الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد:
فإن العلم متعدد الفنون، مختلف الموارد، متنوع الغايات والمقاصد. غير أن العلم بشرع الله تعالى هو أصفى تلك العلوم موردا، وأسماها غاية ومقصدا؛ فالوحي منبعُه، وصلاح الدنيا والآخرة هدفه ومقصده.
ومما لا يخفى أن أهله بين الناس قليل، خاصة في هذا الزمن الذي أقبل أكثر الراغبين في العلم على علوم الدنيا- التي منها العلوم النافعة في نطاقها، ومنها العلوم الضارة- وزهدوا عن علوم الدين.
ومع هذه القلة في الإقبال على علوم الشريعة نجد جفافًا روحيًا، وقلة اعتناء بالعمل، وزهداً في التوجه نحو العبادة، وضعفًا في ظهور آثار العلم على الأقوال والأعمال والأحوال، إلا من رحم ربي.
والعلم إنما يُراد منه العمل، وحسن الأثر في واقع الإنسان الخاص والعام، وكم من مشتغل جعل جُلَّ همه في التحصيل وإدراك المعلومات، وروحُه تشكو الخواء، وقلبه مملوء بالأهواء، ونفسه غير زاكية، وأعماله لا فرق بينها وبين أعمال من لم يعلم!
وما كان هذا علمَ السلف، بل كان علمهم الجمع بين معرفة النصوص والعمل بها في واقع الحياة، وسيأتي معنا في ثنايا الكتاب ما يبرهن على ذلك.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في
صلاح القلب، إلا أن يمُزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمرادِ بها"
(1)
.
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: "
…
قال أبو خليفة: سمعت أبا الوليد يقول: سمعت شعبة يقول: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ قال أبو خليفة: يريد شعبة رحمه الله: أن أهله يضيعون العمل بما يسمعون منه، ويتشاغلون بالمكاثرة به، أو نحو ذلك. والحديث لا يصد عن ذكر الله، بل يهدي إلى أمر الله"
(2)
.
وهذا لا يعني التقليل من شأن الاجتهاد في العلم، ولكنه يعني أن لا يُلهي العلمُ صاحبه عن العمل، فيكون كمن ينشغل عن غايته بإجالة النظر في جمال الطريق إليها فيشغله ذلك عن هدفه الذي يريد الوصول إليه.
وهذا حال بعض المنتسبين للعلم: أن يصبح العلم هو الغاية له، وليس وسيلة إلى صلاح القلب والروح، بحيث ينشغل بجمع المعلومات والمعارف ويكاثر بها غيره فتكون هي مرادَه، فيبقى علمه بذلك في الذهن ولا يصل إلى شغاف القلب ولا تتمثل صوره في العمل؛ كأن يعمل أعمالاً تخالف ما عنده من العلم، فيدخل صاحبه بهذه الحال تحت قوله تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1].
قال ابن القيم رحمه الله: "وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لمَّا فُقد منكم علمُ اليقين، وهو العلم الذى يصل به صاحبه إلى حد الضروريات التي لا يشك ولا يماري في صحتها وثبوتها، ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه، وترتبِ أثره عليه؛ فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه"
(3)
.
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 161).
(2)
شرف أصحاب الحديث (ص: 114).
(3)
عدة الصابرين، لابن القيم (ص: 156).
وقال أيضًا عند هذه الآية: " وأعرض عن ذكر المتكاثَر به؛ إرادةً لإطلاقه وعمومه، وأن كل ما يكاثِر به العبدُ غيره- سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده- فهو داخل في هذا التكاثر؛ فالتكاثر في كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم ولا سيما إذا لم يحتج إليه، والتكاثر في الكتب والتصانيف، وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها، والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره"
(1)
.
إن قلة حضور الرقائق وأسباب صلاح القلوب صارت ظاهرة في القراءة واللقاءات العلمية والاجتماعية لدى بعض طلبة العلم والدعاة، فإذا كان هذا هو واقع من يشتغلون بالعلم، فما هو واقع البعيدين عنه، الغارقين في الدنيا وملهياتها، بل كيف حال المسرفين على أنفسهم بالخطايا؟ ما حال قلوبهم ونفوسهم؟ فلهذا لا نستغرب كثرة الذنوب وقسوة القلوب وضعف زكاء النفوس وقلة الرغبة في الآخرة. فأين ما نحن فيه من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقاءاته؟
قال ابن رجب: "كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامتُها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب؛ إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر وسماه اللهَ {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46].
وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. وقال ابن مسعود: نعمَ المجلس المجلس الذي تنشر فيه الحكمة، وتُرجى فيه الرحمة هي مجالس الذكر. وشكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: أدنه من الذكر. وقال: مجلس الذكر محياة العلم، ويحدث في القلب الخشوع. والقلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر:
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 30).
بذكرِ الله ترتاحُ القلوبُ
…
ودنيانا بذِكراه تطيبُ
وأما الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فبما يحصل في مجالس الذكر من ذكر عيوب الدنيا وذمها والتزهيد فيها، وذكر فضل الجنة ومدحها والترغيب فيها، وذكر النار وأهوالها والترهيب منها، وفي مجالس الذكر تنزل الرحمة وتغشى السكينة وتحف الملائكة، ويذكر الله أهلها فيمن عنده، وهم قوم لا يشقى بهم جليسهم"
(1)
.
فهكذا ينبغي أن تكون مجالسنا ولقاءاتنا، إلا ما دعت الحاجة إلى الحديث عنه من أمور الدنيا.
وإني لما رأيت حاجة قلوبنا إلى الترقيق، ونفوسنا إلى التزكية في واقعٍٍ غلب عليه سلطانُ الشهوات والإعراض عن أسباب سمو الروح؛ استعنت بالله تعالى فكتبت فصولاً في الترغيب والترهيب رأيتها-حسب علمي القاصر- أهمَّ ما يحتاج إليه السالك إلى الله تعالى، وسميت جامع هذه الفصول وسِلْكَها بـ"روضة العابدين" رجاء أن تكون بستان وعظٍ يرِده المسلمُ فيقطف من ثماره أسبابًا لصلاح قلبه، ويشتم من عبيره وسائل لصلاح عمله، وليكون مرجعًا للخطيب والواعظ يفيد منه في خطبه ودروسه.
خاصة أنه ضُمِّن كثيراً من نصوص القرآن والسنة وأقوال الصحابة في هذا الشأن، وأُكثرَ النقلُ فيه عن أئمة السلوك وأطباء القلوب؛ كالحسن البصري، وابن الجوزي، والغزالي، وابن القيم وابن رجب، وغيرهم رحمهم الله أجمعين. ولكلام هؤلاء الأئمة نور يتسلل إلى القلوب فيحدث فيها خيراً كثيراً.
قال ابن رجب: " كان الحسن إذا خرج إلى الناس كأنه رجل عاينَ الآخرة، ثم جاء يخبر عنها، وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدُّون الدنيا شيئاً"
(2)
.
(1)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 15).
(2)
المرجع السابق (ص: 17).
فأقول: ما أحوج الكاتب والقارئ إلى هذه الفصول في الحياة العملية التي ينبغي أن تكون مبنية على خوف الله ورجائه في الفعل والترك، وما أفقرنا إلى حادٍ يقيم القاعد، ويحث السائر، ويسرع بالمبطئ!
وما كتبت هذه السطور إلا لإصلاح النفس أولاً، والنصيحة لغيرها ثانيًا؛ إذ لا يحبس المرءَ تقصيرُه وذنوبه عن النصح والإرشاد لسواه، بل لابد" من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والتذكير. ولو لم يعظ إلا معصومٌ من الزلل لم يعظ الناسَ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد؛ لأنه لا عصمة لأحد بعده:
لئن لم يعظِ العاصين من هو مذنبٌ
…
فمن يعظ العاصين بعد محمدِ!
قيل للحسن: إن فلانًا لا يعظ، ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول؟! ودَّ الشيطان أنه ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء؛ ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟!:
من ذا الذي ما ساءَ قطْ
…
ومن له الحسنى فقطْ؟
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يومًا فقال في موعظته: إني لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه. وكتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتاباً يعظه فيه، وقال في آخره: وإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري.
ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذاً لتواكل الخير، وإذاً لرُفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذاً لاستُحلت المحارم، وقلّ الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض، والشيطانُ وأعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر، وإذا أمرهم أحد أو نهاهم عابوه بما فيه، وبما ليس فيه؛ كما قيل:
وأُعلنتِ الفواحشُ في البوادي
…
وصار الناس أعوانَ المُريبِ
إذا ما عبتُهمْ عابوا مقالي
…
لِما في القوم من تلك العيوبِ
وودّوا لو كففنا فاستوينا
…
فصار الناسُ كالشيءِ المشوبِ"
(1)
فنسأل الله أن يصلح قلوبنا وأرواحنا وأعمالنا، وأن يجعل ما نقول أو نكتب أو نقرأ حجة لنا لا علينا، وأن ينفعنا والمسلمين بهذه المواعظ، وأن يوفقنا لكل خير، ويصرف عنا كل شر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه:
عبد الله بن عبده العواضي
فجر يوم الأحد: 9/ 11/ 1439 هـ
الموافق: 22/ 7/ 2018 م.
(1)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 17).
اعْبُدُوا رَبَّكُم
لقد خلق الله الإنس والجن وأخرجهم إلى هذه الحياة المؤقتة لغاية عظيمة هي عبادته سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وهذا هو تكليفهم في الدنيا لينتقلوا بعده إلى دار الآخرة ليلقَوا الجزاء على هذا التكليف.
فمِن المكلَّفين من عمل لهذه الغاية فعبد الله تعالى وحده لا شريك له ففاز في الدنيا والآخرة، ومنهم من زاغ عن هذه الغاية وعبد غير الله تبارك وتعالى؛ لأسباب اكتسبها حتى آلت به إلى الشقاء.
قال ابن عاشور: " فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإله، ويسوق إلى توحيده، ولكن كسب الناس يجرف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله، وأسباب تمكنهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع"
(1)
.
ولأجل هذه الغاية العظيمة أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، فعُرف الرشد من الغي والحق من الضلال.
وكان من بين أولئك الرسل الكرام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله به الرسالات، وأرسله بخير الشرائع وأكملها، وأعدلها وأحسنها هديًا إلى عبادة الله تعالى.
فاهتدى به صلى الله عليه وسلم من رضي الله عنهم واختارهم لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، فكانوا أعبد الناس لربهم بعد نبيهم، وأسرعهم إلى طاعته، والاستقامة
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (27/ 44).
على دينه، قال ابن مسعود:"من كان منكم متأسياً فليتأسَ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمةِ قلوباً، وأعمَقَها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقوَمها هدياً، وأحسنَها حالاً، قوم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا لهم فضلَهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"
(1)
.
فمشى على هدي أولئك الأخيار في حسن العبادة وسلامتها من جاء بعدهم، وقرب من عهدهم حينما سار على منوالهم وطريقتهم.
ولازال الزمان يمضي بأهله حتى وصل إلى العصر الحاضر الذي برز فيه جفاف العبادة بين الناس، وقل أهلها، وابتعد الخلق كثيراً عنها، وغشي وجهَها الصبيح بعضُ المفاهيم الخاطئة، فلم يعد في المجتمع إلا قليل ممن يُعرف بالنسك والزهد والعبادة، وصار أكثر أهل التعبد الذين يُقتدى بهم هم أهل القرون الخوالي، فإذا أردنا الاهتداء بسمت عابد أو التذكير بورع زاهد ألفيناه في صفحات الكتب!
وكان الواقع السالف يعج بهم في الطرقات وهم يدعون الناس إلى النسك برؤيتهم وفعالهم قبل دعوتهم بوعظهم ومقالهم.
ولاشك أنه يوجد في عصرنا زهاد ونساك لكنهم قليل بين جمع كثير ليس كحالهم؛ وذلك عندما طغت على الحياة كثرة الشاردين والغافلين.
حقيقة العبادة ومعناها:
العبادة هي: " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (2/ 227).
والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك؛ من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه. وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه، والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك؛ هي من العبادة لله"
(1)
.
فالعبادة إذن شاملة لأعمال الباطن وأعمال الظاهر، والأعمال اللازمة والأعمال المتعدية، وتتوزع على أعضاء الإنسان وجوارحه، فللقلب عبادات؛ كالإيمان والإخلاص، وللسان عبادات؛ كالصدق وقراءة القرآن، وللعين عبادات؛ كالبكاء من خشية الله، والنظر في خلق السماوات والأرض بالتفكر، وللأذن عبادات؛ كسماع القرآن والعلم، واستماع حديث الوالدين، ولليد عبادات؛ كالنفقة والجهاد، وللرجل عبادات؛ كالذهاب إلى المساجد، وقضاء حوائج الناس.
وهذا الشمول يعم العبادات المفروضة، والعبادات المستحبة، ويعم عبادات الفعل وعبادات الترك.
ويجمع هذه الأنواع كلها وغيرها اسمُ العبادة الذي يعني: التذلل والخضوع لشرع الله تعالى، بحيث يصبح العبد منقاداً لشرع الله تعالى يحافظ على الواجبات ويسارع إلى المستحبات، ويتجنب المحرمات ويدع المكروهات، ولا يقدِّم على هذا الانقياد والخضوع انقيادًا لهوى أو شهوة، أو طاعة لمخلوق يحول بينه وبين عبادة ربه.
وفي دعاء كشف الهم والحزن: (اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك
…
)
(2)
.
قال ابن القيم: " قوله: (إنّي عبدك): التزام عبوديّته من الذّلّ والخضوع والإنابة،
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 149).
(2)
رواه أحمد (7/ 341).، وهو صحيح.
وامتثال أمر سيّده واجتناب نهيه ودوام الافتقار إليه، واللّجوء إليه والاستعانة به، والتّوكّل عليه، وعياذ العبد به ولياذه به، وأن لا يتعلّق قلبه بغيره محبّة وخوفًا ورجاء. وفيه أيضًا: أنّي عبد من جميع الوجوه: صغيراً وكبيراً، حيّا وميّتًا مطيعاً وعاصيًا، معافى ومبتلى، بالرّوح والقلب واللّسان والجوارح، وفيه أيضًا: أنّ مالي ونفسي ملك لك؛ فإنّ العبد وما يملك لسيّده. وفيه أيضًا: أنّك أنت الّذي مننت عليّ بكلّ ما أنا فيه من نعمة فذلك كلّه من إنعامك على عبدك. وفيه أيضًا: أنّي لا أتصرّف فيما خوّلتني من مالي ونفسي إلّا بأمرك، كما لا يتصرّف العبد إلّا بإذن سيّده، وإنّي لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإن صحّ له شهود ذلك فقد قال: إنّي عبدك حقيقة. ثمّ قال: (ناصيتي بيدك)، أي: أنت المتصرّف فيّ تصرّفني كيف تشاء، لست أنا المتصرّف في نفسي. وكيف يكون له في نفسه تصرّف من نفسه بيد ربّه وسيّده، وناصيته بيده، وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كلّه إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيّده أضعف من مملوك ضعيف حقير، ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له، تحت تصرّفه وقهره، بل الأمر فوق ذلك. ومتى شهد العبد أنّ ناصيته ونواصي العباد كلّها بيد اللّه وحده يصرّفهم كيف يشاء، لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجهم، ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته؛ ولذا قال هود لقومه:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] "
(1)
.
ولابد أن تكون عبادة الله تعالى قائمة على الاستسلام الكامل له سبحانه، والحب التام له ولما شرع، فإن انفرد أحد الأصلين عن الآخر في العبادة فهي عبادة ناقصة.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 22).
قال ابن القيّم: "والعبادة تجمع أصلين: غاية الحبّ وغاية الذّلّ والخضوع
…
فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبّة لم تكن عابداً له حتّى تكون محبّا خاضعاً"
(1)
.
وقال أيضًا:
وعبادةُ الرّحمنِ غاية حبِّه
…
معْ ذلِّ عابده هما قطبانِ
وعليهما فلكُ العبادة دائرٌ
…
ما دار حتّى قامت القطبان
(2)
ومتى ما تم هذان الأصلان فعلى العبد:
أولاً: الإقبال على عبادة الله تعالى بما جاء عن الله أو جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، مبتدئاً بفعل الفرائض وترك النواهي، ثم المسارعة بعد ذلك إلى نوافل الطاعات.
ثانيًا: إصلاح السريرة بجعل العمل لوجه الله تعالى خالصًا من شوائب الرياء وحب إرضاء الناس؛ فإن صفاء الباطن وخلوص النية يعظِّم العمل ولو كان صغيرا، وكدرُ السريرة يصغِّر العمل مهما كان كبيرا.
قال ابن الجوزي: " والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت ويتخشع في نفسه ولباسه والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذلك، ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع والقلوب تتهافت على محبته. فتدبرت السبب فوجدته السريرة، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة. فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه. فاللهَ الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر"
(3)
.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 74).
(2)
متن القصيدة النونية (2/ 32).
(3)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 155).
ثالثًا: اتباع رسول الله صلى الله وسلم في تلك العبادة؛ إذ كل عبادة ليست عليها هدي رسول الله فهي مردودة.
رابعًا: الحرص على إحسان العبادة وإتقانها أكثر من الحرص على كثرتها وكميتها.
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يومًا ثم قال: (يا معاذ، والله إني لأحبك) فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك، قال:(أوصيك -يا معاذ- لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)
(1)
.
قوله: " (وحسن عبادتك) أي: التوفيق لإيقاع العبادة على الوجه الحسن المرضي شرعاً"
(2)
.
خامسًا: أخذ النفْس في العبادة شيئًا فشيئًا حتى تعتاد على ما يريد المرء منها، فلا يهجم عليها هجومًا حتى تمل العبادة وتنفر منها بعد ذلك.
سادسًا: الاستمرار والمداومة حتى مغادرة الحياة، والبعد عن الملل والانقطاع من غير عذر يوصل إلى ذلك، ولعل ذلك يعين على حسن الخاتمة.
قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. يعني: الموت.
سابعًا: البعد عن الانصراف عن العبادة إلى التعلق بالدنيا واللهث وراء شهواتها، فمن خرج عن حصن الطاعة ونفر إلى الشهوات وغرق في مستنقعاتها عسر رجوعه إلى حصنه، إلا أن يشاء الله.
(1)
رواه أبو داود (1/ 561)، والحاكم (1/ 407)، وهو صحيح.
(2)
فيض القدير، للمناوي (2/ 130).
العبادة والواقع:
إن الحياة المادية المعاصرة طافحة بمظاهر الغفلة، وأسباب اللهو، ووسائل البعد عن العبادة، ومصايد الجذب إلى مهاوي الانحراف، والعزوف عن كثرة القربات.
"فقد طغت موجة من الماديات على قلوب المسلمين قطعت صلتهم بالله وتعلقهم به، فابتعدوا عن كل مظاهر العبودية والالتجاء الصادق إلى الله، حتى وصلوا إلى ما نراه من حيرة وقلق واضطراب"
(1)
.
لقد انصرف كثير من الناس إلى الانشغال بالدنيا عن الآخرة؛ فصار الهم الأكبر إن لم يكن كل الهم هو الوصول إلى سعادة العيش الدنيوي البحت بأي وسيلة: حلالاً كانت أم حرامًا، فانصرف بعض الناس إلى طلب المال من تجارة أو وظائف أو أعمال أخرى فصارت هي معبوده الذي لا يفكر معه بمعبوده الذي خلقه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)
(2)
. " أراد بعبد الدينار والدرهم: من استعبدته الدنيا يطلبها وصار كالعبد لها تتصرف فيه تصرف المالك؛ لينالها وينغمس في شهواتها ومطالبها"
(3)
، "وصار عمله كله في طلب الدينار والدرهم كالعبادة لهما"
(4)
. ومن الناس من انصرف إلى الجاه والشهرة فغدا ذلك هو شغله الشاغل حتى لها به عن العبادة، وباع لأجله دينه، وأفسد به في الأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه)
(5)
. " فمقصود
(1)
منهج شيخ الإسلام في العبادة والتزكية، عبدالله الحيالي (ص: 1).
(2)
رواه البخاري (3/ 1057).
(3)
سبل السلام، لابن الأمير الصنعاني (7/ 103).
(4)
شرح صحيح البخاري ـ لابن بطال (5/ 83).
(5)
رواه الترمذي (4/ 588)، وابن حبان (8/ 24)، وهو صحيح.
الحديث: أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم؛ لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه، ويأخذ به إلى ما يضره، وذلك مذموم؛ لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعا"
(1)
. ومن الناس من انصرف عن العبادة إلى العكوف في أحضان الحرام من سكر أو قمار أو فاحشة، ورأى أن ذلك هو الحياة، كما قال بعضهم:
إنما العيشُ سماعٌ
…
ومدامٌ وغلامُ
(2)
فإذا فاتك هذا
…
فعلى العيش السلام
(3)
!!
ومنهم من ساق خطاه وفكره ووقته وحياته للاهتمام بالرياضة أو متابعة أخبار العالم المختلفة، ونسي معها شيئًا يقال له: العبادة، وذهل بسببها عن إلهه الذي أمره بالانشغال به لا بالانشغال عنه، فصارت تلك الملهيات هي الربَّ المعبود والكعبة المقصودة التي إليها يتوجه لا عنها يتجه إلى عبادة ربه سبحانه.
وهناك جم غفير انشغل بالكسل والقعود فصارت العبادة لديه مطلبًا ثقيلاً لا يؤدي منها إلا بعض ما وجب مع تقصير فيما أدى منها.
وفي أفق هذه الظلمات المتكاثفة تقل رؤية الخطى المقبلة على رياض العبادة، والجموع المعتكفة في محاريب التنسك، وتندر البيئة المساعدة على الإقبال على الطاعة وترك ملهيات الحياة التي أورثت الكدر والضيق والحنين إلى الماضي العتيق.
"ولا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بالتزام العبودية لله تعالى والتحرر من عبودية الوثنيات والطواغيت على اختلاف أشكالها وأنواعها، تلك العبودية التي لو استجاب الناس لها لعاشوا في اطمئنان وسعادة وسلام، والتي هي أساس العمل الصالح
(1)
فيض القدير، للمناوي (5/ 445).
(2)
يريد: إنما العيش الكامل في سماع الغناء وفي شرب الخمر وفي .... !!
(3)
محاضرات الأدباء، الراغب الأصفهاني (1/ 311).
الذي يثمر نهضة الأمة، وينقذ الإنسانية جمعاء من جحيم العبودية والخضوع للبشر، ويرد عليها تراثها ويرفع منزلتها ويمنحها السعادة والفوز في الدارين"
(1)
.
العلم والعبادة:
وإن نسيت فلست أنسى حملة العلم ومن يشار إليهم في المجتمع المسلم بالالتزام والاستقامة، ففيهم خيار فضلاء جمعوا بين العلم والعمل، فاتخذوا العلم وسيلة إلى العبادة فأقبلوا عليها وصار لهم منها نصيب وافر، حتى ظهر أثرها عليهم في سمتهم وهديهم وأخلاقهم ومعاملتهم، وزهدهم عن الدنيا وتعلقهم بالآخرة، فهذا هو العلم النافع الذي يكون حجة لصاحبه.
وهناك طائفة أخرى ليس لهم من العلم إلا خزن المعلومات، وتجميع المحفوظات، وأما الإقبال على كثرة العبادة والتحلي بالورع والزهادة، والتخلي عن لهو الدنيا؛ فإنما هي أخبار يقرؤونها عن أهلها في الكتب، وقد يعظون بها الناس، أما هم فليسوا مقصودين بذلك!
ولهذه الحال المؤسفة ظهر مرض بين بعض حملة العلم أو من يعدون بين الناس من المستقيمين -إلا من رحم الله- ألا وهو النزوع عن المسابقة إلى العبادة، أو تركُ العمل بما حملوا من العلم وعرفوا من الحق.
فصار بعضهم كغيرهم في التلهي بالدنيا، والانشغال بزخارف العيش، وقلة النشاط في الجانب العبادي، وظهور بعض المعاصي والانحرافات. والعلم لا ينفع العبد" إلا باستقامة قلبه، وإلا عاد العلم عليه فصار جهلاً، وعاد العمل فصار ضرراً، مع أن فساد قلوبنا هو الذي فرق بيننا وبين سلوك طريق الاستقامة، والاتباع للقوم الذين يصلحون عند فساد الناس"
(2)
.
(1)
منهج شيخ الإسلام في العبادة والتزكية، عبدالله الحيالي (ص: 1).
(2)
المدخل، لابن الحاج (3/ 150).
قال عيسى عليه السلام: " يا بني إسرائيل، ما يغني عن الأعمى معه نور الشمس وهو لا يبصرها، وما يغني عن العالم كثرةُ العلم وهو لا يعمل به؟! "
(1)
.
إن من يقرأ في سير أهل العلم السالفين يجد أنهم كانوا يجمعون بين كثرة التعلم والتعليم وكثرة العبادة، وليس لديهم بين العلم والعبادة انفصام؛ فلهذا تقرأ في تراجم بعضهم: كان عالمًا زاهداً ورعًا، كثير العبادة، يصلي في اليوم كذا وكذا، لم تفته تكبيرة الإحرام كذا وكذا، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على العمل بالعلم. بل كان أهل الزهد والعبادة بينهم في أعلى الرتب: يقتدون بهم، ويثنون عليهم.
"ذكر في مجلس أحمد معروف الكرخي فقال بعض من حضره: هو قصير العلم، قال أحمد: أمسك، عافاك الله، وهل يُراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ "
(2)
.
عن "أنس بن عياض قال: رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غداً القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة"
(3)
.
لذلك لابد من عودة صادقة إلى العمل بالعلم وظهور أثره في واقع المتعلم أو العالم؛ فإنهم أولى من غيرهم في الرغبة عن الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة.
العبادة والفتن:
الفتن والهرج، والقلاقل والاضطرابات قد تلهي المسلم عن العبادة، وكثرة المسابقة إلى الطاعة، وقد يعتذر بها بعضهم لظهور كسله وفتوره وتقاعسه عن بعض الأعمال الصالحة، وحينما تدهم الناس تلك الخطوبُ فإن الغفلة تستولي عليهم، والانصراف إلى الدنيا يكون ديدنهم، وفي ظل تلك الغفلة المستحكمة يُعرف العباد والنُّساك وطلاب
(1)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 12).
(2)
طبقات الحنابلة، للفراء (1/ 380).
(3)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (2/ 153).
الآخرة، حيث ينتصرون على ضغط الواقع، وضيق نفوسهم، فيقبلون على العبادة التي بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة أجرها في تلك الظروف.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ)
(1)
.
"المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد"
(2)
.
" قال ابن العربي: وجه تمثيله بالهجرة: أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة"
(3)
.
وقال ابن حجر عند شرح حديث: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه)
(4)
: " قال القرطبي: كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاش نفسه وما يتعلق به، ومن ثَم عظم قدر العبادة أيام الفتنة؛ كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار رفعه: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) "
(5)
.
ثمرات العبادة:
إن المسلم حينما يقبل على عبادة الله تعالى فيؤدي ما فُرض عليه ويجتنب ما نهي عنه، ويسعى إلى المسابقة إلى نوافل العبادة المتنوعة، ويصلح باطنه وظاهره، ويحسن علاقته مع الله وعلاقته مع الناس؛ فإنه سيربح ربحًا وفيراً، ويجني ثمرات كثيرة في دنياه وآخرته.
(1)
رواه مسلم (4/ 2268).
(2)
شرح النووي على مسلم (18/ 88).
(3)
فيض القدير، للمناوي (4/ 373).
(4)
رواه البخاري (6/ 2604).
(5)
فتح الباري لابن حجر (20/ 123).
ومن تتبع نصوص الوحيين سيجد آثاراً حسنة يظفر بها العابد الناسك خاصة إذا عبد الله تعالى على علم وبصيرة، فمن تلك الثمرات الصالحة على وجه العموم:
نيل الأجر والثواب، وطيب العيش ولذة الحياة، والوقاية من الشيطان، والتوفيق في جوانب الحياة المختلفة، والسعادة في الدنيا والآخرة، والفوز برضوان الله وجنته، والنجاة من غضبه وناره.
دعوة إلى العودة:
فهلمّ أخي المسلم، إلى جَنة العبادة بأبعادها كلها، ورابطْ في محاريبها المضيئة، عاملاً للواجبات، هاجراً للمنكرات، مسارعًا إلى القربات، مستحضراً أنك في تجارة رابحة لا يربحها إلا اليقظون والمشمرون والحريصون والمنافسون.
واقتدِ برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان أعبد الناس واتقاهم، وأسرعهم إلى الخير وأسبقهم إليه، مع كثرة انشغاله وأعباء رسالته ودعوته، ومع أنه كذلك قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
عن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:(أفلا أحب أن أكون عبداً شكورا)
(1)
.
وأيقظْ نفسك من سبات الغفلة إن كنت غافلا، وانتشل نفسك من لهوِ الحياة إن كنت فيه غارقا، واعتق رقبتك إن كنت لدى الهوى رقيقا، وأطلق نفسك إن كنت في قيد التعلق بالحياة الفانية أسيرا.
فما هذه الحياة إلا للعبادة، وما الفائزون فيها إلا أهل المسارعة والزهادة، قال تعالى:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا
(1)
رواه البخاري (4/ 1830)، ومسلم (4/ 2172).
طَوِيلًا} [الإنسان: 26]. " وذكرُ اسم الرب يشمل تبليغ الدعوة، ويشمل عبادة الله في الصلوات المفروضة والنوافل، ويشمل الموعظة بتخويف عقابه ورجاء ثوابه"
(1)
. وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]" أي: أكثر من ذكره وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك؛ كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح: 7]. أي: إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته وعبادته؛ لتكون فارغ البال"
(2)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] قال: يقول الله: (ابنَ آدم، تفرّغ لعبادتي أملأْ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك)
(3)
.
"أي: تفرغ عن مهماتك لطاعتي، ولا تشتغل باكتساب ما يزيد على قوتك وقوت من تعول؛ فإنك إن اقتصرت على ما لا بد منه واشتغلت بعبادتي (أملأ صدرك) أي: قلبك الذي في صدرك (غنى) وذلك هو الغنى على الحقيقة"
(4)
.
فـ "فرِّغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار"
(5)
. واعلم أن " الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إليه، وتقل عوائقك ثم لا ترحل إليه"
(6)
.
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (29/ 376).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 526).
(3)
رواه الترمذي (4/ 642)، والحاكم (2/ 481)، وهو صحيح.
(4)
فيض القدير، للمناوي (2/ 308).
(5)
شرح الحكم العطائية (ص: 137).
(6)
شرح الحكم العطائية (ص: 174).
التسليمُ لنصوصِ الشرع
إن الإنسان في هذه الحياة مكلف بالأمر والنهي الذي به سعادته في الدنيا والآخرة، ولا يسعه الخروج عن هذا التكليف مادام من أهله حتى يخرج عن هذه الحياة، بالانتقال من دار العمل إلى دار الجزاء.
فالمكلِّف ربٌّ خالق، والمكلَّف عبدٌ مخلوق، وليس للعبد والأمر كذلك إلا التسليم والانقياد لأوامر سيده ونواهيه، فإذا انضاف إلى ذلك أن هذه الأوامر والنواهي آتية من رب عليم رحيم ازداد الأمر تأكداً في التسليم لها والانقياد لما جاءت به.
فمصدرها العليم الخبير سبحانه وتعالى الذي علِم أن التزام عباده بهذه الأوامر والنواهي سيجلب لهم المنافع العاجلة والآجلة ويدفع عنهم المضار الدنيوية والأخروية، وهي بذلك مظهر من مظاهر رحمة الله بخلقه؛ فلرحمته بهم كلفهم بذلك حتى يصلوا إلى سعادة الدنيا والآخرة.
والاتعاظ بنصوص الشرع لن يكون إلا بالتسليم لها والانقياد لما جاءت به، فأكثر الناس اتعاظًا وصلاحًا هم المنقادون للوحي الذين لا يقدمون عليه رأيًا ولا قولاً ولا ناموسًا يخالفه.
عظمة النصوص الشرعية:
إن النص الشرعي- كتابًا وسنة صحيحة- يمتلك القداسة والعظمة بالنظر إلى مصدره، فهو تكليف جاء عن الله عن طريق الوحي الذي يتسم بالعصمة من الزلل والعبث، فيجب لذلك تعظيمه واتباعه؛ تعظيمًا لله تعالى.
قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].
فقد "أمر الناس أن يتبعوا ما أنزل إليهم، كلٌّ يتبع ما هو به أعلق، فالمشركون أنزل إليهم الزجر عن الشرك والاحتجاج على ضلالهم، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنهي والتكليف. فكلٌّ مأمور باتباع ما أنزل إليه"
(1)
.
"والمراد بـ {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} هو القرآن والسنة المبينة له، لا آراء الرجال"
(2)
.
قال ابن القيم: " أول مراتب تعظيم الحق عز وجل: تعظيم أمره ونهيه؛ وكذلك المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر؛ فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع صلى الله عليه وسلم على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي، ولا تعظيم الآمر والناهي"
(3)
.
إن قبول نصوص الشريعة والانقياد لها من الإيمان والتصديق والخضوع والتواضع الذي يجب على الإنسان، ولا يصح الإسلام إلا بذلك.
فيجب" التسليم المحض للوحي، فإذا سلم القلب له رأى صحة ما جاء به، وأنه الحق بصريح العقل والفطرة، فاجتمع له السمع والعقل والفطرة، وهذا أكمل الإيمان،
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (8/ 12).
(2)
أضواء البيان، للشنقيطي (7/ 300).
(3)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 15).
ليس كمن الحرب قائمة بين سمعه وعقله وفطرته"
(1)
.
" فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول، مع كمال الإخلاص للمرسل"
(2)
. ومن " تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغره وحقره، ومن تكبر عن الانقياد للحق ولو جاءه على يد صغير أو من يبغضه أو يعاديه فإنما تكبره على الله؛ فإن الله هو الحق وكلامه حق ودينه حق، والحق صفته ومنه وله، فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله فإنما رد على الله وتكبر عليه والله أعلم"
(3)
.
السنة وحي من عند الله تعالى:
لقد أرسل الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فأنزل عليه القرآن الكريم وأوحى إليه بيانه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو على الناس كتاب الله ويبينه لهم بقوله وبفعله وذلك هو السنة، ويقره الله تعالى ويوحي إليه بذلك.
فعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته
(4)
فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإنَّ ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله)
(5)
.
وعند أبي داود: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 69).
(2)
المصدر السابق (2/ 270).
(3)
المصدر السابق (2/ 333).
(4)
الأرِيكة: السرير. وقيل: هو كل ما اتُّكِئَ عليه من سرير أو فِرَاشٍ أو مِنَصَّة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 84).
(5)
رواه الترمذي (5/ 38)، وهو صحيح.
معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قِراه)
(1)
.
ففي هذا الحديث تحذير من" مخالفة السنن التي سنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مما ليس له في القرآن ذكر"
(2)
.
قال الطيبي: "وفي هذا الحديث توبيخ وتقريع عظيم على ترك السنة والعمل بالحديث؛ استغناء عنها بالكتاب، هذا مع الكتاب فكيف بمن رجح الرأي على الحديث، وإذا سمع حديثًا من الأحاديث الصحيحة قال: لا عليّ بأن أعمل بها؛ فإن لي مذهباً أتبعه! "
(3)
.
وقال المباركفوري: " والمعنى: لا يجوز الإعراض عن حديثه عليه الصلاة و السلام؛ لأن المعرض عنه معرض عن القرآن، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] "
(4)
.
وقال أبو إسحاق إسماعيل بن سعيد الكسائي الفقيه: "يجب على الناس أن يتبعوا القرآن، ولا يخالفوه، فإن احتج محتج بأن في السنن ما يخالف التنزيل، قيل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه). وكل سنة ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لقائل أن يقول: إنها خلاف التنزيل؛ لأن السنة تفسر التنزيل، والسنة كان ينزل بها جبريل، ويعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يقول قولاً يخالف التنزيل إلا ما نسخ من قوله بالتنزيل، فمعنى التنزيل ما قال
(1)
سنن أبى داود (4/ 328).
(2)
تفسير سنن أبي داود (معالم السنن) لأبي سليمان الخطابي (3/ 135).
(3)
حاشية السندي على ابن ماجه (1/ 1).
(4)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (7/ 354).
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ذلك بإسناد ثبت عنه"
(1)
.
علامات تعظيم نصوص الوحي:
من الناس من يقول: إنه معظم للنص الشرعي، ومنقاد له، ولا يعارضه بما يتخلص به عن العمل بمقتضاه، وهذا القول قد يكون من بعض الناس دعوى يخالف واقعُه ما تقول لسانه، ويكون من بعضهم حقيقة تدل عليها البراهين والشواهد.
وحتى يعرف الإنسان نفسه ويعرف غيره هل هو من الصادقين أو المدعين في تعظيم الأمر والنهي الشرعيين؛ نعرض بعض العلامات التي تدل على تعظيم نصوص الشرع ذكرها ابن القيم.
قال رحمه الله: " فعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها"
(2)
.
وقال أيضًا: "وأما علامات تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها؛ كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة؛ خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحثات خشية الوقوع في المكروه، ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها؛ فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته. ومن علامات تعظيم النهي: أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزنًا وكسرة إذا عُصي الله تعالى في أرضه، ولم يضلع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
(1)
الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر الهمداني (ص: 24).
(2)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 15).
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط؛ مثال ذلك: أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصًا جافياً
…
وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يوسوس في الوضوء متغاليًا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردد تكبيرة الأحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة
…
فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارَضا بترخص جافٍ، ولا يعرضا لتشديد غالٍ؛ فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه
…
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه، ممتثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والتسليم، ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه"
(1)
.
سمعنا وأطعنا:
على طالب النجاة أن يسلم قلبه وجوارحه للوحي، بحيث ينقاد انقياداً تامًا لما جاء به أمراً ونهيًا، ناطقًا بلسانِ قالِه وفعاله: سمعنا وأطعنا، وأن لا يروغ عن ذلك يمنة ولا يسرة؛ لشهوة عنده أو شبهة أو حيلة؛ باحثًا عن مخرج يخلصه من الانقياد والتسليم.
وهذا هو الاستقامة التي أمر الله تعالى بها في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
"قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب"
(2)
.
(1)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 24).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 104).
فإن خضع لنص الشرع دل ذلك على سلامة قلبه " فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق تام الانقياد والقبول له"
(1)
.
إن هذا الانقياد والتسليم الذي على المسلم فعله مع نصوص الوحي: قرآنًا أو سنة؛ ينبغي أن يكون في جميع أحواله: الظاهرة والباطنة، والخاصة والعامة، وأن يكون عند هذا الانقياد راضيًا كل الرضا.
قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فقد: " أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكِّموا رسولَه في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتنفسح له كل الانفساح، وتقبله كل القبول ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضًا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض
…
وعند هذا يعلم أن الرب تبارك وتعالى أقسم على انتفاء إيمان أكثر الخلق، وعند الامتحان تعلم: هل هذه الأمور الثلاثة موجودة في قلب أكثر من يدعي الإسلام أم لا؟ والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"
(2)
.
قال النووي: " بابُ ما يَقولُ مَنْ دُعي إلى حُكْمِ اللَّهِ تعالى
ينبغي لمن قال له غيرُه: بيني وبينَك كتاب اللّه، أو سنّة رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، أو أقوال علماء المسلمين، أو نحو ذلك، أو قال: اذهبْ معي إلى حاكم المسلمين،
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 10).
(2)
التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (2/ 431).
أو المفتي لفصلِ الخصومةِ التي بيننا، وما أشبَه ذلك؛ أن يقولَ: سمعنا وأطعنا، أو سمعاً وطاعةً، أو نعمْ وكرامة، أو شبه ذلك، قال اللّه تعالى:{إِنَّمَا كانَ قَوْلَ المُؤْمِنينَ إذَا دُعُوا إلى اللّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51 - 52] "
(1)
.
فـ" قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} معناه: كذلك يجب أن يكون قولهم وطريقتهم إذا دعوا إلى حكم كتاب الله ورسوله أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فيكون إتيانهم إليه وانقيادهم له سمعاً وطاعة، ومعنى: {سَمِعْنَا} أجبنا على تأويل قول المسلمين: سمع الله لمن حمده أي: قبل وأجاب، ثم قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: فيما ساءه وسره، {وَيَخْشَ اللَّهَ} فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي {وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره. وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه"
(2)
.
قال ابن القيم: " التواضع للدين هو: الانقياد لما جاء به الرسول والاستسلام له والإذعان، وذلك بثلاثة أشياء:
الأول: أن لا يعارض شيئاً مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم المسماة: بالمعقول، والقياس، والذوق، والسياسة.
فالأولى: للمنحرفين أهلِ الكبر من المتكلمين الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل وعزلنا النقل؛ إما عزل تفويض وإما عزل تأويل.
والثانية: للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه قالوا: إذا تعارض القياس والرأي والنصوص قدمنا القياس على النص ولم نلتفت إليه.
(1)
الأذكار النووية، للإمام النووي (1/ 394).
(2)
تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (24/ 20).
والثالثة: للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد، فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر قدموا الذوق والحال ولم يعبأوا بالأمر.
والرابع: للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين، إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة.
فهؤلاء الأربعة هم أهل الكبر. والتواضعُ التخلص من ذلك كله.
الثاني: أن لا يتهم دليلاً من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة أو ناقص الدلالة أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه، ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه، وليعلم أن الآفة منه والبلية فيه كما قيل:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً
…
وآفته من الفهم السقيمِ
ولكنْ تأخذ الأذهانُ منه
…
على قدر القرائح والفهوم
وهكذا الواقع في الواقع حقيقة: أنه ما اتهم أحد دليلاً للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن المأفون في عقله وذهنه، فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل، وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك وينبو فهمك عنه فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك، وأن تحته كنزاً من كنوز العلم، ولم تؤت مفتاحه بعد هذا في حق نفسك،
وأما بالنسبة إلى غيرك فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي، وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص، فما لم تفعل ذلك فلست على شيء ولو ولو، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء قال الشافعي قدس الله روحه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يحل له أن يدعها لقول أحد.
الثالث: أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلاً ألبتة، لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله، بل إذا أحس بشيء من الخلاف فهو كخلاف المقدم على الزنا وشرب الخمر وقتل النفس، بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك، وهو داع إلى النفاق وهو الذي خافه
الكبار والأئمة على نفوسهم. واعلم أن المخالف للنص لقول متبوعه وشيخه ومقلده أو لرأيه ومعقوله وذوقه وسياسته إن كان عند الله معذوراً -ولا والله ما هو بمعذور- فالمخالف لقوله لنصوص الوحي أولى بالعذر عند الله ورسوله وملائكته والمؤمنين من عباده. فواعجبًا إذا اتسع بطلان المخالفين للنصوص لعذر من خالفها تقليداً أو تأويلاً أو لغير ذلك، فكيف ضاق عن عذر من خالف أقوالهم وأقوال شيوخهم لأجل موافقة النصوص، وكيف نصبوا له الحبائل وبغوه الغوائل ورموه بالعظائم، وجعلوه أسوأ حالاً من أرباب الجرائم، فرموه بدائهم وانسلوا منه لواذا، وقذفوه بمصابهم وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذاً لهم ومعاذا! "
(1)
.
أسباب ترك الانقياد والتسليم لنصوص الشرع:
هناك قضايا تكون نصوصها الشرعية ظاهرة معلومة، لا يخفيها جهلٌ بها ولا قلة دراية بمقاصدها، فأوامرها أو نواهيها صريحة واضحة، ولكن يجد المرء عند بعض المسلمين ضعف الانقياد لها، وترك الاستجابة لما فيها، إما بترك العمل بها من غير اعتراض عليها، وإما بترك العمل بها مع الاعتراض عليها؛ تخلصًا من مضمونها، وهذا الثاني هو الخطر الكبير الذي قد يُبقي صاحبه في دائرة الإسلام، أو يخرجه عنها، فيخرجه إن كان ينكرها أو يستهزئ بها أو يجعل غيرها من نتائج عقول البشر أحسن منها.
قال ابن القيم: " وقد كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس، أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنًا من كان، ويهجرون فعل ذلك وينكرون على من يضرب له الأمثال، ولا يسوغون غير الانقياد له والتسليم، والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان، بل كانوا عاملين بقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 334).
أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وبقول تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] "
(1)
.
وهذه الأسباب التي سنذكرها يمكن أن ترجع إجمالاً إلى سببين رئيسين: الأول: الشهوة، والثاني: الشبهة.
فمن الأسباب التي تؤدي إلى ترك الانقياد والتسليم للنص:
أولاً: طلب اللذة والمتعة والراحة، فقد يخرج الإنسان عن حدود الله ويتجاوز الحلال إلى الحرام: تاركًا للأمر أو مرتكبًا للنهي؛ لكونه يريد من وراء ذلك الوصول إلى اللذة؛ كالنظرة المحرمة، أو المتعة؛ كشرب الخمر، أو الراحة؛ كترك الصلاة.
ثانيًا: موافقة المجتمع وكراهة الخروج عن نواميسه
قد يعيش مجتمعٌ ما على فعل معصية من المعاصي، أو ترك واجب من الواجبات ويصير ذلك أمراً ظاهراً فيه، فيأتي بعض الناس فيكره الخروج عن هذا الناموس السائد فيوافق أهل مجتمعه فيما هم فيه من الذنوب ....
ثالثًا: الوصول إلى أغراض الدنيا وزينتها، وهذا من أكبر الأسباب وأكثرها التي يخرج بها بعض الناس عن ضوابط الشريعة؛ فكم من أوامر تركت ونواهٍ ارتكبت؛ طلبًا للمال، أو الجاه، أو الوظيفة، أو الشهرة، أو الثناء والشكر.
رابعًا: إرضاء البشر، حينما يضعف الإيمان في القلب يقدم إرضاء البشر على إرضاء رب البشر، فكم تارك للنصوص الشرعية لأنه يريد بذلك بلوغ رضوان الناس عنه، فبعض النساء تعلم أن التبرج ولين الحجاب حرام، ولكن تريد بتبرجها وقلة حجابها أن يرضى الناس عنها ويقولون: إنها امرأة جميلة وحضارية متقدمة وليست جاهلة متخلفة!
وهذه الأسباب الأربعة ونحوها توصل إليها أمورٌ أخرى؛ فقد يوصل إليها:
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (4/ 268).
الكسل، أو التأويل، أو الحسد والكره، أو الضعف، أو التحيل، أو الآراء والأذواق والسياسة.
فكم من أمر شرعي تُرك بسبب الكسل، وكم من نهي ارتكب بسبب التأويل: بأن ذلك النهي ليس للتحريم، أو أنه منسوخ، أو أن المسألة فيها خلاف، أو أن المقصود غير ظاهر النص!
وكم نص شرعي عُطِّل لدى بعض الناس لكونه جاء عن بعض من يحسده أو يحقد عليه، فيتعمد ذلك الحاسد أو الكاره مخالفة النص؛ إغاظة لمن يكره أو يحسد، ولو جاء من غيره لقبله.
وكم من تشريع من التشريعات لم يُعمل به عند بعض المكلفين؛ لأن ذلك المكلف تحيل على نصوصه فأخرجها عما جاءت له؛ كدأب بني إسرائيل في عدة تشريعات منها قصة أصحاب السبت.
وكم آراء وأقيسة وسياسات وقفت حائلاً دون العمل بالنصوص الشرعية، فكانت اعتراضًا عورضت بها تلك النصوص.
يقول ابن القيم رحمه الله: " الاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس، والمعصوم من عصمه الله منها.
النوع الأول: الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة التي يسميها أربابها قواطع عقلية، وهي في الحقيقة خيالات جهلية ومحالات ذهنية
…
النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره، وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع:
أحدها: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما أسقطه، وإبطال ما صححه وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه وإطلاق ما
قيده. وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها والتحذير منها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض وحذروا منهم ونفروا عنهم.
النوع الثاني: الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله. وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفوس الجاهلة
…
النوع الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده. فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل. وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس قدمنا القياس. وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع قدمنا الذوق والوجد والكشف.
وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة، فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتًا يتحاكمون إليه. فهؤلاء يقولون: لكم النقل ولنا العقل، والآخرون يقولون: أنتم أصحاب آثار وأخبار، ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار، وأولئك يقولون: أنتم أرباب الظاهر ونحن أهل الحقائق، والآخرون يقولون: لكم الشرع ولنا السياسة! "
(1)
.
مواقف مشرقة:
في هذه المواقف المضيئة سنرى أهل التسليم والانقياد للوحي كيف وقفوا عند النصوص الشرعية ولم يتجاوزوها، وانتصروا على أهوائهم وشهواتهم؛ طلبًا لرضوان الله تعالى، فبهم رضي الله عنهم يكون الاقتداء.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 69).
موقف الصديق مع مسطح رضي الله عنهما:
=كان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره، فلما خاض مع أهل الإفك قال الصديق رضي الله عنه:(والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال) فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
قال أبو بكر: بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً
(1)
.
مواقف ثلاثة للفاروق رضي الله عنه:
=عن نافع بن عمر عن ابن أبي ملكية قال: كاد الخيِّران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع: لا أحفظ اسمه فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
…
} [الحجرات: 2] الآية. قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه
(2)
.
وفي رواية: قال ابن الزبير: "فكان عمر بعدُ إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السِّرار
(3)
لم يسمعه حتى يستفهمه"
(4)
.
(1)
رواه البخاري (4/ 1774) ومسلم (4/ 2129).
(2)
رواه البخاري (4/ 1833).
(3)
كأخي السِّرار: السِّرار: المُساَرَرَة: أي كصاحب السّرَار أو كمْثل المُساَرَرَة؛ لخْفض صَوْته. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 912).
(4)
صحيح البخاري (6/ 2662).
=وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هيْ يا ابن الخطاب
(1)
فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ به فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله
(2)
.
=وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله وإلا فليصمت)
(3)
.
قال عمر: "فوالله ما حلفتُ بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً
(4)
"
(5)
.
موقف ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه:
عن أنس بن مالك أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
(1)
قوله " هي يا ابن الخطاب " بمعنى التهديد له
…
والذي يقتضيه السياق أنه أراد بهذه الكلمة الزجر وطلب الكف لا الازدياد، وهذا من جفائه حيث خاطبه بهذه المخاطبة". فتح الباري لابن حجر (20/ 337).
(2)
رواه البخاري (4/ 1702).
(3)
رواه البخاري (5/ 2265) ومسلم (3/ 1266).
(4)
معنى (ذاكراً: قائلاً لها من قبل نفسي، (ولا آثراً) بالمد أي: حالفاً عن غيري. شرح النووي على مسلم (11/ 105). قال أبو عبيدة: ليس هو من الذكر ضد النسيان، وإنما معناه: قائلاً، كما تقول: ذكرت لفلان حديث كذا. فتح الباري، لا بن حجر (1/ 119).
(5)
رواه البخاري (6/ 2449).
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]. إلى آخر الآية؛ جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار! واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكى؟ قال سعد: إنه لجاري وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بل هو من أهل الجنة)، وفي رواية البخاري:(اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة)
(1)
.
موقف امرئ القيس بن عابس رضي الله عنه:
عن رجاء بن حيوة والعرس بن عميرة عن أبيه عدي قال: خاصم رجل من كندة يقال له: امرؤ القيس بن عابس رجلاً من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، فقضى على الحضرمي بالبينة فلم تكن له بينة، فقضى على امرئ القيس باليمين فقال الحضرمي: إن أمكنته من اليمين يا رسول الله، ذهبت -والله أو ورب الكعبة- أرضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان)، قال رجاء: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ قال: الجنة، قال: فاشهد أني قد تركتها له كلها
(2)
.
موقف أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
عن أبي بردة قال: دخلت على أبي موسى وهو في بيت بنت الفضل بن العباس
(1)
رواه البخاري (3/ 1322)، ومسلم (1/ 110).
(2)
رواه أحمد (4/ 191)، والبيهقي السنن الكبرى (10/ 254)، والنسائي، سنن النسائي الكبرى (3/ 488)، وهو صحيح.
فعطستُ فلم يشمتني، وعطستْ فشمتها، فرجعت إلى أمي فأخبرتها، فلما جاءها قالت: عطس عندكَ ابني فلم تشمته، وعطست فشمتها؟! فقال: إن ابنك عطس فلم يحمد الله فلم أشمته، وعطستْ فحمدت الله فشمتها؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه؛ فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه)
(1)
.
موقف حكيم بن حزام رضي الله عنه:
عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال:(يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى). قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً
(2)
بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين، على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي)
(3)
.
موقف ميمون بن مهران رحمه الله:
كان عند ميمون بن مهران ضيف فاستعجل على جاريته بالعشاء، فجاءت مسرعة ومعها قصعة مملوءة، فعثرت وأراقتها على رأس سيدها ميمون، فقال: يا جارية، أحرقتني، قالت: يا معلم الخير، ومؤدب الناس، ارجع إلى ما قال الله تعالى، قال: وما قال
(1)
رواه مسلم (4/ 2292).
(2)
أي: لا أنقص ماله بالطلب منه. فتح الباري، لابن حجر (3/ 336).
(3)
رواه البخاري (2/ 535).
الله تعالى؟ قالت: قال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ} قال: قد كظمت غيظي، قالت:{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال: قد عفوت عنك، قالت: زد؛ فإن الله تعالى يقول: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. قال: أنت حرة لوجه الله تعالى!
(1)
.
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (2/ 220).
إنما العِلمُ العمل
العلم بدين الله تعالى وظيفة شريفة، ومنزلة في الفضل مُنيفة؛ فهو النور الذي ينير لصاحبه الطريق إلى ربه، فيعرِّفه الحلال ليأتيه، والحرام ليجتنبه. وهو الدليل الذي يرشد حامله إلى محاسن الأخلاق والأعمال بين الخلق، فيتعامل معهم وفق ما يرضي خالقه سبحانه وتعالى. وهو المنادي الحاثُّ على المسارعة إلى العبادة، والمبيّن للسبيل الصالح في أدائها. وهو الموئل الأمين الذي يرجع إليه ذو العلم فيعرف من خلاله تفسير الأمور والحكم عليها، والفصل في أحداث الحياة وموقفه منها.
فضل العلم وأهله:
فمما يدل على فضل العلم بشريعة الله تعالى:
أولاً: أن الله لم يأمر بطلب الزيادة إلا من العلم، فقال الله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
قال ابن حجر: "وقوله عز وجل: {رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم: العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائض، ومدارُ ذلك على التفسير والحديث والفقه"
(1)
.
ثانيًا: أنه طريق إلى الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سلك طريقا
(1)
فتح الباري (1/ 141).
يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة)
(1)
. "أي: من مشى إلى تحصيل علم شرعي قاصداً به وجه الله تعالى، جازاه الله عليه بأن يوصله إلى الجنة مسلَّما مكرمًا"
(2)
.
أما أهله الحاملون له، العاملون به فلهمْ بسببه فضل عظيم، وشرف كبير، ومما يدل على ذلك: قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]. قال ابن القيم: " وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه: أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر، والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته، والثالث: اقترانها بشهادة ملائكته، والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم؛ فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول
…
"
(3)
. وذكر-رحمه الله وجوهًا أخرى.
ومما يدل على فضلهم: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. قال الشوكاني: " في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما {والذين أوتوا العلم درجات} أي: ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات"
(4)
.
ومما يدل على شرف أهله: ما جاء عن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبى الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله
(1)
رواه مسلم (4/ 2074).
(2)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (22/ 44).
(3)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 48).
(4)
فتح القدير، للشوكاني (5/ 266).
عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئت لحاجة. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)
(1)
.
ومما يدل على فضل أهله أيضًا: قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)
(2)
.
قال ابن حجر: ومفهوم الحديث: أن من لم يتفقه في الدين - أي: يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع - فقد حُرم الخير، ومن لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهًا ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أُريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم"
(3)
.
ثمرة الغرس:
وأما فضله على صاحبه في واقع الحياة فمن ذلك ما ذكره ابن الجوزي حيث يقول: "فأمّا من أنفق عصر الشّباب في العلم فإنّه في زمن الشّيخوخة يحمد جنى ما غرس، ويلتذّ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذّات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذّات العلم. هذا مع وجود لذّاته في الطّلب الّذي كان يأمل به إدراك المطلوب، وربّما كانت تلك الأعمال أطيب ممّا نيل منها، كما قال الشّاعر:
(1)
رواه أبو داود (3/ 354)، وابن ماجه (1/ 81)، وابن حبان، (1/ 289)، وهو صحيح.
(2)
رواه البخاري (1/ 39)، ومسلم (2/ 718).
(3)
فتح الباري (1/ 165).
أهتزّ عند تمنّي وصلِها طربًا
…
وربَّ أمنيّةٍ أحلى من الظّفرِ
ولقد تأمّلت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الّذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدّنيا، وأنفقت زمن الصّبوة والشّباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني ممّا نالوه إلّا ما لو حصل لي ندمت عليه، ثمّ تأمّلت حالي فإذا عيشي في الدّنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين النّاس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم. فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك، فقلت له: أيّها الجاهل، تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف، وما طالت طريق، أدّت إلى صديق:
جزى اللّهُ المسيرَ إليه خيراً
…
وإنْ تركَ المطايا كالمزادِ
ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشّدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصّبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلّا عند الماء، فكلّما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همّتي لا ترى إلّا لذّة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أنّي عُرفت بكثرة سماعي لحديث الرّسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه وأحوال أصحابه وتابعيهم"
(1)
.
العمل بالعلم:
غير أن هذا العلم لا يصل بصاحبه إلى هذا الفضل، ولا يبلغ به إلى هذه الرتبة، ولا يُنيله هذا الشرف إلا بالعمل به، والانتفاع بما يرشد إليه. قال أبو الدرداء:(لا تكونُ عالمًا حتى تكون بالعلم عاملاً)
(2)
.
وعن أبيّ بن كعب قال: "تعلموا العلم واعملوا به، ولا تتعلموه لتتجملوا به؛ فإنه
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 177).
(2)
أخلاق العلماء للآجري (ص: 65).
يوشك إن طال بكم زمان أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه"
(1)
.
فليس كل من حمل العلم نائلاً ما جاء في مدحه، والثناء على أهله، بل هناك بعضٌ مِنْ حملته لا ينتفعون به؛ ولهذا استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع
…
)
(2)
.
وأخبر عليه الصلاة والسلام عن حصول سؤال العبد يوم القيامة عن علمه ماذا عمل به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة عند ربه حتى يسأل عن خمس: عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم"
(3)
.
وذلك أن هذا العلم قد يتعلمه من سيعمل به، وقد يتعلمه من لا يعمل به، ولا يستفيد من نوره وهُداه، قال ابن القيم:" العلماء ثلاثة: عالم استنار بنوره واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء، وعالم استنار بنوره ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما، وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه، وبسطته للناس فتنة لهم، وبسطة الأول رحمة لهم"
(4)
.
إن المتعلمين لهذا العلم كثير، ولكن المنتفعين به عملاً وسلوكًا قليل، فقد يوجد المرائي بهذا العلم، المتباهي بما نال من معلوماته، وقد يتعلمه من يطلب من ورائه عرضًا من الدنيا؛ ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذين المزلقين الخطرين في العلم،
(1)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 6).
(2)
رواه مسلم (4/ 2088).
(3)
رواه الترمذي (4/ 612)، والطبراني، المعجم الكبير (10/ 8)، وهو: حسن.
(4)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 302).
فقال صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً -مما يُبتغى به وجه الله - لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة -يعني: ريحها-)
(1)
. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تَعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترئوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنارَ النار)
(2)
.
فماذا سيربح من يعلِّم الناس الخير ليعملوه وهو لا يعمله؟ إن مَثَل من كان هذا حاله هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)
(3)
.
أو كما قال الشاعر:
وغيرُ تقيٍّ يأمرُ الناسَ بالتقى
…
طبيبٌ يداوي الناس وهو عليل
(4)
أو كما قال الآخر:
يا أيها الرجل المعلِّمُ غيرَه
…
هلّا لنفسِك كان ذا التعليمُ؟
تصفُ الدواءَ لذي السقام وذي الضنا
…
كيما يصحّ به وأنت سقيمُ
ما زلتَ تلقحُ بالرشاد عقولَنا
…
صفةً وأنت من الرشاد عديمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها
…
فإن انتهتْ عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى
…
بالرأي منك وينفع التعليم
لا تنهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثله
…
عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ!
(5)
(1)
رواه أحمد (2/ 338)، وأبو داود (3/ 361)، وابن ماجه (1/ 92)، وابن حبان/ (1/ 279)، وهو صحيح.
(2)
رواه ابن ماجه (1/ 93)، وابن حبان (1/ 278). وهو صحيح.
(3)
رواه الطبراني، المعجم الكبير (2/ 165)، وهو صحيح.
(4)
لآلئ اللآلي، أبو عدي (ص: 22).
(5)
سراج الملوك، للطرطوشي (ص: 95).
أمَا يخاف متعلم أو عالم لا يعمل بعلمه فيما وجب وفيما حرُم ما يكون عليه حاله بين يدي ربه يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)
(1)
.
إن العمل بالعلم أمرٌ حثّ عليه الشارع الحكيم، ودعا إليه أهل العلم العاملون؛ لأنه ثمرة العلم، وبرهان صدق صاحبه. قال ابن عبد البر: "قد ذم الله في كتابه قومًا كانوا يأمرون الناس بأعمال البر ولا يعملون بها، ذمًّا وبخهم الله به توبيخًا يُتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة، فقال:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. قال أبو العتاهية:
وصفتَ التُقى حتى كأنك ذو تقى
…
وريحُ الخطايا من ثيابك تَسطعُ! "
(2)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أُسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت من هؤلاء؟ قالوا: خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون)
(3)
.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "تعلموا، فإذا علمتم فاعملوا"
(4)
. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر، فأقول: لبيك ربّ، فيقول: ما عملت فيما علمت؟ "
(5)
.
(1)
رواه البخاري (3/ 1191)، ومسلم (4/ 2290).
(2)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/ 194).
(3)
رواه أحمد (19/ 244)، وابن حبان (1/ 249)، وهو صحيح.
(4)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 9).
(5)
المصدر السابق (2/ 3).
وقال الخطيب البغدادي: " ثم إني موصيك يا طالب العلم، بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه؛ فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالمًا من لم يكن بعلمه عاملاً، وقيل: العلم والد والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشًا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما، وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته"
(1)
.
وقال ابن الجوزي في "السر المصون: " من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل، زادت المرتبة في دار الجزاء، انْتَهَبَ الزمانَ ولم يُضَيِّع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حَصَّلَهَا. مَنْ وُفِّقَ لهذا، فليبكر زمانه بالعلم، وليصابر كلَّ محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد؛ وليكن مخلصًا في طلب العلم عاملاً به حافظًا له، فأما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان وخسران الجزاء، وإما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له"
(2)
.
المنتفع بالعلم:
وقال ابن القيم: "لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين"
(3)
.
إن المنتفع بالعلم هو الذي صنع منه العلم مؤمنًا يظهر على سلوكه تعظيم الله وإجلاله، وخشيته وتقواه، ومراقبته في السر والعلن، وإيثار مرضاته على رضا كل أحد، وتقديم نصوص الوحي على كل قول ورأي من البشر.
والمنتفع بالعلم هو الذي يرُى مسارعًا إلى الطاعات، متجنباً المعاصي والسيئات،
(1)
اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي (ص: 14).
(2)
مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (2/ 193).
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 31).
داعيًا إلى الخير وهو مسابق إليه، ومحذراً من الشر وهو غير مقيم عليه. قال تعالى عن شعيب عليه السلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
قال الحسن البصري: " لقد أدركت أقوامًا كانوا أأمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن منكر وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام أأمر الناس بالمعروف وأبعدهم منه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه، فكيف الحياة مع هؤلاء؟! "
(1)
.
والمنتفع بالعلم هو الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، الذي لا تأسره أعراض الدنيا ومتاعها الزائل، ولا تستهويه رئاساتها وجاهها، وقد ضرب الله لنا في القرآن مثلينِ لمن حمل العلم النافع ولكنه لم يعمل به، حرصًا على الدنيا وشهواتها.
المثال الأول: قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]
(2)
.
المثال الثاني: قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].
والمنتفع بالعلم هو الذي يحوِّل معلومات علمه إلى واقع وسلوك يعيشه مع الناس، فمن رآه وعاشره قال: هذا شرع الله؛ لأنه لا يصدر عنه إلا ما يوافق شريعة الله تعالى.
غير المنتفع بالعلم:
فأما رجل قرأ العلم وتعلمه وعلّمه، وأحاط بمسائله ومعلوماته، ولكنه غير عامل به
(1)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (2/ 155).
(2)
لابن القيم كلام عظيم عن هذه الآيات تجده في كتابه: الفوائد (ص: 101)، وما بعدها.
فإن علمه الذي تعلمه وبالٌ عليه وحجة عليه. قال الزرنوجي: "وإنما شرف العلم بكونه وسيلة إلى البر والتقوى الذي يستحق بها المرء الكرامة عند الله، والسعادة الأبدية .. فينبغي للإنسان ألا يغفل عن نفسه ما ينفعها وما يضرها في أولها وآخرها، ويستجلب ما ينفعها، ويجتنب ما يضرها؛ كي لا يكون عقله وعلمه حجة عليه، فيزداد عقوبة، نعوذ بالله من سخطه وعقابه"
(1)
.
وليس بمنتفع بالعلم من تعلمه لغرض دنيوي خالص؛ ينال به حظًا عاجلاً بين الناس؛ من منزلة ورتبة، أو وظيفة ورئاسة وشهرة بتميزٍ يفوق به غيره.
قال الماوردي: " ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتابًا جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل وكدت أعجب به وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعًا بعلمه، حضرني- وأنا في مجلسي- أعرابيان، فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لواحدة منهن جوابًا، فأطرقت مفكرا، وبحالي وحالهما معتبرا، فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب، وأنت زعيم هذه الجماعة؟ فقلت: لا. فقالا: واهًا لك، وانصرفا.
ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي فسألاه، فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما وانصرفا عنه راضيين بجوابه، حامدين لعلمه. فبقيت مرتبكًا، وبحالهما وحالي معتبراً. وإني لعلى ما كنت عليه من المسائل إلى وقتي، فكان ذلك زاجرَ نصيحةٍ ونذير عظة، تَذلل بها قيادُ النفس، وانخفض لها جناح العُجب، توفيقًا مُنِحتُه، ورشداً أُوتيته"
(2)
.
وليس بمنتفع بالعلم من لم يزده العلم خشية لربه وتوقيراً، وإجلالاً وتعظيمًا، وطلبًا لرضاه وإن سخط الخلق كلهم. قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. قال عبد الله بن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم خشية
(1)
تعليم المتعلم طريق التعلم، للزرنوجى (ص: 15).
(2)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 82).
الله"
(1)
. وقال ابن رجب: "وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول عن معروف: معه أصل العلم: خشية اللَه. فأصل العلم باللَه الذي يوجب خشيته ومحبته والقرب منه والأنس به والشوق إليه. ثم يتلوه العلم بأحكام اللَه وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد. فمن تحقق بهذين العلمين كان علمه علماً نافعاً، وحصل له العلم النافع، والقلب الخاشع، والنفس القانعة، والدعاء المسموع. ومن فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلي الله عليه وسلم، وصار علمه وبالاً وحجة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنه لم يخشع قلبه لربه، ولم تشبع نفسه من الدنيا، بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً، ولم يسمع دعاؤه؛ لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه"
(2)
.
وليس بمنتفع بالعلم من مال إلى زهرة الدنيا فنافس أهلها، والتهى بها، وانشغل بزينتها عن الآخرة، وغيّر فكره ورؤيته ومواقفه وفتاواه؛ حسب المصالح العاجلة؛ رغبة في حطام الدنيا، وخوفًا من زوال متاعها عنه. يقول ابن القيم عن علماء السوء: " كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، وفي خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة، والذين يتبعون الشهوات؛ فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً، فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت لهما شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه، أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج بالتوبة. وفى هؤلاء وأشباههم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169].
(1)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 25).
(2)
فضل علم السلف على الخلف، لابن رجب (ص: 8).
فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العَرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم، وقالوا: سيغفر لنا، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه، فهم مصرون على ذلك وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق، فيقولون: هذا حكمه وشرعه ودينه، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك. أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه، فتارة يقولون على الله مالا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه.
وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم حب الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة، وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة، ويستعينوا بالصبر والصلاة ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها، والآخرة وإقبالها ودوامها، وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران؛ فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة. فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات"
(1)
.
وقال ذو النون المصري: "كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضًا للدنيا وتركًا لها، فاليوم يزداد الرجل بعلمه للدنيا حبًا ولها طلبًا، وكان الرجل ينفق ماله على العلم، واليوم يكتسب الرجل بعلمه مالاً، وكان يرى على طالب العلم زيادة إصلاح في باطنه وظاهره، فاليوم ترى على كثير من أهل العلم فساد الباطن والظاهر
(2)
.
وليس بمنتفع بالعلم من كان علمه لا يهديه الاستقامة والهَدي الصالح، ولا يغير من أخلاقه المعوجّة وسلوكه المنحرف، ولا يجعله قدوة حسنة بين الناس، يظهر أثر العلم عليه. قال ابن القيم: " علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم؛ فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له. فهم في الصورة أدلَّاء، وفي
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 100).
(2)
المدخل لابن الحاج (2/ 126).
الحقيقة قطاع الطرق"
(1)
.
وقال الماوردي: " وقال علي بن أبي طالب: إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة انتفاع من علم بما علم
…
وكان يقال: خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله، وخير من العلم حامله، وقيل في منثور الحكم: لم ينتفع بعلمه من ترك العمل به، وقال بعض العلماء: ثمرة العلم أن يعمل به، وثمرة العمل أن يؤجر عليه، وقال بعض الصلحاء: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه أقام وإلا ارتحل، وقال بعض العلماء: خير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع، وقال بعض الأدباء: ثمرة العلوم العمل بالعلوم، وقال بعض البلغاء: من تمام العلم استعماله، ومن تمام العمل استقلاله، فمن استعمل علمه لم يخل من رشاد، ومن استقل عمله لم يقصر عن مراد، وقال حاتم الطائي:
وَلَمْ يَحْمَدُوا مِنْ عَالِمٍ غَيْرِ عَامِلٍ
…
خِلَافًا وَلَا مِنْ عَامِلٍ غَيْرِ عَالِمِ
رَأَوْا طُرُقَاتِ الْمَجْدِ عُوَجًا قَطِيعَةً
…
وَأَفْظَعُ عَجْزٍ عِنْدَهُمْ عَجْزُ حَازِمِ
لأنه لما كان علمه حجة على من أخذ عنه واقتبسه منه حتى يلزمه العمل به والمصير إليه؛ كان عليه أحج وله ألزم؛ لأن مرتبة العلم قبل مرتبة القول، كما أن مرتبة العلم قبل مرتبة العمل"
(2)
.
وليس بمنتفع بالعلم من تعامل مع الخلق على خلاف ما لديه من نصوص علم الشريعة، بحيث يحصل عنده مباينة بين ما تعلم وما يعامل الناس به.
وليس بمنتفع بالعلم من لم يهذب العلم أخلاقه، ويجعله من المخلصين فيه، المبتغين به وجه الله، حتى يغدو محبًا لمن أخذ بهذا العلم ونفع الناس به، فلا يحسد ذا علم لكونه فاقه، ونال ما لم ينله، فإن وجد في نفسه عداء ونفرة من ذلك العالم أو المتعلم الذي بزّه وعلاه في الرتبة فليراجع نيته.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 61).
(2)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 88).
قال ابن الجوزي: " تأملت التحاسد بين العلماء، فرأيت منشأه من حب الدنيا؛ فإن علماء الآخرة يتوادون ولا يتحاسدون، كما قال عز وجل: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا}، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُو رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. وقد كان أبو الدرداء يدعو كل ليلة لإخوانه، وقال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي: أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر. والأمر الفارق بين الفئتين: أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها، ويحبون كثرة الجمع والثناء، وعلماء الآخرة بمعزل من إيثار ذلك، وقد كانوا يتخوفونه، ويرحمون من بلي به .. وكان بعضهم إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام عنهم، وكانوا يتدافعون الفتوى. ويحبون الخمول. فمثل القوم كمثل راكب البحر وقد خبَّ- أي: هاجَ واضطربَتْ الأمواج- فعنده شُغْلٌ إلى أن يُوقِنَ بالنجاة. وإنما كان بعضهم يدعو لبعض، ويستفيد منه؛ لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا، فالأيام والليالي مراحلهم إلى سفر الجنة"
(1)
.
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويجعل العلم حجة لنا لا علينا.
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 5).
معرفة الله تعالى
مهما كان للعلوم النافعة من شرف ومنزلة، فإنها لن تساوي العلم بالله تعالى ومعرفته، ومهما كان لها من فائدة وأثر فإنها لن تعدل أثر معرفة الرب تعالى والعلم به؛ لأن هذا العلم الأعظم هو علم غاية يُطلب لذاته، وما سواه من العلوم فعلوم وسيلة يتوصل بها إلى غيرها. و" شرف العلم بحسب شرف معلومه، وشدة الحاجة إليه، وليس ذلك إلا العلم بالله وتوابع ذلك"
(1)
. فـ" أفضل العلم العلم بالله، وأعلى الحب الحب له "
(2)
.
فلذلك كان" العلم بالله وأسمائه وصفاته هو أشرف العلوم على الإطلاق، وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. فقد أخبر سبحانه أنه خلق السموات والأرض ونزل الأمر بينهن ليعلم عباده أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، فهذا العلم هو غاية الخلق المطلوبة، وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]. فالعلم بوحدانيته تعالى وأنه لا إله إلا هو مطلوب لذاته، وإن كان لا يكتفى به وحده، بل لا بد معه من عبادته وحده لا شريك له، فهما أمران مطلوبان لأنفسهما: أن يعرف الرب تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن يُعبد بموجبهما ومقتضاهما، فكما أن عبادته مطلوبة مرادة لذاتها فكذلك العلم به ومعرفته "
(3)
.
إن العلم بالله ومعرفته هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة؛ فلهذا كان هذا العلم"
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 53).
(2)
المرجع السابق.
(3)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 178).
أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد والجهل به أصل شقاوته"
(1)
.
قال ابن القيم: " أشرف ما في الآخرة وأجل المقاصد معرفة الله ومحبته والأنس بقربه والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره، وهذا أجل سعادة الدنيا والآخرة، وهذا هو الغاية التي تُطلب لذاتها، وإنما يشعر العبد تمام الشعور بأن ذلك عين السعادة إذا انكشف له الغطاء وفارق الدنيا ودخل الآخرة وإلا فهو في الدنيا، وإن شعر بذلك بعض الشعور فليس شعوره به كاملاً"
(2)
.
وقال أيضًا: " معرفة الله وتوحيده وعبوديته وحده والإنابة إليه والتوكل عليه، وإخلاص العمل له ومحبته والرضا به، والقيام في خدمته هو الغاية التي خلق لها الخلق، وثبت بها الأمر، وذلك أمر مقصود لنفسه، والمنهيات إنما نهي عنها لأنها صادة عن ذلك أو شاغلة عنه أو مفوِّتة لكماله؛ ولذلك كانت درجاتها في النهي بحسب صدها عن المأمور وتعويقها عنه وتفويتها لكماله، فهي مقصودة لغيرها والمأمور مقصود لنفسه"
(3)
.
وهذا العلم الأعلى هو دعوة الرسل عليهم السلام وما سواه من العلوم الصالحة التي علّمتها الرسل أممها إنما هو تابع لذلك" فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان: أحدهما: تعريف الطريق الموصلة إليه وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه. الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم الذي لا ينفد وقرة العين التي لا تنقطع. وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول، ومبنيان عليه، فأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق
(1)
المرجع السابق (1/ 86).
(2)
عدة الصابرين، لابن القيم (ص: 93).
(3)
المرجع السابق (ص: 28).
الموصل إليه، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه"
(1)
.
قال ابن القيم: " فمدار العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخلقه، وذلك مسلم إلى الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، فهم أعلم الخلق بالله وأمره وخلقه وحكمته في خلقه وأمره"
(2)
.
فما أعظم هذا العلم وأشد حاجة الخلق إليه، وما أخسر من لم يكن له حظ من هذا العلم والمعرفة به! ولو حصَّل مِنْ سواه من العلوم ما حصل ونبغ فيها ما نبغ. " فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله، وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة، وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته، ومعرفة الطريق الموصلة إليه ومآله بعد الوصول إليه"
(3)
.
إن العالم بالله تعالى معمور القلب بتعظيمه وإجلاله، ومحبته والأنس به، والانقياد التام لما جاء عنه، لا يتسع لمزاحمة غيره له في التعلق والاستسلام والحب والرهبة والرغبة. وجوارحه مشغولة بالجِدِّ في مرضاته؛ عملاً بأوامره، وتركًا لنواهيه، ووقوفًا عند حدوده.
يعيش في الدنيا غريبًا مسافراً؛ لأن الله تعالى لم يرضها له دار وطن، بل جعلها دار ضعن، يرتحل منها إلى الدار التي جعلها ربه دارَ أحبابه؛ فلذلك يظل في هذه الحياة القصيرة مشتاقًا لا يغادره الشوق حتى ينزل في تلك الدار فيلقى مولاه الحبيب سبحانه.
آثار معرفة الله تعالى والعلم به:
لاشك أن من ظفر بمعرفة الله تعالى ونال علمًا به أنه سينال خيراً كثيراً في الدنيا
(1)
الصواعق المرسلة، لابن القيم (1/ 151).
(2)
الطب النبوي، لابن القيم (61/ 11).
(3)
هداية الحيارى، لابن القيم (ص: 192).
والآخرة، فمن ذلك الخير:
أولاً: الحصول على نعمة الأُنس بالله تعالى، وامتلاء القلب بمحبته، وما أعظمها من نعمة يوم يجد العبد الأنس بربه في خلوته وجلوته فلا يجد بينه وبينه وحشة تكدر عليه حاله حتى تمنعه من كثرة التقرب إليه والتلذذ بطاعته. وما ذلك الأنس وعدم الاستيحاش إلا أثر امتلاء القلب بمحبته تبارك وتعالى، فإنْ أنِس الناسُ بأحبابهم حينما يجتمعون، ويستوحشون حين يفترقون، فإن القلب المملوء بحب الله يجعل صاحبه يرى أنسه وراحته حينما يخلو بمناجاة ربه صلاةً ودعاء وتفكراً، فلا يجد في تلك الوحدة وحشة كما تجدها القلوب الفارغة من محبة ربها. قال الحسن:"من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها"
(1)
.
وقال هرم بن حيان: "المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة، ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة"
(2)
.
ثانيًا: نيل اللذة، ووجدان حلاوة الإقبال على الله تعالى، فلذاتُ شهوات الدنيا لذاتٌ مكدَّرة، وهي إحساس مؤقت لا يدوم، غير أن اللذة الناتجة عن معرفة الله لذة غير مكدرة، وهي مستمرة ما استمرت المعرفة، ومن زادت معرفته زادت لذته.
قال ذو النون بن إبراهيم المصري: " من عرف ربه وجد طعم العبودية، ولذة الذكر والطاعة، فهو بين الخلق ببدنه قد نأى عنهم بالهموم والخطرات"
(3)
.
وقال الغزالي: " اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خُلق له؛ فلذة العين في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة،
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 295).
(2)
المرجع السابق (4/ 296).
(3)
الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 111).
وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة. ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مخلوق لها. وكلُّ ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرِحَ به .. وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى، وفرح بها، ولم يصبر عن المشاهدة؛ لأن لذة القلب المعرفة. وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر؛ ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو عرف الملك لكان أعظم فرحاً. وليس موجوداً أشرف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم آثار صنعته؛ فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة أعظم من لذة معرفته "
(1)
.
وهذه اللذة هي أعلى اللذات وأرفعها، ولا ينالها إلا أشرف الناس وأرفعهم عند الله، قال ابن القيم:" لذة كل أحد على حسب قدره وهمّته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا وأعلاهم همّا وأرفعهم قدراً مَنْ لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته في إقباله عليه، وعكوف همته عليه، ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله"
(2)
.
ثالثًا: الرضا بقضاء الله وقدره، فمن عرف الله تعالى وعلم به لم يتسخط قضاءه وقدره، ولم يتضجر مما نزل به من المكاره، بل يقابل ذلك كله بالرضا والتسليم؛ لأنه يعلم أن أفعال مَنْ عرفه سبحانه كلها حميدة، وأقضيته كلها عدل وحكمة.
قال ابن الجوزي: " إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته رضيت بقضائه، وقد يجري في ضمن القضاء مراراتٌ يجد بعض طعمها الراضي. أما العارف فتقل عنده المرارة، لقوة حلاوة المعرفة. فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار حلاوة، كما قال القائل:
(1)
كيمياء السعادة، للغزالي (ص: 5).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 150).
عذابُه فيك عذْبُ
…
وبُعدُه عنك قربُ
وأنت عندي كروحي
…
بل أنتَ منها أحبُّ
حسبي من الحُب أني
…
لما تُحب أحب
وقال بعض المحبين في هذا المعنى:
ويَقبحُ مِنْ سواك الفعلُ عندي
…
فتفعلُه فيحسن منك ذاكا"
(1)
رابعًا: حلاوة العيش، وهدوء البال، واستقرار النفس، فمعرفة الله تعالى تصرف عن نفس صاحبها الكدر والاضطراب والشتات، حتى يحيا سعيداً وهو في جوف الأخطار، مبتسمًا وهو بين أشداق الأضرار، ناعمًا وهو في حضن الأكدار. فمن" عرف الله تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كلّ شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأَنِس بالله. ومن عرف الله قرّت عينه بالله وقرّت به كلُّ عين، ومن لم يعرف الله تقطَّع قلبه على الدّنيا حَسَرَاتٍ، ومن عرف الله لم يبق له رغبةٌ فيما سواه"
(2)
.
قال ابن الجوزي: " ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز وجل؛ فإن العارف به مستأنس به في خلوته، فإن عمّت نعمةٌ علم من أهداها، وإن مرَّ مُرٌّ حلا مذاقه في فيه، لمعرفته بالمبتلي، وإن سأل فتعوق مقصوده، صار مراده ما جرى به القدر؛ علماً منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة، وثقته بحسن التدبير"
(3)
.
وقال أحمد بن عبد الحليم: " فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه، إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده والإيمان به: وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 68).
(2)
بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي (ص: 1112) بتصرف.
(3)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 102).
فيها: إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب. وقال آخر: لَتمرُّ على القلب أوقات يرقص فيها طربًا. وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة"
(1)
.
وقال ابن القيم: "فاللذة التامة والفرح والسرور وطيب العيش والنعيم إنما هو في معرفة الله وتوحيده، والأنس به والشوق إلى لقائه واجتماع القلب والهمّ عليه؛ فإن أنكد العيش عيش من قلبه مشتت وهمه مفرّق، فليس لقلبه مستقر يستقر عنده، ولا حبيب يأوي إليه ويسكن إليه؛ كما أفصح القائل عن ذلك بقوله:
وما ذاق طعمَ العيشِ من لم يكن له
…
حبيبٌ إليه يطمئن ويسكُنُ
فالعيش الطيب والحياة النافعة وقرة العين في السكون والطمأنينة إلى الحبيب الأول، ولو تنقل القلب في المحبوبات كلها لم يسكن ولم يطمئن إلى شيء منها، ولم تقر به عينه حتى يطمئن إلى إلهه وربه ووليه الذي ليس له من دونه ولي ولا شفيع، ولا غنى له عنه طرفة عين؛ كما قال القائل:
نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
…
وحنينه أبداً لأولِ منزلِ
فاحرص أن يكون همك واحداً، وأن يكون هو الله وحده، فهذا غاية سعادة العبد، وصاحب هذه الحال في جنة معجلة قبل جنة الآخرة، وفي نعيم عاجل، كما قال بعض الواجدين: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
…
وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا هذا؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)
(2)
. فأخبر أنه حبب إليه من الدنيا شيآن: النساء والطيب، ثم قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة. وقرة
(1)
مجموع الفتاوى (28/ 31).
(2)
رواه أحمد (19/ 305)، والنسائي (7/ 61)، والحاكم (2/ 174)، وهو صحيح.
العين فوق المحبة؛ فإنه ليس كل محبوب تقر به العين، وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات"
(1)
.
ويقول ابن القيم عن شيخه العالم بالله أبي العباس أحمد بن عبد الحليم: " وعلمَ اللهُ ما رأيتُ أحداً أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدراً وأقواهم قلبًا وأسرِّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنتَه قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها. وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره. أو نحو هذا. وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه، والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته؛ هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قوة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات"
(2)
.
خامسًا: ذهاب الحزن والضيق، ورحيل الغموم والهموم، فمن ذاق حلاوة معرفة
(1)
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 29 - 31).
(2)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 67).
الله والقرب منه والأنس به لم تدم لديه مرارات الحياة، ولا تطيل عنده الإقامة.
قال بعض الصالحين: " من عرف الله اتَّسَع عليه كلُّ ضيق"
(1)
.
وقال ابن القيم: "وقوله-يعني: الهروي-: (معرفة الله جلا نورُها كلَّ ظلمة، وكشف سرورُها كل غمة) كلام في غاية الحسن؛ فإن من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبَه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب؛ فإنه لا حزن مع الله أبداً؛ ولهذا قال- حكاية عن نبيه أنه قال لصاحبه أبي بكر-: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما لَه والحزن، وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأي شيء يفرح؟ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]. فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه، فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به؛ من حبيب أو حياة أو مال أو نعمة أو ملك يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة، فيظهر سرورها في قلبه، ونضرتها في وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقّاهم الله نضرة وسروراً، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فهذا هو العلم الذي شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم"
(2)
.
سادسًا: تقليل شأن النفس، واستصغار ما تقوم به من العمل الصالح، وعدم استعظام مكانها في ميدان العبودية. فمن عرف الله تعالى حقًا رأى أن أعماله مهما عظمت وحسنت لا ترقى إلى رتبة استحقاق القبول وحسن الجزاء؛ فحق الله تعالى عليه، ونعمه التي أسداها إليه لا يستطيع بتلك الأعمال شكرها وجزاءها. وهذا الشعور يدعوه إلى
(1)
بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي (ص: 1112).
(2)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 420).
الاستزادة من العمل والقرب، وعدم القناعة بما يقدِّم من الأعمال، ولا يجعله ناظراً إلى نفسه بعين الرضا فيكسل ويبطئ في طريقه إلى ربه. فمن " تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء، وأحواله بعين الدعوى، وأقواله بعين الافتراء، وكلما عظم المطلوب في قلبك صغرت نفسك عندك، وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله، وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله وعرفت النفس وتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملِك الحق ولو جئت بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضًا بكرمه وجوده وتفضله"
(1)
.
الطريق إلى معرفة الله:
إن معرفة الله تعالى لما كانت بهذه المنزلة من الشرف والأثر؛ كان جديراً بالعاقل أن يبحث عن الطريق إلى تحصيلها وتكريم نفسه بنيلها وجعله من أهلها، فمن طرق ذلك:
أولاً: معرفة الإنسان حقيقة نفسه؛ فمعرفة النفس بالعيوب والنقائص والحاجات طريق إلى معرفة الله بنعوت الكمال، وصفات الجلال والجمال، وحسن الفعال، فمن عرف نفسه بالجهل المطلق عرف ربه بالعلم المطلق، ومن عرف نفسه بالفقر المطلق، عرف خالقه بالغنى المطلق، ومن عرف نفسه بالضعف المطلق عرف بارئه بالقوة المطلقة، ومن عرف نفسه بالعجز المطلق عرف الله تعالى بالقدرة المطلقة، وهكذا في بقية الصفات. فـ"من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه؟ "
(2)
.
فـ" مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس، كما قال سبحانه وتعالى:{سَنُريهِم آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ}
…
وليس شيء أقرب إليك من نفسك، فإذا لم تعرف نفسك، فكيف تعرف ربك؟ .... فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة؛ حتى تدرك أي شيء أنت، ومن أين جئت إلى هذا المكان، ولأي شيء خلقت، وبأي شيء
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 176).
(2)
المرجع السابق (ص: 178).
سعادتك، وبأي شيء شقاؤك؟ "
(1)
.
ثانيًا: التفكر في آيات الله في الوجود، ففي الحياة مشاهد تدل على عظمة الله وقدرته وتوحيده، وقوته وحكمته وحسن خلقه، وإتقان ما أوجد وإحكامه؛ ولهذا دعا الله تعالى وأمر في آيات عديدة من القرآن الكريم بالنظر في مخلوقات الله تعالى، قال تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، وقال:{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]. وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18]{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19]{وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20].
قال ابن القيم: "لمعرفة الله طريقان: النظر في مفعولاته، والتفكر في آياته وتدبرها. فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة"
(2)
.
ثالثًا: قراءة كلام الله وتدبره ووعيه والعمل به؛ فالقرآن العظيم تضمن الأدلة المعرِّفة بالله تعالى، المبرهنة على كماله وجماله وجلاله، وذلك يدعو إلى معرفته والعلم به.
و"معرفة الله سبحانه نوعان: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي، والثاني: معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به، والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخالصة الجارية على لسن القوم وتفاوتهم فيها لا يحصيه إلا الذي عرفهم بنفسه، وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم، وكلٌّ أشار إلى هذه المعرفة بحسب مقامه وما كشف له منها، وقد قال أعرف الخلق به:(لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)
(3)
وأخبر أنه
(1)
كيمياء السعادة، للغزالي (ص: 1).
(2)
الفوائد، لابن القيم (22).
(3)
رواه مسلم (1/ 352).
سبحانه (يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما لا يحسنه الآن)
(1)
.
ولهذه المعرفة بابان واسعان: باب التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله، والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمته فيها، وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه، وجِماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك وتعلقها بالخلق والأمر، فيكون فقيهًا في أوامره ونواهيه، فقيهًا في قضائه وقدره، فقيهًا في أسمائه وصفاته، فقيهًا في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم"
(2)
.
قال ابن القيم: " من الناس من يعرف الله بالجود والإفضال والإحسان، ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز، ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام، ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة، ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء، ومنهم من يعرفه بالرحمة والبر واللطف، ومنهم من يعرفه بالقهر والملك، ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته وإغاثة لهفته وقضاء حاجته. وأعلم هؤلاء معرفةً من عرفه من كلامه؛ فإنه يعرف ربًا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال، منزّه عن المثال، بريء من النقائص والعيوب، له كل اسم حسن، وكل وصف كمال، فعّال لما يريد، فوق كل شيء ومع كل شيء، وقادر على كل شيء، ومقيم لكل شيء، آمر ناهٍ متكلم بكلماته الدينية والكونية، أكبر من كل شيء، وأجمل من كل شيء، أرحم الراحمين، وأقدر القادرين، وأحكم الحاكمين. فالقرآن أُنزل لتعريف عباده به، وبصراطه الموصل إليه، وبحال السالكين بعد الوصول إليه"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (4/ 1745)، ومسلم (1/ 184).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 170).
