال: السام عليك"، قالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟، قال" لا. إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا وعليكم"

(2)

.

(1)

مدارج السالكين لابن القيم (2/ 391).

(2)

أخرجه: البخاري في صحيحه (6926)، واللفظ له، ومسلم في صحيحه (2165)، قال الإمام ابن شهاب الزهري: والسَّامُ الموتُ.

ص: 5

ومن ذلك قوله تعالى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]؛ لذا كان ابن عباس يقول: ردوا السلام على من كان يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا؛ ذلك بأنَّ الله يقول" وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها" [النساء: 86]

(1)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، قلت: وفيك

(2)

.

وهكذا جاء القرآن والسنة يدلان الناس على أحسن الأخلاق وأفضلها، وأصبح ميزان العبد في الشرع، وعند الله تعالى هو أخلاقه.

ومن هذه الأخلاق العظيمة الفاضلة التي اعتنى الإسلام بها خلق إنزال الناس منازلهم، ووضعهم في المكانة التي وضعهم الله فيها، وخاصة إن كان هؤلاء هم حملة الدين وورثة الأنبياء، فإنَّ الله تعالى إذا أمرنا بالتأدب مع الناس عامة، والقول الحسن لهم، فالمسلم من باب أولى، بل وأهل العلم والدين، ووارثوا الكتاب والسنة يحتلون في هذا الباب الدرجة العليا.

(1)

أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه (25765)، والبخاري في الأدب المفرد (1107)، واللفظ له، وابن أبي حاتم في تفسيره (5729)، وحسن إسناده العلامة الألباني.

(2)

أخرجه: البخاري في الأدب المفرد (1113)، وابن أبي شيبة في مصنفه (25825)، وابن المنذر في تفسيره (2072)، وصححه العلامة الألباني.

ص: 6

وما وقع عبد في هذا المنزلق وأطلق لسانه في أهل العلم والدين إلا هو دليل على جرأته على الله تعالى، ومخالفته لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ورقة دينه، وسوء أدبه وخلقه، فليحذر العبد من ذلك.

ولقد أخفق في هذا الباب في هذا الزمان بعض إخواننا من طلبة العلم - غفر الله لنا ولهم- الذين زين لهم الشيطان الوقيعة في أعراض أهل العلم بحجة خطئهم في بعض المسائل - كما يزعمون -، وليس أحد معصومًا من الخطإ بعد الأنبياء، ولكن هل يجيز الخطأ سوء الأدب؟!، فلو كان الأمر كذلك لأساء النبي مع من قالوا: إنَّ الله ثالث ثلاثة، ومع من قالوا: عزير ابن الله، ولكن هذا لم يحدث، بل كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا وأدبًا مع أحبابه وأعدائه، فليتق الله إخواننا ممن أطلقوا لسانهم في علماء الأمة، ومصابيحها، وتيجان رؤوسها، وليعودوا إلى تعاليم الشريعة المطهرة، وليتمثلوا بخلق نبيهم صلى الله عليه وسلم.

ولنعلم - أحبتي في الله - أنَّ سوء الأدب يؤدي إلى الشقاق، والخلاف، ووقوع الشحناء والبغضاء، وأما الأدب فإنه يجمع بين المختلفين، ويؤلف بينهم، ويزيل حواجز القلوب، ويحمي النفوس من هاوية الشقاق.

وصدق القائل:

إن يختلف ماء الوصال فماؤنا

عَذْبٌ تَحَدَّرَ من غمام واحد

أو نختلف نسبًا يؤلف بيننا

أدبٌ أقمناه مقام الوالد

وهذه نصيحة محب، راغب في الخير لنفسه، وللناس عامة، ولطلبة العلم خاصة، سميتها (رسالة في الأدب لأصحاب الطلب).

ص: 7

فأسأل الله تعالى أن يجعلها نافعة خالصة لوجهه، وأن يهدينا جميعًا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف عنا سيئها إلا هو.

وأسأل الله تعالى أن يجزي كل من ساعد في إتمامنا هذا العمل، وغيره من الأعمال، وأسدل لنا النصح والإرشاد والمساعدة خير الجزاء، وأخص بالذكر أحبتي وإخواني في الله:

الأخ الفاضل/ أحمد عزت الذي ساهم بجهد مشكور في إتمام كتاب "التعليقات التأصيلية للعقيدة الطحاوية" سابقًا.

والأخ الفاضل/ أحمد الغمري الذي قام بعزو الأحاديث والآثار في هذه الرسالة، وأزاد زيادات نافعة ومفيدة في هامشها، وغيرهم من أهل الفضل، وطلبة العلم، فجزاهم الله جميعًا خير الجزاء.

وصلَّى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وكتبه

أبو سلسبيل

عبد الفتاح محمد مصيلحي

ص: 8

‌اعتذار بين يدي الرسالة

• اعتذار: لأهل العلم والفضل الذين أُسِيءَ إليهم، وأُطْلِقَت الألسن في أعراضهم، فأنتم آباؤنا وأجدادنا في العلم، وعلى الوالد أن يتحمل أبناءه ويعفو عن خطئهم، وزلاتهم حتى يئوب الآبق، ويعود الشارد، ويفيق الغافل، والله يجزيكم على ذلك خير الجزاء، ويجزل لكم المثوبة والعطاء.

• اعتذار: لأهل العلم وطلبته أصحاب الخلق السامي، والأدب الرفيع أني زاحمتهم في هذا الأمر، وكتبت في موضوع هم له أهل، ولست له بأهل، ولكن دافعي إلى ذلك أني:

أحب المؤدبين ولست منهم

لعلي أن أنال بهم شفاعة

• اعتذار: لإخواني من طلبة العلم الذين أوقعهم الشيطان في شراكه، وأطلقوا ألسنتهم في أهل العلم إن كنتُ قد أغلظتُ القول أحيانًا في الرسالة، أو قسوت في العبارة، فما ذلك إلا لخوفي عليهم، وحب الخير لهم، وما قصدت لي ولهم إلا التوفيق والسداد، والاجتماع والائتلاف.

فأسأل الله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يجمعنا جميعًا في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في الفردوس الأعلى.

ص: 9

‌مفهوم الأدب

الأدب: هو ترويض النفس على الأخلاق الحسنة، والأفعال الحميدة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى ويؤيدها الشرع، والأخذ بمكارم الأخلاق، والعمل بكل ما يُسْتَحْسَن، والبعد عن كل ما يُسْتَقْبَح.

وإنما جاء الأدب من المَأْدُبَةِ:

وهو ما يعد للطعام، ويدعى الناس جميعًا إليه، فدل على أنَّ الأدب ليس خُلقاً خاصًّا بأهل العلم أو بطلبة العلم؛ وإنما هو خلق عام يُدْعَى إليه كل الناس صغيرهم وكبيرهم.

عن الحسن بن إسماعيل قال:

سمعتُ أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيد أقل من خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب، وحسن السمت

(1)

.

(1)

مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 288) ط دار هجر، سير أعلام النبلاء للذهبي (11/ 316) ط الرسالة، زهاء: أي قدر.

أحمد = هو إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، قال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وقال الذهبي: أثنى عليه خلق من خصومه، فما الظن بإخوانه وأقرانه؟! توفي في سنة 241 هـ.

ص: 10

وهذا يدل على أنَّ طالبي الأدب أضعاف أضعاف من يطلب العلم، لكنه أُلْصِق بطلبة العلم لأنهم أمكن فيهم، وأنهم أحوج إليه من غيرهم، فالأدب خلق عام؛ لأنَّ فيه بغية كل خير، فبه ينال العبد حب الله تعالى، وبه ينال القرب من رسوله صلى الله عليه وسلم، وبه يستحوذ على حب الناس، لأنَّ العبد أسير الإحسان، والأدب مع الناس وحسن الخلق خير إحسان، قال تعالى {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].

وكذلك إن كان متعلمًا أحبه مشايخه وسارعوا في بذل العلم له، وإن كان معلمًا أحبه طلبة العلم، ولاذوا به، وركنوا إليه للطفه، ورفقه، وحسن أدبه، فانتشر علمه في البلاد، وبين العباد.

ص: 11

‌مكانة الأدب

إنَّ الأدب من أصول الدين وقَوَامه، ومن صفات أصحابه وقُوَّامه؛ لذلك فإنه من الأسس والأصول التي جاء بها دين الإسلام، وقررته الشريعة المطرة؛ ولذا فإنه من الأمور التي جاء جبريل عليه السلام ليعلمها للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وللأمة من بعدهم، ففي الحديث الطويل المعلوم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"

(1)

فإنَّ جبريل عليه السلام جاء ليعلمنا بقوله وفعله، ففي رواية يحكي لنا أبوهريرة فعل جبريل عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب، فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانًا

(2)

من طين كان يجلس عليه، وإنا لجلوس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه إذ أقبل رجل أحسن

(1)

يشير إلى حديث جبريل الذي أخرجه البخاري (50) من حديث أبي هريرة، ومسلم (8) من حديث عمر، واللفظ له.

(2)

الدُّكَّان كما في القاموس: بناء يُسَطَّحُ أعلاه للمَقْعَد. وفي هذا الحديث استنبط منه الإمام القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به، ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم، ونحوه.

ص: 12

الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا كأنَّ ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلم في طرف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام، قال: أدنو يا محمد؟ قال " ادنه "، فما زال يقول: أدنو مرارًا، ويقول له "ادن" حتى وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ففيه تعليم الأدب في التعامل مع المعلم، فإنه عليه السلام استأذن برفق، وكلما أُذِن له دنا قليلًا، ثم يستأذن حتى دنا، واقترب، وجلس بين يديه جلوس المتورك في الصلاة، ووضع كفيه على ركبتيه، ثم بدأ يسأله، وهو يدل على أنَّ الأدب مع المعلم والمفتي من الدين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " هذا جبريل جاء ليعلمكم دينكم".

ولما كان الأدب من أصول الدين مدح الله تعالى المؤدبيين، وأثنى عليهم، فأثنى الله على الجن لما تأدبوا معه سبحانه وتعالى، وقالوا {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].

فلم ينسبوا الشر إليه سبحانه، ونسبوا إليه الخير والرشد، فأثنى عليهم وذكرهم في كتابه.

وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

(1)

أخرجه: النسائي في المجتبى (4991)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (378)، والبزار في مسنده (4025)، وابن منده في الإيمان (160).

ص: 13

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: علموهم وأدبوهم

(1)

.

وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ العبد يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم

(2)

.

وبيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ أقرب الناس منه منزلة يوم القيامة هم أحاسنهم أخلاقًا

(3)

.

إنهم أهل الأدب

لذا أُعْجِب النبي صلى الله عليه وسلم بفعل أبي بكر رضي الله عنه مع أنه خالف أمره؛ لأنَّ الدافع له حينها كان هو الأدب، عن سهل بن سعد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أنَّ بني عمرو بن عوف كان بينهم شرٌّ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناسٍ معه، فجلس رسول الله

(1)

البر والصلة لأبي عبد الله المروزي (ص 99) ط دار الوطن، تفسير الطبري (23/ 103) ط دار هجر.

(2)

أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (24355)، وأبو داود في سننه (4798)، والترمذي في جامعه (2121)، وابن حبان في صحيحه (480) من حديث عائشة بلفظ: إن المؤمن يدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل، صائم النهار". صححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة، وقال الأرنؤوط: صحيح لغيره، والله أعلم.

(3)

أخرجه: أحمد في مسنده (7035)، والبخاري في الأدب المفرد (272)، والبيهقي في شعب الإيمان (7619) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. بإسناد حسن بلفظ " ألا أخبركم بأحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة " فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثاً، قال القوم: بلى يا رسول الله، قال: أحسنكم أخلاقاً"، والله أعلم.

ص: 14

صلى الله عليه وسلم، وحانت الصلاة، فجاء بلالٌ إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس، وحانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس، قال: نعم إن شئت، فأقام بلال، وتقدم أبو بكر، فكبر، وكبر الناس، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف حتى قام في الصف، فأخذ الناس في التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع أبو بكر يده، فحمد الله، ورجع القهقرى وراءه حتى قام في الصف، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى للناس، فلما فرغ أقبل على الناس فقال " أيها الناس مالكم حين نابكم شيءٌ في الصلاة أخذتم في التصفيق، إنما التصفيق للنساء من نابه شيءٌ في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحدٌ حين يقول سبحان الله إلا التفت. يا أبا بكر ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك "

فقال أبو بكر: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

فكان الداعي إلى ذلك هو الأدب.

(1)

أخرجه: البخاري (684)، ومسلم (421) كلاهما من حديث سهل بن سعد الساعدي.

قال بعض أهل العلم: من فضيلة الأدب أنه ممدوح بكل لسان، ومتزيَّن به في كل مكان، وباقٍ ذكره على أيام الزمان، والأدب وسيلة إلى كل فضيلة، وذريعة إلى كل شريعة.

ص: 15

قال الإمام ابن القيم عن ذلك:

فإنه بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قُدَّامَ تنقطع فيه أعناق المَطِي

(1)

.

و أُعْجِب صلى الله عليه وسلم بفعل ابن عباس، ودعا له بالفهم والعلم، مع أنه خالف أمره أيضًا؛ لما كان سبب فعله هو الأدب، عن ابن عباس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، فصليت خلفه، فأخذ بيدي، فجرني، فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته خنست، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال لي " ما شأني أجعلك حذائي فتخنس " فقلت: يا رسول الله أو ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك - وأنت رسول الله الذي أعطاك الله - قال: فأعجبته " فدعا الله لي أن يزيدني علمًا وفهمًا"

(2)

؟!!

قال ابن المبارك:

كاد الأدب يكون ثلثي الدين

(3)

.

(1)

مدارج السالكين لابن القيم (2/ 369) ط: الكتاب العربي. بيروت.

ابن القيم = هو شمس الدين محمد بن أبي بكر، من تلاميذ ابن تيميه، صاحب التصانيف الماتعة، توفي سنة 751 هـ.

(2)

أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (3060) بإسناد صحيح واللفظ له، والحاكم في المستدرك (6279).

(3)

صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 330) ط دار الحديث.