(3)
المرجع السابق (ص: 180).
رَبيعُ القلوب ونورُ الصدور
القرآن الكريم نورٌ هلَّ من السماوات العلا، واستقبل الأرضَ بضيائه العظيم، ليملأها إشراقًا وسناء، ويغسل عيونها من رهج الضلالة حتى ترى الحق، وتبصر سبيل النجاة. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
عظمة القرآن:
إنه كلام الله تعالى فيه "نبأ مَنْ قبلكم، وخبر مَنْ بعدكم، وحُكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخْلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته عن أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2]. من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم"
(1)
. لا ينضب مَعينُه باستقاء وُرَّاده، ولا تفنى جواهره بازدياد غائصيه وقُصَّاده؛ فما زال البحرَ الذي لا ساحل له، والغيثَ الذي لا تُحصى قطراته، والنور الذي لا أمَد لهداياته، فمن سأل عن الشفاء فيه وجده، ومن استرشد به أرشده، ومن تدبره وعقلَه فما نسي حلاوته، ولا هجر تلاوته، قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. ولا عجب؛ فإنه تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على سيد المرسلين؛
(1)
رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه (5/ 172)، وهو ضعيف مرفوعًا.
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
إن هذا الكتاب الكريم هو خير الحديث، وخير الكلام الذي لو {اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. وهو القول الذي أعيى الفصحاء، وأعجز البلغاء، وأخرس الخطباء، ولم يكن بنظم شاعر، ولا سجع كاهن، ولا بقول إنس ولا جن، بل هو كلام المعبود الحق، الخالق للخلق.
فما أعظم أثره على سامعيه وقارئيه ومتدبريه، قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
عن قتادة في قول الله عز وجل: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]، قال: البلد الطيب: المؤمن سمع كتاب الله، فوعاه وأخذ به وانتفع به؛ كمثل هذه الأرض أصابها الغيث، فأنبتت وأمرعت
(1)
، {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} أي: إلا عسراً، فهذا مثل الكافر قد سمع القرآن، فلم يعقله، ولم يأخذ به، ولم ينتفع به، كمثل هذه الأرض الخبيثة أصابها الغيث، فلم تنبت شيئًا، ولم تمرع شيئاً"
(2)
.
إن هذا الكتاب العظيم هو دستور الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة، ودليل النجاة من الشقاء فيهما، وطريق الاهتداء إلى كل خير عاجل وآجل، ولن يكون كذلك إلا لمن أقبل عليه فعمل به، وأنزله من نفسه منزلة التعظيم والإجلال، والانقياد لما جاء به.
غايات إنزال القرآن العظيم:
إن هذا الكتاب المبارك لم ينزل من عند الله تعالى إلا لغايات حميدة، وهي كفيلة
(1)
(أمرع) المكان والوادي مرع والقوم أصابوا الكلأ فأخصبوا. المعجم الوسيط (2/ 864).
(2)
أخلاق حملة القرآن للآجري (ص: 85).
بتحصيل الانتفاع به، وجني ثمراته في حال الحياة وبعدها. فمن غايات إنزال هذا الكتاب الكريم:
الاهتداء به من كل شر وباطل إلى كل خير وحق؛ من الكفر إلى الإسلام، ومن العصيان إلى الطاعة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الحيرة إلى الاطمئنان والهدى. قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. قال ابن كثير: " هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه {وَبَيِّنَاتٍ} أي: دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق والباطل والحلال والحرام"
(1)
.
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
"يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدّد من اهتدى به (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) يقول: للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام، يقول جلّ ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به"
(2)
.
ومن غايات إنزال هذا الكتاب الكريم:
تلاوته وقراءته؛ فهو خطاب الملِك لرعيته، والسيد لعبيده، فكان أحرى أن يُتلى بعناية، ويُقرأ باهتمام، إذ بقراءة القرآن الوصول إلى اتباعه، وتنفيذ ما دعا إليه، والبعد عما حذر منه، وبتلاوته نيل الأجور، وصلاح الأرواح وحياتها من موت الكفر والعصيان
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 269).
(2)
تفسير الطبري (17/ 392).
والقسوة، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى 52]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29]{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30].
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي: يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله، فإنه يقول لصاحبه: إن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة
(1)
؛ ولهذا قال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي: ليوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم {إِنَّهُ غَفُورٌ} أي: لذنوبهم {شَكُورٌ} للقليل من أعمالهم، قال قتادة: كان مُطرِّف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القُرّاء"
(2)
. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان
(3)
أو كأنهما فِرقانِ من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)
(4)
(5)
. وقال رسول الله صلى الله
(1)
يشير إلى حديث: (يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك و أظمئ هواجرك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر .... )، رواه أحمد (38/ 42)، والطبراني، المعجم الأوسط (6/ 51)، وصححه الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 8) وبعض التاسع (6/ 328).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 668).
(3)
الغياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما، قال العلماء: المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين. شرح النووي على مسلم (6/ 90).
(4)
البَطَلَةُ: السَّحَرة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 354).
(5)
رواه مسلم (1/ 553).
عليه وسلم: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)
(1)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن
(2)
: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرأها)
(3)
.
فما أحسن قراءة القرآن، وما ألذ حروفه في اللسان، وألطف وقعها على القلوب والجوارح؛ فالعين ترى في تلك الصفحات المشرقة نوراً يهديها إلى الطريق المستقيم، والأذن تسمع أحلى كلام يصل الأسماع، والقلب يتنعم بتلك المعاني المؤثرة التي تزرع فيه حب هذا الكتاب وحب منزله العظيم، فيعظم رجاؤه لما عند الله من الخير، ويشتد خوفه أن يصل إليه غضبه أو تناله عقوبته، والعقل يتدبر ذلك الكلام البديع الذي لا يدرك من أسراره إلا الشيء اليسير، وكلما زادت قراءته وتأمله انكشفت له حقائق ودقائق لم تكن مرت عليه من قبل.
وللصالحين المخبتين إقبال عظيم على تلاوة كتاب الله، وكثرة قراءته، وملازمة النظر إليه، فما أحرانا بالاقتداء بهم، وما أحوجنا إلى ذلك الذي كانوا عليه من العلاقة بكتاب الله تبارك وتعالى!
ساق الذهبي رحمه الله عند ترجمته لبعض الأعلام حالهم في كثرة قراءة القرآن وختمه، ففي ترجمة الإمام المقرئ أبي بكر بن عياش قال:"ولما حضرت أبا بكر الوفاة، بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك؟! انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة! "
(4)
. وفي ترجمة عبد الله بن إدريس قال: " لما نزل بابن إدريس الموت،
(1)
رواه الترمذي (5/ 175)، وهو صحيح.
(2)
صاحب القرآن هو: من يلازمه بالتلاوة والعمل لا من يقرؤه ولا يعمل به. عون المعبود، للعظيم آبادي (4/ 237).
(3)
رواه أحمد (11/ 404)، وأبو داود (1/ 547)، وابن حبان (3/ 43)، وهو صحيح.
(4)
سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 504).
بكت بنته. فقال: لا تبكي يا بنية؛ فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة"
(1)
.
وفي ترجمة البخاري قال: " كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة"
(2)
. وفي ترجمة ابن عطاء الزاهد قال: " كان له في كل يوم ختمة، وفي رمضان تسعون ختمة، وبقي في ختمة مفردة بضع عشرة سنة يتفهم ويتدبر"
(3)
.
وقال ابن القيم: " وقال أبو بكر العطوي: كنت عند الجنيد حين مات، فختم القرآن، ثم ابتدأ في ختمة أخرى، فقرأ من البقرة سبعين آية، ثم مات"
(4)
.
ومن غايات إنزال هذا الكتاب العظيم:
اتباعه والعمل به، قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121]. أي: " يتبعونه حق اتباعه"
(5)
. " قال عبد الله بن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يَتأول منه شيئًا على غير تأويله"
(6)
.
قال الفضيل بن عياض: " إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً، قيل: كيف العمل به؟ قال: أي: ليحلوا حلاله ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه"
(7)
.
(1)
سير أعلام النبلاء، للذهبي (9/ 44).
(2)
المرجع السابق (12/ 439).
(3)
المرجع السابق (14/ 255).
(4)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 121).
(5)
تفسير الطبري (2/ 569).
(6)
تفسير الطبري (2/ 567).
(7)
اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي (ص: 76).
فالقرآن هو رسالة من المعبود إلى العابد، ومن الخالق إلى المخلوق، يأمره فيه بأوامر عليه القيام بواجبها، والمسارعة إلى مستحبها، وينهاه فيه عن محرمات يجب عليه اجتنابها، فمن آمن بالله رباً فعليه أن يعمل بكتابه الذي هو خطابه إليه، ولا يتخير من أوامر القرآن ما يوافق هواه ليعمل به، ولا يُقبل على ارتكاب المناهي التي تميل إليها نفسه، فمن فعل ذلك الانتقاء فما آمن بالقرآن حق الإيمان.
فالمؤمن به حقًا هو من يقول: سمعنا وأطعنا لكل شيء جاء فيه، ولا ينتقي منه حسب الهوى والمصلحة.
عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدَّق
(1)
، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار)
(2)
.
يعني: " من اقتدى به بالتزام ما فيه من الأحكام قاده إلى الجنة"
(3)
. ومن " من شهد عليه القرآن بالتقصير والتضييع فهو في النار، ويقال: لا تجعل القرآن ماحلاً أي: شاهداً عليك"
(4)
.
وقد شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه هجر قومه للقرآن، ومن هجره: ترك العمل به، قال تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]. قال الشنقيطي: " معنى هذه الآية الكريمة ظاهر، وهو أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم شكا إلى ربّه هجر قومه، وهم كفّار قريش لهذا القرآن العظيم، أي: تركهم لتصديقه، والعمل به، وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن
(1)
أي خَصْمٌ مجادَل مصدَّق. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (4/ 636).
(2)
رواه ابن حبان (1/ 331)، وهو صحيح.
(3)
التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوي (2/ 395).
(4)
فيض القدير، للمناوي (4/ 535).
العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال"
(1)
. وقال ابن كثير: "وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} الآية، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه. وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره، من هجرانه"
(2)
.
ومن غايات إنزال هذا الكتاب العظيم:
تدبره وتفهمه، وتعقله وتأمله. قال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
فالقرآن الكريم لا ينفع قارئه إلا إذا تدبره؛ فإنه بذلك يفتح له آفاقاً رحبة من الخير العاجل والآجل، فهو يُريه طرق الخير وأهلها، وسبل الشر وأصحابها، فيدعوه إلى الطريق الأولى وصحبة سالكيها، ويحذره من الطريق الأخرى والهالكين فيها. ويريه حكمة المشرع المعبود سبحانه في نهيه وأمره، وعظمتَه في خلقه، وفضلَه في إكرامه، وعدله في عقابه، وقوته في مؤاخذته، ورحمته بعباده، وسعةَ علمه في مخلوقاته، وجبروته في قهر أعدائه، ونصرته لأنبيائه وأوليائه، وعزته ومنعته أن يناله أذى المؤذين، وقدرتَه أن يفوته أحد المخلوقين، وسمعه الواسع في إدراك نطق الناطقين، وبصره النافذ العظيم أن تخفى عليه حركة أو سكون من خلقه أجمعين.
إن تدبر القرآن الكريم يورث صاحبه خيراً كثيراً؛ فإنه ما ملَّه من تدبر ألفاظه
(1)
أضواء البيان، للشنقيطي (6/ 48).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 386).
ومعانيه، وما نسي لذته من تدبر أحكامه وحكمه، وما هجره من ذاق طعمه وخالطت بشاشته قلبه، وما لجأ إليه محزون فقرأه متأملاً متدبراً إلا انقشعت عن قلبه سحب الأحزان والغموم، ووجد فيه راحته ونعيمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا)
(1)
.
قوله: "ربيع قلبي: أي: راحته
…
وجعل القرآن ربيع القلب وهو عبارة عن الفرح؛ لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان ويميل إليه في كل مكان، وأقول: كما أن الربيع سبب ظهور آثار رحمة الله تعالى وإحياء الأرض بعد موتها، كذلك القرآن سبب ظهور تأثير لطف الله من الإيمان والمعارف، وزوال ظلمات الكفر والجهل"
(2)
.
وقد "شبه القرآن بزمان الربيع في ظهور آثار رحمه الله وحياة القلب وارتياحه به. قال الشوكاني: أي: أسألك أن تجعل القرآن كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان، وكذلك القرآن ربيع القلوب، أي: يجعل قلبه مرتاحًا إلى القرآن مائلاً إليه راغبًا في تلاوته وتدبره، وقيل: أي: منتزهه ومكان رعيه وانتفاعه بأنواره وأشجاره وثماره، المشبه بها أنواع العلوم والمعارف، وأصناف الحِكم والأحكام واللطائف"
(3)
.
إن هذا الكتابَ العظيم ما تلاه لسانٌ بالتدبر إلا طاب وحلا، ولا وصل أثره قلباً إلا صلح وصفا، ولا حل صدراً إلا انبسط وانشرح، ولا تأمل فيه عقل راجح إلا اتسع
(1)
رواه أحمد (7/ 341)، وابن حبان (3/ 253)، وهو صحيح.
(2)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للقاري (8/ 348).
(3)
مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، للتبريزي (8/ 445).
وانفسح. وهل هملت الدموع الصادقة عند تلاوته أو سماعه إلا بتدبره، وخشعت القلوب بعد أن كانت قاسية كالحجارة إلا بتعقله، وهل عرفت علوم الشريعة إلا بالنظر فيه، والتفكر فيما يحويه. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء 82].
لقد كان لأهل الإيمان مع تدبر القرآن حديث مؤثر، خشعت له قلوبهم، ودمعت منه عيونهم، وسارعت به إلى الأعمال الصالحة جوارحهم.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي القرآن). قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال:(إني أشتهي أن أسمعه من غيرى). فقرأت النساء حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء 41]، رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل
(1)
.
فما الذي أبكاه عليه الصلاة والسلام إلا التدبر والتفكر فيما سمع.
وكان خليفته أبوبكر الصديق رضي الله عنه رجلاً أسيفاً أي: حزيناً لا يفتتح الصلاة قارئاً إلا هملت عيناه، قالت عائشة رضي الله عنها:"كان أبو بكر إذا قرأ القرآن كثيرَ البكاءِ". زاد بعضهم: "في صلاة وغيرها"
(2)
. وعنها قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكَّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (4/ 1927)، ومسلم (1/ 551).
(2)
جامع الأصول، لابن الأثير (2/ 466).
(3)
صحيح البخاري (1/ 181).
وعمر الفاروق رضي الله عنه في ليلة من ليالي عدله وإحساسه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه يخرج ليتفقد رعيته، إذ مر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ الطور حتى بلغ:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور 7 - 8]، فقال عمر: قسم ورب الكعبة، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث ملياً ثم رجع إلى بيته فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه
(1)
. وما مرضه إلا بسبب تأثره بما سمع.
وهذا الصحابي الكريم أبو طلحة رضي الله عنه يقرأ سورة التوبة، فلما بلغ قوله تعالى:{انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة 41]. قال: أرى ربنا يستنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بَني. فركب البحر غازياً في سبيل الله فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام فنزلوا فدفنوه، ولم يكن قد تغير جسده خلال تلك الأيام التسعة فوق السفينة رضي الله عنه ورحمه
(2)
.
وجبير بن مطعم رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]{أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور: 36]{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 37]. قال: كاد قلبي أن يطير
(3)
. فكان ذلك من أسباب إسلامه. نعمْ لقد تأثر حتى طار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والفضيل بن عياض رحمه الله كان قبل توبته قاطع طريق، وعشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 290).
(2)
تفسير ابن كثير/ (2/ 438).
(3)
صحيح البخاري (4/ 1839).
قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد 16].
فقال: بلى، والله قد آن، فنزل وتاب وصار يضرب بعبادته وصلاحه المثل بعد ذلك، رحمه الله
(1)
.
قال ابن القيّم-مبينًا ثمرات التدبر-: "أمّا التّأمّل في القرآن: فهو تحديق نظر القلب إلى معانيه. وجمع الفكر على تدبّره وتعقّله. وهو المقصود بإنزاله، لا مجرّد تلاوته بلا فهم ولا تدبّر، قال اللّه تعالى:{كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ} [ص: 29]، وقال تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [محمد: 24] وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى:{إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] وقال الحسن: «نزل القرآن ليتدبّر ويعمل به. فاتّخذوا تلاوته عملا» . فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبّر القرآن، وإطالة التّأمّل. وجمع الفكر على معاني آياته. فإنّها تطلع العبد على معالم الخير والشّرّ بحذافيرها، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتتلّ في يده
(2)
مفاتيحَ كنوز السّعادة، والعلوم النّافعة، وتثبّت قواعد الإيمان في قلبه. وتشيّد بنيانه، وتوطّد أركانه. وتريه صورة الدّنيا والاخرة، والجنّة والنّار في قلبه. وتحضره بين الأمم وتريه أيّام اللّه فيهم. وتبصّره مواقع العبر، وتشهده عدل اللّه وفضله. وتعرّفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبّه وما يبغضه، وصراطه الموصّل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطّريق وآفاتها. وتعرّفه النّفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصحّحاتها وتعرّفه طريق أهل الجنّة وأهل النّار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم. ومراتب أهل السّعادة وأهل الشّقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه. وافتراقهم فيما يفترقون فيه. وبالجملة تعرّفه الرّبّ المدعوّ إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه. وتعرّفه مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشّيطان، والطّريق الموصّلة إليه، وما للمستجيب
(1)
سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 423).
(2)
تل الشيء في يده: وضعه فيها. المعجم الوسيط (1/ 87).
لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه. فهذه ستّة أمور ضروريّ للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها. فتشهده الآخرة حتّى كأنّه فيها، وتغيّبه عن الدّنيا حتّى كأنّه ليس فيها، وتميّز له بين الحقّ والباطل في كلّ ما اختلف فيه العالَم، فتريه الحقّ حقًّا، والباطل باطلاً. وتعطيه فرقانًا ونوراً يفرّق به بين الهدى والضّلال، والغيّ والرّشاد، وتعطيه قوّة في قلبه، وحياة واسعة، وانشراحًا وبهجة وسروراً. فيصير في شأن والنّاس في شأن آخر .. فإنّ معاني القرآن دائرة على التّوحيد وبراهينه، والعلم باللّه وما له من أوصاف الكمال، وما ينزّه عنه من سمات النّقص، وعلى الإيمان بالرّسل، وذكر براهين صدقهم، وأدلّة صحّة نبوّتهم، والتّعريف بحقوق مرسلهم، وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلويّ والسّفليّ، وما يختصّ بالنّوع الإنسانيّ منهم، من حين يستقّر في رحم أمّه إلى يوم يوافي ربّه ويَقدم عليه، وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعدّ اللّه فيه لأوليائه من دار النّعيم المطلق، الّتي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد ولا تنغيص. وما أعدّ لأعدائه من دار العقاب الوبيل، الّتي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح. وتفاصيل ذلك أتمّ تفصيل وأبينه. وعلى تفاصيل الأمر والنّهي، والشّرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص، والأمثال، والأسباب، والحكم، والمبادئ، والغايات، في خلقه وأمره. فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربّه بالوعد الجميل، وتحذّره وتخوّفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثّه على التّضمّر والتّخفّف للقاء اليوم الثّقيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السّبيل.
وتصدّه عن اقتحام طرق البدع والأضاليل وتبعثه على الازدياد من النّعم بشكر ربّه الجليل، وتبصّره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها لئلّا يتعدّاها فيقع في العناء الطّويل، وتثبّت قلبه عن الزّيغ والميل عن الحقّ والتّحويل. وتسهّل عليه الأمور الصّعاب والعقبات الشّاقّة غاية التّسهيل. وتناديه كلّما فترت عزماته، وونى في سيره: تقدّم الرّكبُ وفاتك الدليل. فاللّحاقَ اللّحاق، والرّحيلَ الرّحيل، وتحدو به، وتسير أمامه سير
الدّليل. وكلّما خرج عليه كمين من كمائن العدوّ أو قاطع من قطّاع الطّريق نادته: الحذرَ الحذر، فاعتصم باللّه، واستعن به، وقل: حسبي اللّه ونعم الوكيل. وفي تأمّل القرآن وتدبّره، وتفهّمه أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد"
(1)
.
ومن غايات إنزال هذا الكتاب الكريم:
الرجوع إليه عند التنازع، والتحاكم إليه عند الاختلاف، ورد الأمور التي يطلب فيها الفصل إليه لا إلى غيره ما دام ذلك فيه، فهو المرجع المعصوم الذي يقضي بالحق، ويحكم بالقسط؛ لأنه كلام الخالق سبحانه العليم بما يصلح خلقه، فليس من الإيمان أن يُقرأ هذا الكتاب ويعظم ثم يبحث عن بديل عنه من آثار عقول البشر القاصرة، أو المناوئة لما فيه، والمعادية لقائله جل وعلا، يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]. يقول الشنقيطي: "مسألة: اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع، سبحان الله وتعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم -ولن تكون- فليتبع تشريعهم. وإن ظهر يقينًا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية. سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه. فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا:{وَما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 451 - 452).
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 10 - 12]. فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي: خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجًا، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى:{ثَمانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضأنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143]، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأنه له مقاليد السماوات والأرض، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي: يضيقه على من يشاء وهو بكل شيء عليم.
فعليكم -أيها المسلمون- أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعًا من كافر خسيس حقير جاهل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى:{فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، فقوله فيها:{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} كقوله في هذه: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}
…
"
(1)
ثم ساق رحمه الله آيات كثيرة تتعلق بهذه المسألة وعلق عليها بما لا مزيد عليه
(2)
.
(1)
أضواء البيان، للشنقيطي (7/ 49).
(2)
المرجع السابق (7/ 49 - 54).
محبةُ اللهِ تعالى
إن محبة الله تعالى عبادةٌ من أعظم العبادات، وقُربة من أجلِّ القربات، ودرجة عليا إذا صدق صاحبها فيها بلَّغته أعلى المقامات، وأنالته أحسنَ الهبات. فهي" حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذّة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلّا بها. وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمّه، واللّسان إذا فقد نطقه، بل فساد القلب إذا خلا من محبّة فاطره وبارئه وإلهه الحقّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الرّوح، وهذا الأمر لا يصدّق به إلّا من فيه حياة"
(1)
.
وهي" المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبرَوح نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرِمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشِّفاء الذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدر
(1)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 168).
مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة!
تالله لقد سبق القوم السُّعاة وهم على ظهور الفرش نائمون، وقد تقدموا الرَّكبَ بمراحل وهم في سيرهم واقفون.
مَنْ لي بمثلِ سَيْرك المدلَّلِ
…
تمشي رُويداً وتجيْ في الأولِ
أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم: حي على الفلاح، وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول سُراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يحمد القومُ السُّرى عند الصباح"
(1)
.
وكيف لا نحب الله سبحانه وهو ربنا وخالقنا، ورازقنا، والمنعم علينا بكل نعمة نحن فيها؟!
ولا ريب أنه "لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها؛ فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربها ومدبِّرها ورازقها، ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس وحياة الأرواح، وسرور النفوس وقوت القلوب، ونور العقول وقرة العيون وعمارة الباطن، فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكية أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسرَّ ولا أنعمَ من محبته، والأنس به والشوق إلى لقائه، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة
…
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب وله أحب وإليه أقرب؛ وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه ولا يعرف إلا بالذوق والوجد"
(2)
.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 6).
(2)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (2/ 197).
" لو عرفنا حبيَبنا ما سلونا، ولكن قدره ما قَدَرنا، لو سعدنا بوصله ما شقينا، لو غنينا بفضله ما افتقرنا، لو روينا من حبِّه ما ظمئنا، لو سلكنا في طريقه ما عثرنا، هو نِعم الحبيب لكننا بئس المحبون"
(1)
.
إن المحبة علامة فارقة بين الموحدين والمشركين؛ فالموحدون صرفوها لله تعالى وحده، دون شريك؛ ولذلك كان" أصل التوحيد وروحه: إخلاص المحبة لله وحده، وهي أصل التأله والتعبد له، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها، ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعًا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه. ومن تفريعها وتكميلها: الحب في الله، فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال، ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه، وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده"
(2)
.
وأما المشركون فأخلصوها لمعبوداتهم من دون الله، أو أشركوا بينهم وبينه فيها؛ "فمعلوم أن أصل الإشراك العملي بالله الإشراك في المحبة؛ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
…
} [البقرة: 165]. فأخبر أن من الناس من يشرك بالله فيتخذ أنداداً يحبونهم كما يحبون الله، وأخبر أن الذين آمنوا أشد حبًا لله من هؤلاء، والمؤمنون أشد حبًا لله من هؤلاء لأندادهم ولله؛ فإن هؤلاء أشركوا بالله في المحبة فجعلوا المحبة مشتركة بينه وبين الأنداد، والمؤمنون أخلصوا دينهم لله الذي أصله المحبة لله فلم يجعلوا لله عدلاً في المحبة، بل كان الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما"
(3)
.
(1)
التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي (ص: 23).
(2)
القول السديد في مقاصد التوحيد، للسعدي (ص: 127).
(3)
قاعدة في المحبة (ص: 69).
المحبة الصادقة:
المحبة الصادقة لله: أن تهب إرادتك وعزمك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك له، وتجعلها حبسًا في مرضاته ومحابّه
(1)
.
قال ابن القيم: " أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حُبه كلها لله تعالى وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه وروحه وجوارحه، فيوحد محبوبه ويوحد حبه .. والمحبة لا تصح إلا بذلك؛ فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له"
(2)
.
ومن تحقيق هذه المحبة: " أن لا يحب إلا في الله، ولا يبغض إلا فيه، ولا يوالي إلا فيه، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعطي إلا له ولا يمنع إلا له، ولا يرجو إلا إياه، ولا يستعين إلا به، فيكون دينه كله ظاهراً وباطنًا لله، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه بل:
يعادي الذي عادى من الناس كلِّهم
…
جميعًا ولو كان الحبيبَ المصافيا
وحقيقة ذلك: فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربه وحقوقه"
(3)
.
مظاهر محبة العبد لله:
إن محبة الله تعالى قد يدعيها من ليس من أهلها، ويتفوه بها من هو كاذب في قولها؛ ولذلك كانت هناك مظاهر يُعرف بها المحب الصادق من المحب الكاذب أو المدعي للمحبة، فمن تلك المظاهر:
أولاً: موافقة الله فيما يحب وما يكره، فيحب المرء ما يحب الله تعالى من الأمكنة،
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 12).
(2)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 199).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 167).
والأزمنة، والأشخاص والأعمال والأقوال، ويكره من ذلك ما يكرهه الله تعالى.
فمن" أحب الله وأحبه الله أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله، ووالى من يواليه الله، وعادى من يعاديه الله، لا تكون محبة قط إلا وفيها ذلك بحسب قوتها وضعفها؛ فإن المحبة توجب الدنو من المحبوب والبعد عن مكروهاته، ومتى كان مع المحبة نبذ ما يبغضه المحبوب فإنها تكون تامة
…
وأما موادة عدوِّه فإنها تنافي المحبة، قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] "
(1)
.
"فيجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] "
(2)
.
ثانيًا: البعد الشديد عن معصية الله سبحانه، وتصبير النفس على ترك مخالفته، فـ" المحبة تستبين بترك المخالفة، ولا تبين بكثرة الأعمال، كما قيل: أعمال البرّ يعملها البرّ والفاجر، والمعاصي لا يتركها إلا صديق"
(3)
.
فليس صادقًا في حب الله من انهمك في معاصيه، وأسرف على نفسه بمخالفة ربه، كما قيل:
تعصي الإلهَ وأنت تُظهر حبَّه
…
هذا محالٌ في القياس بديعُ
(1)
قاعدة في المحبة (ص: 89).
(2)
المرجع السابق (ص: 92).
(3)
قوت القلوب، لأبي طالب المكي (2/ 90).
لو كان حبُّك صادقاً لأطعمتَه
…
إن المحبَّ لمن يحب مطيعُ
(1)
.
قال ابن القيم: " محبة الله هي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها، وفرقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفُه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده، وفي هذا قال عمر: نِعمَ العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. يعني: أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته، فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه. وههنا لطيفة يجب التنبه لها وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوعَ أُنس وانبساط وتذكر واشتياق؛ ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم. فما عمر القلبَ شيءٌ كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"
(2)
.
ولكن ينبغي أن يُعلم أن المعاصي التي لا تصل إلى حد الكفر لا تزيل أصل محبة الله بالكلية وإنما تنقصها بقدر تلك الخطايا. فـ" الذنوب تنقص من محبة الله تعالى بقدر ذلك، لكن لا تزيل المحبة لله ورسوله إذا كانت ثابتة في القلب، ولم تكن الذنوب عن نفاق؛ كما في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب في الذي كان يشرب الخمر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقيم عليه الحد، فلما كثر ذلك منه لعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1)
الكامل في اللغة والأدب، للمبرد (2/ 4).
(2)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 409).
(لا تلعنه؛ فإنه يجب الله ورسوله) ".
(1)
.
ثالثًا: كمال الأنس بمناجاة الله تعالى، والتلذذ بالخلوة به. قال ابن قدامة المقدسي:" علامة المحبة: كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعيم بالخلوة به، وكمال الاستيحاش من كل ما ينقض عليه الخلوة، ومتى غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحب والأنس قلبه"
(2)
.
رابعًا: حب كلام الله تعالى، وما جاء من عنده، من غير إعمال الاختيار مما صدر عنه مما يوافق الهوى ورغبة النفس.
قال أبو طالب المكي: " ومن علامة حب اللّه: حب القرآن"
(3)
.
خامسًا: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه.
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)؛ ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب، إنما الشأن أن تُحَب. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} "
(4)
.
(1)
قاعدة في المحبة (ص: 72).
(2)
مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (4/ 117).
(3)
قوت القلوب، لأبي طالب المكي (1/ 105).
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 440).
وقال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم: " محبة الله مستلزمة لمحبة ما يحبه من الواجبات كما قال تعال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فإن اتباع رسوله هو من أعظم ما أوجبه الله تعالى على عباده وأحبه، وهو سبحانه أعظم شيء بغضًا لمن لم يتبع رسوله، فمن كان صادقًا في دعوى محبة الله اتبع رسوله لا محالة، وكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"
(1)
.
سادسًا: كثرة ذكره سبحانه وتعالى.
"قال الربيع بن أنس: علامة حب الله: كثرة ذكره؛ فإنك لا تحب شيئًا إلا أكثرت من ذكره"
(2)
.
سابعًا: الشفقة بالمؤمنين والشدة على الكافرين، والجهاد في سبيل الله، وعمل الطاعات من غير خوف لوم الناس عليها. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
ففي هذه الآية الكريمة ذكر الله تعالى للمحبين الصادقين أربع علامات:
الأولى: أنّهم: أذلّة على المؤمنين، قيل: معناه: أرقاء رحماء مشفقين عليهم عاطفين عليهم، فلما ضمَّن أذلة هذا المعنى عدّاه بأداة (على). الثانية: أعزة على الكافرين، قال عطاء: للمؤمنين كالولد لوالده، والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد واللسان والمال، وذلك تحقيق دعوى المحبة.
(1)
قاعدة في المحبة (ص: 72).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 218).
العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهذا علامة صحة المحبة، فكل محب يأخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة
(1)
.
وما أجمل وصف ابن القيم عن براهين المحبة لله تعالى يوم قال: " لما كثر المدعون للمحبة طُولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخليُّ حرقة الشجي
(2)
فتنوع المدعون في الشهود فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ، فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون. فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك. فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معها: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] "
(3)
.
الطريق إلى محبة الله تعالى:
إن محبة الله تعالى غاية عليّة، وهدف سامٍ لا يُوصل إليه بالأماني والدعاوى، وإنما يُسلك إليه طريقٌ معمور بالعمل الصالح الباطن والظاهر، وقد لخص ابن القيم طرق نيل
(1)
المرجع السابق (2/ 218) بتصرف.
(2)
الخلي: الفارغ البال من الهم. والشجي: الحزين.
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 8).
المحبة فقال: " فصل في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه. الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض؛ فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة. الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر. الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة؛ ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطّاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب. السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة؛ فإنها داعية إلى محبته. السابع -وهو من أعجبها- انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات. الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة. التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر
…
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب. ومِلاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة "
(1)
.
ثمرات محبة الله تعالى:
إن الإنسان إذا وصل إلى درجة الحب الصادق لله تعالى نال بذلك ثمرات حسنة في
(1)
المرجع السابق (3/ 17).
هذه الحياة، تبلغ به هذه الثمرات- إذا استمر عليها حتى الموت- إلى الفوز برضوان الله وجنته في الآخرة.
قال ابن القيم: "إذا غُرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب؛ أثمرت أنواع الثمار، وآتت أُكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى"
(1)
.
فمن تلك الثمرات اليانعة:
أولاً: الحصول على حلاوة الإيمان
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)
(2)
.
"وحلاوة الإيمان: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح"
(3)
، وهذا من أعظم النعم، وأجل العطايا.
ثانيًا: جفاف ينابيع الشهوات، بحيث يجد المحب في لذة محبة الله والانشغال بها ما يسليه عن الشهوات ويزهده فيها، ويبغضها إليه؛ لمباينتها ما هو متنعم فيه.
قال ابن القيم: " لو تغذى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات
ولو كنتَ عُذريَّ الصبابةِ لم تكن بطينًا وأنساك الهوى كثرةَ الأكلِ"
(4)
ثالثًا: الانشغال بحبه سبحانه عن حب غيره، حتى يغدو قلب المحب ليس فيه مكان
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 9).
(2)
رواه البخاري (1/ 14)، ومسلم (1/ 66).
(3)
القول المفيد على كتاب التوحيد، لابن عثيمين (2/ 54).
(4)
الفوائد، لابن القيم (ص: 77).
يتسع لمزاحمة أحد لحب مولاه، ولا لديه رغبة للانتقال إلى حب ما سواه. قال ابن القيم:" وقال بعض المحبين: إن حبه عز وجل شغل قلوب محبيه عن التلذذ بمحبة غيره، فليس لهم في الدنيا مع حبه عز وجل لذة تداني محبته، ولا يؤملون في الآخرة من كرامة الثواب أكبر عندهم من النظر إلى وجه محبوبهم"
(1)
.
وقال أيضًا: " ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدِّم عليه حبًّا لغيره، ولا أُنسًا به"
(2)
.
رابعًا: دوام ذكره، وعدم الغفلة عنه؛ حتى كأن المحبة قد تغلغلت في المحب فكانت جزء من حياته، فصار المحبوب سبحانه حيَّ الذكر لدى المحب ما بقيت في المحب حياة.
قال ابن القيم: " لو صحت محبتك لاستوحشت ممن لا يذكِّرك بالحبيب، واعجبًا لمن يدعى المحبة ويحتاج إلى من يذكره بمحبوبه، فلا يذكُرُه إلا بمذكِّر! أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكر المحبوب.
ذكرتُك لا أني نسيتُك ساعةً
…
وأيسرُ ما في الذِّكر ذِكرُ لساني
إذا سافر المحب للقاء محبوبه ركبت جنوده معه، فكان الحب في مقدمة العسكر، والرجاء يحدو بالمطي، والشوق يسوقها، والخوف يجمعها على الطريق، فإذا شارف قدوم بلد الوصل خرجت تقادم الحبيب باللقاء.
فداوِ سُقمًا بجسمٍ أنت مُتْلِفُهُ
…
وابردْ غرامًا بقلبٍ أنت مُضرمُهُ
ولا تكلني على بُعد الديار إلى
…
صبري الضعيفِ فصبري أنت تَعلمُهُ
تلقَّ قلبي فقد أرسلتُه عجِلاً
…
إلى لقائك والأشواقُ تَقدُمهُ
(1)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 167).
(2)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (2/ 198).
فإذا دخل على الحبيب أفيضت عليه الخِلَع من كل ناحية؛ ليُمتَحن: أيسكن إليها فتكون حظه، أم يكون التفاته إلى من ألبسه إياها"
(1)
.
خامسًا: الرضا بقضائه وقدره، واستقبال ما جاء من المكاره من غير سخط ولا ضجر
كان عامر بن عبد قيس يقول: أحببت الله حبًا سهل عليَّ كل مصيبة، ورضّاني بكل قضية، فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت
(2)
.
إن" المحب يجد في لذة المحبة ما ينسيه المصائب، ولا يجد من مسها ما يجد غيره، حتى كأنه قد اكتسى طبيعة ثانية ليست طبيعة الخلق، بل يقوى سلطان المحبة حتى يلتذ المحب بكثير من المصائب التي يصيبه بها حبيبه أعظم من التذاذ الخلي بحظوظه وشهواته، والذوق والوجد شاهد بذلك"
(3)
.
سادسًا: الوقوف عند حدود الله، وبلوغ المراتب العالية في معراج العبودية، فالمؤمن المحب لا يتجاوز ما حدّ له محبوبه، بل يسعى إلى الترقي إلى أعلى رتب الذل والخضوع والانقياد لما جاء عنه سبحانه.
وما " حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فساداً لا يرجى صلاحه أبداً، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه"
(4)
.
"ولا ريب أن كمال العبودية تابع لكمال المحبة، وكمال المحبة تابع لكمال المحبوب في نفسه، والله سبحانه له الكمال المطلق التام في كل وجه الذي لا يعتريه توهمُ نقصٍ أصلاً،
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 77).
(2)
كيف نحب الله ونشتاق إليه، مجدي الهلالي (ص: 9).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 36).
(4)
متاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 88).
ومَن هذا شأنه فإن القلوب لا يكون شيء أحب إليها منه ما دامت فِطرها وعقولها سليمة، وإذا كانت أحب الأشياء إليها فلا محالة أن محبته توجب عبوديته وطاعته، وتتبع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه، وهذا الباعث أكمل بواعث العبودية وأقواها حتى لو فرض تجرده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوسع واستخلص القلب للمعبود الحق، ومن هذا قول بعض السلف: إنه ليستخرج حبه من قلبي ما لا يستخرجه قوله"
(1)
.
قال ابن القيم: " وكلما ازداد له حبًا ازداد له عبودية وذلاً وخضوعًا، ورقًا له وحرية عن رق غيره، فالقلب لا يفلح ولا يصلح، ولا يتنعم ولا يبتهج، ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقة وقلقًا حتى يظفر بما خُلق له وهيء له: من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه؛ فإن فيه فقراً ذاتيًا إلى ربه وإلهه من حيث هو معبوده ومحبوبه، وإلهه ومطلوبه، كما أن فيه فقراً ذاتيًا إليه من حيث هو ربه وخالقه ورازقه ومدبره، وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له:
فأصبحَ حُرَّاً عزةً وصيانةً
…
على وجهه أنوارُه وضياؤه"
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى (15/ 21).
(2)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (2/ 198).
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
" التقوى" ومشتقاتها من الكلمات التي كثر الحديث عنها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ أمراً بها، وحثًا عليها، وبيانًا لثمراتها، وذكراً للجزاء الحسن الذي ينتظر أهلها.
حقيقة التقوى:
التقوى هي: جعل النفس في وقاية مما يخاف، ثم صارت في عرف الشرع: حفظ النفس عما يؤثِّم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات
(1)
.
وقال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار: يا كعب، حدثني عن التقوى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما صنعت؟ قال: حذرتُ وشمَّرت. قال: فكذلك التقوى"
(2)
.
ومثله ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه
(3)
.
ويعنون بهذا: أن التقوى هي الحذر من الوقوع في طريق المعاصي، والاتجاه نحو طريق الطاعات.
فأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال:
خلِّ الذُّنوبَ صَغِيرَها
…
وكَبِيرَها فَهْوَ التُّقَى
واصْنَعْ كماشٍ فَوْقَ أَرْ
…
ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرَى
(1)
مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني (2/ 530).
(2)
التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي (ص: 123).
(3)
الدر المنثور، للسيوطي (1/ 61).
لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً
…
إنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى
(1)
.
وقال الحسن: المتقون اتَّقَوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افْتُرِض عليهم.
وقال عُمَر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليطِ فيما بَيْنَ ذلك، ولكن تقوى اللهِ تركُ ما حرَّم الله، وأداءُ ما افترضَ الله
(2)
.
وقال ابن رجب: "وأصلُ التّقوى: أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه: أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعلُ طاعته، واجتنابُ معاصيه
(3)
.
وقال ابن القيم: "وأما التقوى فحقيقتها: العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيمانًا بالأمر، وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده، كما قال طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى
(4)
.
مراتبها:
ليست التقوى على مرتبة واحدة، بل هي على مراتب، يتفاوت أهلها فيها حسب قيامهم بأعمالها، وتظهر آثارها الحسنة عليهم بحسب درجتهم في تلك المنازل فـ" التقوى ثلاث مراتب: إحداها: حِمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات. الثانية: حميتها عن المكروهات. الثالثة: الحِمية عن الفضول وما لا يعني. فالأولى: تعطي العبد حياته. والثانية:
(1)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (20/ 11).
(2)
المرجع السابق (20/ 8).
(3)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (20/ 5).
(4)
الرسالة التبوكية، لابن القيم (2/ 9).
تفيده صحته وقوته. والثالثة: تكسبه سروره وفرحه وبهجته"
(1)
.
أهمية التقوى:
بناء على تعريف التقوى بأنها فعل الأوامر وترك النواهي-كما تقدم قريبًا- يتبين أن التقوى هي الدين كله؛ فلذلك نجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ما يبين أهميتها ويظهر للناس فضلها، فمن ذلك:
أولاً: أن الله تعالى أمر بها عباده أجمعين عمومهم وخصوصهم؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1].
ثانيًا: أنها وصية الله تعالى لعباده، ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته جمعًا وأفراداً، والوصية لا تكون إلا في الأمور العظيمة.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]. "وجعلُ الأمر بالتقوى وصية: لأن الوصية قول فيه أمر بشيء نافع جامع لخير كثير؛ فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول؛ لأنها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله. والتقوى تجمع الخيرات؛ لأنها امتثال الأوامر واجتناب المناهي؛ ولذلك قالوا: ما تكرر لفظ في القرآن ما تكرر لفظ التقوى- يعنون غير الأعلام، كاسم الجلالة-"
(2)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 31).
(2)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (4/ 271).
وعن العرباض بن سارية قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع فأوصنا قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع و الطاعة
…
)
(1)
.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (أوصيك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف)
(2)
.
وعن أبي سعيد الخدري، أن رجلاً جاءه فقال: أوصني. فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك" أوصيك بتقوى الله؛ فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء، وذكر لك في الأرض)
(3)
.
"قال الغزالي: ليس في العالم خصلة للعبد أجمع للخير وأعظم للأجر وأجل في العبودية، وأعظم في القدر وأدنى بالحال وأنجع للآمال من هذه الخصلة التي هي التقوى، وإلا لما أوصى الله بها خواص خلقه، فهي الغاية التي لا متجاوز عنها ولا مقتصر دونها. قد جمع الله فيها كل نصح ودلالة، وإرشاد وتأديب وتعليم، فهي الجامعة لخيري الدارين، الكافية لجميع المهمات، المبلغة إلى أعلى الدرجات"
(4)
.
ثالثًا: أنها خير الزاد ليوم المعاد
قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
قال الرازي: الإنسان له سفرانِ: سفر في الدنيا، وسفر من الدنيا؛ فالسفر في الدنيا لا
(1)
رواه أحمد (28/ 373)، والترمذي (5/ 44)، وأبو داود (4/ 329)، وهو صحيح.
(2)
رواه الترمذي (5/ 500)، وابن ماجه (2/ 926)، وهو حسن.
(3)
رواه أحمد (18/ 297)، وهو حسن.
(4)
فيض القدير، للمناوي (3/ 74).
بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه:
الأول: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن. وثانيها: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم. وثالثها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة، آمنة من الانقطاع والزوال. ورابعها: أن زاد الدنيا يُوصِلُك إلى دُنيا مُنقضيةٍ وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول غير منقضية. وخامسها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس.
فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى، إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية فكأنه تعالى قال: لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني: إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد؛ لما فيه من كثرة المنافع
(1)
.
قال الأعشى:
إذا أنْتَ لمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
…
وَلاقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قد تزَوّدَا
نَدِمْتَ على أنْ لا تَكُونَ كمِثْلِهِ
…
وأنكَ لمْ ترصدْ لما كانَ أرصدا
(2)
"لما حضرت عبيدَ الله بن شداد الوفاةُ دعا ابنه محمداً فأوصاه وقال له: يا بني، أرى داعِي الموت لا يقلع وبحقٍّ إنَّ من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع. يا بني، ليكن أولى الأمور بك تقوى الله في السر والعلانية، والشكر لله، وصدق الحديث والنية؛ فإن للشكر
(1)
تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (5/ 143).
(2)
ديوان الاعشى (4/ 1).
مزيداً، والتقوى خير زاد؛ كما قال الحطيئة:
ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ
…
ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ
وتقوى اللّهِ خيرُ الزادِ ذُخراً
…
وعندَ اللّهِ للأتقى مزيدُ"
(1)
.
رابعًا: أنها جمال الباطن، الذي هو أهم من جمال الظاهر
قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]. " أي: ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب؛ لكونه أهم اللباسين؛ لأنّ نزعه يكشف العورة الحسية والمعنوية، فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متقٍّ كان كله سوآت، ولو كان متقياً وليس عليه إلا خريقةُ ثوبٍ تواري عورته كان في غاية الجمال والكمال، وأنشدوا في المعنى:
إذا أنتَ لم تلبس ثياباً من التُّقى
…
عَرِيتَ وإن وارى القميصَ قميصُ"
(2)
.
قال ابن القيم: " فذكر سبحانه زينة ظواهرهم وبواطنهم، ونبههم بالحسي على المعنوي"
(3)
.
خامسًا: أنها الحارس الأمين حيثما كان الإنسان؛ فهي التي تأمره بفعل الجميل، وتنهاه عن فعل القبيح، وهي الكلمة التي تزجر من وقع في محظور فترده إلى جادّة الحق
عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبعِ السيئةَ الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)
(4)
. " وهذا من جوامع الكلم؛ فإن التقوى وإن قل لفظها كلمة جامعة، فحقه -تقدس- أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا
(1)
الأغاني، للأصفهاني (2/ 167).
(2)
تفسير السراج المنير، للشربيني (1/ 372).
(3)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 271).
(4)
رواه الترمذي (4/ 355)، وهو حسن.
ينسى، ويشكر فلا يكفر، بقدر الإمكان، ومن ثَم شملت خير الدارين؛ إذ هي تجنب كل منهي عنه، وفعل كل مأمور به، فمن فعل ذلك فهو من المتقين الذين أثنى عليهم في كتابه المبين"
(1)
.
ومن همَّ بمعصية الله أو باشرها فالمنجى والمخرج من ذلك تقوى الله؛ فعن عبيدة بن رفاعة عن أبيه أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: (يا معشر التجار) فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: (إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق)
(2)
.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه بشيراً الأنصاري أبا النعمان قد مال إلى النعمان في العطاء دون إخوته قال له: (اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)
(3)
.
ولما رأى عليه الصلاة رجلاً قد ظلم بعيرَه قال له: (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكى إليَّ أنك تجيعه وتُدئبه
(4)
}
(5)
.
قال الشاعر:
لا خيرَ فيمن لا يراقبُ ربَّه
…
عند الهوى ويخافُه إيمانا
حجبَ التُّقى سبلَ الهوى فأخو التُّقى
…
يخشى إذا وافى المعادَ هوانا
(6)
.
وقال الآخر:
(1)
فيض القدير، للمناوي (1/ 120).
(2)
رواه الترمذي (3/ 515)، وهو حسن.
(3)
رواه البخاري (2/ 914).
(4)
أي: تَكُدُّه وتُتْعِبُه. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 199).
(5)
رواه أبو داود (2/ 328)، وهو صحيح.
(6)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 331).
إذا ما همَمْنا صدَّنا وازعُ التُّقى
…
فولَّى على أعقابه الهمُّ خاسئا
(1)
.
علامات المتقين:
هناك خصال يُعرف بها الإنسان أنه من أهل التقوى، فمنها:
أولاً: المحافظة على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فالمتقي هو الذي إذا علم أوامر الشرع أداها، وإذا علم نواهيه تجنبها.
ثانيًا: التورع عن بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام، وذلك من شدة التحرز من الوقوع في المحظور
قال الغزالي: " أما الدرجة الثالثة: وهي ورع المتقين، فيشهد لها قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به؛ مخافة ما به بأس)
(2)
وقال عمر رضي الله عنه: كنا ندع تسعة أعشار الحلال؛ مخافة أن نقع في الحرام. وقيل: إن هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال أبو الدرداء: إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال؛ خشية أن يكون حرامًا؛ حتى يكون حجابًا بينه وبين النار؛ ولهذا كان لبعضهم مائة درهم على إنسان فحملها إليه فأخذ تسعة وتسعين، وتورع عن استيفاء الكل خيفة الزيادة. وكان بعضهم يتحرز فكل ما يستوفيه يأخذه بنقصان حبة، وما يعطيه يوفيه بزيادة حبة؛ ليكون ذلك حاجزاً من النار"
(3)
.
ثالثًا: ترك تحقيق كل رغبات النفس.
وما أكثر شهوات النفس، وأشد جنوحها إليها، غير أن المتقي لا يعطي نفسه منها
(1)
المرجع السابق (ص: 344).
(2)
رواه الترمذي (4/ 634)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والحاكم (4/ 355) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وضعفه غيرهم.
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (2/ 95).
إلا ما بان حلاله، ولم يؤثر على سمو روحه في فضاء الإقبال على ربه
قال عمر بن عبد العزيز- رحمه اللّه تعالى-: "التّقيُّ ملجَم لا يفعل كلَّ ما يريد"
(1)
.
وقال ابن الجوزي: " ولازموا حصن التقوى؛ فالعقوبة مُرَّة، واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات؛ من فقد الأغراض والمشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحِمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة"
(2)
.
رابعًا: الصبر على البلاء والشكر على النعماء، والتجمل بحلية الأخلاق.
عن مالك بن أنس قال: "بلغني أنّ رجلاً من بعض الفقهاء كتب إلى ابن الزّبير رضي الله عنهما يقول: ألا إنّ لأهل التّقوى علامات يعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم؛ من رضي بالقضاء، وصبر على البلاء، وشكر على النّعماء، وصدق في اللّسان، ووفّى بالوعد والعهد، وتلا أحكام القرآن"
(3)
.
ثمرات التقوى:
للتقوى إذا تحققت في العبد ثمرات كثيرة، تعود عليه بالخير العميم في الدنيا والآخرة، فمن ذلك:
أولاً: الحصول على التمييز بين الحق والباطل وغفرانُ الذنوب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
ثانيًا: الظفر بالعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
(1)
شرح السنة ـ للإمام البغوي متنا وشرحا (14/ 341).
(2)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 134).
(3)
جامع الأصول، لابن الأثير (11/ 704).
ثالثًا: نيل محبة الله تعالى، قال تعالى:{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].
رابعًا: الحصول على نصر الله وعونه وحياطته، قال تعالى:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19].
خامسًا: الخلاص من الهموم والخروج من المضائق وتيسير الأمور، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].
قال ابن الجوزي: "ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه. فما رأيت طريقاً للخلاص، فعرضت لي هذه الآية:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} . فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم. فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج. فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى وامتثال أمره؛ فإن ذلك سبب لفتح كل مرتج-مغلق-
…
ثم ينبغي للمتقي أن يعلم أن الله عز وجل كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب؛ فقد قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] "
(1)
.
وقال أيضًا: "ولازمِ التقوى في كل حال؛ فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، وفي المرض إلا العافية. هذا نقدها العاجل، والآجل معلوم"
(2)
.
وقال ابن القيم: "التقوى وهي اجتناب ما نهى الله عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، وضده من أسباب التعسير، فالمتقي ميسرةٌ عليه أمورُ دنياه وآخرته، وتارك التقوى وإن يسرت عليه بعض أمور دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى، وأما تيسير ما تيسر عليه من أمور الدنيا فلو اتقى الله لكان تيسيرها عليه أتم، ولو
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 143).
(2)
المرجع السابق (ص: 90).
قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقى؛ فإن طيب العيش ونعيم القلب، ولذة الروح وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجل من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} فأخبر أنه ييسر على المتقي ما لا ييسر على غيره. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} وهذا أيضًا ييسر عليه بتقواه. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} وهذا يتيسر عليه بإزالة ما يخشاه، وإعطائه ما يحبه ويرضاه. وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ، وهذا تيسير بالفرقان المتضمن النجاة والنصر والعلم، والنور الفارق بين الحق والباطل، وتكفير السيئات ومغفرة الذنوب، وذلك غاية التيسير. وقال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والفلاح غاية اليسر، كما أن الشقاء غاية العسر. وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فضمن لهم سبحانه بالتقوى ثلاثة أمور: أحدها: أعطاهم نصيبين من رحمته: نصيبًا في الدنيا، ونصيبًا في الآخرة، وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين. الثاني: أعطاهم نوراً يمشون به في الظلمات. الثالث: مغفرة ذنوبهم، وهذا غاية التيسير؛ فقد جعل سبحانه التقوى سببًا لكل يسر، وترك التقوى سببًا لكل عسر"
(1)
.
سادسًا: السلامة من المخاوف والأمان من المتالف، ونيل سعادة الدارين، قال تعالى:{فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35].
(1)
التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (2/ 58).
قال ابن القيم: " ودّع ابن عون رجلاً فقال: عليك بتقوى الله؛ فإن المتقي ليست عليه وحشة. وقال زيد بن أسلم: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس، وإن كرهوا، وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا"
(1)
.
وقال أيضًا: " أرضُ الفطرة رحبة قابلة لما يُغرس فيها؛ فإن غُرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبد، وإن غُرست شجرة الجهل والهوى فكلُّ الثمر مُرّ
(2)
.
وقال ابن الجوزي: "اعلم أن الزمان لا يثبت على حال؛ كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. فتارة فقر وتارة غنى، وتارة عز وتارة ذل، وتارة يفرح الأهالي، وتارة يشمت الأعادي. فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل؛ فإنه إن استغنى زانته، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي تمت النعمة عليه، وإن ابتلي جمّلته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير، والتقوى أصل السلامة، حارس لا ينام، يأخذ باليد عند العثرة، ويوقف على الحدود"
(3)
.
وقال أيضًا: "فأما الملازم لطريق التقوى فلا آفة تطرقه، ولا بلية تنزل به، هذا هو الأغلب، فإن طرقته مع التقوى، فذاك في الأغلب لتقدم ذنب يجازى عليه، فإن قدرنا عدم الذنب. فذاك لإدخال ذهب صبره كير البلاء، حتى يخرج تبراً أحمر، فهو يرى عذوبة العذاب؛ لأنه يشاهد المبتلي في البلاء"
(4)
.
سابعًا: الحصول على رزق حسن من وجوه لا تخطر على بال المتقي، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3]. يعني: "ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم"
(5)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 54).
(2)
المرجع السابق (ص: 34).
(3)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 89).
(4)
المرجع السابق (ص: 95).
(5)
تفسير الطبري (23/ 445).
قال ابن القيم: " يا مستفتحًا باب المعاش بغير إقليد-مفتاح- التقوى، كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الرزق، ولو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد المعاصي"
(1)
.
وقال أيضًا: "وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق، فترك التقوى مجلبة للفقر"
(2)
.
ثامنًا: أنها تجعل أهلها أكرم الناس، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
عن أبي هريرة رضي الله عنه: قيل: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال:(أتقاهم)
(3)
.
" أصل الكرم: كثرة الخير، فلما كان المتقي كثير الخير في الدنيا، وله الدرجات العليا في الآخرة، كان أعمَّ الناس كرمًا فهو أتقاهم"
(4)
.
تاسعًا: أنها سبب عظيم من أسباب دخول الجنة
عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل النّاس الجنّة قال: (تقوى اللّه، وحسن الخلق)
(5)
.
"قال الطيبي: قوله: (تقوى الله) إشارة إلى حسن المعاملة مع الخالق؛ بأن يأتي جميع ما أمره به، وينتهي عن ما نهى عنه، (وحسن الخلق) إشارة إلى حسن المعاملة مع
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 51).
(2)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 35).
(3)
رواه البخاري (3/ 1224)، ومسلم (4/ 1846).
(4)
التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوي (1/ 406).
(5)
رواه الترمذي (4/ 363)، وابن حبان (2/ 224)، وهو حسن.
الخلق. وهاتان الخصلتان موجبتان لدخول الجنة، ونقيضهما لدخول النار"
(1)
.
عاشراً: الفوز بنعيم الجنة، قال تعالى:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198].
الطريق إلى التقوى:
لما كانت التقوى بهذه المنزلة من الأهمية والأثر كان على العاقل أن يسعى لتحصيلها، والمحافظة عليها بعد كرامة الفوز بها، فمن الطرق المعينة على الوصول إلى التقوى:
أولاً: العلم. ويُعنى به: المعرفة الصحيحة لشرع الله تعالى؛ حتى يُعرف الحلال فيؤتى، والحرام فيُترك؛ لأن من جهل الشريعة فلن تتم تقواه.
قال ابن رجب: " وأصلُ التقوى: أنْ يعلم العبدُ ما يُتَّقى ثم يتقي، قال عونُ بنُ عبد الله: تمامُ التقوى أنْ تبتغي علمَ ما لم يُعلم منها إلى ما عُلِمَ منها، وذكر معروفٌ الكرخيُّ عن بكر بن خُنيسٍ، قال: كيف يكون متقياً من لا يدري ما يَتَّقي؟ ثُمَّ قالَ معروفٌ: إذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي أكلتَ الربا، وإذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي لقيتكَ امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرك، وإذا كنت لا تُحسن تتقي وضعتَ سيفك على عاتقك .. "
(2)
.
ثانيًا: الزهد في الدنيا. فمن رغب عن الدنيا ورغب في الآخرة أعانه ذلك على التقوى وتحقيقها، وأما من مال إلى الدنيا وشهواتها فإنه سيميل عن التقوى بقدر ميله إلى الدنيا
فـ"من آتاه الله علمًا وزهداً وتواضعًا، وحسن خلق فهو إمام المتقين"
(3)
.
ثالثًا: محاسبة النفس. فينظر الإنسان أعماله؛ فإن كان فيها خير استمر عليه، وإن كان فيها شر كفها عنه.
(1)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 120).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (20/ 11).
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 75).
عن ميمون بن مهران أنه قال: "لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدَّ من محاسبة شريكه"
(1)
.
رابعًا: الدعاء. وهذه الطريق من أعظم الطرق، فيدعو المسلم الله تعالى بأن يجعله من زمرة المتقين، وإن ارتقى في دعائه فيدعو بما دعا به عباد الرحمن في سورة الفرقان:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
خامسًا: مجالسة المتقين، مجالسة حسية ومجالسة معنوية. فالمجالسة الحسية بأن يختار جلساء من أهل التقوى يعينونه على أعمالها، ويحذِّرونه مما يباينها. والمجالسة المعنوية بأن يقرأ أخبار المتقين، ويتتبع سيرهم؛ حتى يقتدي بهم، ويسير على هديهم، وأعظمهم نبينا صلى الله عليه وسلم القائل:(إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)
(2)
.
سادسًا: الإيمان واليقين بما أخبر الله تعالى عن جزاء المتقين، فالناظر في الآيات والأحاديث التي تذكر ثواب المتقين، وجزاءهم العاجل والآجل تدفع الموقن بها المصدق بما فيها إلى أن يكون من أهل التقوى حتى يظفر بنتائجها.
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 75).
(2)
رواه البخاري (1/ 16)، ومسلم (2/ 779).
الخوفُ من الله مطيةُ النجاة
إن الإنسان إذا بقي في حضن النعيم والرفاهية، وانصرف إلى مصالح دنياه وشهوات نفسه؛ غفل عن حق ربه، والاستعداد لآخرته، فاقتضت رحمة الله تعالى أن ترد هذا المكلَّف من هذا الشرود وتعيده عن هذا الإباق بوسيلة التخويف منه تعالى ومن عقابه وآثار غضبه؛ حتى لا ينسى ما خُلق لأجله، ولا يغفل عن الدار الباقية والحياة الأبدية التي سيصير إليها.
قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر 15 - 16]. وقال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} [الإسراء 59].
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله وقال: (هذه الآيات التي يرسلها الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)
(1)
.
قال أَبو حفص: "الخوف سوط الله يقوِّم به الشاردين عن بابه"
(2)
.
وبذلك يكون الخوف من الله تعالى بوجود أسبابه نعمةً من نعم الله اقتضتها رحمته بعباده؛ حتى لا يهلكهم الرجاء وهم عن ربهم غافلون وعلى معصيته مقيمون.
قال سفيان بن عيينة: "خلق الله النار رحمة يخوِّف بها عباده لينتهوا"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (1/ 360)، ومسلم (2/ 628).
(2)
بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي (ص: 746).
(3)
التخويف من النار، لابن رجب (ص: 34).
وعن إسرائيل بن محمد القاضي قال: "لقيني مجنون كان في الخرابات فقال: يا إسرائيل، خفِ الله خوفًا يشغلك عن الرجاء؛ فإن الرجاء يشغلك عن الخوف، وفر إلى الله ولا تفر منه"
(1)
.
حقيقة الخوف من الله تعالى:
إن الخوف من الله تعالى عمل قلبي يحمل العبد على امتثال أوامر الله وترك نواهيه.
وحقيقته أنه: " الانخلاع عن طمأْنينة الأَمن بمطالعة الخَبر، يعني: الخروج من سكون الأَمن باستحضار ما أَخبر اللهُ به من الوعد والوعيد"
(2)
.
وصدقُ الخوف هو: الورع عن الآثام ظاهراً وباطنًا، والخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله
(3)
.
فإِذا تجاوز ذلك خيف منه اليأْس والقنوط
(4)
.
قال ابن رجب: "والقدر الواجب من الخوف: ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك، بحيث صار باعثًا للنّفوس على التّشمير في نوافل الطّاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات والتّبسّط في فضول المباحات؛ كان ذلك فضلاً محموداً، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا، أو همّا لازمًا، بحيث يقطع عن السّعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة للّه- عز وجل؛ لم يكن محموداً؛ ولهذا كان السلف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه الذي أنساه القرآن، وصار صاحب فراش، وهذا لأن خوف العقاب ليس مقصوداً لذاته، إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها "
(5)
.
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 123).
(2)
بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي (ص: 747).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 514).
(4)
بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي (ص: 747).
(5)
التخويف من النار، لابن رجب (34).
أهمية الخوف من الله تعالى:
"إنّ اللّه خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلّة الدّالّة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدّة عذابه ودار عقابه الّتي أعدّها لمن عصاه ليتّقوه بصالح الأعمال؛ ولهذا كرّر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النّار وما أعدّه فيها لأعدائه من العذاب والنّكال، وما احتوت عليه من الزّقّوم والضّريع والحميم والسّلاسل والأغلال، إلى غير ذلك ممّا فيها من العظائم والأهوال، ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبّه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، فمن تأمّل الكتاب الكريم وأدار فكره فيه وجد من ذلك العجب العجاب، وكذلك السّنّة الصّحيحة الّتي هي مفسّرة ومبيّنة لمعاني الكتاب، وكذلك سير السّلف الصّالح أهل العلم والإيمان من الصّحابة والتّابعين لهم بإحسان، من تأمّلها علم أحوال القوم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات، وأنّ ذلك هو الّذي رقّاهم إلى تلك الأحوال الشّريفة والمقامات السّنيّات، من شدّة الاجتهاد في الطّاعات والانكفاف عن دقائق الأعمال والمكروهات فضلاً عن المحرّمات"
(1)
.
قال الوليد بن أبي السّائب: "ما رأيت أحداً قطّ كان الخوف على وجهه أبين منه على عمر بن عبد العزيز"
(2)
.
وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأنّ النّار لم تخلق إلّا لهما"
(3)
.
وقال ابن الجوزي: "قال الحسن: صحبت أقواماً كانوا لحسناتهم أن تُردَّ عليهم أخوفَ منكم من سيئاتكم أن تعذبوا بها، ووصفه يوسف بن عبد المحسن فقال: كان إذا
(1)
المرجع السابق (6).
(2)
سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (162).
(3)
المرجع السابق (163).
أقبل كأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس كأنه أسير ستضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنما لم تخلق إلا له"
(1)
.
وقال عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه: "إنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنّه جالس في أصل جبل يخشى أن ينقلب عليه، وإنّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال به هكذا"
(2)
.
عن الحسن قال: "لقد مضى بين يديكم أقوام لو أنّ أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم! "
(3)
.
إن الخوف عبادة من أعظم العبادات وقربة من أجل القربات؛ لأنه يدعو إلى امتثال الأوامر وترك النواهي، عن وهب بن منبّه قال:"ما عُبد اللّه بمثل الخوف"
(4)
.
والخوف " من المقامات العليّة، وهو من لوازم الإيمان، قال تعالى:{وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال تعالى:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال تعالى:{إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} (فاطر/ 28)، وقال صلى الله عليه وسلم:(أنا أعلمكم باللّه وأشدّكم له خشية). وكلّما كان العبد أقرب إلى ربّه كان أشدّ له خشية ممّن دونه، وقد وصف اللّه تعالى الملائكة بقوله:{يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، والأنبياء بقوله:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]. وإنّما كان خوف المقرّبين أشدّ؛ لأنّهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة، ولأنّ الواجب للّه منه الشّكر على المنزلة فيضاعف بالنّسبة لعلوّ تلك المنزلة، فالعبد إن كان مستقيمًا فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ
(1)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 11).
(2)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (4/ 129).
(3)
الزهد، لابن المبارك (ص: 51).
(4)
التخويف من النار، لابن رجب (7).
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، أو نقصان الدّرجة بالنّسبة، وإن كان مائلاً فخوفه من سوء فعله. وينفعه ذلك مع النّدم والإقلاع؛ فإنّ الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتّصديق بالوعيد عليها، وأن يحرم التّوبة، أو لا يكون ممّن شاء اللّه أن يغفر له، فهو مشفق من ذنبه طالب من ربّه أن يدخله فيمن يغفر له"
(1)
.
ومما ظهر في هذا العصر أن هناك قومًا طغت عليهم الدنيا وفتنتهم زخارفها فصاروا يفرون من مواعظ التخويف، ويعدون ذلك مما يكدر على الناس حياتهم التي مُلئت باللهو والغفلة، ويحول بينهم وبين الاطمئنان إلى متعهم!!
وسبحان الله! فكيف يصلح قلب لا يسكنه الخوف، وكيف يستقيم سير ويصل بصاحبه إلى الغاية العليا وليس حاديه الخوف والرجاء؟ لقد كان الصالحون مع استقامة سيرهم وكثرة قربهم يطلبون المذكِّرين بالتخويف؛ حتى يزدادوا جِدّاً إلى جدهم.
عن كعب قال: قال لي عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يومًا وأنا عنده: "يا كعب، خوّفنا. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليس فيكم كتاب اللّه وحكمة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. ولكن يا كعب، خوّفنا. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، اعمل عمل رجل لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبيّا لازدرأت
(2)
عملك ممّا ترى"
(3)
.
أوَ لا يعرف أولئك الهاربون من الوعظ بالتخويف أن الخوف من الله ومما عنده ينير للعبد طريقه إلى ربه حينما تتكاثف في طريقه ظلمات الشهوات والغفلة، ويبصره بعيوبه حتى يصلحها، وبذنوبه حتى يتوب منها، وبتقصيره في الطاعات حتى يترك التقصير وينشط في الطاعة؟
قال أبو حفص: " الخوف سراج في القلب يبصر به ما فيه من الخير والشرّ. وكلّ واحد
(1)
فتح الباري لابن حجر (18/ 306).
(2)
لانتقصت.
(3)
الزهد، لابن حنبل (ص: 121).
إِذا خِفْته هربت منه إِلاَّ الله فإِنَّك إِذا خفته هربت إِليه"
(1)
.
فإذا ذهبت أنوار الخوف تاه الإنسان عن غايته في الوصول إلى ربه، قال ذو النّون:"النّاس على الطّريق ما لم يزُل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلّوا عن الطّريق"
(2)
.
إن العبد محتاج إلى ملازمة خوف الله تعالى احتياجاً شديداً؛ لأنه مطية نجاته، وسبيل راحته وصلاحِ دنياه وآخرته. وتعظم أهمية ملازمة الخوف في مثل هذا الزمان الذي قل فيه الصالحون والمصلحون، وكثر فيه الفاسدون والمفسدون، وغلبت على الجوارح فتن الشهوات وتغلغلت في العقول فتن الشبهات، فظهرت المعاصي وجاهر العصاة وقلّت الطاعات وأهلها، وكثرت المنكرات وازداد دعاتها والمقبلون عليها، وحورب المعروف وضُيِّق عليه، حتى أصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً، والباطل حقاً والحق باطلاً!
في مثل هذه الأجواء المتخمة بالذنوب والمذنبين، والملطخة بتغير المفاهيم والأفكار وتقلب المبادئ والمواقف تزداد الحاجة إلى التحرز بحصن الخوف من الله تعالى؛ ليكون ذلك مأوى يعصم الإنسان من الخطيئة وينجيه من عواقبها الوخيمة.
ولكن لابد مع الخوف من رجاء حتى لا تنساق خطى المرء إلى أودية اليأس والقنوط، فالخوف والرجاء جناحان يطار بهما إلى الآفاق الصحيحة، قال الحسن البصريّ:" الرّجاء والخوف مطيّتا المؤمن"
(3)
.
وقال الغزاليّ: "إنّ الرّجاء والخوف جناحان بهما يطير المقرّبون إلى كلّ مقام محمود، ومطيّتان بهما يقطع من طرق الآخرة كلّ عقبة كؤود"
(4)
.
وفي بعض الأحوال يُطلب ترجيح الخوف على الرجاء وفي بعضها الآخر ترجيح
(1)
بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي (ص: 747).
(2)
المرجع السابق.
(3)
الزهد، لابن حنبل (ص: 265).
(4)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 142).
الرجاء على الخوف؛ فمتى كان الإنسان في لجج المعاصي والغفلة فتغليب الخوف في حقه أولى، ومتى كان على الطريق وحضره الموت فتغليب الرجاء أفضل، قال الفضيل بن عياض:"الخوف أفضل من الرّجاء ما كان الرّجل صحيحًا، فإذا نزل الموت فالرّجاء أفضل"
(1)
.
مجالات الخوف من الله تعالى:
إن خوف الله تعالى ينبغي أن يكون في حياة الإنسان كلها، وفي أحواله جميعها؛ في سره وعلنه، وفي بيته وعمله، وفي كل جهة توجه إليها. فهو محتاج إلى أن يكون خوف الله في قلبه أن يطلع عليه ربه وفيه ما لا يرضيه، وفي عقله أن يحمل فكراً يضاد شرعه ووحيه، وفي لسانه أن ينطق بالسوء الذي يغضب مولاه.
وفي بصره أن يزيغ إلى الحرام، وفي سمعه أن يصغي إلى الباطل، وفي يده أن تكتب المنكر أو تظلم بالبطش بين الخلق بقتل أو أخذ للمال من غير حله. وفي رجله أن تسعى إلى الأوزار، أو تقف في مواطن الشر والمنكر.
وهو أيضًا محتاج إلى أن يكون خوف الله تعالى رفيقه مع والديه ومع زوجته وأولاده ومع جيرانه ومع أقاربه، ومع الناس كلهم؛ فخوف الله هو الذي يمنعه من ظلمهم والتقصير في إيفائهم ما عليه من حقوقهم.
وإذا كان والياً أو مسؤولاً فليكن خوف الله تعالى رقيبه الذي لا ينام حتى لا يجور ويصبح الظلم والخيانة والغش ديدنه بين رعيته، وإذا كان موظفاً أو عاملاً في أي وظيفة أو عمل كان فليجعل خوف الله تعالى معه دائماً؛ حتى لا يخون أمانة الوظيفة أو العمل التي حُمِّلها.
(1)
التخويف من النار، لابن رجب (7).
علامات الخوف من الله تعالى:
إن البراهين هي التي تكشف عن صدق القائلين أو كذبهم؛ فقد يدعي بعض الناس أنه يخاف الله، ولكن واقعه لا يدل على ذلك؛ لذلك فإن الخوف الصادق هو الذي يجعل صاحبه من المسابقين إلى الطاعات فرضها ونفلها، وهو الذي يحجزه عن الإسراف على نفسه بالذنوب والمجاهرة بها والإصرار عليها. قال تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} [الإنسان 9]{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان 9 - 10].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)
(1)
.
يعني: من خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر، ومن خاف ألزمه الخوف السلوك إلى الآخرة والمبادرة بالعمل الصالح؛ خوفَ القواطع والعوائق
(2)
.
فليختبر الإنسان نفسه هل هو من أهل الخوف من الله تعالى أو لا؟ لينظر كم رصيده من الطاعات والأعمال الصالحات، وكيف حاله مع الذنوب وكيف إقباله عليها، وهل هو من التائبين منها أو من المستمرين عليها؟.
إن الخوف الصادق هو الذي يجعل صاحبه مفكراً بالآخرة يتذكرها ويعمل لها ويجعلها أكبر همه، فمن كان كذلك فهو الخائف الصادق، ومن كانت الدنيا هي همَّه والمستولية على قلبه والمقدَّمة لديه فليراجع خوفه.
طرق الوصول إلى خوف الله تعالى:
إن الخوف من الله عبادة عظيمة تحتاج إلى بذل جهد في تحصيلها واكتسابها وتقويتها والمحافظة عليها بعد حصولها، فمن الطرق المعينة على ذلك:
(1)
رواه الترمذي (4/ 633)، والحاكم (4/ 343)، وهو صحيح.
(2)
فيض القدير، للمناوي (6/ 123).
أولاً: التفكر في أسماء الله وصفاته ومعرفتُها.
فإن ذلك يرسخ في قلب المرء إجلال الله تعالى وتعظيمه والكف عن مساخطه والمسارعة إلى مراضيه. فحينما يفكر في أسماء الله تعالى: العظيم الجبار القهار القدير المنتقم القوي المتين العزيز الكبير ونحوها من الأسماء القهرية يتربى في نفسه هيبة الله تعالى وخشيته، فمن أنت أيها الإنسان حتى تعصي الله تعالى وتفوت قدرته، أوَ لا يدركك قهره وجبروته؟ قال تعالى:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [العنكبوت 22].
وعندما يتأمل في أسماء الله: العليم اللطيف الخبير السميع البصير ونحوها يزرع ذلك في قلبه الخوف من الله تعالى. فأين يستطيع أن يعصي الله تعالى ولا يعلم به ولا يراه ولا يسمعه ولا يرقب عمله؟!
ثانيًا: التفكر في الكون وما فيه من آيات الله المنشورة.
إن هذا الكون الفسيح يحوي آيات باهرات تدل على قدرة الله وإبداع صنعه وعنايته بخلقه وكثرة خيره المسدى إليهم. فالإنسان العاقل إذا نظر إلى هذا الخلق البديع المحكم العظيم وتأمل فيه واعتبر بما رأى وشاهد دعاه ذلك إلى خوف الله تعالى وخشيته وحب طاعته والبعد عن معصيته. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الألْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران 190 - 191].
وقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ} [غافر 57].
ثالثًا: تذكرُ الموت ورحيل الإنسان عن الدنيا إلى الآخرة.
فاستحضار الإنسان ساعةَ رحيله عن الدنيا وملاقاته الموت وانتقاله إلى الدار الآخرة التي تكشف فيها السرائر ويبرز ما في الضمائر ويحاسب الإنسان فيها على ما قدم في حياته الدنيا، ثم المصير إلى جنة عرضها السماوات والأرض أو إلى نار وقودها الناس والحجارة إن استحضار هذا المشهد المستقبلي الحق في ذهن الإنسان يدفعه دفعاً شديداً إلى خوف ربه، وإجلاله أن يكون من عصاته الذين ينزل بهم غضبه ويحل عليهم عقابه.
رابعًا: العلم بالله تعالى وبدينه الحنيف.
فإن الجهل بدين الله يدفع كثيراً من الناس إلى ترك واجبات الإسلام والانغماس في حمأة الحرام بلا رادع من خوف أو حاجز من خشية تحول بينهم وبين ركوب الباطل ومجاوزة الحلال إلى الحرام. لذلك كان على المسلم أن يتعلم شرع الله تعالى حتى يعرف الحلال فيأتيه والحرام فيجتنبه. فمعرفة شرع الله من أعظم الأسباب التي تعين على تحصيل خوف الله تعالى في القلب؛ ولذلك قال تعالى عن العلماء العاملين الصادقين: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر 28].
" أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل والخشية له أعظم وأكثر"
(1)
.
وإنما كان العلماء أكثر خشية وخوفًا من الله" لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته، ودلائل قدرته، فيعرفون عظمته وكبرياءه، وجلاله وجماله، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب، وحسن المآب، فيزدادون خشية، ورهبة ومحبة ورغبة في طاعته، وموجب
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 667).
رضوانه، دون مَنْ عداهم من الجهّال. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:(فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)، وقال الربيع بن أنس: مَنْ لم يَخشَ الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير الآية: كفى بالزهد عِلماً، وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله عِلماً، وبالاعتذار جهلاً وفي الحِكَم: خيرُ علم ما كانت الخشية معه. وقال في التنوير: اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة فإنما المراد به العلم النافع، الذي تٌقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة. قال تعالى:{إِنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. هـ. وقال الشيخ ابن عباد: واعلم أن العلم النافع المتفق عليه فيما سلف وخلف إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية، وملازمة التواضع والذلة، والتخلُّق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها، وإيثار الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية، والمناحي السنية. اهـ. "
(1)
.
خامسًا: اختيار الرفقة الصالحة وترك الرفقة السيئة.
إن للجلساء والمجالس في أي مكان كانت أثراً كبيراً في تحصيل خوف الله تعالى في القلب أو في تحطيم ما تبقى من بنيانه. فالرفقة الصالحة في البيت أو المسجد أو العمل أو اللقاءات الاجتماعية تعين من كان معها في تلك الأماكن على أن يكون من أهل الخشية لله تعالى؛ لأنه سيسمع هناك الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وسيرى المعروف ظاهراً والمنكر خافتا. أما إذا كانت الرفقة سيئة ليس لها همّ في صلاح الإنسان واهتدائه فإنه سيجد لديهم التباطؤ عن الطاعات والمسارعة إلى المنكرات. فيملأ سمعه وبصره من الباطل الذي يُرتكب أو يتحدث الجلساء عنه.
وهذا سيجعله يتجرأ على هتك ستر الخوف والسير في دروب المعصية، إلا من رحم الله.
(1)
البحر المديد، لابن عجيبة (6/ 186).
ثمرات الخوف من الله تعالى:
من عمر خوفُ الله نفسه وخالط أثره شغاف قلبه أورثه خيراً كثيراً في الدنيا والآخرة، فمن تلك الثمرات:
أولاً: إبعاد الإنسان عن المعاصي. قال تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28].
فما منع هابيلَ من قتل أخيه قابيل إلا خوفُه من الله تعالى، "قال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرج يعني: الورع"
(1)
.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]. "أي: ليتميز الخائف من عقابه الأخروي، وهو غائب مترقب لقوة إيمانه، فلا يتعرض للصيد ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدِم عليه"
(2)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله
…
ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله
…
)
(3)
.
"قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى، ومتين تقوى وحياء"
(4)
.
ثانيًا: الإقبال على الطاعات وحسن القيام بها. فالخوف حاثٌّ على العمل الصالح، والعمل الصالح ثمرة من ثماره، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 55).
(2)
تفسير أبي السعود (3/ 78).
(3)
رواه البخاري (1/ 234) ومسلم (2/ 715).
(4)
فتح الباري (2/ 146).
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].
" فإنهم إذا رهبوا الله تعالى حرصوا على الإيفاء بالعهد"
(1)
.
قال ابن الجوزي: "إخواني، من علم عظمة الإله زاد وجلُه، ومن خاف نِقَم ربه حسن عمله، فالخوف يستخرج داء البطالة ويشفيه، وهو نعم المؤدِّب للمؤمن ويكفيه"
(2)
.
وقال أيضًا: "فالخوف للنفس سائق، والرجاء لها قائد، إن ونتْ على قائدها حثها سائقها، وإن أبت على سائقها حركها قائدها"
(3)
.
ثالثًا: صلاح القلب وإخراج الدنيا منه. فإن القلب لن يصلح حتى يحل فيه الخوف، وإن الدنيا لن تخرج من القلوب التي تعلقت بها حتى يحل مكانها الخوف.
قال أبو سليمان الداراني: "ما فارق الخوفُ قلبًا إلا خرب"
(4)
.
وقال إِبراهيم بن سفيان: "إِذا سكن الخوفُ القلب أَحرق مواضع الشَّهوات منه، وطرد الدّنيا عنه"
(5)
.
رابعًا: أداء حقوق المخلوقين. فمن خاف الله تعالى لن يأخذ حق غيره، ولن يقصر في أداء ما وجب عليه لسواه.
خامسًا: دخول الجنة. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41].
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 439).
(2)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 11).
(3)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 11).
(4)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 162).
(5)
بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي (ص: 747).
"أي: خاف القيام بين يدي الله عز وجل، وخاف حكم الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي: منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء"
(1)
.
عن الحسن قال: "إن الرجل يذنب الذنب فما ينساه، وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة"
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 566).
(2)
الزهد، لابن حنبل (ص: 277).
حِصنُ المراقبة
يواجه الإنسانُ في هذه الحياة أعداء كثيرين: إبليس والهوى والدنيا والنفس الأمارة بالسوء، ولو تُرك وإياهم لهلك. فكان لابد له من ملجئ يأوي إليه، وحصن يتحصن فيه؛ ليسلم من فتك هؤلاء الأعداء، ويصل إلى خير الدنيا والآخرة.
وفي مراقبة الله تعالى في السر والعلن حصن حصين، وحرز مكين، يحمي من تحصن به من أولئك الأعداء وشرورهم.
حقيقة مراقبة الله تعالى:
إن مراقبة العبد لربه سبحانه وتعالى حقيقة باطنة تعبر عنها صور ظاهرة من الأعمال والأقوال والأحوال، وتكون في ثلاثة أشياء:"مراقبة الله في طاعته بالعمل الذي يرضيه، ومراقبة الله عند ورود المعصية بتركها، ومراقبة الله في الهم والخواطر والسر والإعلان"
(1)
.
قال ابن القيم في حقيقة المراقبة هي: " دوام علم العبد وتيقّنه باطّلاع الحقّ سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين: هو المراقبة، وهو ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة، وكل نفَس وكل طرفة عين "
(2)
ويصدِّق ذلك العلمَ كفُّ الجوارح عن الآثام، وإقبالها على أداء ما وجب عليها من التكاليف.
وقال الغزالي: "اعلم أنّ حقيقة المراقبة هي ملاحظة الرّقيب، وانصراف الهمم إليه،
(1)
مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار، للسلمان (1/ 35).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 65).
فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره، يقال: إنّه يراقب فلانًا، ويراعي جانبه، ويعني بهذه المراقبة حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة، وتثمر تلك الحالة أعمالاً في الجوارح وفي القلب. أمّا الحالة فهي مراعاة القلب للرّقيب واشتغاله به والتفاته إليه، وملاحظته إيّاه وانصرافه إليه. وأمّا المعرفة الّتي تثمر هذه الحالة فهي العلم بأنّ اللّه مطّلع على الضّمائر، عالم بالسّرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كلّ نفس بما كسبت، وأنّ سرّ القلب في حقّه مكشوف كما أنّ ظاهر البشرة للخلق مكشوف بل أشدّ من ذلك. فهذه المعرفة إذا صارت يقينا- أعني أنّها خلت عن الشّكّ- ثمّ استولت بعد ذلك على القلب قهرته؛ فربّ علم لا شكّ فيه لا يغلب على القلب كالعلم بالموت، فإذا استولت على القلب استجرّت القلب إلى مراعاة جانب الرّقيب وصرفت همّه إليه؛ والموقنون بهذه المعرفة هم المقرّبون، وهم ينقسمون إلى الصّدّيقين وإلى أصحاب اليمين"
(1)
.
وقال ابن قدامة: " وينبغي أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفى العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو المحرك له هو الله تعالى خاصة؟ فإن كان الله تعالى، أمضاه وإلا تركه، وهذا هو الإخلاص، قال الحسن: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر، فهذه مراقبة العبد في الطاعة، وهو أن يكون مخلصاً فيها. ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم؛ فإنه لا يخلو من نعمة لابد له من الشكر عليها، ولا يخلو من بلية لابد من الصبر عليها، وكل ذلك من المراقبة"
(2)
.
" وقال ابن المبارك لرجل: راقب الله تعالى، فسأله عن تفسيره، فقال: كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل"
(3)
. وهذا مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام لجبريل عندما سأله
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 398).
(2)
مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي (4/ 142).
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 397).
عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
(1)
.
قال النووي في هذه الجملة من الحديث: " هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم؛ لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع، وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان؛ فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه. فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين؛ ليكون ذلك مانعًا من تلبسه بشيء من النقائص؛ احترامًا لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعاً عليه في سره وعلانيته"
(2)
.
ولا تتأتى هذه الحقيقة إلا باستشعار العبد أن الله تعالى قريب منه فيما أسر وفيما أعلن لا تخفى عليه خافية، قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].
وقال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52]، وقال:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
"ومن تحقق بقرب الحق، سبحانه وتعالى، فأدْونه دوام مراقبته إيَّاه، لأنَّ عليه رقيبَ التقوى، ثم رقيب الحفظ والوفاء ثم رقيب الحياء:
(1)
رواه البخاري (1/ 27)، ومسلم (1/ 36).
(2)
شرح النووي على مسلم (1/ 157).
كأن رقيبًا منك يرعى خواطري
…
وآخرَ يرعى ناظري ولساني
فما نظرتْ عيناي بعدك نظرةً
…
لغيركَ إلا قلتُ قد رمقاني
ولا بدرتْ مِنْ فيَّ بعدك لفظةٌ
…
لغيرك إلا قلتُ قد سمعاني
ولا خطرتْ في غير ذكرك خطرةٌ
…
على القلب إلا عرّجتْ بعناني"
(1)
أهمية مراقبة الله تعالى:
لقد أدرك أئمة السلوك أهمية المراقبة وعظمتها، فحثوا عليها، ودعوا إلى ملازمتها في الخلوة والجلوة؛ حتى يصل بها السالك إلى رضوان الله تعالى وجنته، ويسلم بها من سخطه وعذابه، كما يجد بلزومها الحياة الطيبة والراحة والاطمئنان في حياته الدنيوية.
"قال سفيان الثوري: عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة"
(2)
.
"وقال محمد بن علي الترمذي: اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه"
(3)
.
"قال يعقوب بن إسحاق بن زياد: قال لي قائل في منامي: راقب الله مراقبة من سمع الزجر، وانتفع بالتحذير"
(4)
.
وقال أبو عثمان: قال لي أبو حفص: إذا جلست للنّاس فكن واعظًا لنفسك وقلبك،
(1)
الرسالة القشيرية (ص: 41).
(2)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 398).
(3)
المرجع السابق (4/ 397).
(4)
المنامات، لابن أبي الدنيا (ص: 148).
ولا يغرّنّك اجتماعهم عليك؛ فإنّهم يراقبون ظاهرك، واللّه رقيب على باطنك"
(1)
.
وقال الجريريّ: أمرُنا هذا مبنيّ على أصلين: أن تلزم نفسك المراقبة للّه- عز وجل، ويكون العلم على ظاهرك قائما"
(2)
.
وقال أبو عثمان المغربيّ: "أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطّريقة المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم"
(3)
.
وقال ابن عطاء: "أفضل الطّاعات، مراقبة الحقّ على دوام الأوقات"
(4)
.
"وقال سهل: "لم يتزين القلب بشيء أفضل ولا أشرف من علم العبد بأن الله شاهده حيث كان"
(5)
.
طرق تحصيل مراقبة الله تعالى:
إن وصول العبد إلى أن يكون من أهل المراقبة لله تعالى في السر والعلن منالٌ عظيم، وغاية سامية، ولكن ذلك لن يكون إلا بسلوك طرق صحيحة تؤدي إلى ذلك المطلب العالي، فمن تلك الطرق:
أولاً: استشعار أن الله تعالى قريب من عبده، مطلع على عمله كلِّه سره وعلنه، لا يغيب عنه منه شيء في أي مكان كان العبد، فأين يختفي العبد عن علمه تعالى؟
فمن همَّ بمعصية فليتذكر هذا العلم المحيط؛ ليحجزه ذلك عن الخطيئة.
قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 397).
(2)
المرجع السابق.
(3)
المرجع السابق.
(4)
المرجع السابق.
(5)
المرجع السابق.
عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
"يخبر تعالى، عن عموم مشاهدته، واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم، وسكناتهم، وفي ضمن هذا الدعوة لمراقبته على الدوام"
(1)
.
وقال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، وقال:{إِنَّ اللّهَ لَا يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء} [آل عمران: 5]، وقال:{وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108]، وقال:{مَا يَكُونُ مِنْ نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
قال ابن الجوزي: "الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عاملَ العبدَ معاملة الغائب عنه، البعيد منه، فأمر بقصد نيته، ورفع اليدين إليه، والسؤال له، فقلوب الجهال تستشعر البعد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكف عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه فحضرهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط"
(2)
.
قال الشاعر:
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يوماً فلا تَقُلْ
…
خَلَوتُ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعةً
…
ولا أنَّ ما تُخفِي عَلَيْهِ يَغِيبُ
ألم ترَ أنّ اليومَ أسرعُ ذاهبٍ
…
وأنّ غداً للناظرين قريبُ
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 367).
(2)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 149).
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 398).
ثانيًا: التفكر في لقاء الله يوم القيامة وجزاء الأعمال في ذلك اليوم.
ثالثًا: التزود من العلم النافع الذي يبصر الإنسان بطريقه إلى الله.
ومن أعظم العلم: العلم بأسماء الله وصفاته؛ فإن للعلم بها والتعبد بمقتضاها أثراً كبيراً في سلوك المسلم، قال ابن القيم:" والمراقبة هي: التعبد باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة، والله أعلم"
(1)
.
رابعًا: مجالسة أهل المراقبة وقراءة أخبارهم ومحاكاة أعمالهم.
خامسًا: التفكر في عواقب المعاصي.
قال ابن الجوزي: " ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي؛ فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل، وإن كان حلمه يسع الذنوب إلا أنه إذا شاء عفا فعفا كل كثيف من الذنوب، وإذا شاء أخذ وأخذ باليسير، فالحذر الحذر. ولقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم والمعاصي باطنة وظاهرة، فتعبوا من حيث لم يحتسبوا، فقلت أصولهم، ونقص ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم، وما كان ذلك إلا لأنهم أهملوا جانب الحق عز وجل، وظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري من شر، فمالت سفينة ظنونهم فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم. ورأيت أقواماً من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في الخلوات، فمحا محاسن ذكرهم في الجلوات، فكانوا موجودين كالمعدومين، لا حلاوة لرؤيتهم، ولا قلب يحن إلى لقائهم.
فاللهَ الله في مراقبة الحق عز وجل؛ فإن ميزان عدله تبِين فيه الذرة، وجزاءه مرصد للمخطئ ولو بعد حين. وربما ظن أنه العفو، وإنما هو إمهال، وللذنوب عواقب سيئة. فاللهَ
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 66).
الله الخلواتِ الخلوات، البواطنَ البواطن، النياتِ النيات؛ فإن عليكم من الله عيناً ناظرة. وإياكم والاغترار بحلمه وكرمه؛ فكم قد استدرج. وكونوا على مراقبة الخطايا مجتهدين في محوها، وما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا.
وهذا فصل إذا تأمله المعامل لله تعالى نفعه. ولقد قال بعض المراقبين لله تعالى: قدرت على لذة وليست بكبيرة، فنازعتني نفسي إليها؛ اعتماداً على صغرها، وعظم فضل الله تعالى وكرمه، فقلت لنفسي: إن غلبتَ هذه فأنتَ أنت، وإذا أتيتَ هذه فمن أنت؟ وذكّرتها حالةَ أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في المسامحة كيف انطوت أذكارهم، وتمكن الإعراض عنهم، فارعوتْ، ورجعت عما همت به"
(1)
.
سادسًا: الدعاء. فيدعو العبد ربَّه سبحانه وتعالى بأن يجعله من أهل خشيته ومراقبته.
ثمرات مراقبة الله تعالى:
لاشك أن مراقبة العبد ربَّه في قوله وعمله وظاهره وباطنه ستنيله آثاراً حسنة، وثمرات طيبة في دنياه وآخرته، فمن ذلك:
أولاً: نيل خيرات الدنيا. كعظم القدر في القلوب وحب الناس وحسن ثنائهم، وهذا من ثواب الحسنة العاجل.
قال ابن الجوزي: "إخواني، اسمعوا نصيحة من جرب وخَبِر: إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل وتعظيمكم له يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم. ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرتْ سِنُّه ثم تعدى بعض الحدود فهان عند الخلق، وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته. ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم، فعظّم الله
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 98).
قدره في القلوب حتى علقته النفوس، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير"
(1)
.
و"قال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى مكة، فعرَّسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم؟ فقال: إني مملوك، فقال: قل لسيدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله؟ قال: فبكى عمر رضى الله عنه، ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة"
(2)
.
ثانيًا: بغض المعاصي والبعد عنها. وهذا أثر المراقبة الأعظم، فمن صحت مراقبته، كان قريبًا من الطاعات بعيداً من السيئات.
"قال رجل للجنيد: بمَ أستعين على غضّ البصر؟ فقال: بعلمك أنّ نظر النّاظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه"
(3)
.
"وقال أبو العباس بن مسروق من راقب الله في خطرات قلبه، عصمه الله في حركات جوارحه"
(4)
.
وقال ابن القيم: " وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته"
(5)
.
"وقال فرقد السنجي: " إن المنافق ينظر: فإذا لم يرَ أحداً دخل مدخل السوء، وإنما
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 145).
(2)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 398).
(3)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (20/ 20).
(4)
ذم الهوى، لابن الجوزي (ص: 145).
(5)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 66).
يراقب الناس، ولا يراقب الله تعالى"
(1)
.
"راود بعضُهم أعرابيةً، وقال لها: ما يرانا إلا الكواكبُ، قالت: فأين مُكوكِبُها؟!
(2)
.
ومن وصايا رسولنا صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه أيضًا: أن معاذاً رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أوصني، قال:(اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كله قال: هذا) وأشار بيده إلى لسانه
(3)
.
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه بمراقبة الله عز وجل؛ لأن مراقبة الله تعالى في السر والعلن تحرس صاحبها من ركوب المعصية، أو التقصير في الطاعة، ومن كان مراقبًا لله جل وعلا في خلوته وجلوته صلح له شأنه في دنياه وآخرته.
ثالثًا: الوصول إلى موافقة الله تعالى فيما يحب ويكره. "قال ذو النون: علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله"
(4)
.
رابعًا: دخول الجنة. فإذا استمر المؤمن على مراقبة الله تعالى في ظاهره وباطنه ساقه ذلك إلى الجنة.
"سئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمس: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسَب"
(5)
.
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 398).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (20/ 19).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا، الصمت (ص: 56)، وقال الألباني: إسناده جيد.
(4)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 65).
(5)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 397).
احذرِ الغَفلة
لقد جئنا هذه الدارَ زوّاراً إلى حين، وعنها ننتقل إلى دار أخرى يكون فيها قرارنا، وحياتنا الأبدية. فنحن في دار الدنيا نزلاء من أجل هدف واحد هو عبادة الله تعالى وحده وعلى هذا التكليف الرباني يُحدَّد المنزل في دار الآخرة: إما في الجنة وإما في النار.
فمن عقل هذه الحقيقة وآمن بهذا النبأ العظيم، وعمر قلبَه اليقينُ الجازم به؛ لم تُلهه دارُ غربته عن دار وطنه، ولم ينشغل عن التكليف الذي جاء لأجله بغيره.
ولكن هذا الصنف من الناس قليل جداً إزاء العدد الكبير الذين أسرتهم الغفلة عن هذه الحقيقة، وقادتهم إلى الانشغال بالدنيا عن الآخرة، فصاروا غافلين عن ربهم ودينه، غافلين عن الآخرة، وعن ذهابهم عن هذه الدنيا بلا عودة.
إن داء الغفلة قد تمكن من كثير من الخلق حتى فقدوا الشّعور بما حقّه أن يُشعَر به، وسهوا حتى قلّ تحفظهم مما يُخاف منه، فصار الأمر العظيم مما يُصلح حالهم في عاجل أمرهم وآجله لا يخطر لهم على بال، فلم يدركوه مع وجود ما يقتضيه، ويدعو إلى الاستيقاظ عنده.
ما أسوأ حال من غفل عن ربه الذي خلقه ورزقه، وأنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى، حيث خلا قلبه من الإيمان به وتعظيمه، وهيبته وتقديره، وإجلاله والانقياد له، وفرغ لسانه من ذكره وانشغل بذكر غيره، ولم تنشغل جوارحه بالإقبال على أوامره والانتهاء عن نواهيه، بل شغلت باللهث خلف الشهوات والانكباب على الملذات التي تخالف شرع ربه سبحانه.
فأصبح بذلك غارقًا في دنياه غافلاً عن أُخراه، فلا مشاهد الموت وعظاته تزجره،
ولا آيات الله تعالى المسطورة والمنشورة تعظه، ولا عِبر الحياة وأحداثها ترد إليه عقله ورشده، فغدا أصم السمع، أعمى البصر، محجوب القلب عما ينفعه، فشقي بذلك أيما شقاء، ولا غرو فإن شقاء الغفلة داء قتال شقي به أكثر الأحياء وندم عليه أكثر الأموات.
قال زين الدين ابن رجب: " ورُئيَ بعض الموتى في المنام فقال: ما عندكم أكثر من الغفلة، وما عندنا أكثر من الحسرة! "
(1)
.
وقال عمر بن عبد العزيز:
ومِن الناسِ مَنْ يَعِيشُ شَقِيّاً
…
جِيفةَ الليل غافِلَ اليَقَظَهْ
فإِذا كان ذا حَياءٍ ودِينٍ
…
راقَب اللّهَ واتَّقى الحَفَظهْ
إِنَّما الناسُ سائرٌ ومُقِيمٌ
…
والذي سارَ لِلْمُقِيم عِظَهْ
(2)
.
وقال الغزالي: " مفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة
(3)
.
وقال ابن كثير: " وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة"
(4)
.
فلهذا حذرنا الله تعالى من الغفلة والغافلين؛ فنهى تعالى في كتابه الكريم المسلمَ عن أن يكون من أهل الغفلة فقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]. وبيّن سبحانه صفات الغافلين حتى نحذرها ولا نكون من أهلها فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
(1)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 64).
(2)
لسان العرب، لابن منظور (7/ 466).
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (3/ 378).
(4)
تفسير ابن كثير (2/ 185).
اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 107]{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108]. وذكر تبارك تعالى كون الغفلة سببًا لبعض المعاصي فقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله آمراً باليقظة ومحذراً من الغفلة: " أيها الإنسان، -وكلنا ذلك الإنسان- استيقظْ من غفلتك، وهُبّ من رقدتك، قد آن أن يُدعى إليك الطبيب بجميع الدواء، فلا يرجى لك مما نزل بك الشفاء"
(1)
. وقال: "فاحذر الغفلة عن ذكر الله؛ فإنها أصل كل بلية، وجالبة كل رزية"
(2)
.
وقال:
فانتبهْ من رقدة الغفلـ
…
ة والعمرُ قليلُ
واطّرحْ سوف وحتـ
…
ى فهما داء دخيل
(3)
.
وقال:
ودَعَتْنا المنونُ في سِنة الغفلة
…
هبّوا واستيقظوا يا أنامُ
(4)
.
وقال رحمه الله في بيان صفة الغافل: " ما أعجبَ أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه! وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن. أعجب العجائب سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك عما
(1)
بتان الواعظين ورياض السامعين، لابن الجوزي (ص: 160).
(2)
التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي (ص: 66).
(3)
المدهش، لابن الجوزي (ص: 534).
(4)
المرجع السابق (ص: 163).
قد خُبِئ لك، تغتر بصحتك وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم، لقد أراك مصرعُ غيرك مصرعَك، وأبدى مضجعُ سواك قبل الممات مضجعك، وقد شغلك نيل لذّاتك عن ذكر خراب ذاتك.
كأنك لم تسمع بأخبار مَنْ مضى
…
ولم ترَ في الباقين ما يصنعُ الدهرُ
فإن كنتَ لا تدري فتلك ديارُهم
…
محاها مجالُ الريح بعدك والقطر
كم رأيتَ صاحب منزل ما نزل لحدَه حتى نزل! وكم شاهدت والي قصر وليه عدوه لما عُزل! فيا مَنْ كلُّ لحظة إلى هذا يسري، وفعلُه فعل من لا يفهم ولا يدري.
وكيف تنامُ العينُ وهي قريرة
…
ولم تدر من أيّ المحلين تنزل؟ "
(1)
أسباب الغفلة:
إن الغفلة عن الله وعن دينه وعن العمل للدار الآخرة مرض له أسباب توصل إليه، فمن ذلك:
أولاً: الجهل بالله تعالى، وقلة المعرفة بشرعه، فمن كان عالمًا بالله تعالى عظم في قلبه قدره، واتسع فيه جلاله وهيبته، فذكره بأمره ونهيه، وخشي أن يكون في غفلة عنه، فإذا خلا القلب من أنوار هذه المعرفة حلّ فيه ظلام الغفلة. والعلم بشريعة الله يدعو إلى اليقظة إلى عمل الآخرة والاستعداد للقاء الله فيها، فمن جهل ذلك استغرق حياته في العمل لدنياه وغفل عن العمل لآخرته. قال ابن القيم:" والمقصود أن الغفلة والكسل اللذين هما أصل الحرمان سببهما عدم العلم، فعاد النقص كله إلى عدم العلم والعزيمة، والكمال كله إلى العلم والعزيمة"
(2)
.
ثانيًا: طول الأمل وقلة التفكر في فجأة الأجل، فمن طال أمله عاش في كنف الغفلة
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 2).
(2)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 114).
ساهيًا لاهيًا، باحثًا عن الظفر بلذاته العاجلة، فساء منه العمل، ولم يستعد بزاد النجاة ليوم المعاد.
قال محمود الوراق:
قائدُ الغفلةِ الأمَلْ
…
والهَوَى قائدُ الزَّلَلْ
قتلَ الجهلُ أهلَهُ
…
ونَجَا كلُّ مَنْ عَقَلْ
(1)
.
ثالثًا: التعلق بالدنيا والافتتان بزخارفها، فمن أسرته شهوات الدنيا وجاهها وأموالها ولهوها قيدته الغفلة فنسي حق ربه عليه، فجلب لنفسه الضرر العاجل والآجل. قال ابن الجوزي:" الدنيا نهر طالوت والفضائل تنادي: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} فإذا قامت الفاقة مقام ابن أم مكتوم أُبيحت لها رخصة: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ} فأما أهل الغفلة فارتووا، فلما قامت حرب الهوى ثبطتهم البطنة، فنادوا بألسنة العجز: {لا طَاقَةَ لَنَا}، وأقبل مضمَّر الجد فحاز قصب السبق"
(2)
.
أضرار الغفلة وآثارها:
أولاً: الغفلة حجاب عن رؤية الحق والرشد، فكم تمر بالغافل من عظات، ويرى في الحياة من آيات، ولكن حجاب الغفلة يحول دون وصول العظة إلى قلبه التي متى انقشع غيمها عنه رأى الحق فاتبعه والباطل فتركه.
قال ابن الجوزي: " لما انقشع غيم الغفلة عن عيون أهل اليقين لاح لهم هلال الهدى في صحراء اليقظة فبيتوا نية الصوم عن الهوى على عزم: (عزفتْ نفسي عن الدنيا)
(3)
"
(4)
.
(1)
حماسة الظرفاء، للزوزني (ص: 9).
(2)
المدهش، لابن الجوزي (ص: 175).
(3)
جزء من حديث: عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنًا حقًا فقال: انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: قد عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال:(يا حارث، عرفت فالزم) ثلاثًا. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 65).
(4)
العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: 174).
وقال أبو محمد الإشبيلي: " لكن حجاب الغفلة الذي غطى القلوب كثيف، فلا يرى ما وراءه، والوقر الذي في الآذان عظيم فلا يسمع من ناصحٍ دعاءه"
(1)
.
وقال ابن القيم: "وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار"
(2)
.
ثانيًا: قلة هيبة الله تعالى وكثرة الوحشة بين العبد وربه، فمع الغفلة يقل جلال الله في قلب صاحبه، ولا يجد له أنسًا معه؛ لبعده عن طاعته. قال ابن القيم: حجاب الهيبة رقيق في قلب الغافل، وقال: الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشة لا تزول إلا بالذكر
(3)
.
ثالثًا: حرمان الربح والفوز بالجنة، إذا استمر المرء في غفلته فترك عبادة ربه وعبد هواه وشهواته حتى أتاه الموت استقبله في الآخرة العذاب، وحُرِم الجنة والثواب. فأي ضرر أعظم من هذا الضرر؟!
قال ابن الجوزي: " الغفلة تحرم الربح، والمعصية توجب الخسران، والغفلة تغلق أبواب الجنة، والمعصية تفتح أبواب النار"
(4)
.
علاج الغفلة:
إذا كانت الغفلة غير متمكنة من قلب الإنسان فعلاجها سهل، وتكون بمنزلة السِّنة
(1)
المدهش، لابن الجوزي (ص: 380).
(2)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 63).
(3)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 62 - 63).
(4)
التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي (ص: 103).
أو النوم الخفيف الذي يسهل إيقاظ صاحبه، أما إذا تمكنت منه فعلاجها شديد، وتكون كالنوم الثقيل الذي لا يستيقظ منه صاحبه إلا بعد زمن وكُلفة. قال ابن الجوزي:" لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رِقَّ أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة"
(1)
.
فمن الأدوية:
أولاً: سرعة الانتباه لمرض الغفلة قبل استحكامه، والمبادرة إلى علاجه وإن استفحل الداء، وعدم التساهل أو التأخر في مداواته. وهذا أولى خطوات العلاج؛ فشعور المريض بالمرض يعينه على النهوض للاستشفاء، فأما من لم يشعر بمرضه فأنى له التداوي؟
قال ابن القيم: " فاعلم أن العبد قبل وصول الداعي إليه في نوم الغفلة قلبه نائم وطرفه يقظان، فصاح به الناصح وأسمعه داعي النجاح، وأذن به مؤذن الرحمن حي على الفلاح، فأول مراتب هذا النائم اليقظة والانتباه من النوم"
(2)
. وقال أيضًا: " فأول منازل العبودية اليقظة، وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة، وما أعظم قدرها وخطرها، وما أشد إعانتها على السلوك! فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سُبي منها:
فحيّ على جنات عدْنٍ فإنها
…
منازلُك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبيُ العدو فهل تُرى
…
نعودُ إلى أوطاننا ونُسلَّم
فأخذ في أهبة السفر، فانتقل إلى منزلة العزم، وهو العقد الجازم على المسير، ومفارقة كل قاطع ومعوِّق، ومرافقة كل معين وموصل، وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده"
(3)
(1)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (4/ 164).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 140).
(3)
المرجع السابق (1/ 123).
وقال: " لابد من سِنة الغفلة ورقاد الهوى، ولكن كن خفيف النوم؛ فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح"
(1)
.
ثانيًا: ذكر الله تعالى والإقبال عليه؛ فإن مداومة ذكره سبحانه دواء ناجع من داء الغفلة، خصوصًا إذا توافق القلب واللسان، ولم يكن اللسان مجرد تالٍ يردد الذكر من غير ظهور أثر على الجوارح عملاً بالأوامر وتركًا للنواهي. ومن أعظم الذكر: قراءة القرآن الكريم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)
(2)
(3)
.
قال ابن الجوزي: " لا تقدر على التخلص من بلوى المعصية الا بالتخلص من سجن الغفلة، ولا تتخلص من الغفلة الا بتضمير البطن وتفريغ القلب ومواصلة الذكر"
(4)
.
وقال ابن القيم: " فالقلب الغافل مأوى الشيطان؛ فإنه وسواس خناس قد التقم قلب الغافل يقرأ عليه أنواع الوساوس والخيالات الباطلة، فإذا تذكر وذكر الله انجمع وانضم وخنس وتضاءل لذكر الله، فهو دائمًا بين الوسوسة والخنس"
(5)
.
وقال: " فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة، فالغفلة هي قحط القلوب وجدبها، وما دام العبد في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكَّنت الغفلة منه، واستحكمت صارت أرضه خرابًا ميتة، وسنته جرداء يابسة، وحريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 41).
(2)
أي: أُعْطِي قِنْطاراً من الأجر. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (4/ 189).
(3)
رواه أبو داود (1/ 528)، وابن خزيمة (2/ 181)، وهو صحيح.
(4)
التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي (ص: 54).
(5)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 113).
كالسَّمائم
(1)
"
(2)
.
وقال أيضًا: " والمقصود أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة وهي حجاب عليه، فإن كشف هذا الحجاب بالذكر وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بطالة ولعب واشتغال بما لا يفيد، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت الرب تعالى له وغضبه ولعنته، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع عملية يعذب العامل فيها نفسه ولا تجدي عليه شيئًا، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع قولية اعتقادية تتضمن الكذب على الله ورسوله والتكذيب بالحق الذي جاء به الرسول، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب يقدح في أصول الإيمان الخمسة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه فلغلظ حجابه وكثافته وظلمته وسواده لا يرى حقائق الإيمان ويتمكن منه الشيطان يعده ويمنِّيه، والنفس الأمارة بالسوء تهوى وتشتهي، وسلطان الطبع قد ظفر بسلطان الإيمان فأسره وسجنه إن لم يهلكه، وتولى تدبير المملكة واستخدام جنود الشهوات وأقطعها العوائد التي جرى عليها العمل، وأغلق باب اليقظة وأقام عليه بواب الغفلة وقال: إياك أن نؤتى من قبلك، واتخذ حجاباً من الهوى وقال: إياك أن تمكن أحداً يدخل عليّ إلا معك، فأمر هذه المملكة قد صار إليك وإلى البواب، فيا بواب الغفلة، ويا حاجب الهوى، ليلزم كل منكما ثغره، فإن أخليتما فسد أمر مملكتنا، وعادت الدولة لغيرنا، وسامنا سلطان الإيمان شر الخزي والهوان، ولا نفرح بهذه المدينة أبداً"
(3)
.
ثالثًا: الاهتمام بإصلاح القلب وحراسته؛ فهو محل الغفلة أو اليقظة، فالاعتناء بالمكان ومراقبة ما يحل فيه يجعله في مأمن من النزلاء المضرين، واللصوص المعتدين. ويتم
(1)
جمع سموم، وهي: الريح الحارة. الصحاح للجوهري (6/ 232).
(2)
أسرار الصلاة، لابن القيم (ص: 3).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 286).
هذا العلاج بالتنقية والتحلية: تنقية من كل سبب يصل القلب فيؤدي إلى غفلته، وتحليته بإدخال كل وسيلة توصل إلى انتباهه ويقظته.
قال ابن القيم: " الغفلة نوم القلب؛ ولهذا تجد كثيراً من الأيقاظ في الحس نيامًا في الواقع، فتحسبهم أيقاظًا وهم رقود، ضد حال من يكون يقظان القلب وهو نائم؛ فإن القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن، وكمال هذه الحياة كان لنبينا، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسالته على بصيرة من ذلك بحسب نصيبه منهما. فالغفلة واليقظة يكونان في الحس والعقل والقلب، فمستيقظ القلب وغافله كمستيقظ البدن ونائمه"
(1)
.
ومن أعظم هذه الأسباب التي تحلي القلب بما يوجب له اليقظة: صدق التأهب للقاء الله تعالى. قال ابن القيم: " والمقصود أَنْ صدق التأَهب للقاءِ الله هو مفتاح جميع الأَعمال الصالحة والأَحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه؛ من اليقظة والتوبة والإِنابة والمحبة والرجاءِ والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأَهب والاستعداد للقاءِ الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه"
(2)
.
(1)
المرجع السابق (3/ 284).
(2)
طريق الهجرتين، لابن القيم و باب السعادتين (22/ 40).
الذنوبُ والتوبةُ منها
لا تسلم الحياة الدنيوية من أخطار وفواجع، يخشى الإنسان أن يحيط به خطر من أخطارها، أو تنزل به فاجعة من فواجعها؛ فهو يخشى الأمراض الفتاكة، والأشياء المؤذية، والضوائق المالية، وفقدان أسباب راحة العيش، والحروب وآثارها، والأزمات المتعددة ونتائجها، كما يخاف فقدان الأحباب من أقارب وأصحاب، ورحيلَ ما تستقر به حياته، وتسعد به نفسه في الحياة الفانية.
فلذلك يدِّرع من تلك الأخطار بما يقدر عليه من أسباب الحماية؛ لمعرفته أضرارها وآلامها.
لكن خطراً كبيراً لا يدركه إلا القلة من الناس، أما الكثيرون فإنهم يسلكون طريق الوصول إلى ذلك الخطر، ويستعجلون نتائجه شعروا أو لم يشعروا، حتى يقع ذلك الخطر عليهم بنتائجه الأليمة، وعواقبه الوخيمة. هذا الخطر هو: الذنوب وما تجلبه على أهلها من الويل والهلاك في العاجل والآجل.
قال ابن شبرمة: "عجبت لمن يحتمي من الطيبات مخافة الداء، كيف لا يحتمي من المعاصي مخافة النار!! "
(1)
.
خطر الذنوب وأضرارها:
من قرأ كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقلَّب طرفه في صفحات تاريخ الأمم والشعوب، وأجال نظره في الحياة المعاصرة، وتأمل في ذلك وتدبر؛ رأى أنْ لا أمان مع المعاصي مهما قلّت، وأن الذنوب هي المصيبة العظمى والكارثة الكبرى التي
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 116).
تجتاح أهلها وتهلكهم، وتوصلهم إلى شر حال، وأسوأ مصير.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين، خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم)
(1)
.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: (هل رأى أحد منكم من رؤيا؟). قال: فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال ذات غداة: (إنه أتاني الليلة آتيانِ وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ
(2)
رأسه فيتدهده
(3)
الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على
(1)
رواه ابن ماجه (2/ 1332)، والحاكم (4/ 582)، والبيهقي شعب الإيمان (3/ 196)، والطبراني المعجم الأوسط (5/ 61)، وهو صحيح.
(2)
الثَّلْغ: الشَّدْخ. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 636).
(3)
فيتدحرج. المعجم الوسيط (1/ 299).
رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلّوب من حديد
(1)
وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه
(2)
إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه، قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور - قال: وأحسب أنه كان يقول: - فإذا فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا
(3)
قال: قلت: لهما ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول: - أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه
(4)
فيلقمه حجراً فينطلق يسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة
(5)
كأكره ما أنت راءٍ رجلاً مرآة فإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة مُعْتَمَّةٍ فيها
(6)
من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدانٍ رأيتهم قط قال: قلت لهما: ما هذا ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أرَ روضة قط أعظم منها ولا أحسن قال: قالا لي: ارقَ فيها قال: فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبِن ذهب ولبن فضة فأتينا
(1)
الكَلُّوب بالتشديد: حَديدة مُعْوَجَّة الرأس. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (4/ 348).
(2)
أي: يُشَقِّه ويُقَطِّعُه. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 1138).
(3)
أي: ضّجُّوا واستغاثوا. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/ 227).
(4)
أي: يَفْتَحه. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/ 892).
(5)
أي: قبيحُ المَنْظَرِ. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 447).
(6)
أي: وَافِية النَّبات طَويلَتِه. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/ 573).
باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صعداً فإذا قصر مثل الربابة البيضاء
(1)
قال: قالا لي: هذاك منزلك قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله. قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجبًا فما هذا الذي رأيت؟! قال: قالا لي: أمَا إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه
(2)
وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة). قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطراً منهم حسن وشطراً منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا تجاوز الله عنهم)
(3)
.
فما أعظم هذا الحديث!
ومما " ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب
(1)
السَّحَابة التي ركبَ بعضُها بعضاً. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 450).
(2)
قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة؛ لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه، فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس. فتح الباري لابن حجر (20/ 52).
(3)
رواه البخاري (6/ 2583).
كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه، فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقرب بُعداً وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحاً وبالجنة ناراً تلظى وبالإيمان كفراً وبموالاة الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحل عليه غضب الرب تعالى فأهواه ومقته أكبر المقت، فأرداه فصار قوّاداً لكل فاسق ومجرم، رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة، فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك، وارتكاب نهيك. وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رأس الجبال؟ وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعًا ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه علي أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها وما هي من الظالمين ببعيد؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟ وما الذى أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميراً؟ وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأس شديد
فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علو تتبيرا؟ وما الذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب
…
عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله عز و جل إذا أضاعوا أمره! بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!! "
(1)
.
قال ابن القيم: " يا مغروراً بالأماني لُعن إبليس، وأُهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمر بها، وأُخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها، وحُجب القاتل عنها بعد أن رآها عيانًا بملء كف من دم، وأمر بقتل الزاني أشنع القِتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل، وأمر بإيساع الظهر سياطاً بكلمة قذف أو بقطرة سكر، وأبان عضواً من أعضائك بثلاثة دراهم! فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه، {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا}. دخلت امرأة النار في هرة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار، العمر بآخره، والعمل بخاتمته، من أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعًا، ومن أساء في آخر عمره لقي ربه في ذلك الوجه"
(2)
.
وقال ابن كثير: "قيل في بعض كتب الله: تزرعون السيئات وترجون الحسنات! لا
(1)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 26).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 63).
يُجتنى من الشوك العنب.
تصلُ الذنوبَ إلى الذنوب وترتجي
…
درَجَ الجنان وطيبَ عيش العابدِ
ونسيتَ أن الله أخرج آدمًا
…
منها إلى الدنيا بذنب واحد؟! "
(1)
.
أسباب الوقوع في الذنوب:
لا يقع الإنسان في الخطايا إلا بأسباب توصله إلى ذلك، فقد يصل إليها بسبب أو أكثر، والأسباب المؤدية إلى الوقوع في المعاصي كثيرة، فمنها:
أولاً: ضعف هيبة الله وجلاله وخوفه ومراقبته في القلوب
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]. وقال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28].
قال ابن القيم: لم يقدر الله حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة الله، فللهِ الفضْلةُ من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله، وسواه المقدَّم في ذلك؛ لأنه المهم عنده، يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه وهو في قبضته وناصيته بيده؟! ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، ويستخفي من الناس ولا يستخفي من الله ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما عنده وما يقدر عليه؟! وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد، وبذل النصيحة وقد أفرغ له قلبه وجوارحه، وقدمه على كثير من مصالحه حتى إذا قام في حق ربه إن ساعد القدر قام قيامًا لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحي أن يواجه به مخلوق مثله!!
(1)
البداية والنهاية، لابن كثير (9/ 258).
فهل قدر اللهَ حق قدره من هذا وصفه، وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟!
(1)
.
ثانيًا: الجهل، سواء كان ذلك بالحكم، أم بعظمة العقوبة، أم بالعواقب السيئة للمعصية
قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138].
والجهلُ داء قاتل وشفاؤه
…
أمرانِ في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة
…
وطبيب ذاك العالم الرباني
(2)
ثالثًا: احتقار المعصية واستصغارها، سواء كان استصغارها لكونها صغيرة في أصلها، أو لكونه قد تمرس على المعاصي فصغرت في عينه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقَّرات الذنوب؛ فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى جملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يأخذ بها صاحبها تهلكه)
(3)
.
واستقلال" العبد المعصيةَ عين الجرأة على الله، وجهل بقدر من عصاه، وبقدر حقه، وإنما كان مبارزة لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها، وخفت على قلبه، وذلك نوع مبارزة"
(4)
.
رابعًا: التباس الحق بالباطل واستحكام الشُّبه في النفوس، فقد يعصي بعض العصاة
(1)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 98).
(2)
متن القصيدة النونية (2/ 262).
(3)
رواه أحمد (37/ 467)، وهو صحيح.
(4)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 265).
وهو يعتقد أنه على الحق، بل على قربة من القُرب، وهذا حال أهل البدع ومرضى القلوب، وهذا أخطر الأسباب؛ لأن صاحبه يظن أنه على الصواب فلا يفكر في التوبة حينئذ. قال تعالى:{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]. " الأماني جمع أمنية، وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل، كزعمهم أنهم مصلحون في نفاقهم، وأن المؤمنين حقًا سفهاء في صدقهم، أي: في إيمانهم، كما بين تعالى ذلك في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} "
(1)
.
خامسًا: عدم الإيمان بالآخرة أو ضعفه، فمن كان لديه إيمان قوي بيوم يكون فيه الجزاء: ثوابًا للمطيعين وعقابًا للعاصين لم يقدم على الخطيئة ويصر عليها
قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
سادسًا: الاغترار بالدنيا وقوة التعلق بها وجموح الرغبة إلى شهواتها، قال تعالى:{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية: 34]. {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35].
سابعًا: الاغترار بحلم الله وعفوه وتأخيرِ عقوبته، قال تعالى:{وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8]. يعني: يستمرون في تلك المعاصي بحجة أن الله لم يعاجلهم بالعذاب على فعلهم.
ثامنًا: الرفقة السيئة والبيئة غير الصالحة، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27] {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا
(1)
أضواء البيان، للشنقيطي (7/ 545).
خَلِيلًا} [الفرقان: 28]{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 29].
تاسعًا: ضعف المجاهدة للنفس حتى تصير هي الآمر الناهي لصاحبها، ولو جاهدها فألزمها الرباط في حصن الفضائل لصار لها قائداً إلى الخير.
عاشراً: حرص النفس وتوقانها إلى ما مُنعت منه، قال ابن الجوزي: " تأملت حرص النفس على ما منعت منه فرأيت حرصها يزيد على قدر قوة المنع، ورأيت في الشرب الأول، أن آدم عليه السلام لما نهي عن الشجرة حرص عليها مع كثرة الأشجار المغنية عنها، وفي الأمثال:[المرء حريص على ما منع، وتواق إلى ما لم ينل]، ويقال:[لو أمر الناس بالجوع لصبروا، ولو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه]. وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء! وقد قيل: [أحب شيء إلى الإنسان ما مُنعا]. فلما بحثت عن سبب ذلك وجدت سببين:
أحدهما: أن النفس لا تصبر على الحصر .. ولهذا لو قعد الإنسان في بيته شهراً لم يصعب عليه، ولو قيل له: لا تخرج من بيتك يوماً طال عليه، والثاني: أنها يشق عليها الدخول تحت حكم؛ و لهذا تستلذ الحرام ولا تكاد تستطيب المباح؛ ولذلك يسهل عليها التعبد على ما ترى، وتؤثره لا على ما يؤثر"
(1)
.
أضرار الذنوب:
مِنْ أحسن من سرد أضرار الذنوب وآثارها السيئة: ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه" الجواب الكافي"، وسأذكر ما ذكره هناك، على وجه الإيجاز من غير تفصيل ولا استدلال؛ خشية الإطالة.
قال رحمه الله: وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرِّة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله، فمنها: حرمان العلم، وحرمان الرزق، ووحشة
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 24).
يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلاً، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، ومنها الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم، ومنها تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه أو متعسراً عليه، ومنها ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، ومنها أن المعاصي توهن القلب والبدن، ومنها حرمان الطاعة، ومنها أن المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته ولابد، ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضًا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، ومنها وهو من أخوفها على العبد أنها تضعف القلب عن إرادته فتقوى إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئًا إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، ومنها أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه، ومنها أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، ومنها أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم، ومنها أن المعصية تورث الذل، ومنها أن المعاصي تفسد العقل، ومنها أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين، ومنها أن الذنوب تدخل العبد تحت لعنة رسول الله؛ فإنه لعن على معاصٍ، ومنها حرمان دعوة رسول الله ودعوة الملائكة، ومنها التثبط عن الطاعة والابتعاد عنها، ومنها جعل القلب أصم لا يسمع الحق أبكم لا ينطق به أعمى لا يراه، ومنها الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان، ومنها مسخ القلب فيمسخ كما تمسخ الصورة فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، ومنها مكر الله بالماكر ومخادعته للمخادع واستهزاؤه بالمستهزئ وإزاغته لقلب الزائغ عن الحق، ومنها نكس القلب حتى يرى الباطل حقًا والحق باطلاً والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ومنها حجاب القلب عن الرب في الدنيا والحجاب الأكبر يوم القيامة، ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة، وأعظمها الخروج عن الصراط في الدنيا والآخرة
(1)
.
(1)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 34 - 86).
شاطئ النجاة:
مقترفُ المعاصي المصرُّ عليها راكبُ قاربٍ صغير في بحر خضم متلاطم الأمواج في يومِ ريحٍ عاصف لا يأمن في تلك الحال من أن ينقلب به قاربه الصغير فيلقى هلاكه.
فينبغي لكل عاقل أن يتدارك نفسه قبل الفوات، فيترك الذنوب قبل الممات، وقبل حلول العواقب الوخيمة التي يتمنى حينها أنْ لو ركب سفينة السلام حتى يصل بها إلى شاطئ الأمان.
إن سفينة الإنقاذ هي التوبة النصوح والرجوع إلى الله تعالى.
معنى التوبة:
التوبة هي: "الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكل حقوق الرب والتوبة النصوح هي: توثيق بالعزم على ألا يعود لمثله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: التوبة النصوح الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإقلاع بالبدن والإضمار على ألا يعود"
(1)
.
وقيل: " حقيقة التوبة هي: الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل"
(2)
.
شروط التوبة:
قال ابن حجر: قال القرطبي: "ثم توبة العاصي إما من حق الله، وإما من حق غيره؛ فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك فقط، بل أضاف إليه القضاء أو الكفارة، وحق غير الله يحتاج إلى إيصالها لمستحقها
(1)
التعريفات، للجرجاني (ص: 95).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 182).
وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك فعفو الله مأمول؛ فإنه يضمن التبعات ويبدل السيئات حسنات، والله أعلم. قلت: حكى غيره عن عبد الله بن المبارك في شروط التوبة زيادة فقال: الندم، والعزم على عدم العود، ورد المظلمة، وأداء ما ضيع من الفرائض"
(1)
.
تعجيل التوبة:
قال ابن رجب: " قال لقمان لابنه: يا بني، لا تؤخر التوبة؛ فإن الموت يأتي بغتة، وقال بعض الحكماء: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل .. قال بعض السلف: اصبِحوا تائبين، وامسوا تائبين. يشير إلى أن المؤمن لا ينبغي أن يصبح ويمسي إلا على توبة؛ فإنه لا يدري متى يفاجئه الموت صباحًا أو مساء، فمن أصبح أو أمسى على غير توبة فهو على خطر؛ لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب فيحشر في زمرة الظالمين قال الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، تأخير التوبة في حال الشباب قبيح، وفي حال المشيب أقبح و أقبح .. فإن نزل المرض بالعبد فتأخيره للتوبة حينئذ أقبح من كل قبيح؛ فإن المرض نذير الموت، وينبغي لمن عاد مريضًا أن يذكره التوبة والاستغفار، فلا أحسن من ختام الأعمال بالتوبة والاستغفار.
التوبةَ التوبةَ قبل أن يصل إليكم من الموت النوبة، فيحصل المفرطُ على الندم والخيبة، والإنابةَ الإنابة قبل غلق باب الإجابة، والإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة، ما أحسن قلقَ التوَّاب، ما أحلى قدوم الغُيّاب، ما أجمل وقوفهم بالباب! "
(2)
.
أمور مُعِيْنة على التوبة:
هناك أمور تساعد الإنسان العاصي على التوبة إلى الله تعالى والثبات عليها، فمنها:
(1)
فتح الباري لابن حجر (18/ 63).
(2)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 370).
أولاً: التفكر في عواقب المعاصي وآثارها السيئة، فمن نظر في أضرار المعاصي وآثارها بعين العقل ساقته إلى التوبة من غير تريث.
قال ابن الجوزي: " أجهل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته، فكم قد سمعنا عن سلطان وأمير وصاحب مال أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في حلال وحرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ، ولقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرة من كل لذة. ولو كان هذا فحسب لكفى حزناً، كيف والجزاء الدائم بين يديه؟!
…
وهل عُدّ في العقلاء قط من قيل له: اجلس في المملكة سنة ثم نقتلك. هيهات بل الأمر بالعكس، وهو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة، بل سنين ليستريح في عاقبته، وفي الجملة أفٍ للذة أعقبت عقوبة"
(1)
.
ثانيًا: الاعتراف بالذنب وإقرار النفس به وعدم الإصرار عليه، فإقرار المرء بذنبه يحمله على تركه. قال تعالى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102].
قال ابن القيم: " الإصرار هو الاستمرار على المخالفة والعزم على المعاودة، وذلك ذنب آخر لعله أعظم من الذنب الأول بكثير، وهذا من عقوبة الذنب أنه يوجب ذنبًا أكبر منه، ثم الثاني كذلك ثم الثالث كذلك حتى يستحكم الهلاك. فالإصرار على المعصية معصية أخرى، والقعود عن تدارك الفارط من المعصية إصرار ورضا بها وطمأنينة إليها وذلك علامة الهلاك"
(2)
.
ثالثًا: مفارقة بيئة المعصية وأسبابِ العودة إليها، عن أبي سعيد الخدري: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 129).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 181).
توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاه ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)
(1)
.
رابعًا: التفكر في الموت ولقاء الله والدار الآخرة، فمن تفكر بأنه لابد عن الدنيا راحل، وأنه لربه سيقابل، وأنه إلى الآخرة صائر؛ فإنه سيعد لرحلته زاداً من التوبة والإنابة.
خامسًا: أن لا يعتقد العاصي التائب أن توبته قد قُبلت فيقلّ خوفه، بل عليه أن يستمر في وجله من آثار معاصيه؛ فإن هذا يحمله على تجديد التوبة دائمًا، والرهبة من العودة إلى خطاياه السالفة.
قال ابن الجوزي: "ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها. وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك، وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها، ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام فيقولون: اشفع لنا فيقول: ذنبي، وإلى نوح عليه السلام فيقول: ذنبي، وإلى إبراهيم وإلى موسى وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم. فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم
(2)
لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقة.
(1)
رواه مسلم (4/ 2118).
(2)
الحديث في صحيح البخاري (4/ 1745)، صحيح مسلم (1/ 180) بمعناه، لكن عيسى عليه السلام جاء في البخاري:(ولم يذكر ذنباً).
ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا وهم بعد على خوف منها، ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع، وما أحسن ما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: و اسوأتاه منك وإن عفوت! فأفٍ والله لمختار الذنوب ومؤثر لذة لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غفر له! فالحذرَ الحذر من كل ما يوجب خجلاً"
(1)
.
سادسًا: الدعاء بقبول التوبة وحصول المغفرة، قال تعالى:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]. وقال: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران: 193].
ثمرات ترك المعاصي:
إن ترك المعاصي والإعراض عنها ابتغاءَ وجه الله تعالى يورث صاحبه خيراً عظيمًا في العاجل والآجل، خلاصته: الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41].
قال عبد الله بن المبارك:
أَيَضْمَنُ لِي فَتًى تَرْكَ الْمَعَاصِي
…
وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلَاصِ
أَطَاعَ اللَّهَ قَوْمٌ فاسْتَرَاحُوا
…
وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ الْمَعَاصِي
(2)
.
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 296).
(2)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 117).
ولابن القيم خلاصة نافعة في ثمرات ترك الذنوب، يقول رحمه الله:" سبحان الله رب العالمين! لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة، وصون العرض وحفظ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قوامًا لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق، وجواز القول بينهم، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسر الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة ووجد حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به، ودعاؤهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه، وفرحه بتويته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه. فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا. فإذا مات تلتقه الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها الى يوم القيامة. فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق، وهو في ظل العرش. فإذا انصرفوا بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين: و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4] "
(1)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 151).
موعظة:
قال أبو القاسم الحريري:
أيا مَنْ يدّعي الفَهْمْ
…
إلى كمْ يا أخا الوَهْمْ
تُعبّيْ الذّنْبَ والذمّ
…
وتُخْطي الخَطأ الجَمّ
أمَا بانَ لكَ العيْبْ
…
أمَا أنْذرَكَ الشّيبْ
وما في نُصحِهِ ريْبْ
…
ولا سمْعُكَ قدْ صمّ
أمَا نادَى بكَ الموتْ
…
أمَا أسْمَعَك الصّوْتْ
أما تخشَى من الفَوْتْ
…
فتَحْتاطَ وتهتمْ
(1)
فكمْ تسدُرُ في السهْوْ
…
وتختالُ من الزهْوْ
(2)
وتنْصَبُّ إلى اللّهوْ
…
كأنّ الموتَ ما عَمّ
وحَتّامَ تَجافيكْ
…
وإبْطاءُ تلافيكْ
طِباعاً جمَعتْ فيكْ
…
عُيوباً شمْلُها انْضَمّ
إذا أسخَطْتَ موْلاكْ
…
فَما تقْلَقُ منْ ذاكْ
وإنْ أخفَقَ مسعاكْ
…
تلظّيتَ منَ الهمّ
وإنْ لاحَ لكَ النّقشْ
…
منَ الأصفَرِ تهتَشّ
(3)
وإن مرّ بك النّعشْ
…
تغامَمْتَ ولا غمّ
(1)
الفوت: مضي الوقت.
(2)
تسدر: لم تهتم ولم تبال ما صنعت.
(3)
تهتش: تطرب وتشتهي.
تُعاصي النّاصِحَ البَرّ
…
وتعْتاصُ وتَزْوَرّ
(1)
وتنْقادُ لمَنْ غَرّ
…
ومنْ مانَ ومنْ نَمّ
وتسعى في هَوى النّفسْ
…
وتحْتالُ على الفَلْسْ
وتنسَى ظُلمةَ الرّمسْ
…
ولا تَذكُرُ ما ثَمّ
(2)
ولوْ لاحظَكَ الحظّ
…
لما طاحَ بكَ اللّحْظْ
ولا كُنْتَ إذا الوَعظْ
…
جَلا الأحزانَ تغْتَمّ
ستُذْري الدّمَ لا الدّمْعْ
…
إذا عايَنْتَ لا جمْعْ
يَقي في عَرصَةِ الجمعْ
…
ولا خالَ ولا عمّ
كأني بكَ تنحطّ
…
إلى اللحْدِ وتنْغطّ
وقد أسلمَك الرّهطْ
…
إلى أضيَقَ مِنْ سمّ
هُناك الجسمُ ممدودْ
…
ليستأكِلَهُ الدّودْ
إلى أن ينخَرَ العودْ
…
ويُمسي العظمُ قد رمّ
(3)
ومنْ بعْدُ فلا بُدّ
…
منَ العرْضِ إذا اعتُدّ
صِراطٌ جَسْرُهُ مُدّ
…
على النارِ لمَنْ أمّ
(4)
فكمْ من مُرشدٍ ضلّ
…
ومنْ ذي عِزةٍ ذَلّ
وكم من عالِمٍ زلّ
…
وقال الخطْبُ قد طمّ
(1)
تزور: تميل وتنحرف.
(2)
الرمس: القبر. ما ثَم: ما هناك.
(3)
رم: بلي.
(4)
أم: قصد.
فبادِرْ أيّها الغُمْرْ
…
لِما يحْلو بهِ المُرّ
(1)
فقد كادَ يهي العُمرْ
…
وما أقلعْتَ عن ذمّ
(2)
ولا ترْكَنْ إلى الدهرْ
…
وإنْ لانَ وإن سرّ
فتُلْفى كمنْ اغتَرّ
…
بأفعى تنفُثُ السمّ
وخفّضْ منْ تراقيكْ
…
فإنّ الموتَ لاقِيكْ
وسارٍ في تراقيكْ
…
وما ينكُلُ إنْ همّ
وجانِبْ صعَرَ الخدّ
…
إذا ساعدَكَ الجدّ
(3)
وزُمّ اللفْظَ إنْ ندّ
…
فَما أسعَدَ مَنْ زمّ
(4)
ونفِّسْ عن أخي البثّ
…
وصدّقْهُ إذا نثّ
(5)
ورُمّ العمَلَ الرثّ
…
فقد أفلحَ مَنْ رم
(6)
ورِشْ مَنْ ريشُهُ انحصّ
…
بما عمّ وما خصّ
(7)
ولا تأسَ على النّقصْ
…
ولا تحرِصْ على اللَّمّ
وعادِ الخُلُقَ الرّذْلْ
…
وعوّدْ كفّكَ البذْلْ
ولا تستمِعِ العذلْ
…
ونزّهْها عنِ الضمّ
(1)
الغُمر: غير المجرب للأمور.
(2)
يهي العمر: يضعف وينتهي.
(3)
صعَرَ الخدّ: كناية عن الكبر.
(4)
وزم: اضبط وأمسك. ند: نفر وشرد.
(5)
البث: الحزن. نث: أفشى ما حقه أن يُكتم.
(6)
ورُمّ العمَلَ: أصلحه. الرث: الرديء.
(7)
ورِشْ مَنْ ريشُهُ: قوِّه وأصلح حاله. انحص: تناثر وتساقط.
وزوّدْ نفسَكَ الخيرْ
…
ودعْ ما يُعقِبُ الضّيرْ
وهيّئ مركبَ السّيرْ
…
وخَفْ منْ لُجّةِ اليمّ
بِذا أُوصيتُ يا صاحْ
…
وقد بُحتُ كمَن باحْ
فطوبى لفتًى راحْ
…
بآدابيَ يأتَمّ"
(1)
.
اعتراف:
وقال أيضًا:
أستغْفِرُ اللهَ منْ ذُنوبٍ
…
أفرَطْتُ فيهِنّ واعْتَدَيْتُ
كمْ خُضْتُ بحْرَ الضّلالِ جهْلاً
…
ورُحتُ في الغَيّ واغْتَدَيْتُ
وكمْ أطَعْتُ الهَوى اغْتِراراً
…
واختَلْتُ واغْتَلْتُ وافْترَيْتُ
وكمْ خلَعْتُ العِذارَ ركْضاً
…
إلى المَعاصي وما ونَيْتُ
(2)
وكمْ تَناهَيْتُ في التّخطّي
…
إلى الخَطايا وما انتهيْتُ
فلَيتَني كُنْتُ قبل هذا
…
نَسْياً ولمْ أجْنِ ما جنَيْتُ
فالمَوتُ للُمجْرِمين خيرٌ
…
من المَساعي التي سعَيْتُ
يا رَبِّ عفْواً فأنْتَ أهلٌ
…
للعَفْوِ عنّي وإنْ عصَيْتُ
(3)
.
(1)
مقامات الحريري (ص: 85).
(2)
خلع العذار: مال إلى المكروه من غير عقل يضبطه. ونيت: فترت ولا ضعفت عن ذلك.
(3)
مقامات الحريري (ص: 419).
صلاحُ القلب
إن العناية بالشيء، وكثرة الحرص عليه، وتكثيف الجهد في الاهتمام به ومراقبته؛ تأتي من النظر في أسبابٍ أدّت إلى ذلك، منها: أهمية ذلك الشيء وأثره في غيره.
ولاشك أن قلب الإنسان له أهمية كبيرة بالنسبة للبدن والروح، وله أثر كبير في حياتهما أو موتهما، وصحتهما أو مرضهما.
ولهذا نجد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أولياْ القلب عناية كبيرة:
ففي القرآن نجد أن الله تعالى ذكر أن القلوب هي محل كل خير وشر قبل أن يصدّر ذلك منها إلى الجوارح قولاً وفعلاً، فإما أن يكون فيها خير وإما أن يكون فيها شر، وللخير في القلوب أمثلة بيّنها القرآن وللشر أمثلة كذلك.
القلب في القرآن الكريم:
من تصفح القرآن الكريم فسيجده تحدث عن القلب بإسهاب؛ فقد ذكر أن القلوب:
=محل الإيمان والكفر والنفاق: قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]، وقال:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وقال:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29].
=محل اللين والقسوة: قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، وقال:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22].
=محل الثبات والرعب: قال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف: 14]، وقال:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2].
=محل السكينة والطمأنينة: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4].
=محل الجحود والقَبول: قال تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22]، وقال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
= محل الفظاظة والرحمة: قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
= محل التحويل والتبديل من خير إلى شر ومن شر إلى خير: قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].
=محل الغفلة والسلامة: قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقال:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء: 88]، {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89].
= محل الحفظ والوعي والفهم والنظر والعقل والاتعاظ: قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء: 193، 194]، وقال:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وقال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
=محل الطهارة والمرض: قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ
مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، وقال:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41].
= محل التسليم والصبر والرد والجزع: قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
= محل الختم والطبع والران: قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]، وقال:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16]، وقال:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
= محل الفعل والقول الحقيقيين: قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقال:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ لَكُمْ} [الفتح: 11].
= محل الخشوع والإخبات والوجل: قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، وقال:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54]. وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
= محل الرأفة والرحمة: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27].
= محل تحسين الإيمان والامتحان للتقوى: قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، وقال:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3].
= محل الصدق والوفاء والإيمان: قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18].
= محل التدبر: قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
= محل الرجاء والخوف: قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37].
=محل الإباء والموافقة على الحقيقة: قال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
=محل الائتلاف والفرقة: قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63].
=محل التمحيص والاختبار لصدق الأعمال من كذبها: قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].
=محل الهداية والزيغ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
=محل القصد والفعل: قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
القلب في السنة النبوية الشريفة:
وأما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن القلب:
=محل التقوى: قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا)
(1)
. ويشير إلى صدره ثلاث مرات.
قال ابن رجب: " الأصل في التَّقوى والفجور هو القلبُ، فإذا برَّ القلبُ واتَّقى برَّت الجوارحُ، وإذا فجر القلب، فجرت الجوارحُ"
(2)
.
(1)
رواه مسلم (4/ 1986).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (26/ 23).
=محل الصلاح والفساد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)
(1)
.
قال ابن رجب: "فعلم بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَم العلويِ والسُّفليّ معاً حتى تكونَ حركاتُ أهلها كلُّها لله، وحركاتُ الجسدِ تابعةً لحركةِ القلب وإرادته، فإنْ كانت حركتُه وإرادتُه لله وحدَه، فقد صَلَحَ وصَلَحَتْ حركاتُ الجسدِ كلِّه، وإنْ كانت حركةُ القلب وإراداته لغيرِ الله تعالى فسدَ، وفسدت حركاتُ الجسد بحسب فسادِ حركة القلب"
(2)
.
=محل استقامة الإيمان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)
(3)
.
قال ابن رجب: "فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصِّديق وغيرُه قولَه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} بأنَّهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلبُ على معرفةِ الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّلِ عليه، والإعراض عما سواه؛ استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته؛ فإنَّ القلبَ هو ملكُ الأعضاء، وهي جنودهُ، فإذا استقامَ الملك استقامت جنودُه ورعاياه"
(4)
.
=محل التمييز بين البر والإثم: قال صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)
(5)
.
(1)
رواه البخاري (1/ 28)، ومسلم (3/ 1219).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (8/ 26).
(3)
رواه أحمد (20/ 343)، وهو حسن.
(4)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (23/ 9).
(5)
رواه أحمد (29/ 528)، وهو حسن.
وهذا التمييز إنما يكون عند الموصوفين بطهارة القلوب ونور الإيمان، أما القلوب التي غُذيت بالحرام وغشيتها ظلماتُ الذنوب وضعف الإيمان؛ فإنها لن تستطيع التمييز وهي في تلك الظلمات المتكاثفة.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر"
(1)
.
=محل عرض الفتن، فإما أن يقبلها وإما أن يردها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا
(2)
فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا
(3)
كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا
(4)
لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)
(5)
.
=محل نظر الله تعالى من العبد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)
(6)
.
=سريع التقلب: قال عليه الصلاة والسلام: (لقلبُ ابن آدم أشد انقلابًا من القدر إذا اجتمعت غلياناً)
(7)
.
ولهذا كان أكثر دعاء رسول الله بتثبيت القلب، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 20).
(2)
هو الحجر الأملس الذى لا يعلق به شيء. شرح النووي على مسلم (2/ 172).
(3)
أي: صار كلون الرماد من الربدة (لون بين السواد والغبرة). مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للقاري (15/ 333).
(4)
منكوسا. شرح النووي على مسلم (2/ 173).
(5)
رواه مسلم (1/ 128).
(6)
رواه مسلم (4/ 1986).
(7)
رواه أحمد (39/ 239)، والحاكم (2/ 317)، وهو صحيح.
كان أكثر دعائه: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، قالت: قلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك؟! قال:(يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)
(1)
.
فلما كان القلب بهذه المكانة العليا، وهذا المحل الرفيع، تعيّن على العبد العناية به والحرص على إصلاحه وحياته، والحذر من فساده وتسلط الأمراض عليه.
قال ابن القيم: "ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود الذي تصدر كلها عن أمره-، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله
…
فهو ملكها وهي المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته، وهو المسئول عنها كلها؛ لأن كل راع مسئول عن رعيته-؛ كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون، ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده به عن الطريق، وأمده من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعرض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذلِّ العبودية الذي هو أولى ما تلبس به الإنسان؛ ليحصل له الدخول ضمان:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] "
(2)
.
(1)
رواه الترمذي (5/ 538)، وهو صحيح.
(2)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 5).
أمراض القلب:
إن كثيراً من الناس يحرصون حرصًا شديداً على سلامة قلوبهم من الأمراض الحسية، وقلّ من ينتبه منهم إلى أمراض القلب المعنوية، وأمراض القلب المعنوية أخطر من أمراضه الحسية؛ فإن المرض المعنوي إذا لم يداوَ فقد يؤدي إلى مرض الروح وموتها، فإن مات الجسد على ذلك فإلى النار يكون المصير. وأما الأمراض الحسية فإنها قد تعتري الإنسان وقد لا تؤدي إلى الموت الحسي، فإن أدت إليه وكان الإنسان المصاب بها مؤمنًا صابراً فإلى الجنة مآله وعلى الله ثوابه.
إن الأمراض التي تصيب القلب أمراض كثيرة؛ فمنها: الكفر والنفاق والرياء والعجب والقسوة والشكوك والشهوات والشبهات والجهل والحزن والغم والهم والحسد والغيظ والحقد، وغير ذلك.
وقد لا يشعر الإنسان بشدة مرضه ببعض هذه الأمراض، ولكن هناك علامات يدرك بها المرء مرضه، فمن" علامات أمراض القلوب: عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار. فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شافٍ، وغذاء ضار، ودواء مهلك. فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك. وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء"
(1)
.
وهذه الأمراض لا تعالج في مشفى أو عيادة أو لدى طبيبِ بدن، ولكنها تعالج بالوحي، فالذي خلق القلب وجعله ملك الجسد هو الذي يداويه، "فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهمًا في كتابه"
(2)
. فمثلاً سورة الفاتحة تسمى الشافية، ومن أشفيتها: اشتمالها على
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 70).
(2)
زاد المعاد، لابن القيم (4/ 322).
شفاء القلوب؛ " فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال؛ فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما: الضلال والغضب؛ فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها، فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال؛ ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرضَ دعاءٍ على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة؛ لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه
…
(1)
.
وتفصيل علاج تلك الأمراض أن منها علاجًا شرعيًا وعلاجًا طبيعيًا، قال ابن القيم: "مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال .. كمرض الجهل ومرض الشبهات والشكوك ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألماً، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوارٍ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال؛ كالهمِّ والغم والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية؛ كإزالة أسبابه أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب وما يدفع موجبها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن فكذلك البدن يتألم كثيراً بما يتألم به القلب ويشقيه ما يشقيه.
وأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت، وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء؛ ولهذا يقال: شفى غيظه فإذا استولى عليه
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 52).
عدوه آلمه ذلك، فإذا انتصف منه اشتفى قلبه، قال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14، 15]. فأمر بقتال عدوهم وأعلمهم أن فيه ست فوائد. فالغيظ يؤلم القلب ودواؤه في شفاء غيظه؛ فإن شفاه بحق اشتفى وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضاً من حيث ظن أنه يشفيه .. وكذلك الغم والهم والحزن أمراض للقلب وشفاؤها بأضدادها: من الفرح والسرور؛ فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر ولم يزل وأعقب أمراضًا هي أصعب وأخطر. وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضًا إلى مرضه، لكن اشتغل القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه بسبب جهله بالعلوم النافعة التي هي شرط في صحته وبرئه قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الذين أفتوا بالجهل فهلك المستفتي بفتواهم:(قتلوه، قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العِيِّ السؤال). فجعل الجهل مرضًا وشفاءه سؤال أهل العلم، وكذلك الشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما كان ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين: ثلج صدره، وحصل له برد اليقين، وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رشده وينشرح بالهدى والعلم قال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] .... والمقصود: أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية، ومنها مالا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية، والقلب له حياة وموت ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن"
(1)
.
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 18).
حياة القلب وصحته:
إن القلب يوصف بالحياة والموت، والصحة والمرض؛ فهناك قلب حي وقلب صحيح، وهناك قلب ميت وقلب مريض، كما قال تعالى:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70]، وقال:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
وبحياة القلب وموته يكون الخير والشر من الإنسان؛ فإن" حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه"
(1)
. فـ" إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حسنَ الحسن بنوره وآثره بحياته، وكذلك قبح القبيح، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الأصلين في مواضع من كتابه فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. فجمع بين الروح الذي يحصل به الحياة والنور الذي يحصل به الإضاءة والإشراق، وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم متضمن للأمرين؛ فهو روح تحيا به القلوب ونور تستضيء وتشرق به، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] "
(2)
.
قال ابن القيم: "والمقصود: أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين [كمال حياته ونوره] قال تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70]، فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حي القلب،
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 23).
(2)
المصدر السابق (1/ 21).
كما قال في موضع آخر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]. فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي باستجابتنا لما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد ذلك"
(1)
.
ولهذا فإن حياة القلب هي الطريق إلى الوصول إلى الله تعالى، والتنعم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فمن كان أتم حياة في قلبه كان أتم حياة في دنياه وآخرته. قال يحيى بن معاذ:"مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب"، وقال أيضًا:"يا ابن آدم، لا يزال دينك متمزقا، ما دام القلب بحب الدنيا متعلقا" وقال كذلك: "ما ركن إلى الدنيا أحد إلا لزمه عيب القلوب، ولا مكن الدنيا من نفسه أحد إلا وقع في بحر الذنوب"
(2)
.
وقال ابن الجوزي: " واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالأقدام، إنما يقطع بالقلوب، والشهواتُ العاجلة قطّاع الطريق، والسبيل كالليل المدلهم، غير أن عين الموفَّق بصر فرس؛ لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء"
(3)
.
إن حياة القلب لا تكون إلا بتجليته من ظلمات الشهوات والشبهات، وتحليته بحلية التقوى والعلم وإدراك الحق وحبِّه، فـ" حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركًا للحق مريداً له مؤثراً له على غيره. ولما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف
(1)
المصدر السابق.
(2)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (10/ 52).
(3)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 273).
الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه"
(1)
.
والإنسان إذا لم يعتنِ بحياة قلبه بل ضيعه في لجج الأهواء وشهوات الدنيا، وصرف وقته فيما لا يعود على قلبه بالحياة؛ فقد خسر خسرانًا مبينًا، فأعظم الإضاعات" إضاعة القلب، وإضاعة الوقت؛ فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء"
(2)
.
"قال العارفون: ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره"
(3)
.
وقال ابن القيم: "القلب الحي هو الذي يعرف الحق ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره، فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس ولا تمييز بين الحق والباطل، ولا إرادة للحق وكراهة للباطل، بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحس بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما"
(4)
.
وقال-وهو يعدد علامات صحة القلب وحياته: " أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها، حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه
…
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون؛ فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 24).
(2)
شرح الحكم العطائية (ص: 39).
(3)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (52/ 9).
(4)
شفاء العليل، لابن القيم (ص: 104).
وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها، ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن وإليه يسكن وإليه يأوي وبه يفرح وعليه يتوكل، وبه يثق وإياه يرجو وله يخاف، فذكره: قوته وغذاؤه، ومحبته والشوق إليه: حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه: دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به، وزال ذلك الاضطراب والقلق وانسدت تلك الفاقة؛ فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبداً، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن، ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق
…
ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره به ويذاكره بهذا الأمر. ومن علامات صحته: أنه إذا فاته وِردُه وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده. ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب. ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا واشتد عليه خروجه منها ووجد فيها راحته ونعيمه وقرت عينه وسرور قلبه. ومن علامات صحته: أن يكون همه واحداً وأن يكون في الله. ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحًا بماله. ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان ويشهد مع ذلك منّة الله عليه فيه وتقصيره في حق الله
…
وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همه كله في الله وحبه كله له وقصده له وبدنه
له وأعماله له، ونومه له ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه
…
"
(1)
.
طرق إصلاح القلب:
إن القلب يحتاج إلى عملية إصلاح ومراقبة كل حين؛ فما أكثر الواردات التي ترد عليه وربما تمرضه وقد تصل به إلى الموت، وهناك طرق لإصلاحه وتجليته، فمنها:
طرق التخلية:
أولاً: ترك الذنوب، قال ابن المبارك:
رَأَيتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ
…
وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدمَانُهَا
وَتَركُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ
…
وَخَيرٌ لِنِفسِكَ عِصيَانُهَا
(2)
.
وقال ابن القيم: " الذنوب أمراض القلوب وداؤها، ولا دواء لها إلا تركها، وقد أجمع السائرون الى الله أن القلوب لا تُعطى مُناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب أدواؤها، فتصير نفس دوائها، ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها، وهواها مرضها، وشفاؤها مخالفته، فإن استحكم المرض قتل أو كاد"
(3)
.
ثانيًا: التخلص من التعلق بالشهوات، فـ"كيف يُشرقُ قَلْبٌ صُوَرُ الأكوانِ مُنْطَبِعَةٌ في مرآته؟ أمْ كيف يرحلُ إلى الله وهو مكَبَّلٌ بشَهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرةَ الله وهو لم يتطهَّر من جَنَابَةِ غَفَلاتِهِ؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائقَ الأسرارِ وهو لم يَتُبْ من
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 70 - 73).
(2)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 10).
(3)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 51).
هَفَواتِهِ؟ "
(1)
.
ثالثًا: تقليل الغذاء البدني، قال ابن رجب: فإنَّ قلةَ الغذاء توجب رِقَّة القلب، وقوَّة الفهم، وانكسارَ النفس، وضعفَ الهوى والغضب، وكثرةُ الغذاء توجب ضدَّ ذلك، وقال الحسن: يا ابنَ آدم، كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثٍ، ودع ثُلُثَ بطنك يتنفَّس لتتفكر، وعن عمرو بن قيس قال: إيَّاكُمْ والبِطنة؛ فإنَّها تُقسِّي القلب، وقال أبو سليمان الداراني: إنَّ النفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورقَّ، وإذا شبعت ورويت، عمي القلب"
(2)
.
طرق التحلية:
أولاً: توحيد الله تعالى ومعرفته والتعلق بالله، قال ابن رجب:" فلا صلاحَ للقلوب حتَّى تستقرَّ فيها معرفةُ اللهِ وعظمتُه ومحبَّتُه وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤهُ والتوكلُ عليهِ، وتمتلئَ مِنْ ذَلِكَ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيد، وهو معنى {لا إله إلا الله}، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتعرفه وتحبُّه وتخشاه هوَ الله وحده لا شريكَ لهُ، ولو كانَ في السماوات والأرض إله يُؤَلَّه سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قالَ تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] "
(3)
.
ثانيًا: العلم النافع الذي يرسخ في القلوب، قال الحسنُ: العلم علمان: "علمٌ على اللسان، فذاك حُجَّة الله على ابن آدم، وعلم في القلب، فذاك العلم النافع"
(4)
.
ثالثًا: ذكر الله تعالى، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
رابعًا: الدعاء، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (يا مقلب
(1)
شرح الحكم العطائية (ص: 26).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (49/ 4).
(3)
المرجع السابق (8/ 26).
(4)
المرجع السابق (38/ 19).
القلوب، ثبت قلبي على دينك)
(1)
.
و" العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له، ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض، وشفائه من داء الشهوات والشبهات، ولكن إذا مات القلب لم يشعر بمعصيته"
(2)
.
ثمرات صلاح القلب:
إذا صلح القلب وبدا بالحياة أثمر ذلك لصاحبه ثمرات نافعة في الدنيا والآخرة، فمن ذلك:
أولاً: صلاح الجسد كله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)
(3)
.
فـ" حركات القلب والجوارح إذا كانت كلُّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهراً وباطناً، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه، وعما يخشى أنْ يكونَ مما يكرهه وإنْ لم يتيقن ذلك"
(4)
.
قال ابن رجب: "فإنْ كان قلبُه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرَّمات كلها، وتوقي الشبهات؛ حذراً مِنَ الوقوعِ في المحرَّمات، وإنْ كان القلبُ فاسداً قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه، وطلب ما يحبُّه، ولو كرهه الله، فسدت حركاتُ
(1)
رواه الترمذي (5/ 538)، وهو صحيح.
(2)
شرح الحكم العطائية (ص: 39).
(3)
رواه البخاري (1/ 28)، ومسلم (3/ 1219).
(4)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (8/ 28).
الجوارح كلها، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب؛ ولهذا يقال: القلبُ مَلِكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه، وهم مع هذا جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنْ كان الملكُ صالحاً كانت هذه الجنود صالحةً، وإنْ كان فاسداً كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً، ولا ينفع عند الله إلاّ القلبُ السليم"
(1)
.
ثانيًا: موافقة الله فيما يحب ويكره، "فمتى امتلأ القلبُ بعظمةِ الله تعالى محا ذلك مِنَ القلب كلَّ ما سواه، ولم يبقَ للعبد شيءٌ من نفسه وهواه، ولا إرادة إلاَّ لما يريدهُ منه مولاه، فحينئذٍ لا ينطِقُ العبدُ إلاّ بذكره، ولا يتحرَّك إلا بأمره، فإنْ نطقَ، نطق بالله، وإنْ سمِعَ، سمع به، وإنْ نظرَ، نظر به، وإنْ بطشَ، بطش به"
(2)
.
"فإذا تحقَّق القلبُ بالتَّوحيد التَّامِّ لم يبق فيه محبةٌ لغير ما يُحبُّه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تنبعثْ جوارحُهُ إلاّ بطاعة الله، وإنَّما تنشأ الذُّنوب من محبَّة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يُحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النَّفس على محبَّة الله وخشيته، وذلك يقدحُ في كمال التَّوحيد الواجبِ، فيقعُ العبدُ بسببِ ذلك في التَّفريط في بعض الواجبات، أو ارتكابِ بعضِ المحظوراتِ، فأمَّا من تحقَّق قلبُه بتوحيدِ الله، فلا يبقى له همٌّ إلا في الله وفيما يُرضيه به"
(3)
.
ثالثًا: الأُنس بالله تعالى، قال ابن رجب:"وقال ذو النون: مِنْ علامات المحبِّين لله: أنْ لا يأنَسُوا بسواه، ولا يستوحشُوا معه، ثم قال: إذا سكنَ القلبَ حبُّ اللهِ تعالى أنِسَ بالله؛ لأنَّ الله أجلُّ في صُدورِ العارفين أنْ يُحبُّوا سواه"
(4)
.
رابعًا: الرغبة في الآخرة والرغبة عن الدنيا، قال ابن القيم: "وكلما صح القلب من
(1)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (8/ 1).
(2)
المرجع السابق (40/ 22).
(3)
المرجع السابق (40/ 23).
(4)
المرجع السابق (4/ 59).
مرضه ترحل إلى الآخرة، وقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها"
(1)
.
خامسًا: النجاة يوم القيامة، قال تعالى:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
و"القلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلِّها، وهو القلبُ الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبُّه الله، وخشية الله، وخشية ما يُباعد منه"
(2)
.
وقيل: هو: "الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق"
(3)
.
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 71).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (8/ 25).
(3)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 7).
عِظْنِي
ما أجملَ أن يكون لدى الإنسان طلبٌ للموعظة، وصدقٌ في استقبالها، وأجملَ من ذلك أن يعمل بما وُعِظ به! ولقد زخرت أسفار التراجم والتاريخ والمواعظ بأخبار حسنة عن بعض الخلفاء والملوك والعلماء والزهاد وغيرهم من الناس، حكتْ عنهم طلبَ الموعظة من غيرهم؛ لينتفعوا بها، ويسترشدوا بهداها، حينما رأوا من ذلك المخاطَب أهليةَ الوعظ والإرشاد.
وسأسوق هنا طائفة من ذلك؛ كي نعظ بها أنفسنا، ونحثها على المسارعة إلى الخيرات، ونكفها عن الإقبال على المعاصي والسيئات، والسعيد من اتعظ بما قرأ أو سمع من المواعظ النافعة.
لا تجعلِ اللهَ أهونَ الناظرين إليك
قال رجل لوهيب بن الورد: عظني. قال: "اتقِ أن يكون اللهُ أهونَ الناظرين إليك"
(1)
.
(2)
.
كلُّ أُنسٍ دون الله وحشة
عن يونس بن إبراهيم أنه قدم الشام وحكى عن راهب لقيه عند قبر شيث بالبقاع وقال له: عظني. فقال الراهب: "كلُّ أنس دون الله وحشة، وكل طمأنينة بغير الله
(1)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (8/ 142).
(2)
يعني: إذا أردت العصيان فاستح من الله، ولا تجعل نظره إليك لا يحول بينك وبين المعصية، فلو استعظمت نظره إليك لقلَّ أن تعصيه.
دهشة
(1)
، وكل نعيم دون دار القرار زائل، وكل شيء سوى الله باطل"
(2)
.
كما تحب أن يكون الله غداً فكن أنت اليوم
قال رجل لأبي عبد الرحمن العمري: عظني. فأخذ حصاة من الأرض فقال: " مثل هذا ورعٌ يدخل في قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض"
(3)
، قال: زدني. قال: "كما تحب أن يكون الله غداً فكن أنت اليوم"
(4)
(5)
.
اعْصِه في موضعٍ لا يراك!
قال رجل لحاتم الأصم: عِظْني. فقال: " إن كنتَ تريد أن تَعصِي مولاك، فاعْصِه في موضعٍ لا يراك"
(6)
.
أين طريق الراحة؟
قال محمد بن المبارك الصوري: قلت لراهب: عظني وأوجز. قال: "كُلْ من حلال وارقد حيث شئت"، قلت له: فأين طريق الراحة؟ قال: "في خلاف الهوى"، قلت: فمتى يجد الرجل الراحة؟ قال: "عند أول قدم يضعها في الجنة"، قلت: بماذا أقطع الطريق إلى الله؟ قال: " بالسهر والظمأ في الهواجر"
(7)
.
(1)
دهشة: فزع.
(2)
مختصر تاريخ دمشق، ابن منظور (ص: 3781).
(3)
يريد: نافلة الصلاة من غير تورع عن المحارم، والله أعلم.
(4)
إذا أحببت أن يكون الله راضيًا عنك يوم اليوم فارضه عنك في الدنيا.
(5)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (8/ 286).
(6)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (8/ 83).
(7)
المرجع السابق (10/ 132).
اقبلِ الحقَّ ممن جاءك به
قال رجل لأبي بن كعب رضي الله عنه: عظني ولا تكثرْ علي فأنسَ. فقال له: اقبلِ الحقَّ ممن جاءك به وإن كان بعيداً بغيضًا، وارددِ الباطل على من جاءك به وإن كان حبيبًا قريبًا، وأخِ الإخوانَ على قدر تقواهم، ولا تجعل لسانك بذلةً لمن لا يرغب فيه، ولا تغبطِ الحي إلا بما تغبط الميت
(1)
.
بادرْ بالعمل قبل أن تُنادَى بالرحيل
كتب عمر بن المنهال القرشي إلى إبراهيم بن أدهم وهو بالرملة: أنْ عظني عظة أحفظها عنك. فكتب إليه: "أما بعد، فإن الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قريب، وللنفس منه في كلَّ وقت نصيب، وللبِلى في جسمه دبيب، فبادر بالعمل قبل أن تنادى بالرحيل، واجتهد في العمل في دار الممر قبل أن ترحل إلى دار المقر"
(2)
.
اعملْ لنفسك حتى تنجو
كتب رجل من إخوان سفيان الثوري إلى سفيان الثوري: أن عظني فأوجز. فكتب إليه: "عافانا الله وإياك من السوء كله يا أخي، إن الدنيا غمها لا يفنى، وفرحها لا يدوم، وفكرها لا ينقضي، فاعمل لنفسك حتى تنجو، ولا تتوانَ فتعطب، والسلام"
(3)
.
تجرَّدْ من الدنيا
وقف عمر بن عبد العزيز مرةً على راهب فقال له: ويحك عظني. فقال له: عليك بقول الشاعر:
(1)
امرجع السابق (9/ 121).
(2)
المرجع السابق (8/ 17).
(3)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (7/ 5).
تجرَّدْ من الدنيا فإنك إنما
…
خرجتَ إلى الدنيا وأنتَ مجرَّدُ
فكان هذا البيت مما يعجب عمر ويكرره وعمل به حق العمل
(1)
.
أحلامُ نوم
قال جرير بن يزيد لمحمد بن علي بن حسين: عظني. قال: " يا جرير، اجعل الدنيا مالاً أصبتَه في منامك، ثم انتبهتَ وليس معك منه شيء"
(2)
.
ارضَ من الدنيا باليسير
كتب رجل إلى داود الطائي: عظني. فكتب إليه: "أما بعد، فاجعلِ الدنيا كيومٍ صمتَه عن شهوتك، واجعل فطرك الموت، فكأنْ قد صرتَ إليه". فكتب إليه: زدني. فكتب إليه: "أما بعد، فارضَ من الدنيا باليسير مع سلامة دينك، كما رضِي أقوامٌ بالكثير مع ذهاب دينهم، والسلام"
(3)
.
تخويف يفضي إلى أمن
قال الرشيد لشَيبان: "عظني. فقال: يا أمير المؤمنين، لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمِّنك حتى يدركك الخوف"
(4)
.
وقال بشر للفضيل: "عظني، يرحمك الله. فقال: "من خاف الله تعالى دلَّه الخوف على كل خير"
(5)
.
(1)
البداية والنهاية (9/ 202).
(2)
تاريخ دمشق، لابن عساكر (54/ 292).
(3)
التبصرة، لابن الجوزي (2/ 91).
(4)
المنتظم، لابن الجوزي (10/ 285).
(5)
الزواجر، للهيثمي (1/ 39).
قد يَنْفَعُ الحَذَرُ
كتب عمر بن عبد العزيز إلى البربري الشاعر: أنْ عِظْني. فكتب إليه:
بِسْمِ الذي أُنزِلَتْ مِنْ عِنْده السُّوَرُ
…
والحمدُ لله أمَا بَعْدُ يا عُمَرُ
إن كنتَ تَعْلَمُ ما تأتي وما تذَرُ
…
فكُنْ على حَذَرٍ قد يَنْفَعُ الحَذَرُ
واصْبرْ على القَدَرِ المَجْلوبِ وَارْضَ بِهِ
…
وإنْ أتاك بما لا تَشْتَهِي القَدَرُ
فما صَفا لامرئ عَيْشٌ يُسَرُّ بِهِ
…
إلاّ سَيَتْبَعُ يَوْماً صفوَهُ الكَدَرُ
(1)
.
لا تكن ممن غرَّهم ستر الله
قال عمر بن عبد العزيز لخالد بن صفوان: عظني وأوجز. فقال خالد: "يا أمير المؤمنين، إن أقوامًا غرَّهم سترُ الله، وفتنهم حسن الثناء، فلا يغلبن جهلُ غيرك بك علمَك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعما افترض الله علينا متخلِّفين ومقصرين، وإلى الأهواء مائلين، قال: فبكى ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتباع الهوى"
(2)
.
لا تُطِلْ عنان الأمل في الغفلة
دخل الإمام الشافعي على الرشيد فقال الرشيد: عظني. فقال: "على شرط رفع الحشمة، وترك الهيبة، وقبول النصيحة"، قال: نعم. قال: اعلم أن من أطال عِنانَ الأمل في الغِرَّة
(3)
طوى عنان الحذر في المهلة، ومن لم يعوِّل على طريق النجاة خسر يوم القيامة إذا امتدت يد الندامة" فبكى هارون
(4)
.
(1)
الوافي بالوفيات، الصفدي (5/ 17).
(2)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (8/ 18).
(3)
الغرة: الغفلة.
(4)
شذرات الذهب - ابن العماد (1/ 329).
لا يغرنَّك ثناؤهم
وفدَ على عمر بن عبد العزيز وفدٌ وكان فيهم شاب حديث السن فتكلم الشاب، فنظر إليه عمر فحدَّد النظر ثم قال: الكِبرَ الكبرَ، قال الشاب: يا أمير المؤمنين، ليس بالكبر ولا بالصغر، لو كان بالكبر لقد كان في الناس من هو أكبر منك. قال: صدقت، فتكلم. قال: ما جئناك لرغبة ولا رهبة، فنظر إليه عمر أيضًا. فقال: أما الرغبة فقد أتتنا في منازلنا، وأما الرهبة فقد أمِنا جورَك، ولكنا وفدُ الشكر. قال فسُرِّي عن عمر. وقال: يا فتى، أرى لك عقلاً فعظني. قال:"إن قومًا اغتروا بالله فيك فأثنوا عليك بما ليس فيك، فلا يغرنك اغترارهم بالله فيك، مع ما تعرفه من نفسك"
(1)
.
إن متَّ لم تعُد إلى الدنيا أبدا
قال محمّد بن الحسين: دخلت على محمّد بن مقاتل، فقلت له: عظني. فقال: اعمل؛ فإن متَّ لم تعُدْ أبداً، وانظر إلى الذّاهبين هل عادوا؟
تذهبُ أيّامنا على لعبٍ
…
منّا بها والذّنوب تزدادُ
أين أحبابنا وبهجتهم
…
بطيب أيّامِ عيشهم بادوا"
(2)
.
اجعلِ الموتَ عند رأسك
قال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: عظني. قال: اضطجعْ، ثم اجعل الموتَ عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن تكون فيه تلك الساعة فخذْ فيه الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن"
(3)
.
(1)
تاريخ دمشق، لابن عساكر (68/ 194).
(2)
برد الأكباد عند فقد الأولاد، لابن ناصر الدين (68).
(3)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (5/ 317).
لا تَأُمَنِ الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَسٍ
قال الفضل بن يحيى: استدعاني الرشيد يومًا- وقد زخرف منازله وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها- ثم استدعى أبا العتاهية فقال له: صِفْ لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم، فقال أبو العتاهية:
عِشْ ما بَدَا لكَ سالماً
…
في ظِلّ شاهقَةِ القُصورِ
يُسْعَى عليكَ بِمَا اشتهيْتَ
…
لدَى الرَّوَاح أوِ البُكُورِ
فإذا النّفوسُ تَقعَقَعَتْ
…
في ظلّ حَشرجَةِ الصّدورِ
فَهُناكَ تَعلَم مُوقِناً
…
مَا كُنْتَ إلاَّ فِي غُرُورِ
فبكى الرشيد بكاء كثيراً شديداً فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته! فقال له الرشيد: دعه؛ فإنه رآنا في عمى، فكره أن يزيدنا عمى. ومن وجه آخر أن الرشيد قال لأبي العتاهية: عظني بأبيات من الشعر وأوجز. فقال:
لا تَأُمَنِ الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَس
…
وإن تمنَّعتَ بالحُجَّاب والحرسِ
واعْلَمْ بأنّ سِهامَ الموت قاصدةٌ
…
لكلِّ مُدَّرعٍ منّا ومُتَّرِسِ
ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ طَرِيقَتها
…
إنّ السفينةَ لا تَجْرِي على اليَبسِ"
(1)
.
من حفظ اللهَ حفظه اللهُ في أولاده من بعده
قال ابن الجوزي: بلغني أن المنصور قال لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: عظني. قال: "مات عمر بن عبد العزيز رحمه الله وخلَّف أحد عشر ابناً، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً كُفِّن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبره ديناران، وقسِّم الباقي على بنيه، فأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهماً، ومات
(1)
البداية والنهاية، لابن كثير (10/ 218).
هشام بن عبد الملك وخلَّف أحد عشر ابناً فقسِّمت تركته وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يُتصدق عليه!! "
(1)
.
ما لنا نكره الموت؟!
دخل أبو حازم على سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أبا حازم، مالنا نكره الموت؟! قال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب، قال: فأخبرني كيف القدومُ على اللهّ، قال: أما المحسن فكالغائب يأتي أهله مسروراً، وأما المسيء فكالعبد الآبق يأتي مولاه مَحْزوناً، قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي القول اعْدَلُ؟ قال: كلمة حق عند من تخاف وترجو؟ قال: فأي الناس أعقل؟ قال: من عمل بطاعة اللّه؟ قال: فأي الناس أجهل؟ قال: من باع آخرته بدنيا غيره. قال: عِظْنِي وأوجز، قال: يا أمير المؤمنين، نَزِّه ربك وعَظِّمه بحيث أن يراك تجتنب ما نهاك عنه، ولا يفقدك من حيث أمرك به، فبكى سليمان بكاءً شديداً، فقال له بعض جلسائه: أسرفت- ويحك- على أمير المؤمنين، فقال له أبو حازم: اسكت؛ فإن اللّه عز وجل أخَذَ الميثاق على العلماء ليبيننّه للناس ولا يكتمونه. ثم خرج، فلما صار إلى منزله بعث إليه سليمان بمالٍ فردَّه، وقال للرسول: قل له: واللّه، يا أمير المؤمنين، ما أرضاه لك، فكيف أرضاه لنفسي؟ "
(2)
.
ثمن شربة ماء وخروجها!
دخل ابن السِّماك يومًا على الرشيد فاستسقى الرشيد فأُتي بقُلَّة فيها ماء مبرَّد، فقال لابن السماك: عظني. فقال: "يا أمير المؤمنين، بكم كنت مشتريًا هذه الشربة لو مُنِعتَها؟ فقال: بنصف ملكِي، فقال: اشرب هنيئًا، فلما شرب قال: أرأيتَ لو مُنعت خروجها من
(1)
الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، للصلابي (4/ 10).
(2)
مروج الذهب، للمسعودي (1/ 426).
بدنك بكم كنت تشتري ذلك؟ قال: بنصف ملكِي الآخر، فقال: إن ملكًا قيمةُ نصفه شربةُ ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة لخليقٌ أن لا يُتنافس فيه"
(1)
.
لو طلبوا الجنة بمثلها أو أيسرَ لنالوها
عن الفضيل بن عياض أنه دخل على هارون الرشيد فقال له: يا حسن الوجه، لقد وليتَ أمراً عظيمًا إني ما رأيت أحداً هو أحسن وجهًا منك، فإن قدرت أن لا تسود هذا الوجه بلفحة من النار فافعل. فقال: عظني. فقال الفضيل: ماذا أعظك، هذا كتاب الله تعالى بين الدفتين انظر ماذا عمل بمن أطاعه، وماذا عمل بمن عصاه؟ ثم قال: وإني رأيت الناس يغوصون على الدنيا غوصًا شديداً، ويطلبونها طلبًا حثيثًا، أما والله لو طلبوا الجنة بمثلها أو أيسرَ لنالوها"
(2)
.
أنت واقف غداً بين يدي الله
دخل ابن السماك على هارون الرشيد فقال له هارون: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين، "اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غداً بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما: جنة أو نار"
(3)
.
لا تجعل نعمةَ الله عليك سببًا لمعصيته
قال سليم بن منصور: سمعت أبي يقول: " دخلت على المنصور - أمير المؤمنين - فقال: " يا منصور، عظني وأوجز. فقلت:" إن من حق المنعِم على المنعَم عليه ألا يجعل ما أنعم به عليه سبباً لمعصيته"
(4)
.
(1)
البداية والنهاية، لابن كثير (10/ 215).
(2)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (8/ 105).
(3)
تاريخ الأمم والرسل والملوك- الطبري (5/ 22).
(4)
طبقات الأولياء، لابن الملقن (ص: 48).
الصلاةَ الصلاة
إن كان الترغيب في بعض الأعمال المستحبة، والطاعات المندوبة محبَّبًا ومطلوبًا، فكيف به في عبادة واجبة من أعظم العبادات، وفريضة من أعظم الفرائض؟
لاشك أن الترغيب فيها مطلوب، والحث عليها ذو أهمية كبيرة، خاصة إذا جهل الناس عظمة هذه الفريضة، فتركوها أو قصروا فيها، أو لم يدركوا حقيقتها، ولم يصلوا إلى ثمرتها، وحسن أثرها.
مكانة الصلاة في الإسلام:
للصلاة في الإسلام مكانة عظيمة، ومنزلة سامية لم تصل إليها عبادة من العبادات العملية، ومما يدل على هذه المنزلة المرموقة:
أولاً: أن الله تعالى أمر بإقامتها والمحافظة عليها في كتابه الكريم في آيات متعددة، كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. وقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].
ثانيًا: أن الله تعالى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يأمر بها أهله ويصطبر على أدائها، وأثنى على رسوله إسماعيل عليه السلام بذلك، قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وقال:{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].
ثالثًا: أن الله تعالى أمر بالاستعانة بها وبالصبر، فهي بذلك مفزع المؤمن عند المدلهمات، وسلواه عند الأحزان والكربات، قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
قال ابن كثير: الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
…
} الآية. قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حزبه أمر
(1)
صلى، وقال حذيفة كذلك: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة
(2)
يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى. وعن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم، غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. وعن ابن عباس أنه نعي إليه أخوه قُثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}
(3)
.
وقال ابن حجر في حديث: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِنِ! أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ)
(4)
: " وفي الحديث استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وأمر من رأى في منامه ما يكره أن يصلي"
(5)
. وقال ابن حجر عن الصلاة أيضًا: " ومن أسرارها: أنها تعين على الصبر؛ لما فيها من الذكر والدعاء والخضوع"
(6)
.
فما أحوجنا هذه الأيام إلى كثرة الصلاة في هذه الخطوب التي نعيشها!
(1)
أي: إذا نزل به مُهمٌّ أو أصابَه غمٌّ. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 945).
(2)
اشتمل بثوبه أداره على جسده كله، والشملة كساء من صوف أو شعر. المعجم الوسيط (1/ 495).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 112).
(4)
رواه البخاري (1/ 54).
(5)
فتح الباري (1/ 211).
(6)
فتح الباري (3/ 172).
رابعًا: أن الله تعالى أمر بها المجاهد في وقت القتال، ولم يسقطها عنه، ولكنه خفف عنه في كيفيتها، قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ
…
} [النساء: 102].
خامسًا: أن الله تعالى سماها إيمانًا وقرآنا، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]" أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله"
(1)
. وقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. " يعني: صلاة الفجر"
(2)
.
سادسًا: أن الله تعالى اشترط لها أكمل الأحوال من الطهارة والزينة وحسن الحال، قال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
يعني: "يا بني آدم، كونوا عند أداء كل صلاة على حالة من الزينة المشروعة من ثياب ساترة لعوراتكم ونظافة وطهارة ونحو ذلك"
(3)
.
سابعًا: أنها عمود الإسلام، و" قِوام الدين الذي يقومُ به الدِّين، كما يقومُ الفسطاطُ على عموده"
(4)
. فمن ضيعها فهو لما سواها أضيع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)
(5)
.
قال الغزالي: " الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، ورأس القربات، وغُرة الطاعات"
(6)
.
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 239).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 69).
(3)
التفسير الميسر، لمجموعة من العلماء (2/ 492).
(4)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (31/ 18).
(5)
رواه أحمد (36/ 345)، والنسائي، سنن النسائي الكبرى (6/ 428)، وهو صحيح
(6)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 145).
ثامنًا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآباء بأمر أولادهم بها في سن صغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)
(1)
.
تاسعًا: أنها الفريضة الوحيدة التي أخذها رسول الله عن الله مباشرة في السماء من غير واسطة، وذلك ليلة المعراج، وأن الله فرضها أول مرة خمسين، ثم خففها إلى خمس؛ رحمة بخلقه، وهذا كله لعظم شأنها وشرفها عنده تعالى.
عاشراً: أنها آخر وصية أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمةَ حين ودّع الحياة والأحياء، فعن علي رضي الله عنه قال:(كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاةَ الصلاة .. )
(2)
.
الحادي عشر: أنها أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)
(3)
.