ص: 16

وقال مَخْلَدُ بنُ الحُسينِ لابنِ المُبارَكِ:

نحن إلى كثير من الأدب أحوج منَّا إلى كثير من الحديث

(1)

.

وكان مالك يقول:

كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه

(2)

.

وقال ابن المقفع:

ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تتقاوت العقول، وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل

(3)

.

(1)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/ 80) ط مكتبة المعارف، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة الكناني (ص 32) ط دار البشائر.

(2)

ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض اليحصبي (1/ 130) مطبعة فضالة المغرب.

مالك = هو إمام دار الهجرة، وحجة الأمة أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. قال ابن عيينه: هو حجة زمانه، توفي سنة 179 هـ.

قال الإمام الزهري كما في الحلية (3/ 362): كنا نأتي العالم، فما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه. اه.

(3)

الأدب الصغير لابن المقفع (ص 15) ط دار صادر، والرَّمَق بفتحتين -: بقية الحياة، وقد يطلق على القوة.

وابن المقفع كان مجوسيًّا من أهل فارس ثم أسلم.

ص: 17

قال القرافي رحمه الله:

فإنَّ كثير الأدب مع قليل العمل أفضل من كثير العمل مع سوء الأدب

(1)

.

لذلك كان العالم يوصي ابنه ويقول: يا بني: لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من العلم

(2)

.

وكان الحكماء يقولون:

لا ميراث أفضل من الأدب

(3)

.

(1)

الفروق لأبي العباس القرافي (3/ 115) ط عالم الكتب.

وقد قال ذلك بعدما أورد قول رويم بن أحمد البغدادي لابنه: يا بني اجعل عملك ملحًا، وأدبك دقيقًا.

(2)

تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة الكناني (ص 32) ط دار البشائر.

قال يحيى بن محمد العنبري: علم بلا أدب كنار بلا حطب، أدب بلا علم كروح بلا جسد.

فالعلم قبل التأدب قد يقود إلى الغرور والكبر، والأدب بلا علم قد يقود إلى الضلال والزيغ.

وقد قال حبيب الشهيد (ت 145 هـ): يا بني! اصحب الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم وخذ من أدبهم؛ فإن ذلك أحب إلي من كثير من الحديث.

(3)

روى مرفوعاً بلفظ " لا ميراث كالأدب " ولا يصح، وروى منسوباً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الأمثال والحِكم لأبي الحسن الماوردي (ص 245) ط دار الوطن، مالي القالي (2/ 164) ط دار الكتب المصرية.

ص: 18

وصدق القائل:

فللمرء في أخلاقه وفعاله

معنى يدل عليه إن جُهِل النسب

فإذا فقدتَ الجد فاختر بعده

أن تنتمي لأب شريف كالأدب

(1)

فكل ما سبق يدل على أنَّ للأدب المكانة العظيمة في الشرع، والفضائل الجمة ويتلخص ذلك في أمور:

أنه من أصول الدين، وسبب للوقاية من النار، وسبب لثناء الله تعالى على العبد، ويبلغ به العبد درجة الصائم القائم، ويقرب العبد في منزلته يوم القيامة من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غذاء العقول ولقاحها كالطعام والشراب للأجساد، وغير ذلك من فضائله ومحاسنه.

(1)

من قصيدة الغيث يعلم أنه ابن سحابة للشاعر حسن حسني الطويراني المتوفى سنة 1315 هـ.

ص: 19

‌الأدب مع أهل العلم والعلماء

لماذا الأدب مع أهل العلم والعلماء؟!

- الأدب مع العلماء؛ لأنهم شهداء الله في الأرض على أفضل مشهود عليه وأعظم ألا وهو التوحيد، قال الله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

قال ابن القيم:

استشهد الله عز وجل بأهلِ العلمِ على أجلِّ مشهودٍ عليه وهو توحيده، فقال {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]،

وهذا يدلُّ على فضلِ العلمِ وأهلِهِ من وجوه:

أحدها: استشهادُهُم دونَ غيرِهم من البشر.

الثاني: اقتران شهادتهم بشهادته.

الثالث: اقترانها بشهادة ملائكته.

الرابع: أنَّ في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإنَّ الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول.

ص: 20

الخامس: أنه وصفهم بكونهم أولى العلم، وهذا يدل على اختصاصهم به، وأنهم أهله وأصحابه.

السادس: أنه سبحانه استشهد بنفسه، وهو أَجَلُّ شاهد، ثم بخيار خلقه، وهم ملائكته، والعلماء من عباده، ويكفيهم بهذا فضلًا وشرفًا.

السابع: أنه استشهد بهم على أَجَلِّ مشهود به، وأعظمه، وأكبره، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم.

الثامن: أنه سبحانه جعل شهادتهم حجةً على المنكِرين، فهم بمنزلة أدلته، وآياته، وبراهينه الدالة على توحيده.

التاسع: أنه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة الصادرة منه، ومن ملائكته، ومنهم، ولم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته، وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته.

العاشر: أنه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة، فإذا أدوها فقد أدوا الحق المشهود به، فثبت الحق المشهود به، فوجب على الخلق الإقرار به، وكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وكل من ناله الهدى بشهادتهم، وأقر بهذا الحق بسبب شهادتهم، فلهم من الأجر مثل أجره، وهذا فضل عظيم لا يدرى قدره إلا الله

(1)

.

(1)

مفتاح دار السعادة لابن القيم - بتصرف - (1/ 48).

ص: 21

- الأدب مع العلماء؛ لعظم فضلهم وقدرهم ومكانتهم:

ففضل العلماء فضل لا يُبارَى، وبحر لا يُجارَى؛ إذ هم ورثة الأنبياء، وحملة اللواء، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم، ثمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ، وملائِكتَهُ، وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ، حتى النَّملةَ في جُحرِها، وحتى الحوتَ ليصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخيرَ"

(1)

.

لكن لا يعرف هذا الفضل ويقدره إلا أهله، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل؛ لذا ما عرف فضلهم وقدرهم حق المعرفة إلا أهل العلم أمثالهم:

قال شعبة بن الحجاج:

كنت إذا سمعت الحديث من الرجل كنت له عبدًا ما حَيِيَ

(2)

.

(1)

أخرجه: الترمذي (2685)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/ 191)، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 999) ط دار البشائر. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: " وينبغي للمتعلم أن يحسن الأدب مع معلمه، ويحمد الله إذ يسر له من يعلمه من جهله، ويحييه من موته، ويوقظه من سِنَتِه، وينتهز الفرصة كل وقت في الأخذ عنه، ويكثر الدعاء له حاضرًا وغائبًا. (الفتاوي السعدية).

شعبة = هو أمير المؤمنين في الحديث وإمام الجرح والتعديل أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد مولاهم. قال ابن معين: شعبة إمام المتقين، توفي سنة 160 هـ.

ص: 22

قال أبوبكر النحوي:

إذا تعلم الإنسان من العالم واستفاد منه الفوائد فهو له عبد، قال الله تعالى " وإذ قال موسى لفتاه " وهو يوشع بن نون، ولم يكن مملوكًا له، وإنما كان متلمذًا له، متبعًا له، فجعله الله فتاه لذلك

(1)

.

قال أبوحنيفة:

ما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي

(2)

.

وكان أبويوسف يقول:

إني لأدعو لأبي حنيفة قبل أبوي

(3)

.

(1)

أخرجه: الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (855) بإسناد صحيح.

أبو بكر النحوي = هو المقرئ النحوي المفسر أبو بكر محمد بن علي الأدفوي، توفي سنة 388 هـ.

(2)

تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (15/ 457)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 218) ط دار الكتب العلمية.

أبو حنيفة = هو الإمام فقيه العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي، قال أبو عاصم النبيل: أبوحنيفه يسمى بالوتد لكثرة صلاته. ختم أبو حنيفة القرآن سبعة آلاف ختمة. توفي في سجن بغداد سنة 150 هـ.

حماد = هو الإمام المجتهد فقيه الكوفة أبو إسماعيل حماد بن أبي سليمان، ما سُمع عبد الملك الشيباني ذكر حمادًا إلا أثنى عليه. توفي سنة 120 هـ.

(3)

تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (15/ 466)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 219).

أبو يوسف = هو الإمام العلامة المجتهد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، أول من لقب بقاضي القضاة، كان ورده من الليل مائتي ركعة، وبلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه. توفي سنة 182 هـ.

ص: 23

ذلك لأنَّ فضل الأبوين هو مجيء العبد إلى الدنيا، أما العلماء هم سبب في رحيل العبد إلى مرضات الله والدار الآخرة فهل يستويان؟!

قال أحمد بن حنبل:

منذ ثلاثين سنة وأنا أدعو للشافعي، وأستغفر له

(1)

.

وهذا ليس كثيرًا على المعلم، بل هو أقل ما يقدم له ردًّا لبعض جميله، وشكرًا لنعمة ربه عليه أن وفق له من يعلمه.

سأل رجل أحمد بن حنبل فقال:

عندنا بالري - مدينة بالمشرق - شاب يقال له: أبوزرعة، فغضب أحمد، وقال تقول شاب - كالمنكر عليه -، ثم رفع يديه وجعل يدعو الله لأبي زرعة يقول: اللهم انصره على من بغى عليه، اللهم عافه، اللهم ادفع عنه البلاء

(2)

.

(1)

حلية الأولياء لأبي نعيم (9/ 98)، مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 55)، سير أعلام النبلاء (10/ 82)، تاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 346). وفي بعض الروايات أنه قال: منذ أربعين سنة. وكان الصحابي الجليل أبو الدرداء يقول: إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم.

(2)

سير السلف الصالحين لأبي القاسم الأصبهاني (ص 1225)، إكمال تهذيب الكمال لمغلطاي الحنفي (9/ 46).

أبو زرعة = هو سيد الحفاظ عبيد الله بن عبد الكريم بن فروخ الرازي، لما قدم على أبي عبد الله أحمد بن حنبل استأثر بمذاكرته على النوافل. قال عبد الواحد بن غياث: ما رأى أبو زرعة بعينه مثل نفسه. توفي سنة 264 هـ.

ص: 24

قال عبد الله بن أحمد قلت لأبي:

أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟

قال: يا بني كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف، أو منهما من عوض؟!

(1)

.

وما أجمل وأحسن هذا التشبيه!

هو للناس كالشمس في ضوئها، وإزالة الظلمة عن أهلها، وبعث الدفء والراحة في ربوعها، بل وكالعافية للناس؛ إذ إنَّ العافية هي باب الرزق، ودليل القوة، وطريق الكفاف والراحة، وعدم الحاجة، وغير ذلك من المعاني الجليلة.

بل ومن فضلهم أنهم إذا رُؤُوا ذُكِرَ الله تعالى.

كان محمد بن سيرين إذا مر في السوق فما يراه أحد إلا ذكر الله تعالى

(2)

.

(1)

تاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 348)، سير أعلام النبلاء (10/ 45)، تهذيب الكمال (24/ 371).

(2)

تاريخ الإسلام للذهبي (3/ 153)، سير أعلام النبلاء (4/ 610)، تذكرة الحفاظ (1/ 62).

محمد بن سيرين = هو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري مولى أنس بن مالك، توفي سنة 110 هـ.

ص: 25

قال أبو حنيفة:

إن لم يكن أولياء الله في الدنيا والآخرة الفقهاء والعلماء، فليس لله ولي

(1)

.

من أجل ذلك كان لقاء أهل العلم وورثة الأنبياء فخر للعبد.

قال أبو عبد الله البخاري:

إنَّ أبي سمع من مالك، ورأى حمادًا، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه

(2)

.

فيفتخر البخاري رحمه الله أنَّ أباه سمع من مالك، ليس هذا فحسب، بل عَدَّ البخاري رؤية أبيه لحمّاد، ومصافحته لعبد الله بن المبارك فخرًا.

ومن أجل ذلك عدَّ الشافعي زيارة أحمد له فضلًا منه أي من أحمد، وزيارته لأحمد فضلًا له أي للشافعي. ياله من أدب جم، وخلق سامي!!.

(1)

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 150) ط دار ابن الجوزي، وأيضاً ورد عن الإمام الشافعي أنه قال: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة فما لله ولي. (مناقب الشافعي للبيهقي).

(2)

التاريخ الكبير للبخاري (1/ 342) ط دائرة المعارف. الهند، سير أعلام النبلاء للذهبي (12/ 392).

البخاري = هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح، كان آيه في الحفظ والذكاء، توفي سنة 256 هـ.

ص: 26

فنُسب له قوله:

قالوا يزورك أحمد وتزوره

قلت الفضائل ما تعدت منزله

إن زارني فبفضله أو زرتُه

فلفضله فالفضل في الحالين له

(1)

قال عبد الله بن المعتز:

العالم يعرف الجاهل، لأنه قد كان جاهلًا، والجاهل لا يعرف العالم، لأنه لم يكن عالمًا

(2)

.

ونُسِب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله:

النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكْفَاءُ

أَبُوهُمْ آدَمٌ، وَالْأُمُّ حَوَّاءُ

فَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَا نَسَبٌ

يُفَاخِرُونَ بِهِ، فَالطِّينُ وَالْمَاءُ

مَا الْفَخْرُ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، إِنَّهُمْ

عَلَى الْهُدَى لِمَنْ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ

وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ

وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ

وهذا المعنى مأخوذ من قول الله سبحانه: بل كذبوا بما لم يحيطوا

(1)

شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد (3/ 188) ط دار ابن كثير.

قال الحسن البصري: الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلم. وقال بعض أهل العلم: لولا العلماء لصار الناس كالبهائم.

(2)

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 150) ط دار ابن الجوزي، وأدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي (ص 37) ط مكتبة الحياة.

ومن الطرائف أنَّ ابن الخليل بن أحمد دخل عليه، وهو يقطع بيت شعر، فخرج وقال: إن أبي قد جُنَّ، فقال الخليل:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت تفهم ما أقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتكا

ص: 27

بعلمه

(1)

.

وكفى بالعلم وأهله شرفا أنَّ الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع

(2)

.

بل بمجرد سلوك العبد طريق العلم يسهل الله له طريقاً إلى الجنة

(3)

.