حياة الصلاة:
الصلاة في حقيقتها وفي الأثر الذي يُرجى منها لصلاح النفس باطنًا وظاهراً؛ ليست تلك الصلاة الجوفاء القائمة على حركات خاوية من الحقائق لا حياة فيها، بل حقيقة الصلاة وحياتها: أن تكون شاغلة بال المسلم بحيث يتعلق قلبه بها، ويشتاق إلى وقت أدائها، فإذا سمع المنادي لها طار فرحًا إليها، فإذا أقبل عليها أقبل إقبال المحب على حبيبه الذي غاب عنه، فإذا دخل فيها نسي الدنيا وأهلها، ووجد فيها راحته ولذته، وأُنسه وسعادته. وهو يحب أن لو استمر فيها مهما طالت؛ لما يجد فيها من النعيم واللذة. فإذا انفتل
(1)
رواه أبو داود (1/ 185)، وهو حسن.
(2)
رواه أبو داود (4/ 504)، وابن ماجه (2/ 900)، وهو صحيح.
(3)
رواه الطبراني، المعجم الأوسط (2/ 240)، والترمذي (2/ 269)، والنسائي (1/ 232)، وهو صحيح.
عنها كان عليه أثرها من الاستقامة والخشوع، والانقياد والخضوع، وبدت عليه أنوارها الحسية والمعنوية، فهي على وجهه نور يتلألأ، وعلى معاملته ضياء يشرق بين الناس.
إن من كانت الصلاة له حياة فإنه يراها قرة عينه، وراحة نفسه التي لا يريد مفارقتها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وجُعلت قرة عيني في الصلاة)
(1)
.
قال ابن حجر في فوائد حديث الولي عند قوله تعالى: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)
(2)
: " وفي الحديث عظم قدر الصلاة؛ فإنه ينشأ عنها محبة الله للعبد الذي يتقرب بها، وذلك لأنها محل المناجاة والقربة، ولا واسطة فيها بين العبد وربه، ولا شيء أقر لعين العبد منها؛ ولهذا جاء في حديث أنس المرفوع: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح، ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النَّصَب؛ فإن السالك غرض الآفات والفتور"
(3)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها)
(4)
. " أي: نستريح بأدائها من شغل القلب بها، وقيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له؛ فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبًا فكان يستريح بالصلاة؛ لما فيها من مناجاة الله تعالى؛ ولهذا قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وما أقرب الراحة من قرة العين! "
(5)
.
قال ابن القيم: " فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله، فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحس
(1)
رواه النسائي (7/ 61)، والبيهقي، السنن الكبرى (7/ 78)، وهو صحيح.
(2)
رواه البخاري (5/ 2384).
(3)
فتح الباري لابن حجر (18/ 342).
(4)
رواه أحمد (38/ 178)، وأبو داود (4/ 453)، وهو صحيح.
(5)
عون المعبود، للعظيم آبادي (13/ 225).
بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطًا وراحة ورَوحًا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينيه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا؛ كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم: (يا بلال، أرحنا بالصلاة) ولم يقل: أرحنا منها، وقال صلى الله عليه وسلم:(جعلت قرة عيني في الصلاة)، فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه صلى الله عليه وسلم بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟ فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان حتى يستقبل بها الرحمن عز وجل فتقول: حفظك الله تعالى كما حفظتني"
(1)
.
وقال ابن أبي الدنيا: قرأت في كتاب أبي جعفر الأدميّ بخطّه، قال:"كنت باليمن في بعض أسفاري، فإذا رجل معه ابن له شابّ، فقال: إنّ هذا أبي وهو من خير الآباء، وقد يصنع شيئًا أخاف عليه منه، قلت: وأيّ شيء يصنع؟ قال: لي بقر تأتيني مساء فأحلبها، ثمّ آتي أبي وهو في الصّلاة، فأحبّ أن يكون عيالي يشربون فَضْله، ولا أزال قائمًا عليه والإناء في يدي، وهو مقبل على صلاته فعسى أن لا ينفتل ويقبل عليّ حتّى يطلع الفجر، قلت للشّيخ: ما تقول؟ قال: صدق، وأثنى على ابنه، وقال لي: أخبرك بعذري؟ إذا دخلت في الصّلاة، فاستفتحت القرآن ذهب بي مذاهب، وشغلني حتّى ما أذكره حتّى أصبح"
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة: (
…
ورجل قلبه معلق في المساجد)
(3)
.
"ومعناه: شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها"
(4)
.
فقد " صار قلبه ملتفتًا إلى المسجد لا يحب البراح عنه؛ لوجدانه فيه رَوح القربة،
(1)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 34).
(2)
الورع لابن أبي الدنيا (ص: 100).
(3)
رواه البخاري (1/ 234)، ومسلم (2/ 715).
(4)
شرح النووي على مسلم (3/ 481).
وحلاوة الخدمة"
(1)
.
قال الحسن البصري: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق"
(2)
.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لولا ثلاث لأحببت أن أكون في بطن الأرض لا على ظهرها: لولا إخوان لي يأتوني ينتقون طيب الكلام كما ينتقي طيب التمر، أو أعفر وجهي ساجداً لله عز وجل، أو غدوة أو روحة في سبيل الله عز وجل"
(3)
.
لقد وجد الذين عرفوا حقيقة الصلاة فيها لذتهم، فكبر شأنها في نفوسهم، فظهر عليهم ما يدل على ذلك؛ فقد " كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتُها. ويروى عن علي بن الحسين أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟! "
(4)
.
ولما كانت ذات أثر في نفوسهم وصلوا إلى ظهور الندم عليهم لتقصيرهم في جزء منها إن حصل ذلك من غير عمد.
"قال حاتم الأصم: فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا!
وروي أن السلف كانوا يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبير الأولى، ويعزون
(1)
فيض القدير، للمناوي (4/ 89).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 424).
(3)
الزهد لابن حنبل (ص: 135).
(4)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 151).
سبعاً إذا فاتتهم الجماعة! "
(1)
.
الطريق إلى حياة الصلاة:
إن وصول الإنسان إلى حقيقة الصلاة وشعوره بالحياة فيها يأتي من طرق، منها:
أولاً: معرفة عظمة الموقف وهيبته بين يدي الله تعالى، قال ابن القيم: "
…
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبَه عظمةَ من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته وذلت عنقه له، واستحي من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه، وبين صلاتيهما كما قال حسان عطية:(إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وأن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض)؛ وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل والآخر ساهٍ غافل. فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقريبًا فما الظن بالخالق عز وجل؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب؟ والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه؛ فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه، وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة فيتهاون بها فيتركها. فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي حاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة؛ ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم
(1)
المرجع السابق (1/ 149).
تخف عنه بالصلاة"
(1)
.
ثانيًا: تفريغ القلب من الأشغال، والإقبال عليها بخلو بال، قال ابن كثير:" والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين"
(2)
.
ثالثًا: حضور القلب فيها، والتفهم، والتعظيم والهيبة، والرجاء والحياء، قال الغزالي في تفصيل هذه الأمور: "بيان المعاني الباطنة التي تتم بها حياة الصلاة، اعلم أن هذه المعاني تكثر العبارات عنها، ولكن يجمعها ست جمل وهي: حضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء. فلنذكر تفاصيلها، ثم أسبابها ثم العلاج في اكتسابها. أما التفاصيل:
فالأول: حضور القلب، ونعني به أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به، فيكون العلم بالفعل والقول مقرونًا بهما، ولا يكون الفكر جائلاً في غيرهما، ومهما انصرف في الفكر عن غير ما هو فيه وكان في قلبه ذكر لما هو فيه ولم يكن فيه غفلة عن كل شيء؛ فقد حصل حضور القلب ولكن التفهم لمعنى الكلام أمر وراء حضور القلب، فربما يكون القلب حاضراً مع اللفظ ولا يكون حاضراً مع معنى اللفظ، فاشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ هو الذي أردناه بالتفهم. وهذا مقام يتفاوت الناس فيه؛ إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات، وكم من معان لطيفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله، ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر؛ فإنها تفهم أموراً تلك الأمور تمنع عن الفحشاء لا محالة. وأما التعظيم فهو أمر وراء حضور القلب والفهم، إذ الرجل يخاطب عبده بكلام هو حاضر القلب فيه ومتفهم لمعناه ولا يكون معظمًا له، فالتعظيم زائد عليهما. وأما الهيبة فزائدة على التعظيم،
(1)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 34).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 292).
بل هي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم؛ لأن من لا يخاف لا يسمى هائبًا، والمخافة من العقرب وسوء خلق العبد وما يجري مجراه من الأسباب الخسيسة لا تسمى مهابة، بل الخوف من السلطان المعظم يسمى مهابة والهيبة خوف مصدرها الإجلال.
وأما الرجاء فلا شك أنه زائد، فكم من معظم ملكًا من الملوك يهابه أو يخاف سطوته، ولكن لا يرجو مثوبته. والعبد ينبغي أن يكون راجيًا بصلاته ثواب الله عز وجل، كما أنه خائف بتقصيره عقاب الله عز وجل. وأما الحياء فهو زائد على الجملة؛ لأن مستنده استشعار تقصير وتوهم ذنب ويتصور التعظيم والخوف والرجاء من غير حياء حيث لا يكون توهم تقصير وارتكاب ذنب.
وأما أسباب هذه المعاني الستة: فاعلم أن حضور القلب سببه الهمة؛ فإن قلبك تابع لهمتك فلا يحضر إلا فيما يهمك، ومهما أهمك أمرٌ حضر القلب فيه شاء أم أبى، فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه، والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلاً، بل جائلاً فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا، فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة، والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها، وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى، وأن الصلاة وسيلة إليها، فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهماتها حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة، وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على مضرتك ومنفعتك، فإذا كان لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر فلا تظنن أن له سببًا سوى ضعف الإيمان، فاجتهد الآن في تقوية الإيمان
…
وأما التفهم فسببه بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى، وعلاجه ما هو علاج إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر. وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع موادها -أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها- وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر، فمن أحب شيئًا أكثر ذكره، فذكر المحبوب يهجم على القلب بضرورة؛ لذلك ترى أن من أحب غير
الله لا تصفو له صلاة عن الخواطر.
وأما التعظيم فهي حالة للقلب تتولد من معرفتين: إحداهما معرفة جلال الله عز وجل وعظمته وهو من أصول الإيمان؛ فإن من لا يعتقد عظمته لا تذعن النفس لتعظيمه. الثانية: معرفة حقارة النفس وخستها وكونها عبداً مسخراً مربوبًا حتى يتولد من المعرفتين الاستكانة والانكسار والخشوع لله سبحانه، فيعبر عنه بالتعظيم وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله لا تنتظم حالة التعظيم والخشوع؛ فإن المستغني عن غيره الآمن على نفسه يجوز أن يعرف من غيره صفات العظمة ولا يكون الخشوع والتعظيم حاله؛ لأن القرينة الأخرى وهي معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه، وأما الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته ونفوذ مشيئته فيه مع قلة المبالاة به، وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص من ملكه ذرة، هذا مع مطالعة ما يجري على الأنبياء والأولياء من المصائب وأنواع البلاء مع القدرة على الدفع على خلاف ما يشاهد من ملوك الأرض.
وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة
…
وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز وجل وكرمه وعميم إنعامه، ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة، فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة. وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله عز وجل، ويقوى ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وخبث دخلتها وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها، مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عز وجل، والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب وإن دقت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت يقينًا انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء. فهذه أسباب هذه الصفات وكل ما طلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه ففي معرفة السبب معرفة العلاج"
(1)
.
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 161).
حال مؤسفة:
إن الصلوات الخمس ليست عبادة أسبوعية كصلاة الجمعة، ولا عبادة سنوية كصيام رمضان، ولا عبادة عمرية-على سبيل الفرض- كحج بيت الله الحرام، بل هي عبادة واجبة ملازمة للمسلم في ليله ونهاره مادام حيًا مكلفًا. ولكن الناظر إلى حال الصلاة بين المسلمين سيجدهم معها على أنحاء متفرقة، فهم بين: تارك لها على الدوام، لأسباب متعددة، ومنهم من هو ساهٍ عنها مقصر فيها إما في أداء بعض الفروض دون بعض، وإما في تأخير لها عن أوقاتها، وإما بفعلها في غير المساجد، وإما بعدم إتقانها، وإما بقلة الاستفادة من آثارها في الحياة العملية، وقليل منهم من كانت الصلاة له حياة.
وإنها لمفارقة عجيبة حينما ينظر الإنسان إلى بعض الناس في تعاملهم مع مصالح الدنيا؛ إذ يشاهد منهم الحرص والجد والإتقان والغرام بها، وفي جانب الصلاة يتعامل بالكسل والكره والتطفيف! فويل للمطففين. وويل للذين هم عن صلاتهم ساهون.
إن هذه الأحوال المؤسفة لتنبئ عن صغر شأن الصلاة في قلوب أولئك المضيعين والمقصرين.
وقد ذم الله تعالى المضيعين لها والمتكاسلين عنها، فقال:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
فلماذا تركها التاركون المقرون بوجوبها؟
فهل تركوها بانشغال بالبيع والشراء، أو بالنوم والكسل، أو بالانشغال بالكلام في المجالس والأعمال الدنيوية، أو العكوف أمام القنوات أو الشبكة العنكبوتية أو الجوال؟ فأين عظمة الله في القلوب يوم ينشغل الإنسان عن واجب من أعظم واجبات الإسلام؟
فإذا كان الانشغال عنها بطلب الرزق فكيف يرجى الرزق من رزّاق أمر في ذلك الوقت بترك العمل والذهاب إلى الصلاة؟ وكيف يريد التارك للصلاة رزقاً مباركاً من عند الله وهو يعصيه؟
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 9 - 11].
وإن كان الانشغال عنها بالنوم فالنوم عذر حتى يستيقظ النائم فيصلي، أما إذا تعمد النوم قبيل وقت الصلاة وهو ناوٍ تركها فليس بعذر. وفي هذه الأيام وسائل حديثة تعين على الاستيقاظ مهما ثقل النوم.
وإن كان الانشغال عنها بالاعتكاف أمام الشاشات المختلفة فأين قوة الإيمان التي تجعل صاحبها ينتفض ويترك المشاهدة مهما كان استمتاعه بها، لينطلق ليجيب داعي الله تعالى؟ لأن الآخرة خير وأبقى من الدنيا وما فيها. هذا إذا خلت تلك المشاهد من الحرام، أما إذا كانت في الحرام فهذه لها حديث آخر.
إني لأعجب والله من إنسان يقول: إنه مسلم، ولكن لا يصلي قط! فأي قلب يستطيع أن يعيش صاحبه سعيداً بدون صلاة، وأي عقل يمكن أن يصدق قول صاحبه: إنه مسلم وهو لا يصلي قط؟!
فيا تارك الصلوات الخمس، تعال إليها وستجد فيها راحتك وطمأنينتك، واستقرارك النفسي، وستذوق فيها طعم الحياة، وستلتذ بها لذة عظيمة. وسترى فيها النور الذي يهديك إلى صلاح الدنيا والآخرة.
تعال وذقْ وستعرف قيمة الصلاة التي ضيعتها فضيعت بذلك سرورك وراحتك. فما
أحسن الصلاة، وما ألذ الصلاة، وما أطيب الحياة وأهنأها في ظلال الصلاة!
ثمرات الصلاة:
لكل عبادة خالصة لله تعالى ثمرات وآثار حسنة في الدنيا والآخرة، ولا ريب أن للصلاة من ذلك حظًا أوفر ونصيبًا أكبر، فمن ذلك:
أولاً: تكفير السيئات، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)
(1)
.
ثانيًا: إصلاح حال العبد بنهيه عن المعاصي وإسراعه إلى الطاعات، قال تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
قال ابن عطية: " المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات، وتذكر الله تعالى وتوهم الوقوف بين يدي العظمة، وأن قلبه وإخلاصه مطلَّع عليه مرقوب؛ صلحت لذلك نفسه، وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى، فاطرد ذلك في أقواله وأعماله، وانتهى عن الفحشاء والمنكر ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله، فهذا معنى هذا الإخبار؛ لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون"
(2)
.
وقال ابن عاشور: " إن الصلاة تشتمل على مذكرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله تعالى؛ إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله. وهذا كما يقال: صديقك مرآة ترى فيها عيوبك. ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجه إليه بالدعاء والاستغفار وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله، والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب
(1)
رواه مسلم (1/ 209).
(2)
المحرر الوجيز، لابن عطية (4/ 372).
ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه، فذلك صد عن الفحشاء والمنكر. وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته والتباعد عن سخطه. وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر. وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه. فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإن الله قال:{تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ولم يقل: تصد وتحول ونحو ذلك، مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر. ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل؛ ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها. ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر"
(1)
.
ثالثًا: حصول النور لأهلها في الدنيا والآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والصلاة نور)
(2)
.
قال النووي: " معناه: أنها تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب كما أن النور يستضاء به، وقيل: معناه: أنه يكون أجرها نوراً لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لأنها سبب لإشراق أنوار المعارف وانشراح القلب ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها وإقباله إلى الله تعالى بظاهره وباطنه، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45]. وقيل: معناه: أنها تكون نوراً ظاهراً على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضًا على وجهه البهاء بخلاف من لم يصل، والله أعلم"
(3)
.
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (20/ 178).
(2)
رواه مسلم (1/ 203).
(3)
شرح النووي على مسلم (3/ 101)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)
(1)
.
رابعًا: ما فيها من الآثار الصحية على الروح والبدن، قال ابن القيم في الطب النبوي من كتابه زاد المعاد: " والصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن. وبالجملة: فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلي رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلا كان حظ المصلي منهما أقل وعاقبته أسلم، وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا ولا سيما إذا أُعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطنًا. فما اُستدفعت شرور الدنيا والآخرة ولا استجلبت مصالحهما بمثل الصلاة.
وسرُّ ذلك: أن الصلاة صلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية والصحة والغنيمة والغنى والراحة والنعيم والأفراح والمسرات كلُّها محضرة لديه ومسارعة إليه"
(2)
.
خامسًا: رفع الدرجات في الجنة، عن ثوبان قال: قلت لرسول الله عليه وسلم: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، فقال:(عليك بكثرة السجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة)
(3)
.
(1)
رواه أحمد (30/ 288)، وهو صحيح.
(2)
زاد المعاد، لابن القيم (4/ 304).
(3)
رواه مسلم (1/ 353).
سادسًا: حسن إقامتها سببٌ لحسن المآل عند الله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)
(1)
.
وعن مطر الوراق قال: خصلتان إذا كانا في عبد كان سائر عمله تبعًا لهما: حسن الصلاة، وصدق الحديث"
(2)
.
قال ابن القيم: " للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه؛ فمن قام بحق الموقف الأول هوَّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفِّه حقه شدد عليه ذلك الموقف، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 26، 27] "
(3)
.
حوافز معينة:
فيا من بقي بعيداً عن إقامة الصلاة، أو مقصراً فيها، أو لم يصل إلى درجة حلاوتها وبلوغ حسن أثرها عليه، دونَ الجميعِ بعضَ الحوافز التي تسوقهم إلى المحافظة على الصلاة ووجود تأثيرها عليهم:
أولاً: معرفة حكم تارك الصلاة وعقوبة تركها ومآل تاركها
(4)
، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)
(5)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)
(6)
.
(1)
رواه الطبراني، المعجم الأوسط (2/ 240)، والترمذي (2/ 269)، والنسائي (1/ 232)، وهو صحيح.
(2)
شعب الإيمان، للبيهقي (4/ 232).
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 200).
(4)
ينظر في تفصيل المسألة كتاب: الصلاة وأحكام تاركها، لابن القيم.
(5)
رواه مسلم (1/ 88).
(6)
رواه أحمد (38/ 20)، والترمذي (5/ 13)، والنسائي (1/ 231)، وابن ماجه (1/ 342)، وهو صحيح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك)
(1)
.
ثانيًا: التفكر في حصول الخسارة يوم القيامة لمن ضيعها، قال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. " {أَضَاعُوا الصّلَاةَ} وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غياً، أي: خساراً يوم القيامة"
(2)
.
قال الماوردي: " وفي إضاعتهم الصلاةَ قولان:
أحدهما: تأخيرها عن أوقاتها، قاله ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز. الثاني: تركها، قاله القرظي.
ويحتمل ثالثاً: أن تكون إضاعتها الإِخلال باستيفاء شروطها"
(3)
.
ثالثًا: النظر إلى ثمراتها وفضائلها وعظم مكانتها.
رابعًا: العيش في بيئة تقيم الصلاة وتقدسها وتعين عليها.
خامسًا: الابتعاد عن أسباب تركها والتلهي عنها؛ من أصدقاء سوء، وانشغال بلهو الدنيا وشهواتها.
(1)
رواه هبة الله الطبري بإسناد صحيح. صحيح الترغيب والترهيب (1/ 137).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 156).
(3)
النكت والعيون، للماوردي (3/ 379).
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
في هجعة الليل والظلام يرخي سدوله، والصمت ينشر على الحياة بساطه، والنوم يستولي على عيون كثير من الأحياء يسرق المحبُّ نفسَه من فراش الغفلة، يمشي مشي القطا حذراً من عيون الوشاة والمثبِّطين وأسماعهم، ويمضي إلى مناجاة الحبيب على أجنحة الحنين، وحُداء الوعد الحسن بعِظَم الأثر والجزاء.
ينطلق تحت جنح الظلام ليقف بين يدي ربه قائمًا، يصلي صلاة طويلة، ويقرأ قراءة خاشعة، ويتلذذ في طول ركوعه وسجوده، وينتصر على رهبه وقلقه، ويقرب من رغبه وأمنيته عبر جُمل دعائه وسؤاله مولاه الكريم.
إن لحظات قيام الليل لحظات غالية في زمن الدنيا الرخيص، تتسامى فيها الروح إلى فضاء الطهر على معارج الخشوع، ومصاعد السجود والركوع، لحظات خصبة تهتز فيها النفس وتربو فتنبت من الخيرات من كل زوج بهيج، لحظات تزهر فيها النفوس، وتلين فيها القلوب، وتذرف في رياضها العيون، وتسكن في روابيها الجوارح، ويجتمع فيها شعث الروح، ويطير فيها الفكر على جناحي الخوف والرجاء متأملاً في المصير المنتظر.
إن الحياة طريق إلى الله وهذه الطريق طويلة، فقام أهل العزم والشوق في الليل يقربون المسافة بينهم وبين وجهتهم، مستغلين خلو الطريق من المارة:(من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)
(1)
.
والطريق إلى الله شاقة محفوفة بالمكاره فقاموا في تلك الساعة يخففون من مشقتها بالتزود من بركات هذه الأوقات وخيراتها، منتهزين غناها وفضلها، وقوة تأثيرها في
(1)
رواه الترمذي (4/ 633)، والحاكم (4/ 343)، وهو صحيح.
تذليل الصعوبات.
والطريق إلى الله كثيرة المخاطر بقطاع الطريق فنهضوا تلك الساعة سائرين مستغلين هجعة لصوص هذه السبيل، داعين اللهَ بالثبات عليها، والنجاة من قطّاعها. والنهار فيه حرارة وصخب وازدحام وانشغال بال فقاموا هذه اللحظات لطيب نسيمها وهدوئها، وتفرغ البال وصفاء الذهن فيها، وسكون القلوب وخضوع الجوارح في أحضانها. والنهار انتشار ورؤية وزحام، وهم يريدون أن يراهم من في السماء وحده، فقاموا تلك الساعة ليراهم الخالق لا ليراهم الخلق، وقاموا في تلك الساعة مسارعين ليكونوا من المتقين:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
في تلك اللحظات المشرقة تقف الأقدام الطاهرة في محراب العبادة، وكلُّ عابد له حادٍ يحدوه إلى ذلك الموقف البهي، وأهل الغفلة عن تلك اللحظات في سبات عميق، فـ" الليل منهل يرده أهل الإرادة كلهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون، قد علم كل أناس مشربهم؛ فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف يتضرع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يلح في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين -أحسن الله عزاءه- في حرمانه وفوات نصيبه"
(1)
. فلو درى ذلك الغافل بقدر الغنيمة التي ينالها أولئك القائمون الأخيار لطار عن عينيه النوم، ولهجر جنبه فراش الغفلة والكسل.
فضل صلاة الليل:
إن الصلاة بالليل ليست كالصلاة بالنهار، وإن قراءة القرآن في ذلك الوقت النفيس ليست كالقراءة في غيره من سائر الأوقات، قال ابن رجب: " صلاة الليل أشق على النفوس؛ فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار، فتركُ النوم مع ميل النفس إليه مجاهدة عظيمة، قال بعضهم: أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس. ولأن القراءة في
(1)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
صلاة الليل أقرب إلى التدبر؛ فإنه تنقطع الشواغل بالليل، ويحضر القلب، ويتواطأ هو واللسان على الفهم؛ كما قال تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]. ولهذا المعنى أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلاً"
(1)
.
"والغرض أن ناشئة الليل هي ساعاته وأوقاته وكل ساعة منه تسمى ناشئة وهي الآنات، والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة؛ ولهذا قال تعالى: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش"
(2)
.
قال الحسن: "ما شيء أجهد على الرجل من مال أنفقه في حق، أو صلاةٍ من جوف الليل"
(3)
.
ومما يدل على فضل هذه الصلاة العظيمة:
أولاً: أنها أفضل الصلاة بعد المكتوبة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاةُ في جوف الليل)
(4)
.
قال المناوي: " لأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صُرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف، وأفضل عند الله، ذكره الزمخشري. وبالصلاة ليلاً يتوصل إلى صفاء السرور ودوام الشكر، وهي بعد نوم أفضل، والمراد بالجوف هنا: السدس الرابع والخامس فهما أكمل من بقيته؛ لأنه الذي واظب عليه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولأنه أشق الأوقات استيقاظًا،
(1)
المرجع السابق
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 524).
(3)
مصنف عبد الرزاق (11/ 107).
(4)
رواه مسلم (2/ 821).
وأحبها راحة، وأولاها لصفاء القلوب، وأقربها إلى الإجابة"
(1)
.
ثانيًا: أنها دأب الصالحين في كل أمة، قال تعالى:{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاةٌ عن الإثم)
(2)
. (دأب الصالحين): أي: عادتهم وشأنهم
(3)
.
ثالثًا: أن الله تعالى أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع متعددة من القرآن؛ ولهذا كان نبي الله لا يدعها إلا لعذر ويقضيها عند ذلك نهاراً شفعًا، وكان عليه الصلاة والسلام يصليها ويحث عليها زوجاته وبناته وأصهاره.
قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وقال:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4]، وقال:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26].
عن عبد الله بن أبى قيس قال: قالت عائشة رضي الله عنها: لا تدع قيام الليل؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً
(4)
.
وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة
(5)
.
(1)
فيض القدير، للمناوي (2/ 41).
(2)
رواه الترمذي (5/ 552)، والحاكم (1/ 451)، وهو صحيح.
(3)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (9/ 375).
(4)
رواه أبو داود (1/ 504) وابن خزيمة (2/ 177)، وهو صحيح.
(5)
رواه مسلم (1/ 512).
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتنة، ماذا أنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحبَ الحجرات؟ يا رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)
(1)
.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه-أتاه ليلاً- وفاطمةَ بنت النبي عليه الصلاة والسلام ليلة فقال: (ألا تصليان)
(2)
.
رابعًا: أنها شرفُ المؤمن وعُلاه ورفعته
عن سهل بن سعد قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، عِشْ ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس)
(3)
.
خامسًا: أن وقتها أحسن الأوقات للقرب من الله تعالى
عن عمرو بن عبسة أنه سمع النبي يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)
(4)
.
سادسًا: أن الله يعجب من أهل هذه الصلاة
عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(عجب ربنا عز وجل من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحيِّه إلى صلاته، فيقول ربُّنا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه، ومن بين حيه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي .. )
(5)
.
(1)
رواه البخاري (1/ 379).
(2)
رواه البخاري (1/ 379) ومسلم (1/ 537).
(3)
رواه الطبراني، المعجم الأوسط (4/ 306)، وهو حسن.
(4)
رواه الترمذي (5/ 569)، والحاكم (1/ 453)، وهو صحيح.
(5)
رواه أحمد (7/ 61)، وهو حسن.
قال ابن رجب: " وقوله: (ثار) فيه إشارة إلى قيامه بنشاط وعزم"
(1)
.
سابعًا: أنها من صفات الذين يؤمنون بآيات الله تعالى
أي: "ترتفع جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله عن فراش النوم، يتهجدون لربهم في صلاة الليل، يدعون ربهم خوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب، ومما رزقناهم ينفقون في طاعة الله وفي سبيله. فلا تعلم نفس ما ادَّخر الله لهؤلاء المؤمنين مما تَقَرُّ به العين، وينشرح له الصدر؛ جزاء لهم على أعمالهم الصالحة
(2)
.
ثامنًا: أنها من صفات عباد الرحمن الموعودين بالجنة، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64].
تاسعًا: أنها من صفات الصالحين الذين جمعوا بين الخوف والرجاء والعلم، قال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
قال ابن عاشور: "وتخصيص الليل بقنوتهم لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله، وأبعد على مداخلة الرياء، وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم؛ فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة، فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقريب إلى الله تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6]، فلا
(1)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
(2)
التفسير الميسر (7/ 295).
جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالاً على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام آناء النهار بدلالة فحوى الخطاب"
(1)
.
عاشراً: أنها من صفات المتقين، قال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 - 18].
قال الحسن البصري: "كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقلَّه، ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسَحر"
(2)
.
قال ابن رجب: "كان بعض العلماء يقوم السحر فنام عن ذلك ليالي، فرأى في منامه رجلين وقفا عليه وقال أحدهما للآخر: هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك!
يا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيامُ السحر يستوحش لك، صيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك.
تغيرتمُ عنَّا بصحبةِ غيرِنا
…
وأظهرتمُ الهُجرانَ ما هكذا كُنَّا
وأقسمتمُ أنْ لا تحولوا عن الهوى
…
فحلتمْ عن العهد القديم وما حُلنا
لياليَ كنا نستقي من وصالكم
…
وقلبي إلى تلك اللياليَ قد حنَّا"
(3)
.
أسباب مُعِيَنة على قيام الليل:
إن قيام الليل والمداومة عليه ليس بالأمر اليسير على كل إنسان، بل هو توفيق من الله تعالى لمن قامت به صفات استحق بها الإكرام بإيقاظه بين يدي الله في الليل، هذه الصفات هي الأسباب التي تعين المسلم على صلاة الليل والحرص عليها، ومن أحسن
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (24/ 35).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 281).
(3)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
من تكلم عن ذلك الإمام الغزالي، وسأذكر كلامه في ذلك ثم أعقب عليه بثلاثة أسباب أخرى.
قال رحمه الله: " اعلم أن قيام الليل عسير على الخلق إلا على من وفق للقيام بشروطه الميسرة له ظاهراً وباطناً.
فأما الظاهرة فأربعة أمور:
الأول: أن لا يكثر الأكل فيكثر الشرب فيغلبه النوم ويثقل عليه القيام، كان بعض الشيوخ يقف على المائدة كل ليلة ويقول: معاشر المريدين، لا تأكلوا كثيرا، فتشربوا كثيرا، فترقدوا كثيرا، فتتحسروا عند الموت كثيرا.
الثاني: أن لا يتعب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح وتضعف بها الأعصاب؛ فإن ذلك أيضاً مجلبة للنوم.
الثالث: أن لا يترك القيلولة بالنهار؛ فإنها سنة للاستعانة على قيام الليل.
الرابع: أن لا يحتقب الأوزار
(1)
بالنهار
(2)
؛ فإن ذلك مما يقسي القلب، ويحول بينه وبين أسباب الرحمة، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأعد طهوري فما أبالي أن لا أقوم، فقال: ذنوبك قيدتك. وكان الحسن رحمه الله إذا دخل السوق فسمع لغطهم ولغوهم يقول: أظن أن ليل هؤلاء ليل سوء؛ فإنهم لا يقيلون. وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل: وما ذاك الذنب؟ قال: رأيت رجلاً يبكي فقلت في نفسي: هذا مراء
…
وهذا لأن الخير يدعو إلى الخير والشر يدعو إلى الشر .. فالذنوب كلها تورث قساوة القلب وتمنع من قيام الليل، وأخصها بالتأثير تناول
(1)
احتقب الإثم: ارتكبه. المعجم الوسيط (1/ 187).
(2)
قيل لابن مسعود رضي الله عنه: ما نستطيع قيام الليل؟ قال: أقعدتكم ذنوبكم.
وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبَّلتك خطيئتك. لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
الحرام، وتؤثر اللقمة الحلال في تصفية القلب وتحريكه إلى الخير ما لا يؤثر غيرها، ويعرف ذلك أهل المراقبة للقلوب بالتجربة بعد شهادة الشرع له؛ ولذلك قال بعضهم: كم من أكلة منعت قيام ليلة، وكم من نظرة منعت قراءة سورة، وإن العبد ليأكل أكلة أو يفعل فعلة فيحرم بها قيام سنة، وكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكذلك الفحشاء تنهى عن الصلاة وسائر الخيرات ..
وأما الميسِّرات الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين وعن البدع، وعن فضول هموم الدنيا، فالمستغرق الهم بتدبير الدنيا لا يتيسر له القيام وإن قام فلا يتفكر في صلاته إلا في مهماته، ولا يجول إلا في وساوسه وفي مثل ذلك يقال:
يخبِّرني البوّابُ أنك نائمٌ
…
وأنت إذا استيقظت أيضًا فنائمُ
الثاني: خوفٌ غالب يلزم القلب مع قصر الأمل؛ فإنه إذا تفكر في أهوال الآخرة ودركات جهنم طار نومه وعظم حذره؛ كما قال طاوس: إن ذكر جهنم طير نوم العابدين
…
قال ابن المبارك:
إذا ما الليلُ أظلمَ كابدوه
…
فيسفرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ
أطار الخوفُ نومَهمُ فقاموا
…
وأهلُ الأمن في الدنيا هجوعُ
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار حتى يستحكم به رجاؤه وشوقه إلى ثوابه، فيهيجه الشوق لطلب المزيد والرغبة في درجات الجنان.
الرابع وهو أشرف البواعث: الحب لله وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناجٍ ربَّه، وهو مطلع عليه مع مشاهدة ما يخطر بقلبه، وأن تلك الخطرات من الله تعالى خطاب معه، فإذا أحب الله تعالى أحب لا محالة الخلوة به، وتلذذ بالمناجاة، فتحمله
لذة المناجاة بالحبيب على طول القيام"
(1)
.
ومن الأسباب أيضًا:
أولاً: الدعاء بالتوفيق لقيام الليل مع العمل بالأسباب الميسرة السابقة.
ثانيًا: التعاون بين الزوجين، فإذا نشط أحدهما فليعن الآخرَ على ذلك.
عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)
(2)
.
وعن أبى سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعًا كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)
(3)
.
قال ابن رجب: " كانت امرأة حبيب توقظه بالليل وتقول: ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدّامنا، ونحن قد بقينا!.
يا راقدَ الليل كم ترقدُ
…
قمْ يا حبيبيْ قد دنا الموعدُ
وخذْ من الليل وأوقاته
…
وِرْداً إذا ما هجع الرُّقدُ"
(4)
.
ثالثًا: استخدام الوسائل المنبِّهة للاستيقاظ في الساعة التي يريدها مريد القيام؛ كاستعمال منبه الساعة ومنبه الجوال.
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 356).
(2)
رواه داود (1/ 504) وابن ماجه (1/ 424)، وهو حسن.
(3)
رواه أبو داود (1/ 543)، وابن ماجه (1/ 423)، وهو صحيح.
(4)
لطائف المعارف (ص: 43).
ثمرات قيام الليل:
صلاة الليل عبادة عظيمة تورث أهلها آثاراً طيبة، وثمرات نافعة في الدنيا والآخرة، ففوائدها لا تحصى، وعوائدها لا تستقصى. "كان سَريٌّ يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلمة الليل، ماذا فات من فاته خير الليل؟ لقد حصل أهل الغفلة والنوم على الحرمان والويل. كان بعض السلف يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال له: قم فصلِّ، ثم قال له: أما علمت أن مفاتح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها هم خزانها. وكان آخر يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال: ما لك قصرت في الخِطبة؟ أما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة: قام الخاطب إلى خطبته. ورأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها: زوجيني نفسك، قالت: اخطبني إلى ربي وأمهرني، قال: ما مهرك؟ قالت: طول التهجد. نام ليلةً أبو سليمان فأيقظته حوراء وقالت: يا أبا سليمان، تنام وأنا أُربّى لك في الخدور من خمسمائة عام؟!. واشترى بعضهم من الله تعالى حوراء بصداق ثلاثين ختمة فنام ليلة قبل أن يكمل الثلاثين فرآها في منامه تقول له:
أتخطبُ مثلي وعني تنامُ
…
ونومُ المحبين عني حرامُ
لأنا خُلقنا لكل امرئ
…
كثيرِ الصلاة براه الصيام"
(1)
.
فمن تلك الثمرات:
أولاً: تكفير السيئات وغفران الخطيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم)
(2)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك
(1)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
(2)
رواه الترمذي (5/ 552)، والحاكم (1/ 451)، وهو صحيح.
وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يعطى، هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له؟ حتى ينفجر الصبح)
(1)
. فأين أصحاب الحاجات في هذه اللحظات، وأين من لفحتهم الخطايا عن برد هذه الأوقات؟.
ثانيًا: الانصراف عن الآثام، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن فلاناً يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق قال:(إنه سينهاه ما تقول)
(2)
.
ثالثًا: إجابة الدعاء، ففي تلك اللحظات الغالية يجد القائم للدعاء طعمًا آخر، فتلهج به لسانه، فيصعد إلى السماء في لحظات القرب والإجابة، والاستغفار والإنابة، عندما يقرب العبد فيها من ربه، ويقرب الرب فيها من عبده، فتفتح السماء فيستجاب دعاء الداعين، وتقضى حاجات السائلين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)
(3)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقد فيتوضأ، فإذا وضأ يديه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة، وإذا مسح برأسه انحلت عقدة، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة، فيقول الله للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه يسألني، ما سألني عبدي فهو له)
(4)
.
قال ابن حجر في شرح حديث أم سلمة المتقدم: (من يوقظ صواحب الحجرات .. ): "وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة ولا سيما في الليل؛ لرجاء وقت
(1)
رواه البخاري (1/ 384)، ومسلم (1/ 521).
(2)
رواه أحمد (15/ 483)، وهو صحيح.
(3)
رواه مسلم (1/ 521).
(4)
رواه أحمد (29/ 329) وابن حبان (3/ 329)، وهو صحيح.
الإجابة لتكشف أو يسلم الداعي، ومن دعا له"
(1)
.
رابعًا: أنه سبب لنيل محبة الله تعالى، عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم؛ الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل فإما أن يقتل وإما أن ينصره الله عز وجل ويكفيه فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟ والذي له امرأة حسنة، وفراش لين حسن فيقوم من الليل فيقول: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء)
(2)
.
خامسًا: أنه سبيل إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:(يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)
(3)
.
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام)
(4)
.
سادسًا: الشعور باللذة والراحة والفرح، أيّ ساعة ألذ من لحظات تلك الساعة! وأي حلاوة في لذات الدنيا تفوق حلاوتها؟ فما أغلى لحظات تلك الساعة! فغالي الحياة رخيص معها، وما أعلا تلك اللحظات! وهل للروح مصعد أقرب وأسرع إلى السماء منها؟ وما أطهر تلك اللحظات! فمن تنجس بدنس الذنوب فليرِدْها ففيها مغتسل بارد وشراب. في صلاة الليل الخاشعة يحضر القلب وتسكن الجوارح فيكون للصلاة لذة عظيمة يُستعذب معها طولُ القيام، ويكون للقرآن حلاوة تتسلل إلى النفس حاملة معها حروفًا من نور تتفرع في جوانبها لتضيء حياتها بأسرها، ويمتلئ الصدر سعادة غامرة،
(1)
فتح الباري (13/ 23).
(2)
رواه الطبراني، المعجم الكبير (10/ 208) بإسناد حسن.
(3)
رواه الترمذي (4/ 652)، وابن ماجه (1/ 423)، وهو صحيح.
(4)
رواه أحمد (37/ 539)، وهو صحيح.
ينفسح بها وينشرح، فتتقشع عند ذلك سحائب الضيق، ويتضمخ العيش بأريج الحياة الطيبة، وتنجلي منه روائح الشقاء والعناء. وفي هذه الجنة الوارفة الظلال يتسابق الوقت ويقصر، لكن اللذة تمتد وتطول، فلا يقطع هذه الحلاوة والساعة المباركة إلا لمعانُ سيف الفجر، فيعود المحب وقد دخل جنة لا يعرفها إلا القليل من الناس، وهو مازال يمشي على وجه الأرض.
فـ"ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم الذي هو شفاء قلوبهم ونهاية مطلوبهم
…
قال ثابت البناني رحمه الله: ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل، وقال سفيان رحمه الله: إذا جاء الليل فرحت، وإذا جاء النهار حزنت، وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: لَأهلُ الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"
(1)
.
سابعًا: الحُسن والبهجة على الوجوه، قيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خَلَوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره
(2)
.
ففي صلاة الليل ينسكب النور على القائمين الخاشعين فتكتسي وجوههم حُللَ السناء والضياء، وتشرق قلوبهم فترى طريقها إلى الله تعالى، وتنشرح صدورهم فتعرف قدر كلامه سبحانه.
فأي وجوه أشد تلألأً من وجوه أهل تلك العبادة، فمن" كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"
(3)
.
فإذا انقضت لحظات القرب من الرب رجع أولئك الأخيار سيماهم في وجوههم من
(1)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
(2)
فضل قيام الليل والتهجد للآجري (ص: 5).
(3)
قاله شريك بن عبد الله القاضي، الإرشاد في معرفة علماء الحديث، للقزويني (1/ 171).
أثر بقائهم في تلك الرياض المشرقة ركعًا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، فعادوا كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، فبسق عود الإيمان، وتفرّعت أغصانه، وينعت ثماره سكينة وطمأنينة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أسوة حسنة:
إن الصالحين الصادقين حينما عرفوا فضل قيام الليل وحسن أثره انطلقت أقدامهم عجلى إلى مواضع صلاتهم، تحمل أجساداً تحذر الآخرة، وترجو رحمة ربها، وجافت جنوبهم مضاجعهم، والأنيسُ ودُود، والنوم لذيذ، والبرد شديد، ولكن الشوق إذا سما لا تهبطه نوازع المحابِّ الصادة، والمكاره الرادة، والغايةُ متى عظمت فما في الدنيا شاغل عنها.
فلما رأوا " الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم، ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم؛ قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل بربح وغبن؛ أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة، شتان ما بين الفريقين، فاعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده؛ فإن المغبونَ من غُبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، إنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم، ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيا الله أنفسهم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله. كم من قائم لله في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته، وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه، عندما يرى من كرامة الله للعابدين غداً، فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله"
(1)
. واقتدوا بمن سبق على هذا الطريق من القائمين
(1)
التهجد وقيام الليل، لابن أبي الدنيا (ص: 339).
الخاشعين، واسمعوا بعض أخبارهم؛ لعل في ذلك شحذاً للهمة، وعونًا على القيام في الليالي المظلمة.
=عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال:(أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً). فلما كثر لحمه صلى جالسًا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع
(1)
.
=عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نعمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل). قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا
(2)
.
=عن الربيع بن عبد الرحمن قال: قال الحسن: "لقد صحبت أقوامًا يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجداً وقياماً، يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم، فمرة ركعًا ومرة سجداً، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، لم يملوا كلال السهر لما قد خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين. فرحم الله امرءاً نافسهم في مثل هذه الأعمال، ولم يرضَ من نفسه لنفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله؛ فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة، قال: ثم يبكي حتى تبتل لحيته بالدموع
(3)
.
=وقال الفضيل بن عياض: "أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لكِ، قُومي خذي حظكِ من الآخرة
(4)
.
(1)
رواه البخاري (4/ 1830) ومسلم (4/ 2172).
(2)
رواه البخاري (3/ 1367).
(3)
التهجد وقيام الليل، لابن أبي الدنيا (ص: 340).
(4)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (8/ 108).
=وكان عبيد بن عمير يقول إذا جاء الشتاء: يا أهل القرآن، طال الليل لصلاتكم، وقصر النهار لصيامكم، فاغتنموا
(1)
.
=وعن داود بن إبراهيم أن الأسد حبس الناس ليلة في طرق الحج، فلما كان في السحر ذهب عنهم، فنزل الناس يمينًا وشمالاً، وألقوا أنفسهم فناموا، وقام طاووس يصلي، فقال رجل لطاوس: ألا تنام؛ فإنك نصبت-تعبت- الليلة؟ قال طاوس: وهل يُنام السحر؟!
(2)
.
=وقال إبراهيم بن شمّاس: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام وهو يحيي اللّيل
(3)
.
=وكان محمد بن واسع يصلي في طريق الحج طول ليله، ويأمر حاديه أن يرفع صوته؛ ليشغل الناس عنه. وكان بعضهم يقوم من وسط الليل ولا يدري به، فإذا كان قرب طلوع الفجر رفع صوته بالقرآن يوهم أنه قام تلك الساعة
(4)
.
=وكان داود الطائي يقول في الليل: همُّك عطّل عليَّ الهموم، وخالف بيني وبين السهاد، وأوثقَ مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، وا شوقي إلى النظر إليك
(5)
.
=قال ابن رجب: "من لم يشاركهم في هواهم ويذق حلاوة نجواهم لم يدر ما الذي أبكاهم، من لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب!
من لم يبتْ والحبُّ حشوُ فؤادِهِ
…
لم يدرِ كيف تَفتّتُ الأكبادُ
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (2/ 344).
(2)
شعب الإيمان، للبيهقي (3/ 166).
(3)
الآداب الشرعية، لابن مفلح (2/ 162).
(4)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
(5)
التبصرة، لابن الجوزي (1/ 390).
يا حُسنَهم والليلُ قد جنَّهمُ
…
ونورُهمْ يفوقُ نورَ الأنجمِ
ترنّموا بالذِّكر في ليلهمُ
…
فعيشُهم قد طابَ في الترنُّم
قلوبُهمْ للذكر قد تفرّغت
…
دموعُهم كلؤلؤ منظَّم
أسحارُهمْ بهم لهم قد أشرقت
…
وخلِعُ الغفران خَيرُ القِسمِ"
(1)
.
(1)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ
الروح تجوع وتظمأ كما يجوع البدن ويظمأ، فغذاء البدن بالامتلاء من الطعام والشراب والشهوات والفضلات المشروعة، لكن غذاء الروح على خلاف ذلك؛ فغذاؤها بالخلو من الامتلاء من ذلك الغذاء، والإقبال على العبادة.
ولما كان صلاح الإنسان منوطًا بصلاح روحه، فقد شرع الله تعالى له بعض العبادات التي تصلح روحه، فكان من تلك العبادات: عبادة الصيام.
وهي عبادة مشروعة في الأمم قبلنا، كما في أمتنا، ولكن تشريعها في الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هو أحسن التشريعات وأوفاها وأعدلها.
قال ابن القيم: " الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعدل، وأمر فيه بغاية الاعتدال؛ حتى نهى عن الوصال، وأمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، وجعل أعدل الصيام وأفضله صيام داود، فكان من تمام الاعتدال في الصوم: أن لا يدخل الإنسان ما به قوامه كالطعام والشراب، ولا يخرج ما به قوامه كالقيء والاستمناء، وفرق بين ما يمكن الاحتراز منه من ذلك وبين ما لا يمكن، فلم يفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع، كما لا يفطر بغبار الطحين، وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل، وجعل الحيض منافيًا للصوم دون الجنابة؛ لطول زمانه وكثرة خروج الدم وعدم التمكن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة، وفرق بين دم الحجامة، ودم الجرح فجعل الحجامة من جنس القيء والاستمناء والحيض، وخروج الدم من الجرح والرعاف من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع القيء، فتناسبت الشريعة وتشابهت تأصيلاً وتفصيلاً، وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل، ولله الحمد"
(1)
.
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (2/ 18).
وقال أيضًا: " والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة؛ شرعه الله لعباده؛ رحمة بهم، وإحسانًا إليهم وحِمية لهم وجُنة. وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي وأعظمَ تحصيلٍ للمقصود وأسهله على النفوس. ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن فنقلت إليه بالتدريج"
(1)
.
فضائل الصيام وثمراته:
الصيام عبادة عظيمة لها فضائلها بين العبادات، ومزاياها الرفيعة بين الطاعات، ومكانتها السامية بين القربات، وثمراتها اليانعة في رياض الأعمال الصالحات.
وفضيلة الشيء وثمرته تدعو إلى الحرص عليه، ومعرفة شرفه ومزيته تعين على العمل به وامتثاله إن كان مما يُعمل ويمتثل، والصيام من ذلك، فمن تلك الفضائل والثمرات للصيام:
أولاً: أنه عبادة لا مِثل لها. عن أبي أمامة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: (عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدل له)
(2)
.
" فإنه لا عدل له؛ إذ هو يقوي القلب والفطنة، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق، وإذا صام المرء اعتاد قلة الأكل والشرب، وانقمعت شهواته، وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، ودخل في الخير من كل وجه، وأحاطت به الحسنات من كل جهة"
(3)
.
ثانيًا: أن الله وعد عليه الجزاء من غير عدد؛ لبيان عظمته وعلو قدره. قال رسول الله
(1)
زاد المعاد، لابن القيم (2/ 26).
(2)
رواه النسائي (4/ 165)، وابن خزيمة (3/ 194)، وهو صحيح.
(3)
فيض القدير، للمناوي (4/ 330).
صلى الله عليه وسلم: (قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)
(1)
.
قال ابن قدمة: " اعلم أنّ في الصّوم خصيصة ليست في غيره، وهي إضافته إلى اللّه- عز وجل حيث يقول سبحانه في الحديث القدسيّ:(الصّوم لي وأنا أجزي به). وكفى بهذه الإضافة شرفًا كما شرّف البيت بإضافته إليه في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] وإنّما فضّل الصّوم لمعنيين:
أحدهما: أنّه سرّ وعمل باطن، لا يراه الخلق ولا يدخله رياء.
الثّاني: أنّه قهر لعدوّ اللّه؛ لأنّ وسيلة العدوّ الشّهواتُ، وإنّما تقوى الشّهوات بالأكل والشّرب وما دامت أرض الشّهوات مخصبة، فالشّياطين يتردّدون إلى ذلك المرعى، وبترك الشّهوات تضيق عليهم المسالك "
(2)
.
وقال ابن القيم: " لما كان المقصود من الصيام حبسَ النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حِدتها وسَورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه؛ فهو لجام المتقين، وجُنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال؛ فإن الصائم لا يفعل شيئًا وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما
(1)
رواه البخاري (2/ 673)، ومسلم (2/ 806).
(2)
مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (1/ 35).
كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم"
(1)
.
ثالثًا: أنه وقاية من أُوار الشهوة ومطالب توهجها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)
(2)
. " والمراد هنا: أن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شرَّ المني"
(3)
.
رابعًا: أنه جُعل كفارة من كفارات بعض الذنوب. ككفارة القتل الخطأ، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة اليمين.
خامسًا: لأهله باب خاص من أبواب الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلن يدخل منه أحد)
(4)
.
قال ابن حجر: " الريان: بفتح الراء وتشديد التحتانية وزن فعلان من الرِّي: اسمُ علمٍ على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه؛ لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين، قال القرطبي: اكتفي بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه، قلت: أو لكونه أشق على الصائم من الجوع"
(5)
.
(1)
زاد المعاد، لابن القيم (2/ 27).
(2)
رواه البخاري (5/ 1950)، ومسلم (2/ 1018).
(3)
شرح النووي على مسلم (9/ 173).
(4)
رواه البخاري (2/ 671)، ومسلم (2/ 808).
(5)
فتح الباري لابن حجر (6/ 131).
سادسًا: أثره المكروه لدى الناس طيب عند الله؛ لأنه أثر طاعته، مثل دم المجاهد في سبيله. قال النبي صلى الله عليه وسلم:(يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جُنة، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)
(1)
.
سابعًا: أنه سبب للسعادة في الدنيا والآخرة. كما في الحديث السابق (وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه).
قال النووي: " قال العلماء: أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه، وتذكر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته، وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها"
(2)
.
ثامنًا: أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب، إني منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب، منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)
(3)
.
تاسعًا: أنه وقاية من الآثام والشهوات المحرمة ومن الأمراض ومن النار. كما في الحديث السابق (والصوم جُنة)، وقال صلى الله عليه وسلم:(الصيام جُنة، وحصن حصين من النار)
(4)
.
قال عبد العزيز بن عمير: " الصيام سجن المؤمن عن الدنيا"
(5)
. وقال بديل العقيلي: " الصيام معقل العابدين"
(6)
.
(1)
رواه البخاري (6/ 2723)، ومسلم (2/ 806).
(2)
شرح النووي على مسلم (8/ 31).
(3)
رواه أحمد (11/ 199)، وهو صحيح.
(4)
رواه أحمد (15/ 123)، وهو صحيح.
(5)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (4/ 234).
(6)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (3/ 266).
قال ابن القيم: "وللصّوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظّاهرة، والقوى الباطنة، وحمايتها من التّخليط الجالب لها الموادّ الفاسدة الّتي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ الموادّ الرّديئة المانعة لها من صحّتها، فالصّوم يحفظ على القلب والجوارح صحّتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشّهوات، فهو من أكبر العون على التّقوى، كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] "
(1)
.
عاشراً: أنه وسيلة إلى قهر النفس وتربيتها على الأخلاق الحسنة من الإيثار والرحمة والصبر والانتصار على الشهوات. قال الماوردي: " ثم فرض الله تعالى الصيام وقدمه على زكاة الأموال؛ لتعلق الصيام بالأبدان، وكان في إيجابه حث على رحمة الفقراء وإطعامهم وسد جوعاتهم؛ لما عاينوه من شدة المجاعة في صومهم، وقد قيل ليوسف على نبينا وعليه السلام: أتجوع وأنت على خزائن الأرض؟! فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع! ثم لما في الصوم من قهر النفس وإذلالها وكسر الشهوة المستولية عليها وإشعار النفس ما هي عليه من الحاجة إلى يسير الطعام والشراب، والمحتاج إلى الشيء ذليل به، وبهذا احتج الله تعالى على من اتخذ عيسى على نبينا وعليه السلام وأمه إلهين من دونه، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]. فجعل احتياجهما إلى الطعام نقصًا فيهما عن أن يكونا إلهين. وقد وصف الحسن البصري نقص الإنسان بالطعام والشراب فقال: مسكين ابن آدم محتوم الأجل، مكتوم الأمل، مستور العلل، يتكلم بلحم، وينظر بشحم، ويسمع بعظم، أسيرُ جوعه، صريعُ شبعه، تؤذيه البقّة، وتنتنه العَرقة وتقتله الشَّرقة، لا يملك لنفسه ضراً، ولا نفعًا ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً. فانظر إلى لطفه بنا، فيما أوجبه من الصيام علينا، كيف أيقظ العقول له، وقد كانت عنه غافلة أو متغافلة، ونفع النفوس به ولم تكن منتفعة ولا نافعة"
(2)
.
(1)
زاد المعاد، لابن القيم (2/ 27).
(2)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 106).
الصيام الحقيقي:
إن الصيام الحقيقي ليس هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع فحسب، كما يفهم كثير من الناس، بل الصيام الحقيقي هو صيام جميع الجوارح عن الحرام، وانقيادها وخضوعها للحق، هكذا يفهم أهل العلم والإيمان وكذلك يفعلون.
فالصوم الشرعي هو إمساك عن جميع ما لا يرضي الله عز وجل من المعاصي صغيرها وكبيرها، فتصوم جميع الجوارح عن المساخط والرذائل؛ فاللسان يصوم عن قول الزور والباطل، والسوء والفحش، والبذاء والتعدي على الآخرين بالطعن والثلب ونحو ذلك من سَقط الكلام وعيبه. والعينان تصومان عن النظر إلى الحرام من الأعراض الممنوعة والعورات المستورة. والأذنان تصومان عن سماع اللهو والخنا، والنمِّ والتعييب للخلق. والرجلان تصومان عن الخطوات إلى الحرمات والثبات على العثرات.
فإذن الصوم التام أن يصوم القلب والعقل والنفس كلها عما لا ينبغي ديناً وخلقا.
هذا هو صيام العبادة، لا صوم العادة الذي عليه أكثر الصائمين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " (ليس الصيام من الأكل و الشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فلتقل: إني صائم إني صائم)
(1)
.
وقال علي رضي الله عنه: "إن الصيام ليس من الطعام والشراب، ولكن من الكذب والباطل واللغو"
(2)
.
وقال جابر رضي الله عنه: "إذا صمت فليصمْ سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم
(1)
رواه البيهقي، السنن الكبرى (4/ 270)، والحاكم (1/ 595)، وابن خزيمة (3/ 242)، وهو صحيح.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (2/ 272).
صيامك وفطرك سواء"
(1)
.
وقال ابن القيم: " والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ففي الحديث الصحيح: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)، وفي الحديث: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش). فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده فهكذا الآثام تقطع ثوابه، وتفسد ثمرته فتصيره بمنزلة من لم يصم"
(2)
.
قال أبو بكر بن عطية:
إذا لم يكنْ في السمع مني تصاونٌ
…
وفي بصري غضٌّ وفي مِقولي صمتُ
فحظي إذنْ من صوميَ الجوعُ والظما
…
وإن قلتُ إني صمتُ يومي، فما صمتُ
(3)
المطلوب:
من عرف قدر الصيام وأثره في العاجل والآجل جدير به أن لا يتوانَى عن المسارعة إليه؛ ابتداء بأداء ما وجب عليه منه؛ من صيام رمضان، وقضاء ما فات منه، وصيام الكفارات والنذور إن كانت عليه صيامًا.
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (2/ 271).
(2)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 43).
(3)
خريدة القصر وجريدة العصر، للعماد الأصبهاني (3/ 114).
وبعد ذلك يتجه إلى الإكثار من صيام النافلة؛ كصيام ستّة أيّام من شوّال، وصيام تسعة من ذي الحجّة، وصوم يوم عرفة منها تحديداً، وصيام يوم عاشوراء ويوم قبله، أو يوم بعده، وصيام أكثر شهر شعبان، وصيام يومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، وصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر، وصيام يوم وإفطار يوم.
فإن هذه الأيام فاضلة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه يصومونها.
وكذلك صامها الصالحون من بعدهم، ومن قرأ سير السلف الصالح وجد العجب العجاب من كثرة صيامهم، وحرصهم على هذه العبادة.
فقد صام منصور بن المعتمر أربعين سنة؛ قام ليلها وصام نهارها
(1)
.
وصام داود الطائي أربعين سنة ما علم به أهله، وكان خزّازاً، وكان يحمل غذاءه معه ويتصدق به في الطريق، ويرجع إلى أهله يفطر عشاء لا يعلمون أنه صائم!
(2)
.
وعلى المرء إذا رزق التوفيق للإكثار من الصيام أن يصوم صومًا تصوم به جوارحه كلها؛ فيحسن علاقته مع الله تعالى امتثالاً لأمره، وابتعاداً عن نهيه، ويحسن علاقته مع الناس؛ إذ الصيام يهذب النفوس ويصقلها ويربيها ويصلح من شأنها.
(1)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (3/ 112).
(2)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (3/ 135).
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ
إن مَنْ أحب شيئاً أكثر من ذكره، وبقي حاضراً لديه من غير غفلة عنه ولا نسيان، فكيف إذا كان المذكور قد وعد ذاكرَه بجوائز لا تُحصى، وتفضل عليه بآلاء لا تعد إن هو ذكره؟
فمن فطر الإنسانَ وخلقه، ومدّ يدَ إحسانه إليه ورزقَه، وصوّره فأحسن صورته، وهداه وبيّن له محجّته، وفضلّه وكرّمه، وعلّمه وفهّمه، أرسل له رسله وأنزل عليهم-من أجله- كتبَه، وجعل ما في الأرض مسخراً لخدمته، وحفظهُ بالمعقِّبات من ملائكته من بين يديه ومن خلفه، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة، لا يستطيع المخلوق عدها ولن يبلغ حصرها. أفلا تكثر النفوس من ذكر من هذه بعض أياديه، ونماذج من فضله عليها؟!
المراد بذكر الله تعالى:
ليس المراد بذكر الله تعالى ذكره باللسان فحسب، بل ذكره سبحانه يشمل: ذكر اللسان، وذكر القلب، وذكر الجوارح.
قال ابن حجر: "وقال الفخر الرّازيّ: المراد بذكر اللّسان: الألفاظ الدّالّة على التّسبيح والتّحميد والتّمجيد. والذّكر بالقلب: التّفكّر في أدلّة الذّات والصّفات وفي أدلّة التّكاليف من الأمر والنّهي حتّى يطّلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات اللّه. والذّكر بالجوارح، هو أن تصير مستغرقة في الطّاعات، ومن ثَمّ سمّى اللّه الصّلاة ذكراً فقال: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]. ونقل عن بعضهم، قال: الذّكر على سبعة أنحاء: فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللّسان بالثّناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرّجاء، وذكر الرّوح بالتّسليم والرّضاء"
(1)
.
(1)
فتح الباري (11/ 209).
وقال ابن القيّم: " وليس المراد بالذكر مجرد الذكر باللسان، بل الذكر القلبي واللساني، وذكر اللّه يتضمّن ذكر أسمائه وصفاته، وذكر أمره ونهيه وذكره بكلامه، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثّناء عليه بأنواع المدح. وذلك لا يتمّ إلّا بتوحيده. فذكره الحقيقيّ يستلزم ذلك كلّه، ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه"
(1)
.
وقال أيضًا: " وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلبَ اللسانُ، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده"
(2)
.
وقال الغزالي: "المؤثر النافع هو الذكر على الدوام مع حضور القلب، فأما الذكر باللسان والقلب لاهٍ فهو قليل الجدوى"
(3)
.
وقال كذلك: "وقال الحسن: الذِّكْر ذكران: ذكر الله عز وجل بين نفسك وبين الله عز وجل ما أحسنه وأعظم أجره، وأفضل من ذلك ذكر الله سبحانه عند ما حرم الله عز وجل"
(4)
.
"وقال ميمون بن مهران: ذكر الله باللسان حسن، وأفضل منه أن يَذكر اللهَ العبدُ عند المعصية فيمسك عنها"
(5)
.
منزلة ذكر الله وأهميته:
إن ذكر الله تعالى عبادة عظيمة لها منزلتها السامية بين العبادات، وأهميتها الكبيرة بين الطاعات؛ فهي:
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 128).
(2)
المرجع السابق (ص: 192).
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 301).
(4)
المرجع السابق (1/ 295).
(5)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (ص: 96).
أولاً: خير الأعمال وأزكاها وأرفعها وأحبها إلى الله تعالى، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ). قَالُوا: بَلَى. يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: (ذِكْرُ اللهِ)
(1)
.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أيضًا قال: إن آخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلت: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)
(2)
.
ثانيًا: أنه من أكبر الطاعات وأعظم القربات، قال تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
قال ابن القيم عن قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} : "وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذكر الله أكبر من كل شيء؛ فهو أفضل الطاعات؛ لأن المقصود بالطاعات كلها: إقامة ذكره فهو سر الطاعات وروحها. الثاني: أن المعنى: أنكم إذا ذكرتموه ذكركم، فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، وعلى الأول: مضاف إلى المذكور. الثالث: أن المعنى: ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر، بل إذا تم الذكر محق كل خطيئة ومعصية. هذا ما ذكره المفسرون. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: معنى الآية: أن في الصلاة فائدتين عظيمتين: إحداهما: نهيها عن الفحشاء والمنكر، والثانية: اشتمالها على ذكر الله، وتضمنها له، ولما تضمنته من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر"
(3)
.
(1)
رواه أحمد (36/ 397)، وابن ماجه (2/ 1245)، والحاكم (1/ 673)، وهو صحيح.
(2)
رواه الطبراني، المعجم الكبير (20/ 106)، وابن حبان (3/ 99)، وهو صحيح.
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 426).
ثالثًا: أنه أحد ركني الدِّين اللذين يقوم عليهما، قال ابن القيم: "مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وقال النبي لمعاذ:(والله إني لأحبك، فلا تنسَ أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)
…
وهذان الأمران [الذكر والشكر] هما جِماع الدين؛ فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته، وهذان هما الغاية التي خُلق لأجلها الجن والإنس، والسموات والأرض ووضع لأجلها الثواب والعقاب
…
فثبت بما ذكر أن غاية الخلق والأمر أن يُذكر وأن يشكر؛ يذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره، شاكر لمن شكره، فذكره سبب لذكره، وشكره سبب لزيادته من فضله، فالذكر للقلب واللسان، والشكر للقلب محبة وإنابة وللسان ثناء وحمد وللجوارح طاعة وخدمة"
(1)
.
رابعًا: أنه من أعظم أسباب النصر عند لقاء العدو، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. قال ابن القيم: "وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران ومكافحة الأعداء
…
وفي أثر إلهي يقول الله تعالى: إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاقٍ قِرْنه
(2)
. سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يستشهد به وسمعته يقول: المحبون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال؛ كما قال عنترة:
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ كأنها
…
أشطانُ بئر في لُبان الأدهمِ
وقال الآخر:
ذَكرْنُكِ وَالْخَطّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنا
…
وَقَدْ نَهِلَتْ مِنا الْمُثَقَّفةُ السُّمْرُ
وقال آخر:
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 128).
(2)
القِرن للإنسان مثله في الشجاعة والشدة والعلم والقتال وغير ذلك. المعجم الوسيط (2/ 731).
ولقد ذكرتُك والرماح شواجرٌ
…
نحوي وبيضُ الهند تقطرُ من دمي
وهذا كثير في أشعارهم وهو مما يدل على قوة المحبة؛ فإن ذكر المحب محبوبه في تلك الحال التي لا يهم المرءَ فيها غيرُ نفسه يدل على أنه عنده بمنزلة نفسه أو أعز منها، وهذا دليل على صدق المحبة"
(1)
.
خامسًا: أن الله تعالى أمر بالإكثار منه وأخبر بذلك في مواضع عدة من كتابه، ولا يأمر بذلك إلا لأهمية الذكر ومنزلته، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، وقال:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، وقال:{وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227]، وقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. وفي قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، "الأمر بالذكر بالكثرة والشدة؛ لشدة حاجة العبد إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله، وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله تعالى كذا وكذا سنة ثم أعرض عنه لحظة لكان ما فاته أعظم مما حصله"
(2)
.
سادسًا: وروده الكثيرُ المتنوع في القرآن الكريم، قال ابن القيم: "وهو في القرآن على عشرة أوجه الأول: الأمر به مطلقًا ومقيداً، الثاني: النهي عن ضده من الغفلة والنسيان، الثالث: تعليق الفلاح باستدامته وكثرته، الرابع: الثناء على أهله والإخبار بما أعد الله لهم من الجنة والمغفرة، الخامس: الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره، السادس: أنه سبحانه جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له، السابع: الإخبار أنه أكبر من كل شيء، الثامن: أنه
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 427).
(2)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 56).
جعله خاتمة الأعمال الصالحة كما كان مفتاحها، التاسع: الإخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته وأنهم أولو الألباب دون غيرهم، العاشر: أنه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها، فمتى عدمته كانت كالجسد بلا روح"
(1)
. ثم فصّل ابن القيم رحمه الله في هذه الأمور واستدل لها.
سابعًا: أنه حصن حصين من الشيطان اللعين، عن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ..... وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعًا في أثره حتى أتى حصنًا حصينًا فأحرز نفسه فيه، وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان إلا بذكر الله)
(2)
.
قال ابن القيم: " كل ذي لبٍّ يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات: أحدها: التزيد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة، فتصير فضلة وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب، وطريق الاحتراز من إعطاء النفس تمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة، فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه، الثانية: الغفلة؛ فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو فيعسر عليه أو يصعب إخراجه، الثالثة: تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء
…
"
(3)
.
وقال أيضًا: " فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهِجًا بذكره؛ فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقمع، حتى يكون
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 424).
(2)
رواه الترمذي (5/ 148)، وابن حبان (14/ 124)، وهو صحيح.
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 191).
كالوَصَع
(1)
وكالذباب؛ ولهذا سمي الوسواسَ الخناس أي: يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس أي: كف وانقبض، قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس"
(2)
.
ثامنًا: أنه حياة، والغفلة عنه موت، قال النبي صلى الله عليه و سلم:(مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)
(4)
. "فجعل بيت الذاكر بمنزلة بيت الحي، وبيت الغافل بمنزلة بيت الميت وهو القبر، وفي اللفظ الأول: جعل الذاكر بمنزلة الحي والغافل بمنزلة الميت، فتضمن اللفظان: أن القلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء، والغافل كالميت في بيوت الأموات، ولا ريب أن أبدان الغافلين قبور لقلوبهم، وقلوبهم فيها كالأموات في القبور؛ كما قيل:
فنسيانُ ذكرِ الله موتُ قلوبهم
…
وأجسامُهم قبل القبور قبورُ
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
…
وليس لهم حتى النشورِ نشور"
(5)
.
فالغافلون أدركهم الشيطان فأمات أرواحهم وقلوبهم؛ ولهذا فإن الذاكرين يعيشون حياة حقيقية ملؤها السعادة واليقين، وتحفها الطمأنينة والراحة، وأفعالهم بيضاء لصفاء قلوبهم بذكر الله تعالى، أما غيرهم -ممن يعيشون الغفلة- فأموات في صورة أحياء،
(1)
الوَصَعُ: بفتحتين: طائر يشبه العصفور في صغره وقيل: هو الصغير من النغران. المصباح المنير، للفيومي (ص: 341).
(2)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 56).
(3)
رواه البخاري (5/ 2353).
(4)
رواه مسلم (1/ 539).
(5)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 429).
وأشباح بلا أرواح، ليس لهم من الحياة إلا حركة الأجسام التي عشعشت فيها الغفلة وفرّخت فيها العناءَ والكآبة؛ ولذا فأعمالهم مظلمة؛ نتيجة سواد قلوبهم، وما صلاح الظاهر إلا بصلاح الباطن، وما فساده إلا بفساده.
تاسعًا: أنه باب جامع يُتمسك به عند ازدحام أعمال الخير، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا، فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ؟ قَالَ:(لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ)
(1)
.
عاشراً: أنه عبادة ميسرة في قولها وفي زمانها وفي مكانها، فذكرُ الله تعالى عبادةٌ من العبادات العظيمة، ميسرة لا صعوبة فيها، ولا موانع تمنع منها، ولا مقدار يضبطها فلا تزيد عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]: "إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر؛ فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال"
(2)
.
الحادي عشر: أن الله تعالى يباهي الله بأهله الملائكة الكرام، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على حلقة في المسجد فقال:(ما أجلسكم)؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا، قال:(آلله ما أجلسكم إلا ذاك)؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال:(أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)
(3)
.
(1)
رواه أحمد (29/ 226)، والطبراني، المعجم الأوسط (2/ 374)، وهو صحيح.
(2)
تفسير ابن كثير/ دار الفكر (3/ 598).
(3)
رواه مسلم (4/ 2075).
" (يباهى بكم الملائكة) معناه: يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم، ويثنى عليكم"
(1)
.
الثاني عشر: أن أهله هم أهل السبق، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له: جُمدان فقال: (سيروا، هذا جُمْدَانُ، سبق المفردون) قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله قال: (الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)
(2)
.
قال ابن القيم: " عمّال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم، فإذا انجلى الغبار وانكشف رآهم الناس وقد حازوا قصب السبق، قال الوليد بن مسلم: قال محمد بن عجلان: سمعت عمراً مولى غفرة يقول: إذا انكشف الغطاء للناس يوم القيامة عن ثواب أعمالهم لم يروا عملاً أفضل ثوابًا من الذكر، فيتحسر عند ذلك أقوام فيقولون: ما كان شيء أيسر علينا من الذكر"
(3)
.
الثالث عشر: أن الغافلين عنه يندمون على ذلك يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة يوم القيامة)
(4)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كان عليه من الله تِرَة، ومن اضطجع مضجعًا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لا
(1)
شرح النووي على مسلم (17/ 23).
(2)
رواه مسلم (4/ 2062).
(3)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 106).
(4)
رواه أبو داود (4/ 414)، والحاكم (1/ 668)، وقال: صحيح على شرط مسلم.
يذكر الله فيه إلا كان عليه من الله ترة)
(1)
. " أي: نقص وتبعة وحسرة وندامة؛ لتفرقهم، ولم يأتوا بما يكفر لفظهم من حمد الله والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم"
(2)
.
ثمرات ذكر الله تعالى:
من داوم على ذكر الله تعالى وأكثر منه، بعد أن أدى فرائض الله تعالى؛ فإنه ينال بسببه ثمراتٍ يانعةً في الدنيا والآخرة، فمن ذلك:
أولاً: نيل معية الله تعالى بالتوفيق والرعاية والهداية والحماية
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)
(3)
.
ثانيًا: الظفر بذكر الله تعالى للعبد الذاكر، قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. وفي الحديث السابق: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)
(4)
.
"ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً"
(5)
.
ثالثًا: نيل محبة الله عز وجل، " فقد" جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر، فمن أراد أن ينال محبة الله عز وجل فليلهج بذكره؛ فإنه الدرس والمذاكرة كما أنه باب العلم، فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم"
(6)
.
(1)
رواه أحمد (15/ 357)، وابن حبان (3/ 133)، وهو صحيح.
(2)
فيض القدير، للمناوي (3/ 150).
(3)
رواه البخاري (6/ 2694)، ومسلم (4/ 2067).
(4)
رواه البخاري (6/ 2694)، ومسلم (4/ 2067).
(5)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 62).
(6)
المرجع السابق (ص: 61).
رابعًا: نيل الجوائز الأربع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)
(1)
.
خامسًا: ثقل ميزان الذاكر يوم القيامة بالحسنات، قال رسول صلى الله عليه وسلم:(كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده)
(2)
.
سادسًا: أنه سبب للنجاة من عذاب الله، قال رسول صلى الله عليه وسلم:(إن لكل شيء صقالة، وإن صقالة القلوب ذكر الله، وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله)، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع)
(3)
.
سابعًا: صلاح القلب من فساده ونقاؤه من قسوته وغفلته وظلمته، قال رسول صلى الله عليه وسلم:(إن لكل شيء صقالة، وإن صقالة القلوب ذكر الله)
(4)
.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل"
(5)
.
قال ابن القيم: "ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر؛ فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك صدئ، وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. فمن كانت الغفلة أغلب
(1)
رواه مسلم (4/ 2074).
(2)
رواه البخاري (5/ 2352)، ومسلم (4/ 2072).
(3)
رواه البيهقي، شعب الإيمان (1/ 396)، قال الألباني: صحيح لغيره. صحيح الترغيب والترهيب (2/ 96).
(4)
رواه البيهقي، شعب الإيمان (1/ 396)، وهو صحيح. قال الألباني: صحيح لغيره. صحيح الترغيب والترهيب (2/ 96).
(5)
شعب الإيمان، للبيهقي (1/ 396).
أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم، فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الرَّان فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب. وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى؛ فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره قال تعالى:{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] "
(1)
.
وقال أيضًا -وهو يسوق فوائد الذكر-: " يورث حياة القلب، وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟
…
أنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي. أو كلاما قريبًا من هذا. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر. أو كلامًا هذا معناه
…
أنه يورث جلاء القلب من صداه
…
وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار"
(2)
.
وقال كذلك: " في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى. وذكر حماد بن زيد عن المعلى بن زياد أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذِبْهُ بالذِّكْر. وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في
(1)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 56).
(2)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 63).
النار، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل
…
أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه، فالقلوب مريضة وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى، قال مكحول: ذكر الله تعالى شفاء وذكر الناس داء "
(1)
.
ويقول ابن القيم في كلام جامع مبينًا فيه فضل الذكر وثمراته، قال في منزلة الذكر من المدارج: " وهي منزلة القوم الكبرى الّتي منها يتزوّدون، وفيها يتّجرون، وإليها دائمًا يتردّدون. والذّكر منشور الولاية الّذي من أعطيه اتّصل، ومن منعه عُزل، وهو قوت قلوب القوم الّذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وعمارة ديارهم الّتي إذا تعطّلت عنه صارت بورا، وهو سلاحهم الّذي يقاتلون به قطّاع الطّريق، وماؤهم الّذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الّذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسّبب الواصل؛ والعلاقة الّتي كانت بينهم وبين علّام الغيوب.
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ
…
فنترك الذّكرَ أحياناً فننتكسُ
به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلّهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النّوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنّتهم الّتي فيها يتقلّبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورا، ويوصّل الذّاكر إلى المذكور، بل يدع الذّاكر مذكورا. وفي كلّ جارحة من الجوارح عبوديّة مؤقّتة. والذّكر عبوديّة القلب واللّسان وهي غير مؤقّتة، بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كلّ حال قيامًا وقعوداً، وعلى جنوبهم، فكما أنّ الجنّة قيعان، وهو غراسها فكذلك القلوب بور خراب، وهو عمارتها وأساسها. وهو جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلّما ازداد الذّاكر في ذكره استغراقا ازداد المذكور محبّة إلى لقائه واشتياقا، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء، به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن
(1)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 99).
الألسن، وتنقشع الظّلمة عن الأبصار، زيّن اللّه به ألسنة الذّاكرين، كما زيّن بالنّور أبصار النّاظرين، فاللّسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصّمّاء، واليد الشّلّاء، وهو باب اللّه الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغلقه العبد بغفلته"
(1)
.
الطريق إلى دوام ذكر الله وكثرته:
أولاً: ترسيخ محبة الله تعالى في القلب. فإن محبة الله تعالى تدفع صاحبها إلى كثرة ذكر الله، وعلى قدر المحبة يكون الذكر، يقول ابن القيم: " لو صحت محبتك لاستوحشت ممن لا يذكِّرك بالحبيب، واعجبًا لمن يدِّعي المحبة ويحتاج إلى من يذكره بمحبوبه، فلا يذكره إلا بمذكِّر، أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكر المحبوب:
ذكرتُكَ لا أني نسيتُك ساعةً
…
وأيسرُ ما في الذكر ذِكرُ لساني"
(2)
.
ثانيًا: الاقتداء بالذاكرين الله كثيرا، ويأتي ذلك بمجالستهم، أو سماع أخبارهم أو قراءتها، وأكملهم أسوة للمؤتسين، وأتمهم قدوة للمقتدين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه)
(3)
. قال النووي: " المقصود: أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى متطهراً ومحدثًا وجنباً، وقائماً وقاعداً ومضطجعًا وماشيًا، والله أعلم"
(4)
.
ثالثًا: إجالة الفكر في فضل الذكر وأهميته وثمراته، فمن نظر إلى ذلك متأملاً دفعه إلى كثرة الذكر والمداومة عليه؛ طمعًا في نيل درجة أهله، والظفر بخيره في الدنيا والآخرة.
رابعًا: التعلق بالدار الآخرة، فمن كان قوي الرغبة في الآخرة، غير متعلق بالدنيا؛ أكثرَ من ذكر الله تعالى؛ لعلمه أن كثرة الذكر كنز يدخره لآخرته، وأما الدنيا ففانيةٌ غير
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 423).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 77).
(3)
رواه مسلم (1/ 282).
(4)
شرح النووي على مسلم (2/ 90).
باقية، فلا يلهيه الفاني عن الباقي.
خامسًا: الدعاء بالإعانة على كثرة الذكر، فكثرة الذكر عمل عظيم، ولكن النفس والهوى قد يقفان في طريق الوصول إلى ذلك، فاحتاج العبد إلى عون الله تعالى؛ فلذلك يستحب له أن يدعو بالإعانة على الذكر. فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يومًا ثم قال:(يا معاذ، والله إني لأحبك) فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك، قال:(أوصيك -يا معاذ- لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)
(1)
.
(1)
رواه أبو داود (1/ 561)، والحاكم (1/ 407)، وهو صحيح.
الهِمَّةَ الهِمَّةَ
ليستْ قوةُ البدن هي القوةَ الوحيدة في الإنسان، بل هناك قوى أخرى كامنة في هذا المخلوق، فمن أعظم تلك القوى: قوة العزيمة المعبَّر عنها بالهمة العالية، والتي تطلب معالي الأمور، وتكره سفاسفها، وتعشق الفضائل، وتسعى جاهدة إليها، وتفر من الرذائل وتنفر عنها.
أهمية علو الهمة:
إن علو الهمة في المحامد من شرف النفس، وبراهين الفضيلة، ومخايل النجابة، وأدلة نضوج العقل، وظهور الفضل، وبها يعرف الرجال؛ لأن المرء بهمته يبلغ المجد، وينال الرغائب، ويكتسب الثناء، ويصل إلى النعم. قال ابن القيم:" لو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون، فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكِبَرها، وأصل الشر خستها ودناءتها وصغرها"
(1)
.
وقال الماوردي: " وقال بعض الحكماء: الهمة راية الجِد. وقال بعض البلغاء: علو الهمم بذر النِّعم. وقال بعض العلماء: إذا طلب رجلان أمراً ظفر به أعظمهما مروءة. وقال بعض الأدباء: من ترك التماس المعالي بسوء الرجاء لم ينل جسيمًا"
(2)
.
وقال الدينوري: "رأيتُ في بعض أسفاري شيخًا توسمت فيه الخير، فقلت له: يا سيدي، كلمة تزودني بها. قال: همتك فاحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته، وصدق فيها صلح له ما وراءها من الأعمال والأحوال"
(3)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 177).
(2)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 402).
(3)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (4/ 434).
وقال ابن القيم: " قال-يعني: الهروي صاحب منازل السائرين-: والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب. يريد: أن قيمة المرء همته ومطلبه"
(1)
.
وقال الشماخ في عَرابة الأوسي:
رَأَيْتُ عَرابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو
…
إِلى الخَيْراتِ مُنْقَطِعَ القَرين
إِذا ما رايَةٌ رُفِعَتْ لمَجْد
…
تَلَقَّاها عرابَةُ باليَمِينِ
(2)
.
وقال أبو الطيب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها
…
وتصغرُ في عين العظيم العظائم
(3)
.
لا ترضَ بصغر الهمة:
إن الإنسان اللبيب لا يرضى لنفسه بصغر الهمة الذي يعني: " ضعف النّفس عن طلب المراتب العالية، وقصور الأمل عن بلوغ الغايات، واستكثار اليسير من الفضائل، واستعظام القليل من العطايا والاعتداد به، والرّضا بأوساط الأمور وأصاغرها"
(4)
. بل يلازم علو الهمة، ويسعى في مطالبها حتى يبلغ الغاية؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم لم يمنعه غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر من الإكثار من العبادة، فعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت: لمَ تصنع هذا
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 3).
(2)
الحماسة البصرية، لأبي الحسن البصري (ص: 52).
(3)
ديوان المتنبي (ص: 131).
(4)
تهذيب الأخلاق للجاحظ (34)، بواسطة: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (10/ 4782).
يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال:(أفلا أحب أن أكون عبدا شكوراً)
(1)
.
وخليفته الصديق رضي الله عنه علت همته وتاقت نفسه لأن يُدعى للدخول إلى الجنة من جميع أبوابها لا من باب واحد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال:(نعم، وأرجو أن تكون منهم)
(2)
.
قال ابن القيم: "لما سمت همة الصديق إلى تكميل مراتب الإيمان، وطمعت نفسه أن يدعى من تلك الأبواب كلها سأل رسول الله: هل يحصل ذلك لأحد من الناس؛ ليسعى في العمل الذي ينال به ذلك، فأخبره بحصوله، وبشره بأنه من أهله، وكأنه قال: هل تكمل لأحد هذه المراتب، فيدعى يوم القيامة من أبوابها كلها، فلله ما أعلى هذه الهمة، وأكبر هذه النفس! "
(3)
.
إن صغر الهمة يقعد بصاحبه عن المكرمات، ويجعله يؤثر أداني الأمور على أعاليها، ويطلب السهل القريب ولو كان دنيئًا رخيصًا، ويستصعب الشيء الذي يحتاج إلى جد وتعب ولو كان نفيسًا شريفًا. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:"لا تصغرن همتكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم"
(4)
. وروي عنه رضي الله
(1)
رواه البخاري (4/ 1830)، ومسلم (4/ 2172).
(2)
رواه البخاري (2/ 671)
(3)
حادي الأرواح، لابن القيم (ص: 75).
(4)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 402).
عنه-: أنه سمع يوم عرفة رجلاً يسأل الناس، فقال: أفي هذا اليوم، وفي هذا المكان تسأل من غير الله؟! فخَفَقَه بالدِّرَّة"
(1)
.
هكذا فكُن:
أما عالي الهمة فإنه يسعى لغايته البعيدة الشريفة حتى يصل إليها، وعلى قدر بذله لها ينال منها. قال الشافعي:
بقدرِ الكدِّ تُكتسبُ المعالي
…
ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كدٍّ
…
أضاع العمر في طلب المحال
تروم العز ثم تنام ليلاً
…
يغوص البحرَ مَنْ طلب اللآلي
(2)
.
وصاحب الهمة العالية لا يرضى لنفسه بالقعود دون غايته المنشودة، والقناعة بما دونها، بل يطلب العلو دائمًا، قال امرؤ القيس:
فلَوْ أَنَّ ما أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ
…
كَفانِي- ولَمْ أَطْلُبْ- قَلِيلٌ مِنْ المالِ
ولكنَّما أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ
…
وقَدْ يُدْركُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثالي
(3)
.
وذو الهمة السامية يركب إلى هدفه الغالي كلَّ صعب وذلول، ولا يوقفه عنه لقيا المشقة والتعب؛ فإن نواصي المطالب، وعوالي الرغائب لا تنال إلا بالمشقة.
قال أبو الطيب:
ذَريني أنلْ ما لا يُنالُ من العُلا
…
فصعبُ العُلا في الصَّعبِ والسَّهلُ في السَّهلِ
تريدينَ لُقيانَ المَعَالي رخيصَةً
…
ولا بدَّ دونَ الشَّهدِ من إبرِ الَّنحلِ
(4)
(1)
جامع الأصول، لابن الأثير (10/ 161).
(2)
لآليء اللآليء (ص: 22).
(3)
الحماسة البصرية، لأبي الحسن البصري (ص: 22).
(4)
الحماسة المغربية، الجرّاوي (ص: 70).
وقال أيضًا:
وإذا كانت النُّفوس كباراً
…
تعبتْ في مرادها الأجسامُ
(1)
.
وقال زهير:
وليس لمنْ لم يركب الهوْلَ بُغيةٌ
…
وليس لمن قد حطّه الله حاملُ
(2)
.
وقال أبو تمام الطائي
أَعاذِلَتي ما أَخْشَنَ اللَّيْلَ مَرْكَباً
…
وأَخْشَنُ مِنْهُ في المُلِمَّاتِ راكبُهْ
دَعِيني وأَهْوالَ الزَّمانِ أُفانِها
…
فأَهْوالُهُ العُظْمَى تَلِيها رغَائِبُهْ
(3)
.
وقال البارودي:
ومن تكنِ العلياءُ همةَ نفسهِ
…
فكلُّ الذي يلقاه فيها محببُ
(4)
.
ولولا وجود التعب في طريق المعالي لاستوى في نيلها السامي والداني، ولم يكن لذي الهمة العلية من فضل، ولا لذي الصبر من مزية:
لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلهمُ
…
الجودُ يُفقِر والإقدامُ قتالُ"
(5)
.
وقال الآخر:
لأَسْتَسهِلنَّ الصعْبَ أو أُدْرِكَ المُنَى
…
فما انْقادَتِ الآمالُ إلا لصابِرِ
(6)
.
(1)
المرجع السابق (ص: 125).
(2)
الوساطة بين المتنبي وخصومه، الجرجاني (ص: 58).
(3)
الحماسة البصرية، لأبي الحسن البصري (ص: 16).
(4)
جواهر الأدب، للهاشمي (1/ 440).
(5)
شرح ديوان المتنبي، للواحدي (2/ 239).
(6)
شرح ابن عقيل (4/ 8).
يقول ابن الجوزي عن نفسه وهمته، حاكيًا مع ذلك نماذجَ لبعض ذوي الهمم العالية ولكن في أمر الدنيا: " وما ابتلي الإنسان قط بأعظم من علو همته؛ فإن من علت همته يختار المعالي، وربما لا يساعده الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب، وإني أُعطيت من علو الهمة طرفاً؛ فأنا به في عذاب ولا أقول: ليته لم يكن؛ فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل، ولقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم، فتأملتها بها في فن واحد، ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضي:
ولكل جسم في النحول بليةٌ
…
وبلاءُ جسمي من تفاوت همتي
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة، وكان أبو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك! فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع. قيل: فما الذي يبرد غليلَك؟ قال: الظفر بالملك، قيل: فاطلبه، قال: لا يُطلب إلا بالأهوال، قيل: فاركب الأهوال، قال: العقل مانع، قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلي جهلاً، وأحاول به خدراً لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به؛ فإن الخمول أخو العدم. فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات وهو جانب الآخرة، وانتصب في طلب الولايات، فكم فتكَ وقتل! حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا، ثم لم يتنعم في ذلك غير ثمان سنين، ثم اغتيل، ونسي تدبير العقل، فقُتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال، وكان المتنبي يقول:
وَفي النّاسِ مَنْ يرْضَى بميسورِ عيشِهِ
…
وَمَرْكوبُهُ رِجْلاهُ وَالثّوْبُ جلدُه
وَلَكِنّ قَلْباً بَينَ جَنْبَيّ مَا لَهُ
…
مَدًى يَنتَهي بي في مُرَادٍ أحُدُّهُ
يَرَى جِسْمَهُ يُكْسَى شُفُوفاً تَرُبُّهُ
…
فيَختارُ أن يُكْسَى دُرُوعاً تهُدّهُ
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب!. ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً؛ وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه؛ لأني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فن، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه،
فإن عرض لي ذو همة في فن بلغ منتهاه رأيته ناقصاً في غيره، فلا أعد همته تامة؛ مثل المحدث فاته الفقه، والفقيه فاته علم الحديث، فلا أرضى بنقصان من العلوم إلا حادثاً عن نقص الهمة، ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بِشْر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف، وإفادة الخلق، ومعاشرتهم بعيد، ثم إني أروم الغنى عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغالُ بالعلم مانع من الكسب، وقبولُ المنن مما تأباه الهمة العالية، ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخَلَفان نائبينِ عني بعد التلف، وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد، ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع الهمة، وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب؛ فإنه متعود للترفه واللطف، وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد، فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا؟ وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب، ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي. فوا قلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف، وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم، ووا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة. غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي؛ لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل، وربما كانت الحيرة في الطلب دليلاً إلى المقصود، وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة، وإن بلغ همي مراده، وإلا فنيةُ المؤمن أبلغ من عمله"
(1)
.
الهمة تلد الهمة:
إن صاحب الهمة العالية متى بقي على همته فإنه لا يزال يترقى في مصاعد السمو، ولا يقنع بما نال، بل كلُّ منال ناله يُصعِده إلى ما فوقه. قال عمر بن عبد العزيز: " إن لي نفساً
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 180) وما بعدها.
تواقة، تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل"
(1)
. وقال ابن عبد ربه:
والحرُّ لا يكتفي منْ نيلِ مكرمةٍ
…
حتَّى يرومَ التي منْ دونها العطبُ
يسعى بهِ أملٌ منْ دونهُ أجلٌ
…
إنْ كفَّهُ رَهَبٌ يَسْتَدْعِهِ رَغَبُ
لذلكَ ما ساْلَ موسى ربَّهُ: أرني
…
أنظرْ إليكَ وفي تسآلهِ عجبُ
يَبْغي التَّزَيُّدَ فِيما نَالَ مِنْ كَرَمٍ
…
وَهْوَ النَّجِيُّ، لَدَيْه الوَحْيُ والكُتُبُ
(2)
.
وأنشد النابغة الجعدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدة يقول فيها:
علونا السماءَ عفةً وتكرُّماً
…
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة، يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجل، إن شاء الله"
(3)
.
(4)
.
إن ديننا الحنيف يحث على علو الهمة، ويدعو إلى قوة العزيمة في طِلاب الأمور النبيلة، فقد قال رسول صلى الله عليه وسلم:(إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)
(5)
. وفي الدعاء يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمَ إلى أن لا يقنع بسؤال دخول الجنة فحسب، بل بسؤال الله إدخاله الفردوسَ الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، فيقول عليه الصلاة والسلام:(فإذا سألتم اللهَ فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّرُ أنهار الجنة)
(6)
.
(1)
وفيات الأعيان، لابن خلكان (2/ 301).
(2)
ديوان ابن عبد ربه (ص: 14).
(3)
العمدة في محاسن الشعر وآدابه، لابن رشيق القيرواني (ص: 12).
(4)
قال الهيثمي: " رواه البزار، وفيه يعلى بن الأشدق وهو ضعيف". مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 43).
(5)
رواه الطبراني، المعجم الكبير (3/ 131)، وهو صحيح.
(6)
رواه البخاري (6/ 2700).
وعن أبي موسى قال: أتى النبيُّ- صلى الله عليه وسلم أعرابيًا فأكرمه، فقال له: ائتنا، فأتاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل حاجتك فقال: ناقة نركبها، وأعنزاً يحلبها أهلي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قال: عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها فأتته فقال: دليني على قبر يوسف قالت: حتى تعطيني حكمي، قال: ما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه: أنِ اعطها حكمَها، فانطلقت بهم إلى بحيرة- موضع مستنقع ماء- فقالت: نضبوا هذا الماء، فأنضبوا، قالت: احتفروا واستخرجوا عظام يوسف
(1)
، فلما أقلوها إلى الأرض، إذا الطريق مثل ضوء النهار)
(2)
.
لكن ربيعة بن كعب رضي الله عنه لم يكن كهذا الأعرابي، بل سمت به همته إلى شيء أعظم من ذلك، فعنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي:(سَلْ)، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال:(أوَ غيرَ ذلك)؟ قلت: هو ذاك. قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود)
(3)
. وعند الطبراني: كنت أخدم رسول
(1)
قال الألباني: فائدة: كنت استشكلت قديماً قوله في هذا الحديث: (عظام يوسف)؛ لأنه يتعارض بظاهره مع الحديث الصحيح: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"حتى وقفت على حديث ابن عمر رضي الله عنهما. "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدن، قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله، يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: بلى فاتخذ له منبراً مرقاتين". أخرجه أبو داود (1081) بإسناد جيد على شرط مسلم. فعلمت منه أنهم كانوا يطلقون "العظام"، ويريدون البدن كله، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، كقوله تعالى:{وقرآن الفجر} أي: صلاة الفجر. فزال الإشكال والحمد لله، فكتبت هذا لبيانه. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 8) وبعض التاسع (1/ 312).
(2)
رواه أبو يعلى (13/ 189)، والحاكم، (2/ 439)، وهو صحيح.
(3)
رواه مسلم (1/ 353).
الله صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده، فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله، سبحان ربي، حتى أمل أو تغلبني عيني فأنام، فقال ذات يوم:(يا ربيعة، سلني فأعطيك)، قلت: أنظرني؛ حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة فقلت: يا رسول الله، أسألك أن تدعو الله أن يجنبني النار، ويدخلني الجنة. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:(من أمرك بهذا)؟ قلت: ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت به، فأحببت أن تدعو الله، قال:(إني فاعل، فأعني بكثرة السجود)
(1)
.
نعم، هذه هي الهمة العالية التي غضت عن متاع الدنيا الفاني، وطمحت إلى متاع الآخرة الباقي، وشتان بين من يفكر بربه وما يقربه إليه، ومن يفكر بمصلحته في دنياه، أو بشهوات نفسه. عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله بنو الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبدالله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له"
(2)
.
وقال أحمد بن خضرويه: " القلوب جوَّالة: إما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحُش
(3)
"
(4)
. وكان شميط بن عجلان إذا وصف المُقبلَ على الدنيا يقول: دائب البطنة، قليل الفطنة، إنما همه بطنه وفرجه وجلده، متى أُصبِحُ فآكلُ وأشرب، وألهو وألعب، متى أُمسي فأنام! جيفةٌ بالليل، بطّال بالنهار، ويحك! ألهذا خلقتَ؟ أم بهذا
(1)
المعجم الكبير (5/ 57).
(2)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (1/ 309).
(3)
الحش: الكنيف ومَوضع قَضاء الحاجة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 969).
(4)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (4/ 164).
أمرت؟ أم بهذا تطلب الجنة وتهرب من النار؟!
(1)
.
علو الهمة في طلب الآخرة:
وإذا حمدتْ الهمة السامية في أمور الدنيا المباحة فكيف بالأمور الدينية التي توصل إلى الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، قال الشوكاني: " ينبغي لمن كان صادق الرغبة، قوي الفهم، ثاقب النظر، عزيز النفس، شهم الطبع، عالي الهمة، سامي الغريزة أن لا يرضى لنفسه بالدون، ولا يقنع بما دون الغاية، ولا يقعد عن الجد والاجتهاد المبلغينِ له إلى أعلى ما يراد، وأرفع ما يستفاد؛ فإن النفوس الأبية، والهمم العلية لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية؛ من جاه أو مال أو رئاسة أو صناعة أو حرفة، حتى قال قائلهم:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ
…
فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ
…
كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
وقال آخر مشيراً إلى هذا المعنى:
إذا لم تكن ملِكًا مطاعا
…
فكن عبداً لخالقه مطيعا
وإن لم تملكِ الدنيا جميعًا
…
كما تهواه فاتركها جميعا
هما شيئان من ملْك ونسْك
…
ينيلان الفتى شرفًا رفيعا
وقال آخر:
فإما مكانًا يضرب النجم دونه
…
سرادقَه أو باكياً لحِمامِ
وقد ورد هذا المعنى كثيراً في النظم والنثر، وهو المطلب الذي تنشط إليه الهمم الشريفة، وتقبله النفوس العلية، وإذا كان هذا شأنهم في الأمور الدنيوية التي هي سريعة الزوال قريبة الاضمحلال، فكيف لا يكون ذلك من مطالب المتوجهين إلى ما هو أشرف
(1)
المرجع السابق (3/ 346).
مطلبًا، وأعلى مكسبًا وأربح مراداً، وأجل خطراً، وأعظم قدراً، وأعود نفعاً، وأتم فائدة وهي المطالب الدينية"
(1)
.
إن أعلى الهمم همةٌ تاقت إلى الله تعالى وإلى جنته ورضوانه، وتعلقت بكل ما يقرب إلى ذلك، وزهدت عن كل شيء يعيقها أو يؤخرها عن ذلك المطلب الغالي، وكانت مع نية صالحة موصلة إلى المقصود العالي.
قال ابن القيم: "فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره، وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه، فالنية تفرد له الطريق، والهمة تفرد له المطلوب، فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته، وإذا كانت همته سافلة تعلقت بالسفليات، ولم تتعلق بالمطلب الأعلى، وإذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقة غير موصلة إليه، فمدار الشأن على همة العبد ونيته، وهما مطلوبه"
(2)
.
وعلو الهمة الذي ينبغي لك أيها المسلم هو: " أن لا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظك من الله وقربه، والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم؛ فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان؛ فإن الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء عنوان فلاحه، وسفول همته عنوان حرمانه"
(3)
.
إن المؤمن الصادق صاحب همة عالية في دينه الذي يوصله إلى سعادة دنياه وآخرته، فإذا كانت همم أكثر الناس في أعراض الدنيا وشهواتها فإن همته تنساق إلى الاجتهاد في
(1)
أدب الطلب، للشوكاني (ص: 127).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 144).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 171).
عبادة ربه التي تبلغه رضوانه وجنته، فلستَ تراه إلا في معرفة علم يبصره بدينه، أو صلاة أو صيام أو قراءة قرآن، وهو في ذلك على دأب وحرص وعناية.
يحكى أن الأسود بن يزيد كان يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال
(1)
.
وكان ثابت البناني يقوم الليل، ويصوم النهار، وكان يقول: ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل
(2)
.
وكما للمؤمن الصادق همةٌ عالية في فعل الأوامر، فله همة عالية كذلك في ترك النواهي، وهجر السفاسف. قال ابن القيم: " فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش، ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذلك. فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها وهذا معنى قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]. أي: على ما يشاكله ويناسبه
…
"
(3)
.
وقال مَعْن بن أَوْس المُزَنِيّ:
لَعَمْرُكَ ما أَهْوَيْتُ كَفِّي لرِيبَةٍ
…
ولا حَمَلَتْنِي نَحْوَ فاحِشَةٍ رِجْلي
ولا قادَنِي سَمْعِي ولا بَصَرِي لَها
…
ولا دَلَّنِي رَأْيٌ عَلَيْها ولا عَقْلِي
وأَعْلَمُ أَنِّي لم تُصِبْنِي مُصِيبَةٌ
…
مِنْ الدَّهْرِ إلاّ قد أَصابَتْ فَتىً قَبْلِي
ولستُ بماشٍ ما حييتُ لمنكرٍ
…
من الأمرِ لا يمشي إلى مثلهِ مثلِى
(4)
.
(1)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (3/ 23).
(2)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (3/ 262).
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 177).
(4)
الحماسة البصرية، لأبي الحسن البصري (ص: 128)، كتاب الصناعتين، لأبي هلال العسكري (ص: 20).
طرق إلى علو الهمة في أمر الآخرة:
إن من الطرق إلى علو الهمة في أمر الآخرة: أن يحيي المسلم قلبه؛ إذ بحياته يقوى عزمه، وبه يصل إلى الحياة الطيبة؛ إذ كلما "كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى وإرادته ومحبته أقوى؛ فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته، فضعف الطلب وفتور الهمة إما من نقصان الشعور والإحساس، وإما من وجود الآفة المضعفة للحياة، فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة، وضعفهما دليل على ضعفها، وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة، فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها؛ فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همة وأضعفهم محبة وطلبًا، وحياة البهائم خير من حياته كما قيل:
نهارُك يا مغرورُ سهوٌ وغَفْلةٌ
…
وليلُك نومٌ والردىَ لك لازمُ
وتكدحُ فيما سوف تكره غِبَّهُ
…
كذلك في الدنيا تعيشُ البهائمُ
تُسَر بما يَبلَى وتفرَحُ بالمنى
…
كما اغترَّ باللذاتِ في النوم حالمُ
والمقصود: أن حياة القلب بالعلم والإرادة والهمة"
(1)
.
ومن الطرق إلى ذلك أيضًا: النظر المتأمِّل إلى زوال الدنيا وقلتها وكدرها، وإلى ذهاب الإنسان عنها ومفارقته لها، فحينما كانت كذلك فإنها ليست أهلاً لأن تعلو همة المؤمن في طلبها؛ فإنه لا "يرضى لنفسه أن يتزود منها إلى دار بقائه وخلوده أخسّ ما فيها وأقله نفعًا إلا ساقطُ الهمة دنيء المروءة، ميت القلب؛ فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده، وتبين له عدم نفعه له، فكيف إذا كان ترك تزود ما ينفعه إلى زاد يعذب به، ويناله بسببه غاية الألم، بل إذا تزود ما ينفعه وترك ما هو أنفع منه له، كان ذلك حسرة عليه وغبناً"
(2)
.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 263).
(2)
عدة الصابرين، لابن القيم (14/ 7).
ثمرات الهمة العالية في طلب الآخرة:
أولاً: الرفعة وكمال اللذة:
من كانت هذه همته التي يعيش من أجلها فهو أرفع الناس قدراً، وأكملهم لذة؛ إذ "لذة كل أحد على حسب قدره وهمته، وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً مَنْ لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته في إقباله عليه، وعكوف همته عليه، ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى مَنْ لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال"
(1)
.
ثانيًا: صلاح القلب. ومن كانت همته عالية في طلب الآخرة صلح قلبه؛ فإنه متى ما " طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة أشرقت أرض القلب بنور ربها"
(2)
.
ثالثًا: الوصول إلى المُنى. فبالهمة العالية تسهل المشقات ويوصل إلى الغايات "فالكيِّسُ يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق؛ فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة، وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحبَ العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام والإحسان"
(3)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 150).
(2)
المرجع السابق (ص: 51).
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 142).
انتهازُ الفُرص
ليس للإنسان في دنياه غيرُ حياة واحدة، إذا ذهبت عنه فليس له فرصة أخرى لتعويضها، وما حياته إلا حظٌّ محدود، تنتهبه الأيام والليالي حتى يفنى، ويلقى بعدها جزاء ما قدم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: " ابنَ آدم، طأِ الأرضَ بقدمك؛ فإنها عن قليل تكون قبرك، ابنَ آدم، إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك، ابنَ آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك"
(1)
! وقال الحسن: " ابنَ آدم، إنك بين مطيتين يُوضعانِك
(2)
: الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يسلماك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم، خطراً"
(3)
.
فحريٌّ بالعاقل أن يبادر زمانه فيستغل فرَصه، ويغتنم أنفاسه، فيما ينفعه في آخرته، ويسعده عند لقاء ربه؛ فإنه قد جاء إلى هذه الدنيا لغاية واحدة هي عبادة الله تعالى وحده، فذاهبُ العقلِ من اتجه إلى غاية أخرى فشغل بها حياته، حتى ضيع الغاية التي خُلق لأجلها.
فـ: " واعجباً من موجود لا يفهم معنى الوجود، فإن فهم لم يعمل بمقتضى فهمه. يعلم أن العمر قصير، وهو يضيعه بالنوم والبطالة، والحديث الفارغ، وطلب اللذات، وإنما أيامه أيام عمل لا زمان فراغ"
(4)
.
(1)
الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 204).
(2)
يوضعانك: يسرعان بك. المعجم الوسيط (2/ 1039).
(3)
الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 204).
(4)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 316).
أمَا رأى متبعُ هواه الذي أشغلته نفسه في دنياه عن أخراه كم تمر به من العِبر، فما له فيها مزدجر! ولا دعته إلى تغيير حاله، واستغلال حياته في زاد ينفعه يوم مصيره.
أما رأى الموتَ يتخطف أقاربه وأصحابه ومعارفه من حوله، فهل كان عن ذلك المصرع في مأمن؟، أما رأى ناسًا شبابًا وشيبًا قد قيدتهم الأمراض بعد العافية، فأصبحت أجسامهم بالسقم كاسية، وعن الصحة عارية؟ أفلَه عن تلك الحال التي صاروا إليها ضمان يؤمّنه، أو عاصم يعصمه؟!
هيهات هيهات، ليس للمرء من ذلك مانع مهما كان صحيحًا، ومهما كان قويًا، ومهما كان لديه من أسباب العافية والسلامة، فالحياة الدنيا غير مأمونة من تقلب الأحوال، وتبدل الأطوار، وحصول الموانع، وتعذر العمل أو تعسره بهجوم القواطع؛ ولهذا حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المبادرة إلى العمل الصالح قبل حدوث ما يحول بين المرء وبينه؛ كالفتن والبلايا العظيمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمنًا، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)
(1)
. وقال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم أو أمر العامة)
(2)
(3)
.
بادرْ قبل ذهاب العمر:
إن عمر الإنسان في الدنيا قصير، وأمامه مصير خطير يفضي إلى حياة أبدية: إما إلى جنة وإما إلى نار، وإن هذه الحياة الدنيا فرصة للعمل الصالح، والاستعداد الناجح ليوم المعاد، فالموفَّق من تأمل في هذا فنزع عن نفسه ثوب الغفلة، وارتدى حلة اليقظة
(1)
رواه مسلم (1/ 110).
(2)
خاصة أحدكم الموت، وقال قتادة: أمر العامة: القيامة. شرح النووي على مسلم (18/ 87).
(3)
رواه مسلم (4/ 2267).
واقتناص كل فرصة، فراح يشغل عمره بالطاعة قبل الممات، ومبادرة خيرات الزمان قبل الفوات؛ وحُداؤه: اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
قال ابن الجوزي: من عجائب ما أرى من نفسي ومن الخلق كلهم: الميل إلى الغفلة عما في أيدينا، مع العلم بقصر العمر، وأن زيادة الثواب هناك بقدر العمل ههنا، فاحملْ نفسك على المُرِّ، واقمعها إذا أبت، ولا تسرح لها في الطول، فما أنت إلا في مرعى. وقبيح بمن كان بين الصفين أن يتشاغل بغير ما هو فيه"
(1)
.
وقال ابن القيم: "اشترِ نفسَك اليوم؛ فإن السوق قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك البضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير: وذلك يوم التغابن، ويوم يعض الظالم على يديه.
إِذا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزادٍ مِنْ التُّقَى
…
ولاقَيْتَ بعدَ الموتِ مَنْ قد تَزَوَّدا
نَدِمْتَ على أَنْ لا تكُونَ كمِثْلِهِ
…
وأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ لما كانَ أَرْصَدا"
(2)
.
" وقال بعض البلغاء: كل امرئ يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله، وتنطوي عليها صحيفة عمله، فخذْ من نفسك لنفسك، وقِسْ يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك، وزد في حسناتك قبل أن تستوفي مدة الأجل، وتقصر عن الزيادة في السعي والعمل"
(3)
.
"وجِد في حجر مكتوب: ابنَ آدم، لو أنك رأيت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجو من أملك، ولرغبت في الزيادة في عملك، ولقصرتَ من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غداً ندمك، وقد زلّتْ بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرأ منك
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 306).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 49).
(3)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 145).
القريب، وانصرف عنك الحبيب، فلا أنت إلى أهلك بعائد، ولا في علمك بزائد"
(1)
.
اغتنم ما أعطاك:
أيها المعافى، لا تركن إلى عافيتك فتلهو بها عن آخرتك، ظانًا أنها ستدوم عليك وحينها ستقبل على الطاعات وتترك المعاصي، ليس الأمر كما تظن؛ فإن العافية لا تستمر فالسقم ينتظرها، فإذا نزل بالمرء ربما ندم على تفريطه في زمن الصحة فيقول: يا ليتني أطعت، يا ليتني ما عصيت!
قال ابن الجوزي: "رأيت المعافى لا يعرف قدر العافية إلا في المرض، كما لا يعرف شكر الإطلاق إلا في الحبس"
(2)
.
فانتهزْ فرصة صحتك بالمسارعة إلى الخير، وتجنبِ الشر، وأبشر فإنك إذا كنت حال العافية على الطاعة فنزل بك المرض فمُنِعت عن تلك الطاعات المستحبة بسبب مرضك كُتب لك أجر ما كنت تعمل صحيحًا. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:(إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)
(3)
.
قال ابن حجر: " وهو في حق من كان يعمل طاعة فمنع منها وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها، كما ورد ذلك صريحًا عند أبي داود من طريق العوام بن حوشب بهذا الإسناد في رواية هشيم، وعنده في آخره: (كأصلح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)، ووقع أيضًا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: (إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقًا حتى أطلقه أو أكفته إلي)، أخرجه عبد الرزاق وأحمد وصححه الحاكم، ولأحمد من حديث أنس رفعه: " إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: اكتب له صالح عمله الذي كان
(1)
البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 469).
(2)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 294).
(3)
رواه البخاري (3/ 1092).
يعمله، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه)، ولرواية إبراهيم السكسكي عن أبي بردة متابع أخرجه الطبراني من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده بلفظ:(إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاقه) الحديث، وفي حديث عائشة عند النسائي:(ما من امرئ تكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم أو وجع إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة)
(1)
.
أيها الشاب، لا تغتر بشبابك، وتطل منه أملَك في مستقبل الأيام، معتقداً أن أمامك فرصة طويلة في الحياة ببقائك عليها، وزيادة عمرك فيها، ولا تصدق الشيطان وأعوانه من الإنس الذي يمنّونك بمستقبل طويل، ويدْعونك إلى التمتع بشبابك في مراتع الحرام؛ تركًا للطاعات، وإسرافًا على النفس بالغفلة والسيئات.
ويَعِدُونك أنك إذا امتد بك الزمان فستتفرغ للعبادة والنُّسك، بعد أن تريق ماء الشباب في اللذات والشهوات! فسبحان الله! كم استجاب لهذه الدعوة الشيطانية من شبان المسلمين وشاباتهم، فصاروا أُسراء اللهو والعبث، أرقّاء لرغبات النفس ومشتهياتها المحظورة. أفما علموا أن شمس الشباب إلى أفول، وزهرة العمر إلى ذبول، وأن بعد الشباب العجز والهرم، وصعوبةَ العمل، وعُسرَ زوال العادات السيئة التي قد طُبعت على صفحة الشباب، هذا إن امتد بالإنسان العمر. أما إذا بغت الموت، وفجأ الأجل فقد ذهبت الأماني وانطفأ الأمل، وانقطع العمل، فلا تنفع حينئذ الحسرات، ولا يجدي الندم ولا الآهات.
قال البخاري:
اغتنمْ في الفراغ فضلَ ركوع
…
فعسى أن يكون موتك بغتهْ
كم صحيحٍ رأيت من غير سقم
…
ذهبت نفسُه الصحيحة فَلتهْ
(2)
.
(1)
فتح الباري لابن حجر (9/ 196).
(2)
مقدمة فتح الباري (ص: 482).
وقال عون بن عبد الله: " ما أحد يُنزل الموتَ حق منزلته إلا عدَّ غداً ليس من أجله، كم من مستقبل يومًا لا يستكمله، وراجٍ غداً لا يبلغه، إنك لو ترى الأجل ومسيرَه، لأبغضت الأمل وغروره"
(1)
.
أما لو فكرتَ في أمنيات من سبقك إلى القبور من شُّبان اللهو والتقصير، وغادروا الحياة وهم في ريعان شبابهم إلى تلك الدور، هل تظن أنهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا لاستكمال شوط الشهوات، وإمتاع النفوس في ميدان الملذات، أم أنهم يتمنون العودة من أجل أن يعملوا صالحًا، ويعدلوا مسير طريقهم، بعد أن ذهبت سكرة لهوهم برؤية ما في قبورهم؟ فها أنت اليوم في أمنياتهم، فاعمل صالحًا قبل أن تتمنى مُناهم فلا تعطاها، وتندم نداماتهم فلا تنتفع بها.
فطوبى لشاب انتهز فرصة شبابه، واغتنم بواكير عمره في طاعة ربه، وتجهز لقواطع العمل قبل حلولها، فما أسعده بالاستظلال في ظل الله تعالى يوم القيامة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد
…
)
(2)
.
نصيحة ابن الجوزي:
وهذه نصائح يقدمها الإمام ابن الجوزي يحث فيها على اقتناص الفرص عمومًا، واغتنام مهلة الأيام بالمبادرة إلى عمل الصالحات، يقول رحمه الله: " فالبدارَ البدار يا أرباب الفهوم؛ فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى المستقر والقرب من السلطان ومجاورته، فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة، وبالغوا في استعمال الأدب؛ لتصلحوا للقرب من الحضرة، ولا يشغلكم عن تضمير الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (7/ 159).
(2)
رواه البخاري (1/ 234)، ومسلم (2/ 715).
تذكركم يوم السباق؛ فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا"
(1)
.
وقال أيضًا: " لله در قوم بادروا الأوقات، واستدركوا الهفوات، فالعين مشغولة بالدمع عن المحرمات، واللسان محبوس في سجن الصمت عن الهلكات، والكف قد كفّت بالخوف عن الشهوات، والقدم قد قُيدت بقيد المحاسبات، والليل لديهم يجأرون فيه بالأصوات، فإذا جاء النهار قطعوه بمقاطعة اللذات، فكم من شهوة ما بلغوها حتى الممات، فتيقظْ للحاقهم من هذه الرقدات، ولا تطمعن في الخلاص مع عدم الإخلاص في الطاعات، ولا تؤملن النجاة وأنت مقيم على الموبقات! {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21].
عجباً لأمنِك والحياةُ قصيرة
…
وبفقدِ إلفٍ لا تزال تُروّعُ
أفقد رضيتَ بأن تعلَّل بالمنى
…
وإلى المنية كلَّ يوم تُدفع
لا تخدعنّك بعد طول تجارب
…
دنيا تغرُّ بوصلها وستُقطع
أحلامُ نوم أو كظل زائل
…
إن اللبيب بمثلها لا يُخدع
وتزودنَّ ليوم فقرك دائبًا
…
ألغير نفسك لا أبالك تَجمع
لما علم الصالحون قصر العمر، وحثهم حادي:{وَسَارِعُوا} طووا مراحل الليل مع النهار انتهاباً للأوقات"
(2)
.
وقال أيضًا: " إخواني، بادروا آجالكم، وحاذروا آمالكم، أما لكم عبرة فيمن مضى أما لكم! ما هذا الغرور الذي قد أمالكم، ستتركون على رغم آمالِكم مالَكم.
إخواني، صدَّقتم الأمل فكذّبكم، وأطعتم الهوى فعذّبكم، أما أنذركم السقم بعد الصحة، والترحة بعد الفرحة، في كل يوم يموت من أشباحكم ما يكفي في نعي
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 234).
(2)
التبصرة، لابن الجوزي (1/ 43).
أرواحكم، ويحل بعقر داركم وفِنائكم ما يخبركم عن شتاتكم وفَنائكم، فخذوا حذركم قبل النوائب، فقد أُتيتم من كل جانب، وتذكروا سهر أهل النار في النار واحذروا فوت دار الأبرار، وتخوفوا يوم الفصل بين الفريقين أن يصيبكم من البَيْن البين"
(1)
وقال أيضًا: " فاللهَ الله، بادروا العمر اليسير، والأجل القصير، قبل نزول ملك الموت بالهول العظيم الكبير؛ فالموت يقصم الأصلاب، ويقطع الرقاب، ويرد كل مخلوق إلى التراب، ويقرب المؤمن الطائع إلى جنة المآب، ويسوق الفاجر العاصي إلى أليم العذاب، فتفكروا في الموت يا أهل الفناء والذهاب"
(2)
.
وقال أيضًا: " فاللهَ الله في مواسم العمر، والبدار قبل الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكأنْ قد حدا الحادي فلم يفهم صوته إلا من وقّع بدمع الندم"
(3)
.
وقال أيضًا: " طوبى لمن بادر عُمره القصير، فعمَّر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير، قبل فوات القدرة وإعراض النصير، قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأَعمال سبعاً؛ هل تنتظرون إِلّا فقراً مُنسياً؟ أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو موتاً مجهزاً، أو هرماً مُفنداً
(4)
، أو الدجال، فشرُّ غائب يُنتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر)
(5)
. كان الحسن يقول: عجبت لأقوام أُمروا بالزاد، ونُودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون، وكان يقول: يا بن آدم، السكين تُشحذ، والتنور يسجر، والكبش يعتلف!! وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا منها في أوان كسادها؛
(1)
المدهش، لابن الجوزي (ص: 285).
(2)
بستان الواعظين ورياض السامعين، لابن الجوزي (ص: 145).
(3)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 105).
(4)
مفندا: أي موقعاً في الكلام المحرّف عن سنن الصحة من الخرف والهذيان. التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوي (1/ 875).
(5)
رواه الترمذي (4/ 552)، والحاكم (4/ 356)، وهو ضعيف.
فإِنه لو جاء وقت نَفاقها لم تصلوا فيها إِلى قليل ولا كثير"
(1)
.
وقال ابن الجوزي أيضًا: " يا نفس، بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور وقد تشققت، وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أَطرقت، يا نفس، أما الورعون فقد حذروا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد راحوا، وأما الواعظون فقد صاحوا. يا نفس، اتعبي قليلاً تستريحي في الفردوس كثيراً، كأنك بالتعب قد انقضى، وبحرصك من اللعب قد مضى، وثمر الصبر قد أثمر حلاوة الرضا، لا يطمعن البطّال في إدراك الأبطال، هيهات أن يدرك البطلَ المجتهدَ، مَنْ غاب حين النزال فما شهِد .. أيها العبد، إن عزمت فبادر، وإن هممت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المَفاخر، من كان في الصف الآخر، سلع المجد كاسدة، وكأنْ قد غلت، ومراعي الفضل قريبة، وكأن قد علت، وكأنك بغايات الغفلات قد انجلت، فأصبحت حلاوة البطالة من أفواه الغافلين قد رحلت، وأصبحت رايات المجاهدين قد حلت، وتفاوت في السباق مضمار وبطين، كما تفاوت في الإحراق ماء وطين:
لا تَحسَبِ المجدَ تَمراً أَنْتَ آكِلُهُ
…
لا تَبلُغ المجدَ حَتى تَلعَق الصَبرا"
(2)
.
(1)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 3).
(2)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 9).
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
الفقر والحاجة، والضعف والعجز، والجهل والنقص، صفات ملازمة للإنسان، وأعداؤه المتربصون به- من نفسه وهواه، وفتن عيشه ودنياه، وشياطين الإنس والجن- لا يكفون عن إرادة إيقاعه في الضر، ومطالب الدين والدنيا كثيرة، والعوائق في طريق تحقيق كل ما يرغب الإنسان من ذلك غير قليلة.
ومع ذلك لا يسلم المرء من أنواع البلايا، وصنوف المحن والرزايا، وتعدد المكاره والمزعجات.
والإنسان في هذا الظرف الشائك الذي يعيش فيه يحتاج إلى يد منقذ رؤوف، وعطفة معين قادر قوي غني، يستطيع دائمًا أن يعطيه ما طلبه، ويعيذه مما يخافه، وليس ذلك إلا الله تعالى الذي بيده كل شيء تبارك وتعالى، فإنْ تركه بين أشداق هذه المهالك وحده فأنَّى له النجاة؟!
قال ابن القيم: "كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا يُنصفه، وعدوٌّ لا ينام عن معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزيِّنة، وهوى مُردٍ، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزِّين، وضعف مستولٍ عليه؟! فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة"
(1)
.
وقال أيضًا: ماذا يملك مَنْ أمرُه وناصيته ونفسه بيد الله، وقلبه بين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، وحياته بيده، وموته بيده، وسعادته بيده، وشقاوته بيده،
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 48).
وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله بإذنه ومشيئته، فلا يتحرك إلا بإذنه ولا يفعل إلا بمشيئته، إن وكله إلى نفسه وكله إلى عجز وضيعة، وتفريط وذنب وخطيئة، وإن وكله إلى غيره وكله إلى من لا يملك له ضراً ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشوراً، وإن تخلى عنه استولى عليه عدوه، وجعله أسيراً له، فهو لا غنى له عنه طرفة عين، بل هو مضطر إليه على مدى الأنفاس، في كل ذرة من ذراته باطنًا وظاهراً، فاقتُه تامة إليه"
(1)
.
ولذلك فتح الله تعالى برحمته للإنسان بابَ الدعاء؛ حتى يصل به إلى ما يرغب، ويأمن به مما يرهب.
فأمر سبحانه وتعالى بالدعاء ووعد بالإجابة، وبين أنه قريب من عباده، فما عليهم إلا أن يسألوه ويستعطوه. قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. قال ابن كثير: "هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة؛ كما كان سفيان الثوري يقول: يا مَنْ أَحبُّ عباده إليه مَنْ سأله فأكثرَ سؤاله، ويا مَنْ أبغضُ عباده إليه مَنْ لم يسأله، وليس أحد كذلك غيرك يا رب"
(2)
.
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. "يعني تعالى ذكره بذلك: وإذا سَألك يا محمد، عبادي عَني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم"
(3)
.
فضل الدعاء:
إن للدعاء مكانة عظيمة، ومنزلة سامية، وفضلاً كبيراً، ويدل على ذلك:
(1)
المرجع السابق (ص: 56).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 104).
(3)
تفسير الطبري (3/ 480).
أولاً: أن الدعاء عبادة من أعظم العبادات، فهو مع كونه طريقًا لنيل المصالح العاجلة والآجلة عبادة جليلة يؤجر عليها المسلم؛ لأن فيه تضرعًا وإظهاراً للعبودية لله وحده
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل العبادة هو الدعاء وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
(2)
.
فقوله: (الدعاء هو العبادة)"أي: هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة؛ لدلالته على الإقبال على الله والإعراض عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه، قائمًا بوجوب العبودية، معترفًا بحق الربوبية، عالمًا بنعمة الإيجاد، طالبًا لمدد الإمداد على وفق المراد"
(3)
.
وقيل: "معناه: أن الدعاء معظم العبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، أي: معظم أركان الحج الوقوف بعرفة، أو المعنى: أن الدعاء هو العبادة سواء استجيب أو لم يستجب؛ لأنه إظهار العبد العجزَ والاحتياجَ من نفسه والاعترافَ بأن الله تعالى قادر على إجابته، كريم لا بخل له ولا فقر ولا احتياج له إلى شيء، حتى يدخر لنفسه ويمنعه من عباده، وهذه الأشياء هي العبادة بل مخها"
(4)
.
(1)
رواه أبو داود (1/ 551)، وابن ماجه (2/ 1258)، والترمذي (5/ 211)، والنسائي، سنن النسائي الكبرى (6/ 450)، وهو صحيح.
(2)
رواه الحاكم (1/ 667)، وهو صحيح.
(3)
عون المعبود، للعظيم آبادي (4/ 247).
(4)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (9/ 220).
وقال الرازي: "فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعاً لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات"
(1)
.
وقال أيضًا تحت الآية السابقة: من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، فلذلك كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(2)
.
وقال ابن عبد البر: الدعاء من العبادة؛ لأن فيه الإخلاص والضراعة والإيمان والخضوع، والله يحب أن يُسأل؛ ولذلك أمر عباده أن يسألوه من فضله
(3)
.
وقال ابن رجب: " واعلم أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خلقه هوَ المتعين؛ لأنَّ السؤال فيهِ إظهار الذلِّ من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسؤول على دفع هذا الضَّرر، ونيل المطلوب، وجلبِ المنافع، ودرء المضارِّ، ولا يصلح الذلُّ والافتقار إلاَّ لله وحدَه؛ لأنَّه حقيقة العبادة"
(4)
.
وقال ابن القيم: " أمرَه بسؤاله والطلبِ منه؛ إظهاراً لمرتبة العبودية والفقر والحاجة، واعترافًا بعز الربوبية وكمال غنى الرب، وتفرده بالفضل والإحسان، وأن العبد لا غنى له عن فضله طرفة عين، فيأتي بالطلب والسؤال إتيان من يعلم أنه لا يستحق بطلبه وسؤاله شيئًا، ولكن ربه تعالى يحب أن يسأل ويرغب إليه ويطلب منه
…
والله سبحانه وتعالى يحب تذلل عبيده بين يديه وسؤالهم إياه وطلبهم حوائجهم منه، وشكواهم إليه وعياذهم به منه، وفرارهم منه إليه"
(5)
.
(1)
تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (14/ 105).
(2)
المرجع السابق (27/ 70).
(3)
التمهيد، لابن عبد البر (12/ 186).
(4)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (21/ 25).
(5)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 102).
وقال السندي: " الدعاء من وظائف العبودية، بل أعلاها -مخ العبادة- ومن يعلم أن حقيقة العبادة إظهار التذلل والافتقار والاستكانة والدعاء في ذلك في الغاية القصوى؛ يظهر له سر كون الدعاء مخ العبادة"
(1)
.
ثانيًا: أن للدعاء عند الله تعالى رتبة عالية، ويدل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)
(2)
. وذلك" لدلالته على قدرة الله وعجز الداعي، ولأنه سبب لنيل الحظوظ التي جعلت لنا في الغيب؛ ولذلك صار للدعاء من السلطان ما يرد القضاء"
(3)
.
ثالثًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالإكثار منه، ولا يأمر بالإكثار من شيء إلا لفضله ونفاسته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا سأل أحدكم فليكثر؛ فإنه يسأل ربه)
(4)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها) قالوا: إذا نكثر، قال:(الله أكثر)
(5)
.
قال المباركفوري: " (نكثر) أي: من الدعاء لعظيم فوائده (قال) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم (الله أكثر) قال الطيبي: أي: الله أكثر إجابة من دعائكم، وقيل إن معناه: فضل الله أكثر أي: ما يعطيه من فضله وسعة كرمه أكثر مما يعطيكم في مقابلة دعائكم، وقيل: الله أغلب في الكثرة فلا تعجزونه في الاستكثار؛ فإن خزائنه لا تنفد، وعطاياه لا
(1)
حاشية السندي على ابن ماجه (7/ 213).
(2)
رواه الترمذي (5/ 455)، وهو حسن.
(3)
التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوي (2/ 628).
(4)
رواه ابن حبان (3/ 172) بسند صحيح.
(5)
رواه أحمد (17/ 213)، والترمذي (5/ 566)، وهو صحيح.
تفنى، وقيل: الله أكثر ثواباً وعطاء مما في نفوسكم فأكثروا ما شئتم؛ فإنه تعالى يقابل أدعيتكم بما هو أكثر منها وأجل"
(1)
.
رابعًا: أنه سلاح يقاوم به البلاء، فيرفعه إن كان موجوداً، ويدفعه إن كان غير موجود
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عبادَ الله بالدعاء)
(2)
.
فـ" (الدعاء ينفع مما نزل) أي: من بلاء نزل بالرفع إن كان معلقًا، وبالصبر إن كان محكمًا فيسهل عليه تحمل ما نزل به فيصبره عليه أو يرضيه به حتى لا يكون في نزوله متمنيًا خلاف ما كان، بل يتلذذ بالبلاء كما يتلذذ أهل الدنيا بالنعماء، (ومما لم ينزل) أي: بأن يصرفه عنه ويدفعه منه أو يمده قبل النزول بتأييد من يخف معه أعباء ذلك إذا نزل به"
(3)
. وقد قيل: "الدعاء كالتُرس والبلاء كالسهم، والقضاء أمر مبهم مقدَّر في الأزل"
(4)
.
قال ابن القيم: " والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء؛ يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن"
(5)
.
آداب الدعاء:
الدعاء عبادة من العبادات التي ينبغي معرفة آدابها وأحكامها؛ حتى يظفر المسلم بأجرها، ويحصل على أثرها من الإجابة وغيرها. فربما يدعو بعض الناس دعاء كثيراً ولم تحصل له الإجابة، وقد يكون من أسباب عدم حصول المراد: وجود مانع من موانع إجابة
(1)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (10/ 18).
(2)
رواه الترمذي (5/ 552)، والحاكم (1/ 669)، وهو حسن
(3)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (9/ 374).
(4)
المرجع السابق (6/ 289).
(5)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 4).
الدعاء والداعي لا يشعر بذلك. " فـ"الأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تاماً لا آفة به، والساعد ساعد قوي والمانع مفقود؛ حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير؛ فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء أو كان ثَم مانع من الإجابة لم يحصل الأثر"
(1)
.
ومن تتبع القرآن العظيم وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وجد للدعاء آدابًا منها الواجب ومنها المستحب، فمن تلك الآداب:
أولاً: أن يتوجه العبد بدعائه إلى ربه لا إلى غيره، فيدعوه طمعًا في الثواب وحصول الخير، وخوفًا من العقاب واستمرار الشر أو نزوله، قال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
ثانيًا: إخفاء الدعاء وخفض الصوت به، قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
قال الحسن البصري: "ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} "
(2)
.
ثالثًا: اختيار جوامع الدعاء، التي تشتمل على خيري الدنيا والآخرة، ومن أمثلتها من القرآن قوله تعالى:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي- وله حاجة، فأبطأت عليه- قال: (يا عائشة، عليك بجمَل الدعاء،
(1)
المرجع السابق (ص: 8).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 270).
وجوامعه). فلما انصرفت، قلت: يا رسول الله، وما جُمل الدعاء وجوامعه؟ قال:(قولي: اللهم إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمت وما لم أعلم. وأسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك مما سألك به محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك مما تعوذ منه محمد صلى الله عليه وسلم، وما قضيت لي من قضاء فاجعل عاقتبه رشداً)
(1)
.
وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبُ الجوامعَ من الدعاء، ويَدعُ ما سوى ذلك)
(2)
.
رابعًا: الإلحاح على الله تعالى، والاستمرار في الدعاء، " فما دام العبدُ يُلحُّ في الدُّعاء، ويَطمعُ في الإجابة من غير قطع الرّجاء، فهو قريبٌ من الإجابة، ومَنْ أَدمن قرعَ الباب يُوشك أنْ يُفتح له"
(3)
.
خامسًا: تقديم أهمِّ الدعوات على غيرها؛ كالدعاء بالإعانة على مرضاة الله، ومغفرة الذنوب، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار، ودخول الجنة، قال ابن رجب:"ومن أهمِّ ما يسألُ العبد ربَّه مغفرةُ ذنوبه، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار، ودخول الجنة، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (حولَها نُدنْدِن) يعني: حول سؤال الجنة والنجاة من النار. وقال أبو مسلم الخَولاني: ما عَرَضت لي دعوةٌ فذكرتُ النار إلا صرفتُها إلى الاستعاذة منها"
(4)
.
وقال ابن القيم: " من أفضل ما يُسأل الربُّ تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته وهو
(1)
رواه ابن ماجه (2/ 1216)، والبخاري في الأدب المفرد (ص: 222)، وهو صحيح.
(2)
رواه أبو داود (1/ 552)، وهو صحيح.
(3)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (44/ 5).
(4)
المرجع السابق.
الذي علمه النبي لحِبِّه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: (يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب. وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده وعلى تكميله وتيسير أسبابه فتأملها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] "
(1)
.
سادسًا: القيام بطاعة الله وترك معاصيه، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
ففي الآية "توجيه منه سبحانه إلى ما يجعل الدعاء مرجو القبول والإِجابة، والمعنى: لقد وعدتكم يا عبادي، بأن أجيب دعاءكم إذا دعوتموني، وعليكم أنتم أن تستجيبوا لأمري، وأن تقفوا عند حدودي، وأن تثبتوا على إيمانكم بي؛ لعلكم بذلك تصلون إلى ما فيه رشدكم وسعادتكم في الحياتين العاجلة والآجلة. وأمرهم سبحانه بالإِيمان بعد الأمر بالاستجابة؛ لأنه أول مراتب الدعوة، وأولى الطاعات بالاستجابة"
(2)
.
قال وهب بن منبه: " الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر"
(3)
.
سابعًا: عدم الاعتداء في الدعاء، قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
والمعنى: "إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حدَّه الذي حدَّه لعباده في دعائه ومسألته ربَّه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حدَّ لهم في دعائهم إياه، ومسألتهم، وفي غير
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 78).
(2)
الوسيط لسيد طنطاوي (ص: 309).
(3)
شعب الإيمان، للبيهقي (2/ 53).
ذلك من الأمور"
(1)
.
وعن أبي نَعامة: أن عبد الله بن مغفَّل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتُها! فقال: أي بُنَيَّ، سلِ الله الجنة، وتعوذ به من النار؛ فإني. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطُّهور والدعاء)
(2)
.
والاعتداء في الدعاء له صور:
قال ابن حجر: "والاعتداء في الدعاء يقع بزيادة الرفع-يعني: رفع الصوت- فوق الحاجة، أو بطلب ما يستحيل حصوله شرعًا، أو بطلب معصية، أو يدعو بما لم يؤثر، خصوصًا ما وردت كراهته كالسجع المتكلف، وترك المأمور"
(3)
.
وقال أحمد بن عبد الحليم: " فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات. وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية: من الحاجة إلى الطعام والشراب. ويسأله بأن يطلعه على غيبه، أو أن يجعله من المعصومين، أو يهب له ولداً من غير زوجة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله. وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضًا في الدعاء"
(4)
.
وقال الشوكاني: " ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا، أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو بطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة، أو
(1)
تفسير الطبري (12/ 486).
(2)
رواه أبو داود (1/ 36)، وابن ماجه (2/ 1271)، وهو صحيح.
(3)
فتح الباري لابن حجر (13/ 55).
(4)
مجموع الفتاوى (15/ 22).
يرفع صوته بالدعاء صارخًا به"
(1)
.
ثامنًا: عدم الاستعجال للإجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل) قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال:(يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي! فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)
(2)
.
والله تعالى يختار لعبده المؤمن ما هو خير؛ فقد يؤخر عنه الإجابة لحِكَم يرى بها أن تعجيل الإجابة ليس خيراً لعبده، فما عليه إلا تكرار الدعاء وعدم الاستحسار.
قال ابن الجوزي: "ينبغي لمن وقع في شدة ثم دعا ألا يختلج في قلبه أمر من تأخير الإجابة أو عدمها؛ لأن الذي عليه أن يدعو، والمدعو مالك حكيم، فإن لم يجب فعَلَ ما يشاء في ملكه، وإن أخر فَعلَ بمقتضى حكمته. فالمعترض عليه في سرِّه خارج عن صفة عبد، مزاحم لمرتبة مستحق، ثم ليعلم أن اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه
…
فإذا سلم العبد تحكيماً لحكمته وحُكمه، وأيقن أن الكل ملكُه؛ طاب قلبه، قضيت حاجته أو لم تقض. وفي الحديث:(ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه؛ فإما أن يعجلها، وإما أن يؤخرها، و إما أن يدخرها له في الآخرة) فإذا رأى يوم القيامة أن ما أُجيب فيه قد ذهب، وما لم يُجب فيه قد بقي ثوابه، قال: ليتك لم تُجب لي دعوة قط. فافهم هذه الأشياء وسلّم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال"
(3)
.
وقال أيضًا: "من العجب إلحاحُك في طلب أغراضك، وكلما زاد تعويقها زاد إلحاحك، وتنسى أنها قد تُمنع لأحد أمرين؛ إما لمصلحتك؛ فرب معجّل آذى، وإما لذنوبك؛ فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة، فنظِّفْ طرق الإجابة من أوساخ
(1)
فتح القدير، للشوكاني (2/ 310).
(2)
رواه مسلم (4/ 2095).
(3)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 115).
المعاصي، وانظر فيما تطلبه هل هو لإصلاح دينك، أو لمجرد هواك؟ فإن كان للهوى المجرد فاعلم أن من اللطف بك والرحمة لك تعويقه، وأنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه فيمنع رفقاً به، وإن كان لصلاح دينك فربما كانت المصلحة تأخيره، أو كان صلاح الدين بعدمه، وفي الجملة تدبير الحق عز وجل لك خير من تدبيرك. وقد يمنعك ما تهوى ابتلاء ليبلو صبرك، فأرِه الصبر الجميل ترَ عن قربٍ ما يُسرُّ. ومتى نظفت طرق الإجابة من أدران الذنوب، وصبرت على ما يقضيه لك، فكل ما يجري أصلح لك؛ عطاء كان أو منعاً"
(1)
.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: "لا تستبطئن الإجابة إذا دعوت وقد سددتَ طرقها بالذنوب"
(2)
.
"ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء: أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرسًا فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله"
(3)
.
فـ"لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَد العَطاء مَعَ الإلْحاح في الدّعَاءِ موجبَاً ليأسِك؛ فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ، لا فيما تختاره لنَفْسكَ، وفي الوقْتِ الذي يريدُ لا في الوقْت الذي تُريد"
(4)
.
تاسعًا: البعد عن أكل الحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 143).
(2)
شعب الإيمان، للبيهقي (2/ 54).
(3)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 5).
(4)
شرح الحكم العطائية (ص: 19).
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمة حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام وغذِّي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟)
(1)
.
عاشراً: الدعاء بقلب حاضر، غيرِ لاهٍ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه)
(2)
.
ولابن القيم رحمه الله كلام جامع في آداب الدعاء حيث يقول: " وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعًا في القلب وانكساراً بين يدي الرب، وذلّاً له وتضرعًا ورقِّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنّى بالصلاة على محمد عبده، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألحّ عليه في المسألة، وتملّقه ودعاه رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرد أبداً، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم"
(3)
.
من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أنس قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم ربنا آتنا في الدنيا
(1)
رواه مسلم (2/ 703).
(2)
رواه الترمذي (5/ 517)، والحاكم (1/ 670)،، وهو حسن.
(3)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 5).
حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)
(1)
.
وقوله: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى)
(2)
.
وقوله: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي)
(3)
.
وقوله: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)
(4)
.
وقوله: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ)
(5)
.
من الأدعية الصالحة:
عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن تأخذني على غِرّة، أو تذرني في غفلة، أو تجعلني من الغافلين
(6)
.
قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتُك وسعت كل شيء وأنا شيء فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنك خلقتَ قومًا فأطاعوك فيما أمرتهم، وعملوا في الذي خلقتهم له فرحمتك إياهم كانت قبل طاعتهم لك يا أرحم الراحمين
(7)
.
يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يؤاخِذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا
(1)
رواه البخاري (5/ 2347).
(2)
رواه مسلم (4/ 2087).
(3)
رواه مسلم (4/ 2073).
(4)
رواه مسلم (4/ 2045).
(5)
رواه مسلم (4/ 2087).
(6)
مصنف ابن أبي شيبة (6/ 66).
(7)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (5/ 299).
عظيم العفو، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، يا كريم الصفح، يا عظيم المنِّ، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها، يا ربنا ويا سيدنا ويا مولانا ويا غاية رغبتنا أسألك يا الله ..
(1)
.
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بابك، وأسالك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمتك شعاري ودثاري، والنظر في ملكوتك دأبي وديدني، والانقياد لك شأني وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري
(2)
.
من أدعية الأعراب:
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك، أو أذل في عزك، أو أُضام في سلطانك، أو أُضطهد والأمر لك
(3)
.
قال الأصمعي: سمعت أعرابيًا يدعو الله وهو يقول: هربت إليك بنفسي -يا ملجأ الهاربين- بأثقال الذنوب أحملها على ظهري، لا أجد شافعًا إليك إلا معرفتي بأنك أكرم من قصد إليه المضطرون، وأمَّل فيما لديه الراغبون، يا من فتق العقول بمعرفته، وأطلق الألسن بحمده، وجعل ما امتن به من ذلك على خلقه كِفاء لتأدية حقه، لا تجعل للهوى على عقلي سبيلا، ولا للباطل على عملي دليلا
(4)
.
وعن بعضِ الأعراب أنه تعلَّقَ بأستار الكعبة وهو يقول: اللَّهمّ إن استغفاري مع
(1)
المستدرك، للحاكم (1/ 729).
(2)
البصائر والذخائر، لأبي حيان التوحيدي (6/ 5).
(3)
البصائر والذخائر، لأبي حيان التوحيدي (5/ 138).
(4)
الأمالي في لغة العرب، للقالي (1/ 12).
إصراري للؤم، وإن تركي الاستغفارَ مع علمي بسَعَة عفوك لعجز، فكم تَتَحَبَّبُ إليّ بالنعم مع غِناكَ عني، وأَتَبَغَّضُ إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا مَنْ إذا وَعدَ وَفَّى، وإذا توعَّدَ تجاوز وعفا، أدخِلْ عظيمَ جُرمي في عظيم عفوكَ يا أرحم الراحمين
(1)
.
ودعا أعرابي فقال: اللهم ارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف
(2)
.
ودعا أعرابيٌّ في الكعبة فقال: اللهمّ إني أسألك الخوف منك حين يأمنك من لا يعرفك، وأسألك الأمن منك حين يخافك من يغترّ بك
(3)
.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يدعو ويقول: اللهمّ إنّ ذنوبي تخّوفني منك، وجودك يبشرني عنك، فأخرجني بالخوف من الخطايا، وأوصلني بجودك إلى العطايا، حتى أكون غداّ في القيامة عتيق كرمك، كما أنا في الدّنيا ربيب نعمك
(4)
.
وكان بعضهم يقول في دعائه: اللهم أعني على ديني بدنيا، وأعني على آخرتي بتقوى"
(5)
.
ووقفت أعرابية على قبر أبيها فقالت: يا أبت، إن في الله تعالى عوضاً عن فقدك، وفي رسول الله أسوة في مصيبتك، ثم قالت: اللهم نزل بك عبدُك خالياً مقفراً من الزاد، مخشوشن المهاد، غنياً عما في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يدك يا جواد، وأنت -أي ربّ-
(1)
الأذكار للإمام النووي (2/ 15).
(2)
البصائر والذخائر، لأبي حيان التوحيدي (5/ 204).
(3)
المرجع السابق (8/ 34).
(4)
المرجع السابق (8/ 89).
(5)
نثر الدر، للآبي (6/ 51).
خير من نزل به المرمِلون
(1)
، واستغنى بفضله المقلِّون، وولج في سعة رحمته المذنبون، اللهم فليكن قِرى عبدك منك رحمتَك، ومهاده جنتك
(2)
.
(1)
المرملون: الفقراء. المعجم الوسيط (1/ 374).
(2)
الكشكول، للعاملي (1/ 56).
عبادةُ الصَّبْر على البلاء
إن الحياة الدنيا ليست دار راحة تامة، لا تكدرها الآلام، ولا تطرأ عليها المصائبُ والأحزان، ولا تعكر أجواءَ سعاداتها الغموم والكربات، بل هي دار مشوبة بذلك، وخُلق الإنسانُ إليها وقَدُره عليها كذلك، ولا راحة تامة له إلا إذا استقر في الجنة إن آمن وعمل صالحًا. قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]. أي: " في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، يُكابد مشاق التعلُّم، ثم مشاق القيام بأمور الدين، وأمور معاشه، وهموم دنياه وآخرته، ثم يكابد نزع روحه، ثم سؤاله في قبره، ثم تعب حشره، ومقاساة شدائد حسابه، ثم مروره على الصراط، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة"
(1)
.
فعلى الإنسان أن يوطِّن نفسه على أن لا يجد زمانَ الدنيا كلَّه سروراً لا كدر فيه، فالحياة يومان: يوم سرور، ويوم شرور، ويوم أفراح، ويوم أتراح. فمن روّض نفسه على هذه الحقيقة هانت عليه مصائب الدنيا.
قال النمر بن تولب:
فيومٌ علينا ويومٌ لنا
…
و يومٌ نُساءُ ويوم نُسَرْ
(2)
.
بل إن المؤمن يعاني في الدنيا من المشاق أكثر من غيره؛ فعن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه
(1)
البحر المديد، لابن عجيبة (8/ 468).
(2)
زهر الأكم في الأمثال والحكم، لليوسي (ص: 317).
رِقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)
(1)
.
فطريق الجنة محفوف بالمكروهات، مليء بالمشقات، وتلك الدار الكريمة غالية ثمينة، والغالي لا ينال إلا ببذل الغالي، واستسهال النَّصَب في طريقه. قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حُفّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)
(2)
. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)
(3)
.
لا تَحسَبِ المجدَ تَمراً أَنْتَ آكِلُهُ
…
لا تَبلُغ المجدَ حَتى تَلعَق الصَبرا
(4)
.
غاية البلاء:
وليس هذا البلاء للمؤمن إلا لاختبار إيمانه، وتخليصه من الضعف، وتكفير سيئاته، ورفع درجاته، وتصفية صف الإيمان من أدعيائه؛ ولما ينتظر المؤمنَ عند الله تعالى من حسن الجزاء الذي لا يُنال إلا بركوب مطية العناء والتعب، والتقلل من الراحة والدعة؛ ولن يبلغ إلى ذلك إلا بالصبر والمصابرة، والجد والمجاهدة. قال تعالى:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 140، 141]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل
(1)
رواه الترمذي (4/ 601)، وابن ماجه (2/ 1334)، وأحمد (3/ 159)، وهو صحيح.
(2)
رواه البخاري (5/ 2379)، ومسلم (4/ 2174).
(3)
رواه الترمذي (4/ 633)، والحاكم (4/ 343)، وهو صحيح.
(4)
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (2/ 73).
ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلِّغه إياها)
(1)
. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمنَ من نصب ولا وصب، ولا همٍّ ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)
(2)
.
ومن سلك طريق الصبر سيجده معموراً بخطوات السالكين المؤمنين قبله؛ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ فكم صبر نوح، وصبر إبراهيم، وصبر يعقوب، وصبر يوسف، وصبر موسى، وصبر أيوب، وصبر محمد، عليهم الصلاة والسلام جميعًا! وكم صبر أتباعهم الصادقون، وقدموا من التضحيات، وفارقتهم أيامُ السرور الدنيوي وأفراحها الظاهرة.
قال ابن القيم-مخاطبًا ضعيف العزم على طريق الحق-: " أين أنت، والطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقرَ وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم وتريده أنت باللهو واللعب؟!.
فيا دارَها بالحَزْنِ إن مزارها
…
قريبٌ، ولكنْ دون ذلك أهوالُ"
(3)
.
ويقول تعالى عن صبر أتباع الأنبياء الذي آمنوا بهم وصبروا على البلاء في سبيل الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
فدرب الحق درب شاق يحتاج إلى عزيمة وثبات، وجَلَد وتصبر؛ ولهذا أمر الله تعالى
(1)
رواه ابن حبان (7/ 169)، وأبو يعلى (10/ 482)، وهو صحيح.
(2)
رواه البخاري (5/ 2137)، ومسلم (4/ 1991).
(3)
الفوائد، لابن القيم لابن القيم (ص: 41).
رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة من القرآن بالصبر؛ فقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، وقال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وأمر به تعالى كذلك عمومَ المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. "قال الحسن البصري رحمه الله: أُمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يَدَعوه لسراء ولا لضراء، ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء"
(1)
. وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
ولما كان الأمر كما سبق فإن المكاره لا تزال نازلة على المؤمن في نفسه أو ماله أو أهله أو أحبابه؛ فقد يمرض أو يُجرح، أو يؤذى أو يقهر، أو يتسلط عليه أهل الباطل، وقد يهم ويحزن، ويفتقر ويُجتاح ماله، ويسقم أو يموت بعض أهله وأقاربه وأحبابه، أو قد يُفرَّق بينه وبينهم. غير أن المؤمن القوي عندما تنزل به هذه المصائب فإنه يواجهها بالصبر والرضا، حتى ينقلب ألم المصيبة إلى فرحة، وكُرْهها إلى محبة، والضيق بها إلى سعة؛ لأنه يوقن أنها فعل الودود الرحيم العليم الحكيم، وأن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، وأن المضرات أبواب المسرات، والمواجع مصاعد الارتقاء إلى العلياء، وأن طلائع الشقاء من أول لمحة هي مفاتيح السعادة إذا وصلت وصادفت قلباً راضيًا، وأن ما أصابه أمارة محبة من الحبيب سبحانه وتعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)
(2)
. يعني: يبتليهم: "بأنواع
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 546).
(2)
رواه الترمذي (4/ 601)، وابن ماجه (2/ 1338)، وهو حسن.
البلايا؛ حتى يمحصهم من الذنوب، ويفرغ قلوبهم من الشغل بالدنيا؛ غيرةً منه عليهم أن يقعوا فيما يضرهم في الآخرة، وجميع ما يبتليهم به من ضنك المعيشة، وكدر الدنيا، وتسليط أهلها؛ ليشهد صدقهم معه، وصبرهم في المجاهدة، قال:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] "
(1)
.
قال لقمان لابنه: "يا بني، الذهب والفضة يختبران بالنار، والمؤمن يختبر بالبلاء"
(2)
.
الصبر عبادة:
إن صبر المسلم على المكاره عبادة من أجلِّ العبادات، وقُربة من أعظم القربات، بل إن الدِّين مبني على الصبر والشكر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)
(3)
.
وعن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه قال: "الصّبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كلّه"
(4)
.
والصبر على الشدائد والمصائب وإن كان شديداً على النفس إلا أن المؤمن يجاهد نفسه عليه حتى يصير خلقًا من أخلاقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ومن يتصبر يصبره الله)
(5)
. " (ومن يتصبر) أي: يستعمل الصبر (يصبره الله) أي: يقوِّه ويمكنه من نفسه حيث تنقاد له وتذعن، لتحمل الشدائد، وعند ذلك يكون الله معه فيظفره بمطلوبه، ويوصله إلى مرغوبه"
(6)
.
(1)
فيض القدير، للمناوي (1/ 246).
(2)
فيض القدير، للمناوي (2/ 459).
(3)
رواه مسلم (4/ 2295).
(4)
الزهد، لوكيع (1/ 227).
(5)
رواه البخاري (2/ 534)، ومسلم (2/ 729).
(6)
الديباج على مسلم، للسيوطي (3/ 135).
قال الشاعر:
صَبَرْتُ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى تَوَلَّتِ
…
وَأَلْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتِ
وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى
…
فَإِنْ طَمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتِ
(1)
.
ثمرة الصبر:
فإذا رُزق الإنسان الصبرَ بعد مجاهدة نفسه عليه أضاء له صبرُه طريقَ النجاة في ظلمات الكريهات، وعرف كيف يتعامل التعامل الصحيح مع نوازل المصيبات، وهذه نعمة من أجل النعم التي يعطيها الله تعالى للعبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والصبر ضياء)
(2)
. " أي: لا يزال صاحبه مستضيئًا مستهديًا مستمراً على فعل الصواب"
(3)
. فيكون له به " نور قوي تنكشف به الكربات، وتنزاح غياهب الظلمات، فمن صبر على مكروه أصابه؛ علماً بأنه من قضاء الله؛ هان عليه"
(4)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما أُعطي أحد عطاء خيراً، وأوسع من الصبر)
(5)
. " وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات؛ ولذا قُدِّم على الصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] "
(6)
.
وحين تدلهم الخطوب، وتنزل بساحة المرء الكروب، فيتلقاها بالصبر بعد أن راضَ نفسه عليه، يصير الصبر واقعًا، وليس شعاراً تردده اللسان، أو تخطه البنان؛ إذ قد يصبر
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 21).
(2)
رواه مسلم (1/ 203).
(3)
الديباج على مسلم، للسيوطي (2/ 11).
(4)
التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوي (2/ 241).
(5)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 143).
(6)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 143).
على البلايا جاهلٌ لا معرفةَ له بثقافة الصبر، ويجزع عندها من لديه الثقافة الواسعة، والمعلومات الغزيرة حول الصبر؛ فلهذا فإن ممارسة الصبر شيء، ومعرفة فضله وآثاره، وحفظ معلوماته شيء آخر.
إن المسلم حينما يصبر على مُرِّ القضاء، ويتلقى المكاره بالرضا، ويتطلع إلى العاقبة الحسنى؛ تهون عليه مصائبه، ويفتح لنفسه بصبره باب فرج.
قال ابن القيم: "من تلمح حلاوة العافية، هان عليه مرارة الصبر"
(1)
.
أسباب معينة على الصبر:
إذا أراد المسلم تهوين البلاء، والإعانة على الصبر عليه حتى يكون خلقًا لازمًا من أخلاقه فهناك بعض الأسباب المعينة على ذلك، فمنها:
أولاً: استشعار الأجر على المصيبة؛ فإن المصائب إذا صبر عليها المسلم ابتغاء وجه الله أُجر أجراً عظيمًا.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إنّ اللّه- عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر عوّضته منهما الجنّة) يريد: عينيه
(2)
.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: (ما لك تزفزفين
(3)
}؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها، فقال: (لا تسبي الحمى؛ فإنها تُذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد
(4)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 50).
(2)
رواه البخاري (5/ 2140).
(3)
تزفزفين: أي: ترعدين. الديباج على مسلم، للسيوطي (5/ 515).
(4)
رواه مسلم (4/ 1993).
البلاء الثواب؛ لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض)
(1)
. يعني: لما يرون من عظيم الثواب لأصحاب البلاء.
وعن الحسن البصري قال: "كانوا يرجون في حمى ليلة كفارةً لما مضى من الذنوب"
(2)
.
ثانيًا: الثقة بالله في حصول الفرج؛ فإن البلاء لا يدوم؛ والأمور كلها بيد الله تعالى.
قال الماوردي: " أخبرني بعض أهل الأدب أن أبا أيوب الكاتب حُبس في السجن خمس عشرة سنة حتى ضاقت حيلته، وقلّ صبره، فكتب إلى بعض إخوانه يشكو له طول حبسه، فردَّ عليه جواب رقعته بهذا:
صَبْرًا أَبَا أَيُّوبَ صَبْرَ مُبَرّحٍ
…
فَإِذَا عجزِتَ عَنْ الْخُطُوبِ فَمَنْ لَهَا
إنَّ الَّذِي عَقَدَ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ
…
عُقَدُ الْمَكَارِهِ فِيكَ يَمْلِكُ حَلَّهَا
صَبْرًا فَإِنَّ الصَّبْرَ يُعْقِبُ رَاحَةً
…
وَلَعَلَّهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَا
فأجابه أبو أيوب يقول:
صَبَّرْتَنِي وَوَعَظْتَنِي وَأَنَا لَهَا
…
وَسَتَنْجَلِي بَلْ لَا أَقُولُ لَعَلَّهَا
وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ صَاحِبَ عَقْدِهَا
…
كَرَمًا بِهِ إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا
فلم يلبث بعد ذلك في السجن إلا أيامًا حتى أطلق مكرَّماً"
(3)
.
وقال ابن الجوزي: "فاصبر للبلايا فحيْنها يسير، واثبت للرزايا فأجرها كثير، وأحسن قِرى ضيف الهمِّ بالصبر الغزير، وتجلد على الظمأ فبين يديك ماءٌ نمير:
(1)
رواه الترمذي (4/ 603)، وهو حسن.
(2)
المرض والكفارات، للقرشي (ص: 40).
(3)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 375).
لا تجزَعَّنَ مِنَ المَنايا إِنْ أَتَتْ
…
واصبِر لِما تأَتي بِهِ الأَقدارُ
وغَدا الصَبور يَجُرُّ ذيلَ سُرورِه
…
في جَنَّةٍ مِنْ تحتِها الأنهَار
فكأَنْ قَدْ انكشَفَت غياياتُ البلا
…
وانجابت الآفات والأَكدار
وجَنى الجَزوعُ لِما جَنَى ثَمَرَ الأَسَى
…
فجَرى بِلَا أَجر لَهُ المِقدار
إِنِّي رأَيتُ معاشِراً لَم يفهموا
…
مَعنى الوجود فأَصبَحوا قَدْ حاروا
دُنياكَ دارٌ للبَلايا مُهِّدَت
…
ووراء ذَلك إِنْ عقلتَ نهار"
(1)
.
وقال الشافعي:
يا نفسُ ما هو إلا صبرُ أيامِ
…
كأنَّ مدَّتها أضغاثُ أحلامِ
يا نفس جوزي عن الدنيا مبادِرةً
…
وخلِّ عنها فإن العيش قُدَّامي"
(2)
.
ثالثًا: التسلي عن المصيبة وتناسي ثقلها، بالانشغال بشيء يلهي عنها، قال ابن الجوزي: " مرَّ بي حمّالا جذعٍ ثقيل، وهما يتجاوبان بإنشاد النغم، وكلمات الاستراحة، فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله، والآخر همته مثل ذلك. فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما، وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا هان الأمر. فتأملت السبب في ذلك، فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بقول الآخر، وطربه به، وإجالة فكره في الجواب بمثل ذلك، فينقطع الطريق، وينسى ثقل المحمول. فأخذت من هذا إشارة عجيبة، ورأيت الإنسان قد حمل من التكليف أموراً صعبة، ومن أثقل ما حمل مداراة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب، وعلى ما تكره، فرأيت أن الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس، كما قال الشاعر:
(1)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 9).
(2)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 343).
فإن تشكَّت فعللها المجرة مِنْ
…
ضوء الصباح وعِدْها بالرَّواح ضحى
ومن هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمة الله عليه، أنه سار ومعه رجل في طريق فعطش صاحبه، فقال له: نشرب من هذه البئر؟ فقال: أبشر، اصبر إلى البئر الأخرى، فلما وصلا إليها قال له: البئر الأخرى. فما زال يعلله
…
ثم التفت إليه فقال له: هكذا تنقطع الدنيا. ومن فهم هذا الأصل علل النفس وتلطف بها، ووعدها الجميل لتصبر على ما قد حُمِّلتْ، كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعكِ من هذا الذي تحبين إلا الإشفاقَ عليك"
(1)
.
رابعًا: ترك طول التفكير في امتداد البلاء، والاستعجال في ذهابه. قال ابن الجوزي:" للبلاء نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل، فلا بد للمبتلى من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء، فإن تقلقل قبل الوقت لم ينفع التقلقل، كما أن المادة إذا انحدرت إلى عضو فإنها لن ترجع، فلا بد من الصبر إلى حين البطالة، فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع. فالواجب الصبر وإن كان الدعاء مشروعاً، ولا ينفع إلا به، إلا أنه لا ينبغي للداعي أن يستعجل، بل يتعبد بالصبر والدعاء والتسليم إلى الحكيم. ويقطع المواد التي كانت سبباً للبلاء، فإن غالب البلاء أن يكون عقوبة. فأما المستعجل فمزاحم للمدبّر، وليس هذا مقام العبودية وإنما المقام الأعلى هو الرضى، والصبر هو اللازم، والتلافي بكثرة الدعاء نعم المعتمد، والاعتراض حرام، والاستعجال مزاحمة للتدبير، فافهم هذه الأشياء؛ فإنها تهون البلاء"
(2)
.
كلام جامع في أسباب نشأة الصبر:
وما أحسن ما ذكر ابن القيم من الأسباب التي ينشأ عنها الصبر على الرزية، حيث
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 70).
(2)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 114).
يقول رحمه الله: " فصل: والصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة: أحدها: شهود جزائها وثوابها. الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها. الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء. الرابع: شهوده حقَّ الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه. الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة، قال علي بن أبي طالب: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع بلاء إلا بتوبة. السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوفِ قدْرَ المقام حقَّه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم، وتعدي الحق. السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته، الرحيم به فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً. الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم مالم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الداء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره، قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وقال الله تعالى:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وفي مثل هذا قول القائل:
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبُه
…
وربما صحتِ الأجسام بالعِللِ
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا، فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خِلَع الإكرام وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءه
وحزبه خدمًا له، وعونًا له، وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرد وصُفع قفاه، وأقصي وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعمًا عديدة، وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات وعن الآخر بالحرمان والخذلان؛ لأن ذلك تقدير العزيز العليم وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرج من عبوديته في جميع الأحوال؛ فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية، فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه، فإما أن يخرج تِبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً محضًا
(1)
، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهبًا خالصًا، فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيَّض له ما يستخرج خبثه ونحاسه، وصيّره تِبراً خالصًا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره، فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر. فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه، بمنِّه وكرمه"
(2)
.
(1)
الزغل: الغش. المعجم الوسيط (1/ 395).
(2)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 415) وما بعدها.
أعلامُ هُدى
للصالحين السالفين كلمات من نور، خلَّدها الزمان، وبقيت محفوظة في ذاكرة الأيام، لا تزيدها الدهور إلا جلاء وضياء؛ لأنها خرجت من ألسنة صادقة، أملتْها عليها قلوب مؤمنة، وصدَّقتها جوارح في ميدان الخير سابقة، ولأن قائليها هم أهل العلم واللسان، وأرباب الصلاح والبيان. ولذلك أصبحت عبارات أولئك القوم العالِمين العاملين منارات هداية يهتدي بها الناس من بعدهم، وصار لها محل في القلوب، وقبول في النفوس.
فما أجمل أن نصلح قلوبنا بشيء من تلك الكلمات المنيرة، ونعظ أنفسنا بتلك المواعظ البليغة النافعة، ونجاهد أنفسنا على السير في منوال ما دعت إليه وحثَّت، ونبتعد عما نهت عنه وحذّرت؛ فإن مصدرها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].
أمير المؤمنين أبو بكر رضي الله عنه:
يقول أمير المؤمنين أبو بكر الصديق رضي الله عنه في إحدى خطبه-واعظًا بما جرى في القبور لأهل الجمال والملك والجاه والقوة والشباب من التغيير-: "أين الوِضاءُ الحسنةُ وجوهُهم، المعجبون بشبابهم، أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان، أين الذين كانوا يُعطَون الغلبة في مواطن الحرب، قد تضعضع بهم الدهر، فأصبحوا في ظلمات القبور؟ الوَحَا الوحا
(1)
ثم النجا النجا"
(2)
.
(1)
يعني: السرعة السرعة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 352).
(2)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 456).
أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " خمس خذوهن عني، فلو ركبتم الفلك ما وجدتموهن إلا عندي: ألا لا يرجون أحد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستنكف العالم أن يتعلم لما ليس عنده، وإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل: لا أعلم، ومنزلة الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد"
(1)
. فما أحسنهن من وصايا نافعة في ميدان العلم والعمل!
ويقول ضرار بن ضمرة الكناني في وصف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مبينًا زهده وورعه، وعبادته وخشوعه، وعلمه وعدله، وتواضعه وقربه من الناس، وإعراضه عن الدنيا-: " كان -والله- بعيدَ المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان -والله- غزير العَبرة، طويل الفكرة، يقلِّب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب
(2)
، كان -والله- كأحدنا؛ يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظِّم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم
(3)
، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه ثم يقول للدنيا: أبي تعرَّضْتِ، أم لي تشوَّقْتِ؟! هيهات هيهات! غُرِّي غيري، قد بنْتُك
(4)
، ثلاثًا، فعمركِ قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير. آه آه من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق"
(5)
.
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 84).
(2)
جشب: غلظ وخشن. المعجم الوسيط (1/ 123).
(3)
السليم: الملدوغ. المعجم الوسيط (1/ 446).
(4)
بنتك: فارقتك، المعجم الوسيط (1/ 80).
(5)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (1/ 84).
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كلمات جامعة، وحكم نافعة في العلم والعمل، فمنها قوله: إنكم في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد رغبته، ومن زرع شرًا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع. لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يُقدر له. من أُعطي خيراً فالله أعطاه، ومن وقي شرًا فالله وقاه. المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة. لا يطولنَّ عليكم الأمد، ولا يلهينكم الأمل؛ فإن كل ما هو آت قريب. ألا إن البعيد ما ليس آتيًا، ألا وإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. شر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما أُلقي في القلب اليقين. ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا، حكيمًا حليمًا سكِينًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا، ولا غافلاً ولا سَخّابًا ولا صيّاحًا، ولا حديداً. إن الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. ما دمتَ في صلاة فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب الملك يفتح له. إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى، أحلاس البيوت
(1)
، سُرُج الليل، جُدد القلوب، تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض. إن للقلوب شهوة وإدباراً، فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند تفرقها وإدبارها. ليس العلم بكثرة الرواية،
(1)
يعني: ملازمين لها. المعجم الوسيط (1/ 192).
ولكن العلم الخشية. ما مُلِئ بيتٌ حبرة إلا مُلئ عَبرة. رُبّ شهوة تورث حزنًا طويلاً. ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يأكله السوس، ولا يناله السُرَّاق فليفعل؛ فإن قلب الرجل مع كنزه. لا يُقلّدنّ أحدكم دِينه رجلاً فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. لا يكن أحدكم إِمَّعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال: يقول: أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت. اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن فسلِ الله أن يمن عليك بقلب؛ فإنه لا قلب لك
(1)
.
أبو ذر رضي الله عنه:
كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس: "أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا: بلى. قال: فسفرُ طريقِ القيامة أبعد، فخذوا له ما يصلحكم؛ حجوا حجة لعظائم الأمور، صوموا يومًا شديداً حرُّه لحر يوم النشور، صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير"
(2)
.
الحسن البصري رحمه الله:
عن الحسن البصري رحمه الله أنه كتب إلى عمر بن عبدالعزيز-محذراً له من الدنيا- قائلاً: " اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندمَ على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة، التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 145) وما بعدها.
(2)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
بأملها، وتشوفت لخطّابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، العيونُ إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبِر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق له حين أُخبر عنها مدِّكر، فأبت القلوب لها إلا حبًّا، وأبت النفوس بها إلا ضنًّا، وما زادت لها إلا عشقًا، ومن عشق شيئًا لم يعقل غيره، ومات في طلبه، أو يظفر به، فهما عاشقان طالبان لها؛ فعاشق قد ظفر بها، واغتر وطغى، ونسي بها المبدأ والمعاد، فشغل بها لبّه، وذهل فيها عقله، حتى زلت عنها قدمُه، وجاءته أسرَّ ما كانت له مَنيّتُه، فعظمت ندامتُه وكثرت حسرته، واشتدت كُربته، مع ما عالج من سكرته واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرةُ الموت بغُصتِه، غير موصوف ما نزل به؛ وآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته، فذهب بكربه وغمه، لم يدرك منها ما طلب، ولم يُرح نفسَه من التعب والنصب. خرجا جميعًا بغير زاد، وقدما على غير مهاد، فاحذرها الحذر كله؛ فإنها مثل الحية؛ ليِّنٌ مسُّها وسمُها يقتل، فأعرضْ عما يعجبك فيها؛ لقلة ما يصحبك منها، وضعْ عنك همومها لِما عاينتْ من فجائعها، وأيقنت به من فراقها، وكن أسرَّ ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإنَّ صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلاً عليه انقلبت به. وُصلَ الرخاء فيها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وآخرُ الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر العاشق الوامق
(1)
، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يُدرى ما هو آتٍ فيها فيُنتظر، فاحذرها؛ فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر، إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة موجعة، وإما مُنية قاضية، فلقد كدّت عليه المعيشة إن عقل، وهو من النعماء على خطر، ومن البلوى على حذر، ومن المنايا على يقين، فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخبر ولم يضرب لها مثلاً، ولم يأمر فيها بزهد، لكانت الدار قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر، وفيها
(1)
الوامق: المحب.
واعظ فما لها عند الله عز وجل قدْر، ولا لها عند الله تعالى وزن من الصِّغر، ولا تزن عند الله تعالى مقدار حصاة من الحصى، ولا خَلق خلقًا فيما بلغني أبغض إليه من الدنيا، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتًا لها، ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها ولا ينقصه عند الله تعالى شيء إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئًا فأبغضه، وصغر شيئًا فصغّره، ووضع شيئا فوضعه، ولو قبلها كان الدليل على حبّه إياها قبولها، ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه، وأن يرفع ما وضع مليكه، ولو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها فلم يجعل خيرها ثوابًا للمطيعين، ولا عقوبتها عذابًا للعاصين، فأخرج ثواب الطاعة منها، وأخرج عقوبة المعصية عنها، وقد يدلك على شر هذه الدار أن الله تعالى زواها عن أنبيائه وأحبائه؛ اختبارا، وبسطها لغيرهم اعتباراً واغترارا،
…
ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قُوْته وما يكفي؛ حذرَ السؤال، وكراهيةً لشدة الحساب، وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام: يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي لك أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا، ولا تدري لعلك تموت قبله، فأما أمس فحكيم مؤدِّب، وأما اليوم فصديق مودِّع، غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلفٌ منه، وقد كان عنك طويل الغَيبة وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغدٌ أيضًا في يديك منه أمله، فخذ الثقة بالعمل، واترك الغرور بالأمل، قبل حلول الأجل، وإياك أن تدخل على اليوم همَّ غد أو هم ما بعده، فإن فعلت زدت في حزنك وتعبك، وأردت أن تجمع في يومك ما يكفيك أيامك. هيهات كثر الشغل، وزاد الحزن وعظم التعب .... ولئن شئت واقتصرت لأصفن لك الدنيا: ساعة بين ساعتين، ساعة ماضية وساعة آتية، وساعة أنت فيها، فأما الماضية والباقية فليس تجد لراحتهما لذة ولا لبلائهما ألمًا، وإنما الدنيا ساعة أنت فيها فخدعتك تلك الساعة عن الجنة، وصيرتك إلى النار، وإنما اليوم إن عقلت ضيفٌ نزل بك، وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نُزله وقِراه شهد لك، وأثنى عليك بذلك، وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك
…
فانتقدِ اليوم لنفسك، وأبصر الساعة،
واحذر الحسرة عند نزول السكرة، ولا تأمن أن تكون لهذا الكلام حجة، نفعنا الله وإياك بالموعظة، ورزقنا وإياك خير العواقب، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
(1)
.
ابن الجوزي رحمه الله:
يقول ابن الجوزي-حاثًا النفوس على التفكر في مصيرها، وتذكر حسابها، والبكاء على تقصيرها:" إخواني: لو تَفكَّرت النُّفُوسُ فِيمَا بَينَ يَدَيهَا، وَتَذَكَّرَت حِسَابهَا فيما لها وعليها، لبعث حزنُها بريدَ دمها إليها؛ أما يحق البُكاء لمن طالَ عِصيانهُ: نهاره في المعاصي، وقد طال خُسرانه، وليله في الخطايا؛ فقد خفَّ ميزانه، وبين يديه الموت الشديد فيه من العذاب ألوانُه"
(2)
.
ويقول- محذراً من قسوة القلب، وذهول العقل في الهوى، وكثرة الإقبال على الدنيا والمعاصي فيها-: " فيا قياسي القلب، هَلاَّ بكيت على قسوتك، ويا ذاهل العقل في الهوى هَلاَّ ندمت على غفلتك، ويا مقبلاً على الدنيا فكأنك في حفرتك، ويا دائم المعاصي خف من غِبِّ معصيتك؛ ويا سيئ الأعمال نُح على خطيئتك:
يا عاذلَ المُشتاق دَعهُ فَإِنَّه
…
يطوي عَلى الزَّفَرات غيرَ حشاكا
لَو كانَ قَلبُكَ قَلبَه ما لمتَهُ
…
حاشاك ممَّا عِندَهُ حاشاكا
(3)
.
ويقول واصفًا الفائزين في الدنيا: " لله در أقوام أقبلوا بالقلوب على مقلِّبها، وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها، وسلموها إذ باعوها إلى صاحبها، وأحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها، وسهروا الليالي كأنهم وُكِّلوا بِرَعي كواكبها، ونادوا أنفسهم صبراً على نار حطبها، ومقتوا الدنيا فما مالوا إلى ملاعبها، واشتاقوا إلى لقاء حبيبهم فاستطالوا مدة المقام بها"
(4)
.
(1)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (2/ 134).
(2)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 1).
(3)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 2 - 3).
(4)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 14).
ابن القيم رحمه الله:
ومن أعلام الهدى الإمام ابن القيم رحمه الله، فهو طبيب من أطباء القلوب، وواعظ من أحسن الوعّاظ، وهذه جملة من مواعظه القصيرة، وحِكمه البليغة الغزيرة، يقول رحمه الله:" من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بإذنه. للعبد ستر بينه وبين الله، وستر بينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس. للعبد رب هو ملاقيه، وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه. إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها. الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة، فكيف بغم العمر؟. محبوبُ اليوم يعقب المكروه غداً، ومكروه اليوم يعقب المحبوب غداً. أعظمُ الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها. كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؟!. يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه. المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه، والرب تعالى إذا خفته أنست به، وقربت إليه. لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين. دافعِ الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهِمَّة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها"
(1)
.
ويقول أيضًا: " من خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره ومن خلقه للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات. لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها، ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه بضع سنين"
(2)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 31).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 32).
ويقول أيضًا: "أرض الفطرة رحبة قابلة لما يُغرس فيها، فإن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبد، وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكلُّ الثمر مُرٌّ. ارجع إلى الله واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك، ولا تشرد عنه من هذه الأربعة، فما رجع من رجع إليه بتوفيقه إلا منها، وما شرد من شرد عنه بخذلانه إلا منها، فالموفق يسمع ويبصر ويتكلم ويبطش بمولاه، والمخذول يصدر ذلك عنه بنفسه وهواه"
(1)
.
ويقول أيضًا في التحذير من المعاصي: "إيّاك والمعاصي؛ فإنها أذلّت عز: {اسْجُدُوا} وأخرجت إقطاع {اسْكُنْ} . يا لها من لحظة أثمرت حرارة القلق ألف سنة، ما زال يكتب بدم الندم سطور الحزن في القصص، ويرسلها مع أنفاس الأسف، حتى جاءه توقيع:{فَتَابَ عَلَيْهِ} . فرح إبليس بنزول آدم من الجنة، وما علم أن هبوط الغائص في اللجة خلف الدُرِّ صعود. كم بين قوله لآدم:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} ، وقوله لك:{اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} . ما جرى على آدم هو المراد من وجوده: (لو لم تذنبوا .. )
(2)
يا آدم، لا تجزع من قوله لك:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فلك ولصالح ذريتك خلقتها. يا آدم، كنتَ تدخل عليّ دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك. يا آدم، لا تجزع من قولي لك:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا .. } . يا آدم، لم أخرج إقطاعك إلى غيرك، إنما نحيّتك عنه لأكمل عمارته لك، وليبعث إلى العمّال نفقة:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ .. } تالله ما نفعه عند معصيته عزُّ: {اسْجُدُوا} ولا شرف: {وَعَلَّمَ آدَمَ .. } ولا خصيصة: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ .. } ، ولا فخر:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي .. } . وإنما انتفع بذل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
…
}. لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه فوضع عليه جُبَار الانكسار فعاد كما كان فقام الجريح كأن لم يكن به قَلَبَةٌ. (أي: علّة)
(3)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 34).
(2)
جزء من حديث: (قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" رواه مسلم (4/ 2106).
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 35).
ويقول أيضًا: " عشرة أشياء ضائعة لا يُنتفع بها: علم لا يعمل به، وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء، ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة، وقلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، وبدن معطل من طاعته وخدمته، ومحبة لا تتقيد برضا المحبوب وامتثال أوامره، ووقت معطل عن استدراك فارطه أو اغتنام بر وقربة، وفكر يجول فيما لا ينفع، وخدمةُ مَنْ لا تقرِّبك خدمته إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك، وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشوراً. وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب، وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاح كله في اتباع لهدى والاستعداد للقاء والله المستعان. العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له، ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض، وشفائه من داء الشهوات والشبهات، ولكن إذا مات القلب لم يشعر بمصيبته! "
(1)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 111 - 112).
مطلب اللَّذة
للإنسان مطالب ورغبات يحب تحقيقها، ويسعى إلى تحصيلها، ويبذل في سبيل ذلك ما يستطيع من الأسباب التي توصله إلى مبتغاه. ولا ريب أن " اللذة" من أعلى تلك المطالب، وأسمى تلك الرغائب.
غير أن الناس متباينون في اختيار لذاتهم، وسبل الوصول إليها؛ فمن الناس من همته تحصيل اللذة بأي وسيلة كانت من غير نظر في حلها أو حرمتها، أو استقامة الطريق إليها أو حظرها، ومن دون نظر كذلك في مآلاتها التي ستعقبها وتتمخض عنها. ومن الناس من همته الوصول إلى اللذة، ولكنه يختار أعلاها وأحلها وأدومها وأسلمها من العواقب المؤلمة، ولو فوّت في سبيل الوصول إلى هذه الغاية لذات أخرى، وهذا الثاني هو أعقل الناس، وأحسنهم اختياراً، وأسلمهم طريقة، وأكملهم لذة.
قال ابن القيم: " مقصود الحياة حصول ما يُنتفع به ويُتلذ به، والحي لا بد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة، كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الأصحاء، فهو يختار الموت ويتمناه ولا يحصل له، فلا هو مع الأحياء ولا مع الأموات"
(1)
.
وقال أيضًا: " واللذة والبهجة والسرور وقرة العين وطيب النفس والنعيم ألفاظ متقاربة المعنى، وهي أمر مطلوب في الجملة، بل ذلك مقصود كل حي، وذلك أمر ضروري من وجوده، وذلك في المقاصد والغايات بمنزلة الحس والعلوم البديهية في المبادئ والمقدمات"
(2)
.
(1)
شفاء العليل، لابن القيم (ص: 174).
(2)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 155).
وقال كذلك: " ومما ينبغي الاعتناء به علمًا ومعرفة، وقصداً وإرادة: العلم بأن كل إنسان بل كل حيوان إنما يسعى فيما يحصِّل له اللذة والنعيم وطيب العيش، ويندفع به عنه أضداد ذلك، وهذا مطلوب صحيح يتضمن ستة أمور:
أحدها: معرفة الشيء النافع للعبد الملائم له الذي بحصوله لذته وفرحه وسروره وطيب عيشه. الثاني: معرفة الطريق الموصلة إلى ذلك. الثالث: سلوك تلك الطريق. الرابع: معرفة الضار المؤذي المنافر الذي ينكد عليه حياته. الخامس: معرفة الطريق التي إذا سلكها أفضت به إلى ذلك. السادس: تجنب سلوكها.
فهذه ستة أمور لا تتم لذة العبد وسروره وفرحه وصلاح حاله إلا باستكمالها، وما نقص منها عاد بسوء حاله وتنكيد حياته. وكل عاقل يسعى في هذه الأمور لكن أكثر الناس غلط في تحصيل هذا المطلوب المحبوب النافع؛ إما في عدم تصوره ومعرفته، وإما في عدم معرفته الطريقَ الموصلة إليه، فهذان غلطان سببهما الجهل، ويتخلّص منهما بالعلم"
(1)
.
المدح والذم في اللذة:
إن لذات الدنيا لا يتوجه المدح والذم لذِاتها، بل لطريقها أو عواقبها، فـ" اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان، بل ولكل حي فلا تذم من جهة كونها لذة، وإنما تذم ويكون تركها خيراً من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل، أو أعقبت ألماً حصوله أعظم من ألم فواتها. فههنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل، فالعاقل متى عرف التفاوت بين اللذتين والألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر هان عليه ترك أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما، وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدوم ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا، والمعول في ذلك على الإيمان واليقين، فإذا قوي اليقين وباشر القلب
(1)
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 25).
آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة، واحتمل الألم الأسهل على الأصعب"
(1)
.
" وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي إنما تذم إذا أعقبت ألماً أعظم منها، أو منعت لذة خيراً منها، وتحمد إذا أعانت على اللذة الدائمة المستقرة، وهي لذة الدار الآخرة ونعيمها الذي هو أفضل نعيم وأجله؛ كما قال الله تعالى: {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 56، 57]. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]. وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]. وقال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. "
(2)
.
قال ابن القيم: " وكل لذة أعقبت ألمًا، أو منعت لذة أكمل منها فليست بلذة في الحقيقة، وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها، فأي لذة لآكل طعام شهي مسموم يقطع أمعاءه عن قريب؟! وهذه هي لذات الكفار والفساق بعلوهم في الأرض وفسادهم، وفرحهم فيها بغير الحق ومرحهم"
(3)
.