وما أحسن ما وصف به الشاعر الأندلسي العلم وأهله فقال:

هُوَ الْعَضَب المهند لَيْسَ ينبو

تصيب بِهِ مقَاتل من ضربتا

وكنز لَا تخَاف عَلَيْهِ لصًّا

خَفِيف الْحمل يُوجد حَيْثُ كنتا

يزِيد بِكَثْرَة الْإِنْفَاق مِنْهُ

وَينْقص إِنْ بِهِ كفًّا شددتا

(4)

(1)

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 150)، وأيضاً ذكر ابن عبد البر الأبيات في جامع بيان العلم (1/ 218) وقال: وينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه من قوله وهو مشهور من شعره سمعت غير واحد ينشده له.

عبد الله بن المعتز = هو الأمير الهاشمي الأديب الشاعر أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل، توفي سنة 296 هـ.

(2)

يشير إلى حديث صفوان بن عسال المُرادي مرفوعاً الذي أخرجه أحمد في مسنده (18093)، والطيالسي في مسنده (1261)، وعبد الرزاق في مصنفه (793)، وابن ماجه في سننه (226) بإسناد حسن.

(3)

يشير إلى حديث أبي هريرة مرفوعاً الذي أخرجه مسلم في صحيحه (2699)، وفيه:" من سلك طريقا يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ".

(4)

من ديوان أبي إسحاق الألبيري (ص 26) ط دار قتيبة، مجموعة القصائد الزهديات لعبد العزيز السمان (1/ 75).

أبو إسحاق الإلبيري = هو الشاعر الأندلسي إبراهيم بن مسعود بن سعيد التجيبي الإلبيري. توفي سنة 460 هـ.

ص: 28

ومن أجل كل ذلك كان من أشد العقوبات أن يحرم الله الناس من أهل العلم.

قال ابن عيينة:

وأي عقوبة أشد على أهل الجهل من موت أهل العلم

(1)

.

- الأدب مع العلماء؛ لأنهم أهل الذكر والفتوى، قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].

بل إنَّ الحياة لا تحلو ولا تحل بعيدًا عنهم، فلقد ذكر بعض أهل العلم أنه لا يحل للعبد أن يجلس في مكان ليس فيه أحد من أهل العلم ليعلمه ما يحتاج إليه من أمر دينه.

قال ابن حزم:

فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو حصن أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها

، ثم قال: فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين في صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم وإن كانوا بالصين

(2)

.

(1)

الجامع لأخلاق الراوي (1/ 210)، شرح السنة لأبي القاسم البغوي (1/ 318) ط المكتب الإسلامي.

(2)

الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/ 122) ط دار الآفاق.

ابن حزم = هو الإمام علي بن أحمد بن حزم الأندلسي الظاهري، كان شافعيًّا ثم انتقل إلى المذهب الظاهري حتى لقب به، تفرغ للعلم والتأليف، وأحرقت مؤلفاته علانية بإشبيلية، له مؤلفات عديدة، توفي سنة 456 هـ.

قال يحيي بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم، قيل له: كيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة، قال بعض أهل العلم: من عادى السلطان خسر دنياه، ومن عادى العلماء خسر دينه.

ص: 29

- الأدب مع العلماء؛ لأنهم أحسن الناس قولًا، قال الله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

_ الأدب مع العلماء؛ لأنهم الهداة إليه، قال تعالى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7].

- الأدب مع العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم "إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا، ولا درهمًا، وإنما وَرَّثُوا العلم"

(1)

.

ولما كان العلماء ورثة الأنبياء استحقوا التوقير، والتقدير، والمهابة.

قال طاووس: من السنة أن تُوَقِّرَ العالم

(2)

.

(1)

أخرجه: أبو داود في سننه (3641)، والترمذي في سننه (2682)، وابن ماجه في سننه (223)، وقال الأرناؤوط: حسن بشواهده.

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في المصنف (20133)، والبيهقي في المدخل إلى السنن (664)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1139) بلفظ:" من السنة أن يوقر أربعة: وذكر منهم العالم " بإسناد صحيح إلى طاووس، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (719) بلفظ:" من السنة أن توقر العالم ".

وطاووس = هو الفقيه الحافظ أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان اليمني، قال عنه ابن عباس: إني لأظن طاووس من أهل الجنة، وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدًا مثله قط. توفي سنة 106 هـ.

قال إبراهيم النخعي: كنا نأتي مسروقاً أي الأجدع فنتعلم من هديه ودلِّه.

ص: 30

ورُئِىَ ابن عباس يأخذ بركاب أبيِّ بن كعب، فقيل له: أنت ابنُ عم رسول الله تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟!

فقال: إنه ينبغي للحَبر أن يُعَظَّمَ ويُشَرَّفَ

(1)

.

قال عبد الرحمن بن حرملة:

ما كان إنسان يجترئ على سعيد بن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يُستَأْذن الأمير

(2)

.

(1)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/ 188) ط مكتبة المعارف، وأيضاً في الجامع للخطيب (1/ 188) عن الشعبي، قال: أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت، فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء.

والحَبر بالفتح = هو العالم، وأيضاً يجوز قول الحِبر بالكسر.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/ 184) ط مكتبة المعارف، وانظر إلى ما قاله المغيرة بن مقسم الضبي في الجامع للخطيب: كنا نهاب إبراهيم أي النخعي كما يهاب الأمير.

سعيد بن المسيب = هو الإمام سيد التابعين في زمانه أبو محمد سعيد بن المسيب ابن حزن المخزومي، تزوج من بنت أبي هريرة رضي الله عنه، قال عنه ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. توفي بعد 90 هـ.

ص: 31

قال أبو عاصم:

كنا عند ابن عون وهو يُحَدِّث، فمر بنا إبراهيم بن عبد الله بن حسن في موكبه، وهو إذ ذاك يُدعى إماماً، بعد قتل أخيه محمد، فما جسر أحد أن يلتفت فينظر إليه فضلًا عن أن يقوم هيبة لابن عون

(1)

.

قال الإمام أحمد بن إسحاق الفقيه:

ما رأيت في المحدثين أهيب من إبراهيم بن أبي طالب كنا نجلس كأن على رءوسنا الطير، عطس أبوزكريا العنبري فأخفى عطاسه، فقلت له سرًّا: لا تخف فلست بين يدي الله

(2)

.

- الأدب مع العلماء؛ لأنَّ مقامهم أعلى المقامات بعد مقام النبوة:

قال ابن المبارك: لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء

(3)

.

(1)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/ 185).

وابن عون = هو الإمام الحافظ أبو عون عبد الله بن عون البصري الذي قال عنه الأوزاعي: إذا مات ابن عون وسفيان استوى الناس، وقال عنه ابن المبارك: ما رأيت أفضل من ابن عون. توفي 150 هـ.

(2)

سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 547) ط الرسالة، تذكرة الحفاظ له أيضاً (2/ 157) ط دار الكتب العلمية.

وإبراهيم بن أبي طالب = هو إمام المحدثين في عصره، قال عبد الله بن سعد: ما رأيت مثل إبراهيم توفي سنة 295 هـ.

(3)

إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (1/ 219) ط دار المعرفة.

ابن المبارك = هو الإمام الزاهد أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك الحنظلي، وقال أبو أسامة: ابن المبارك في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الحديث. قال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، توفي سنة 181 هـ.

ص: 32

-الأدب مع العلماء؛ لأنهم أرحامنا وآباؤنا وأجدادنا في العلم:

قال صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم

"

(1)

.

وقال النووي عن أهل العلم:

إنهم أئمتنا وأسلافنا كالوالدين لنا، وقال عن أبي العباس بن سريج وهو أحد أجدادنا في سلسلة الفقه

(2)

.

-الأدب مع العلماء؛ لأنهم في البلاد كالعين العذبة، أو المصباح المضيء، أو الغيث والمطر:

فكل عالم مصباح زمانه يستضئ به أهل زمانه وعصره، قيل: العالم كالعين العذبة نفعها دائم، وقيل: العالم كالغيث حيث وقع نفع، وقيل: هو كالسراج مَنْ مَرَّ به اقتبس

(3)

.

قال ابن القيم رحمه الله:

(1)

أخرجه: أحمد في مسنده (7368)، النسائي في سننه (40)، وابن ماجه في سننه (313) بإسناد حسن.

(2)

المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 156) ط دار الفكر.

ابن سريج = هو أحمد بن عمر بن سريج القاضي وهوناشر مذهب الشافعي. قال عنه الخطيب: هو إمام أصحاب الشافعي في وقته. وقال الشيرازي: كان يفضل على أصحاب الشافعي حتى على المزني. توفي سنة 306 هـ.

(3)

نشر طيّ التعريف في فضل حملة العلم الشريف والرد على ماقتهم السخيف لأبي حامد الوَصَابي الشافعي (ص 38).

ص: 33

فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]

(1)

.

-الأدب مع العلماء؛ لأنَّ الإنسان يولد بين أيديهم أي يولد بالشريعة والفهم والعلم.

قال ابن القيم رحمه الله:

سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر ذلك ويفسره بأنَّ الولادة نوعان: أحدهما هذه المعروفة، والثانية ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس وظلمة الطبع، قال: وهذه الولادة لما كانت بسبب الرسول كان كالأب للمؤمنين، وقد قرأ أبي بن كعب رضي الله عنه "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم".

قال: ومعنى هذه الآية والقراءة في قوله تعالى وأزواجه أمهاتهم إذ ثبوت أمومة أزواجه لهم فرع عن ثبوت أبوته.

قال: فالشيخ والمعلم والمؤدب أب الروح، والوالد أب

(1)

إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 9).

ص: 34

الجسم

(1)

.

قال الشاعر:

أُفَضِّلُ أستاذي على فضل والدي

وإن نالني من والدي المجد والشرف

فهذا مربي الروح والروح جوهر

وذاك مربي الجسم والجسم كالصدف

(2)

- الأدب مع العلماء؛ لأنَّ مفاتح العلوم بأيديهم:

قال الشاطبي:

وقد قالوا: إنَّ العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال

(3)

.

(1)

مدارج السالكين لابن القيم (3/ 69).

(2)

موسوعة الأخلاق لخالد الخراز (ص 324) ط مكتبة الأثر.

(3)

الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي (1/ 140) ط دار ابن عفان، وزاد الشاطبي، فقال: والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.

والشاطبي = هو العلامة الأصولي الحافظ إبراهيم بن موسى الغرناطي المالكي. توفي سنة 790 هـ.

ص: 35

‌الأدب قبل العلم

فالأدب هو سبيل الانتفاع بالعلم، وهو بركته، وأساسه، وهو فرشه وحصيره، وهو طريق حمايته، وهو الأرض الخصبة له؛ لذا كان لزامًا أن يكون الأدب قبل العلم.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه:

تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم

(1)

.

قال ابن المبارك:

كانوا يطلبون الأدب ثم العلم

(2)

.

قال الثوري:

ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان الرجل لا يكتب الحديث حتى يتأدب

(3)

.

(1)

غرائب حديث الإمام مالك بن أنس لابن المظفر البغدادي (ص 100) ط دار السلف، حلية الاولياء لأبي نعيم (6/ 330) ط دار السعادة.

(2)

غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (1/ 446) ط مكتبة ابن تيمية.

(3)

حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (6/ 361)، وقال الإمام مالك بن أنس لفتى من قريش:" يا ابن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم ". حلية الأولياء (6/ 330).

الثوري = أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري الكوفي، قال عنه ابن المبارك: ما كتبت عن أفضل منه. وقال ورقاء: لم ير سفيان مثل نفسه. قال شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم. توفي سنة 161 هـ.

ص: 36

قال مخلد بن الحسين لابن المبارك:

نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم

(1)

.

وكل هذا يدل على أنَّ الأدب لا بد أن يسبق العلم حتى يُحْمَى طالب العلم من مهاوي الكبر، والعجب، وآفات الطلب.

فالعلم كالبذرة تحتاج خمسة أمور لكي تصلح:

تحتاج أرضًا خصبة تنبت فيها، ومصدرَ رَيٍّ يرويها، وتحتاج سمادًا يغذيها، وأدوية من الآفات والمهلكات تحميها، ومتعهد لها في كل وقت يراعيها.

• وكل ذلك يكمن بالنسبة للعلم في كلمة من خمسة حروف هي " الأدب ".

(1)

الجامع لأخلاق الراوي (1/ 80)، تاريخ دمشق لابن عساكر (32/ 445)، تذكرة السامع والمتكلم (ص 32).

مخلد بن الحسين = أبو محمد مخلد بن الحسين البصري. قال أبو داود: كان أعقل أهل زمانه. توفي سنة 191 هـ.

ص: 37

‌كيف يُنَالُ الأدب؟

• هناك أمور عدة يُنَالُ بها الأدب، ومن أهمها:

•‌

‌ الرحلة في طلب الأدب:

يُنَال الأدب بالرحلة في طلب الأدب، فكما يرحل العبد لتعلم العلم لابد أن يرحل لتعلم الأدب، يجلس بين أيدي أهل العلم والأدب، ويتعلم من هديهم، وسمتهم، ودَلِّهم.

قال ابن سيرين:

كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرحلون في تعلم الهدى والسمت (أي الأدب) كما يرحلون في تعلم العلم

(1)

.

وقال الحسن البصري:

كانوا يرحلون السنتين تلو السنتين في تعلم الأدب

(2)

.

وكان ابن المبارك يقول:

تعلمت الأدب في ثلاثين سنة، ثم تعلمت العلم في عشرين سنة

(3)

.

(1)

تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 31) ط البشائر.

(2)

تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 31) ط البشائر.

(3)

غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (1/ 446)، ترتيب المدارك للقاضي عياض (3/ 39).

ص: 38

عن أبي بكر المطوعي قال:

اختلفت إلى أحمد بن حنبل اثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ المسند على أولاده، فما كتبت عنه حديثًا واحدًا، وإنما كنت أنظر إلى هديه

(1)

.

قال ابن المبارك:

إذا وُصِفَ لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلًا له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتأسف على فوته

(2)

.