أنواع اللذة:
اللذة التي يلتذ بها الإنسان ليست نوعًا واحداً، بل أنواع، باعتبار الجهة التي تتلذذ بها من نفس الإنسان، فهناك لذات حسية (ظاهرة)، وهناك لذات معنوية (باطنة)، أو بتعبير آخر هناك لذات بدنية، ولذات خيالية، ولذات روحية.
قال الغزالي: " اللذات تنقسم إلى ظاهرة؛ كلذة الحواس الخمس، وإلى باطنة؛ كلذة الرياسة والغلبة والكرامة والعلم وغيرها؛ إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا الأذن ولا للمس ولا للذوق، والمعاني الباطنة أغلب على ذوى الكمال من اللذات
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 200).
(2)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 156).
(3)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 161).
الظاهرة"
(1)
.
وقال ابن القيم: " فأقسام اللذات ثلاثة: لذة جثمانية، ولذة خيالية وهمية، ولذة عقلية روحانية؛ فاللذة الجثمانية لذة الأكل والشرب والجماع، وهذه اللذة يشترك فيها مع الإنسان الحيوانُ البهيم، فليس كمال الإنسان بهذه اللذة لمشاركة أنقص الحيوانات له فيها، ولأنها لو كانت كمالاً لكان أفضل الناس وأشرفهم وأكملهم أكثرَهم أكلاً وشربًا وجماعاً، وأيضًا لو كانت كمالاً لكان نصيب رسل الله وأنبيائه وأوليائه منها في هذه الدار أكمل من نصيب أعدائه، فلما كان الأمر بالضد تبين أنها ليست في نفسها كمالاً، وإنما تكون كمالاً إذا تضمنت إعانة على اللذة الدائمة العظمى. وأما اللذة الوهمية الخيالية فلذة الرئاسة والتعاظم على الخلق والفخر والاستطالة عليهم. وهذه اللذة وإن كان طلابها أشرف نفوسًا من طلاب اللذة الأولى؛ فإن آلامها وما توجبه من المفاسد والمضار أعظم من التذاذ النفس بها؛ فإن صاحبها منتصب لمعاداة كل من تعاظم وترأس عليه؛ ولهذا شروط وحقوق تفوت على صاحبها كثيراً من لذاته الحسية ولا يتم إلا بتحمل مشاق وآلام أعظم منها، فليست هذه في الحقيقة بلذة وإن فرحت بها النفس وسُرَّت بحصولها، وقد قيل: إنه لا حقيقة للذة في الدنيا وإنما غايتها دفع آلام كما يدفع ألم الجوع والعطش وألم الشهوة بالأكل والشرب والجماع؛ ولذلك يدفع ألم الخمول وسقوط القدر عند الناس بالرئاسة والجاه، والتحقيق: أن اللذة أمر وجودي يستلزم دفع الألم بما بينهما من التضاد.
وأما اللذة العقلية الروحانية فهي كلذة المعرفة والعلم والاتصاف بصفات الكمال؛ من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر والحلم والمروءة وغيرها؛ فإن الالتذاذ بذلك من أعظم اللذات وهو لذة النفس الفاضلة العلوية الشريفة، فإذا انضمت اللذة بذلك إلى لذة معرفة الله تعالى ومحبته وعبادته وحده لا شريك له والرضا به عوضًا عن كل شيء ولا يتعوض بغيره عنه؛ فصاحب هذه اللذة في جنة عاجلة نسبتها إلى لذات الدنيا كنسبة لذة
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 309).
الجنة إلى لذة الدنيا؛ فإنه ليس للقلب والروح ألذ ولا أطيب ولا أحلى ولا أنعم من محبة الله والإقبال عليه وعبادته وحده، وقرة العين به والأنس بقربه والشوق إلى لقائه ورؤيته، وإن مثقال ذرة من هذه اللذة لا يعدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا؛ ولذلك كان مثقال ذرة من إيمان بالله ورسوله يخلص من الخلود في دار الآلام، فكيف بالإيمان الذي يمنع دخولها؟! قال بعض العارفين: من قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. ويكفي في فضل هذه اللذة وشرفها أنها تخرج من القلب ألم الحسرة على ما يفوت من هذه الدنيا، حتى إنه ليتألم بأعظم ما يلتذ به أهلها ويفر منه فرارهم من المؤلم، وهذا موضعٌ الحاكمُ فيه الذوق لا مجرد لسان العلم، وكان بعض العارفين يقول: مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها، فيقال له: وما هو؟ فيقول: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، ومعرفة أسمائه وصفاته. وقال آخر: أطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته، وألذ ما في الآخرة رؤيته وسماع كلامه بلا واسطة. وقال آخر: والله إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي عيش طيب. وأنت ترى محبة من في محبته عذاب القلب والروح كيف توجب لصاحبها لذة يتمنى أنه لا يفارقه حبه؛ كما قال شاعر الحماسة:
تَشَكّى الْمُحبُّونَ الصَّبابَةَ ليْتَني
…
تَحَمَّلْتُ ما يَلْقَوْنَ منْ بَيْنِهمْ وحْدِي
فكَانَتْ لِنَفْسي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّها
…
فلَمْ يَلْقَها قَبْلِي مُحِبٌّ ولَا بَعْدِي
قالت رابعة: شغلوا قلوبهم بحب الدنيا عن الله، ولو تركوها لجالت في الملكوت، ثم رجعت إليهم بطرائف الفوائد"
(1)
.
لذات الدنيا:
لا تخلو هذه الحياة من لذات يلتذ بها أهلها فيها، وتقر عيونهم بها، وهي لذات ظاهرة
(1)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 164).
تتلذذ بها الحواس؛ كلذات مسموعة، ومرئية، ومطعومة، ومشمومة، ومحسوسة، ولذات باطنة؛ كالجاه والرئاسة والعلو، والغنى والشهرة والمعارف، وغير ذلك.
إلا أن لذات الدنيا إن سلمت من الحرام فهي لذات مكدَّرة ومنغَّصة؛ وهي بجانب لذات الآخرة قليلة لا كثيرة، صغيرة لا كبيرة، ناقصة غير كاملة، مشوبة غير خالصة، منقطعة غير دائمة، لا تنال فيها نفس الإنسان كاملَ غايتها، ولا تبلغ منها كل مرادها، فتظل النفس بذلك متشوِّفة للزيادة والتغيير والتنويع، فتكون بهذا غير مقنعِة، وغير مرضية.
قال الغزالي: " لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات، ولذات الآخرة صافية غير مكدرة"
(1)
.
ويحكي ابن الجوزي أنه رأى رجلاً قد أعطاه الله من لذات الدنيا الظاهرة ما أعطاه ثم رآه مع كل ذلك وهو يبكي، فتعجب ما الذي يبكيه وهو في هذا النعيم؟! فأجاب ابن الجوزي على نفسه فقال:" فتفكرت فعلمت أن النفس لا تقف عند حد، بل تروم من اللذات ما لا منتهى له، كلما حصل لها غرض برد عندها وطلبت سواه، فيفنى العمر، ويضعف البدن، ويقع النقص، ويرقُّ الجاه، ولا يحصل المراد. وليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليس في الدنيا على الحقيقة لذة، إنما هي راحة من مؤلم"
(2)
. وقال أيضًا: " من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلاً، فإن وجدت لذة شيبت بالنغص التي تزيد على اللذة أضعافاً"
(3)
. ثم ذكر أمثلة على لذات ممزوجة بالكدر ثم قال: " و هذا أنموذج لما لم يُذكر، فينبغي لمن وفقه الله سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلامة الدين والبدن والعافية، ويهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته"
(4)
.
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (3/ 380).
(2)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 245).
(3)
المرجع السابق (ص: 371).
(4)
المرجع السابق (ص: 372).
هذا في لذات الدنيا المباحة، أما إذا كانت لذات محرمة أو شابها الحرام فإنها لذات وهمية، وطريق إلى شقاء منتظر؛ لما تعقبه من عذاب الله تعالى وسخطه. وقد كلف الله تعالى الإنسان البعد عنها؛ لما لها من سوء العاقبة العاجلة والآجلة، ولكن من غلبه هواه وانتصرت عليه نفسه لا يصبر على تركها؛ طلبًا للراحة والتنعم، ولكنه بذلك الاسترسال يخدع نفسه، ويجلب لها العناء الطويل. فلو " حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك، وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرِب من لذة الأظفار التي تحكه فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب، والعاقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما"
(1)
.
والحقيقة إن إقدام الإنسان على تلك اللذات المحرمة يبرهن على حمقه وجهله، ولو كان ذا عقل ورشد لما سلك طريق لذة عابرة تحرمه لذة باقية. قال ابن الجوزي:" وأجهل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته، فكم قد سمعنا عن سلطان وأمير وصاحب مال أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في حلال وحرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ، ولقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرة من كل لذة. ولو كان هذا فحسب لكفى حزناً كيف والجزاء الدائم بين يديه، فالدنيا محبوبة للطبع لا ريب في ذلك ولا أنكر على طالبها ومؤثر شهواتها، ولكن ينبغي له أن ينظر في كسبها ويعلم وجه أخذها؛ ليسلم له عاقبة لذته، وإلا فلا خير في لذة من بعدها النار"
(2)
. فـ"لا تؤثر لذة تفوِّت خيراً كثيراً، وصابِرْ المشقةَ تحصِّل ربحاً وافراً"
(3)
.
(1)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 100).
(2)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 129).
(3)
المرجع السابق (ص: 370).
أما أهل الإيمان فهم يشاركون غيرهم في لذات الدنيا المباحة؛ من مأكول ومشروب ومنظور ومنكوح ومركوب ومحسوس وغير ذلك، غير أنهم يستعينون بذلك على طاعة الله التي توصلهم إلى اللذة التامة الباقية في الآخرة.
فـ" لذات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذات الدار الآخرة؛ ولذلك خُلقت؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)
(1)
. فكل لذة أعانت على لذات الدار الآخرة فهي محبوبة مرضية للرب تعالى، فصاحبها يلتذ بها من جهتين: من جهة تنعمه وقرة عينه بها، ومن جهة إيصالها له إلى مرضاة ربه وإفضائها إلى لذة أكمل منها، فهذه هي اللذة التي ينبغي للعاقل أن يسعى في تحصيلها، لا اللذة التي تعقبه غاية الألم، وتفوت عليه أعظم اللذات؛ ولهذا يثاب المؤمن على كل ما يلتذ به من المباحات إذا قصد به الإعانة والتوصل إلى لذة الآخرة ونعيمها"
(2)
.
قال ابن القيم: " لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه فأشرف الناس نفسًا وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً مَنْ لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء
…
وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه، فهذا ممن قال تعالى فيه:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. وأبخسهم حظًا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة، فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ
(1)
رواه مسلم (2/ 1090).
(2)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 157).
بِهَا} [الأحقاف: 20]. فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات وافترقوا في وجه التمتع؛ فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أذن لهم فيه، فجُمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة، وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواء أذن لهم فيه أم لا، فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة، فلا لذة الدنيا دامت لهم ولا لذة الآخرة حصلت لهم. فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلاً له إلى لذة الآخرة، بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله وإرادته وعبادته، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى، وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة، ويجم نفسه ههنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك، فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة، وكانت همته لما هناك، وبئس القاطع لمن كانت هي مقصودة وهمته وحولها يدندن، وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة، فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعًا وإلا خسرهما جميعاً"
(1)
.
وينفرد أهل الإيمان بلذة أخرى هي أعظم لذات الدنيا، بل هي نموذج من لذات الجنة عُجِّلت لأهلها في هذه الحياة، هذه اللذة هي لذة المعرفة والطاعة، لذة المعرفة لله تعالى والعلم به، ولذة التقرب إليه وعبادته. حيث يجد المؤمن أحسن لذاته في التفكر في آيات الله المشهودة الدالة على عظمته وجلاله وحكمته، وفي نعم الله على خلقه الدالة على عفوه ورحمته وفضله، كما يجدها في صلاة خاشعة وتلاوة متدبرة، وتضرع بين يدي مولاه، وإحسان يقدمه إلى عباد الله ابتغاء وجهه. وغير ذلك من أنواع العبادات اللازمة والمتعدية. فهذه اللذة حق خالص للطائعين ولا حظ فيها لأهل العصيان. قال الغزالي:" أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم"
(2)
.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 150).
(2)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 307).
وقال ابن القيم: " لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته في الدنيا، وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له؛ فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة، فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم"
(1)
.
إن لذات الآخرة أشد وأعظم من لذات الدنيا بلا شك؛ لأنها لا آخر لها ولا كدورة فيها، وأما لذات الدنيا فإنها سريعة الدثور، وهى مشوبة بالمكدرات، فما فيها لذة صافية عن كدر، وكيف وفى التوبة عن المعاصي والإقبال على الطاعة تلذذ بمناجاة الله تعالى واستراحة بمعرفته وطاعته، وطول الأنس به، ولو لم يكن للمطيع جزاء على عمله إلا ما يجده من حلاوة الطاعة ورَوح الأنس بمناجاة الله تعالى لكان ذلك كافيًا فكيف بما ينضاف إليه من نعيم الآخرة!
(2)
.
فأهل الإيمان لعلمهم بالله وحبهم له ومعرفتهم به أقبلوا على طاعته فوجدوا فيها غاية اللذة. وـ" اللذة تابعة للمحبة تقوى بقوتها وتضعف بضعفها، فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت اللذة بالوصول إليه أتم، والمحبة والشوق تابع لمعرفته والعلم به، فكلما كان العلم به أتم كانت محبته أكمل فإذا رجع كمال النعيم في الآخرة، وكمال اللذة إلى العلم والحب فمن كان يؤمن بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعرف كان له أحب، وكانت لذته بالوصول إليه مجاورته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه أتم، وكل لذة ونعيم وسرور وبهجة بالإضافة إلى ذلك كقطرة في بحر فكيف يؤثر من له عقل لذة ضعيفة قصيرة مشوبة بالآلام على لذة عظيمة دائمة أبد الآباد. وكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب، وأفضل العلم العلم بالله، وأعلى الحب الحب له، وأكمل اللذة بحسبهما"
(3)
.
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 33).
(2)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 59) بتصرف.
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 53).
فما أحسن ما يجده المؤمن في كنف الطاعات من الملذات والمسرات التي يجزيه الله تعالى بها على عمله الصالح في الدنيا قبل الآخرة، وهذا من الحياة الطيبة التي أشار إليها قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. قال ابن القيم: "وقد فُسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضى والرزق الحسن وغير ذلك، والصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان، ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه؛ فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة"
(1)
.
لقد "فاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا علي الحياة الطيبة في الدارين؛ فإن طيب النفس وسرور القلب، وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه، ونوره وسعته وعافيته من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة؛ هو النعيم علي الحقيقة، ولا نسبة لنعيم البدن إليه؛ فقد قال بعض من ذاق هذه اللذة: لو علم الملوك وأبناء ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف
…
وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر، ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته، وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم"
(2)
.
وهذا النوع من اللذات يتنعم أهله فيه أعظم من تنعمهم باللذات البدنية. فالطاعات غذاء للقلب وسرور له وقرة عين في حقه ونعيم لروحه يتلذذ بها ويتنعم بملابستها أعظم مما يتنعم بملابسة الطعام والشراب واللذات الجسمانية؛ فإن اللذات الروحانية القلبية أقوى وأتم من اللذات الجسمانية
(3)
.
ومن تلك اللذات الروحية: لذة الذكر، ولذة العلم، ولذة الانتصار على الهوى
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 259).
(2)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 84).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 165) بتصرف.
والنفسِ الأمارة بالسوء.
فـ" للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر والنعيم الذي يحصل لقلبه لكفى به؛ ولهذا سُميت مجالس الذكر رياض الجنة، قال مالك بن دينار: وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، فليس شيء من الأعمال أخف مؤنة منه ولا أعظم لذة ولا أكثر فرحة وابتهاجًا للقلب"
(1)
.
وأما لذة العلم بالله تعالى وبشرعه فإنها من أعظم اللذات في هذه الدنيا لمن صدق حبه للعلم، وأقبل عليه تمام الإقبال، ومن قرأ في سير العلماء يجد العجب العجاب من تلذذهم بالعلم وتغنِّيهم بذلك.
ينسب للشافعي قوله:
سَهَرِي لِتَنْقِيحِ العُلُومِ أَلَذُّ لي
…
مِنْ وَصْلِ غَانِية ٍ وَطيبِ عِنَاقِ
وصريرُ أقلامي على صفحاتها
…
أحلى منَ الدَّوكاءِ للعشاقِ
وَأَلَذُّ مِنْ نَقْرِ الفتاة لِدُفِّهَا
…
نقري لألقي الرَّملَ عن أوراقي
وتمايلي طرباً لحلِّ عويصةٍ
…
في الدَّرْسِ أَشْهَى مِنْ مُدَامَةِ سَاقِ
يا من يحاول بالأماني رتبتي
…
كم بين مستفل وآخرَ راقي
أأبيتُ سهرانَ الدُّجى وتبيتهُ .... نَوْماً وَتَبْغي بَعْدَ ذَاكَ لِحَاقِي؟!
(2)
.
وأما لذة الانتصار على الهوى وكبح جماح النفس الأمارة بالسوء فإنها لذة عظيمة؛ إذ حبس الهوى وإن كان على صاحبه مُرَّ الأوائل لكنه في آخره حلو العواقب. قال ابن الجوزي: " وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة؛ ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً؟ لأنه
(1)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 110).
(2)
ديوان الإمام الشافعي (ص: 11).
قُهر. بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قَهر. فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحُسن، كما يرى اللص لذة أخذ المال من الحِرز، ولا يرى بعين فكره القطع، ولو يفتح عين البصيرة لتأمل العواقب واستحالت اللذة نغصة
…
وليتذكر الإنسان لذة قهر الهوى، مع تأمل فوائد الصبر عنه، فمن وفِّق لذلك كانت السلامة قريبة منه" (3
(1)
.
لذات الآخرة:
الآخرة هي الدار الباقية التي يُجزَى الناس فيها على أعمالهم في الدنيا ويصيرون إما إلى نعيم يلقى فيه أهله كل لذة، وإما إلى جحيم لا لذة فيه البتة.
والله تعالى "إنما خلق الخلق لدار القرار وجعل اللذة كلها بأسرها فيها، كما قال الله تعالى:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]. وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن} [السجدة: 17]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ
(2)
(3)
. أي: غير ما أطلعتم عليه. وهذا هو الذي قصده الناصح لقومه الشفيق عليهم حيث قال: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 38، 39]. فأخبرهم أن الدنيا متاع يتمتع بها إلى غيرها، والآخرة هي المستقر"
(4)
.
فلذلك كانت لذات الآخرة خاصة بأهل الجنة الذين تنعموا في الدنيا بلذة الطاعة، ثم رقّاهم الله تعالى في مصاعد اللذة فأدخلهم الجنة، التي يجدون فيها اللذات الكاملة للروح والجسد، والسمع والبصر، والزمان والمكان، والجار والأنيس.
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 39).
(2)
أي: دعوا ما أطلعتم عليه من نعيم الجنة وعرفتموه من لذاتها فإنه سهل يسير في جانب ما ادخرته لكم.
(3)
رواه البخاري (4/ 1794)، ومسلم (4/ 2174).
(4)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 157).
والمؤمن " يلتذ في الدنيا بكل ما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى من الأكل والشرب واللباس والنكاح، وشفاء الغيظ بقهر العدو وجهاد في سبيله، فضلاً عما يلتذ به من معرفة ربه وحبه له وتوحيده والإثابة إليه، والتوكل عليه والإقبال عليه وإخلاص العمل له والرضا به وعنه، والتفويض إليه وفرح القلب وسروره بقربه والأنس به والشوق إلى لقائه؛ كما في الحديث الذي صححه ابن حبان والحاكم وأسألك:(لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك) وهذه اللذة لا تزال في الدنيا في زيادة مع تنقيصها بالعدو الباطن من الشيطان والهوى والنفس والدنيا والعدو الظاهر، فكيف إذا تجردت الروح وفارقت دار الأحزان والآفات واتصلت بالرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليمًا، فإذا أفضى إلى دار النعيم فهنالك من أنواع اللذة والبهجة والسرور ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فبؤسًا وتعسًا للنفوس الوضيعة الدنيئة التي لا يهزها الشوق إلى ذلك طربا، ولا تتقد نار إرادتها لذلك رغبا، ولا تبعد عما يصد عن ذلك رهبا، فبصائرها كما قيل:
خفافيشُ أعشاها النهارُ بضوئهِ
…
ولاءمَها قِطْعٌ من الليل مظلمُ
تجول حول الحُش
(1)
إذا جالت النفوس العلوية حول العَرش، وتندس في الأحجار، إذا طارت النفوس الزكية إلى أعلى الأوكار"
(2)
.
بيد أن لذات الجنة لا تتم إلا باللذة العظمى والنعمة الكبرى ألا وهي النظر إلى وجه الله الكريم، "قال الله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى، وهي اللذة الكبرى التي يُنسى فيها نعيمُ أهل الجنة
(3)
.
(1)
الحش: الكنيف والمتوضَأ. المعجم الوسيط (1/ 176).
(2)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 160).
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 543).
جاء في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتُنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل.
قال ابن القيم: " فبين عليه الصلاة والسلام أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة لم يعطهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين ألبتة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. فجمع عليهم نوعي العذاب: عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعي النعيم: نعيم التمتع بما في الجنة، ونعيم التمتع برؤيته"
(1)
.
وفي حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (
…
وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك)
(2)
. "قال الطيبي: قيّد النظر باللذة لأن النظر إلى الله تعالى إما نظر هيبة وجلال في عرصات القيامة، وإما نظر لطف وجمال في الجنة ليؤذن بأن المراد هذا"
(3)
.
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 32).
(2)
رواه النسائي (3/ 54)، والحاكم (1/ 697)، وهو صحيح.
(3)
مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، للتبريزي (8/ 601).
هذه هي الدنيا!
الإنسان العاقل ينظر إلى الأمور بعين عقله، لا بعين هواه، ويقيسها بلُبِّه لا بشهواته، ويتأمل في مآلاتها ولا ينظر إلى لذاتها العاجلة التي تعقب حسرات دائمة، فشيء مفروح بأوله محزون بآخره لا ينبغي الالتفات إليه، وشيء قليل مكدر، لا يقدَّم على شيء كثير غيرِ مشوب.
هكذا يأمرنا الله تعالى أن ننظر إلى الحياة الدنيا بالبصيرة لا بالبصر، وبعاقبة أمرها، لا بإقبال أوائلها، يقول تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]، " أي: تتمتعون بها أيام حياتكم، ثم هي إلى فناء وانقضاء، {وما عند الله خير وأبقى} ؛ لأن منافع الآخرة خالصة عن الشوائب وهي دائماً غير منقطعة، ومنافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر العظيم {أفلا تعقلون} أي: أن الباقي خير من الفاني، وقيل: من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل؛ ولهذا قال الشافعي: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صُرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله؛ لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير، وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى"
(1)
.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "الدنيا دارُ من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له"
(2)
.
(1)
تفسير الخازن (5/ 179).
(2)
عدة الصابرين، لابن القيم (ص: 192).
حقيقة الدنيا:
وإن الناظر في حقيقة الدنيا يجد أنها لا تستحق هذا اللهث الكثير وراءها، والانشغال الكبير بها، والحرص الشديد عليها، والتقاتل الدائم من أجلها؛ فهي أحقر من ذلك كله؛ لأن المخلوق عليها مسافر عنها غير مقيم بها، واللبيب لا ينشغل بدار سفره التي عما قليل سينتقل عنها إلى دار إقامته التي سيبقى فيها دائمًا.
فالدنيا فانية والآخرة باقية، ومن العجب إيثار الفاني على الباقي! قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]. وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، "يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها وغاية ما فيها لهو ولعب: {وَإِنّ الدّارَ الآخرة لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد. وقوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى"
(1)
.
فـ"الحياة الدنيا تكون أولاً شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزاً شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى، قليل الحركة يعجزه الشيء اليسير كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 510).
مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال:{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان. وقوله تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: هي متاع فانٍ غارّ لمن ركن إليه؛ فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى دار الآخرة
…
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرءوا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}) وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم"
(1)
.
زَخرف الرشيد يومًا منازله وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها، ثم استدعى أبا العتاهية فقال له: صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم، فقال أبو العتاهية:
عِشْ ما بَدَا لكَ سالماً
…
في ظِلّ شاهقَةِ القُصورِ
يسْعَى عليكَ بِمَا اشتهيْتَ
…
لدَى الرَّوَاح أوِ البُكُورِ
فقال: حسن ثم ماذا؟
فقال:
فإذا النّفوسُ تَقعَقَعَتْ
…
في ظلّ حَشرجَةِ الصّدورِ
فَهُناكَ تَعلَم، مُوقِناً
…
مَا كُنْتَ إلاَّ فِي غُرُورِ
فبكى الرشيد بكاء كثيراً شديداً
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 377).
(2)
البداية والنهاية، لابن كثير (10/ 217).
قال بعض الشعراء:
أَلَا إنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ نَائِمِ
…
وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لَا يَكُونُ بِدَائِمِ
تَأَمَّلْ إذَا مَا نِلْت بِالْأَمْسِ لَذَّةً
…
فَأَفْنَيْتَهَا هَلْ أَنْتَ إلَّا كَحَالِمِ
فَكَمْ غَافِلٍ عَنْهُ وَلَيْسَ بِغَافِلٍ
…
وَكَمْ نَائِمٍ عَنْهُ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
(1)
.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَمَتَّعْ مِنْ الْأَيَّامِ إنْ كُنْت حَازِمًا
…
فَإِنَّك مِنْهَا بَيْنَ نَاهٍ وَآمِرِ
إذَا أَبْقَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ
…
فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ
فَلَنْ تَعْدِلَ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ
…
وَلَا وَزْنَ ذَرٍّ مِنْ جَنَاحٍ لِطَائِرِ
فَمَا رَضِيَ الدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُؤْمِنٍ
…
وَلَا رَضِيَ الدُّنْيَا جَزَاءً لِكَافِرِ
(2)
.
والعيش في الدنيا كالاستظلال تحت شجرة ثم تُتترك ويُنتقل عنها إلى غيرها، فكيف ينشغل عاقل بالظل عن مواصلة طريقه إلى هدفه المنشود؟! فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء، فقال:(ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)
(3)
.
والدنيا بجانب الآخرة قليلة، فأيُّ لبيب يدع الكثير ويقبل على القليل؟!
قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. يعني: ما الدنيا " التي مالت بكم، وقدمتموها على الآخرة {إِلا قَلِيلٌ} أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 134).
(2)
المرجع السابق (ص: 135).
(3)
رواه الترمذي (4/ 588)، وابن ماجه، (2/ 1376)، وهو صحيح.
تَزِنُون بها الأمور، وأيها أحق بالإيثار؟. أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها- لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير جداً من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها، فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته لا يتعدى حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار، المشحونة بالأخطار. فبأي رَأْيٍ رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون، فواللّه ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عُدَّ من أولي الألباب"
(1)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بمَ يرجع)
(2)
.
وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: "الدنيا قليل، فلْيضحكُوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعتِ الدنيا وصاروا إلى الله تعالى استأنفوا بكاءً لا ينقطعُ أبدًا"
(3)
.
متاع قليل منغَّص:
فمهما أُعطي الإنسان من لذات الدنيا وأسباب الفرح بها فإنها متاع قليل، عما قريب سيذهب عن الإنسان، أو يذهب عنه الإنسان، قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]. "أي: فهو شيء شأنه أن يتمتع ويتزين به أيامًا قلائل، وما عند الله -وهو الثواب- خير في نفسه من ذلك؛ لأنه لذة خالصة عن شوائب الألم، وبهجة كاملة عارية عن سمة الهم، وأبقى؛ لأنه أبدي. {أفلا تعقلون} ألا تتفكرون فلا تعقلون هذا الأمر الواضح فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير"
(4)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 337).
(2)
رواه مسلم (4/ 2193).
(3)
الدر المنثور، للسيوطي (4/ 256).
(4)
تفسير أبي السعود (7/ 20).
ولا ريب أن هذه الدنيا لما كانت كذلك فإنها لا تنفك عن المنغصات والغموم، والأحزان والهموم، فالمكاره ملازمة لها، والآلام لا تنقطع عنها، فدارٌ هذه حالها لا تستحق التنافس عليها.
وقد نغصها الله تعالى لعبده المؤمن حتى لا يركن إليها، وينشغل بها، ولكي يشتاق إلى لقائه في دار الآخرة، وإلى الجنة التي أعدها له إن آمن به وأحسن العمل له.
وحتى إن وجد العبد في هذه الدنيا المسرات، وذاق فيها الملذات، ولقي فيها أسباب الفرح والحبور؛ فإنها لا تدوم ولا تبقى، ولا تسلم من مشوب يكدر صفوها، فالتقلب شأنها، والتغير حالها، فلا يأمنن الإنسان إدبارها بعد إقبالها، وأتراحها بعد أفراحها، وضيقها بعد سعتها، وخوفها بعد أمنها، وسقمها بعد صحتها، وأخذها بعد عطائها، وفناءها بعد العيش فيها.
"قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب، ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي، وذلك أن محبها لا ينال منها شيًئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة و السلام:(لو كان لابن آدم واديانِ من مال لابتغى لهما ثالثًا) وقد مثل عيسى بن مريم عليه السلام: محب الدنيا بشارب الخمر؛ كلما ازداد شرباً ازداد عطشًا!)
(1)
.
قال أعرابي: " العاقل حقيق أن يسخى بنفسه عن الدنيا؛ لعلمه أن لا ينال أحد فيها شيئًا إلا قل إمتاعه به، أو كثر عناؤه فيه، واشتدت مرزئته عليه عند فراقه، وعظمت التبعة فيه بعده"
(2)
.
وقال في الحكم العطائية: "لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمتَ في هذه الدار؛ فإنها ما
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 37).
(2)
الأمالي في لغة العرب، للقالي (2/ 41).
أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها"
(1)
.
قال التهامي:
طُبعتْ على كدرٍ وأنت تريدُها
…
صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلّف الأيَّامٍ ضدَّ طباعها
…
متطلّبٌ في الماءِ جذوة نار
(2)
.
ومن كلام جعفر الصادق: من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يُرزق، قيل له: وما ذاك؟ قال: الراحة في الدنيا. وأخذ بعضهم هذا المعنى فقال:
تطلب الراحة في دار العنا
…
خاب من يطلب شيئاً لا يكونْ
(3)
.
وقال صفي الدين الحليّ:
قالَ العذولُ لمَ اعتزلتَ عن الورَى
…
وأقمتَ نفسكَ في المقامِ الأوهنِ
نادَيتُ طالبُ راحةٍ، فأجابَني
…
أتعبتها بطلابِ ما لم يمكن
(4)
.
وقال آخر:
ومن رام في الدنيا حياة سليمة
…
من الهم والأكدار رام محالا
(5)
.
وقال الماوردي: " الدنيا إذا وصلت فتبعاتٌ موبقة، وإذا فارقت ففجعات محرقة، وليس لوصلها دوام، ولا من فراقها بد، فرُضْ نفسك على قطيعتها لتسلم من تبعاتها، وعلى فراقها لتأمن فجعاتها، فقد قيل: المرء مقترض من عمره المنقرض، مع أن العمر وإن
(1)
شرح الحكم العطائية (ص: 36).
(2)
ديوان علي بن محمد التهامي (ص: 276).
(3)
شرح الحكم العطائية (ص: 36).
(4)
ديوان صفي الدين الحلي (ص: 1209).
(5)
شرح الحكم العطائية (ص: 37).
طال قصير، والفراغ وإن تمَّ يسير"
(1)
.
وقال بعض البلغاء: "الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تخلو من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك؛ فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وتبعاتها تبقى"
(2)
.
وقال علي رضي الله عنه يصف الدنيا": أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صحَّ فيها سقم، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فُتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن نظر بها بصَّرته"
(3)
.
وقال يزيد الهاشمي: " عيوب الدنيا بادية وهي تغيرها، ومواعظها منادية، لكن حبها يُعمي ويصم، فلا يسمع محبُّها نداءها، ولا يرى كشفها للغير وإيذاءها
قد نادتِ الدنيا على نفسِها
…
لو كان في العالم من يسمعُ
كم واثقٍ بالعمر أفنيته
…
وجامعٍ بددتُ ما يجمعُ
كم قد تبدل نعيمها بالضر والبؤس، كم أصبح من هو واثق بملكها وأمسى وهو منها قنوط بؤوس "
(4)
.
"وقال بعض البلغاء: إن الدنيا تقبل إقبال الطالب، وتدبر إدبار الهارب، وتصل وصال الملول، وتفارق فراق العجول، فخيرها يسير، وعيشها قصير، وإقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، ولذاتها فانية، وتبعاتها باقية، فاغتنم غفوة الزمان، وانتهز فرصة
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 133).
(2)
المرجع السابق.
(3)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 134).
(4)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 27).
الإمكان، وخذ من نفسك لنفسك، وتزود من يومك لغدك"
(1)
.
وقال أبو العتاهية:
هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى
…
وَدَارُ الْفَنَاءِ وَدَارُ الْغِيَرْ
فَلَوْ نِلْتهَا بِحَذَافِيرِهَا
…
لَمِتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْ
أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْخُلُودِ
…
وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ
إذَا مَا كَبِرْت وَبَانَ الشَّبَابُ
…
فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ
(2)
.
"وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز، رحمه الله، أنه بكى يومًا بين أصحابه، فسُئل عن ذلك، فقال: فَكَّرتُ في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تَنْقَضِي حتى تكدرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر"
(3)
..
وقال ابن القيم: " الدنيا كامرأة بغيٍّ لا تثبت مع زوج، إنما تخطب الأزواج ليستحسنوا عليها فلا ترضى بالدياثة.
ميَّزتُ بين جمالها وفعالِها
…
فإذا الملاحةُ بالقباحة لا تَفي
حلفتْ لنا أن لا تخونَ عهودَنا
…
فكأنها حلفتْ لنا أن لا تَفي
السير في طلبها سيرٌ في أرض مسبعة، والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح، المفروح به منها هو عين المحزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها، وأحزانها من أفراحها.
مآربُ كانت في الشباب لأهلها
…
عِذابًا فصارت في المشيب عَذابا
(4)
.
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 134).
(2)
المرجع السابق (ص: 137).
(3)
تفسير ابن كثير (2/ 185).
(4)
الفوائد، لابن القيم (ص: 46).
الموفَّقون في الدنيا:
إن الفوز في هذه الحياة طريقُه إماتة الهوى، والاستيقاظ من نوم الغفلة، والنظر إلى المقصد الأعلى، الذي يقرب بعيد الغاية، ويسلِّي النفس عند مواجهة مشاقها.
فالموفقون لما عرفوا " قدر الحياة الدنيا وقلة المقام فيها أماتوا فيها الهوى؛ طلبًا لحياة الأبد، ولما استيقظوا من نوم الغفلة استرجعوا بالجد ما نهبه العدو منهم في زمن البطالة، فلما طالت عليهم الطريق تلمحوا المقصد فقرَّب عليهم البعيد، وكلما مرَّت لهم الحياة حلا لهم تذكر:{هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
وركبٍ سَروا والليل مُلقٍ رواقَه
…
على كل مغبرِّ المطالع قاتمِ
حدوا عزماتٍ ضاعت الأرضُ بينها
…
فصار سُراهم في ظهور العزائم
تُريهمْ نجومَ الليل ما يبتغونه
…
على عاتق الشِّعرى
(1)
وهام النعائم
إذا اطّردتْ في معرك الجِدِّ قصَّفوا
…
رماحَ العطايا في صدور المكارم
(2)
.
وحينما عرف هؤلاء الفطناء حقيقة هذه الدنيا تخفَّفوا منها، وأزالوا عن طريقهم إلى الله العوائق، واستجابوا لداعي الحق، فأبصروا" قصدهم، وبذلوا في الطلب جهدهم، وعلموا أن العلائق عوائق، وأن المخف هو السائق، فخففوا أنفسهم وأظهرهم من أثقال الأشغال؛ لعلمهم بأن الطريق كثير المزالق، هذه سنة الكرام في طلب ذي الجلال والإكرام، فأين المقتدون؟ وهذه سبيل هداة الأنام ودار السلام، فأين المهتدون؟ عاقنا -والله- عن اقتفاء آثارهم والتعلق بأذيال غبارهم فضولُ الكلام والطعام، وشغل القلب والجوارح بكسب الحطام، استُنفِزنا في سبيل الله فثبطنا، ودُعينا إلى الجناب العالي فأبينا، إن لنا همة دنية لا تشتاق إلى العالي، ولا تنافس في طلب الغالي، ولا تأنف من الهوى ولا
(1)
الشِّعرى: كوكب.
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 46).
تبالي"
(1)
.
لم تكن الدنيا لدى الموفّقين كبيرة ولا عظيمة؛ حتى انشغلوا بها ونسوا الآخرة، بل كانت لديهم حقيرة صغيرة لا تستحق الانشغال بها.
قال الحسن البصري: " ولقد رأيت أقوامًا كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقوامًا يمسي أحدهم وما يجد عنده إلا قوتًا فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله عز وجل، فيتصدق ببعضه، وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه! "
(2)
.
إن نور التوفيق جعل محبِّي الآخرة ينظرون إلى الدنيا بعين بصيرتهم المشرقة فأبصروها فانية، ذات لذات زائلة، فتركوا الركون إليها، والانكباب عليها؛ خشية الخسران في الآخرة.
قال الشاعر:
إنِّي رَأَيْتُ عَوَاقِبَ الدُّنْيَا
…
فَتَرَكْتُ مَا أَهْوَى لِمَا أَخْشَى
فَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا وَعَالَمِهَا
…
فَإِذَا جَمِيعُ أُمُورِهَا تَفْنَى
وَبَلَوْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا فَإِذَا
…
كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ يَسْعَى
أَسْنَى مَنَازِلِهَا وَأَرْفَعُهَا
…
فِي الْعِزِّ أَقْرَبُهَا مِنْ الْمَهْوَى
تَعْفُو مَسَاوِيهَا مَحَاسِنَهَا
…
لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّعْيِ وَالْبُشْرَى
وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى الْقُبُورِ فَمَا
…
مَيَّزْتُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
(3)
.
(1)
التذكرة في الوعظ، للقرشي (ص: 52).
(2)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (2/ 134).
(3)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 372).
هكذا فكن معها:
فيا أيها العاقل، لا تغتر بدنياك فتنسى آخرتك؛ فالدنيا زهرة فانية عما قريب ستذبل، ولا تنظر إليها بعين الإعجاب والطمع؛ فإنها لا تستحق تلك النظرة على الحقيقة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. وقال: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
ولا تنظر إلى أولئك الذين فرحوا بما أُوتوا من أعراض الدنيا ومتاعها الزائل فألهاهم عن الدار الآخرة، قال تعالى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].
فإن هذه الدار دار خيال ولهو ولهب، وليس بعاقل من انصرف إلى ذلك وترك دار الحقيقة والخلود، قال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
فخذ من دنياك ما يكفيك ولا يلهيك، وأعرض عنها احتقاراً لشأنها، واستصغاراً لما فيها فذلك هو الزهد، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال:(ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)
(1)
.
"كتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله؛ فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله؛ لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس؛ لتركك لهم دنياهم، والسلام"
(2)
.
(1)
رواه ابن ماجه (2/ 1373)، وهو حسن.
(2)
شعب الإيمان، للبيهقي (7/ 381).
وانظر إليها نظر الكاره المبغض، ولا تنظر إليها نظر العاشق المحب؛ فإن المحب مفتون بمحبوبه، مستجيب لما يأمر به.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)
(1)
.
وقال بعض الحكماء: "انظر إلى الدنيا نظر الزاهد المفارق لها، ولا تتأملها تأمل العاشق الوامق بها"
(2)
.
وإذا أينعت دنياك فإياك أن تميل إلى الانشغال بقطف ثمارها، والتلهي بمتاعها، والتنافس عليها؛ فإن ذلك قد أهلك من قبلك، واعتبر بمن غرَّتهم من السالفين ماذا أخذوا منها، وما كانت عاقبتهم عليها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)
(3)
.
"وقال أبو حازم: إن الدنيا غرَّت أقوامًا فعملوا فيها بغير الحق، فعاجلهم الموت فخلَّفوا مالهم لمن لا يحمدهم، وصاروا لمن لا يعذرهم، وقد خلقنا بعدهم فينبغي أن ننظر للذي كرهناه منهم فنجتنبه، والذي غبطناهم به فنستعمله
(4)
.
وإن تجمَّلت لك بزخارفها، وأبدت لك مفاتنها فغض بصرك عنها؛ حتى تسلم من فتنتها؛ فإنها شَرك الهلاك، ومصيدة الشقاء، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)
(5)
.
(1)
رواه أحمد (32/ 470)، وابن حبان (2/ 486)، وهو صحيح.
(2)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 24).
(3)
رواه البخاري (3/ 1152)، ومسلم (4/ 2273).
(4)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 151).
(5)
رواه مسلم (4/ 2098).
قال ابن الجوزي: "الدنيا فخٌّ، والجاهل بأول نظرة يقع، فأما العاقل المتقِي فهو يصابر المجاعة، ويدور حول الحَب والسلامة بعيدة. فكم من صابر اجتهد سنين، ثم في آخر الأمر وقع. فالحذر الحذر؛ فقد رأينا من كان على سَنن الصواب، ثم زل على شفير القبر"
(1)
.
فـ" ينبغي للعبد المؤمن بربه إذا نظر إلى زهرة الدنيا فدعته إلى نفسها برونقها البهيج أن يقول لها بلسان الحال: إليك عني يا سريعة الزوال، إنما تصلحين للتشويق إلى دار ليس لساكنها عنها انتقال، أنت خزفٌ فانٍ، وتلك جوهر باق، فلتفرِّقْ بين الدارين عقولُ الرجال.
خلِّ عن منزل الفنا والزوالِ
…
ثم يمِّمْ نحو الجنابِ العالي
منزلِ الكرامة والأنس والبرْ
…
رِّ ونيلِ المنى ونيل النوال
تلك والله دارُ قوم شَروَها
…
بنفيسِ النفوس والأموال
حين زُفّت إليهمُ خطوبها
…
ثم ساقوا لها المهورَ الغوالي
(2)
.
وخذ من الدنيا ما حلَّ لك بالطرق المشروعة من غير كد في الطلب ولا حرص ولا تهافت على الشبهات والحرام، فقد " جمع النبي في قوله:(فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) بين مصالح الدنيا والآخرة، ونعيمُها ولذاتها إنما ينال بتقوى الله. وراحةُ القلب والبدن وترك الاهتمام، والحرص الشديد والتعب والعناد والكد والشقاء في طلب الدنيا إنما ينال بالإجمال في الطلب. فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة ونعيمها، ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها، فالله المستعان"
(3)
.
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 141).
(2)
التذكرة في الوعظ (ص: 24).
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 59).
وإياك أن تسلم للدنيا جلَّ همك، وتعطيها مفتاح قلبك، بل صاحبها "ببدنك وفارقها بقلبك وهمك؛ فإنك موقوف على عملك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، وعند الموت يأتيك الخبر"
(1)
.
قال الحسن: " ابنَ آدم، لا تعلِّق قلبك في الدنيا فتعلقه بشر معلَق، اقطع حبالها، وغلِّق أبوابها، حسبك -يا ابن آدم- منها ما يبلغك المحل"، وكان يقول: إن قومًا أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينُوها فأهنا ما تكون إذا أهنتموها، هيهات هيهات ذهبت الدنيا وبقيت الأعمال قلائد في الاعناق
(2)
.
وإياك أن تركب للدنيا مطيةَ الهوى، فتوصلك إلى متاهات الفتنة؛ فإن "الهوى مطية الفتنة، والدنيا دار المحنة، فانزل عن الهوى تسلم، وأعرض عن الدنيا تغنم، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي، ولا تفتنك دنياك بحسن العواري؛ فمدة اللهو تنقطع، وعارية الدهر ترتجع، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم، وتكتسبه من المآثم"
(3)
.
ولا تأمل البقاء عليها طويلا، ولا تركن إلى محاسنها كثيرا؛ فإنها لن تدوم، ولن تبقى.
"قال بعض العلماء: إن الدنيا كثيرة التغيير، سريعة التنكر، شديدة المكر، دائمة الغدر، فاقطع أسباب الهوى عن قلبك، واجعل أبعدَ أملِك بقية يومك، وكُن كأنك ترى ثواب أعمالك"
(4)
.
وإياك أن تغفل عن الدار الآخرة؛ فإنها هي الوطن، وأما الدنيا فإنها دار غربة، ودار ممر لا دار مقر، وأنت فيها غريب أو عابر سبيل، فتحمل في طريق غايتك عناءَ سفرك، وكآبة غربتك.
(1)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (1/ 306).
(2)
عدة الصابرين، لابن القيم (ص: 193).
(3)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 24).
(4)
المرجع السابق (ص: 136).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك
(1)
.
قال ابن القيم: "الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبنِي على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر، ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آنٍ من آنات السفر غير واقفة، ولا المكلف واقف وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير"
(2)
.
موعظة جامعة:
وما أحسن موعظة الحسن البصري رحمه الله حيث يقول: " إن الدنيا دار عمل، من صحبها بالنقص لها والزهادة فيها، سعد بها ونفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها والمحبة لها شقِي بها، وأجحف بحظه من الله عز و جل، ثم أسلمته إلى ما لا صبر له عليه ولا طاقة له به من عذاب الله، فأمرها صغير، ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله تعالى ولِي ميراثها، وأهلها محولون عنها إلى منازل لا تبلى ولا يغيرها طول الثواء
(3)
فاحذروا -ولا قوة إلا بالله- ذلك الموطن، وأكثروا ذكر ذلك، واقطع -يا ابن آدم- من الدنيا أكثرَ همك، أو لتقطعن حبالها بك، فينقطع ذكر ما خلقت له من نفسك، ويزيغ عن الحق قلبك، وتميل إلى الدنيا فترديك، وتلك منازل سوء بيِّنٌ ضرها، منقطع نفعها، مفضية
(1)
رواه البخاري (5/ 2358).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 190).
(3)
الثواء: الإقامة.
والله بأهلها إلى ندامة طويلة، وعذاب شديد، فلا تكونن -يا ابن آدم- مغتراً، ولا تأمن مالم يأتك الأمان منه؛ فإن الهول الأعظم ومفظعات الأمور أمامك، لم تخلص منها حتي الآن، ولا بد من ذلك المسلك، وحضور تلك الأمور، إما يعافيك من شرها وينجيك من أهوالها، وإما الهلكة وهي منازل شديدة مخوفة محذورة مفزعة للقلوب؛ فلذلك فاعدُد، ومن شرها فاهرب، ولا يلهينك المتاع القليل الفاني، ولا تربص بنفسك فهي سريعة الانتقاص من عمرك، فبادر أجلك ولا تقل غداً غداً؛ فإنك لا تدري متى إلى الله تصير، واعلموا أن الناس أصبحوا جادين في زينة الدنيا، يضربون في كل غمرة
(1)
وكلٌّ معجب بما هو فيه، راضٍ به، حريص على أن يزداد منه، فما لم يكن من ذلك لله عز وجل وفي طاعة الله فقد خسر أهله، وضاع سعيه، وما كان من ذلك في الله وفي طاعة الله فقد أصاب أهله به وجه أمرهم، ووفقوا فيه بحظهم، عندهم كتاب الله وعهده وذكر ما مضى وذكر ما بقِي والخبر عمن وراءهم كذلك أمر الله اليوم وقبل ذلك أمره فيمن مضى،
…
وحق على من جاءه البيان من الله بأن هذا أمره وهو واقع أن يصغر في عينه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم، أوَ ليس ما ذكر الله من الكراهة لأهلها فيما بعد الموت والهوان ما يطيب نفس امرئ عن عيشة دنياه؛ فإنها قد آذنت بزوال، لا يدوم نعيمها، ولا يؤمن فجائعها، يبلى جديدها، ويسقم صحيحها، ويفتقر غنيها، ميالة بأهلها، لعَّابة بهم على كل حال، ففيها عبرة لمن اعتبر، وبيان فعلِي منتظر. يا ابن آدم، أنت اليوم في دار هي لافظتك، وكأن قد بدا لك أمرها، فإلى الصرام
(2)
ما يكون سريعًا، ثم يفضي بأهلها إلى أشد الأمور وأعظمها خطراً، فاتق الله -يا ابن آدم- وليكن سعيك في دنياك لآخرتك؛ فإنه ليس لك من دنياك شيء إلا ما صدرت أمامك، فلا تدخرن عن نفسك مالك، ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك، ولكن تزود لبعد الشُّقة، واعدد العدة أيام حياتك، وطول مقامك قبل أن ينزل بك من قضاء الله ما هو نازل، فيحول دون
(1)
الغمرة: الضلالة.
(2)
الصرام: الانقطاع.
الذي تريد فإذا أنت -يا ابن آدم- قد ندمت حيث لا تغني الندامة عنك. ارفض الدنيا ولتسخُ بها نفسُك، ودع منها الفضل؛ فإنك إذا فعلت ذلك أصبت أربح الأثمان من نعيم لا يزول، ونجوت من عذاب شديد ليس لأهله راحة ولا فترة، فاكدح لما خلقت له قبل أن تفرق بك الأمور فيشق عليك اجتماعها، صاحب الدنيا بجسدك وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما قد سلف بين يديك من العمر، وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه؛ فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزدك إعجاب أهلها بها زهداً فيها، وحذراً منها؛ فإن الصالحين كذلك كانوا. واعلم -يا ابن آدم- أنك تطلب أمراً عظيمًا لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله، ولا تدع حظك وقد عرض عليك وأنت مسئول ومقول لك، فأخلص عملك، وإذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن أنجى الناس من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء، وأمر العباد بطاعة الله وطاعة رسوله؛ فإنكم أصبحتم في دار مذمومة خلقت فتنة، وضُرب لأهلها أجل، إذا انتهوا إليه يبيد، أخرج نباتها، وبث فيها من كل دابة، ثم أخبرهم بالذي هم إليه صائرون، وأمر عباده فيما أخرج لهم من ذلك بطاعته، وبين لهم سبيلها يعني سبيل الطاعة، ووعدهم عليها الجنة، وهم في قبضته ليس منهم بمعجز له، وليس شيء من أعمالهم يخفى عليه، سعيهم فيها شتى بين عاص ومطيع له، ولكل جزاء من الله بما عمل ونصيب غير منقوص، ولم أسمع الله تعالى فيما عهد إلى عباده وأنزل عليهم في كتابه رغب في الدنيا أحداً من خلقه، ولا رضي له بالطمأنينة فيها، ولا الركون إليها، بل صرف الآيات وضرب الأمثال بالعيب لها، والنهي عنها ورغب في غيرها، وقد بين لعباده أن الأمر الذي خلقت له الدنيا وأهلها عظيم الشأن، هائل المطلع، نقلهم عنها إلى دار لا يشبه ثوابها ثوابًا ولا عقابها عقابًا، لكنها دار خلود يُدِين الله تعالى فيه العبادَ بأعمالهم، ثم ينزلهم منازلهم، لا يتغير فيها بؤس عن أهلها ولا نعيم. فرحم الله عبداً طلب الحلال جهده حتى إذا دار في يده وجهه وجهه الذي هو وجهه. ويحك يا ابن آدم، ما يضرك الذي أصابك من شدائد الدنيا إذا خلص لك خير الآخرة؟ {أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1، 2]، هذا فضح القوم ألهاكم التكاثر عن الجنة عند دعوة الله تعالى وكرامته. والله لقد صحبنا أقوامًا كانوا يقولون: ليس لنا في الدنيا حاجة، ليس لها خُلقنا، فطلبوا الجنة بغدوهم ورواحهم وسهرهم، نعم- والله- حتى أهرقوا فيها دماءهم، ورجوا فأفلحوا ونجوا"
(1)
.
ففكِّر-يا عبد الله- في الآخرة وما فيها من الثواب الجزيل، والعطاء الكثير لمن آمن وعمل صالحاً؛ فإن ذلك يمحو حب الدنيا من قلبك، ويشحذ همتك بالجد في الاستعداد لجنة الله ورضوانه. قال الغزالي:"وأما حب الدنيا فالعلاج في إخراجه من القلب شديد، وهو الداء العضال الذي أعيا الأولين والآخرين علاجه، ولا علاج له إلا الإيمان باليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا؛ فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير، فإذا رأى حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها، وإن أُعطِي ملك الأرض من المشرق إلى المغرب، وكيف وليس عنده من الدنيا إلا قدر يسير مكدر منغص، فكيف يفرح بها أو يترسخ في القلب حبها مع الإيمان بالآخرة، فنسأل الله تعالى أن يرينا الدنيا كما أراها الصالحين من عباده"
(2)
.
(1)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (2/ 140 - 142).
(2)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 457).
نذيرُ الشيب
الموت مصير لابد منه، ومآل سيؤول إليه كل حي، وهو أجلٌ معلوم لا يدري المخلوق متى يلاقيه. ولما كان الممات ميعاداً ينقطع بلقياه الأمل، وتنتهي بنزوله مهلةُ العمل، ويكثر عنده ندم المفرّطين، لانتقالهم به من دار التكليف إلى دار الحساب؛ فقد رحم اللهُ تعالى خلقه بإرساله رسلاً تنذرهم بقرب المنية؛ حتى يجدّ المبطئ، ويتوب المسرف المفرِّط، وينتبه الغافل، ويصحو اللاهي. فمن تلك النذر بقدوم الموت: الشّيب الذي يسلُّ حسام موعظته ببريقه على سواد الشعور، ويزجر صاحبها ببياضه عن الفتور والقصور.
فـ" من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها، فما تنتظر إلا الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر إلا الموت، فقبيحٌ منه الإصرار على الذنب.
أيُّ شيءٍ تريدُ مني الذنوبُ
…
شَغُفتْ بي فليس عني تغيبُ
ما يضرُّ الذنوبَ لو أعتقتني
…
رحمةً بي فقد علاني المشيبُ
(1)
.
إن الشيب ضياء يلمع في قافية ليل الحياة بعد أن قطع ذلك الليلُ مسيرةً طويلة أوشك بعدها على الذهاب والانتهاء، فقدّمَ بين يديه طليعةً للإخبار بقرب رحيل صاحبه عن الدنيا، فمن أصغى لخبر النذير استعد له وأخذ للأمر أُهبته، ومن لم يسمع نصيحته فاجأه جيشُ المنية فأنزل به ما يكره من النكال.
ولا ريب أن الإنسان في الحياة الدنيا لا يبقى على قوته وقدرته، بل يدركه العجز والضعف، وينتقل من تمامه إلى نقصانه، ومن سعة زمانه إلى ضيق أوانه، ومن حياته إلى
(1)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 370).
موته، والشيب من أمارات الضعف بعد القوة، والعجز بعد القدرة، والنقصان بعد التمام.
يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]. قال ابن كثير: " ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالاً بعد حال؛ فأصله من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، ثم يصير عظاماً، ثم تكسى العظام لحماً، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى، ثم يشبّ قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً، ثم حدثاً ثم مراهقاً شاباً- وهو القوة بعد الضعف- ثم يشرع في النقص فيكتهل ثم يشيخ ثم يهرم- وهو الضعف بعد القوة- فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللِمّة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال تعالى: {ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةٍ ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} أي: يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} "
(1)
.
النذير الصامت:
على المرء العاقل في هذه الحياة إن لم يسمع النُّذر الناطقة، أن يعتبر بالنذر الصامتة المشاهدة، فكم في نفسه وفيما يراه في حياته من عبر واعظة، فما يحدث له "من حين بلوغه إلى آخر عمره من التغير والانتقال من حال إلى حال من غير صنع له فيه ولا اختيار منه له، فيكون حَدثًا شابًا ثم كهلاً ثم شيخًا وما ينقلب فيه فيما بين ذلك من مرض وصحة وفقر وغنى، وفرح وحزن، ثم ما يراه في غيره وفي سائر الأشياء من حوادث الدهر التي لا صنع للمخلوقين فيها، كل ذلك داعٍ له إلى الله، ونذير له إليه"
(2)
.
قال ابن الجوزي: " العجب ممن يقول: أخرجُ إلى المقابر فأعتبر بأهل البلى، ولو فطن علم أنه مقبرة يغنيه الاعتبار بما فيها عن غيرها، خصوصاً من قد أوغل في السن؛ فإن
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 532).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (5/ 248).
شهوته ضعفت، وقواه قلّت، والحواس كلّت، والنشاط فتر، والشعر ابيض، فليعتبر بما فقد، وليستغن عن ذكر من فقد، فقد استغنى بما عنده التطلع إلى غيره"
(1)
.
إن ما يحصل على الشعور من لمعان الشيب هو نذير لصاحبها من اقتراب الموت ومفارقة الحياة الدنيا، فما للإنسان مع ذلك والتفريطَ، وتضييعَ ما تبقى من العمر فيما لا ينفع بعد نزول الأجل؟!
ورد عن ابن عباس وعكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع وقتادة أن النذير هنا هو الشيب
(2)
.
وقال ابن حجر: " {وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} اختلف أهل التّفسير فيه، فالأكثر على أنّ المراد به الشّيب؛ لأنّه يأتي في سنّ الكهولة فما بعدها، وهو علامة لمفارقة سنّ الصّبا الّذي هو مظنّة اللّهو"
(3)
.
وقد عد الشعراء والحكماء الشيبَ نذيرَ الموت وبريدَه، وأمارةً على قرب الأجل، وبوابة خروجٍ من الحياة، وبداية لنهايتها، وذبولاً لزهرتها، وطريقًا قريبًا إلى القبر.
قال الشاعر:
رأيتُ الشيبَ من نُذُر المنايا
…
لصاحبها وحسبُك من نذيرِ
فحدُّ الشيبِ أُهبةُ ذي وقارٍ
…
فلا خلفٌ يكون مع القتير
(4)
.
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 282).
(2)
الدر المنثور، للسيوطي (7/ 32)، الكشف والبيان، للثعلبي (8/ 115)، تفسير ابن كثير (3/ 675).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (11/ 239).
(4)
القتير: أول ما يظهر من الشيب. المعجم الوسيط (2/ 714).
وقال آخر:
وقائلةٍ تخضِّب فالغواني .... نوافرُ عن معاينة القتيرِ
فقلتُ لها المشيبُ نذير عمري
…
ولستُ مسوِّداً وجهَ النذير
(1)
.
وقال الحريري:
أيا مَنْ يدَّعي الفَهْمْ
…
إلى كمْ يا أخا الوَهْمْ
تُعبّي الذّنْبَ والذمّ
…
وتُخْطي الخَطأ الجَمّ
أمَا بانَ لكَ العيْبْ
…
أمَا أنْذرَكَ الشّيبْ
وما في نُصحِهِ ريْبْ
…
ولا سمْعُكَ قدْ صمّ
(2)
.
وقال أيضًا:
أمَا ترَى الشّيبَ وخَطْ
…
وخَطّ في الرّأسِ خِطَطْ
ومنْ يلُحْ وخْطُ الشّمَطْ
…
بفَودِهِ فقدْ نُعِي
(3)
.
وقال أبو العتاهية:
يا خاضبَ الشيبِ بالحِنّاءِ تستُرَهُ
…
سلِ الملِيكَ له سِتراً من النارِ
لن يرحلَ الشيبُ عن دارٍ ألمَّ بها
…
حتى يُرحِّلَ عنها صاحبَ الدارِ
(4)
.
وقال آخر:
ألم تر كيف تخترمُ المنايا
…
وكيف تحول بين الخافقينِ
(1)
الكشف والبيان، للثعلبي (8/ 115).
(2)
مقامات الحريري (ص: 85).
(3)
مقامات الحريري (ص: 424).
(4)
الفاضل، للمبرد (ص: 24).
تؤمّل بعد شيبك طولَ عمرٍ
…
أليس الشيبُ إحدى الميتين
(1)
.
وقال محمود الورّاق:
أيُّها المبتَنِي الحُصُو
…
نَ وقد شابَ واكتَهَلْ
أخبَرَ الشَّيْبُ عنكَ أنْـ
…
نكَ في أخِرِ الأجَلْ
(2)
.
وقال يحيى بن خالد بن برمك:
الليلُ شيَّبَ والنهارُ كلاهما
…
رأسي بكثرة ما تدور رَحاهما
الشّيبُ إحدى الميتتين تَقَدَّمَتْ
…
أولاهما وتأَخَّرَتْ أخراهما
(3)
.
وقال ابن الرومي:
كفى بِسِرَاجِ الشّيبِ في الرأس هادياً
…
إلى من أَضَلَّتْهُ المنايا لياليا
أَمن بَعْدِ إِبداءِ المشيب مقاتلي
…
لرامي المنايا تحسبينيَ ناجيا
وكان كرامي الليل يرمي ولا يَرَى
…
فلما أَضاءَ الشّيبُ شخصي رمانيا
(4)
.
وقال الجاحظ: " وقال بعضهم: الشيب نذير الآخرة. وقال قيس بن عاصم: الشيب خِطام المنية. وقال آخر: الشيب توأم الموت. وقال الحكيم: شيبُ الشعر موت الشّعَر، وموت الشعر علة موت البشر. وقال المعتمر بن سليمان: الشيب أول مراحل الموت. وقال السهمي: الشيب تمهيد الحِمَام. وقال العتابي: الشيب تاريخ الكتاب. وقال النمري: الشيب عنوان الكِبر. وقال عدي بن زيد العبادي:
(1)
الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 253).
(2)
حماسة الظرفاء، للزوزني (ص: 9).
(3)
التذكرة الحمدونية، لابن حمدون (2/ 153).
(4)
المرجع السابق (2/ 154).
وابيضاضُ السوادِ من نذر الشرِّ
…
وهل مثله لحيٍّ نذيرُ"
(1)
.
وقال بعضهم: الشيب نذير المنية، وبريد الآخرة، وإحدى المنيتين، وأول مواعيد الفنا، وناعي الشباب، ورسول البِلى، وقناع الموت، وقذى عين الشباب، والموت ساحل الحياة، والشيب سفينة تقرب من الساحل
(2)
. وقال آخر: الشيب تبسمُ المنايا
(3)
.
وقال ابن الجوزي: " سرق لصُّ الشيب رأسَ مال الشباب
…
كانت أيام الشباب كفصل الربيع، وساعاته كأيام التشريق، والعيش فيه كيوم العيد، فأقبل الشيب يعد بالفناء، ويوعد بصفر الإناء، فأرخى مشدود أطناب العمر، ونقض مشيد سرائر القوى. أُديلَ ضعف الشيب على الشباب فعمل معولَ الوهن وراء الجلَد في الجِلْد، فصار مرْبع الحياة قفراً قد خلت بطاحُه، ومربع اللهو هباء تذروه الرياح، وإن الهالك من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل. أبقيَ بعد الشيب منزل غير البلى؟ بلى أنت تدري أين تنزل.
مرحلة الشيب تحط على شفير القبر، وقد اتخذت من رأي الهوى حصنًا، فما هذا الأمل؟. أتطلب ربيع وأنت في ذي القعدة؟!
(4)
.
اختلاف النظرة إلى الشيب:
إن ابتسام الشيب على الشعر يحزن أهل الشهوات الذين يرون به منفرّاً للنساء عنهم، وقاطعًا لهم عن استيفاء الرغبات التي كانوا يظفرون به فيها زمن قوة الشباب؛ فلذلك يرونه مصيبة تحبسهم عن تمام اللذات الدنيوية العاجلة، وينذرهم بقرب رحيلهم عنها.
(1)
البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 378).
(2)
التمثيل والمحاضرة، للثعالبي (ص: 81).
(3)
التذكرة الحمدونية، لابن حمدون (2/ 151).
(4)
اللطائف، لابن الجوزي (ص: 25).
رَأَيْنَ الغَوانِي الشَّيْبَ لاحَ بمَفْرِقي
…
فأَعْرَضْنَ عَنِّي بالوُجُوهِ النَّواضِرِ
(1)
.
وكُنَّ إِذا أَبْصَرْنَنِي أَوْ سَمِعْنَنِي
…
دَنَوْنَ فَرَقَّعْنَ الكُوَى بالمَحاجِرِ
وقال ابن نباتة:
تبسُّمُ الشيبِ بوجه الفتى
…
يُوجبُ سحَّ الدمع من جفنهِ
وكيف لا يبكي على نفسه
…
مَنْ ضحك الشيبُ على ذقنه
(2)
.
أما أهل الدين والحجى فيرونه عن الهوى والانحراف واعظًا يزجرهم، وناصحًا مخلصًا في نصحهم، ومنبِّهًا يوقظهم، وسائقًا يسوقهم إلى درب الاستعداد للقاء الله، كما يرونه نوراً يهديهم إلى أحسن الأعمال؛ لأنه يمنع عن المرء" الغرور والخفة والطيش، ويميله إلى الطاعة، وتنكسر به نفسه عن الشهوات"
(3)
.
قال يَزِيدَ بن الحَكَم الثَّقَفِي:
أَبَى الشَّيْبُ والإِسْلامُ أَنْ أتْبَعَ الهَوَى
…
وفي الشَّيْبِ والإِسلامِ للمَرْءِ رادِعُ
(4)
.
وقال سُحيْم:
عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غادِيا
…
كَفَى الشَّيْبُ والإِسْلامُ للمَرْءِ ناهِيا
(5)
.
أي: زاجراً رادعًا. والشيب نذير الموت، والموت يسن إكثار ذكره؛ لتتنبه النفس من سنة الغفلة، فيسن لمن بلغ سن الشيب أن يعاتب نفسه ويوبخها بإكثار التمثل بهذا
(1)
الحماسة البصرية، لأبي الحسن البصري (ص: 55).
(2)
المستطرف، للأبشيهي (2/ 70).
(3)
فيض القدير، للمناوي (4/ 184).
(4)
الحماسة البصرية، لأبي الحسن البصري (ص: 121).
(5)
المرجع السابق (ص: 158).
البيت
(1)
.
وقال ابن زمرك:
إذَا رَأيْتَ بُرُوْقَ الشَّيْبِ قَدْ بَسَمَتْ
…
بِمَفْرقٍ فَمُحَيَّا العَيْشِ قَدْ كَلَحَا
يَلْقَى المَشِيْبَ بإجْلالٍ وتَكْرِمةٍ
…
مَنْ قَدْ أعَدَّ مِنْ الأعمالِ ما صَلحُا
(2)
.
وقال أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي:
يا من يُصيخُ إلى داعي الشقاءِ وقد
…
نادى به الناعيانِ الشَّيبُ والكِبرُ
إن كنتَ لا تسمع الذكرى ففيمَ ترى
…
في رأسك الواعيانِ السمع والبصر
(3)
.
وقال آخر:
بكيتَ فما تبكي شبابَ صباكا
…
كفاك نذيرُ الشيب فيك كفاكا
ألم تر أن الشيب قد قام ناعيًا
…
مكان الشباب الغضِّ ثم نعاكا
(4)
.
وقال أبو نواس:
للهِ درُّ الشيبِ من واعظٍ
…
وناصحٍ لو قبِل الناصحُ
(5)
.
وقال بعضهم: اِقْبلْ نصح المشيب وإن عَجِل
(6)
. وقال آخر: الشيب للعاقل بشير، وللجاهل نذير
(7)
.
(1)
فيض القدير، للمناوي (5/ 203).
(2)
ديوان ابن زمرك (ص: 23).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 278).
(4)
الكبائر، للذهبي (ص: 160).
(5)
أخبار أبي نواس (ص: 10).
(6)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (154).
(7)
التذكرة الحمدونية، لابن حمدون (2/ 152).
ورأى إياس بن قتادة العبشمي شيبة في لحيته فقال: أرى الموت يطلبني وأراني لا أفوته، أعوذ بالله من فجأة الأمور. يا بني سعد، قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبي. ولزم بيته. فقال أهله: تموت هزلاً. قال: لأن أموت مهزولاً مؤمناَ، أحب إلي من أن أموت منافقاً سميناً
(1)
.
وقال بعض البلغاء: الشيب حلية العقل، وسمة الوقار، وعنوان التجربة، وشاهد الحنكة. وقال آخر: الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب. وقال آخر: إذا شاب الغافل سرى في طريق الرشد بمصابيح الشيب
(2)
.
وقال البديع الهمداني في رسالة له: جزى الله المشيب خيراً؛ فإنه أناة، ولا ردَّ الشباب فإنه هَنات
(3)
، وأظنهما لو مثِّلا لمثِّل الشباب كلباً عقوراً، والشيب شيخاً وقوراً، ولاشتعل الأول ناراً، واشتهر الآخر نوراً. فالحمد لله الذي بيّض القار، وسماه الوقار، وعسى الله أن يغسل الفؤاد، كما غسل السواد
(4)
.
فمن حلَّ على رأسه نذير الشيب فلم يرعوِ عن غيه، بل استمر في تقصيره ولهوه، وما رجع إلى ربه من تفريطه وإباقه، ولم يردعه الشيب عن الغواية، ويسلك به طرق الهداية؛ فقد تُودِّع منه؛ ولهذا قيل:"من لم يرعو عند الشيب، ولم يستح من العيب، ولم يخش الله في الغيب، فليس لله فيه حاجة"
(5)
.
قال بعضهم:
وما أقبحَ التَّفريطَ في زمنِ الصِّبا
…
فكيف به والشَّيبُ للرَّأس شامِلُ
(1)
المرجع السابق.
(2)
تحسين القبيح وتقبيح الحسن، للثعالبي (ص: 40).
(3)
أي شرور وفساد. المعجم الوسيط (2/ 998).
(4)
تحسين القبيح وتقبيح الحسن، للثعالبي (ص: 40).
(5)
فيض القدير، للمناوي (3/ 332).
ترحَّل من الدُّنيا بزادٍ من التُّقى
…
فعُمْرُكَ أيامٌ وهُنَّ قَلائِلُ
(1)
.
اقبل النذارة:
فيا من نزلت بصفحة ليله نجومُ المشيب، أما يهديك ضياؤها إلى سلوك سبيل الادكار، والعودة إلى ربك الرحيم الغفار، فتغلق عنك باب الغفلة والسهو، وتسريحِ النفس في مراتع اللهو والزهو، فما الحياة لك بدائمة، ولا عينُ المنية عنك بنائمة.
قال الشافعي:
خبتْ نارُ نفسي باشتعالِ مفارقي
…
وأظلمَ ليلي إذ أضاء شهابُها
أيا بومةً قد عشّشتْ فوق هامتي
…
على الرغم مني حين طار غرابُها
رأيتِ خرابَ العمر مني فزرتنِي
…
ومأواكِ من كل الديار خرابُها
أأنعمُ عيشًا بعد ما حلّ عارضي
…
طلائعُ شيبٍ ليس يغني خضابُها
وعزةُ عمرِ المرء قبل مشيبه
…
وقد فنيتْ نفسٌ تولّى شبابها
إذا اصفرّ لونُ المرء وابيضّ شعرُه
…
تنغّص من أيامه مستطابها
فدعْ عنك سوءاتِ الأمور فإنها
…
حرامٌ على نفس التقيِّ ارتكابُها
(2)
.
وقال ابن الجوزي: " من علم قرب الرحيل عن مكة، استكثر من الطواف، خصوصاً إن كان لا يؤمل العَود؛ لكبر سنه وضعف قوته. فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات، وينتظر الهاجم بما يصلح له، فقد كان في قوس الأجل منزع زمان الشباب، واسترخى الوتر في المشيب عن سِيَة القوس
(3)
، فانحدر إلى القلب،
(1)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (42/ 9).
(2)
ديوان الإمام الشافعي (ص: 2).
(3)
السية من القوس ما عطف من طرفيها وهما سيتان. المعجم الوسيط (1/ 469).
وضعفت القوى، وما بقي إلا الاستسلام لمحارب التلف"
(1)
.
فطوبى لمن "ألجمه الشيب بلجامه، وقاده بزمامه"
(2)
، وذكّره بدنو حِمامه، وتصرُّم أيامه، فما الإنسان حال حياته إلا ضياء نهار يعقبه الليل بظلامه، فيصير بعده في الموتى.
وما المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ
…
يَحُورُ رَماداً بَعْدَ إِذْ هو ساطِعُ
(3)
.
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 223).
(2)
التمثيل والمحاضرة، للثعالبي (ص: 81).
(3)
الحماسة البصرية (ص: 86).
كونوا من أبناء الآخرة
بعد أن تأفُل شمس الحياة، ويُطوى كتابُ الدنيا، ويمضي زمان الأحلام بإسدال وشاح الغروب، ويُلمح أوانُ الحقيقة بابتسام الشروق، وتنتهي الزيارة إلى دنيا التكليف والعمل؛ تُقبِل أيامُ الآخرة، ويُدعى الخلق للوقوف بين يدي الخالق سبحانه وتعالى؛ لحساب المكلفين على أعمالهم التي عملوها في حياتهم الدنيا. {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].
لقد خلق الله تعالى لعباده دار تكليف، ودار جزاء، ولما كان التكليف موقوتًا جعل له داراً باقية إلى أجل ثم تزول، فكانت تلك الدار هي الدنيا، وحينما كان الجزاء باقيًا فقد خلق لأهله داراً باقية هي دار الآخرة. قال تعالى:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39].
فقوله: " {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي: قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أي: الدار التي لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، بل إما نعيم وإما جحيم"
(1)
.
قدر الدنيا:
إن هذه الدنيا بجميع متاعها وأعراضها وزينتها لا تساوي شيئًا بجانب ما في الآخرة؛ ولهذا زهّد الله عباده عن الحياة العاجلة، ورغّبهم في الحياة الآجلة، وأخبرهم أنها خير من الدنيا وأبقى منها، قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]، أي: تفضّلونها على الآخرة فتعملون لها، وتنسون الآخرة، فلا
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 98).
تقدمون لها، هذا هو طبعكم -أيها الناس- إلا مَنْ ذكر الله فصلى بعد أن آمن واهتدى، في حين أن الآخرة خير من الدنيا نوعاً وأبقى مدة، قال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يُؤثَر خزفٌ يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى؟!
(1)
. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَة)
(2)
. " أي: لا هذا الفاني الزائل؛ لأنّ الآخرة باقية وعيشها باق، والدنيا ظل زائل. والقصد بذلك: فطم النفس عن الرغبة في الدنيا، وحملُها على الرغبة في الآخرة"
(3)
. فعيشُ الآخرة هو: " العيش الكامل، وما سواه ظل زائل، وحال حائل"
(4)
.
غير أن أكثر الناس مع سطوع هذه الحقيقة آثروا العاجلة وأحبوها، وتركوا الآخرة فلم يعملوا لها. قال ابن رجب:" وأما أكثر الناس فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها، فشغلهم ذلك عن الآخرة، حتّى فاجأهم الموتُ بغتةً على هذه الغِرة، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير. وما أحسن قولَ يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمرُ الشيطان، من سَكِرَ منها لم يُفِقْ إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين"
(5)
.
فلذلك لم تكن الآخرة خيراً إلا للمتقين الذي استعدوا لها، قال تعالى:{وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]، وقال:{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77].
(1)
أيسر التفاسير للجزائري (5/ 558).
(2)
رواه البخاري (5/ 2357)، ومسلم (3/ 1431).
(3)
التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوي (1/ 412).
(4)
فيض القدير، للمناوي (5/ 68).
(5)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (42/ 6).
اجعلِ الآخرة همَّك:
فاستعد -أيها المسلم- لهذه الدار، وهيّءْ زاد النجاة الذي ينفعك عند الرحلة إليها، ولْتكن الآخرة هي همّك في هذه الحياة، وذِكرُها لا يغيب عن بالك، والعناية بها ملازمة لك في جميع أعمالك وأحوالك؛ فإن ذلك سبب سعادتك في دنياك وآخرتك. عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همَّه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيَّتَه جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)
(1)
. قال مالك بن دينار: "بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج همُّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج هم الدنيا من قلبك"
(2)
. وقال الفضيل بن عياض: " حزن الدنيا للدنيا يذهب بهمِّ الآخرة، وفرح الدنيا للدنيا يذهب بحلاوة العبادة"
(3)
. وعن سلام بن مسكين قال: "كان الحسن كثيراً ما يقول: يا معشر الشباب، عليكم بالآخرة فاطلبوها؛ فكثيراً رأينا مَنْ طلب الآخرة فأدركها مع الدنيا، وما رأينا أحداً طلب الدنيا فأدرك الآخرة مع الدنيا"
(4)
. وقال الكتاني: "كن في الدنيا ببدنك، وفي الآخرة بقلبك"
(5)
. وقال لقمان لابنه: "يا بني، إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون، وإنه قد استدبرت الدنيا لتذهب واستقبلت الآخرة، وإن داراً تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج منها"
(6)
. وقال ابن الجوزي: "همةُ المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكلُّ مَنْ شغله شيء فهمّته شغلُه؛ ألا ترى أنه لو دخل أرباب
(1)
رواه ابن ماجه (2/ 1375)، والطبراني، المعجم الكبير (5/ 143)، وهو صحيح.
(2)
الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 134).
(3)
المرجع السابق (ص: 135).
(4)
المرجع السابق (ص: 65).
(5)
الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 141).
(6)
المرجع السابق (ص: 201).
الصنائع إلى دار معمورة، رأيت البزّاز ينظر إلى الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبنّاء إلى الحيطان، والحائك إلى النسيج المخيط. والمؤمن إذا رأى ظلمة ذَكرَ ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذةً ذكر الجنة؛ فهمّتُهُ متعلقةٌ بما ثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ما تمّ. وأعظمُ ما عندَه أنه يتخايلُ دوام البقاء في الجنة، وأنَّ بقاءه لا ينقطع ولا يزالُ ولا يعتريه منغصٌ، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبًا في تلك اللَّذَّات الدائمة التي لا تفنى يطيشُ فَرَحًا، ويسهُلُ عليه ما في الطريق إليها من ألم ومرض وابتلاءٍ، وفقد محبوبٍ، وهُجوم الموت ومعالجةِ غُصَصِهِ؛ فإنَّ المشتاق إلى الكعبة يهونُ عليه رمْلُ زَرُودَ، والتائِقُ إلى العافية لا يبالي بمرارة الدواء، ويعلم أن جوْدَةَ الثمر ثَمَّ على مقدار جودَةِ البَذْرِ ها هُنا؛ فهو يتخيَّرُ الأجودَ، ويغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتورٍ. ثم يتخايلُ المؤمن دخول النار والعقوبة، فيتنغص عيشهُ ويقوى قلقُه. فعنده بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة، وفي صحراء الخوف أخرى، فما يرى البنيان .. "
(1)
.
أسرع ولا تبطئ:
فما أحسن أن تقضي عمرك في العمل للآخرة، وتسارع إلى كل عمل يسعدك فيها، وتتقرب إليه بما آتاك الله في هذه الحياة الدنيا. قال تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. وقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة)
(2)
.
وإياك والتسويف وطول الأمل؛ فإن الدنيا مولية عنك، والآخرة مقبلة عليك. قال
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 308).
(2)
رواه أبو داود (4/ 403)، والحاكم (1/ 132)، وهو صحيح.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبِرة، ألا وإن الآخرة قد ترحلت مقبِلة، ولكل واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل"
(1)
. وقال بعضُ الحكماء: "عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه، والآخرة مقبلةٌ إليه يشتغلُ بالمدبرة، ويُعرِض عن المقبلة! "
(2)
. وقال ابن الجوزي في مواعظه: "أيها العبد، تناهَ عن قبيح فعلك، قبل انبثاث جهلك، وانظر لنفسك في أمرك، قبل حلولك في قبرك. كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل. ووعظ أعرابي ابنه فقال: لا الدهر يعظك، ولا الأيَّام تنذرك، والساعات تعد عليك، والأنفاس تعد منك، أحب أمريك إليك أردهما بالمضرة عليك. ووجد على حجر مكتوب: ابنَ آدم، لو رأيتَ ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبتَ في الزيادة في عملك، ولقصَّرت من جهلك وحِيلك، وإنما يلقاك ندمُك إذا زلّتْ قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وباعدك الولد القريب، ورفضك الولد والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة"
(3)
. وقال ذو النون المصري: ثلاثة من أعلام حب الآخرة: كثرة البكاء، والذكر لها، ودوام الشوق إليها، وبغض الدنيا من أجلها
(4)
.
حسن القصدة منجاة:
وليكن مع عملك للآخرة خوفٌ وحذر، لا عجب ولا غرور، ولا ركون ولا أمان؛ فالقلوب بيد الله، وقبول العمل لا يعلمه إلا هو، فاهتم بحسن القصد، وصحة القلب؛ فإن
(1)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (1/ 76).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (42/ 3).
(3)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 16).
(4)
الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 71).
سلامته طريق إلى العمل الخالص للآخرة، قال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. قال ابن كثير: " وقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي: في حال عبادته خائف راجٍ، ولا بد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب؛ ولهذا قال تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} "
(1)
. قال ابن القيم: " وكلما صح القلب من مرضه ترحّل إلى الآخرة، وقرب منها، حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثرَ الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها"
(2)
.
وتذكّر الوقوفَ بين يدي الله للمسألة والحساب في ذلك اليوم، واحضرِ الأحوال المذكّرة لك بالآخرة؛ فإن ذلك من أعظم ما يحث سيرك إلى العمل والاستعداد.
قال الفضيل لرجل: "كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة، قال له: أنت من ستين سنة تسير إلى ربك! يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: من علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، وأنه مسؤول، فليعد للمسألة جوابًا، فقال له الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ماهي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وما بقي"
(3)
. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُودُوا الْمَرضى، وَامْشُوا مَعَ الْجَنَائِزِ تُذَكِّرْكُمُ الْآخِرَةَ)
(4)
.
اعرف حقيقة الدنيا:
إن أعظم ما يعلِّق قلب الإنسان بالآخرة، ويجعله يستعد لها، ويسارع إلى أعمالها: أن
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 59).
(2)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 71).
(3)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 108).
(4)
رواه أحمد (17/ 274)، وابن حبان (7/ 221)، وهو صحيح.
يعرف حقيقة الدنيا، ثم يزهد فيها، ويعرض عن زينتها وما يلهيه عن الآخرة من عرضها ومتاعها؛ فإن التعلق بالدنيا، والانغماس في شهواتها يقف عائقًا في طريق العمل للآخرة.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء)، قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله، قال:(ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولْتذكرِ الموتَ والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)
(1)
.
قال المناوي: "قوله: (وليذكر الموت والبلى)؛ لأن من ذكر أن عظامه تصير بالية، وأعضاؤه متمزقة، هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة، وأهمّه ما يلزمه من طلب الآجلة، وعمل على إجلال الله وتعظيمه، وهذا معنى قوله: (ومن أراد الآخرة) أي: الفوز بنعيمها (ترك زينة الدنيا)؛ لأن الآخرة خُلقت لحظوظ الأرواح، وقرة عين الإنسان، والدنيا خُلقت لمرافق النفوس وهما ضرتان: إذا أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى، فمن أراد الآخرة وتشبث بالدنيا كان كمن أراد أن يدخل دار ملك دعاه لضيافته وعلى عاتقه جيفة، والملك بينه، وبين الدار عليه طريقُه، وبين يديه ممرُّه وسلوكه، فكيف يكون حياؤه منه؟ فكذا مريد الآخرة مع تمسكه بالدنيا، فإذا كان هذا حال من أراد الآخرة فكيف بمن أراد من ليس كمثله شيء؟ فمن أراد الله فليرفض جميع ما سواه استحياء منه بحيث لا يرى إلا إياه"
(2)
. وقال أحمد بن أبي الحواري: "من عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه"
(3)
. وقال أيضًا: " سمعت أبا سليمان يقول: إذا سكنت الدنيا في القلب ترحّلت منه الآخرة"
(4)
. وكتب عمر إلى أبي موسى: "إنك لن
(1)
رواه الترمذي (4/ 637)، وهو حسن.
(2)
فيض القدير، للمناوي (1/ 487).
(3)
الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 140).
(4)
المرجع السابق (ص: 135).
تنال عمل الآخرة بشيء أفضل من الزهد في الدنيا"
(1)
. وقال الحسن: "يا ابن آدم، بعْ دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا
(2)
.
القلب هناك:
فيا سعد من كان من أبناء الآخرة، ولم يكن من أبناء الدنيا، فاستعد لدار القرار، وانقطع لها بهمِّه وفكره وعمله، فأصبح في الدنيا بجسده وفي الآخرة بروحه، فعافَ هذه الحياة الفانية وهجرها، وأحب تلك الدار الباقية وهاجر بقلبه إليها، قال ابن القيم:" فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أخرى وعلومًا أُخر، ووُلِد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه، فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة، وكما كان بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزاً إلى هذه الدار، وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أنه قال: يا بني إسرائيل، إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين"
(3)
.
(1)
الزهد لوكيع (1/ 5).
(2)
البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 450).
(3)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 276).
واعظُ الموت
رحلة لابد منها، ومطيَّة لا مناص من ركوبها، وسفر لا مهرب من التخلف عنه، ونهاية لاشك في الوصول إليها، إنها رحلة الموت إلى القبور، ومطية الركوب إلى تلك الدور، وسفر الوداع إلى منازل الأجداث، ونهاية الحياة الدنيا، وابتداء الحياة الآخرة.
يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]. وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].
وقال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]. " يقول عز وجل: وجاءت أيها الإنسان، سكرة الموت بالحق أي: كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص"
(1)
.
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
"وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس؛ فإِنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإِذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها في صلب آدم وانتهت البرية، أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحداً مثقال ذرة"
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 270).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 535).
رحلة لكل مخلوق:
إن كل حي سيؤول إلى ذلك المصير، ولن يتخلف عنه مخلوق، سواء كان صغيراً أم كبيراً، صحيحًا أم عليلاً، إنسيًا أم جنيًا أم مَلكًا، أم حيوانًا، ولن يبقى إلا الحي القيوم سبحانه وتعالى، قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]، وقال سبحانه:{كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىَ وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ، فـ"يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم؛ فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبداً"
(1)
.
متى ما نزل الأجل فلا حصن يعصم من نزوله، ولا مانع يمنع من أخذته، ولو تدرع الإنسان بكل مانع، وتترس بكل عاصم، قال تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]. " والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء، سواء جاهد أو لم يجاهد؛ فإن له أجلاً محتوماً، ومقاماً مقسوماً، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه: لقد شهدت كذا وكذا موقفاً، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء، وقوله:{وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} أي: حصينة منيعة عالية رفيعة
…
أي: لا يغني حذر وتحصن من الموت، كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومَن هابَ أسباب المنايا ينلْنه
…
ولو رامَ أسبابَ السماء بسلَّمِ"
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 329).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 650).
وقال الآخر:
لا تَأُمَنِ الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَسِ
…
ولو تَسَتَّرْتَ بِالأبواب والحَرَسِ
واعْلَمْ بأنّ سِهامَ الموت قاصدةٌ
…
لكلِّ مُدَّرعٍ منّا ومُتَّرِسِ
ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ طَرِيقَتها
…
إنّ السفينةَ لا تَجْرِي على اليَبسِ
(1)
.
إن قَدَر الموت ذهابٌ عن الدنيا بلا عودة، ومغادرة للحياة القصيرة الفانية إلى حياة طويلة باقية، ورجوع إلى الله تعالى بعد رحلة التكليف إلى دار الدنيا، فمن تمنى الأوبة إلى الدنيا وسألها؛ ليعمل صالحًا؛ فلن يعطى مناه، ولن ينال سؤله. قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10، 11]، وقال تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100]. فـ" الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان لذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو كلا"
(2)
. وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 61، 62]" يعني: ثم رد العباد بالموت إلى الله في الآخرة"
(3)
.
نظرة العاقل:
فمن أيقن بأن الموت يطلبه، وأن عساكره تنتظره، ولن يجد من قبضته شيئًا يمنعه،
(1)
الأغاني، للأصفهاني (4/ 112).
(2)
أضواء البيان، للشنقيطي (5/ 354).
(3)
تفسير الخازن (2/ 142).
وأنه سيذهب به عن دنياه بلا عودة، وسيلقى ربه فيحاسبه على ما قدم؛ فإن سيستعد للموت بما ينجيه بعد الموت، ويفرحه بلقاء هذا القدر المحتوم، ومن كان مستعداً للموت في كل وقت ذهبت عنه سِنَة الغفلة، وأخذ لما بعد الموت الأُهبة، فجهّز زاد النجاة، وملأ حقائب سفره بما ينفعه عند لقاء ربه، وقصر من أمله، وتخلّص من مظالم الخلق وحقوقهم عليه، وظل مشغولَ البال بالرحيل، فإذا ناداه منادي الرحيل أجابه فرحًا مشتاقًا، غيرَ فزِعٍ ولا مشعوف، ولا آبق ولا حزين، وقال: مرحبًا بحبيب جاء على موعد.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خُطَطًا صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: (هذا الإنسان وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الْخُطَطُ الصغار الأعراض
(1)
، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)
(2)
. وفي هذا الحديث: " تنبيه من النبي لأمته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل؛ خوف بغتة الأجل، ومن غيب عنه أجله فهو حري بتوقعه وانتظاره؛ خشية هجومه عليه في حال غِرَّة وغفلة، ونعوذ بالله من ذلك، فليرُضْ المؤمن نفسه على استشعار ما نبه عليه، ويجاهد أمله وهواه ويستعين بالله على ذلك؛ فإن ابن آدم مجبول على الأمل"
(3)
.
قال ابن الجوزي: " الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله؛ فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمرُ ربه، ولا يدري متى يُستدعى؟ وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب، ونسوا فقد الأقران، وألهاهم طول الأمل. وربما قال العالم المحض لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً! فيتساهل في الزلل بحجة الراحة، ويؤخر الأهبة لتحقيق التوبة، ولا يتحاشى من غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع. وينسى أن الموت
(1)
الأعراض" جمع عرض- بفتحتين-: وهو ما ينتفع به له الدنيا في الخير وفي الشر. فتح الباري (11/ 238).
(2)
رواه البخاري (5/ 2359).
(3)
شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 150).
قد يبغت. فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه؛ فإن بغته الموت رؤي مستعداً، وإن نال الأمل ازداد خيراً "
(1)
.
وقال أيضًا: " إذا علم الإنسان بأنّ الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته. فإن كان له شيء من الدّنيا وقف وقفًا وغرس غرسًا وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرّيّة تذكر اللّه بعده فيكون الأجر له، أو أن يصنّف كتابًا من العلم؛ فإنّ تصنيف العالم ولده المخلّد. وأن يكون عاملاً بالخير عالمًا فيه، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به، فذلك الّذي لم يمت قد مات قوم وهم في الناس أحياء"
(2)
.
وقال المناوي: " وترحل عن الدنيا حتى تنزل بالآخرة، وتحل فيها حتى تبقى من أهلها، وأنك جئت إلى هذه الدار كغريب يأخذ منها حاجته ويعود إلى الوطن الذي هو القبر، وقد قال علي رضي الله عنه: (إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، والآخرة ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل). فكأنك بالموت وقد سقاك كأسه على غفلة، فصرت من عسكر الموتى، فنزِّل نفسك منزلة من قضى نحبه، واترك الحرص واغتنم العمل وقصر الأمل، ومن تصور في نفسه أنه يعيش غداً لا يهتم له ولا يسعى لكفايته، فيصير حراً من رِقِّ الحرص والطمع والذل لأهل الدنيا، قال ابن الجوزي: إذا رأيت قبراً فتوهمه قبرك، وعُدْ باقي الحياة ربحًا"
(3)
.
"وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مُدْرِكُهُ
…
وَالْقَبْرَ مَسْكَنُهُ وَالْبَعْثَ مُخْرِجُهُ
وَأَنَّهُ بَيْنَ جَنَّاتٍ سَتُبْهِجُهُ
…
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ نَارٍ سَتُنْضِجُهُ
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 4).
(2)
المرجع السابق (ص: 8).
(3)
فيض القدير، للمناوي (1/ 550).
فَكُلُّ شَيْءٍ سِوَى التَّقْوَى بِهِ سَمْجٌ
…
وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنْهُ أَسْمَجُهُ
تَرَى الَّذِي اتَّخَذَ الدُّنْيَا لَهُ وَطَنًا
…
لَمْ يَدْرِ أَنَّ الْمَنَايَا سَوْفَ تُزْعِجُهُ"
(1)
.
وقال غيره:
يا أيها الرجل الناسي منيَّتَه
…
لا تأمننَّ فإن الموت مكتوبُ
على الخلائق إن سرّوا وإن كرهوا
…
فالموت حتمٌ لذي الآمال منصوبُ
لا تبنينَّ دياراً لستَ ساكنَها
…
وراجع النُّسْك كيما يغفر الحُوبُ"
(2)
.
دائم الحضور:
إن المستعد للموت لا يغفل عن تذكره، بل يبقى الموت في باله حاضراً، يقوده إلى الخيرات، ويكفه عن التقصير والسيئات، ويصرفه عن الانشغال بالدنيا إلى الانشغال بالآخرة، ويفسح بالأمل باله إن كان في ضيق، ويكبح جماح نفسه عن الاسترسال في مراتع اللذات والشهوات الدنيوية الفانية التي تلهيه عن الآخرة.
عن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال:(اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وعند كل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر والعلانية بالعلانية)
(3)
.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس وهم يضحكون فقال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) أحسبه قال: (فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسّعه، ولا في سعة إلا ضيقه عليه)
(4)
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 148).
(2)
بستان الواعظين ورياض السامعين، لابن الجوزي (ص: 194).
(3)
رواه الطبراني، المعجم الكبير (20/ 175)، وهو حسن.
(4)
رواه البزار (2/ 327)، وهو حسن.
قال المُناوي: " قال العسكري: لو فكر البلغاء في هذا اللفظ لعلموا أنّ المصطفى أوفى بهذا القليل على كل ما قيل في الموت نظمًا ونثراً، قال الغزالي: وللعارف في ذكره-أي: الموت- فائدتان: النفرة عن الدنيا، والثانية: الشوق إلى لقاء الله، ولا يصير إلى إقبال الخلق على الدنيا إلا قلة التفكر في الموت"
(1)
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء) قال: قلنا: يا نبي الله، إنا لنستحي، والحمد لله، قال:(ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)
(2)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل المؤمنين أحسنهم خلقًا، وأكيسهم-يعني: أعقلهم- أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً، أولئك الأكياس)
(3)
.
"قال الحسن: إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحًا، وقال مطرف: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه، وقال يونس بن عبيد: ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال"
(4)
.
فيا عجبًا لغافل عن تذكر الموت، وأسبابُ الموت تطرق بابه، وخُطاه تقترب من لقائه، ورصيد عمره على وشك النفاد، والاقترابِ من مفارقة الحياة!
قال ابن الجوزي: "إني أعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه كيف يطيب عيشه، خصوصاً إذا علت سنه؟!. و اعجباً لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا
(1)
التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوي (1/ 403).
(2)
رواه أحمد (6/ 187)، والترمذي (4/ 637)، والحاكم (4/ 359)، وهو حسن.
(3)
رواه ابن ماجه (2/ 1423)، والبيهقي في الزهد الكبير (52/ 2)، وهو حسن.
(4)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 27).
ينزعج. أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه، قد أخرج سكين القوى، وأنزل الضعف، وقلب السواد بياضاً، ثم في كل يوم يزيد الناقص، ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق الإخوان، إن كان ذلك مزعجاً، ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران. إنه لمما يسلي عن الدنيا ويهون فراقها استبدال المعارف بمن تكره، فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون، وفقراء كانوا يصبرون، ومحاسبين لأنفسهم يتورعون، فاستبدل السفهاء عن العقلاء، والبخلاء عن الكرماء، فيا سهولة الرحيل، لعل النفس تلقى من فقدت، فتلحق بمن أحبت"
(1)
.
وقال ابن المعتز:
نَسِيرُ إلَى الْآجَالِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ
…
وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ رَوَاحِلُ
وَلَمْ نَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ
…
إذَا مَا تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِيُّ بَاطِلُ
وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا
…
فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ فِي الرَّأْسِ نَازِلُ
تَرَحَّلْ عَنْ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنْ التُّقَى
…
فَعُمْرُك أَيَّامٌ -تُعَدُّ- قَلَائِلُ"
(2)
.
بوابة العطايا:
إن الموت وإن كان مُرّاً على النفوس بالنظر إلى الطبيعة، لكنه للمؤمن بوابة نيل العطايا الجزيلة، والتخلص من تعب الدنيا وشقائها. فعن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال:(مستريح ومستراح منه) قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ فقال:(العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)
(3)
.
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 317).
(2)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 151).
(3)
رواه البخاري، (5/ 2388)، ومسلم (2/ 656).
ويزداد حب المؤمن للموت حينما تبشره الملائكة عند الموت بحسن المنقلب، وكرم الوفادة عند ربه سبحانه وتعالى، فعن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) فقلت: يا نبي الله، أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت؟ فقال:(ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)
(1)
.
قال النووي: " ومعنى الحديث: أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه، وما أعد له، ويكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله؛ لينتقلوا إلى ما أعد لهم، ويحب الله لقاءهم، وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه، ويكره الله لقاءهم. وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله تعالى لقاءهم كراهتهم ذلك، ولا أن حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك، بل هو صفة لهم"
(2)
.
وقال القرطبي: " وهذه الكراهة للمرت هي الكراهية الطبيعية التي هي راجعة إلى النفرة عن المكروه والضرر، واستصعاب ذلك على النفوس. ولا شك في وجدانها لكلِّ أحد، غير أن مَنْ رزقه الله تعالى ذوقًا من محبته، وانكشف له شيء من جمال حضرته، غلب عليه ما يجده من خالص محبته، فقال عند أزوف رحلته، مخاطبًا للموت وسكرته، كما قال معاذ رضي الله عنه: " حبيبٌ جاء على فاقة، لا أفلح اليوم من ندم"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (5/ 2386)، ومسلم (4/ 2065).
(2)
شرح النووي على مسلم (9/ 47)، بتصرف.
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (8/ 120).
أولُ منازلِ الآخرة
إذا وُلِد الإنسان من بطن أمه إلى هذه الدنيا فله ثلاثة منازل يسكنها: منزل في الدنيا، ومنزل في القبر، ومنزل في الآخرة: إما في الجنة، وإما في النار. فمَن أحسن العمل في منزله الأول أُحسِن له الجزاء في منزله الثاني والثالث، ومن أساء لقيَ جزاء عمله السيء في ثاني منازله وثالثها.
إن الإنسان في دار الدنيا هو في دار تكليف ينتقل بعدها إلى دار جزاء، فأول ما يلقى جزاء عمله في قبره؛ فإن القبر أول منازل الآخرة، ومنه تبدأ رحلة النعيم والهناء، أو العذاب والشقاء، فمن نال النعيم فيه فهو بشرى حسنة لما بعده، ومن بقي معذبًا فيه فما بعده هو أشد عليه.
فعن هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكُر الجنة والنار فلا تبكي، وتذكر القبر فتبكي! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد) قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه)
(1)
.
ولقد أكرم الله تعالى الإنسان بمواراته في التراب في قبر يضم بدنه، ويستره عن أعين الأحياء لما يحدث لجثته من التغير، ويكرم أقاربه أن لا يرى الناس قريبهم وهو على تلك الحال التي يصير إليها الأموات، قال تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].
(1)
رواه أحمد (1/ 503)، والترمذي (4/ 553)، والحاكم (1/ 526)، وابن ماجه (2/ 1426)، وهو حسن.
وقد اهتدى ابن آدم إلى طريق دفن الميت بفعل مخلوق أصغر منه، مما دلّه على ضعفه وعجزه؛ كي لا يتكبر على الله ويتباهى بقدراته. فقد ظل ابن آدم القاتل يطوف بأخيه المقتول لا يدري ما يفعل بجثته، حتى رأى غرابًا يبحث في التراب ليدفن غرابًا آخر. قال تعالى:{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31].
إن الحياة البرزخية هي حياة من عالم الغيب لا يدركها أهل الدنيا، فكل من مات حصل له في القبور من النعيم أو العذاب ما كُتب له، وإن لم يرَ الأحياء ذلك، سواء دفن الميت في التراب، أم أكلته السباع، أم حُرِّق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أم غرق في البحر، أم حفظ في وعاء بالتحنيط، أم غير ذلك، فأي ظرف استقر فيه فهو قبره.
الاستعدادَ الاستعداد:
وحينما كان ذلك المآل لابد منه، وما فيه حقيقة صادقة لاشك فيها فإن على العاقل أن يستعد لذلك المنزل بالعمل الصالح الذي يؤنسه في قبره، فيكون له روضة من رياض الجنة لا حفرة من حفر النيران.
عن البراء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قال: (يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا)
(1)
.
قال مطرّف بن عبد اللّه بن الشّخّير: "القبر منزل بين الدّنيا والآخرة، فمن نزله بزاد ارتحل به إلى الآخرة، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ"
(2)
.
وقال: مالك بن مِغوَل": لا تغرّنّك الحياة، واحذر القبر؛ إنّ للقبر شأناً"
(3)
.
(1)
رواه ابن ماجه سنن ابن ماجه (2/ 1403)، وهو حسن.
(2)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 244).
(3)
المرجع السابق.
وعن سليم بن عامر قال: خرجنا في جنازة على باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهليّ فلمّا صلّى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة: "إنّكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تغنمون فيه الحسنات والسّيّئات، توشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا- يشير إلى القبر- بيت الوحشة وبيت الظّلمة وبيت الضّيق، إلّا ما وسّع اللّه، ثمّ تنتقلون منه إلى يوم القيامة)
(1)
.
وعن عمر بن ذرّ أنّه كان يقول في مواعظه: "لو علم أهل العافية ما تضمّنته القبور من الأجساد البالية لجدّوا واجتهدوا في أيّامهم الخالية؛ خوفًا من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار"
(2)
.
وقال النّضر بن المنذر لإخوانه: "زوروا الآخرة بقلوبكم، وشاهدوا الموقف بتوهّمكم، وتوسّدوا القبور بقلوبكم، واعلموا أنّ ذلك كائن لا محالة، فاختار لنفسه امرٌؤ ما أحبّ من المنافع والضّرر"
(3)
.
وشهد الحسن البصري جنازة فاجتمع عليه النّاس، فقال:"اعملوا لمثل هذا اليوم- رحمكم اللّه-؛ فإنّما هم إخوانكم يَقدُمُونكم، وأنتم بالأثر، أيّها المخلَّف بعد أخيه إنّك الميّت غداً، والباقي بعدك الميّت في أثرك أوّلاً بأوّل، حتّى توافوا جميعًا، قد عمّكم الموت واستويتم جميعًا في كربه وغصصه، ثمّ تخلّيتم إلى القبور، ثمّ تنشرون جميعًا، ثمّ تعرضون على ربّكم عز وجل"
(4)
.
موعظة القبر:
القبر واعظ من الواعظين، وعبرة بليغة للمعتبرين؛ فهو المنزل الذي يفارق ساكنُه
(1)
المرجع السابق (ص: 42).
(2)
المرجع السابق (ص: 238).
(3)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 244).
(4)
المرجع السابق.
دنياه ولذاتِه، وأهله وأقاربه وأحبابه، وهو الذي يبقى فيه المرء وحيداً فريداً من غير أنيس من البشر، وهو المكان الذي تتغير فيه ملامح الإنسان فيذهب عن بدنه حسنه ورونقه وجماله وقوته، وهو المكان الذي يلقى فيه المقبور أوائل جزائه الأخروي؛ فلهذا كان لذكره وقعٌ في قلوب الصالحين، ودمعٌ على خدود الناسكين، وجِدٌّ واجتهاد في عمل العاملين الصادقين؛ ولأجل تذكره حث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة القبور.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة)
(1)
. وعند مسلم: (فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت)
(2)
.
قال المناوي: " قالوا: ليس للقلوب -سيما القاسية- أنفع من زيارة القبور؛ فزيارتها وذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا، ويهون المصائب، وزيارة القبور تبلغ في دفع رَين القلب واستحكام دواعي الذنب ما لا يبلغه غيرها؛ فإنه وإن كان مشاهدة المحتضر تزعج أكثر لكنه غير ممكن في كل وقت، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في كل أسبوع بخلاف الزيارة"
(3)
.
قفْ بالمقابرِ وانظرْ إنْ وقفتَ بها
…
للّه درّك ماذا تسترُ الحفرُ؟
ففيهمُ لك يا مغرورُ موعظةٌ
…
وفيهمُ لك يا مغترُّ معتبَرُ
(4)
.
شيّع عمر بن عبد العزيز مرّةً جنازةً من أهله، ثمّ أقبل على أصحابه ووعظهم، فذكر الدّنيا فذمّها وذكر أهلها، وتنعّمهم فيها، وما صاروا إليه بعدها من القبور، فكان من كلامه أنّه قال: "إذا مررتَ بهم فنادِهم إن كنت مناديا، وادعهم إن كنت داعيا، ومرّ بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم، سل غنيّهم: ما بقي من غناه؟ وسل فقيرهم: ما بقي
(1)
رواه ابن ماجه (1/ 500)، وهو صحيح.
(2)
صحيح مسلم (2/ 671).
(3)
فيض القدير، للمناوي (4/ 67).
(4)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 244).
من فقره؟ واسألهم عن الألسن الّتي كانوا بها يتكلّمون، وعن الأعين الّتي كانوا للّذّات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرّقيقة والوجوه الحسنة والأجساد النّاعمة ما صنع بها الدّيدان تحت الأكفان، وأكلت اللّحيان
(1)
، وعُفِّرت الوجوه، ومُحيت المحاسن، وكُسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومُزِّقت الأشلاء. وأين حُجَّابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم، وكأنّهم ما وطئوا فراشا، ولا وضعوا هنا متّكأ ولا غرسوا شجرا، ولا أنزلوهم من اللّحد قرارا، أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس اللّيل والنّهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمّة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبّة، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم ممزّقة، وقد سالت الحَدَق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دمًا وصديداً، ودبّت دوابّ الأرض في أجسادهم، ففرّقت أعضاءهم، ثمّ لم يلبثوا إلّا يسيراً حتّى عادت العظام رميمًا، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السّعة إلى المضائق، قد تزوّجت نساؤهم، وتردّدت في الطّرق أبناؤهم، وتوّزعت القرابات ديارهم وقُراهم، فمنهم -واللّه- الموسّع له في قبره، الغضّ النّاظر فيه المتنعّم بلذّاته، يا ساكن القبر غداً ما الّذي غرّك من الدّنيا، أين دارك الفيحاء ونهرك المطّرد؟ وأين ثمارك الينيعة؟ وأين رِقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ أما رأيته قد زلّ به الأمر، فما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقا، ويتلمّظ عطشا، يتقلّب في سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السّماء، وجاء غالب القدر والقضاء، هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفّن الميّت ويا مُدخله في القبر، وراجعًا عنه، ليت شعري بأيّ خدّيك بدأ البلى؟ يا مجاور الهلكات صرت في محلّة الموت، ليت شعري ما الّذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدّنيا وما يأتيني به من رسالة ربّي". ثمّ انصرف فما عاش بعد ذلك إلّا جمعة"
(2)
رحمه الله.
(1)
اللحيان: العظمان اللذان فيهما الأسنان. المعجم الوسيط (2/ 820).
(2)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 238) وما بعدها.
وروي عنه أنّه قال في آخر خطبة خطبها- رحمة اللّه عليه-: "ألا ترون أنّكم في أسلاب الهالكين
(1)
، ثمّ يرثها بعدكم الباقون كذلك، حتّى تردّ إلى خير الوارثين، وفي كلّ يوم تشيّعون غاديًا ورائحًا قد قضى نحبه، فتودّعونه وتدعونه في صدع-شق- من الأرض، غير ممهّد ولا موسّد، قد فارق الأحباب، وخلع الأسباب، وسكن التّراب، وواجه الحساب، غنيًّا عمّا خلّف، فقيراً إلى ما قدّم. وكان ينشد هذه الأبيات:
من كان حين تُصيب الشّمسُ جبهتَه
…
أو الغبارُ يخاف الشَّين والشّعثا
ويألف الظّلَّ كي تبقى بشاشتُه
…
فكيف يسكن يومًا راغمًا جَدثًا؟
في ظلِّ مُقفرةٍ غبراءَ مظلمةٍ
…
يُطيلُ تحت الثّرى في غمِّه اللّبثا
تجهّزي بجهازٍ تبلغين به
…
يا نفسُ قبل الرّدى لم تخلقي عبثا
(2)
.
وعن الفضيل بن عياض قال: رأيت رجلاً يبكي، قلت: وما يبكيك؟ قال: أبكاني كلامه. قلت: ما هو؟ قال: كنّا وقوفًا في المقابر فأنشدوا:
أتيتُ القبورَ فساءلتُها
…
فأين المعظَّم والمحتقرْ؟
وأين المُدلُّ بسلطانه؟
…
وأين القويُّ إذا ما قدرْ
تفانَوا جميعًا فما مخبر
…
وماتوا جميعًا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا
…
أما لك فيما ترى معتبَر؟
تروح وتغدو بناتُ الثّرى
…
فتمحو محاسنَ تلك الصّور
(3)
.
عن الحسن البصري أنّه مرّ به شابّ، وعليه بردة له حسنة فقال: "ابنُ آدم معجب
(1)
أسلاب: جمع سلب، والسلب: ما يُسلب، يقال: أخذ سلب القتيل ما معه من ثياب وسلاح ودابة. المعجم الوسيط (1/ 441).
(2)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 238).
(3)
المرجع السابق (ص: 220).
بشبابه، معجب بجماله، كأنّ القبر قد وارى بدنك، وكأنّك لاقيت عملك، ويحك! داوِ قلبك؛ فإنّ مراد اللّه إلى عباده صلاح قلوبهم"
(1)
.
قال جعفر بن محمد المستملي عن أبيه: قرأت على قبر:
مَا حَالُ مَنْ سَكَنَ الثَّرى ما حَالَهُ
…
أمْسَى وقد قُطِعَتْ هُنَاك حِبَالُهُ
أمْسَى ولا رَوْحُ الحَيَاةِ يُصِيْبُهُ
…
يَوْمًا ولا لُطْفُ الحَبِيْبِ يَنَالُهُ
أمْسَى وقد دَرَسَتْ مَحَاسِنُ وَجْههِ
…
وتَفَرَّقَتْ في قَبرِهِ أوْصَالُهُ
واسْتَّبْدَلَتْ منْهُ الْمَجَالِسُ غيْرَهُ
…
وتُقُسِّمَتْ مِنْ بَعْدِهِ أمْوَالُهُ
أمْسَى وَحيْدًا مُوْحَشًا مُتَفَرِّدًا
…
مُتَشِتِّتًا بَعد الجَمْيعِ عِيَالُهُ
هَلْ مِنْ قبيْلٍ تَعْلَمْونَ مَكَانَهُ
…
سَلِمَتْ على حَدَثِ الزَّمانِ رِجَالُهُ
(2)
.
وعن صدقة بن مرداس البكري قال: نظرت إلى ثلاثة أقبر على شَرف من الأرض مما يلي بلاد أنطاكية فإذا على أحدها مكتوب:
وكيف يَلذُّ العيشُ من هو عالمٌ
…
بأن إلهَ الخلق لا بدّ سائلُهْ
فيأخذُ منه ظلمَه لعباده
…
ويجزيه بالخير الذي هو فاعلُه
وإذا على القبر الثاني:
وكيف يلذ العيشُ من كان موقنًا
…
بأن المنايا بغتةً ستعاجلُه
فتسلبُه ملكاً عظيمًا ونخوةً
…
وتُسكنه البيتَ الذي هو آهلُه
وإذا على القبر الثالث إلى جنبهما:
(1)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 244).
(2)
العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: 206).
وكيف يلذ العيش من كان صائراً
…
إلى جَدَث تُبلي الشبابَ مناهلُه
ويَذهب رسمُ الوجه من بعد صَونه
…
سريعًا ويبلى جسمُه ومفاصله
(1)
.
ووجِد على قبر مكتوبًا:
تناجيك أجداثٌ وهنَّ سكوتُ
…
وساكنُها تحت التّراب خفوتُ
أيا جامعَ الدّنيا لغير بلاغِهِ
…
لمن تجمعُ الدّنيا وأنت تموت؟!
(2)
.
ووجِد على قبر مكتوبًا:
الموتُ أخرجني من بيت مملكتي
…
والتُربُ مُضطجعي من بعد تشريفِ
للهِ عبدٌ رأى قبري فأعبرَه
…
وخافَ من دهره ريبَ التصاريف
(3)
.
حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنان:
فيا ويل من فارق دنياه إلى تلك الحفرة ولم يكن من أهل الإيمان، بل قَدِمها بالذنوب والعصيان، فهناك العذاب ينتظره، والأهوال تحيط به، والوحشة ترافقه، وتمني العودة إلى الدنيا للعمل الصالح يراوده.
فعذاب القبر لأهله حقٌّ كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت لله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ
(1)
التوابين، للمقدسي (ص: 138). وللأبيات قصة.
(2)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 244).
(3)
العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: 206).
بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن .. )
(1)
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)
(2)
.
وأما المؤمن الذي تهيأ لقبره بالإيمان والتقوى، وباعدَ نفسَه عن أسباب العذاب والسخط، فما أسعدَه في قبره، وما أفسح مكانه فيه، وما أجمل حاله بين جنباته! وما أبعده عن عذاب القبر وعنائه! فإنه ينتقل إلى ذلك المنزل فيُذهِب الله خوفَه، ويرزقه الاطمئنان والأمان. قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غيرَ فزع، ولا مشعوف
(3)
(4)
.
وعن البراء بن عازب: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]. قال: نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله عز وجل:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]
(5)
.
قال بشر بن الحارث: "نِعم المنزلُ القبر لمن أطاع اللّه"
(6)
.
وقال مسروق: "ما من بيت خير للمؤمن من لحده؛ قد استراح من أمر الدنيا، ومن
(1)
رواه مسلم (4/ 2199).
(2)
رواه البخاري (1/ 286)، ومسلم (1/ 412).
(3)
الشعف- بشين معجمة وعين مهملة-: شدة الفزع حتى يذهب بالقلب. حاشية السندي على ابن ماجه (8/ 120).
(4)
رواه ابن ماجه (2/ 1426)، وهو صحيح.
(5)
رواه البخاري (1/ 461)، ومسلم (4/ 2201).
(6)
أهوال القبور، لابن رجب (ص: 244).
عذاب الله
(1)
.
ضمة القبر:
حتى ضمةُ القبر التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كائنة في القبور على كل إنسان فإنها لا تؤذي المؤمن ولا تضره. فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجيًا منها نجا منها سعد بن معاذ)
(2)
.
فضمة القبر للمؤمن ضمة رحمة ليس فيها عذاب، وإن كان فيها بعض الألم الذي يذهب سريعًا، وضمة الكافر ضمة سخط فيها عذاب.
وقال الذهبي: " قلت: هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء، بل هو أمر يجده المؤمن، كما يجد ألم فقد ولده وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألم مرضه، وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار، ونحو ذلك، فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد، وما هي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يرفق الله به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه"
(3)
.
حديث البراء الطويل:
وما أحسن حديث البراء رضي الله عنه وهو يسوق رحلة الإنسان إلى أول منازل الآخرة، ويذكر ما يلقاه في هذه الرحلة، وما الذي يجده كل امرئ إذا استقر في ذلك المكان المنفرد.
(1)
المرجع السابق.
(2)
رواه أحمد (40/ 327)، وهو صحيح.
(3)
سير أعلام النبلاء، للذهبي (1/ 290)،
جاء في مصنف ابن أبي شيبة
(1)
، ومسند الإمام أحمد
(2)
، ومستدرك الحاكم
(3)
، وشُعَبِ الإيمان للبيهقي
(4)
، بسند صحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها -يعني: على ملأ من الملائكة- إلا قالوا: ما هذا الرَّوح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيُفتح لهم، فيشيّعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (3/ 54).
(2)
مسند أحمد (30/ 499).
(3)
المستدرك (1/ 93).
(4)
شعب الإيمان (1/ 355).
فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ في السماء: أنْ صدقَ عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ أقمِ الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفّود
(1)
من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرَّوح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40]، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا ثم قرأ:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيَّق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح فيقول: أبشر بالذي
(1)
(السفود) عود من حديد ينظم فيه اللحم ليشوى. المعجم الوسيط (1/ 432).
يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ لا تقم الساعة).
وقد تضمن حديث البراء هذا بعض القضايا المتعلقة بالقبر والمقبور، ومنها:
انفساح القبر وإضاءته، وهو حدث حقيقي يجده الميت، وإن لم يشعر به الأحياء؛ لأن ما في القبر هو من عالم الآخرة. ومنها: سؤال الملكين عن الأصول الثلاثة: عن الرب، وعن الرسول، وعن الدين، فيثبت الله المؤمن فيجيب الإجابة المرضية التي كان يعلمها ويعمل بها في الدنيا، قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
وأما الكافر فلا يستطيع الجواب عن هذه الأصول الثلاثة؛ لأنه لم يكن يعمل بها في الدنيا. عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)
(1)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر والآخر النكير)
(2)
.
ومن القضايا التي تناولها الحديث: ذهاب وحشة المؤمن في قبره، وحصول أُنسه بعمله الصالح الذي يأتيه على هيئة رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيّب الرائحة، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟، فيقول: أنا عملك الصالح.
ومما ذكره الحديث: حصول النعيم لأهل الإيمان في قبورهم، وكذلك العذاب لمن سواهم.
(1)
رواه أبو داود (3/ 209)، والحاكم، (1/ 526)، وهو صحيح.
(2)
رواه الترمذي (3/ 383)، وهو صحيح.
قطوف يانعة من الحكم النافعة
من كلام ابن القيم رحمه الله
الإمام ابن القيم رحمه الله عظيمٌ من عظماء الإسلام، الذين بقي ذكرهم في جبين الزمان مشرقًا متألقًا؛ لما بذلوا من نفيس أوقاتهم، وسنيِّ عمرهم، وزاكي علمهم في خدمة هذا الدين وأهله بما كتبه من المؤلفات الخالدة في شتى فنون العلم والمعرفة، وبقيت هذه المصنفات النافعة شاهدَ عدل على رسوخ ذلك العَلَم الفرد في العلوم، وعظيم إخلاصه لله تعالى، وشدة حرصه على نفع الخلق. ومن أعظم كتبه التي كان له فيها وقفات موَّفقة مع الروح والقلب، ومواعظ حسنة للنفس، وخواطر مشرقة للفكر والعقل؛ كتابُه القيم:" الفوائد"، ورغم صغر حجم هذا الكتاب مقارنة بغيره من كتبه، إلا أنه حيك حياكة حسنة، ودُبِّج تدبيجًا أنيقًا، فضمَّنه نصائح نافعة، ومواعظ جامعة، يحسن بنا أن نقف هنا على ذكر جملة يسيرة من حكمه الغالية، وكلماته البليغة المنيرة، وسأشرح من تلك العبارات بعون الله ما أراه يحتاج إلى شرح.
يقول رحمه الله:
* الذنوب جراحات، ورُبَّ جرح وقع في مَقتل.
* لو خرج عقلُك من سلطان هواك عادت الدولة له.
* دخلتَ دار الهوى فقامرتَ بعمرك.
* إذا عرضتْ نظرة لا تحل فاعلم أنها مِسْعَرُ حَرْب، فاستتر منها بحجاب:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، فقد سلمت من الأثر:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25].
* بحر الهوى إذا مدَّ
(1)
أَغرق، وأخوفُ المنافذ على السابح فتحُ البصر في الماء.
* كم قُطع زرعٌ قبل التمام، فما الظن بالزرع المستحصَد؟!
(2)
.
* اشترِ نفسَك؛ فالسوق قائمة، والثمن موجود
(3)
.
* لابد من سِنة الغفلة، ورُقاد الهوى، ولكن كن خفيفَ النوم؛ فحُرّاس البلد يصيحون: دنا الصباح
(4)
.
* نورُ العقل يضيء في ليل الهوى، فتَلُوح جادةُ الصواب، فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور.
* اخرجْ بالعزم من هذا الفِناء الضيِّق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه: (ما لا عين رأت .. )، فهناك لا يتعذّر مطلوب، ولا يفقد محبوب.
*يا بائعًا نفسه بهوى مَنْ حُبُّه ضَنى
(5)
، ووصله أذى، وحُسنه إلى فناء، لقد بعت أنفسَ الأشياء بثمن بخس، كأنك لم تعرف قدر السلعة، ولا خِسَّة الثمن، حتى إذا قدمت يوم التغابن تبيّن لك الغبن في عقد التبايع
(6)
.
* لا إله إلّا الله سلعة، اللهُ مشتريها، وثمنها الجنّة، والدلّال الرسول، فهل ترضى ببيعها بجزء يسير مما لا يساوي كلُّه جناح بعوضة؟!.
(1)
مد: زاد. المعجم الوسيط (2/ 858).
(2)
في العبارة إشارة إلى أنه كم قد مات من امرئ شابٍّ ورجل صحيح، فما ظنك بالشيخ الكبير والإنسان العليل؟
(3)
كأنه يريد: استغل عمرك فيما ينفعك في آخرتك؛ ما دمتَ في فرصة الحياة.
(4)
في الكلام إشارة إلى أن العبد قد يعصي ويقصر ولا يسلم من ذلك، ولكن عليه أن يستيقظ بالتوبة قبل دنو الأجل.
(5)
الضنى: المرض. المعجم الوسيط (1/ 545).
(6)
ولا ينبغي لعاقل أن يبيع نفسه للدنيا، بل يبيعها للآخرة.
* الحرب قائمة وأنت أعزل
(1)
في النظارة
(2)
، فإن حركت ركابَك فللهزيمة
(3)
.
* من لم يباشر حرَّ الهجير
(4)
في طِلاب المَجْد لم يَقِل
(5)
في ظِلال الشرف
(6)
.
* تقول سُليمى لو أقمتَ بأرضنا
…
ولم تدرِ أني للمقام أطوفُ
* قيل لبعض العبّاد: إلى كم تتعب نفسك؟! فقال: راحتَها أريد
(7)
.
* يا مكرَمًا بحُلَّةِ الإيمان بعد حلة العافية، وهو يُخْلِقهما
(8)
في مخالفة الخالق، لا تُنكر السَّلب؛ يستحق من استعمل نعمة المنعم فيما يكره أن يُسلَبها
(9)
.
* عرائس الموجودات قد تزيّنت للناظرين؛ ليبلوهم أيهم يؤثرهن على عرائس الآخرة، فمن عرف قدر التفاوت آثر ما ينبغي إيثاره.
وحِسانُ الكون لمَّا أنْ بدتْ
…
أقبلتْ نحوي، وقالت لي: إلي
فتعاميتُ كأنْ لم أرها
…
عندما أبصرتُ مقصودي لدي
(10)
*كواكب همم العارفين في بروج عزائمهم سيَّارة ليس فيها زحل
(11)
(12)
.
(1)
الأعزل من الناس: من لا سلاح معه. المعجم الوسيط (2/ 599).
(2)
النظَّارة: جمع ناظر.
(3)
فالحق والباطل في حرب والسلاح الإيمان، والهوى والعقل في حرب والسلاح الدين الحق.
(4)
الهجير: نصف النهار في القيظ خاصة. المعجم الوسيط (2/ 973).
(5)
يقل: من القيلولة، وهي: نومة نصف النهار أو الاستراحة فيه وإن لم يكن نوم. المعجم الوسيط (2/ 771).
(6)
يعني: من لم يضحِّ ويتعب لن يصل إلى المعالي؛ فالترقيات لا تُنال إلا بتضحيات.
(7)
هذه العبارة مفسِّرة للبيت الشعري قبلها.
(8)
يخلقهما: يُبليهما. المعجم الوسيط (1/ 252).
(9)
فيه إشارة إلى أن من أنعم الله تعالى عليه بالعافية ومعرفة الهدى ثم يعدل إلى المعاصي والضلال فذلك أحرى بأن يُسلب تينك النعمتين.
(10)
فالعاقل لا يؤثر الدنيا مهما تزينت، بل يغض بصره عنها ويقبل على الآخرة.
(11)
زحل: أبعد الكواكب السيارة في النظام الشمسي. المعجم الوسيط (1/ 390).
(12)
كأنه يريد: أن همم العارفين في طريق النور لا منتهى لها ولا تقف عند شيء.
* يا من انحرف عن جادتهم كُنْ في أواخر الركب، ونَم إذا نمت على الطريق؛ فالأمير يراعي الساقة
(1)
(2)
.
* قيل للحسن: سبَقَنا القومُ
(3)
على خيل دُهْم
(4)
ونحن على حمُر معقّرة
(5)
، فقال: إن كنتَ على طريقهم فما أسرع اللحاقَ بهم!
* المحب الصادق مَنْ وجد أُنسَه بالله بين الناس، ووجده في الوحدة.
* مَنْ فقدَ أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف. ومن وجده بين الناس ووجده في الخلوة فهو معلول. ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود. ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله. ومن كان فتحُه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها. ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم. ومن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه، وفي أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس. فأشرفُ الأحوال أن لا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه، فكن مع مراده منك، ولا تكن مع مرادك منه.
* مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة قبل الشرائع: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35].
* وحَّد قُسّ
(6)
وما رأى الرسول، وكفر ابن أُبيٍّ وقد صلَّى معه بالمسجد!
(1)
الساقة من الجيش: مؤخره. المعجم الوسيط (1/ 464).
(2)
يريد: يا من قّصر به عمله عن طريق العارفين ولم يبلغ شأوهم، إياك أن تعدل عن طريقهم إلى غيره، بل ابقَ فيه ولو على التقصير؛ فلعل رحمة من الله تدركك حتى تُلحقك بالركب المقدّم، وجملة الحسن البصري التالية تجلِّي هذا المعنى.
(3)
يعني: الصحابة رضي الله عنهم.
(4)
الخيل الدهم: أي: السود، وهي من أجاويد الخيل وأسرعها.
(5)
معقرة: مجرّحة، والعقر: القطع، وعقر البعير قطع إحدى قوائمه. المعجم الوسيط (2/ 614).
(6)
هو: قُسُّ بن ساعدة الإيادي.
* مع الصبِّ
(1)
رِيٌّ ولا ماء، وكم من عطشان في اللُّجّة
(2)
(3)
!
* سبق العلمُ بنبوة موسى وإيمان آسية، فسيقَ تابوتُه إلى بيتها، فجاء طفل منفرد عن أم إلى امرأة خالية عن ولد. فلله كم في القصة من عِبرة! كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد، ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك!
* كان ذو البجادين يتيمًا في الصغر، فكفله عمه، فنازعته نفسه إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهمّ بالنهوض، فإذا بقية المرض مانعة، فقعد ينتظر العم، فلما تكاملت صحته، نفذ الصبر فناداه ضمير الوجد:
إلى كمْ حبسُها تشكو المضيقا
…
أَثِرْها ربما وجدتْ طريقا
فقال: يا عم، طال انتظاري لإسلامك، وما أرى منك نشاطًا؟ فقال: والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك. فصاح لسان الشوق: نظرةٌ من محمد صلى الله عليه وسلم أحب إلي من الدنيا وما فيها.
ولو قيل للمجنون: ليلى ووصلَها
…
تريدُ أمِ الدنيا وما في طواياها
لقال: غبارٌ من تراب نعالها
…
ألذُّ إلى نفسي وأشفى لبلواها
فلما تجرد للسير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جرّده عمه من الثياب، فناولته الأم بجاداً، فقطعه لسفر الوصل نصفين، اتزر بأحدهما، وارتدى الآخر، فلما نادى صائح الجهاد قنع أن يكون في ساقة الأحباب، والمحب لا يرى طول الطريق؛ لأن المقصود يعينه
ألا أبلغ اللهُ الحِمى من يريده
…
وبلَّغ أكنافَ الحمى من يريدها
(1)
الصَّب: المحب المشتاق. المعجم الوسيط (1/ 505).
(2)
اللجة: معظم الماء. المعجم الوسيط (2/ 816).
(3)
هذه العبارة مثالها الموضح لها ما قبلها؛ فقسٌّ آمن بالله ولم يجد رسولاً يدعوه، ومثله مثل المشتاق الذي يجد اللذة بمرور طيف محبوبه على خياله، وعبد الله بن أبي كفر بنفاقه مع أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومثله مثل العطشان الذي لا يرتوي والماء بين يديه!
فلما قضى نحبه نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يمهد له لحده وجعل يقول: (اللهم إني أمسيت عنه راضيًا، فارضَ عنه)، فصاح ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب القبر
(1)
.
* متى همّت أقدامُ العزم بالسلوك، اندفع من بين أيديها سدُّ القواطع
(2)
.
* القواطع محنٌ يتبين بها الصادق من الكاذب، فإذا خضتها انقلبت أعوانًا لك توصلك إلى المقصود.
* الدنيا كامرأة بغيٍّ لا تثبت مع زوج، إنما تخطب الأزواج؛ ليستحسنوا عليها فلا ترضى إلا بالدياثة.
* طائرُ الطبع يرى الحبة، وعين العقل ترى الشَّرَك، غير أن عين الهوى عمياء
(3)
.
وقال رحمه الله:
* لما رأى المتيقظون سطوةَ الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان قيادَ النفوس، ورأوا الدولة للنفس الأمارة؛ لجأوا إلى حصن التضرع والالتجاء كما يأوي العبد المذعور إلى حَرم سيده.
* شهوات الدنيا كلُعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء السِّتر.
* لاح لهم المشتهى، فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خيطُ الفخ، فطاروا بأجنحة الحذر، وصوبوا إلى الرحيل الثاني:{يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26].
* تلمّح القوم الوجود، ففهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وشمروا
(1)
اسم ذي البجادين: عبد الله بن عبد نهم، وقصته في: الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 161).
(2)
يشير بهذا إلى أن العبد إذا عزم عزمًا صادقًا على سلوك طريق الحق، تنحى عن طريقه ما يمنعه من بلوغ غايته على هذا الطريق.
(3)
الفوائد، لابن القيم (41 - 46).
للسير في سواء السبيل، فالناس مشتغلون بالفضلات، وهم في قطع الفلوات، وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح، وقع ثعلبانِ في شبكة فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة!
* تالله ما كانت الأيام إلا منامًا، فاستيقَظوا وقد حصلوا على الظفر
(1)
.
* ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أمانٍ، والوقت ضائع بينهما
(2)
.
* العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه.
* إذا حمَّلت على القلب همومَ الدنيا وأثقالها، وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته؛ كنتَ كالمسافر الذي يحمِّل دابته فوق طاقتها، ولا يوفيها علفها، فما أسرع ما تقف به!
ومشتتُ العزماتِ ينفق عمرَه
…
حيرانَ لا ظفرٌ ولا إخفاقُ
هلِ السائقُ العجلانُ يملك أمرَه
…
فما كلُّ سير اليَعْمَلاتِ
(3)
وخيدُ
(4)
رويداً بأخفاف المطيِّ فإنما
…
تُداسُ جباهٌ تحتها وخدود
* من تلمح حلاوة العافية، هان عليه مرارة الصبر.
* الغاية أول في التقدير، آخر في الوجود، مبدأ في نظر العاقل، منتهى في منازل الوصول.
* ألفتَ عجزَ العادة، فلو علتْ بك همتك رُبى المعالي لاحت لك أنوار العزائم.
(1)
يعني: لما ورد المؤمنون على الله تعالى وفازوا بالجنة والرضوان أدركوا أن الدنيا كانت أحلام نوم لا حقيقة لها.
(2)
الفوائد، لابن القيم (47 - 48).
(3)
اليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة القويةّ على التَّعب. الاشتقاق (ص: 158).
(4)
يقال: وخد البعير يخد وخداً ووخيداً ووخداناً أسرع ووسع الخطو ورمى بقوائمه كمشي النعام. المعجم الوسيط (2/ 1019).
* إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور.
* نزولُ هِمَّة الكَسَّاح
(1)
دلَّاه في جُبِّ العَذِرة.
* بينك وبين الفائزين جبلُ الهوى، نزلوا بين يديه، ونزلتَ خلفَه، فاطوِ فصلَ منزلٍ تلحق بالقوم.
* الدنيا مضمارُ سباق، وقد انعقد الغبار وخفي السابق، والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حُمُر معقرّة.
سوف تَرى إذا انجلى الغبارُ
…
أفرسٌ تحتك أم حمارُ
* في الطبع شَرهٌ، والحِمية أوفق.
* لصُّ الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى.
* حَبةُ المشتهى تحت فخِّ التلف، فتفكر الذبح، وقد هان الصبر
(2)
.
* قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب، وشدة الحذر من فوت المأمول.
* البخيل فقير لا يؤجر على فقره.
* الصبر على عطش الضر ولا الشرب من شِرعة
(3)
مَنٍّ؛ (تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها)
(4)
.
(1)
الكساح: الكنَّاس. المعجم الوسيط (2/ 786).
(2)
يعني: أن الشهوات المحظورة مصيدة تورد إلى الهلاك، فلو فكر الإنسان في عواقبها المتلِفة لما أقدم عليها، ولهانَ عليه الصبر على البعد عنها.
(3)
الشِّرعة: مورد الماء الذي يستقى منه. المعجم الوسيط (1/ 479).
(4)
تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها أو بثدييها: مَثل، ومعناه: لا تكون ظِئْراً- الظئر: المرضعة لغير ولدها- وإنْ آذاها الجوع. مجمع الأمثال (1/ 122)، وللمثل مناسبة يراجع المرجع السابق.
* لا تسأل سوى مولاك؛ فسؤال العبد غيرَ سيده تشنيع عليه.
* غَرْس الخلوة يثمر الأُنس
(1)
.
* استوحش مما لا يدوم معك، واستأنس بمن لا يفارقك.
* عزلة الجاهل فساد، وأما عزلة العالم (فمعها حذاؤها وسقاؤها)
(2)
.
* إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة، واستُحضِر الفكر، وجرت بينهم مناجاة:
أتاكَ حديثٌ لا يملُّ سماعُه
…
شهيٌّ إلينا نثرُه ونظامُهُ
إذا ذكرتْه النفسُ زال عناؤها
…
وزال عن القلب المعنَّى ظلامُهُ
(3)
.
* إذا خرجتْ من عدوك لفظةُ سفهٍ فلا تُلحقها بمثلها تَلقحْها، ونسلُ الخصام نسل مذموم.
* حميّتُك لنفسك أثرُ الجهل بها، فلو عرفتها حق معرفتها أعنتَ الخصم عليها.
* إذا اُقتدِحتْ نارُ الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح.
* أوثقْ غضبَك بسلسلة الحِلم؛ فإنه كلب إن أفلت أتلف.
* من سبقتْ له سابقةُ السعادة، دُلَّ على الدليل قبل الطلب.
(1)
يعني: أن العمل الصالح بين العبد وربه يورثه الأنس به، فلا يحس معه بوحشة الانفراد به عن الخلق.
(2)
جملة من حديث: زيد بن خالد رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عن اللقطة فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها). قال فضالة الغنم؟ قال: (هي لك أو لأخيك أو للذئب). قال: فضالة الإبل؟ قال: (ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها). والمراد من عبارة ابن القيم: لا خوف على العالم من العزلة؛ لأن علمه يحرسه من تسلط الشيطان عليه.
(3)
يعني: أن الخلوة مع حضور العقل واليقين تورث الأنس بالله تعالى الذي يزيل عن النفس العناء، وعن القلب غشاوة الظلام. و المعنَّى: المحب.
* إذا أراد القَدر شخصًا بذر في أرض قلبه بذر التوفيق، ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة، ثم أقام عليه بأطوار المراقبة، واستخدم له حارسَ العِلم، فإذا الزرع قائم على سُوقه.
* إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردِفه قمرُ العزيمة، أشرقتْ أرض القلب بنور ربها.
* إذا جنَّ الليلُ تغالبَ النومُ والسهر، فالخوف والشوق في مقدَّم عسكر اليقظة، والكسل والتواني في كتيبة الغفلة، فإذا حمل العزم حمل على الميمنة وانهزمت جنود التفريط، فما يطلع الفجر إلا وقد قُسِّمت السُّهمان، ورُدّت الغنيمة لأهلها
(1)
.
* سفرُ الليل لا يطيقه إلا مضمَّر
(2)
المجاعة.
* النجائب في الأول، وحاملات الزاد في الأخير
(3)
.
* لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طُردت، ولا تقطع الاعتذار ولو رُدِدت، فإن فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين، وادخل دخول الطفيلية وابسط كف:{وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88]
(4)
.
* يا مستفتحًا بابَ المعاش بغير إقليد
(5)
التقوى، كيف توسع طريقَ الخطايا وتشكو ضيق الرزق؟! ولو وقفتَ عند مراد التقوى لم يفُتك مراد.
(1)
يشير بهذا إلى العراك المحتدم بين النوم والقيام لصلاة الليل، فإذا انتصر العبد على هواه وآثر السهر على النوم ربح الغنيمة.
(2)
الضمور: قلة اللحم والانكماش. وضمر الفرس للسباق ونحوه ربطه وعلفه وسقاه كثيراً مدة وركضه في الميدان حتى يخف ويدق. المعجم الوسيط (1/ 543). والمراد: أن قيام الليل لا يقدر على المداومة عليه إلا الخفيف القوي.
(3)
يعني: أن التقدم لا يكون إلا للمجدِّين، وأما الكسالى فهم في الصفوف الأخيرة.
(4)
فيه دعوة إلى الإلحاح في الدعاء، وعدم اليأس من الإجابة، فلعلها ستأتي بعد حين.
(5)
الإقليد: المفتاح. المعجم الوسيط (1/ 22).
* المعاصي سدٌّ في باب الكسب و (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)
(1)
.
* الأرواح في الأشباح
(2)
كالأطيار في الأبراج، وليس ما أُعدَّ للاستفراخ كمن هُيء للسباق
(3)
.
* من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان، فلينظر ماذا يوليه من العمل، وبأي شغل يشغله
(4)
.
* كن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا؛ فإن الولد يتبع الأم
(5)
.
* الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها؟!.
* الدنيا جيفة، والأسد لا يقع على الجِيَف.
* الدنيا مجاز، والآخرة وطن، والأوطار إنما تُطلب في الأوطان
(6)
(7)
.
وقال رحمه الله:
(1)
رواه أحمد (37/ 68)، وابن ماجه (2/ 1334)، والحاكم (1/ 670)، وقال: صحيح الإسناد و لم يخرجاه، وحسن إسناده البوصيري، مصباح الزجاجة (2/ 285)، وضعفه الألباني، ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 73).
(2)
الشبح: ما بدا لك شخصه غير جلي من بعد. المعجم الوسيط (1/ 470). والمراد بالأشباح هنا: الأبدان.
(3)
يعني: أن الأرواح المحلِّقة في آفاق الفضائل ليست كالأرواح المحبوسة في أبدان أهلها الكسالى أو العصاة، فالطيور المحبوسة في الأقفاص للتكاثر ليست كالطيور التي تحلق في الفضاء حيث شاءت.
(4)
يشير بهذا إلى أمور منها: أن أهل العلم والإيمان هم أحظ الناس عند الله تعالى؛ لأن وظيفتهم مرتبطة بمعرفته والعمل له. عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله". تفسير ابن كثير (4/ 123).
(5)
يقول الفقهاء: الولد يتبع الأم في الصفات الشرعية كالرق والحرية. الموسوعة الفقهية الكويتية (5/ 97).
(6)
يعني: لا تحزن على ما فاتك من حاجات نفسك في هذه الدنيا؛ فإنها دار غربة، ووفرها لك في دار وطنك: الجنة، واصبر على الحرمان هنا؛ لتظفر بما تريد هناك.
(7)
الفوائد، لابن القيم (49 - 51).
* صاحَ بالصحابة واعظ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1]، فجزعت للخوف قلوبُهم، فجرتْ من الحذر العيون {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17].
* تزينّت الدنيا لعليٍّ فقال: أنتِ طالق ثلاثًا لا رجعة لي فيك، وكانت تكفيه واحدة للسُنَّة، لكنه جمع الثلاث؛ لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة، ودِينه الصحيح، وطبعه السليم يأنفان من المحلّل، كيف وهو أحد رواة حديث:(لعن الله المحلّل)
(1)
.
* ما في هذه الدار موضع خلوة، فاتخذه في نفسك
(2)
.
* لا بد أن تجذبك الجواذب، فاعرفها، وكن منها على حذر، ولا تضرك الشواغل إذا خلوتَ منها وأنت فيها.
* نور الحق أضوأ من الشمس، فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه
(3)
.
* الطريق إلى الله خالٍ من أهل الشك، ومن الذين يتبعون الشهوات، وهو معمور بأهل اليقين والصبر، وهم على الطريق كالأعلام:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]
(4)
.
وقال رحمه الله:
* شمعة النصر إنما تَنزل في شمعدان
(5)
الانكسار
(6)
.
(1)
حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له) رواه عن علي رضي الله عنه: أبو داود (2/ 188)، وهو صحيح.
(2)
يعني: لا يوجد في هذه الدنيا مكان للخلو بالله تعالى على الحقيقة لا يشغل الإنسانَ فيه شاغل أو جاذب؛ فإن لم يجد المرء بشراً فستنازعه أفكار وشواغل، فإذا كان الأمر كذلك فليكن الأنس بالله تعالى على التمام داخل النفس. والعبارة التالية لابن القيم توضح بعض ذلك.
(3)
تعشو: يضعف بصرها عن رؤيته، أو تعرض عنه. المعجم الوسيط (2/ 603).
(4)
الفوائد، لابن القيم (ص: 55).
(5)
الشمعدان: منارة تزين ويركز عليها الشمع حين الاستضاءة به. المعجم الوسيط (1/ 494).
(6)
فيه إشارة إلى أن الانكسار بين يدي الله تعالى سبب لتنزل المنح والحصول على المحاب.
* لا يكرم العبد نفسه بمثل إهانتها، ولا يعزها بمثل ذلها، ولا يريحها بمثل تعبها؛ كما قيل:
سأُتعِبُ نفسي أو أصادفَ راحةً
…
فإن هوانَ النفس في كرم النفسِ
ولا يشبِعُها بمثل جوعها، ولا يؤمِّنها بمثل خوفها، ولا يؤنسها بمثل وحشتها من كل ما سوى فاطرها وبارئها، ولا يحييها بمثل إماتتها كما قيل:
موتُ النفوسِ حياتُها
…
من شاء أن يحيا يموت
* شرابُ الهوى حلو، ولكنه يورث الشَّرَق
(1)
(2)
.
* من تذكَّرَ خنق الفخ، هان عليه هجرانُ الحبة
(3)
.
* يا معرقَلًا في شَرَك الهوى، جمزةُ
(4)
عزمٍ وقد خرقتَ الشبكة.
* لا بد من نفوذ القدر
(5)
فاجنح للسلم.
* لله ملك السموات والأرض واستقرض منك حبة، فبخلت بها، وخَلق سبعة أبحر وأحب منك دمعة فقحطتَ عينك بها!
* إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور، والقلب كعبة، والمعبود لا يرضى بمزاحمة الأصنام.
* لذاتُ الدنيا كسوداءَ وقد غلبتْ عليك، والحور العين يَعجبن من سوء اختيارك
(1)
الشَّرَق: الغصة، فلا يستطاع معه بلع الريق. المعجم الوسيط (1/ 480).
(2)
المراد: أن الشهوات المحظورة قد تكون للنفس محبوبة، ولكن عواقبها وخيمة.
(3)
فمن تذكر عواقب المعاصي ومآلاتها هان عليه ترك الشهوات.
(4)
أي: وثبة واحدة وقفزة واحدة. المعجم الوسيط (1/ 134).
(5)
يعني: أن غضبك في وجه القدر ومحاولة رده غير نافع، فما عليك إلا الاستسلام لقضاء الله.
عليهن، غير أن زوبعة الهوى إذا ثارت سَفَت
(1)
في عين البصيرة فخفيت الجادة
(2)
.
* سبحان الله! تزينت الجنة للخُطَّاب فجدّوا في تحصيل المهر، وتعرّف ربُّ العزة إلى المحبين بأسمائه وصفاته فعملوا على اللقاء وأنت مشغول بالجيف!
لا كان مَنْ لسواكَ منه قلبُه
…
ولك اللسانُ مع الوداد الكاذبِ
* المعرفة بساط لا يطأ عليه الا مقرَّب، والمحبة نشيد لا يطرب عليه إلا محبٌّ مغرم.
* الحُبُّ غدير في صحراء ليست عليه جادة؛ فلهذا قلَّ وارده.
* المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبه، والأنس بذكره؛ كهرب الحوت إلى الماء، والطفل إلى أمه.
وأخرجُ من بين البيوت لعلني
…
أحدِّثُ عنك القلبَ بالسرِّ خاليا
* ليس للعابد مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحب قرار إلا يوم المزيد.
* اشتغلْ به في الحياة، يَكفِك ما بعد الموت.
* يا منفقاً بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه، ليس في أعدائك أضر عليك منك.
ما تبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ
…
ما يبلغ الجاهلُ من نفسهِ
* الهمةُ العليّة همةُ مَنْ استعد صاحبُها للقاء الحبيب، وقدّم التقادم بين يدي الملتقى، فاستبشر عند القدوم:{وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].
(1)
سفت: ذرت، يقال: سفت الريح التراب ونحوه سفياً ذرته أو حملته، فالريح سافية. المعجم الوسيط (1/ 435).
(2)
الجادة: الطريق. المعجم الوسيط (1/ 109).
* تالله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تولى عنك الولي، فلا تظن أن الشيطان غلب، ولكن الحافظ أعرض.
* احذر نفسك؛ فما أصابك بلاء قط إلا منها، ولا تهادنها؛ فوالله ما أكرمها من لم يهنها، ولا أعزها من لم يذلها، ولا جبرها من لم يكسرها، ولا أراحها من لم يتعبها، ولا أمّنها من لم يخوّفها، ولا فرحها من لم يُحزنها.
* سبحان الله! ظاهرُك متجمِّل بلباس التقوى، وباطنُك باطية
(1)
لخمر الهوى، فكلما طيبت الثوب فاحت رائحة المسكر من تحته، فتباعدَ منك الصادقون وانحاز إليك الفاسقون.
* يدخل عليك لصُّ الهوى وأنت في زاوية التعبد، فلا يرى منك طرداً له، فلا يزال بك حتى يخرجك من المسجد.
* اصدقْ في الطلب وقد جاءتك المعونة.
* قال رجل لمعروف
(2)
: علمني المحبة
(3)
، فقال: المحبة لا تجيء بالتعليم
(4)
.
هو الشوقُ مدلولاً على مقتل الفتى
…
إذا لم يَعُد صبًّا بلقيا حبيبهِ
* ليس العجيب من قوله: {وَيُحِبُّونَهُ} إنما العجب من قوله: {يُحِبُّهُمْ}
(1)
الباطية: إناء عظيم من الزجاج وغيره يتخذ للشراب. المعجم الوسيط (1/ 62).
(2)
معروف الكرخي عابد زاهد، مات سنة:(204 هـ). تنظر ترجمته وزهده في: سير أعلام النبلاء، للذهبي (9/ 339).
(3)
يعني: محبة الله تعالى.
(4)
يريد: أن المحبة تأتي بالعمل، وصدق الطلب.
[المائدة: 54]
(1)
.
* ليس العجب من فقير مسكين يحب محسنًا إليه إنما العجب من محسن يحب فقيراً مسكينًا
(2)
.
وقال رحمه الله:
* احترز من عدوين هلك بهما أكثر الخَلق: صادّ عن سبيل الله بشبهاته وزخرف قوله، ومفتون بدنياه ورئاسته.
* يا أيها الأعزل، احذر فراسة المتقي؛ فإنه يرى عورة عملك من وراء ستر:(اتقوا فراسة المؤمن)
(3)
(4)
.
* اعرفْ قدرَ ما ضاع منك، وابكِ بكاء من يدري مقدار الفائت.
* لو تخيّلتْ قربَ الأحباب لأقمت المأتم على بُعدك.
* لو استنشقتَ ريحَ الأسحار، لأفاق منك قلبُك المخمور
(5)
.
* من استطال الطريقَ ضعف مشيه.
وما أنتَ بالمشتاقِ إن قلتَ بيننا
…
طوالُ الليالي أو بَعيدُ المفاوزِ
(1)
لأن ذلك قد يكون دعوى من العبد، أو في مقابل إحسان الله له، وأما يحبهم فهي حقيقة لا مرية فيها، وليست في مقابل معروف أُسدي إليه تعالى، والعبارة التالية توضح.
(2)
الفوائد، لابن القيم (67 - 69).
(3)
حديث: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله) رواه الترمذي، سنن الترمذي (5/ 298)، والطبراني، المعجم الكبير (8/ 102)، وقال: هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه وقد روي عن بعض أهل العلم. وضعفه ابن الجوزي، والألباني. وحسنه الهيثمي. الموضوعات (3/ 147)، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (4/ 299)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لابن القيم 11/ 170). ويغني عنه حديث:(إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)، رواه الطبراني، المعجم الأوسط (3/ 207)، والبزار، مسند البزار (2/ 323)، وحسنه الهيثمي والألباني، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (11/ 170)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 8) وبعض التاسع (2/ 437).
(4)
الفوائد، لابن القيم (ص: 74).
(5)
يعني: لو ذقت لذة القيام في الأسحار لصحا قلبك من سكرته بالدنيا ولهوه عن ساعات الأسحار المباركة.
* أما علمتَ أن الصادق إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمَه؟.
* هان سهر الحراسُ لما علموا أن أصواتهم بسمع المَلِك
(1)
.
* من لاح له حالُ الآخرة، هان عليه فراقُ الدنيا.
* يا أقدامَ الصبر احملي؛ بقى القليل.
* تذكّر حلاوةَ الوصال، يهُنْ عليك مُرُّ المجاهدة.
* قد علمت أين المنزل، فاحدُ لها تَسرْ
(2)
.
* أعلى الهمم همةُ من استعد صاحبُها للقاء الحبيب.
* الجنة ترضى منك بأداء الفرائض، والنار تندفع عنك بترك المعاصي، والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل الروح.
* لله ما أحلى زمانًا تسعى فيه أقدام الطاعة على أرض الاشتياق.
* لما سلّم القوم النفوس إلى رائض الشرع علّمها الوفاق في خلاف الطبع، فاستقامت مع الطاعة كيف دارت دارت معها
(3)
.
(1)
يشير إلى أن قائمي الليل لما أيقنوا أن الله تعالى يسمع أصواتهم هان عليهم سهرهم بين يديه.
(2)
يعني: قد علمت أو علمت نفسك أن منزلها إذا آمنت واتقت الجنة، فما عليك إلا أن تسوقها وتحثها على السير الحثيث حتى بلوغ ذلك المنزل.
(3)
الفوائد، لابن القيم (ص: 78 - 79).
السعيدُ مَنْ دُفِنتْ ذنوبُه معه
الذنوب حبسٌ ورِقٌّ وهلاك، والمغفرة نجاة وتحرير وفِكاك، والذنوب قذر ونتن، والمغفرة طهارة وطيب، والذنوب داء، والمغفرة دواء، والذنوب قيظ وسَموم، والمغفرة مغتسل بارد وشراب.
إن أخطر ما على الإنسان معاصيه وسيئاته؛ فهي نار تحرق صاحبها عاجلاً أو آجلاً، وداء يمرض الروح أو يميتها.
والذنوب هي التي أخرجت آدم وحواء من الجنة فهبطا إلى الأرض بعد حياة الرغد، وهي التي طردت إبليسَ إلى لعنة الله، وهي التي تجلب الشقاء والتعاسة، والكدر والحزن، وتسلب عن العبد معيةَ ربه وتوفيقه وحمايته، وهي التي تورث العزيز ذلاً، والعمر محقًا وخُسراً، وهي التي ما حلّت قلبًا إلا ضيقت سروره، وسوّدت بياض أيامه، وقطعته عن أسباب راحته ونعيمه، وهي التي تجلب لأهلها الكوارث والجوائح، والمصائب والمعاطب، والنقم والبلايا.
فكم من نفس كانت بالطاعة عالية، فأصبحت بالمعصية دانية، وكانت بالصلاح في فسحة ونعيم، فأضحت بالخطيئة في ضيق وجحيم، وكانت ببُعدها عن الخطايا قريبة من رب البرايا، فلما عصت ابتعدت عن الرحمن، واقتربت من الشيطان.
فسبحان الله! كيف يرضى العاقل لنفسه ذلَّ المعصية، ولا يرضى لها عزَّ الطاعة، وكيف يستضيف بالخطيئة الضيقَ والعناء، ويطرد بهجر الطاعة السرورَ والهناء، وكيف يسعى جاهداً لسلوك أسباب العذاب في العاجل والآجل بالمعصية، ولا يسلك طرق السلامة في الدنيا والآخرة بالطاعة، وكيف يسعى بكد وجِد لتحصيل مصالح معيشته، ولا يسعى كذلك إلى محو سيئاته؟!
فيا من غرق في لجج الخطايا اعلم أن هناك يداً تمتد إليك لتنقذك فلا تردها، ويامن أحرقَتْه نيران المعاصي، إن هناك وسائل إطفاء تعرض عليك فاقبلها، ويا من ضلّ في دياجي الذنوب، إن هناك نوراً يناديك ليخرجك من الظلمات إلى النور ويهديك إلى صراط مستقيم فأحسن استقباله، ويامن تدنس بعصيان خالقه، إن هناك مغتسلاً طهوراً ينتظرك ليطهرك فأسرع إليه، ويامن ما زال في سجن مخالفة ربه، إن هناك سبلاً كثيرة لإطلاق سراحك فاقبل زيارتها لك، ويامن تعاني آلام الخطيئة، إن هناك دواء مجانيًا يقدم لك فخذه قبل أن يهلكك المرض.
الخطر الكبير:
إن الخطر الكبير على ابن آدم أن يعمل المعاصي ولا يبالي، فلا يفكر بمن عصى، ولا في عواقب معصيته، ولا تضيق نفسه من جرمه حتى تحمله على البحث عن مكفرات لسيئته، بل الأخطر من ذلك أن يصر على خطاياه ويستصغرها، وهذا الذي قد يجعله يقلل من شأن أسباب مغفرة الذنوب.
و" الإصرار هو الاستمرار على المخالفة والعزم على المعاودة، وذلك ذنب آخر لعله أعظم من الذنب الأول بكثير، وهذا من عقوبة الذنب أنه يوجب ذنبًا أكبر منه، ثم الثاني كذلك ثم الثالث كذلك حتى يستحكم الهلاك. فالإصرار على المعصية معصية أخرى، والقعود عن تدارك الفارط من المعصية إصرار ورضا بها وطمأنينة إليها، وذلك علامة الهلاك، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه"
(1)
.
وهناك خطر آخر ألا وهو المداومة على ارتكاب الصغائر، ظنًا أنها محقَّرات لا خطر فيها، وهذه التي حذر منها رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله: (إياكم ومحقَّرات الذنوب؛ فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود،
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 181).
حتى جملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يأخذ بها صاحبها تهلكه)
(1)
.
وصاحب هذه المعصية الصغيرة في نظره والتي أصر عليها قد تكون أشد خطراً من كبيرة استعظمها فاعلها حتى دعته إلى التوبة، قال ابن القيم:" وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحِقُها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحِقُها بالكبائر بل يجعلها في أعلى رُتَبِها"
(2)
.
المسارعة المسارعة إلى تكفير الذنوب قبل فجأة الموت:
إن الموت ضيف ينزل بالإنسان من غير استئذان، فحريٌّ بالعاقل أن يصفِّي حسابه ويراجع سجل أعماله قبل أن يأتيه هذا الضيف الذي ينقله إلى الحساب بين يدي الفتاح العليم ليحاسبه على كل كبيرة وصغيرة.
ومن الاستعداد: القيام بفعل الأوامر واجتناب النواهي على ما يحب الله ويرضاه، فإن هفا المرء فلا يسوِّف التوبة، ولا يؤخر محو الخطيئة، بل ينطلق مسرعًا إلى باب التوبة والقيام بعمل مكفِّر أو مكفرات لذنبه، وهذا يجعله في سعادة وطمأنينة إن أتاه الموت على حين غِرّة.
فيا شقاء من لم ينظر إلى هذا الأمر بعين الاعتبار؛ فصار يرتكب الخطايا، ويسرف على نفسه بالذنوب وحفظةُ الأعمال تسجل عليه تفريطه وإسرافه وهو غير مبالٍ بتكفير ذنوبه قبل لقاء خالقه، فيرحل إلى ربه منحني الظهر بالأوزار، مسود الصحيفة بالسيئات، ثقيل الحمولة بالخطيئات.
بل المصيبة التي قد تضاعِف مصيبته السالفة أن يعمل أعمالاً سيئة تبقى بعده،
(1)
رواه أحمد (37/ 467)، وهو صحيح.
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 328).
فيعملها الناس بعد رحيله إلى قبره؛ اقتداء به، فتظل صحيفة معاصيه تستقبل الآثام وقد رحل ذلك الإنسان عن الدنيا!
يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]. قال ابن كثير: " يقول: ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم، فإن كانت خيراً فلهم مثل أجورهم لا ينقص من أجر من عمل به شيئاً، وإن كانت شراً فعليهم مثل أوزارهم ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً"
(1)
.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)
(2)
.
وشتان ما بين هذا وبين من يموت فتظل صحيفة أعماله تُسجل فيها الأجور الناتجة عن أعمال صالحة خلّفها وراءه، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:(إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له)
(3)
. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته: علمًا علمّه ونشره، وولداً صالحًا تركه، ومصحفًا ورّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته. يلحقه من بعد موته)
(4)
.
فاحرص كل الحرص-أيها المسلم- على مفارقة الحياة وقد تخلصت من الذنوب
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 682).
(2)
رواه مسلم (2/ 704).
(3)
رواه مسلم (3/ 1255).
(4)
رواه ابن ماجه (1/ 88)، وابن خزيمة (4/ 121)، وهو حسن.
السابقة، وابتعدت عن ذنوب قد تصير إلى القبر لاحقة، وإن استطعت أن تجعل لك أعمالاً صالحة من بعدك يصل ثوابها إلى قبرك فذاك خير إلى خير، وسعادة وأي سعادة.
قال حبيب أبو محمد: "إن من سعادة المرء إذا مات ماتت معه ذنوبُه"
(1)
.
وقال أبو طالب المكي: "فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه بعده مائة سنة ومائتي سنة يعذَّب بها في قبره، ويُسأل عنها إلى آخر انقراضها، قال اللّه عز وجل: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]. (ما قدموا): ما عملوا، (وآثارهم): ما سنّوه بعدهم فعُمل به، وقال في وصفه: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]، قيل: بما قدم من عمل، وما أخّر من سنّة عمل بها بعده"
(2)
.
أسباب مغفرة الذنوب:
إن الله تعالى عفو رحيم غفور حليم؛ فقد فتح لعباده أبواب الأمل والتفاؤل، وأغلق عنهم منافذ اليأس والقنوط، وأرشدهم إلى الطريق القويم حينما يزيغون عنه في ظلمات الخطايا والانحراف، وأعطاهم قوارب النجاة عندما تتقاذفهم أمواجُ الشبهات والشهوات، وأعادهم إلى دار الأمان والعز، بعد أن تاهوا عنها في طرقات المعاصي والضياع والذل.
ولولا رحمته تعالى وحلمه ومغفرته لهلكَ عبادُه أجمعون؛ فهو الرحيم الرحمن الذي وسعت رحمته كلَّ شيء، ومن رحمته أن يقبل رجوعهم إليه إذا عصوه، وهو الحليم الذي يحلم على المذنبين عن قدرة وكرم، لا عن ضعف وعجز، ومن حلمه: أنه لم يعاجلهم بالعقوبة، بل أمهلهم؛ لعلهم أن يتوبوا ويرجعوا عن غيهم، قال تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45].
(1)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (8/ 296).
(2)
قوت القلوب، لأبي طالب المكيفي معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد (2/ 442).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى؛ إنهم يجعلون له نداً، ويجعلون له ولداً، وهو مع ذلك يرزقهم، ويعافيهم ويعطيهم)!
(1)
.
وهو الغافر الغفور الغفار، يغفر ذنوب المذنبين، ويستر على عباده العاصين؛ ولذلك يخبرهم بهذه الصفة العظيمة فيقول:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]. ويدعو المسرفين على أنفسهم بالخطايا أن يتركوها، ويدعوا القنوط من غفرانه، ويقبلوا تائبين إليه منيبين وسيغفر لهم، فقال:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 53، 54].
فمن عصى الله تعالى فعليه للخروج من تبعة معصيته أمران:
الأول: التوبة النصوح، وهي:" ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة"
(2)
.
الثاني: أن يسعى إلى الإكثار من الأقوال والأعمال التي ورد أنها تكفِّر الخطايا.
وهذه المكفِّرات يمكن أن نقسمها إلى قسمين:
مكفرات فعلية، ومكفرات قولية. وهي كثيرة العدد في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وسنكتفي هنا ببعض ذلك.
القسم الأول: المكفرات الفعلية:
أولاً: اتباع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. "أي:
(1)
رواه مسلم (4/ 2160).
(2)
مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني (1/ 149).
باتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا كله"
(1)
.
ثانيًا: فعل الحسنات، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. " يقول: إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة"
(2)
.
ثالثًا: اجتناب الكبائر، قال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].
رابعًا: إسباغ الوضوء والإتيان به إلى المسجد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد؛ غفر الله له ذنوبه)
(3)
.
وعن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: (من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة)
(4)
.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)
(5)
.
خامسًا: المحافظة على الصلوات الخمس، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن، إذا اجتنب الكبائر)
(6)
.
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 32).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 562).
(3)
رواه مسلم (1/ 208).
(4)
رواه مسلم (1/ 207).
(5)
رواه مسلم (1/ 216).
(6)
رواه مسلم (1/ 209).
سادسًا: صلاة الجمعة والتزام آدابها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)
(1)
. زاد مسلم: (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام).
سابعًا: قيام الليل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم)
(2)
.
ثامنًا: أداء الزكاة كما وجبت ابتغاء وجه الله تعالى، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].
قال ابن عاشور: "فقوله: {تُطَهِّرُهُمْ} إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات. وقوله: {تُزَكِّيهِمْ} إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات. ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية. فالمعنى: أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم"
(3)
.
تاسعًا: الصدقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النار)
(4)
.
عاشراً: صيام رمضان وقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر
(1)
رواه البخاري (1/ 301)، ومسلم (2/ 587).
(2)
رواه الترمذي (5/ 552)، والحاكم (1/ 451)، وهو صحيح.
(3)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (10/ 196).
(4)
رواه الترمذي (5/ 11)، وأبو يعلى (6/ 330)، وهو صحيح.
إيمانًا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)
(1)
.
الحادي عشر: صيام يوم عرفة، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة؟ فقال:(يكفر السنة الماضية والباقية)
(2)
.
الثاني عشر: صيام يوم عاشوراء، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال:(يكفر السنة الماضية)
(3)
.
الثالث عشر: الحج الخالي من الرفث والفسق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)
(4)
.
الرابع عشر: العمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)
(5)
.
الخامس عشر: الصبر على الأمراض والهموم والأحزان والمصائب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما يصيب المؤمنَ من وصب ولا نصب، ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كُفر به من سيئاته)
(6)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)
(7)
. زاد مسلم: (إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه خطيئة).
ودخل عليه الصلاة والسلام على أم السائب أو أم المسيب فقال: (مالك يا أم
(1)
رواه البخاري (2/ 709)، ومسلم (1/ 523).
(2)
رواه مسلم (2/ 818).
(3)
رواه مسلم (2/ 818).
(4)
رواه البخاري (2/ 553)، ومسلم (2/ 983).
(5)
رواه البخاري (2/ 629)، ومسلم (2/ 983).
(6)
رواه مسلم (4/ 1992).
(7)
رواه البخاري (5/ 2139)، ومسلم (4/ 1991).
السائب أو يا أم المسيب تزفزفين)؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها، فقال:(لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)
(1)
.
السادس عشر: مصافحة المسلم لأخيه المسلم عند اللقاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا)
(2)
.
القسم الثاني: المكفِّرات القولية:
أولاً: القول السديد، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
قال ابن عاشور: "ويشمل القول السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء، وما هو تبليغ لإرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء. فقراءة القرآن على الناس من القول السديد، ورواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد. وفي الحديث: "نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها" وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأئمة الفقه. ومن القول السديد: تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح. ومن القول السديد: الأذان والإقامة قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً. والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"
(3)
.
ثانيًا: الدعاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: (يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا
(1)
رواه مسلم (4/ 1993).
(2)
رواه أبو داود (4/ 521)، وهو صحيح.
(3)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (21/ 342).
أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة)
(1)
.
ثالثًا: الاستغفار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من قال: أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له، وإن كان فر من الزحف)
(2)
.
رابعًا: الإتيان بكفارة المجلس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان، في مجلسه ذلك)
(3)
.
خامسًا: قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)
(4)
.
سادسًا: قول: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)
(5)
.
(1)
رواه أحمد (35/ 375)، والترمذي (8/ 40)، وهو صحيح.
(2)
رواه أبو داود (1/ 560)، والترمذي (5/ 568)، وهو صحيح.
(3)
رواه الترمذي (5/ 494)، وهو صحيح.
(4)
رواه البخاري (5/ 2351)، ومسلم (4/ 2071).
(5)
رواه البخاري (5/ 2352)، ومسلم (4/ 2071).
سابعًا: الدعاء الوارد عند الأذان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا غفر له ذنبه)
(1)
.
ثامنًا: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل عقب الصلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)
(2)
.
تاسعًا: حمد الله عقب الطعام ولبسِ الثوب الجديد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أكل طعامًا فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبًا جديداً فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه)
(3)
.
عاشراً: دعاء عند النوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من قال عند منامه لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله وبحمده لا إله إلا الله والله أكبر؛ غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر)
(4)
.
(1)
رواه مسلم (1/ 290).
(2)
رواه مسلم (1/ 418).
(3)
رواه أبو داود (4/ 74)، وهو حسن.
(4)
رواه النسائي الكبرى (6/ 202)، وهو صحيح.
وطنُك ليس هنا!
خُلق الإنسان ليعيش حياته التامة في الآخرة لا في الدنيا، وما الدنيا له إلا معبر إلى ذلك المستقر، وما لياليها وأيامها إلا رواحل إلى تلك المنازل. "قال بعض الحكماء: من كانت الأيام والليالي مطاياه سارت به وإن لم يَسرْ"
(1)
.
فوطن المرء الحقيقي هناك في الآخرة، وليس هنا في هذه الدار التي هي في الحقيقة دار غربة وسكانها غرباء. "كان عطاء السلمي يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك"
(2)
.
غرباء ينتظرون الوطن:
قال ابن القيم: " إن الناس كلهم في هذه الدار غرباء؛ فإنها ليست لهم بدار مقام، ولا هي الدار التي خُلِقوا لها، وقد قال النبي لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وهكذا هو نفس الأمر؛ لأنه أمر أن يطالع ذلك بقلبه ويعرفه حق المعرفة. ولي من أبيات في هذا المعنى:
وحَيَّ على جناتِ عدْنٍ فإنها
…
منازلُك الأُولى وفيها المخيَّمُ
ولكنَّنا سَبْيُ العدوِّ فهل ترى
…
نعودُ إلى أوطاننا ونُسلَّمُ
وأيُّ اغترابٍ فوق غربتِنا التي
…
لها أضحتِ الأعداءُ فينا تحكَّمُ
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى
…
وشَطَّتْ به أوطانُه ليس يَنعمُ
(1)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (42/ 8).
(2)
المرجع السابق (42/ 5).
فمن أجلِ ذا لا يَنعم العبدُ ساعةً
…
من العمر إلا بعدما يتألمُ
وكيف لا يكون العبد في هذه الدار غريبًا وهو على جناح سفر، لا يحل عن راحلته إلا بين أهل القبور، فهو مسافر في صورة قاعد، وقد قيل:
وما هذه الأيامُ إلا مراحلٌ
…
يحثُّ بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجبُ شيءٍ لو تأملتَ أنها
…
منازلُ تُطوى والمسافرُ قاعدُ! "
(1)
.
فوصفُ الإنسان في هذه الحياة القصيرة أنه: غريب فيها، أو عابر سبيل عليها، فليس له استقرار ولا استيطان إلا في دار البقاء، وهذا يدعوه إلى قصر الأمل فيها، والاستعداد إلى دار الوطن التي سينتقل إليها.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك
(2)
.
وعند الترمذي: عن مجاهد عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعدّ نفسك في أهل القبور) فقال لي ابن عمر: إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك؛ فإنك لا تدري -يا عبد الله- ما اسمك غداً
(3)
.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 200).
(2)
رواه البخاري (5/ 2358).
(3)
قال المباركفوري: " قال الحافظ: أي: هل يقال له: شقي أو سعيد، ولم يرد اسمه الخاص به؛ فإنه لا يتغير. وقيل: المراد: هل يقال: هو حي أو ميت انتهى. قلت: والظاهر عندي هو المعنى الثاني، والله تعالى أعلم". تحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 516).
وزاد أحمد: (وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي الْمَوْتَى)
(1)
، وعند الترمذي وابن ماجه والطبراني:(وعُدَّ نفسك في أهل القبور)
(2)
. وعند البيهقي في قول ابن عمر زيادة: "وخذ من حسناتك لمساويك"
(3)
.
قال ابن حجر: "قال الطيبي: ليست (أو) للشك، بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى: بل، فشبّه الناسكَ السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يؤويه ولا مسكن يسكنه، ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما أودية مردية، ومفاوز مهلكة، وقطاع طريق؛ فإن مِنْ شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة، ومن ثم عقبه بقوله: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" إلخ وبقوله: (وعد نفسك في أهل القبور)، والمعنى: استمر سائراً ولا تفتر؛ فإنك إن قصرت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به، وأما المشبه فهو قوله: "وخذ من صحتك لمرضك" أي: أن العمر لا يخلو عن صحة ومرض، فإذا كنت صحيحًا فسر سير القصد، وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة بحيث تكون ما بك من تلك الزيادة قائمًا مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف، زاد عبدة في روايته عن ابن عمر:(اعبدِ الله كأنك تراه، وكن في الدنيا .. ) الحديث، وزاد ليث في روايته:(وعد نفسك في أهل القبور)، وفي رواية سعيد بن منصور:(وكأنك عابر سبيل). وقال ابن بطال: لما كان الغريب قليلَ الانبساط إلى الناس، بل هو مستوحش منهم، إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه مستأنس به، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه، وتخفيفه من الأثقال، غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره، معه زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته من قصده، وفي ذلك إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا، وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية
(1)
مسند أحمد (8/ 383).
(2)
سنن الترمذي (4/ 567)، سنن ابن ماجه (2/ 1378)، المعجم الكبير (12/ 418).
(3)
السنن الكبرى (3/ 369).
سفره فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقال غيره: هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا والزهد فيها، والاحتقار لها والقناعة فيها بالبلغة. وقال النووي: معنى الحديث: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. وقال غيره: عابر السبيل هو المار على الطريق طالبًا وطنه، فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه، ثم يعود إلى وطنه، ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه. وقال غيره: المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب. أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه، بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة"
(1)
.
وقال ابن رجب: " وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا؛ فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل، وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} ، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قالَ
(2)
في ظلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وتركها)
(3)
. ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها، ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً! تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قرارا"
(4)
.
وقال ابن رجب أيضًا: " وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطناً، فينبغي
(1)
فتح الباري (11/ 234).
(2)
قال: من القيلولة وهي النوم نصف النهار.
(3)
رواه أحمد (7/ 259)، والترمذي (4/ 588)، وابن ماجه (2/ 1376)، وهو صحيح.
(4)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (42/ 2).
للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين: إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة، بل هو ليله ونهارَه، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة؛ فلهذا وصّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين. فأحدهما: أنْ ينْزِل المؤمن نفسه كأنَّه غريبٌ في الدنيا يتخيَّلُ الإقامةَ، لكن في بلد غُربةٍ، فهوَ غيرُ متعلِّقِ القلب ببلد الغربة، بل قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يَرجِعُ إليه، وإنّما هو مقيمٌ في الدنيا ليقضي مَرَمَّةَ
(1)
جهازه إلى الرجوع إلى وطنه، قال الفضيلُ بن عياض: المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزين، همُّه مَرَمَّةُ جهازه، ومن كان في الدنيا كذلك فلا همَّ له إلا في التزوُّد بما ينفعُه عندَ عودِه إلى وطنه، فلا يُنافِسُ أهلَ البلدِ الذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم، ولا يَجْزَعُ من الذلِّ عندهم، قال الحسن: المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يجزع من ذُلها، ولا يُنافِسُ في عِزِّها، له شأنٌ، وللناس شأن"
(2)
.
وقال ابن دقيق العيد: " في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على التشبه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها في مجالسهم، ولا يجزع أن يراه أحد على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون متدابراً معهم، وكذلك عابر السبيل لا يتخذ داراً، ولا يلجّ في الخصومات مع الناس يشاحنهم، ناظراً إلى أن لبثه معهم أيام يسيرة، فكل أحوال الغريب وعابر السبيل مستحبة أن تكون للمؤمن في الدنيا؛ لأن الدنيا ليست وطنًا له؛ لأنها تحبسه عن داره وهي الحائلة بينه وبين قراره"
(3)
. وقال العيني: " هذه كلمة جامعة لأنواع النصائح؛ إذ الغريب لقلة معرفته بالناس قليل الحسد والعداوة والحقد، والنفاق والنزاع، وسائرُ الرذائل منشؤها الاختلاط بالخلائق، ولقلة إقامته قليل الدار والبستان والمزرعة والأهل والعيال وسائر العلائق التي هي منشأ الاشتغال عن الخالق"
(4)
.
(1)
المرمة: متاع البيت. المعجم الوسيط (1/ 374).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (42/ 4).
(3)
شرح الأربعين - ابن دقيق العيد (ص: 104).
(4)
من تعليق د. البغا على: صحيح البخاري (5/ 2358).
إن المؤمن اليقِظ لا يجعل الدنيا وطنه، بل هو عنها "مسافر في ليله ونهاره ويقظته ومنامه، لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه، قد رُفع له عَلم الحُب فشمر إليه وناداه داعي الاشتياق فأقبل بكليته عليه، أجاب منادي المحبة إذ دعاه: حي على الفلاح، ووصل السُّرى في بيداء الطلب، فحمد عند الوصول سُراه، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح"
(1)
.
الجنة وطن المؤمن:
إن وطن المؤمن الحقيقي الذي يجب أن يعمل للعودة إليه، ويكون دائم الحنين إلى الوصول إلى نواحيه هو الجنة. وقد أرى الله أبا البشر تلك الدار" وأسكنه إياها، ثم قصَّ على بنيه قصته، فصاروا كأنهم مشاهدون لها، حاضرون مع أبيهم، فاستجاب من خُلق لها وخُلقت له، وسارع إليها فلم يثنه عنها العاجلة، بل يعد نفسه كانه فيها، ثم سباه العدو، فيراها وطنه الأول، فهو دائم الحنين إلى وطنه ولا يقر له قرار حتى يرى نفسه فيه"
(2)
.
إن روح المؤمن تحن إلى وطنها الأول، وراحتها في السعي إليه، وأما عذابها وشقاؤها ففي الانغماس فيما يلهيها عنه، ولا شفاء لها من ذلك إلا إفاقتها من غمرتها، وصحوها من سُكرها، واستقرارها بعد ذلك في دارها. قال ابن القيم: "فأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيسها في أعماق البدن، واشتغالها بملاذه وانقطاعها عن ملاحظة ما خُلقت له، وهُيئت له، وعن وطنها ومحلها ومحل أُنسها، ومنزل كرامتها، ولكن سُكر الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب، فإذا صحت من سكرها وأفاقت من غمرتها أقبلت عليها جيوشُ الحسرات من كل جانب، فحينئذ تتقطع حسراتٍ على ما فاتها من كرامة الله وقربه، والأنس به والوصول إلى وطنها الذي لا راحة لها إلا فيه كما قيل:
صحِبتُك إذْ عينيْ عليها غشاوةٌ
…
فلما انجلتْ قطّعتُ نفسي ألومُها
(1)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 92).
(2)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 9).
ولو تنقلت الروح في المواطن كلها والمنازل، لم تستقر ولم تطمئن إلا في وطنها ومحلها الذي خُلقت له كما قيل:
نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى
…
ما الحُبُّ إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى
…
وحنينُه أبداً لأول منزل
وإذا كانت الروح تحنُّ أبداً إلى وطنها من الأرض- مع قيام غيره مقامه في السكنى، وكثيراً ما يكون غير وطنها أحسن وأطيب منه، وهي دائمًا تحن إليه، مع أنه لا ضرر عليها ولا عذاب في مفارقته إلى مثله-؛ فكيف بحنينها إلى الوطن الذي في فراقها له عذابها وآلامها، وحسرتها التي لا تنقضي. فالعبد المؤمن في هذه الدار سُبيَ من الجنة إلى دار التعب والعناء، ثم ضُرب عليه الرِّق فيها، فكيف يُلام على حنينه إلى داره التي سُبي منها، وفُرِّق بينه وبين من يحب، وجُمع بينه وبين عدوه، فروحه دائمًا معلّقة بذلك الوطن، وبدُنه في الدنيا
…
وكلما أراد منه العدو نسيانَ وطنه، وضرب الذكر عنه صفحًا وإيلافه وطنًا غيره أبتْ ذلك روحُه وقلبه، كما قيل:
يُرادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيانُكُمْ
…
وتأبَى الطّباعُ على النّاقِلِ
ولهذا كان المؤمن غريبًا في هذه الدار أين حلَّ منها، فهو في دار غربة .. ولكنها غربة تنقضي، ويصير إلى وطنه ومنزله، وإنما الغربة التي لا يُرجى انقطاعها فهي غربة في دار الهوان، ومفارقة وطنه الذي كان قد هُيء وأعد له، وأُمر بالتجهيز إليه، والقدوم عليه، فأبى إلا اغترابه عنه، ومفارقته له، فتلك غربة لا يُرجى إيابُها، ولا يجبر مصابُها"
(1)
.
استعد للعودة:
فلما كان الأمر على بساط هذه الحقيقة التي توصلنا إلى اليقين بأن وطننا ليس هنا، وإنما هو في الآخرة، وليس للمؤمن فيها من وطن إلا الجنة؛ تحتم عليه أن يستيقظ من
(1)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 150).
غفلته، ويستعد بالزاد الصالح لرحلته إليه. فاستيقظ-أيها المؤمن- واستعد لوطنك الغالي؛ " فأول منازل العبودية اليقظة، وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة، وما أعظم قدرها وخطرها، وما أشد إعانتها على السلوك! فمن أحسَّ بها فقد أحس -والله- بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمّر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى، وأوطانه التي سُبي منها"
(1)
.
قال عُمرُ بنُ عبد العزيز في إحدى خطبه: "إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظَّعَن، فكم من عامرٍ موثَّق عن قليلٍ يَخْرَب، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَن، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِنْ النقلة، وتزوَّدوا؛ فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى"
(2)
.
وعلى المؤمن أن " يُنْزِلَ نفسَه في الدنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم البتة، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السَّفر حتّى ينتهي به السفرُ إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حالَه في الدنيا، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدنيا؛ ولهذا أوصى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابه أن يكونَ بلاغُهم من الدُّنيا كزادِ الرَّاكب"
(3)
.
قال ابن رجب: " قال داود الطائي: إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زاداً لِما بَينَ يديها، فافعل؛ فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريب ما هو، والأمر أعجلُ من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقضِ ما أنتَ قاضٍ من أمرك، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك.
وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: يا أخي، يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم، بل أنتَ دائبُ السَّيرِ،
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 123).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (42/ 3).
(3)
المرجع السابق.
تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجَّهٌ إليك، والدنيا تُطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكارٍّ عليك حتى يَكُرَّ عليك يوم التغابن.
سبيلُكَ في الدُّنيا سبِيلُ مُسافرٍ
…
ولابُدَّ من زادٍ لكلِّ مسافِر"
(1)
.
(1)
المرجع السابق.
حاسبْ نفسَك اليوم
إن النفس البشرية ميّالة إلى الدعة، وتتبعِ منازل الراحة، تحب الجِدَّ والنهوض إلى مراتع الشهوات، وتكسل وتفتر عن الإقبال إلى رياض الطاعات، وهي مليئة بالميل إلى الهوى وحب الرغبات، والدعوة إلى السوء والمكروهات.
قال ابن القيم: " فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء، فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة"
(1)
.
والنفس كذلك تقف حجر عثرة أمام صاحبها إذا أراد فعل الخير إلا أن يجاهدها جهاداً كبيراً، فإن أراد عمل شر فإنها تحثه عليه وتزينه له، وتصبره على كل صارف يحول بينه وبينه حتى يتجاوزه إلى ذلك الشر. قال تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53].
فهي مولَعة بحب العاجل اللذيذ ولو كان يعقب صاحبها المكروه الأليم. وإذا مضى الإنسان مع نفسه وهواها سلكت به طريق المهالك وأنزلته دار الندامة.
إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّ مَا اشْتَهَتْ
…
وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ
وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِاَلَّذِي
…
دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ
غير أن الحازم الكامل يكبح جماحها، ويحبس عنفوانها إلا إلى خير
(2)
.
وقال الآخر:
إذَا مَا رَأَيْت الْمَرْءَ يَعْتَادُهُ الْهَوَى
…
فَقَدْ ثَكِلَتْهُ عِنْدَ ذَاكَ ثَوَاكِلُهْ
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 86).
(2)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 23).