قيل للشافعي: كيف شهوتك للأدب؟

فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أنَّ لها أسماعًا فتنعم به، فقيل له: وكيف طلبك له؟ فقال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره

(3)

.

(1)

مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 288)، سير أعلام النبلاء للذهبي (11/ 316) ط الرسالة.

(2)

الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي (3/ 552) ط عالم الكتب، وقال أيضاً: طلبت العلم فأصبت فيه شيئا، وطلبت الأدب فإذا أهله قد ماتوا، هذا الكلام من شيخ الإسلام الإمام الزاهد ابن المبارك، وهو من هو في العلم والأدب، وعن أي زمان يتحدث عن زمان الأئمة والعباد، فماذا عن زماننا!!!.

(3)

مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 144)، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 32) ط دار البشائر.

ص: 39

•‌

‌ النظر في سير أهل الأدب:

ومما يكتسب به العبد صفة الأدب النظر في سير أهل الأدب، ليعلم كيف كانوا يتدأبون، فإنَّ الطالب لابد أن يكون له قدوات في كل مجال تبين له المنارات، وتُهَوِّن عليه اقتحام العقبات؛ لذا كان لابد من النظر في سيرهم، ومعرفة أحوالهم في هذا المجال.

وبالنظر في أحوالهم نجد أنَّ أدبهم كان في كل وقت، وفي كل مكان، وعلى كل حال، ومن ذلك:

•‌

‌ الأدب عند التعلم:

فعند التعلم التزموا الأدب، وهذا هو أَجَلُّ مقامات الأدب؛ إذ إنَّ العلم لا يُنال إلا إذا تحلى صاحبه بالأدب، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتعلم طالب علم، أو إمامًا عالمًا، فإذا كان في مقام المتعلم لا بد وأن يتحلى بالأدب.

قال ابن ماجة القزويني:

جاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل، فبينا هو عنده، إذ مر الشافعي على بغلته، فوثب أحمد يسلم عليه، وتبعه، فأبطأ، ويحيى جالس، فلما جاء، قال يحيى: يا أبا عبد الله كم هذا؟ فقال: دع عنك هذا؟ إن أردت الفقه، فالزم ذنب البغلة

(1)

.

(1)

مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 252)، سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ 87)، تاريخ دمشق (51/ 355).

ص: 40

قال قتيبة بن سعيد:

قدمت بغداد ولم يكن همي إلا أن ألقى أحمد بن حنبل، فإذا هو جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يدي، وقال: أملِ علي، ثم تذاكرنا، فقام أيضًا وجلس بين يدي.

فقلت: يا أبا عبد الله اجلس مكانك.

فقال: لا تشتغل بي، إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه

(1)

.

عن إدريس بن عبد الكريم قال: قال لي سلمة بن عاصم النحوي: أريد أن أسمع كتاب العدد من خلف، فقلت لخلف، قال: فليجئ، فلما دخل رفعه لأن يجلس في الصدر، فقال: لا أجلس إلا بين يديك، وقال هذا حق التعليم، فقال له خلف: جاءني أحمد بن حنبل ليسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أدفعه فأبى، وقال: لا أجلس إلا بين يديك؛ أُمِرْنا أن نتواضع لمن نتعلم منه

(2)

.

قال إسحاق الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده فيقف بين يديه علي بن المديني،

(1)

مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 71) ط دار هجر.

قتيبة بن سعيد = هو الإمام أبو رجاء قتيبة بن سعيد الثقفي، وهو من شيوخ البخاري ومسلم، توفي سنة 240 هـ.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب (1/ 198)، تاريخ بغداد له أيضاً (10/ 195).

سلمة بن عاصم = هو إمام العربية أبو محمد سلمة بن عاصم النحوي، كان حاذقاً بالعربية. توفي سنة 310 هـ.

ص: 41

والشاذكوني، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم؛ يسألونه عن الحديث، وهم قيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحد منهم اجلس، ولا يجلسون هيبة وإعظامًا

(1)

.

وهؤلاء هم مَنْ منهم مكانة وعلمًا وفضلًا!! لكنه الأدب!!!

•‌

‌ الأدب عند السؤال:

وهذا مجال آخر من مجالات الأدب، وهو عند السؤال والاستفتاء، وذلك يكون بأمور منها:

(1)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/ 185)، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 71).

يحيى القطان = هو الإمام الحافظ أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان، قال عنه أحمد: ما رأيت مثله. توفي سنة 198 هـ.

علي بن المديني = أبو الحسن علي بن عبد الله بن المديني، قال عبد الرحمن بن مهدي: أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال البخاري: ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي بن المديني، توفي سنة 234 هـ.

الشاذكوني = هو الحافظ أبو أيوب سليمان بن داود الشاذكوني، كان من أحفظ الناس للحديث. توفي سنة 234 هـ.

عمرو بن علي = هو الحافظ أبو حفص عمرو بن علي الفلاس، قال ابن إشكاب: ما رأيت مثله توفي سنة 249 هـ.

يحيى بن معين = هو إمام الجرح والتعديل أبو زكريا يحيى بن معين الغطفاني، قال ابن المديني: لا نعلم أحدًا من لدن آدم كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين، توفي سنة 233 هـ.

ص: 42

ينبغي لطالب العلم أن يحسن السؤال والمسألة، وأن يرفق بشيخه عند السؤال، ويدعو له، فإن ذلك خير سبيل إلى بلوغ مرامه.

عن سليمان بن يسار وابن وهب أنهما قالا:

حسن المسألة نصف العلم

(1)

.

كان عبيد الله بن عبد الله يلاطف ابن عباس فكان يغره غَرًّا (أي يغذيه كما يغذي الطائر صغيره)

(2)

.

قال ابن جريج:

لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به

(3)

.

(1)

جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/ 381)، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 64).

سليمان ين يسار = هو الإمام فقيه المدينة أبو أيوب سليمان بن يسار الهلالي، وهو أحد فقهاء المدينة.

ابن وهب = هو الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم المصري، قال سفيان بن عيينة: هذا شيخ أهل مصر، ولما مات قال: أصيب به المسلمون عامة، وأصبت به خاصة. توفي سنة 197 هـ.

(2)

فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (2/ 959) ط الرسالة، الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/ 209).

عبيد الله بن عبد الله = هو الإمام مفتي المدينة أبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، وكان بحرًا من بحور العلم. اختلف في وفاته فقيل: سنة 94 هـ، وقيل: 98 هـ.

(3)

جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/ 423) ط دار ابن الجوزي.

ابن جريج = الإمام أبو خالد عبد الملك بن عبد العزيز، وقال أحمد: كان من أوعية العلم، توفي سنة 150 هـ.

عطاء = هو الإمام مفتي الحرم أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي، قال أبو حنيفة: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء. توفي سنة 114 هـ.

ص: 43

وكان الشافعي يقول للربيع:

لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك

(1)

.

قال الأصمعي:

لم أر مثل الرفق في أمره

أخرج العذراء من خدرها

من يستعن بالرفق في أمره

قد يخرج الحية من جحرها

(2)

وعلى العكس من ذلك من لم يرفق بالعلماء حرم خيرًا كثيرًا.

قال الزهري:

كان أبو سلمة يسأل ابن عباس فكان يخنز عنه

(3)

.

(1)

مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 147)، طبقات الشافعية للسبكي (2/ 134).

الربيع = الإمام المحدث أبو محمد الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي وناقل علمه. توفي سنة 270 هـ.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب (1/ 9209)، تهذيب الكمال للمزي (29/ 359) ط الرسالة.

الأصمعي = هو لسان العرب أبو سعيد عبد الملك بن قريب. أثنى عليه الشافعي وأحمد، توفي سنة 216 هـ.

(3)

الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 250) ط دار صادر، الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/ 209).

أبو سلمة = هو فقيه المدينة أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، هو أحد فقهاء المدينة السبعة، توفي سنة 94 هـ.

ص: 44

وليس المراد هنا مجرد السؤال، بل المماراة وعدم الرفق.

قال الشعبي:

كان أبو سلمة يماري ابن عباس؛ فحرم بذلك خيرًا كثيرًا

(1)

.

بل قال أبو سلمة نفسه:

لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيرًا

(2)

.

•‌

‌ الأدب في تحين الوقت المناسب:

فمن الأدب مراعاة الوقت المناسب للشيخ الذي يكون فيه خالي الذهن نشيطًا، فإنَّ هذا أدعى لأخذ ما يحتاجه الطالب من العلم.

قال ابن عباس:

إن كنت لآتي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيته نائمًا لا أوقظه، وإن رأيته مغمومًا لم أسأله، وإن رأيته مشغولًا لم أسأله

(3)

.

(1)

التاريخ الكبير لأبي عبد الله البخاري (5/ 130) ط دائرة المعارف، جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/ 517).

(2)

أخرجه: الآجري في أخلاق حملة القرآن (65)، والدارمي في سننه (418)، (577) بإسناد صحيح.

(3)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب (1/ 212).

ص: 45

وهذا أدب راقٍ من ابن عباس وفهم عال، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا التزم الأدب مع معلميه؛ ولذا صار ابن عباس بعدها حبر الامة، وبحرها.

قال أبوعبيد القاسم بن سلام:

ما أتيت عالمًا قط فاستأذنت عليه؛ ولكن صبرت حتى يخرج علي، وتأولت قول الله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5]

(1)

.

وهذا يعني أنهم كانوا ينزلون العلماء منزلة الأنبياء؛ لذا تأول القاسم بن سلام الآية على ذلك.

قال ابن جماعة:

لا يقرأ عند شغل قلب الشيخ، أو ملله، أو غمه، أو غضبه، أو جوعه، أو عطشه، أو نعاسه

(2)

.

(1)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب (1/ 158)، طبقات المفسرين للداوودي (2/ 41).

أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي هو الإمام العلامة المتفنن، سُئل عنه ابن معين فقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد، أبو عبيد يُسأل عن الناس. توفي سنة 224 هـ.

(2)

تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 123) ط دار البشائر.

ابن جماعة = هو القاضي بدر الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني، توفي سنة 733 هـ.

ص: 46

•‌

‌ الأدب عند مخاطبة الشيخ، أو التحدث عنه:

قال الخطيب البغدادي:

من أدب الطالب مع شيخه أن ينبله في الخطاب، ويبجله في الألفاظ، ولا تكون مخاطبته له كمخاطبته أهل السوق ...... فقد قال تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا (63)} [النور: 63]، وهذا أصل في أن يميز ذو المنزلة بمنزلته

(1)

.

ولما دخل ربيعة على الوليد بن يزيد، وهو خليفة، فقال يا ربيعة حدثنا.

فقال: ما أحدث شيئًا، فلما خرج من عنده قال: ألا تعجبون من هذا الذي يقترح علي كما يقترح على المغنية: حدثنا يا ربيعة

(2)

.

وحكي أن فتوى وردت من السلطان إلى الطبري لم يكتب له الدعاء فيها (فإنَّ من أدب المستفتي أن يدعو لشيخه، كأن يقول: رحمك الله، أو وفقك الله، ونحوه)، فكتب في أسفل الرسالة الجواب، ولم يزد على ذلك، فلما عادت الرقعة إلى السلطان علم أن ذلك كان للتقصير في الخطاب، فاعتذر إليه

(3)

.

(1)

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 379).

(2)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/ 366).

(3)

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 383) بتصرف.

ص: 47

قال علي بن المديني: أمرني سيدي أحمد بن حنبل ألا أحدث إلا من كتاب

(1)

.

•‌

‌ الأدب عند الجلوس أمام الشيخ:

قال ابن جماعة:

فلا بد للطالب أن يجلس بين يدي أستاذه متأدبًا بسكون، وإطراق رأس، وخضوع، وجلوس الافتراش أو التورك، ويتعاهد تغطية أقدامه، وإرخاء ثيابه، ولا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط أو مخدة، ولا يعطي الشيخ جنبه ولا ظهره

(2)

.

وهذا الشافعي في مجلس مالك يقول:

فأصفح الورق تصفحاً رفيقا هيبة له لئلا يسمع وقعها

(3)

.

وقال الربيع:

ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي

(4)

.

(1)

الجامع لأخلاق الراوي (2/ 12)، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 146)، سير أعلام النبلاء (11/ 200).

(2)

تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة - بتصرف يسير- (ص 104) ط دار البشائر.

(3)

مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 144)، تاريخ دمشق لابن عساكر (14/ 293).

(4)

مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 144)، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 98).

قال ابن المبارك: لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين علمه بالأدب.

ص: 48

قال أحمد بن إسحاق:

ما رأيت في المحدثين أهيب من إبراهيم بن أبي طالب كنا نجلس كأنَّ على رءوسنا الطير، لقد عطس أبوزكريا العنبري فأخفى عطاسه، فقلت له سرًّا: لا تخف إنك لست بين يدي الله

(1)

.

•‌

‌ الأدب عند التعليم والفتوى:

ليس الأدب عند التعلم فقط، بل هو لازم أيضًا عند التصدر والتعليم والفتوى.

قال يحيى بن معين:

الذي يحدث ببلد به من هو أولى منه بالتحديث فهو أحمق، وإذا رأيتني أحدث ببلد فيها مثل أبي مُسهِر فينبغي للحيتي أن تحلق

(2)

.

وكان القاضي أحمد بن إبراهيم المالكي يتردد على الإمام الطحاوي، فجاء رجل، فسأل الطحاوي عن مسألة، فقال الطحاوي مذهب القاضي أيده الله كذا وكذا.

(1)

سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 547) ط الرسالة، تذكرة الحفاظ له أيضاً (2/ 157) ط دار الكتب العلمية.

(2)

الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 286)، تاريخ بغداد (12/ 353)، سير أعلام النبلاء (10/ 231).

أبو مسهر = هو الإمام الحافظ أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي، إليه يرجع أهل الشام في الجرح والعدالة لشيوخهم. قال أبو داود: لقد كان من الإسلام بمكان، حمل على المحنة فأبي، توفي سنة 218 هـ.

ص: 49

فقال السائل: ما جئت إلى القاضي إنما جئت إليك.

قال: هو كما قلت، فأعاد السؤال.

فقال القاضي أفته برأيك، فقال الطحاوي إذًا حيث أذن القاضي، فأقول فيها كذا وكذا

(1)

.

قال الثوري لابن عيينة: ما لك لا تحدث؟

قال وأنت حي فلا

(2)

.

دخل ابن المبارك على المعتمر بن سليمان، وكان يحدث الناس، فسكت، فقام الطلبة، فقالوا: أكمل حديثك، فقال: نحن لا نتحدث عند كبرائنا

(3)

.

وكان الثوري جالسًا فدخل عليه أبو حنيفة فقام الثوري، فقال الطلبة: لم تفعل ذلك؟ فقال: إن لم أقم لعلمه قمت لسنه

(4)

.

(1)

ترتيب المدارك (5/ 265) بتصرف يسير، لسان الميزان (1/ 628) ط دار البشائر.

الطحاوي = هو محدث الديار المصرية وفقيهها أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، توفي سنة 321 هـ.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي (1/ 318)، الكامل في الضعفاء لابن عدي (1/ 236)، الآداب الشرعية (2/ 137).

(3)

الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/ 320).

المعتمر بن سليمان = الإمام الحافظ أبو محمد المعتمر بن سليمان التيمي، كان من كبار العلماء، توفي سنة 187 هـ.

(4)

أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيرمي (ص 81) ط عالم الكتب، تاريخ بغداد (15/ 468).

ص: 50

فهذا هو فعل الأكابر حقًّا أن ينزلوا الناس منازلهم، ولا يتكلمون أو يفتون عند وجودهم.

•‌

‌ الأدب عند الوصف:

ففي علم التراجم والسير يصف العلماء من يترجمون له حتى يُعرَف بوصفه، ويُمَيَّز عن غيره، فكان من هؤلاء العلماء من أصيب في عينه، وهو المسمى بالعور، لكنهم تلطف كثيرٌ منهم عند ذكر هذا الوصف، وحسَّنه، وجمَّله.

ففي الأعلام للزركلي قال:

إبراهيم بن عبد الرحيم الكناني الحموي قاضي مصر والشام، وكان لا ينظر بإحدى عينيه

(1)

.

وفي طبقات الشافعية: وكان القفال مصابًا بإحدى عينيه

(2)

.

وقال بعضهم: كان بإحدى عينيه بياض

(3)

.

ومن أحسن ما كان يقال كما في تاريخ بغداد: عبد الله بن ناجية كان مُمَتَّعًا بإحدى عينيه

(4)

.

(1)

الأعلام للزركلي (1/ 46). صدق من قال: من كمل أدبه كمل طلبه.

(2)

طبقات الشافعية للسبكي (5/ 55) دار هجر، شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد (5/ 88).

(3)

مصنف عبد الرزاق (9/ 330) ط المجلس العلمي الهند (ت الأعظمي).

(4)

تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (11/ 314) ط دار الغرب الإسلامي، تاريخ الإسلام للذهبي (7/ 36).

عبد الله بن ناجية = هو الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن ناجية البربري. توفي 301 هـ.

ص: 51

كل ذلك محاولة للبعد عن كل ما يوهم المذمة والعيب، وإن كان في الوصف والمظهر.

إنه الأدب!!!

•‌

‌ الأدب عند العبادة:

فإذا اجتمعوا مع أهل العلم عند العبادة التزموا الأدب أيضا.

قال محمد بن رافع:

كنت مع أحمد، وإسحاق عند عبد الرزاق، فجاءنا يوم الفطر، فخرجنا مع عبد الرزاق إلى المصلى، ومعنا ناس كثير، فلما رجعنا دعانا عبد الرزاق إلى الغداء، فجعلنا نتغدى معه، فقال لأحمد وإسحاق: رأيت اليوم منكما عجبًا، لَمْ تكبرا! فقالا: يا أبا بكر نحن ننظر إليك هل تكبر فنكبر، فلما رأيناك لم تكبر أمسكنا، قال: وأنا كنت أنظر إليكما هل تكبران فأكبر

(1)

.

(1)

تاريخ دمشق لابن عساكر (36/ 175)، سير أعلام النبلاء للذهبي (9/ 566).

إسحاق = هو الإمام سيد الحفاظ أبو يعقوب إسحاق بن راهويه، توفي سنة 237 هـ.

عبد الرزاق = هو الإمام الحافظ صاحب المصنف أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، توفي سنة 211 هـ.

ص: 52

•‌

‌ الأدب مع المخالف:

وهذا باب من الأدب لا يهتدي إليه إلا الموفق الذي زاده الله تعالى توفيقًا، فإنَّ بعض طلبة العلم قد يتحلى بالأدب مع مشايخه ومعلميه، لكنه لا يستطيع أن يتحلى بالأدب مع مخالفيه، مع أنَّ هذا الأدب من الأهمية بمكان؛ إذ هو دليل التجرد والإخلاص.

ومن ذلك ما ورد أنَّ محمد بن سريج بلغه موت محمد بن داود الظاهري - وكان بينهما مناظرات - حزن له، ونحى مخاده، وجلس للتعزية، وقال: ما آسى إلا على تراب يأكل لسان محمد بن داود

(1)

.

قال ابن القيم عن ابن تيمية:

كان بعض أصحابه الأكابر يقولون: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وجئت يوما مبشرًا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم

(2)

.

(1)

تاريخ بغداد للخطيب (3/ 163)، سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 112)، المنتظم لابن الجوزي (13/ 101).

محمد بن داود = هو العلامة البارع الذكي أبو بكر محمد بن داود الظاهري، توفي سنة 297 هـ.

(2)

مدارج السالكين (2/ 328) ط دار الكتاب العربي، تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام للعمران (ص 90).

ص: 53

ومن ذلك أيضًا:

أنه كان بين الإمامين أبي نعيم وابن منده وحشة شديدة، ومع ذلك لما ذُكِر ابن منده عند أبي نعيم قال كان جبلًا من الجبال

(1)

.

وهذا يدل على الإنصاف، وعدم التعصب، وحسن الظن، وكل هذا من حسن الهدي والسمت والأدب.

قال أبوزرعة:

كنت عند أحمد بن حنبل فذكر له إبراهيم بن طهمان وكان متكئًا من علة، فجلس، وقال: لا ينبغي إذا ذُكِر الصالحون فيتكأ، وقال أحمد: كان مرجئًا، وكان شديدًا على الجهمية

(2)

.

ما أعظم الإمام أحمد من معلم ومؤدب، فلقد أدب الناس بعمله قبل قوله، فجلوسه - مع اتكائه من علة - لتعليم الأدب مع العلماء والصالحين، حتى عند غيابهم، بل بمجرد ذكر أسمائهم، ثم تعليمه الأدب لطلبته بذكره أنه من الصالحين فينبغي أن يُقَدَّر ويُوَقَّر، وأعظم من كل ذلك إنصافه وذكره للخير والشر معًا ليعالج هذا بذاك، فإن أراد أحد أن يعتدي لما عنده من الخطأ نظر إلى ما عنده من الخير

(1)

تاريخ دمشق لابن عساكر (52/ 32)، سير أعلام النبلاء (17/ 32)، لسان الميزان (6/ 577).

(2)

تاريخ بغداد (7/ 20)، سير أعلام النبلاء (7/ 381)، تهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 130).

إبراهيم بن طهمان = الإمام عالم خراسان أبو سعيد إبراهيم بن طهمان الهروي. توفي سنة 168 هـ.

ص: 54

والصواب فأمسك.

حقًّا إنها أخلاق النبوة وورثتهم، وهو أصل عام في هذه الشريعة المطهرة، قال تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].

فأين هذا ممن يفعل الضد تمامًا، فإذا ذُكِرَ أهل العلم لا يَذْكُرُ إلا أخطاءهم وعيوبهم، ويُخفِي فضائلهم وخيراتهم، ثم يدَّعي مع ذلك أنه من أهل السنة، ومتبع منهجهم.

أليس هذا أمرًا عُجابًا؟!

•‌

‌ الأدب عند المناظرة والجدال:

والأدب عند المناظرات أدب عال عظيم المقام؛ إذ إنَّ المناظرات يغلب عليها الانتصار للنفس، والتعصب والحمية، وكأنها ميدان من ميادين المعارك؛ لذا قليلًا مايرى المتعصب في المناظرات الحق وإن كان واضحًا جليًّا؛ لمجرد أنه مع غيره، لكنه بالأدب يهون الخطب، وتهدأ النفوس، وتبصر عيون القلب الحق بمجرد أن يلوح لها؛ لذا قال تعالى في تقرير هذا الأدب حتى في حوار أهل الكتاب {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].

قال الشافعي:

ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة إلا على الحق

(1)

.

أي على إظهار الحق وبيانه.

(1)

آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 68)، سير أعلام النبلاء (10/ 29).

ص: 55

وقال أيضاً:

ما ناظرت أحدًا قط فأحببت أن يخطئ، وما كلمت أحدًا إلا وأحببت أن يُوَفَّق ويُسَدَّد، وما كلمت أحدًا قط إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه

(1)

.

وهذا أدب من تحلى به يكون كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود؛ إذ هو دليل على تجرد وإخلاص يناطح الجوزاء في العلياء، وما يناله إلا ذو حظ عظيم.

•‌

‌ الأدب في الطرقات والشوارع:

وهذا مجال آخر للأدب بعيدًا عن ميدان العلم وحلقات العلم، كي لا يظن ظان أنَّ الأدب مع أهل العلم في حلقات العلم وحلق الذكر فقط، بل إنه في الطرقات والشوارع أيضًا.

ومن ذلك: كان الشيخ شمس الدين الديروطي رحمه الله إذا مر على فقيه ينزل عن دابته، ويسوقها أمامه، ويقبل يده، ثم لا يركب حتى يبعد عنه جدًّا، ويتوارى عنه بجدار أو نحوه

(2)

.

(1)

آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 68)، الفقيه والمتفقه للخطيب (2/ 50)، حلية الأولياء (9/ 118)، مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 174)، وقال أيضاً: وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا ينسب إلي منه شيء.

(2)

الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام للشيخ محمد إسماعيل المقدم (ص 211) ط دار طيبة.

ص: 56

وعن عاصم بن أبي النجود قال:

ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قبل كفي

(1)

.

وكان الإمام مسلم بن الحجاج يلقى البخاري فيقول له:

دعني أقبل رجليك ياأستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين

(2)

.

•‌

‌ الأدب في الخلوات:

مجال آخر للأدب إنه ليس في مجالس العلم، ولا عند ملاقاة أهل العلم، بل هو أدب معهم في الخلوات أي عند غيابهم، إذ إنَّ الأدب معهم هو أدب وتوقير لما يحملون من العلم، وهذ لا يغيب عن خلد المسلم، ولا يذهب عن خاطره، لذا فإنَّ أهل العلم وإن غابوا لا يغيب أثر علمهم في الناس.

يقول أحمد بن حنبل رحمه الله:

استأجر الشافعي دارًا، وكان داره مقابلًا لداري، فكنت لا أمد قدمي نحو بيت الشافعي

(3)

.

وقال أبو حنيفة رحمه الله:

ما كنت أمد قدمي نحو بيت حماد، وكان بيني وبينه سبع سكك

(4)

.

(1)

سير أعلام النبلاء (5/ 257).

(2)

سير أعلام النبلاء (12/ 432).

(3)

الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام للشيخ محمد إسماعيل المقدم (ص 195) ط دار طيبة.

(4)

مناقب الإمام أبي حنيفة (2/ 7) للخوارزمي نقلًا عن الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام للمقدم (ص 195).

ص: 57

•‌

‌ الأدب عند خطأ العلماء:

إنَّ العلماء ليسوا معصومين من الخطإ فلا معصوم إلا الأنبياء، وإن أخطأوا فمن حقهم علينا إسدال النصح، وتسديد الخطإ، ولكن كيف يُصحَّحُ الخطأ.

قال الإمام ابن العربي المالكي:

أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة: وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ، وحضرتُ كلامه على الناس، فكان مِمَّا قال في أول مجلس جلستُ إليه: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم طَلَّقَ وَظَاهَرَ وَآلَى، فَلَمَّا خرج تبعتُه حتى بلغتُ معه إلى منزله في جماعة، فجلس معنا في الدِّهْلِيزِ، وعرفهم أمري، فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه، فَلَمَّا انْفَضَّ عنه أكثرهم قال لي: أراك غريبًا، هل لك من كلام؟ قلتُ: نعم. قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه. فقاموا، وبقيتُ وحدي معه. فقلتُ له: حضرْتُ المجلس اليوم مُتَبَرِّكًا بك، وسمعتك تقول: آلَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصدقتَ، وطلَّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصدقتَ.

وقلتَ: وَظَاهَرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهذا لم يكن، ولا يصحُّ أَنْ يكون؛ لأَنَّ الظِّهار منكر من القول وزور؛ وذلك لا يجوز أَنْ يقع من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَضَمَّنِي إلى نفسه وَقَبَّل رأسي، وقال لي: أنا تائب من ذلك، جزاك اللُّه عني مِنْ مُعَلِّمٍ خيرًا. ثم انقلبتُ عنه، وبكرتُ إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيتُه قد سبقني إلى الجامع، وجلس على

ص: 58

المنبر، فَلَمَّا دخلتُ من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته: مرحبا بِمُعَلِّمِي؛ أفسحوا لِمُعَلِّمِي، فَتَطَاوَلَتِ الأعناقُ إليَّ، وَحَدَّقَتِ الأبصارُ نحوي، - وتعرفني: يا أبا بكر يشير إلى عظيم حيائه، فإنه كان إذا سلَّم عليه أحد، أو فاجأه خجل لعظيم حيائه، واحْمَرَّ حتى كأنَّ وَجْهَهُ طُلِيَ بِجُلَّنَارٍ - قال: وتبادر الناس إليَّ يرفعونني على الأيدي، ويتدافعونني حتى بلغتُ المنبر، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بُقْعَةٍ أنا من الأرض، والجامع غَاصٌّ بأهله، وأسال الحياءُ بدني عَرَقًا، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا مُعَلِّمكم، وهذا مُعَلِّمِي؛ لَمَّا كان بالأمس قلتُ لكم: آلَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَطَلَّقَ، وَظَاهَرَ؛ فما كان أحد منكم فَقِه عني، ولا رَدَّ عليَّ، فَاتَّبَعَني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائبٌ عن قولي بالأمس، وراجعٌ عنه إلى الحق؛ فَمَنْ سمعه مِمَّنْ حضر فلا يُعَوِّلْ عليه. وَمَنْ غاب فَلْيُبَلِّغْهُ مَنْ حضر؛ فجزاه اللَّه خيرًا؛ وجعل يَحْفُلُ في الدعاء، وَالْخَلْقُ يُؤَمِّنون

(1)

.

سبحان مَنْ أدَّب هؤلاء، ووفقهم للصواب، وألهمهم إياه!!

إنَّ هذا من المواقف التي يقف المتأمل فيها حيرانًا من هؤلاء الأعلام، فأيهما أعظم موقفًا، وأنبل من صاحبه؟!

محمد بن القاسم الذي التزم الأدب مع شيخه، ولم يُهَلِّل فرحًا بحصوله على خطئه، ولم يقف على الملإ لإظهار خطإ شيخه لعلو شأنه، وإظهار مكانته في العلم، وهو غريب بين الناس، وكذلك لم

(1)

أحكام القرآن لابن العربي المالكي (1/ 249) ط دار الكتب العلمية.

ص: 59

ينتظر انصراف شيخه ثم بدأ يذكر الخطأ لتلامذته، ويقول لقد أخطأ شيخكم في كذا وكذا، لا. لا. كل هذا لم يحدث.

ولكنه لحقِّ معلمه عليه نبهه للخطإ بأدب، فأعلمه بالخطإ بينه وبينه، وذلك بعدما طيب نفسه بأمور منها: قوله حضرت المجلس مُتَبَرِّكًا بك أي حدثت لي البركة والعلم بالحضور بين يديك، ومنها بذكر الصواب الذي ذكره أولًا، حيث قال: قلت كذا وصدقت، وقلت كذا وصدقت، ثم ذكر له مؤخرًا الخطأ، وذكر سبب الخطأ.

فهل هذا أعظم أم موقف أبي الفضل؟! العالم المعلم، سيد الناس، وإمامهم في هذا الزمان حين يعترف بخطئه على رؤوس الحاضرين لغريب لا يعرفه، ويسميه معلمًا له، ويدعو له بين الناس وهم يؤمنون، فإنه موقف يدل على متانة الدين، وحسن الأدب والخلق، وتجرد النية، وإخلاص العمل لله.

ولا جرم، فإنَّ هذا حقًّا هو فعل المؤدَّبين المؤدِّبين.

•‌

‌ كيف يصحح الخطأ؟

قال ابن جماعة:

- تكرار اللفظة مع ما قبلها لينتبه لها الشيخ.

- إن لم ينتبه أُتِي بالصواب على هيئة استفهام.

- إن أصر يؤجلها للدرس المقبل ويتأكد منها.

- إن كانت المسألة لا تحتمل التأخير، أو يترتب عليها أضرار ينبهه

ص: 60

بأدب وتلطف

(1)

.

•‌

‌ أدب الوالد مع ولده:

وهذا من أغرب ما يُعْلَم في باب الأدب، فقد يتغلب العالم على نفسه، ويجلس بين يدي معلمه، ولكن أن يتغلب الأب على نفسه، ويجلس بين يدي ابنه جلوس المتعلم، فهذا ما أصعبه على النفس!؛ للعلم بمشقة الطلب ومذلته، لكن من أهل الأدب والفضل مَنْ قدر على ذلك، كل ذلك إجلالًا للعلم وأهله.

كان ربيع القطان من الفقهاء المعدودين، وكان أبوه من أهل العبادة، قال أخوه أحمد: كنا إذا جلسنا مع والدي وخطر في باله شيء من العلم قام من مكانه يبحث بين يدي ربيع ابنه، فيقوم ربيع إليه، ويقول: لم فعلت هذا؟ فيقول: أردت أن أسألك عن شئ من العلم، فقال: هلا وأنت مكانك؟ فيقول: أردت أن أعطي العلم حقه

(2)

.

•‌

‌ أدب الخلفاء مع العلماء:

وهذا مجال آخر للأدب: فإنه مجال يصدق أن يقال عنه " لقاء العمالقة الأكابر "، ولكن الفرق أنه لقاء بين أكابر الدنيا وهم الخلفاء، وأكابر الدين وهم العلماء، فإذا بالخلفاء في هذا اللقاء يدينون لأهل العلم بالفضل والأدب، وإنهم وإن كبروا مهما كبروا لا يكبرون على

(1)

تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 114) ط دار البشائر بتصرف.

(2)

ترتيب المدارك للقاضي عياض (5/ 310) ط دار فضالة المغرب.

ربيع القطان = هو الإمام أبو سليمان ربيع بن عطاء الله، قال ابن حارث: كان فقيهاً مفتياً. توفي سنة 334 هـ.

ص: 61

العلم وأهله؛ لأنهم أعظم الناس مرتبة وفضلًا عند الله بعد الأنبياء؛ فكان لزامًا أن يكونوا كذلك عند الناس إلا من جهل ذلك، أو عاند فيه.

وما أجمل قول المأمون في هذا (كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى): فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرًا عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم.

يقول الأصمعي:

أرسل إليَّ هارون ولده لكي أعلمه، فرآه يومًا يتوضأ ويغسل رجله، وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعاتب الأصمعي في ذلك، وقال إنما بعثته إليك لتعلمه وتأدبه، فلماذا لم تأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه، ويغسل بالأخرى رجلك

(1)

.

قال أبو معاوية الضرير:

صَبَّ عليَّ بعد الأكل شخصٌ لا أعرفه، فقال الرشيد أتدري من يصب عليك؟ قلت: لا، قال: أنا. إجلالًا للعلم

(2)

.

ومن ذلك أيضًا: أنَّ المأمون كان قد أرسل ابنيه إلى الفراء، فلما كان الفراء يريد أن ينهض إلى بعض حوائجه فابتدرا إلى نعل الفراء ليقدمانه، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما

(1)

تعليم المتعلم طريق التعلم للزرنوجي (ص 82) ط المكتب الإسلامي.

(2)

تاريخ بغداد (14/ 8)، سير أعلام النبلاء (9/ 288)، المنتظم لابن الجوزي (8/ 323).

أبو معاوية الضرير = هو الإمام الحافظ أبو معاوية محمد بن خازم الكوفي، توفي سنة 295 هـ.

ص: 62

فردًا فقدماها، وكان المأمون على كل شيء صاحب خبر، فاستدعاه، فلما دخل عليه قال: مَنْ أَعَزُّ الناس؟

قال: لا أعرف أعز من أمير المؤمنين، فقال: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد منهما أن يقدم له فردًا

إلى أن قال: وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرًا عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم

(1)

.

قال أحمد بن حمدون:

دخل هارون بن زياد مؤدب الواثق إليه، فأكرمه، فقيل له: من هذا؟

فقال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله

(2)

.

ومما سبق يُعلَم أنَّ الأدب صفة ملازمة للمؤدبين أصحاب الخلق السامي، والأدب الرفيع في كل وقت، وفي كل مكان، وعلى أي حال سواء كانوا من عامة الناس، أو من طلبة العلم، بل حتى وإن كانوا من الخلفاء أو العلماء.

(1)

تاريخ بغداد (16/ 226)، إنباه الرواة عن أنباه النحاة للقفطي (4/ 17) ط دار الفكر، المنتظم (10/ 179).

الفراء = العلامة النحوي أبو زكريا يحيى بن زياد، قال ثعلب: لولا الفراء لما كانت عربية، توفي سنة 207 هـ.

(2)

تاريخ بغداد (16/ 25)، تاريخ دمشق (73/ 324)، البداية والنهاية لابن كثير (14/ 329) ط دار هجر.

ص: 63

‌الإنكار على مَنْ حاد عن الأدب

كان أهل العلم يزجرون من حاد عن الأدب، وينكرون على من خالف فيه، ولا يسمحون بتجاوز هذا الباب مهما كان قدره ومكانته؛ لأنَّ هذا هو طريق العلم.

ومن ذلك: دخل الحافظ ابن وارة الرازي (وكان فيه زهو) على الإمام الشاذكوني فجعل يتمعر في كلامه فقال له: من أي بلد أنت؟

فقال: من أهل الري ألم يأتك خبري، ألم تسمع بنبئي؟! أنا ذو الرحلتين.

فقال: من روى حديث " إنَّ من الشعر لحكمة "؟

فقال ابن وارة: حدثني بعض أصحابنا.

فقال الشاذكوني: من أصحابك؟

فقال: أبو نعيم، و قبيصة.

فقال: ياغلام ائتني بالدرة، فأمر أن يضرب خمسين ضربة، وقال: أنت تخرج من عندي، وما آمن أن تقول حدثني بعض غلماننا

(1)

.

(1)

الكامل في الضعفاء لابن عدي (4/ 301)، تاريخ بغداد (4/ 422)، تهذيب الكمال للمزي (26/ 450).

أبو نعيم = هو شيخ الإسلام الحافظ أبو نعيم الفضل بن دكين التيمي، توفي سنة 218 هـ، وقيل 219 هـ.

قبيصة = هو الإمام الحافظ أبو عامر قبيصة بن عقبة الكوفي، توفي سنة 215 هـ.

ص: 64

ومما يعجب له المتأمل في ذلك بقاء ابن وارة حتى ضرب خمسين ضربة؛ لعله بذلك ينال العلم، فمع إنكار الشاذكوني عليه، وتعنيفه له، وضربه خمسين ضربة، ومع كل ذلك كان جالسًا يأمل أن يُعَوَّض عن كل ذلك العلمُ.

فياأسفاه!! على بعض طلبة العلم في زماننا ممن لم يسئ لهم أهل العلم، ولم يزجروهم أو ينهروهم بحيدهم عن الأدب، بل يتلطفون لهم، ويرفقون بهم، ومع كل ذلك لم يسلم أهل العلم من لسانهم.

فأهل العلم لهم الله في زمان قل فيه الأدب، وكثر فيه الجهل، وما عليهم إلا تحمل جهل الجاهل حتى يتعلم، وسوء أدب المسيء حتى يتأدب.

فلله درهم، وإعانة الله لهم.

يقول الأصبهاني: حضرت شريكًا وأتاه ابن المهدي أي الخليفة فجلس بجوار الحائط، وسأله سؤالًا فلم يرد عليه شريك، فسأله مرة ثانية فلم يرد عليه، ثم الثالثة فلم يرد عليه، فقال: أراك تستخف بأبناء الخلفاء، فقال له: كلا. ولكن العلم أزين أن تضيعوه، قال: فقام فجلس بين يديه، فقال له شريك: هكذا يُطلب العلم

(1)

.

(1)

تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 99) ط دار البشائر.

ص: 65

قال الإمام مالك رحمه الله:

وجَّهَ إليَّ هارون الرشيد يسألني أن أحدثه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنَّ العلم يؤتي ولا يأتي، قال: فصار إلى منزلي فاستند معي إلى الجدار، فقلت: يا أمير المؤمنين إنَّ من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، قال: فجلس بين يدي، قال: فقال لي بعد مدة: يا أبا عبد الله، تواضعنا لعلمك فانتفعنا به

(1)

.

وهذا دليل على أهمية الأدب، فما كانوا يفرقون في هذا الباب بين خليفة، وعالم، ومتعلم إذا حاد عن الأدب.

ومن ذلك أيضًا:

أنهم كانوا يعدون مجرد الانشغال عن الشيخ في دروس العلم من سوء الأدب يُعاقَب صاحبه عليه، وأعظم عقاب يُعاقَب به طالب العلم هو بحرمانه من العلم.

عن أحمد بن سنان قال:

كان عبد الرحمن بن مهدي لا يُتَحَدَّث في مجلسه، ولا يُبْرَى فيه قلم، ولا يَبْتَسِم أحدٌ فإن تحدث، أو برى قلمًا صاح، ولبس نعليه، ودخل

(2)

.

(1)

الحث على طلب العلم للعسكري (ص 84) ط المكتب الإسلامي.

هارون الرشيد = هو الخليفة أبو جعفر هارون بن المهدي، كان من أنبل الخلفاء، وأحشم الملوك، توفي سنة 193 هـ.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي (1/ 193)، تاريخ دمشق لابن عساكر (63/ 98)، سير أعلام النبلاء (9/ 154).

عبد الرحمن بن مهدي = هو الإمام الناقد المجود أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان البصري، قال ابن المديني: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي. قال الشافعي: لا أعلم له نظيرًا في هذا الشأن، توفي 198 هـ.

ص: 66

وكان بعضهم يعد مجرد السؤال عن أهل العلم لمن ليس أهلًا لذلك من سوء الأدب، قال أبوبكر بن الأثرم، سمعت أحمد بن حنبل، فسئل عن إسحاق بن إسماعيل، فقال: ما أعلم إلا خيرًا إلا إنه

ثم قال - وهو مغتاظ -: مَالَكَ أنت - ويحك - ولذكر الأئمة

(1)

.

وهذا دليل أنَّ مجرد السؤال عن أهل العلم وأخطائهم لا يكون لكل أحد، بل هو لأهل الاختصاص منهم، فضلًا أن يكون التجريح والحكم بالخطأ والصواب، فهذا من باب أولى يكون للعلماء والمختصين، ولا يكون كما يقولون: لكل مَنْ هَبَّ ودَبَّ.

ومن ذلك أيضًا:

أنه لما شرع شمس الدين الجوهري رحمه الله في طلب العلم طاف على أكابر علماء بلده، فلم يعجبه منهم أحد حتى جاء إلى شيخ الإسلام يحيى المناوي، فجلس بين يديه، وفي ظنه أنه يلحقه بمن تقدم، فشرع في القراءة، فتأمل الشيخ فوجد أصبعًا من أصابع رجله مكشوفًا، فانتهره، وقال له: بحال أنت قليل الأدب، لا يجيء منك في الطلب، غَطِّ أصبعك، واستعمل الأدب، فحُمَّ لوقته، وزال عنه ما كان

(1)

تاريخ بغداد (7/ 348)، تهذيب الكمال (3/ 410)، تهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 226) ط دائرة المعارف. إسحاق بن إسماعيل هو الطالقاني أبو يعقوب.

ص: 67

يجده من الاستخفاف بالناس، ولزم دروسه حتى صار رأسًا عظيمًا في العلم

(1)

.

• وهنا فائدة مهمة:

وهي أنَّ التلطف والرفق ليس في كل حال هو علاج من أساء الأدب، بل أحيانًا يكون الزجر والإنكار عليه حَيْدَه عن الأدب هو علاجه، ويكون فيه نجاته من منزلق وهاوية سوء الأدب.

(1)

فيض القدير للمناوي (1/ 225) ط المكتبة التجارية الكبرى بتصرف.

المناوي = هو شيخ الإسلام قاضي القضاة أبو زكريا يحيى بن محمد المناوي، توفي سنة 871 هـ.

ص: 68

‌الآثار السيئة لمخالفة الأدب

إنَّ لكل خلق تبعات وآثارًا، فإنَّ الخلق الحسن، والأدب الرفيع آثاره حسنة، والأخلاق السيئة آثارها سيئة، ومن الآثار السيئة لعدم التزام الآداب مع أهل العلم ما يلي:

•‌

‌ الوقوع في البدع والضلالات:

فالجزاء من جنس العمل، فمن لم يرض بالعلماء نورًا أبدله الله البدع وأهلها يهوي في ظلماتها، ويصدق عليه قوله تعالى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].

ومن ذلك أنَّ واصل بن عطاء كان تلميذًا للحسن البصرى، وبينما هو جالس فى درسه سأل سائل الحسن البصرى عن مرتكب الكبيرة: أهو كافر كما يقول وعيدية الخوارج، أو مؤمن لا يضره مع الإيمان ذنب كما يقول مرجئة الأمة؟ فتعجل واصل فى الجواب، وقال: لا. هو فى منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وخالف بذلك أهل السنة من السلف، فإنهم لا يحكمون بخروج المؤمن من الإيمان بارتكابه الكبيرة، واعتزل مجلس الحسن، وجلس إلى اسطوانة يقرر مذهبه، واجتمع إليه التلاميذ، فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمى من تبعه فى

ص: 69

ذلك المعتزلة

(1)

.

وهذا من شؤم مخالفة الأدب، فليس من الأدب أن يُسْأَل الحسن البصري، ويجيب واصل في حضرته، وهو تلميذه؛ لذا كانت هذه بداية البدعة له، وأصبح مؤسسًا لمذهب من مذاهب أهل البدع وهم المعتزلة - نسأل الله السلامة والعافية -.

وروي عن إسماعيل بن علية، قال: حدثني اليسع، قال: تكلم واصل بن عطاء يوماً يعني المعتزلي فقال عمرو بن عبيد: ألا تسمعون؟ ما كلام الحسن و ابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيض ملقاة

(2)

.

سبحانك هذا بهتان عظيم!!

إنه لسوء أدب وجرأة على ورثة الأنبياء أن يشبه عمرو بن عبيد كلام الحسن الذي كان العلماء يشبهون كلامه بكلام الأنبياء، وابن سيرين العالم الزاهد الورع يشبه كلامهما بخرقة حيض ملقاة. حقًّا، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

من أجل ذلك لا تعجب إذ يقدر الله لهؤلاء أن كانوا من مؤسسي مذهب من مذاهب أهل البدع.

(1)

الأعلام للزركلي (8/ 109)، سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 464)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 48).

واصل بن عطاء المعروف بالغزّال من موالي بني مخزوم، وكان رأس الإعتزال والمعتزلة. توفي سنة 131 هـ.

(2)

الاعتصام للشاطبي (2/ 2).

ص: 70

•‌

‌ الحرمان من العلم:

ومن جزاء مخالفة الأدب مع أهل العلم هو الحرمان من العلم ولا بد؛ إذ إنَّ العلم لا ينال إلا بالأدب.

قال زكريا الساجي:

جاء ابن وارة إلى أبي كريب، فقال لأبي كريب: ألم يبلغك خبري ألم يأتك نبئي؟! أنا ذو الرحلتين، أنا محمد بن مسلم بن وارة.

فقال وارة، وما وارة، وما أدراك ما وارة؟!

ثم قال: فوالله لا أحدثك، ولا أحدث قومًا أنت فيهم

(1)

.

•‌

‌ سوء الخاتمة:

فإنَّ العبد لا يدري بم يختم له، والأعمال بالخواتيم، وكان السلف يحذرون من الكلام في العلماء والاستمرار عليه خوفًا من ذلك؛ لأنه استمرار وإصرار على كبيرة من الكبائر.

قال الإمام أحمد بن الأذرعي رحمه الله:

الوقيعة في أهل العلم لا سيما أكابرهم من الكبائر

(2)

.

(1)

تاريخ بغداد (4/ 422)، تهذيب الكمال (26/ 451)، سير أعلام النبلاء (13/ 30).

ابن وارة = هو الإمام أبو عبد الله محمد بن مسلم، كان حافظًا، على عُجْبٍ فيه، توفي سنة 270 هـ، وقيل قبلها.

(2)

تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 120)، والرد الوافر (ص 197) نقلاً عن الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام (ص 319).

وقال الإمام مالك بن دينار: كفى بالمرء شرًّا أن لا يكون صالحًا وهو يقع في الصالحين. كما في شعب الإيمان للبيهقي

ولسان حال كثير منهم كما قال الشاعر:

إن يسمعوا هفوةً طاروا بها فرحًا

وما علموا من صالح كتموه.

ونقل القاضي عياض في ترتيب المدارك عن أبي سنان الأسدي أنه قال: إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس؛ متى يفلح؟!.

ص: 71

وقال ابن عساكر رحمه الله:

واعلم ياأخي - وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه، ويتقيه- أنَّ لحوم العلماء-رحمة الله عليهم- مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة.

وقال أيضًا:

ومن أطلق لسانه في العلماء بالسلب ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"

(1)

.

ومما يورده العلماء في ذلك - عفا الله عنا وعن جميع المسلمين - ما حدث للقاضي الفقيه الشافعي محمد بن عبد الله الزبيدي الذي درَّس وأفتى، وكثر طلابه، واشتهر، قال الجمال المصري وإنه شاهده عند وفاته، وقد اندلع لسانه واسود، فكانوا يرون أنَّ ذلك بسبب وقيعته

(1)

تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري لأبي القاسم ابن عساكر (ص 425) ط دار الكتب العلمية.

وأيضاً كما ذكر مخلد قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: ذكرت عند الحسن بن ذكوان رجلاً بشئ، فقال: مه لا تذكر العلماء بشئ، فيميت الله قلبك.

ص: 72

في الشيخ محيي الدين النووي رحمهم الله جميعًا -

(1)

.

• ومن‌

‌ الآثار السيئة للطعن في العلماء أيضًا عزوف الناس عنهم، وتعطيل الانتفاع بعلمهم:

وإنَّ هذا من الإفساد العظيم في الأرض، فإنَّ مُعَطِّلَ انتفاع الناس بطعامهم وشرابهم وحاجاتهم مفسد في الأرض، مستحق للعقاب، بل وسماه الله تعالى محاربًا لله ورسوله، قال تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

فما بالنا بمن عطل على الناس انتفاعهم بأطباء الروح والقلوب، وقطع على الناس طريق الآخرة، بل إنَّ من عظيم الإفساد في هذا الباب أنه يؤدي للطعن في الدين؛ لأنهم حملة الدين ومبلغوه.

(1)

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني (5/ 234) ط دار المعارف العثمانية.

وكما قال الشاعر:

إن السعيد له في غيره عظة وفي التجارب تحكيم ومعتبر

قال الإمام السخاوي في فتح المغيث: إنما الناس بشيوخهم فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟!

ص: 73

قال الشيخ بكر أبوزيد رحمه الله عن الطعن في أهل العلم، وتبديعم، ونحو ذلك:

كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالة وإضلال، وفساد وإفساد، وإذا جُرِحَ شهود الشرع جُرِحَ المشهود به، لكن الأغرار لا يتفقهون، ولا يتثبتون

(1)

.

وغير ذلك من الآثار السيئة، نسأل الله تعالى لنا، ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

(1)

تصنيف الناس بين الظن واليقين للشيخ بكر أبو زيد (ص 94).

وقال العلامة طاهر الجزائري (ت 1338 هـ) وهو على فراش الموت: عدوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم. التعالم للعلامة بكر أبو زيد.

ص: 74

‌الخاتمة

وبها إحدى عشرة نصيحة لطالب العلم

قال الله تعالى {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].

عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم

(1)

.

وعن تميم الداري: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال " الدين النصيحة " قلنا: لمن؟ قال "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"

(2)

.

فمن باب التواصي بالحق، والنصيحة بالخير أختم هذه الرسالة ببعض النصائح، والوصايا المهمة تتمة للفائدة، أوصي بها نفسي، وإخواني من طلبة العلم.

(1)

أخرجه: البخاري في صحيحه (57).

(2)

أخرجه: مسلم في صحيحه (82).

ص: 75

وجعلتها إحدى عشرة نصيحة لأمرين:

الأول: أني جعلتها وترًا؛ لأنَّ الله تعالى وتر يحب الوتر، وكل شيء يحبه الله تعالى نرجو منه الخير، والبركة، والتوفيق والسداد.

الثاني: أني استحضرت حينها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وأنها كانت في أغلبها إحدى عشرة ركعة، وأنه بانقضاء صلاة الليل يبزغ نور الفجر، فجعلتها إحدى عشرة نصيحة أختم بها الرسالة مستبشرًا، ومتفائلًا، ومؤملًا بعدها أن يبزغ نور الفجر، فينفع الله بها، وتستضييء بصائر القلوب، فيستزيد بذلك الساعي إلى الخير في سعيه، ويهتدي الحيران من حيرته، ويفيق الغافل من غفلته، والله الموفق، والهادي إلى الصراط المستقيم.

• أخي وحبيبي طالب العلم:

‌النصيحة الأولى احضر مجالس العلم حضور مستفيد

لا باحثٍ عن العورات

فإنك إن حضرت حضور مستفيد وُفِّقْتَ وأُعِنْتَ، وإلا تُرِكْتَ لنفسك وحُرِمْتَ، يقول الإمام الصنعاني رحمه الله عن هذا الصنف الباحث عن العورات والعثرات: " لئيم الطلبة، وخبيث الحضَّار عند العالم، متتبع العثرات، وكاشف العورات، ودافن الحسنات، قال: وما أكثر هذا النوع لا كَثَّرَه الله فإنهم الذين أفسدوا معالم العلم، وملأوا المواقف على العلماء بأحاديث كاذبة، ثم قال: وبئس الجزاء أن

ص: 76

يجازي التلميذ شيوخه بإشاعة هفواتهم وزلاتهم، فإنه لابد لكل جواد من كبوة، ولكل صارم نبوة:

ومن ذا الذي تُرْجَي سجاياه كلها

كفي بالمرء نبلًا أن تُعَدَّ معايبُه

ثم قال: فخير الناس من أشاع الخير عن العلماء وأذاعه، ودافع عنهم إن سمع قادحاً فيهم

(1)

.

قال ابن حزم:

إذا حضرت مجلس علم فلا يكن حضورك إلا حضور مستفيد، مستزيد علمًا وأجرًا، لا حضور مستغن بما عندك، طالبًا عثرة تُشَنِّعُها، أوغريبة تُشَيِّعُها، فهذه أفعال الأراذل الذين لا يفلحون في العلم أبدًا

(2)

.

‌النصيحة الثانية لا تفرح بخطأ العالم

فالفرح بأخطاء الناس عامة وأهل العلم خاصة دليل على خبث النية، وسوء الطوية.

قال الشيخ بكر أبو زيد:

إذا ظفرت بوهم العالم فلا تفرح به للحط منه، ولكن افرح به

(1)

التنوير شرح الجامع الصغير للأمير الصنعاني (9/ 528) ط دار السلام.

الصنعاني = هو الإمام المجتهد أبو إبراهيم محمد بن إسماعيل الصنعاني. توفي 1182 هـ.

(2)

مداواة النفوس لابن حزم (ص 92) ط دار الآفاق.

ص: 77

لتصحيح المسألة فقط، فإنَّ المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام لا سيما المكثرين منهم، وما يشغب بهذا ويفرح به للتنقص إلا متعالم يريد أن يُطِبَّ زكامًا، فيحدث به جزامًا

(1)

.

‌النصيحة الثالثة لا يمنعنك غلظة العالم أو خطؤه من التزامه والتعلم منه، خذ ما عنده من الخير، واترك له خطأه وغلظته

قال بلال بن أبي بردة:

لا يمنعنكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا

(2)

.

قال الشافعي:

قيل لسفيان بن عيينة: إن قوماً يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يهبوا ويتركوك، قال: هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي

(3)

.

(1)

حلية طالب العلم لبكر أبو زيد (ص 199) ط دار العاصمة.

بكر أبو زيد = هو العلامة المحقق ابن القيم في زمانه بكر بن عبد الله أبو زيد، توفي 1429 هـ.

(2)

عيون الأخبار لابن قتيبة (2/ 140) ط دار الكتب العلمية، تهذيب الكمال (4/ 269).

بلال بن أبي بردة = هو القاضي أبو عمرو ويقال أبو عبد الله بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري. توفي بعد 120 هـ.

(3)

مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 145)، الجامع لأخلاق الراوي (1/ 233).

ص: 78

قال محمد بن هارون الدمشقي:

لمحبرة تجالسني نهاري

أحب إلي من أُنْسِ الصديق

ورِزمة كاغد في البيت عندي

أحب إلي من عِدْلِ الدقيق

ولطمة عالم في الخد مني

ألذ إلي من شرب الرحيق

(1)

‌النصيحة الرابعة أمسك عليك لسانك

طالبَ العلمِ:

اجعل الثنايا الطيبة التي يخرج منها قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم لا يخرج منها السيء والقبيح، فقل خيرًا تغنم، واسكت عن شرٍّ تسلم، قال صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"

(2)

، بل إنَّ الناس يُكَبُّون على مناخرهم يوم القيامة بحصائد ألسنتهم، عن معاذ بن جبل: قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال "لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا

(1)

الجامع لأخلاق الراوي (1/ 106)، جامع بيان العلم وفضله (2/ 1227)، تاريخ دمشق (55/ 245). وتُنسب أيضاً لمحمد بن مروان الدمشقي كما هو مذكور في ترجمته في تاريخ دمشق (55/ 224) ط دار الفكر.

(2)

أخرجه: البخاري في صحيحه (6018)، ومسلم في صحيحه (47) كلاهما من حديث أبي هريرة.

ص: 79

تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل" قال ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، ثم قال " ألا أخبرك برأس الأمر كله، وعموده، وذروته وسنامه؟ " قلت: بلى يا نبي الله "، فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا "فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به؟ فقال " ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"

(1)

.

‌النصيحة الخامسة عليك بالستر والنصح

فالستر مع النصح من خير صفات المسلم فضلًا عن طلبة العلم، وهو يعني أمورًا: حب الخير للناس، وعدم الفرح بخطئهم، وإخلاص العمل لله، وعدم تمني العلو على حساب الغير.

قال الفضيل:

المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير

(2)

.

(1)

أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (22016)، والترمذي في سننه (2616)، والنسائي في السنن الكبرى (11330)، وابن ماجه في سننه (3973)، وصححه الألباني، وقال الأرناؤوط: صحيح بشواهده.

(2)

جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (1/ 325) ط الرسالة.

الفضيل = هو شيخ الإسلام الزاهد أبو علي الفضيل بن عياض التميمي، قال عنه ابن المبارك: ما بقي على وجه الأرض أفضل من الفضيل بن عياض، وكان إماماً ربانيًّا كبير الشأن. وقال شريك: هو حجة لأهل زمانه. توفي سنة 187 هـ.

ص: 80

قال يحيى بن معين:

أخطاء عفان عندي في نيفٍ وعشرين حديثاً، ما أعلمت بها أحدًا، وأعلمته بها سرًّا، ولقد طلب إليَّ خلف بن سالم أن أخبره بها، فما عرَّفته، وكان يحب أن يجد عليه

(1)

.

قال ابن المبارك:

كان الرجل إذ رأى من أخيه ما يكره أمره في ستر، ونهاه في ستر، فيؤجر في ستره، ويؤجر في نهيه

(2)

.

قال يحيى بن معين:

ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته، وأحببت أن أُزَيِّن أمره

(3)

.

(1)

تاريخ بغداد (16/ 263)، طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 405) ط دار المعرفة.

عفان = هو الإمام الحافظ أبو عثمان عفان بن مسلم، قال أبو حاتم: عفان إمام ثقة متين متقن. توفي بعد 219 هـ.

خلف بن سالم = هو الإمام الحافظ المجود أبو محمد خلف بن سالم السندي، توفي سنة 231 هـ.

(2)

روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان البستي (ص 197) ط دار الكتب العلمية.

(3)

تاريخ بغداد للخطيب (16/ 263)، تهذيب الكمال للمزي (31/ 559)، سير أعلام النبلاء (11/ 83).

ص: 81

حكى أبو الحسن الدارقطني أنه حضر أبا بكر الأنباري في مجلس أملاه يوم الجمعة، فصحَّف اسمًا أورده في إسناد حديث، إما كان حبان، فقال حيان، أو حيان فقال حبان، قال أبو الحسن فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم، وهِبْتُه أن أوقفه على ذلك، فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملى، وذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه، وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه، فقال أبو بكر للمستملي عرف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلانى لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهَنا ذلك الشاب على الصواب، وهو كذا، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال

(1)

.

فمن فعل مثل ذلك في تصحيح الخطإ فليعلم أنه يريد الحق والخير، ولا حظَّ لنفسه فيه، وإلا فلْيَتَّهِم العبد نفسه، وينقب ويفتش على نيته.

(1)

تاريخ بغداد (3/ 183)، المنتظم لابن الجوزي (13/ 398)، طبقات المفسرين (2/ 229).

ص: 82

‌النصيحة السادسة ادع الله تعالى أن يستر عنك عيوب أهل العلم

وذلك لأنَّ الاضطلاع على عيوب أهل العلم قد يكون فتنة للعبد إن لم يُحْسِنِ التصرف والأدب والنصح، فسلامة طالب العلم منها أفضل.

لذا كان بعض السلف إذا ذهب لشيخه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تذهب بركة علمه مني

(1)

.

والعجب كل العجب أن ترى أناسًا يَدَّعون طلب العلم، ولا أقول يتمنون البعد عن أخطاء أهل العلم، ويدعون الله أن يسترها عنهم، بل إنهم يبحثون عنها عمدًا، وتجد منهم من يسخر جهده ووقته في سماع العلم ودروس العلم بحثًا عن سقطات أهل العلم وأخطائهم.

أيحسن هذا من طالب علم؟!

فإنه بذلك قد تحول من طالب علم، وباحث عن الخير إلى باحث عن العورات والعثرات، وطالب شر - ولا حول ولا قوة إلا بالله -، إنَّ هذا لنذير شؤم للعبد، عافانا الله، والمسلمين من ذلك.

(1)

تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 98) ط دار البشائر.

ص: 83

‌النصيحة السابعة اعترف بالفضل لأهل الفضل، ولا تكن ناكرًا للجميل

فإنَّ الاعتراف بالفضائل من مزايا الأنبياء والمرسلين، قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34].

واعترف النبي صلى الله عليه وسلم بفضل الأنصار مع أنَّ الفضل والمنة لله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم لهم" ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟! "، قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، قال " ألا تجيبونني يا معشر الأنصار"، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل، قال" أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقْتُم وصُدِّقْتُم: أتيتَنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنيناك"

(1)

.

بل اعترف صلى الله عليه وسلم بجميل بعض أهل الكفر، فقال صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر " لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له "

(2)

، وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد.

وإنكار الفضل من فعل إبليس وأتباعه، قال تعالى {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل مكة يدعى الصادق الأمين، فلما

(1)

أخرجه: أحمد في مسنده (11730)، وابن أبي شيبة في مصنفه (38152) بإسناد حسن.

(2)

أخرجه: البخاري في صحيحه (3139)، (4024) من حديث جبير بن مطعم.

ص: 84

أعلمهم بالنبوة قالوا: كذاب، ساحر، مجنون.

فياطلبة العلم:

احذروا أن تتركوا طريق الأنبياء والصالحين، وتنزلقوا في طريق الشيطان والمفسدين، فإنَّ طريق الأنبياء والصالحين طريق العدل، والإنصاف، والاعتراف بالفضل، وما من أحد من أهل العلم والدعاة إلى الله إلا وله علينا فضل، وجميل، وخير، فلا أقل من أن نجزيهم بقولنا: جزاكم الله عنا خيرًا.

‌النصيحة الثامنة الزم الأدب يورثك التواضع، فالعلم يكثر فى المؤدبين المتواضعين

وذلك لأنَّ عامة ما يقع الإنسان في غيره وإساءة الأدب معه يكون بسبب رؤيته لنفسه، وحسن ظنه بها، وعدم رؤيته لغيره - أي لمكانتهم وقدرهم - وسوء الظن بهم، فلو أحسن العبد الظن بالناس، واتهم نفسه، وتواضع للعلم ما أساء الأدب، وما اتهم أحدًا بسوء.

قال عبد الله بن المعتز:

المتواضع في طلاب العلم أكثرهم علماً، كما أنَّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماء

(1)

.

(1)

الجامع لأخلاق الراوي (1/ 198)، جامع بيان العلم (1/ 562).

صدق والله فما فاز من فاز إلا بالأدب، وما سقط من سقط إلا بسوء الأدب. وقال الحافظ ابن عساكر لرجل تجرأ على الأئمة: إنما نحترمك ما احترمت الأئمة.

ص: 85

‌النصيحة التاسعة اعلم أنَّ العلم لا يُنَال براحة النفس وعزها، بل بذل النفس، وخدمة أهل العلم

قال الشافعي:

لا يطلب أحدهم هذا العلم بالملل، وعز النفس فيفلح؛ ولكن من طلبه بذلِّ النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح

(1)

.

‌النصيحة العاشرة لا تُقِم صرحَك على أنقاض غيرك

فإنَّ بعض من غره الشيطان ظنَّ أنه لن يقوم له صرحٌ، ويعلو له شأنٌ إلا بهدم بعض الصروح القائمة لأهل العلم، ويظن أنهم عقبة في طريق علوه وانطلاقه، ويتوهم أنَّ تفرده هو طريق الوصول، ولكنه قد أبعد النجعة بذلك، واستبدل بالبعير بعرًا، وبالثُّريَّا ثرى، وبالوحدة، والائتلاف، والاتفاق، والاجتماع انفرادًا واختلافًا وشرذمة، وإنما المرء بإخوانه، وأقرانه، والتفرد شقاء، وتعب، ومشقة، وخاصة في العلم.

(1)

شعب الإيمان للبيهقي (3/ 243) ط الرشد، جامع بيان العلم (1/ 412)، الفقيه والمتفقه (2/ 284).

ص: 86

كان ابن عيينة رحمه الله يقول:

كنت أخرج إلى المسجد، فأتصفح الخلق، فإذا رأيت مشيخة وكهولًا جلست إليهم، وأنا اليوم قد اكتنفنى هؤلاء الصبيان، ثم ينشد:

خلت الديار فسُدْتُ غير مُسَوَّد

ومن الشقاء تفردي بالسُّؤْدُدِ

(1)

وورد أنَّ القفال الشاشي عندما جلس للتدريس مكان مشايخه، وضع منديله على عينيه، وبكى كثيرًا، وهو جالس على السدة التي جرت عادة المدرسين بالجلوس عليها، وكان ينشد:

خلت الديار فسُدْتُ غير مُسَوَّد

ومن العناء تفردي بالسُّؤْدُدِ

وجعل يردد هذا البيت ويبكي

(2)

.

‌النصيحة الحادية عشرة انْشَغِلْ بنفسك تُشغَلْ عن عيوب غيرك

لا بد لطالب العلم أن ينشغل بنفسه وعمله، فثمرة العلم ليست بالتنقيب عن مثالب الناس، بل بالعمل بما علم، وكلما ازداد العبد علمًا لا بد أن يزداد عملًا وخُلُقًا، وإلا فإنه لم ينتفع بهذا العلم.

قال الحسن: كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرَى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه، وبصره، ويده

(3)

.

(1)

تاريخ بغداد (9/ 178).

(2)

وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 220)، شذرا ت الذهب لابن العماد (4/ 16).

(3)

الزهد للإمام أحمد بن حنبل (ص 231) ط دار الكتب العلمية، أخلاق العلماء للآجري (ص 71).

الحسن = هو الإمام الزاهد أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري. قال عنه أنس بن مالك: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا. و قال أبو بردة: ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منه. توفي سنة 110 هـ.

ص: 87

وكانت أم سفيان الثوري تعظه وتقول:

يا بني: إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك، وحلمك، ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك

(1)

.

عن إسماعيل بن يحيى قال:

رآني سفيان وأنا أمازح رجلًا من بني شيبة عند البيت، فتبسمت، فالتفت إلي، فقال: تبتسم في هذا الموضع، إن كان الرجل ليسمع الحديث الواحد فنرى عليه ثلاثة أيام سمته، وهديه

(2)

.

عن أبي عمرو بن حمدان: قال:

سمعت أبي يقول: كنت في مجلس أبي عبد الله المروزي، فحضرَتْ صلاة الظهر، فأذَّن أبوعبد الله، فخرجت من المسجد

فقال: يا أبا جعفر إلى أين؟

قلت: أتطهر للصلاة.

(1)

تاريخ جرجان لأبي القاسم الجرجاني (ص 492) ط عالم الكتب، تاريخ الإسلام للذهبي (4/ 382).

(2)

الجامع لأخلاق الراوي (1/ 157).

ص: 88

قال: قد كان ظني بك غير هذا يدخل عليك وقت الصلاة وأنت على غير طهارة.

وعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال:

بتُّ ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء، فإذا هو كما هو، فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له وِردٌ من الليل

(1)

.

سُئل الإمام أحمد عن رجل يكتب الحديث فيكثر، فقال:

فينبغي أن يكثر العمل به على قدر زيادته في الطلب، ثم قال: سبل العلم مثل سبل المال، إنَّ المال إذا زاد ازدادت زكاته

(2)

.

وفي هذا بيان أنَّ العلم ثمرته العمل، وأنَّ طلاب العلم حقًّا يجب أن يكونوا رُوَّادًا في كل مجال، وكلما ازداد طلبهم للعلم لا بد وأن يزدادوا عملًا، وهذا يعني أنهم إذا جَنَّ الليل فهم قوامه، وإذا حضرت الصلاة فهم المبكرون لها أصحاب الصف الأول وتكبيرة الإحرام، وهم أهل القرآن تلاوة وعملًا، وهم وأهل الحديث فهمًا وعلمًا، وهم أهل الخلق حسنًا وأدبًا، وهم أهل البر عطاء وصلة .....

(1)

الجامع لأخلاق الراوي (1/ 143)، صفة الصفوة (1/ 480)، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 273). أبو عصمة عاصم بن عصام القشيري البيهقي، يقال أنه كان مجاب الدعوة.

(2)

اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص 89) ط المكتب الإسلامي.

ص: 89

إنهم أهل الله وخاصته.

فلينظر من كان من أهل الله وخاصته ماذا يجب عليه، إنها منة كبيرة، وفضل عظيم، لكنها في ذات الوقت حمل ثقيل، والموفق من وفقه الله، والمعصوم من عصمه الله.

فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهله وخاصته، وأن يغفر لنا خطأنا وزلاتنا، وأن يعصمنا من الغواية والهوى وسوء الأدب، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.

وصلَّى الله وسلم على معلم البشرية الإيمان والعلم والأدب، وعلى أصحابه مصابيح الدجى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

ص: 90