وَقَدْ أَشْمَتَ الْأَعْدَاءَ جَهْلًا بِنَفْسِهِ
…
وَقَدْ وَجَدَتْ فِيهِ مَقَالًا عَوَاذِلُهْ
وَمَا يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى
…
مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ الرَّأْيِ كَامِلُهْ
(1)
.
ولما كانت النفس لا تخلو من دواعي الضرر وأخلاق السوء وصفات النقص وكثرة العيوب؛ كان لزامًا على العاقل إصلاحها وتطهيرها وتزكيتها من الرذائل وتطيبها بالفضائل حتى ينال بذلك الفلاح، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]. فمن" من وفقه الله وأعانه فزكى نفسه أي: طهرها بالإيمان والعمل الصالح، مبعداً لها عما يدنسها من الشرك والمعاصي" فقد فاز بالخير في الدنيا والآخرة"
(2)
.
فإذا" تزكت النفس انجلت مرآة القلب، ودخل فيها نور العظمة الإلهية، ولاح فيها جمال التوحيد"
(3)
.
ولا يصل المرء إلى ذلك الاطمئنان إلا بعد تجاوز مرحلة اللوم؛ ولذلك كانت النفوس ثلاثًا:
أمارة، ولوامة، ومطمئنة، "فإذا دعت النفس إلى شهواتها فهي النفس الأمارة بالسوء، فإذا فعلتها أتت النفس اللوامة فلامتها على ذلك الفعل القبيح من ارتكاب الشهوات، ويحصل عند ذلك الندامة على ذلك الفعل القبيح وهذا من صفات النفس المطمئنة"
(4)
.
(1)
المصدر السابق (ص: 20).
(2)
أيسر التفاسير للجزائري (5/ 577).
(3)
البحر المديد، لابن عجيبة (4/ 538).
(4)
تفسير الخازن (3/ 290).
المحاسبة طريق التزكية:
إن تطهير النفس من الشر وتحليتها بالخير لا يتم إلا بمحاسبتها على الدوام؛ لأنها سريعة التلون والتغير، كثيرة الانفلات وتركِ التمسك بحبل الاستقامة.
معنى محاسبة النفس:
محاسبة النفس هي: أن يتصفح المرء في ليله ما صدر في نهاره وفي نهاره ما صدر في ليله؛ فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل
(1)
.
وإيضاح ذلك: أن المحاسبة تعني نظر العبد في قلبه وجوارحه وحالها مع الطاعة والمعصية؛ فإن كانت قائمة بالطاعة الخالصة التامة ثبتها على ذلك وحثها على المسارعة والاستزادة، فإن قصرت في الكمية أو الكيفية زجرها حتى تترك ذلك القصور. وإن كانت على معصية أبعدها عنها وتاب إلى الله منها توبة نصوحًا.
صور من محاسبة النفس:
قال ابن القيم: "ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده:
فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه، قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبداً وقف عند همه: فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهمّ به العبد وقف أولاً ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع، فإن لم يكن مقدوراً لم يقدم عليه، وإن كان مقدوراً وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعله خير له من تركه أو تركه
(1)
أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 453) بتصرف.
خير له من فعله، فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق، فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؛ لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى، حتى يصير أثقل شيء عليها وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو مُعان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا، فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معاناً عليه فليقدم عليه؛ فإنه منصور ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح، فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل
…
النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي، وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. فيحاسب نفسه: هل وفى هذه المقامات حقها، وهل أتى بها في هذه الطاعة؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به؟ "
(1)
.
وقال أيضًا: "وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض؛ فإن تذكر فيها نقصًا
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 81).
تداركه: إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي؛ فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة؛ فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها بما تكلم به أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه أو سمعته أذناه: ماذا أرادت بهذا ولمن فعلته وعلى أي وجه فعلته؟ ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته وكيف فعلته، فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة، وقال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]. وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6، 7]. وقال تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب: 8] "
(1)
.
وقال كذلك: " هلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطرق وأسهلها؛ وذلك أنك في وقت بين وقتين وهو في الحقيقة عمرك وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق، إنما هو عمل قلب. وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملاً بالجوارح يشق عليك معاناته وإنما هو عزم ونية جازمه تريح بدنك وقلبك وسرك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب"
(2)
.
وقال الغزاليّ: "اعلم أنّ العبد كما يكون له وقت في أوّل النّهار يشارط فيه نفسه على سبيل التّوصية بالحقّ؛ فينبغي أن يكون له في آخر النّهار ساعة يطالب فيها النّفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التّجّار في الدّنيا مع الشّركاء في آخر كلّ
(1)
المصدر السابق (1/ 83).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 116).
سنة أو شهر أو يوم؛ حرصًا منهم على الدّنيا، وخوفًا من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته! ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلّا أيّام قلائل، فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلّق به خطر الشّقاوة والسّعادة أبد الآباد؟ ما هذه المساهلة إلّا عن الغفلة والخذلان وقلّة التّوفيق- نعوذ باللّه من ذلك"
(1)
.
"وقال إبراهيم التيمي: مثّلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس، أيَّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قلت: فأنت في الأمنية فاعملي"
(2)
.
أهمية محاسبة النفس:
إن لمحاسبة النفس أهمية كبيرة، ومكانة عظيمة في صلاح الحال والمآل؛ فهي باب لزكاة النفس وطهارتها، ودليل على خوف صاحبها؛ ولذلك تواصى الصالحون على الحث على المحاسبة، والتحذير من ترك النفس عاطلة عن المراقبة.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}. "
(3)
.
وكتب رضي الله عنه إلى بعض عمّاله، فكان في آخر كتابه: "أن حاسب نفسك في الرّخاء، قبل حساب الشّدّة؛ فإنّه من حاسب نفسه في الرّخاء، قبل حساب الشّدّة، عاد مرجعه إلى الرّضى والغبطة. ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه، عاد أمره إلى النّدامة، والحسرة. فتذكّر ما توعظ به، لكيما تنتهي عمّا ينهى عنه، وتكون عند التّذكرة والعظة من
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 405).
(2)
المصدر السابق.
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 170).
أولي النّهى"
(1)
.
وقال مالك بن دينار: "رحم اللّه عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثمّ زمّها، ثمّ خطمها، ثمّ ألزمها كتاب اللّه- عز وجل فكان لها قائدا"
(2)
.
وعن الحسن: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت تعملين، وماذا أردت تأكلين، وماذا أردت تشربين، والفاجر يمضي قدمًا قدمًا لا يحاسب نفسه"
(3)
.
وعن وهب بن منبّه قال: "مكتوب في حكمة آل داود: حقّ على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الّذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه، وبين لذّاتها، فيما يحلّ ويحمد؛ فإنّ في هذه السّاعة عونًا على تلك السّاعات، وإجمامًا للقلوب"
(4)
.
وعن ميمون بن مهران قال: لا يكون الرّجل تقيًّا حتّى يكون لنفسه أشدّ محاسبة من الشّريك لشريكه"
(5)
.
وقال الغزاليّ: "اعلم أنّ مطالب المتعاملين في التّجارات المشتركين في البضائع عند المحاسبة سلامة الرّبح، وكما أنّ التّاجر يستعين بشريكه فيسلّم إليه المال حتّى يتّجر ثمّ يحاسبه، فكذلك العقل هو التّاجر في طريق الآخرة وإنّما مطلبه وربحه تزكية النّفس؛ لأنّ بذلك فلاحها، قال اللّه تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها} [الشمس: 9 - 10] وإنّما فلاحها بالأعمال الصّالحة. والعقل يستعين بالنّفس في هذه التّجارة إذ يستعملها
(1)
محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا (ص: 59).
(2)
المصدر السابق (ص: 26).
(3)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 78).
(4)
محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا (ص: 30).
(5)
المصدر السابق (ص: 25).
ويستسخرها فيما يزكّيها كما يستعين التّاجر بشريكه وغلامه الّذي يتّجر في ماله، وكما أنّ الشّريك يصير خصمًا منازعًا يجاذبه في الرّبح فيحتاج إلى أن يشارطه أوّلاً ويراقبه ثانيًا، ويحاسبه ثالثاً، ويعاقبه أو يعاتبه رابعًا. العقل يحتاج إلى مشارطة النّفس أوّلا فيوظّف عليها الوظائف، ويشرط عليها الشّروط، ويرشدها إلى طريق الفلاح، ويجزم عليها الأمر بسلوك تلك الطّرق، ثمّ لا يغفل عن مراقبتها لحظة، فإنّه لو أهملها لم ير منها إلّا الخيانة وتضييع رأس المال، كالعبد الخائن إذا خلا له الجوّ وانفرد بالمال. ثمّ بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها، ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإنّ هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى، وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشّهداء، فتدقيق الحساب في هذا مع النّفس أهمّ كثيراً من تدقيقه في أرباح الدّنيا مع أنّها محتقرة بالإضافة إلى نعيم العقبى، ثمّ كيفما كانت فمصيرها إلى التّصرّم والانقضاء، ولا خير في خير لا يدوم، بل شرّ لا يدوم خير من خير لا يدوم؛ لأنّ الشّرّ الّذي لا يدوم إذا انقطع بقي الفرح بانقطاعه دائمًا وقد انقضى الشّرّ، والخير الّذي لا يدوم يبقى الأسف على انقطاعه دائمًا، وقد انقضى الخير؛ ولذلك قيل:
أشدّ الغمّ عندي في سرور
…
تيقّن عنه صاحبُه انتقالا
فحتمٌ على ذي حزم آمن باللّه واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتّضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها؛ فإنّ كلّ نفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد، فانقباض هذه الأنفاس- ضائعة أو مصروفة إلى ما يجلب الهلاك- خسران عظيم هائل، لا تسمح به نفس عاقل. فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصّبح ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النّفس كما أنّ التّاجر عند تسليم البضاعة إلى الشّريك العامل يفرغ المجلس لمشارطته. فيقول للنّفس: مالي بضاعة إلّا العمر، ومهما فني فقد فني رأس المال، ووقع اليأس من التّجارة وطلب الرّبح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأنسأ في أجلي وأنعم عليّ به، ولو توفّاني لكنت أتمنّى أن يرجعني إلى الدّنيا يوماً واحداً حتّى أعمل فيه صالحًا، فاحسبي أنّك قد توفّيت، ثمّ قد رددت، فإيّاك ثمّ إيّاك أن تضيّعي هذا اليوم؛ فإنّ
كلّ نفس من الأنفاس جوهرة لها قيمة"
(1)
.
وقال أيضًا: "عرف أرباب البصائر من جملة العباد أنّ اللّه تعالى لهم بالمرصاد، وأنّهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذّرّ من الخطرات واللّحظات، وتحقّقوا أنّه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلّا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النّفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللّحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابه، وحضر عند السّؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيّئاته، فلمّا انكشف لهم ذلك علموا أنّه لا ينجيهم منه إلّا طاعة اللّه وقد أمرهم بالصّبر والمرابطة فقال عزّ من قائل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا} [آل عمران: 200] فرابطوا أنفسهم أوّلا بالمشارطة، ثمّ بالمراقبة، ثمّ بالمحاسبة، ثمّ بالمعاقبة، ثمّ بالمجاهدة. ثمّ بالمعاتبة. فكانت لهم في المرابطة ستّة مقامات"
(2)
.
وقال ابن الجوزي: " يا معشر المذنبين، حاسبوا أنفسكم قبل يوم الحساب، وارحموا أنفسكم قبل نزول العذاب، وبادروا بالتوبة قبل غلق الباب، واجتهدوا في بقية أعماركم قبل وضع الكتاب، وسارعوا إلى المغفرة من ربكم قبل الخجل بين يدي رب الأرباب"
(3)
.
وقال ابن القيّم: "قد دلّ على وجوب محاسبة النّفس قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]
(4)
يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصّالحات الّتي تنجيه، أم من السّيّئات الّتي توبقه"؟
(5)
.
(1)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 394).
(2)
المصدر السابق (4/ 393).
(3)
بستان الواعظين ورياض السامعين (ص: 111).
(4)
قال الغزالي عن هذه الآية: " وهذه إشارة إلى المحاسبة على ما مضى من الأعمال". إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 404).
(5)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 84).
ثمرات محاسبة النفس:
من حاسب نفسه فأوقفها على عيوبها فأصلحها، وعلى ذنوبها فتاب منها، وعلى تقصيرها فشحذ همته فترك التقصير فصار من السابقين؛ فإنه سيجني ثمرات حسنة في الدنيا والآخرة بتلك المحاسبة الصالحة، فمن تلك الثمرات:
أولاً: الاطلاع على عيوب النفس، قال ابن القيم:" وفي محاسبة النفس عدة مصالح منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى"
(1)
.
ثانيًا: صلاح القلب وسلامته، فـ" صلاح القلب بمحاسبة النّفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها"
(2)
. وهلاكه" من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها"
(3)
.
ثالثًا: سلامة النفس من الهلاك، قال ابن القيم:"وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب ويمشى الحال ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها وعسر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام، وترك المألوف والمعتاد"
(4)
.
رابعًا: تعريف الإنسان بحق الله عليه حتى يقوم به، فـ"من فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه وهي قليلة المنفعة جداً
…
فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد؛ فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا
(1)
المصدر السابق.
(2)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 84).
(3)
المصدر السابق (1/ 78).
(4)
المصدر السابق (1/ 82).
بعفو الله ومغفرته ورحمته؛ فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر، فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك، فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته"
(1)
.
خامسًا: دوام الخير في الإنسان، قال الحسن" إنّ العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همّته"
(2)
.
سادسًا: تخفيف الحساب يوم القيامة، وذلك أنه بمحاسبته نفسه في الدنيا يتخلص من ذنوبه ويصلح تقصيره وبذلك يخف حسابه يوم القيامة.
"عن الحسن قال: المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما صلةٌ إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: هيهات ما أردت إلى هذا وما لي ولهذا .. "
(3)
.
سابعًا: السعادة في الدنيا والآخرة، قال ابن الجوزي:"أيها العبد، حاسب نفسك في خلوتك، وتفكر في انقراض مدتك، واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك، وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك، وانظر: هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك. لقد سعد من حاسبها، وفاز والله من حاربها، وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها، وكلما ونت عاتبها، وكلما توقفت جذبها، وكلما نظرت في آمال هواها غلبها"
(4)
.
(1)
المصدر السابق (1/ 88).
(2)
محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا (ص: 25).
(3)
محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا (ص: 60).
(4)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 9).
إنما الأعمالُ بالخواتيم
إن الله تعالى جعل لكل إنسان عمراً واحداً من عمر هذا الزمن الدنيوي، وأبهم عنه مقدار نصيبه من هذه الحياة الموقوتة؛ ولهذا يظل المسلم اليقظ دائمَ الانتباه، حاضر الاستعداد لملاقاة أجله، واستيفاء عمره، عاملاً لما ينفعه حين رجوعه إلى ربه.
هذا الحس الساهر يبعده عن سِنة الغفلة، ونعاس الفتور، والقعود عن التهيؤ ليوم المعاد؛ فيكون عند ذلك من المسارعين على الصراط المستقيم، فإذا بقي هذا الشعور حياً ساق صاحبه إلى حسن الخاتمة.
إن الحديث عن الخاتمة حديث تشرئب إليه الأعناق المؤمنة، وتقف له القلوب الحية؛ لأنه حديث عن النهاية، وحديث عن المرحلة الأخيرة من سفر الدنيا، وحديث عن الحال التي سيقابل بها كل إنسان ربه، فهي الصفحة الأخيرة من دفتر الحياة، وعليها ختم السعادة أو الشقاوة.
فلأجلها بقيت سبل الخير آهلة بالعاملين، وظل المؤمن قريباً من إلهه الحق يتقرب إليه، ويتضرع بين يديه، ولأجلها شمّر المشمرون، وجدّ العابدون. ولأجلها حلّق المؤمنون في آفاق العمر على جناحي الخوف والرجاء: يرجون رحمة الله وفضله، ويخافون عقوبته وتحويل القلوب عنه، فكم ذرفت لها من دموع، وهجرت جُنوبٌ النومَ والهجوع.
الخاتمة النجاة أو الهلاك:
لقد جعل الله تعالى خاتمة عمر الإنسان هي الأساس الذي يبنى عليه مستقبله في الآخرة، فإن أحسن فيه فنعمَ ما ينتظره عند ربه، وإن أساء فيه فيا بئس ما سيلقى.
وحينما كان الإنسان مكلَّفًا بعبادة ربه حتى يأتيه الموت وهو لا يدري على أية حال
تكون نهاية عمره؛ فإن ذلك يجعله على خوف من العاقبة؛ قال ابن بطال: "في تغييب الله عن عباده خواتيم أعمالهم حكمة بالغة وتدبير لطيف؛ وذلك أنه لو علم أحد خاتمة عمله لدخل الإعجاب والكسل من علم أنه يختم له بالإيمان، ومن علم أنه يختم له بالكفر يزداد غيًا وطغياناً وكفراً، فاستأثر الله تعالى بعلم ذلك ليكون العباد بين خوف ورجاء، فلا يعجب المطيع لله بعمله، ولا ييأس العاصي من رحمته؛ ليقع الكل تحت الذل والخضوع لله والافتقار إليه"
(1)
.
فلذلك يظل العاقل مشمراً عن ساعد الجد في العمل الصالح بعيداً عن العمل السيء حتى يظفر بحسن الخاتمة التي متى مات عليها بعث على خير.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته
(2)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبِّيا)
(3)
.
ولهذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو فيقول: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)
(4)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات على شيء بعثه الله عليه)
(5)
.
" أي: يموت على ما عاش عليه [وختم له به]، ويراعى في ذلك حال قلبه لا حال شخصه؛ لأن نظر الحق إلى القلوب دون ظواهر الحركات، فمن صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة، ولا ينجو فيها إلا من أتى الله بقلب سليم"
(6)
.
(1)
شرح صحيح البخاري ـ لابن بطال (10/ 203).
(2)
الوَقْصُ: كسر العُنُق. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 476).
(3)
رواه البخاري (1/ 425)، ومسلم (2/ 865).
(4)
رواه أحمد (29/ 171)، وابن حبان (3/ 229)، وهو حسن.
(5)
رواه أحمد (22/ 271)، والحاكم (4/ 348)، وهو صحيح.
(6)
فيض القدير، للمناوي (6/ 226).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار؛ الأعمال بالخواتيم)
(1)
.
فـ" العمل السابق ليس بمعتبر، وإنما المعتبر العمل الذي ختم به، وهذا فيه حث على المواظبة على الطاعات ومحافظة الأوقات عن المعاصي؛ خوفاً من أن يكون ذلك آخر عمله، كما فيه زجر عن العجب والتفرح بالأعمال؛ فإنه لا يدري ماذا يصيبه في العاقبة"
(2)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بخواتيمها، كالوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه خبث أسفله)
(3)
.
وقوله: (إنما الأعمال بخواتيمها) يعني: "إنَّ صلاحَها وفسادَها وقَبُولَها وعدمَه بحسب الخاتمة"
(4)
.
"قال المهلب: قوله صلى الله عليه وسلم:
(إنما الأعمال بالخواتيم)
هو حكم الله في عباده في الخير والشر، فيغفر الكفر وأعماله بكلمة الحق يقولها العبد قبل الموت قبل المعاينة لملائكة العذاب، وكذلك يحبط عمل المؤمن إذا ختم له بالكفر. ثم كذلك هذا الحكم موجود في الشرع كله كقوله:(من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) فكذلك في العصر، فجعله مدركًا لفضل الوقت بإدراك الخاتمة، وإن كان لم يدرك منه إلا أقله، وكذلك من أدرك ليلة عرفة الوقوف بها قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، وتم له ما فاته من مقدماته، كما عهد الذى لم يعمل خيراً قط أن يحرَّق ويذرى، فكانت خاتمة سوء عمله خشية أدركته لربه
(1)
رواه البخاري (6/ 2436).
(2)
مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، للتبريزي (1/ 419).
(3)
رواه ابن حبان (2/ 51)، وهو حسن.
(4)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (3/ 10).
تلافاه الله بها فغفر له سوء عمله طول عمره، هذا فعل من لا تضره الذنوب، ولا تنفعه العبادة، وإنما تنفع وتضر المكتسب لها الدائم عليها إلى أن يموت"
(1)
.
الصالحون والخاتمة:
إن المتقين من الخاتمة في خوف شديد مع حسن عملهم، وإن العصاة المصرِّين في أمن فسيح مع سوء عملهم! قال ابن القيم: ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين، وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعاً بالأيمان {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 39، 40].
يا آمنًا معْ قبيحِ الفعل يصنعُهُ
…
أَقدْ أتاك أمانٌ أنت تملكهُ؟!
جمعتَ شيئينِ: أمنًا واتباعَ هوى
…
وواحدٌ منهما للمرء يهلكه
والمحسنون على درب المخاوف قدْ
…
ساروا وذلك دربٌ لستَ تسلكه!
(2)
.
فلا يأمنن أحد انقلاب الحال من طاعة إلى معصية، أو من معصية إلى طاعة، فكلا الحالين متوقعة، "يروى أن رجلاً أسيراً مسلماً، وكان حافظاً للقرآن، خُص بخدمة راهبين، فحفظا منه آيات كثيرة؛ لكثرة تلاوته، فأسلم الراهبان وتنصر المسلم، وقيل له: ارجع إلى دينك؛ فلا حاجة لنا فيمن لم يحفظ دينه، فقال: لا أرجع إليه أبداً، فقُتل"
(3)
.
ومهما كان عند الإنسان من عمل صالح، وقربات كثيرة فمن الذي يضمن له الموت على ذلك؛ ولهذا
"قال العلماء: وإذا كانت الهداية إلى الله مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة،
(1)
شرح صحيح البخاري ـ لابن بطال (10/ 306).
(2)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 62).
(3)
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، للقرطبي (1/ 46).
والعاقبة مغيّبة، والإرادة غير مغالبة، فلا تعجب بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قُربك؛ فإن ذلك وإن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله، فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخر بمتاع غيره، وربما سلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير، فكم من روضة أمست وزهرُها يانع عميم، فأصبحت وزهرها يابس هشيم، إذ هبّت عليها الريح العقيم، كذلك العبد يمسي وقلبُه بطاعة الله مشرق سليم، فيصبح وهو بمعصية مظلم سقيم! "
(1)
.
إن القلوب سريعة التقلب كثيرة التحول لا تقر على قرار إلا أن يشاء الله، وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يعني:" يصرفها أسرع من مر الريح على اختلاف في القبول والرد، والإرادة والكراهية وغير ذلك من الأوصاف"
(2)
.
"ومن هنا كان الصحابة ومَنْ بعدهم منَ السَّلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ويشتد قلقهم وجزَعُهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاقَ الأصغرَ، ويخاف أنْ يغلب ذلك عليه عندَ الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، فدسائس السوء الخفية تُوجِبُ سُوءَ الخاتمة"
(3)
.
ولهذا كان رسول الله يكثر الدعاء بتثبيت القلب، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك). قال: فقلنا: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: فقال: (نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كما يشاء"
(4)
.
وعن أم سلمة رضي الله عنها: قالت كان أكثر دعائه: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي
(1)
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، للقرطبي (1/ 45).
(2)
المرجع السابق.
(3)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (6/ 32).
(4)
رواه أحمد (19/ 160)، والترمذي (4/ 448)، وهو صحيح.
على دينك، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، قال:(يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)
(1)
.
قال ابن حجر: (وفي دعائه صلى الله عليه وسلم: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) إشارة إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء، ورفع توهم من يتوهم أنهم يُستثنون من ذلك، وخص نفسه بالذكر إعلاماً بأن نفسه الزكية إذا كانت مفتقرة إلى أن تلجأ إلى الله سبحانه فافتقار غيرها ممن هو دونه أحق بذلك"
(2)
.
وقال أيضًا في شرح حديث: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين؛ فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم): "ووجه هذه الخشية: أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك. والتفكر أيضًا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له، فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم"
(3)
.
لقد كان السلف الصالحون يعظِّمون أمر الخاتمة، ويخشون تقلب الأحوال في نهاية الحياة والانتقال إلى الدار الآخرة؛ لهذا كانوا ينظرون إلى الخاتمة بعين الاهتمام والاعتناء؛ خشية أن يتخبطهم الشيطان في أعقاب حياتهم، وقبيل غروب شمس أيامهم فلذلك ظلوا
(1)
رواه أحمد (44/ 278)، والترمذي (5/ 538)، وهو صحيح.
(2)
فتح الباري لابن حجر (20/ 464).
(3)
المرجع السابق (2/ 157).
عاملين خائفين، مدركين أن النفس أمارة بالسوء تتربص بالإنسان دوائر الشر، وفتن الشبهات والشهوات كثيرة تقف على كل طريق، والناجون من ذلك قليل والهالكون كثير.
فالإنسان" لا يدري أيسلم له الإيمان عند الموت أم لا؛ فإن ختم له بالكفر حبط عمله السابق؛ لأنه موقوف على سلامة الآخر، ولو سئل الصائم ضحوة النهار عن صحة صومه فقال: أنا صائم قطعاً، فلو أفطر في أثناء نهاره بعد ذلك لتبين كذبه؛ إذ كانت الصحة موقوفة على التمام إلى غروب الشمس من آخر النهار
(1)
. وكما أن النهار ميقات تمام الصوم فالعمر ميقات تمام صحة الإيمان، ووصفه بالصحة قبل آخره بناء على الاستصحاب وهو مشكوك فيه والعاقبة مخوفة؛ ولهذا كان بكاء أكثر الخائفين لأجل أنها ثمرة القضية السابقة والمشيئة الأزلية التي لا تظهر إلا بظهور المقضي به، ولا مطلع عليه لأحد من البشر، فخوف الخاتمة كخوف السابقة، وربما يظهر في الحال ما سبقت الكلمة بنقيضه فمن الذي يدري أنه من الذين سبقت لهم من الله الحسنى؟ وقيل في معنى قوله تعالى:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]. أي: بالسابقة يعني: أظهرتها
…
، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحلف بالله ما من أحد يأمن أن يُسلب إيمانُه إلا سُلِبه، وقيل: من الذنوب ذنوب عقوبتها سوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك"
(2)
.
قال وهب بن منبه في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]. قال: "إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبد خيراً ختم له بخير عمله، وإذا أراد به شراً ختم له بشر عمله"
(3)
.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: "إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبًا فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم اخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية؛ فإنا
(1)
"وما فسد قبل الغروب لا يبرئ الذمة فيخرج عن كونه صومًا، فكذلك الإيمان". إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 125).
(2)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 124).
(3)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (4/ 33).
أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم كنا لا نقول في أحد شيئًا حتى نعلم علام يموت؛ فإن ختم له بخير علمنا أنه قد أصاب خيراً، وان ختم له بشر خفنا عليه"
(1)
.
كما أن المسلم لا ييئس عاصيًا لمعصيته كذلك لا يعجب بعمل عامل حتى ينظر بما يُختم له، ومصداق هذا حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا تعجبوا بأحد حتى تنظروا بماذا يختم له؛ فإن العامل يعمل زماناً من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه لدخل الجنة، ثم يتحول ليعمل سيئاً، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً. وإذا أراد الله تبارك وتعالى بعبد خيراً استعمله قبل موته). قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال:(يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)
(2)
.
وقال إسحاق بن خالد: "ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول ابن آدم: ليت شعري بماذا يختم لي! قال: يئس عندها إبليس ويقول: متى هذا يعجب بعمله؟! فحدثت به مضاء بن عيسى فقال: يا أحمد، عند الخاتمة فظع بالقوم، فحدثت به أبا عبد الله الساجي فقال: واخطراه! "
(3)
.
"وقال بعض العارفين لو عرضت علي الشهادة عند باب الدار، والموت على التوحيد عند باب الحجرة؛ لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة؛ لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار، وقال بعضهم: لو عرفت واحداً بالتوحيد خمسين سنة، ثم حال بيني وبينه سارية ومات لم أحكم أنه مات على التوحيد"
(4)
.
"فعياذاً بالله من سوء العاقبة، وشؤم الخاتمة، ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى
(1)
المرجع السابق (4/ 205).
(2)
رواه أحمد (19/ 246)، وأبو يعلى (6/ 401)، والطبراني المعجم الكبير (8/ 264)، وهو صحيح.
(3)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (9/ 311).
(4)
إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 124).
الصباح، فلما أصبح قيل له: أكلَّ هذا خوفًا من الذنوب؟! فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكي خوفًا من الخاتمة. وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تَخْذُلَهُ ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى. وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه لما احتُضِر جعل يُغمى عليه ثم يُفيق ويقرأ:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]. فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابًا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.
قال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة، وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال:{وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]. ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع فقيل له: يا أبا عبد الله، عليك بالرجاء؛ فإن عفو الله أعظم من ذنوبك، فقال: أوَ على ذنوبي أبكي؟! لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبالِ بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا"
(1)
.
قال ابن رجب: "وفي الجملة: فالخواتيم ميراثُ السوابق، وكلُّ ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتدُّ خوف السَّلف من سُوءِ الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق، وقد قيل: إنَّ قلوب الأبرار معلقةٌ بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقرَّبين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟. وبكى بعضُ الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الله تعالى قبضَ خلقَهُ قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنَّةِ، وهؤلاء في النار)، ولا أدري في أيِّ القبضتين كنت؟. قال بعض السَّلف: ما أبكى العيونَ ما أبكاها الكتاب السابق! وقال سفيانُ لبعض الصالحين: هل أبكاك قطُّ علمُ الله فيك؟ فقال له ذلك الرجل: تركتني لا أفرحُ أبداً. وكان سفيان يشتدُّ قلقُهُ من السوابق والخواتم، فكان يبكي ويقول: أخاف أنْ أكون في أمِّ
(1)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 117).
الكتاب شقياً، ويبكي ويقول: أخافُ أنْ أُسلبَ الإيمانَ عند الموت"
(1)
. و"هذا لعلمهم بسرعة تقلّب القلوب، في قدرة علام الغيوب"
(2)
.
قال الغزالي: "فإن كان خوف العارفين مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم من سوء الخاتمة فكيف لا يخافه الضعفاء؟! "
(3)
.
علامات حسن الخاتمة
(4)
:
إن الشارع الحكيم قد جعل علامات بينات يستدل بها على حسن الخاتمة. -كتبها الله تعالى لنا بفضله ومنه- فأيما امرئ مات بإحداها كانت بشارة له، ويا لها من بشارة.
الأولى: نطق المرء بالشهادة عند الموت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)
(5)
.
الثانية: الموت برشح الجبين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(موت المؤمن بعرق الجبين)
(6)
.
الثالثة: الموت ليلة الجمعة أو نهارها، قال صلى الله عليه وسلم:(ما من مسلم يموت يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله فتنة القبر)
(7)
.
الرابعة: الاستشهاد في ساحة القتال في سبيل الله، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
(1)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (6/ 31).
(2)
قوت القلوب، لأبي طالب المكي (1/ 379).
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 172).
(4)
استفدت هذه العلامات من كتاب: " أحكام الجنائز" للشيخ الألباني، رحمه الله، من (ص: 34) وما بعدها.
(5)
رواه الحاكم (1/ 503)، وهو حسن.
(6)
رواه أحمد (38/ 129) والترمذي (3/ 310)، والنسائي (4/ 5)، وهو صحيح.
(7)
رواه أحمد (11/ 147)، والترمذي (3/ 386)، وهو حسن.
فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه)
(1)
.
الخامسة: الموت غازيًا في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما تعدون الشهيد فيكم؟) قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد قال:(إن شهداء أمتي إذاً لقليل) قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: (من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)
(2)
.
السادسة: الموت بالطاعون، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الطاعون شهادة لكل مسلم)
(3)
.
السابعة: الموت بداء البطن، للحديث السابق:(ومن مات في البطن فهو شهيد)
(4)
.
الثامنة والتاسعة: الموت بالغرق والهدم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)
(5)
.
العاشرة: موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها، عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه ابن ماجه (2/ 935)، وهو صحيح.
(2)
رواه مسلم (3/ 1521).
(3)
رواه البخاري (3/ 1041) ومسلم (3/ 1522).
(4)
رواه مسلم (3/ 1521).
(5)
رواه البخاري (3/ 1041) ومسلم (3/ 1521).
عبد الله بن رواحة، فقال:(أتدرون من شهداء أمتي)؟ قالوا: قتل المسلم شهادة، قال:(إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعًا)
(1)
.
الحادية عشرة، والثانية عشرة: الموت بالحرق، وذات الجنب
(2)
، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرِق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمع
(3)
شهيدة)
(4)
.
الثالثة عشرة: الموت بداء السل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما تعدون الشهيد فيكم)؟ قالوا: الذي يقتل في سبيل الله، قال:(إن شهداء أمتي إذن لقليل، القتل في سبيل الله شهادة، والطاعون شهادة، والنفساء شهادة، والحرق شهادة، والغرق شهادة، والسل شهادة، والبطن شهادة)
(5)
.
الرابعة عشرة: الموت في سبيل الدفاع عن المال (المراد غصبه)، قال رسول الله صلى الله عله وسلم:(من قُتل دون ماله فهو شهيد)
(6)
.
(1)
رواه أحمد (29/ 333)، وهو صحيح.
(2)
قال ابن القيم: وذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي فالحقيقي: ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع. وغير الحقيقي: ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات فتحدث وجعًا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود وفي الحقيقي ناخس. زاد المعاد، لابن القيم (4/ 74).
(3)
قال ابن الأثير: أي: تَمُوت وفي بَطْنِها وَلَد، وقيل: الَّتي تمُوت بِكْراً، والجُمْع بالضَّم: بمعْنى المَجْمُوع كالذُّخْر بمعْنى المَذْخُور وكسَر الكسائي الجيم والمعنَى: أنَّها ماتَتْ مع شيء مَجْموع فيها غَيْر مُنْفَصِل عنها من حَمْل أو بَكارَة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 811).
(4)
رواه أبو داود (3/ 156) والنسائي (4/ 13)، وهو صحيح.
(5)
رواه الطبراني المعجم الكبير (6/ 247)، وهو حسن.
(6)
رواه البخاري (2/ 877) ومسلم (1/ 124).
الخامسة عشرة، والسادسة عشرة: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد)
(1)
.
السابعة عشرة: الموت مرابطاً في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)
(2)
.
الثامنة عشرة: الموت على عمل صالح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها؛ دخل الجنة، ومن صام يومًا ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة)
(3)
.
ما أحسنها من خاتمة!
= أبو الحسن النساج لما حضره الموت غشي عليه عند صلاة المغرب، ثم أفاق ودعا بماء فتوضأ للصلاة ثم صلى ثم تمدد وغمض عينيه وتشهد ومات
(4)
.
= ابن أبي مريم الغساني لم يفطر من صيامه مع أنه كان في النزع الأخير، وظل صائماً، فقال له من حوله: لو جرعت جرعة ماء، فقال بيده: لا، فلما دخل المغرب قال: أذّن؟ قالوا: نعم، فقطروا في فمه قطرة ماء، ثم مات
(5)
.
= أبو ثعلبة الخشني ومجاهد بن جبر ماتا وهما ساجدان لله تعالى
(6)
.
(1)
رواه أبو داود (4/ 391) والترمذي (4/ 30)، وهو صحيح.
(2)
رواه مسلم (3/ 1520).
(3)
رواه أحمد (38/ 350)، وهو صحيح.
(4)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 118).
(5)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 118).
(6)
الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر (7/ 59)، الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 118).
=عبد الرحمن بن أبان بن عثمان يخرج من بيته إلى المسجد فيصلي وينام وتقبض روحه في المسجد
(1)
.
=يحيى بن عمار يموت وهو يفسر سورة القيامة
(2)
.
= عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير كان إذا صلى رفع يديه قائلاً: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قال أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني وأنا ساجد. فقام وصلى، فقبض الله روحه وهو ساجد
(3)
.
=قال أبو بكر بن عبدويه: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الساوي وراق أبي زرعة يقول: حضرت أبا زرعة بماشهران وكان في السَّوْق-يعني: الاحتضار- وعنده أبو حاتم ومحمد بن مسلم بن واراه والمنذر بن شاذان وجماعة من العلماء فذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) فاستحيوا من أبي زرعة، وقالوا: تعالوا نذكر الحديث، فقال أبو عبد الله بن واراه: حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم قال ثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح، ولم يجاوز، والباقون سكتوا، فقال أبو زرعة- وهو في السَّوْق-: ثنا بندار قال ثنا أبو عاصم قال ثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح ابن أبي عريب عن كثير بن مرة الحضرمي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ومات رحمه الله
(4)
.
=ذكر ابن أبي الدنيا بإسناد له أن رجلاً من ملوك البصرة كان قد تنسك ثم مال إلى الدنيا والشيطان، فبنى داراً و شيدها وأمر بها ففرشت له ونجدت واتخذ مأدبة وصنع طعامًا ودعا الناس فجعلوا يدخلون فيأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويعجبون منه،
(1)
سير أعلام النبلاء، للذهبي (5/ 10).
(2)
سير أعلام النبلاء، للذهبي (17/ 482).
(3)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 118).
(4)
معرفة علوم الحديث، للحاكم (ص: 125).
ويدعون له ويتفرقون، فمكث بذلك أياماً حتى فرغ من أمر الناس، ثم جلس في نفر من خاصة إخوانه فقال: قد ترون سروري بداري هذه وقد حدثت نفسي أن أتخذ لكل واحد من ولدي مثلها، فأقيموا عندي أيامًا أستمتع بحديثكم وأشاوركم فيما أريد من هذا لولدي، فأقاموا عنده أيامًا يلهون ويلعبون ويشاورهم كيف يبني لولده وكيف يريد أن يصنع فبينما هم ذات ليلة في لهوهم إذا سمعوا قائلاً يقول من أقاصي الدار:
يا أيها البانيّ الناسيْ منيَّته
…
لا تأمننَّ فإن الموت مكتوبُ
على الخلائق إن سُرُّوا و إن فرحوا
…
فالموتُ حتفٌ لذي الآمال منصوبُ
لا تبنينَّ دياراً لستَ تسكنُها
…
وراجعِ النُّسْك كيما يغفر الحُوبُ
قال: ففزع لذلك وفزع أصحابه فزعًا شديداً وراعهم ما سمعوا من ذلك فقال لأصحابه: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم، قال: فهل تجدون ما أجد؟ قالوا: وما تجد؟ قال: أجد والله مسكة على قلبي ما أراها إلا علة الموت، قالوا: كلا، بل البقاء والعافية. قال: فبكى وقال: أنتم أخلائي وإخواني فما لي عندكم؟ قالوا: مرنا بما أحببت، قال: فأمر بالشراب فأهريق، وبالملاهي فأخرجت، ثم قال: اللهم إني أشهدك ومن حضر من عبادك أني تائب إليك من جميع ذنوبي، نادم على ما فرطت أيام مهلتي، وإياك أسأل إن أقلتني أن تتم علي نعمتك بالإنابة إلى طاعتك، وإن أنت قبضتني إليك أن تغفر لي ذنوبي تفضلاً منك علي. واشتد به الأمر فلم يزل يقول: الموت والله، الموت والله، حتى خرجت روحه. وكان الفقهاء يرون أنه مات على توبته
(1)
.
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم 27]. اللهم اجعلنا ممن ثبتهم.
(1)
العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: 180).
الطريق إلى الخاتمة الحسنة:
أولاً: الإخلاص لله تعالى في العبادة، فمن عبد الله تعالى وأخلص له في ذلك وفقه الله لحسن الخاتمة، ومن كان في قلبه نفاق أو رياء تخبط به الشيطان في أعقاب حياته، وإنما يتعثر من لم يخلص.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)
(1)
.
قال ابن حجر في الرجل الأول: "وهو محمول على المنافق والمرائي"
(2)
.
ثانيًا: تصفية القلب من كل عقيدة فاسدة من كفر ونفاق وبدعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)
(3)
.
قال الغزالي: "ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت مثل: البدعة والنفاق والكبر وجملة من الصفات المذمومة"
(4)
.
ثالثًا: المداومة على العمل الصالح وتركِ العمل الطالح، قال تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران 102]. قال ابن كثير: " أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه؛ فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن
(1)
رواه البخاري (3/ 1061)، ومسلم (1/ 106).
(2)
فتح الباري (11/ 487).
(3)
رواه مسلم (1/ 94).
(4)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 172).
مات على شيء بعث عليه، فعياذاً بالله من خلاف ذلك"
(1)
.
رابعًا: دوام ذكر الخاتمة والخوف من سوئها والخشية من الانحراف بعد الاستقامة، فإن من كانت الخاتمة غير منسية عنده اهتم بالعمل وخاف الانتكاسة عن الطريق فبقي بذلك على الجادة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من (الحَوْر بعد الكَور)
(2)
.
ومعناه: الرجوع من شيء إلى شيء من الشر، والمراد الاستعاذة من: الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، ومن الاستقامة أو الزيادة إلى النقص"
(3)
.
خامسًا: تجديد التوبة في كل حين، فمن استقام على الطريق فهفا فعمل معصية: فإن كان موفقًا بادر إلى التوبة منها، ولم يسوف ويؤجل الرجوع إلى ربه، فمن كلما أحدث ذنبًا سارع إلى التوبة رزق حسن الخاتمة، وربما قبض على توبته.
"قال لقمان لابنه: يا بني، لا تؤخر التوبة؛ فإن الموت يأتي بغتة، وقال بعض الحكماء: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل"
(4)
.
سادسًا: الدعاء بحسن الخاتمة وبثبات القلب على دين الله وطاعته، وما أعظمه من طريق!
قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران 8].
كان عليه الصلاة والسلام يدعو فيقول: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها،
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 476).
(2)
رواه مسلم (2/ 979).
(3)
شرح النووي على مسلم (9/ 111).
(4)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 370).
وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)
(1)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك)
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)
(3)
.
قال ابن بطال: " (ودرك الشقاء) ينقسم قسمين: فيكون في أمور الدنيا، وفى أمور الآخرة، وكذلك (سوء القضاء) وهو عام أيضًا في النفس والمال والأهل والخاتمة والمعاد"
(4)
.
وقال السيوطي: " (درك الشقاء) -بفتح الراء والمعجمة والمد-: أي: لحاقه، والمراد به: سوء الخاتمة، نعوذ بالله منه"
(5)
.
كان عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير إذا صلى رفع يديه قائلاً: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قال أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني وأنا ساجد. فقام وصلى، فقبض الله روحه وهو ساجد
(6)
.
سابعًا: التوفيق من الله تعالى، وهذا ليس بيد الإنسان وإنما هو بيد الله، ولكن يدعو العبد بأن يرزق هذا التوفيق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله) قالوا:
(1)
رواه أحمد (29/ 171)، وابن حبان (3/ 229)، وهو حسن.
(2)
رواه أحمد (19/ 160)، والترمذي (4/ 448)، وهو صحيح.
(3)
رواه البخاري (5/ 2336)، ومسلم (4/ 2080).
(4)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 110).
(5)
شرح السيوطي لسنن النسائي (8/ 268).
(6)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 118).
وكيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته)
(1)
.
قال ابن رجب: " وهؤلاء منهم: من يوقظ قبل موته بمدة يتمكن فيها من التزود بعمل صالح يختم به عمره، ومنهم: من يوقظ عند حضور الموت فيوفق لتوبة نصوح يموت عليها"
(2)
.
وعن عبد الله بن عمرو قال: "من تاب قبل موته عاماً تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه، حتى قال: يوماً، حتى قال: ساعة، حتى قال: فُواقاً
(3)
، قال: قال الرجل: أرأيت إن كان مشركاً أسلم؟ قال: إنما أحدثكم كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم"
(4)
.
سوء الخاتمة-نعوذ بالله منها-:
إن سوء الخاتمة أمر يستجيش دموع المؤمنين، ويخيف قلوب الصادقين؛ ذلك أن الإنسان لا يدري ما خاتمته وما كُتب له عند الله حين فراقه للدنيا؛ فلذلك يعمل صادقو الإيمان ما يوصلهم إلى هذا الأمر المخوف، والمصرع المهلك.
قال أبو محمد الإشبيلي: "اعلم رحمك الله أن هذا أمر إذا ذكر حقيقة ذكره انفطرت له القلوب، وتشققت وانصدعت له الأكباد وتقطعت، ولولا أن الآجال محدودة، والأنفاس معدودة فلا يتجاوز ذلك المحدود ولا يزاد على ذلك المعدود؛ لزهقت الأنفس عند أول ذكره زهوقاً، لا تجد لسرعته طعم وفاة، بل تكاد تنعدم معه انعداماً لا تعود معه إلى وجود ولا حياة، ولكنها مربوبة مدبرة مقهورة مصرفة، تخرج إذا أذن لها في الخروج، وتلج إذا أذن لها في الولوج، وقد كتب عليها الوجود والبقاء فلا انعدام ولا مطمع لها في ذلك ولا مرام.
(1)
رواه أحمد (19/ 94)، وأبو يعلى (6/ 401)، وهو صحيح.
(2)
لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 370).
(3)
الفُوَاقُ" بضم الفاء وفتحها: الزمان الذي بين الحلْبتين. المصباح المنير، للفيومي (ص: 250).
(4)
رواه أحمد (11/ 517)، وهو حسن.
وما يمنع القلوبَ -رحمك الله- من الانشقاق والانصداع والانفطار والانقطاع؛ والذي يلقى المختوم له بهذه الخاتمة عذاب لا تقوم السموات والأرض لشدته ولا آخر لمدته، وما منا أحد إلا ويخاف أن يكون هو، وما الذي أمّنه منه، وما الذي حاد به عنه، والخاتمة مغيبة، والعاقبة مستورة، والأقدار غالبة، والنفس كما تدري، والشيطان منها بحيث تدري، وهي مصغية إليه، ملتفتة نحوه مقبلة عليه؟! "
(1)
.
وقال أيضًا: "فانظر -رحمك الله- كيف تقر عينُ عاقل في هذه الدار، وكيف يستقر به فيها قرار مع هذه الحال، وتوقع هذا المآل، واشتغال هذا الخاطر وتقسم هذا البال، كلا لا حلول له ولا قرار، ولا ريع ولا دار، ولا قلب إلا مستطار، ولا نوم ينامه إلا غرار، حتى يدري أين مسقط رأسه، ومحط رجله، وما المورد والمنهل، وفي أي المحال يحل، وفي أي المنازل بعد الموت ينزل، كما قال الأول:
وكيف تنامُ العينُ وهي قريرةٌ
…
ولم تدرِ في أيِّ المنازل تنزلُ!
وقد بكى أولو الألباب على هذا فأكثروا، وسهروا من أجله الليالي الطويلة وأسهروا، ورام عاذلوهم كفهم عما هم فيه فلم يقدروا، وكلموهم في الإقصار فلم يقصروا، ولم يسمعوا ولم يبصروا، وذلك للعلم الذي لاح لهم، والتأييد الذي شملهم، والتوفيق الذي قطع عنهم ما صدهم عن طريق الله عز وجل وشغلهم، وربما هبّت عليهم نفحات الرجاء فاستبشروا وسكنوا من ذلك الهيجان وفتروا، ثم ذكروا ما هم معرضون له فعادوا لما كانوا عليه من الاجتهاد وربما زادوا عليه وأكثروا، ومع هذا فإنهم لشدة خوفهم وكثرة جزعهم يحسبون كل صيحة عليهم ويظنون كل إشارة إنما يشار بها إليهم،
وبكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟! فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه إنما أبكي خوف الخاتمة.
وبكى سفيان وغير سفيان؛ لأنه الأمر الذي يبكى عليه، ويصرف الاهتمام كله إليه،
(1)
العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: 171).
وقال القائل:
والذي أبكى الجفونَ دمًا
…
فغدتْ من ذاك في عُذرِ
سابقٌ لم يدرِ كيف جرى
…
في القضاء الحتم والقَدَرِ
وأمور في الورى خفيتْ
…
عن ذوي الألباب والنظر
فدعِ الأنفاسَ صاعدةً
…
ودموعَ العين تنحدرِ
وابكِ لا جفّتْ دموعُك ما
…
ضاع من أيامك الغُرر"
(1)
.
خاتمة سيئة:
= يروى أنه كان بمصر رجل يلزم مسجداً للأذان والصلاة فيه، وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة، فرقي يومًا المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لذميٍّ نصراني فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ فقال: أنت أريد. قالت: لماذا؟ قال لها: قد سلبت لبي، وأخذت بمجامع قلبي، قالت له: لا أجيبك إلى ريبة. قال لها: أتزوجك، قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك، قال لها: أتنصر، قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها، وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات، فلا هو بها اتصل، ولا هو بدينه حصل، فنعوذ بالله ثم نعوذ بالله
(2)
.
= يروى أن بعض رجال الناصر بن علناس نزل به الموت فجعل ابنه يقول له: قل: لا إله إلا الله، فقال: الناصرُ يا مولاي، فأعاد عليه فأعاد هو، ثم أصابته غشية فلما أفاق قال: الناصر يا مولاي، ثم قال لابنه: يا فلان، الناصر إنما يعرفك بسيفك، فالقتل ثم القتل. ثم مات
(3)
.
(1)
العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: 173).
(2)
المرجع السابق (ص: 181).
(3)
المرجع السابق (ص: 178).
= وقيل لآخر وقد نزل به الموت: قل: لا إله إلا الله، فقال: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلاني افعلوا فيه كذا
(1)
.
= ونزل الموت برجل فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول بالفارسية: ده يازده دوازده. -تفسيره: عشرة أحد عشر اثنا عشر- كان هذا الرجل من أهل العمل والديوان، فغلب عليه الحساب والميزان
(2)
.
= روي أن رجلاً نزل به الموت فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب؟
(3)
.
= وقيل لبعضهم قل: لا إله إلا الله، فقال: آه! آه! لا أستطيع أن أقولها!
(4)
.
= وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاتا .. ننتنتا .. حتى قضى!!
(5)
.
= وقيل لآخر ذلك، فقال: ما ينفعني ما تقول؛ ولم أدع معصية إلا ركبتها! ثم قضى ولم يقلها!
(6)
.
= وقيل لآخر ذلك، فقال: وما يغني عني؛ وما أعلم أني صليت لله تعالى صلاة، ثم قضى ولم يقلها!!!
(7)
.
= وقيل لآخر ذلك، فقال: هو كافر بما تقول!! وقضى!
(8)
.
(1)
العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: 179).
(2)
المرجع السابق.
(3)
المرجع السابق.
(4)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 62).
(5)
المرجع السابق.
(6)
المرجع السابق.
(7)
المرجع السابق.
(8)
المرجع السابق.
= وقيل لآخر ذلك، فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها!!
(1)
.
تعليق ابن القيم:
"وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من المعاصي، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى، وعطل لسانه من ذكره وجوارحه عن طاعته؛ فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع، وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته، فإن ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة. فمن ترى يسلم على ذلك؟
فهناك: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم 27]. فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا، فبعيد مَنْ قلبه بعيد من الله تعالى غافل عنه، متعبد لهواه أسير لشهواته، ولسانُه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصية الله؛ أن يوفق لحسن الخاتمة"
(2)
؟!.
أسباب سوء الخاتمة
(3)
:
للنهاية الشقية-أعاذنا الله منها- أسباب توصل إليها، نذكرها للتحذير منها، فمنها:
(1)
المرجع السابق.
(2)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 62).
(3)
تنبيه: من ختم له من المسلمين بمعصية غير الكفر أو بفعل مباح شغل قلبه في الحياة كالتجارة والزراعة ونحوهما فإن ذلك لا يعني خلوده في النار وحرمانه الجنة، بل إن لم تغفر له خطاياه فإنه يعذب بقدر ذنوبه ثم يصير إلى الجنة ما دام أنه من الموحدين. ولكن شتان بين من مات على عمل صالح يبعث عليه وبين من لم يكن كذلك، والله أعلم.
فساد العقيدة والنية، الإصرار على عظائم الذنوب، الاستمرار على كثرة الخطايا من غير توبة، الإقبال الكثير على الدنيا والغفلة عن الآخرة.
وتفصيل ذلك من كلام أهل العلم كالآتي:
قال أبو محمد الإشبيلي: " واعلم رحمك الله أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسباباً، ولها طرق وأبواب: أعظمها: الإكباب على الدنيا والإعراض عن الأخرى، والإقدام بالمعصية على الله تعالى.
وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية، وجانب من الإعراض ونصيب من الافتراء، فملك قلبه وسبى عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك، فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين المراد، ولا علم ما أراد وأن أعاد عليه وأعاد.
واعلم أن سوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- لا يكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه، وإنما يكون ذلك لمن كان له فساد في العقل، وإصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، ويثب عليه قبل الإنابة، ويأخذه قبل إصلاح الطوية، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله ثم العياذ بالله أن يكون لمن كان مستقيمًا لم يتغير عن حاله ويخرج عن سنته، ويأخذ في غير طريقه فيكون ذلك سببا لسوء الخاتمة وشؤم العاقبة، والعياذ بالله {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].
وقد سمعت بقصة بلعام بن باعوراء وما كان آتاه الله من آياته وأطلعه عليه من بيناته، وما أراه من عجائب ملكوته، أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فسلبه الله سبحانه جميع ما أعطاه، وتركه مع من استماله وأغواه"
(1)
(2)
.
(1)
العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: 178).
(2)
قال ابن حجر في شرح حديث ابن مسعود: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة
…
): " وفيه الحث على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة، وقد عمل به جمع جم من السلف وأئمة الخلف، وأما ما قال عبد الحق في " كتاب العاقبة ": إن سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه وصلح ظاهره، وإنما يقع لمن في طويته فساد أو ارتياب، ويكثر وقوعه للمصر على الكبائر والمجترئ على العظائم فيهجم عليه الموت بغتة فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، فقد يكون ذلك سببًا لسوء الخاتمة نسأل الله السلامة؛ فهو محمول على الأكثر الأغلب". فتح الباري لابن حجر (18/ 437).
وقال ابن القيم-وهو يتكلم عن آثار المعاصي-: "وثَم أمرٌ أخوف من ذلك وأدهي وأمرّ وهو: أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك"
(1)
، وقال أيضًا:" وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبة لهم على أعمالهم السيئة"
(2)
.
وقال أبو طالب المكي: " وأكثر ما يقع سوء الخاتمة لثلاث طوائف من الناس: أهل البدع والزيغ في الدين؛ لأن إيمانهم مرتبط بالمعقول، والطبقة الثانية: أهل الكبر والإنكار، والطبقة الثالثة: ثلاثة أصناف: متفرقون متفاوتون في سوء الخاتمة، وجميعهم دون تينك الطائفتين في سوء الخاتمة؛ لأن سوء الختم على مقامات أيضاً كمقامات اليقين والشك في عمر الحياة: منهم المدعي المتظاهر الذي لم يزل إلى نفسه وعمله ناظراً، والفاسق المعلن، والمصرّ المدمن. فهذه الأسباب تجلب الخوف وتقطع قلوب ذوي الألباب
(3)
.
وقال صديق حسن خان: " باب في سوء الخاتمة وبيان الخوف والرجاء، قال في مجالس الأبرار: وله أسباب يجب على المؤمن أن يحترز عنها، منها:
الفساد في الاعتقاد، وإن كان مع كمال الزهد والصلاح؛ فإن كان له فساد في اعتقاده مع كونه قاطعًا به متيقنًا له غير ظان أنه أخطأ فيه قد ينكشف له في حال سكرات الموت
(1)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 62).
(2)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 116).
(3)
قوت القلوب، لأبي طالب المكي (1/ 378).
بطلان ما اعتقده من الاعتقادات الحقة، فيكون انكشاف بطلان بعض اعتقاداته سببا لزوال بقية اعتقاداته
…
فإن كل من اعتقد شيئًا على خلاف ما هو عليه فهو واقع في هذا الخطر ولا يدفعه الزهد والصلاح وإنما يدفعه الاعتقاد الصحيح المطابق لكتاب الله وسنة رسوله
…
ومنها الإصرار على المعاصي؛ فإن من له إصرار عليها يحصل في قلبه إلفها، وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره عند موته، فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، وإن كان ميله إلى المعاصي أكثر يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر المعاصي .. ومنها العدول عن الاستقامة؛ فإن من كان مستقيمًا في ابتدائه ثم تغير عن حاله وخرج مما كان عليه في ابتدائه يكون سببًا لسوء خاتمته"
(1)
.
وقال ابن رجب: "وقوله: {فيما يبدو للناس} إشارةٌ إلى أنَّ باطنَ الأمر يكونُ بخلافِ ذلك، وإنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجلُ عملَ أهل النَّارِ وفي باطنه خصلةٌ خفيةٌ من خصال الخير، فتغلب عليه تلكَ الخصلةُ في آخر عمره، فتوجب له حسنَ الخاتمة. قال عبد العزيز بن أبي روَّاد: حضرت رجلاً عند الموت يُلَقَّنُ لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافرٌ بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألتُ عنه، فإذا هو مدمنُ خمرٍ. فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب؛، فإنَّها هي التي أوقعته"
(2)
.
اللهم إنا نسألك الخاتمة الحسنة، ونعوذ بك من الخاتمة السيئة بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1)
يقظة أولي الاعتبار (ص: 211).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (6/ 30).
دارُ الجحيم
-أعاذنا الله منها-
خلق الله تعالى الإنس والجن ليعبدوه وحده لا شريك له، وأخبرهم أن من حاد عن هذا الطريق وهو من المكلَّفين فإن مصيره في الآخرة إلى نار عظيمة يلقى فيها العذاب الأليم.
التخويف من النار والأمر باتقائها:
إن الله تعالى رحيم بعباده حليم عليهم، لا يريد تعذيبهم، وإنما هم الذين يسعون إلى تعذيب أنفسهم، قال تعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].
قال سفيان بن عيينة: "خُلقت النار رحمةً يخوِّف بها عباده لينتهوا"
(1)
.
فلأجل هذا أنذر الله عباده النار؛ كي يبتعدوا عن سبل الوصول إليها، وبيّن لهم أن ذلك العذاب قريب لا بعيد مهما امتدت بهم الأعمار، فقال سبحانه:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14].
"أي: تتقد وتتلهب تلهباً هو في غاية الشدة من غير كلفة فيه على موقدها أصلاً ولا أحد من خزنتها"
(2)
.
"قرأ عمر بن عبد العزيز ليلة في صلاته سورة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فلما بلغ قوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]. بكى فلم يستطع أن يجاوزها، ثم عاد فتلا السورة
(1)
حلية الأولياء، لأبي نعيم (7/ 275).
(2)
نظم الدرر، للبقاعي (8/ 670).
حتى بلغ الآية فلم يستطع أن يجاوزها مرتين أو ثلاثاً، ثم قرأ سورة أخرى غيرها! "
(1)
.
وقال تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40]. " والعذاب عذاب الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، وقد قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] "
(2)
.
وكذلك أمر سبحانه وتعالى باتقاء النار قبل القدوم على دار القرار، فقال تعالى:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
ولما وقع هذا الإنذار والتخويف من النار موقعه العظيم من قلوب العقلاء أقبلوا على ربهم مسارعين إلى طاعته، مبتعدين عن معصيته، وصحبهم الخوف من عذابه حتى صاروا زاهدين صالحين.
كان الحسن يقول: "إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان، حتى حسبهم الجاهل مرضى وهم والله أصحاب القلوب ألا تراه يقول: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]. والله لقد كابدوا في الدنيا حزنًا شديداً، وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم، والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوفُ من النار"
(3)
.
قال العباس بن الوليد عن أبيه: "كان الأوزاعي إذا ذكر النار لم يقطع ذكرها، ولم يقدر أحد أن يسأله عن شيء حتى يسكت، فأقول بيني وبين نفسي: ترى بقي أحد في المجلس لم يتقطع حسرات"؟!
(4)
.
(1)
التخويف من النار، لابن رجب (ص: 106).
(2)
تفسير القرطبي (19/ 188).
(3)
التخويف من النار، لابن رجب (ص: 34).
(4)
المرجع السابق.
"وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذِكرَ النار ومقامعها وأطباقها"
(1)
.
سَوقُ أهل النار إليها:
بعدَ القسمة العادلة وفصل القضاء بين الخلائق في عرصات القيامة يأمر الله تعالى ملائكته بأخذ أهل النار إلى النار، فيُساقون إليها جماعاتٍ وأفواجاً سوقًا شديداً، ويرِدونها وهم عِطاشٌ من حُرق ِالموقف وطوله وأهواله، ويُرمون فيها على ركبهم، عليهم الأغلالُ والقيود، ويسحبون على وجوهم فيلقون في النار إلقاء. قال تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71]. وقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 85، 86] أي: عطاشًا. وقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68]. وقال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 30 - 32]، وقال:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34]، وقال:{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94]، وقال:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24].
على أبواب جهنم:
وحينما يُلقى أهل النار في النار تستقبلهم جهنم بشهيقها وزفيرها وشدة فورانها، حتى تكاد تتقطع من شدة غضبها عليهم؛ فقد طال انتظارها لهؤلاء الأشقياء الذين عصوا الله تعالى. قال تعالى:{إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]، وقال: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ
…
} [الملك: 7، 8].
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 185).
فإذا وصلوا إليها مقيَّدين ومسّوا حرها دعوا هنالك على أنفسهم بالويل والثبور والخسار، فيجابون بالعتاب وشدة العذاب. قال تعالى:{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 13، 14]، وقال:{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 64، 65].
صفة النار:
إن نار الآخرة التي توعد الله بها من عصاه لشيءٌ مهول وأمر فظيع عظيم، وقد أخبرنا الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام عن شيء من ذلك الهول والعِظم؛ لكي يكون ذلك زاجراً للمعرضين، ومزجيًا للمبطئين، وشاحذاً لهمة المؤمنين ليزدادوا إحسانًا إلى إحسانهم؛ حتى لا يصيروا إلى ذلك المآل الأليم، فأين القلوب التي تتعظ وهي تقرأ أو تسمع تلك الأخبار الصادقة عن هول نار الآخرة؟
إن نار الجحيم شيء عظيم من الهول والمخاوف، فإذا كان الإنسان يخشى مسّ نار الدنيا وهي لا تساوي شيئًا أمام نار جهنم، فكيف سيقوى على نار جهنم؟! نسأل الله السلامة من غضبه وعقابه، قال تعالى:{وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية، قال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)
(1)
.
فعن عِظَمها يقول ربنا الجبار تبارك وتعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23]، وقال تعالى:{انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 29 - 34].
(1)
رواه البخاري (3/ 1191) ومسلم (4/ 2184).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)
(1)
. وعن قدر اشتعالها قال: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]. وعن حال أهلها فيها قال: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه: 74].
وأما سعتها فيقول تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله قدمه عليها فتقول: قط قط-يعني: حسبي حسبي- فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحداً)
(2)
.
وأما بُعدُ قعرها فإنها ذات بُعدٍ سحيق؛ لأنها دركات بعضها تحت بعض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عامًا وما تفضي إلى قرارها)
(3)
.
وأما خزانها من الملائكة المكلفين بتعذيب أهلها فيها فهم ملائكة غلاظ شديدو البطش عظيمو الخِلقة، وهم تسعة عشر. قال تعالى:{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 29، 30]، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وأما حطبها الذي تُشعل به فهو أهلها الذين تتحول جلودهم وعظامهم وأجسادهم إلى مادة تُذكى بها النار، كلما نضجت جلودهم أُعيدت من جديد. قال تعالى: {كُلَّمَا
(1)
رواه مسلم (4/ 2184).
(2)
رواه البخاري (4/ 1836)، ومسلم (4/ 2186).
(3)
رواه الترمذي (4/ 702)، وهو صحيح.
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، ومن حطبها كذلك: الحجارة؛ لأن الحجر إذا اشتعل صار أشدَّ إحراقًا وأبطأ انطفاء، قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]. ومن حطبها كذلك: الأصنام التي كانت تعبد من دون الله، قال تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
وأما حدودها فإن أهل النار في حال عذابهم فيها لا يجدون متنفسًا ولا مهربًا مما هم فيه؛ لأن النار تحيط بهم من كل جانب، وأبواب جهنم عليهم مغلقة. قال تعالى:{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55]، وقال:{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 8، 9].
وأما حجم أصحابها فإن العذاب الشديد الذي ينزل بهم لا تتحمله أجسام الدنيا التي كانوا عليها؛ ولذلك فإن الله تعالى يخلق أهلها يوم القيامة بأجسام ضخمة غير أجسامهم الصغيرة الضعيفة التي كانت في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ضرس الكافر مثل أُحد، وفخذه مثل البيضاء-اسم جبل- ومقعده من النار كما بين قُديد ومكة، وكثافة جسده اثنان وأربعون ذراعًا بذراع الجبار)
(1)
.
وأما عن مقدار عذاب أهلها فإن العذاب الذي يلاقونه ليس على مرتبة واحدة، بل كل شقي يعذَّب فيها على حسب عمله؛ فمن كان من عصاة المسلمين يعذب بقدر معصيته، ومن كان من الكفار على اختلاف أصنافهم يعذب بقدر ما فعل زيادة على كفره، فكما أن أهل الجنة ليسوا على منزلة واحدة بل على منازل فكذلك أهل النار. قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن أهون أهل النار عذابًا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل بالقمقم)
(2)
.
(1)
رواه أحمد (14/ 134)، وهو صحيح.
(2)
رواه البخاري (5/ 2400)، ومسلم (1/ 196).
مطالب تؤول إلى اليأس:
إن أهل النار -وهم يقاسون حرارة النار- يستغيثون ويطلبون النجاة ويعلنون التوبة، فلا يجيبهم أحد إلا جوابَ عتاب يضاف إلى العذاب. فيستغيثون بالله، قال تعالى:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 107، 108]. وقال: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]. ويستغيثون أيضًا بخزنة جهنم من الملائكة فلا يجابون أيضًا، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر: 40، 50].
ويستغيثون بأهل الجنة لشربة ماء، فلا يجابون كذلك، قال تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50].
وعندما ييأسون من إجابة استغاثتهم يطلبون من مالك أميرِ الخزنة أن يدعو الله بأن يكتب عليهم القضاء بالفَناء، فماذا يُردّ عليهم، وبماذا يُقضى عليهم؟ قال تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 74 - 77].
فبعد اليأس من الخروج والتخفيف من العذاب يعودون إلى عتاب بعضهم بعضًا: التابع والمتبوع، والضال والمضل، كلٌّ يدعو على الآخر ويلعنه. قال تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ
فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 38، 39]، وقال:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68]. وهذا التلاوم كله لا ينفعهم، ولا يدفع عنهم ما هم فيه تابعين ومتبوعين؛ لأنهم في النار جميعاً، قال تعالى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39].
أنواع العذاب:
يتعدد عذاب أهل النار فلا يقاسون عذابًا واحداً، بل عذابين عمومًا: عذاب معنوي، وعذاب حسي.
العذاب المعنوي:
فأما العذاب المعنوي فهو ما يلاقونه من كلمات التوبيخ والتقريع والتنديم من الله تعالى، ومن الملائكة، ومن العتاب والتوبيخ فيما بينهم. قال تعالى:{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وقال:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، وقال:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف: 34]، وقال:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9].
العذاب الحسي:
وأما العذاب الجسدي فهناك طعام وشراب وكساء وفراش وظلال، ولكن الطعام لا يسمن آكله ولا يغنيه من جوع، والشراب لا يطفئ ظمأه ولا يبرد حرارة باطنه، والكساء لا يستر جسده ولا يمنعه ما يكره، والفراش لا يريح بدنه ولا يقيه ما يضره، والظلال لا يحميه من الحرارة. قال تعالى عن طعامهم: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ
يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46]، وقال:{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 6، 7]، وقال:{وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36].
وأما عن شرابهم فقال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، وقال:{لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24، 25]، وقال:{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16].
وأما عن كسائهم فيقول: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 19 - 22]، وقال:{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50].
وأما عن فراشهم فيقول: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 41]، ويقول:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]. وأما عن ظلالهم فيقول: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة: 41 - 44]. نعوذ بالله من النار، نعوذ بالله من النار، نعوذ بالله من النار.
نصيب الوجه من العذاب:
إن أكرم ما في ظاهر الإنسان وجهُه الذي يكرمه ويحسن إليه بأنواع من الإحسان، هذا الوجه المكرم أمر الله تعالى صاحبه أن يعفره ساجداً لله تعالى الذي خلقه وكرمه وزيّنه. غيرَ أن هذا الوجه حينما أبى الخضوع والانحناء لمن أبدعه وخلقه فلم يسجد بين يديه مؤمنًا سينال جزاء وفيراً خاصًا من العذاب دون غيره من سائر الأعضاء. فالسواد القاتم، والذلة الغاشية ستعمه عندما يساق إلى جهنم كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]. وقال: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس: 27].
وهناك شيء آخر وهو أن السوق والسحب إلى السعير سيكون على الوجوه، قال تعالى:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48]، وقال:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34].
فإذا ما كان صاحبه في النار فإن الإحراق وتلقيَ النار والكي والتقليب فيها ينال منه الوجه أوفرَ نصيب، قال تعالى:{وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50]، وقال:{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104]، وقال:{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66].
أسباب دخول النار -وقانا الله منها-:
هناك أسباب كثيرة من الأعمال والأقوال تودي بصاحبها إلى جهنم، وقد ذكر القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة من ذلك شيئًا كثيراً، ترجع كلها إلى معصية الله ومعصية رسله، وتبدأ هذه المعاصي من الكفر فما دونه، وسأسرد ما تيسر جمعه من هذه الأسباب من غير ذكر أدلتها؛ طلبًا للاختصار، وهي:
1 -
الإشراك بالله تعالى.
2 -
التكذيب للرسل
3 -
الكفر
4 -
النفاق
5 -
الحسد
6 -
الكذب
7 -
الخيانة
8 -
الظلم
9 -
الفواحش
10 -
الغدر
11 -
قطيعة الرحم
12 -
الجبن عن الجهاد
13 -
البخل
14 -
اختلاف السر والعلانية
15 -
اليأس من روح الله
16 -
الأمن من مكر الله
17 -
الجزع عند المصائب
18 -
الفخر والبطر عند النعم
19 -
ترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته
20 -
خوف المخلوق دون الخالق
21 -
العمل رياءً وسمعة
22 -
مخالفة الكتاب والسنة، اعتقاداً وعملاً
23 -
طاعة المخلوق في معصية الخالق
24 -
التعصب للباطل
25 -
الاستهزاء بآيات الله
26 -
جحد الحق
27 -
الكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة
28 -
السحر
29 -
عقوق الوالدين
30 -
قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق
31 -
أكل مال اليتيم
32 -
الربا
33 -
الفرار من الزحف
34 -
قذف المحصنات الغافلات المؤمنات
(1)
.
35 -
الفحش والبذاء
36 -
ترك العدل في القضاء والحكم
37 -
أكل أموال الناس بالباطل
38 -
التصوير
39 -
الركون إلى الظالمين
40 -
التبرج والسفور
41 -
تعذيب الحيوان
42 -
الشرب في آنية الذهب والفضة
43 -
اللعن لغير من لعنه الله ورسوله
44 -
منع الزكاة
45 -
اليمين الغموس
46 -
الدياثة
47 -
النميمة
48 -
شرب المسكر
49 -
أذية الجار
50 -
إضاعة الصلاة
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 424).
أسباب الوقاية من النار:
وبعد هذا التخويف والإنذار، وذكرِ ما أعد الله لمن عصاه في النار، ألا يدعونا ذلك إلى التوبة والادكار، والكف والانزجار عن معصية العزيز الجبار؟
إنه لا ينبغي لأحد أن يأمن على نفسه مهما بلغت طاعته وقربه أن يكون وقودَ النار غدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)
(1)
.
وينبغي أن يُعلم أن النار ليست للكفار وحدهم، بل هي أيضًا لعصاة المسلمين إذا وردوا الآخرة غيرَ تائبين ولم تنلهم شفاعة من الشفاعات، فيعذَّبون بقدر ذنوبهم ثم يصيرون إلى الجنة ما داموا عصاة موحدين.
فلأجل هذا على طالب النجاة في الآخرة أن يجعل بينه وبين النار وقاية وهو مازال في الدنيا، وسبب الوقاية منها على سبيل الإجمال هو طاعة الله ورسوله والبعد عن معصيتهما، وعلى سبيل التفصيل فإن الإقبال على أضداد تلك الأعمال المسببة لدخول النار-كما تقدم قريبًا- يقي صاحبه بإذن الله من النار.
(1)
رواه البخاري (5/ 2380).
دارُ النعيم
-نسأل الله أن يجعلنا من أهلها-
لقد روت لنا كتب الأدب أخباراً وأشعاراً كثيرة عن العاشقين وهُيامهم بمنازل من يحبون، شوقًا إليها بعد بَينِهم عنها، وطمعًا بلقاء الحبيب في جنابتها، يسهرون ويبكون ويستدرون دموع غيرهم؛ ليشاركوهم تألم غرام البعد عنها بعد إلفها، فإذا وصلوا إلى تلك المغاني بعد عناء رحلة الشوق ومكابدة البعد أصابهم من السرور والحبور ما لا يوصف!.
وذلك كله على منزل دنيا وحبيب دنيا كلاهما إلى زوال، فكيف بجنة عرضها السماوات والأرض؟ ألا تشتاق النفوس إلى تلك المنازل العالية، والمغاني الغالية، ورؤية الله ومخاطبته ونيل رضوانه في تلك الدرجات السامية؟
فهل فكر الإنسان في تلك الدار الفيحاء ونعيمها وقارنها بهذه الدنيا الفانية وغصصها المتتالية؟
"من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة في صفاء بلا كدر، ولذات بلا انقطاع، وبلوغ كل مطلوب للنفس، والزيادة مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من غير تغيير ولا زوال، إذ لا يقال: ألف ألف سنة، ولا مائة ألف ألف، بل ولو أن الإنسان عد ألوف ألوف السنين لا ينقضي عدده، وكان له نهاية، وبقاء الآخرة لا نفاد له، إلا أنه لا يحصل ذلك إلا بنقد هذا العمر، وما مقدار عمر غايته مائة سنة منها: خمسة عشر صبوة وجهل، وثلاثون بعد السبعين- إن حصلت- ضعف وعجز، والتوسط نصفه نوم، وبعضه زمان أكل وشرب وكسب، والمنتخل منه للعبادات يسير!
أفلا يشتري ذلك الدائم الكامل بهذا الفاني القليل؟ "
(1)
.
فيا عجبًا كيف يؤثر عاقل داراً ذاهبة على دار خالدة، وعيشًا مكدراً على عيش صاف، وشقاء وآلامًا ونعيمًا مغشوشًا على حياة كاملة النعيم بلا أوجاع ولا آلام، فأين الموفقون وأين المشمرون؟
قال ابن القيم: " ولما علم الموفَّقون ما خُلقوا له، وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا عَلم الجنة قد رُفع لهم فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبدٍ لا يزول ولا ينفد بصُبابة عيشٍ إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوبٍ بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلا أبكى كثيراً، وإن سر يومًا أحزن شهوراً، الآمه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، أوله مخاوف، وآخره متالف، فيا عجباً من سفيه في صورة حكيم، ومعتوه في مسلاخ عاقل؛ آثر الحظ الفاني الخسيس، على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عُرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان، بقذرات دنسات، سيئات الأخلاق، وحوراً مقصورات في الخيام بخبيثات مسيّبات بين الأنام، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل، مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم، بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، ونداء المنادي:(يا أهل الجنة، إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، وتشبوا فلا تهرموا)؛ بغناء المغنين؟
…
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم
(1)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 264).
الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد: ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام، وادخر لهم من الفضل والإنعام، وما أخفى لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر؛ لعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكًا كبيراً لا تعتريه الآفات، ولا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال
…
لقد نودي عليها في سوق الكساد، فما قبل ولا استام إلا أفراد من العباد!
فواعجباً لها كيف نام طالبها، وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها، وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها، وكيف قرت دونها أعين المشتاقين، وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين، وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين، وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟! "
(1)
.
"إخواني، لقد خاب من باع باقياً بفان، وخطرَ في ثوبَي متوان، وتغافل عن أمر قريب كان، وضيَّع يوماً موجوداً في تأميل ثان، أمَا الجنة تشوقت لطالبيها، وتزينت لمريديها، ونطقت آيات القرآن بوصف ما فيها، وملأت أسماع العباد أصوات واصفيها؟ كأنكم بالجنة وقد فتحت أبوابها، وتقسمها يوم القيامة أصحابها، وغنت ألسن الأماني قريب قبابها:
بشَّرها دليلُها وقالا:
…
غداً ترينَ الطَلحَ والجبالا "
(2)
.
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَسْتَ رَخِيْصَةً
…
بَلْ أَنْتِ غَاليةٌ عَلَى الْكَسْلَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَيْسَ يَنَالُهَا
…
في الألْفِ إِلاَّ وَاحدٌ لَا اثْنَانِ
(1)
حادي الأرواح، لابن القيم (ص: 4).
(2)
مواعظ ابن الجوزي (ص: 8).
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ مَاذَا كفُوْهَا
…
إِلاَّ أوُلُو التَّقْوَى مَعَ الإيْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ سُوقُكِ كَاسِدٌ
…
بِيْنَ الأَرَاذَلِ سفلَةِ الْحَيَوَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ أَيْنَ الْمُشْتَرِي
…
فَلَقَدْ عُرِضْتِ بأيْسَرِ الأَثْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ هَلْ مِنْ خَاطِبٍ
…
فَالْمَهْرُ قَبْلَ المَوتِ ذُوْ إِمْكَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَصْبُّر الْـ
…
ـخُطَّابُ عَنْكِ وَهُمْ ذَوُو إِيْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَوْلَا أَنَّهَا
…
حُجبَتْ بِكُلِّ مَكَارِه الإنْسَانِ
مَا كَانَ عَنْهَا قَطُ مِنْ مُتَخَلِّفٍ
…
وَتَعَطَّلَتْ دَارُ الْجَزاءِ الثَّانِي
لَكِنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَريْهَةٍ
…
لِيَصُدَّ عَنْهَا الْمُبْطِلُ الْمُتَوانِي
وَتَنَالُهَا الْهِمَمُ الَّتِي تَسْمُو إِلَى
…
رَبِّ العُلى بِمَشيْئَةِ الرَّحْمَنِ
(1)
.
من العرصات إلى الجنات:
فبعد أن يُقضى بين الخلائق في العرصات يساق أهل الجنة إلى الجنة، فيمرون على الصراط مسرعين حسب أعمالهم في الدنيا، فيخلصون إلى مكان بين الجنة والنار فيبقون هناك حتى يقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، وتصفّى قلوبهم من أدواء الحسد والحقد والكراهية فيما بينهم، حتى إذا نُقّوا دخلوا الجنة، قال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في
(1)
متن القصيدة النونية لابن القيم (2/ 353).
الجنة منه بمنزله كان في الدنيا)
(1)
.
ثم بعد ذلك يُساقون إلى الجنة وفوداً مكرمين، تحيط بهم السعادة من كل جانب، وتستقبلهم على أبواب الجنة ملائكةُ الرحمن تحييهم وتهنئهم بسلامة الوصول والنجاة من الدنيا وما بعدها. قال تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 73، 74]، وقال:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]، وقال:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وقال:{سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24].
وممن يستقبل المؤمنَ على أبواب الجنة: أولادُه الذين ماتوا قبل البلوغ في حياته فاحتسبهم وصبر عند مصيبته بهم، فعن قرة بن إياس رضي الله عنه أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(تحبه؟ قال: نعم، يا رسول الله، أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل فلان بن فلان؟ قالوا: يا رسول الله، مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: ألا تحب أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله، أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم)
(2)
.
وعن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)
(3)
.
(1)
رواه البخاري (5/ 2394).
(2)
رواه أحمد (24/ 361)، وهو صحيح.
(3)
رواه أحمد (29/ 189)، وابن ماجه (1/ 512)، وهو حسن.
لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نصيب هذه الأمة من أهل الجنة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:(أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم)
(1)
.
تتجه هذه الصفوف جميعها إلى أبواب الجنة زمراً على حسب أعمالهم، والنورُ يعلو وجوههم، فيصلون إلى تلك الأبواب فيجدونها ثمانية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(في الجنة ثمانية أبواب)
(2)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون منهم)
(3)
.
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن أبواب الجنة مسماة بالأعمال الصالحة، فمن أكثرُ عمله وأظهره الصلاة دخل من باب الصلاة، وهكذا بقية الأعمال، ومن كان مكثراً من جميع تلك الأعمال دعي للدخول من جميع تلك الأبواب فيدخل من أيها شاء. وهذه الأبواب أبواب عظيمة في الاتساع والمسافة بين مصاريعها. فعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه قال:(ولقد ذكر لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام)
(4)
.
(1)
رواه أحمد (7/ 349)، والترمذي (4/ 683)، وابن ماجه (2/ 1434)، وهو صحيح.
(2)
رواه البخاري (3/ 1188).
(3)
رواه البخاري (2/ 671)، ومسلم (2/ 711).
(4)
رواه مسلم (4/ 2278).
وقد أعلمنا أيضًا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أوائل معينة عند أبواب الجنة؛ فأول من يدخل الجنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الأمم دخولاً أمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)
(1)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة)
(2)
.
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفقراء المهاجرين وأهل المعروف هم أيضًا أول من يدخل من الناس. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره)
(3)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: (وأول من يدخل الجنة أهل المعروف)
(4)
.
ومن الأوائل: قوله عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة)
(5)
.
ومن الأوائل: قوله عليه الصلاة والسلام: (أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت)
(6)
.
وحينما تفتح لهم الأبواب يلجون فرحين مسرورين فيقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ
(1)
رواه مسلم (1/ 188).
(2)
رواه مسلم (2/ 585).
(3)
رواه أحمد (11/ 131)، وابن حبان (16/ 438)، وهو صحيح.
(4)
رواه الطبراني، المعجم الأوسط (6/ 163)، وهو صحيح.
(5)
رواه البخاري (3/ 1185)، ومسلم (4/ 2178).
(6)
رواه البخاري (5/ 2397).
آمِنِينَ} [الحجر: 46]، {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ *لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 34، 35].
ويتجهون إلى قصورهم وحدائقهم فيعرفونها أكثر من معرفتهم لبيوتهم في الدنيا، قال تعالى:{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6]، على أحد التفسيرين في الآية، وقال عليه الصلاة والسلام:(فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا)
(1)
.
صفة أهل الجنة:
إن الله تبارك وتعالى كما خلق أهل النار خلقًا آخر يتناسب مع عذابهم فكذلك خلق أهل الجنة خلقًا آخر يتناسب مع نعيمهم، فقد طيّب خلقهم، وأكمله باطنًا وظاهراً، وأزال عنهم آفات الدنيا وعيوبها. فقبل دخولهم تُنقّى صدورهم من الغل والحسد وغير ذلك من الأمراض، فيدخلون على قلب رجل واحد. قال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف: 43].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض)
(2)
. ويدخلونها أبناءَ سِنٍّ واحدة، وعلى طول واحد، وعُرض واحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضًا جعاداً مكحلين أبناءَ ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم ستون ذراعا، في عرض سبعة أذرع)
(3)
.
ويخلق الله زوجات الدنيا المؤمنات خلقًا آخر في الجنة فيصرن أبكاراً على سن واحدة متحببات لأزواجهن من غير حيض ولا نفاس ولا سوء خلق. قال تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35 - 37]. وقال: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ
(1)
رواه البخاري (5/ 2394).
(2)
رواه البخاري (3/ 1186).
(3)
رواه أحمد (14/ 210)، وهو صحيح.
مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]. وتذهب عنهم عيوب الدنيا من قبح وعمى وعرج وعجز وضعف وغير ذلك. وتزول عنهم آفات الدنيا ومنغصاتها، فلا موت في الجنة، ولا حر ولا برد ولا حزن ولا تعب ولا إعياء ولا خروج منها. قال تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34، 35]، وقال:{لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقال:{لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13].
وليس في الجنة عزوبية ولا جوع ولا ظمأ، ولا حاجة إلى الخلاء، ولا مرض ولا هرم ولا بؤس ولا خوف ولا وسخ ولا تهرٍّ للثياب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، وليس في الجنة عزب)
(1)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك)
(2)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)
(3)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، و إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، و إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا)
(4)
.
(1)
رواه البخاري (3/ 1185)، ومسلم (4/ 2178).
(2)
رواه مسلم (4/ 2180).
(3)
رواه مسلم (4/ 2181).
(4)
رواه مسلم (4/ 2182).
ويذهب عنهم كل قول وفعل باطلين، ويُلهمون التسبيح كما يُلهمون النَّفَس، يتنعمون بذلك ولا يتعبدون، ويحيي بعضهم بعضًا بالسلام.
قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} [النبأ: 35]، وقال:{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 25، 26]. وقال: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس)
(1)
.
صفة الجنة:
إن نعيم الجنة الذي ينتظر المؤمنين-نسأل الله أن يجعلنا منهم- نعيمٌ لا يحيط به الوصف، فكل ما خطر في بالك ففي الجنة أعظم من ذلك، ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وذلك النعيم الكبير ينقسم إلى قسمين: نعيم حسي، ونعيم معنوي.
النعيم الحسي:
فالنعيم الحسي كثير متعدد، فمنه: ما على أبدانهم من الرُّواء والحُسن. قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24].
ومنه: الطعام والشراب، وهو أنواع كثيرة بلغت غاية اللذة في الشكل والطعم واللون والآنية التي تحملها، وقد جاءت في وصفه نصوص متعددة، قال تعالى:{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20، 21]، وقال:{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 25، 26]، وقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي
(1)
رواه مسلم (4/ 2180).
وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15].
ومن النعيم: نعيم النكاح، قال تعالى:{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20]، وقال:{وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 22 - 24].
ومن النعيم: نعيم اللباس والحلية والفراش والمتكآت، قال تعالى:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 12، 13].
ومن النعيم: نعيم الخدمة، فيخدمهم ولدان مخلدون بلغوا الغاية في الرونق. قال تعالى:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان: 19].
ومن النعيم: منازلهم وقصورهم الواسعة العالية الحسنة داخليًا وخارجيًا. قال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام)
(1)
. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا)
(2)
.
النعيم المعنوي:
وأما النعيم المعنوي فمنه: أن أهل الجنة يجلسون على الأرائك ويتحادثون فيما بينهم
(1)
رواه ابن حبان (2/ 262)، وهو صحيح.
(2)
رواه البخاري (3/ 1185)، ومسلم (4/ 2182).
عما كانوا عليه في الدنيا من العناء والنصب، وكيف نجاهم الله تعالى من ذلك، فيشكرون الله على فضله. قال تعالى:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 25 - 28].
ومن النعيم المعنوي: رؤيتهم لوجه الله تعالى وسماع خطابه، وإحلالُ رضوانه عليهم. قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل الله موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم)
(1)
.
قال ابن القيم: "أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب عز وجل، وسماع خطابه، كما في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل الله موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه). فبيَّن عليه الصلاة والسلام أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة لم يعطهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين ألبتة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
(1)
رواه مسلم (1/ 163)، وابن ماجه (1/ 67).
لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين: 15، 16]. فجمع عليهم نوعي العذاب: عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعي النعيم: نعيم التمتع بما في الجنة، ونعيم التمتع برؤيته"
(1)
.
وقال أيضًا: " لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته في الدنيا، وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه الأعلى سبحانه فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له؛ فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم"
(2)
.
وأما عن الرضوان فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)
(3)
.
آخر من يدخل الجنة:
إن الموحدين من عصاة المسلمين يدخلون جهنم فيعذبون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون بعد ذلك إلى الجنة. فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير)
(4)
.
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 32).
(2)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 33).
(3)
رواه البخاري (5/ 2398)، ومسلم (4/ 2176).
(4)
رواه البخاري (1/ 24)، ومسلم (1/ 180).
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آخر أهل الجنة دخولاً إليها، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولاً: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربي، وجدتها ملأى فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا فيقول: أتسخر مني أو تضحك مني وأنت الملك). فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)
(1)
.
أسباب دخول الجنة:
للجنة أعمال صالحة تؤدي إليها، وخصال من قام بها كان ذلك سببًا لدخولها، والملاحظ على الخصال الموجبة للجنة الواردة في الكتاب والسنة يجد أموراً:
الأول: هناك سبب عام لدخول الجنة ألا وهو القيام بالواجبات والابتعاد عن المحرمات، قال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].
وعن جابر قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم النعمانُ بن قوقل فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال أأدخل الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(نعم)
(2)
.
وعن طلحة بن عبيد الله: أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: (الصلوات
(1)
رواه البخاري (5/ 2402)، ومسلم (1/ 173).
(2)
رواه مسلم (1/ 44).
الخمس إلا أن تطوع شيئًا). فقال: أخبرني ما فرض الله علي من الصيام؟ فقال: (شهر رمضان إلا أن تطوع شيئاً). فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ فقال فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم شرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله علي شيئًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق)
(1)
.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة)
(2)
.
الثاني: هناك نصوص ذكرت أعمالاً صالحة وبينت أن من جمعها فهو من أهل الجنة، مثل ما ذكر الله في أول سورة المؤمنون، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11].
ومثل أواخر سورة الفرقان، قال تعالى:{وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً {65} إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً* وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً* وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ
(1)
رواه البخاري (2/ 669).
(2)
رواه الترمذي (4/ 606)، وهو صحيح.
فِيهِ مُهَاناً* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً* وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً* وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً* أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً* خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً* قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً {77} [الفرقان 63 - 77].
وكقوله عليه الصلاة والسلام: (من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)
(1)
.
الثالث: حرص الصحابة رضي الله عنهم على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعمال تدخل الجنة، وهذا يدل على علو هممهم في الخير.
وهذا يحث المسلم على الحرص على الأعمال التي تكون سببًا لدخول الجنة.
ومن النصوص الدالة على ذلك ما جاء:
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)
(2)
.
(1)
رواه مسلم (2/ 713).
(2)
رواه البخاري (5/ 2231)، ومسلم (1/ 42).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يومًا قريباً منه ونحن نسير فقلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت
(1)
.
وعن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني عملاً يدخلني الجنة، قال:(إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة: أعتق النسمة، وفك الرقبة، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسقِ الظمآن)
(2)
.
وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بشيء إذا عملته - أو عملت به - دخلت الجنة، قال:(أفشِ السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، تدخل الجنة بسلام)
(3)
.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تغضب ولك الجنة)
(4)
.
الرابع: وردت نصوص أخرى تذكر أعمالاً تكون سبيلاً إلى الجنة، وهي كثيرة، فمن تلك الأعمال على سبيل الأجمال-وبعضها قد ذكر في النصوص السابقة-:
1 -
طاعة الله ورسوله.
2 -
القول السديد
(1)
رواه أحمد (36/ 344)، والترمذي (5/ 11)، وهو صحيح.
(2)
رواه أحمد (30/ 600)، وابن حبان (2/ 97)، وهو صحيح.
(3)
رواه ابن حبان (2/ 261)، وهو صحيح.
(4)
رواه الطبراني، المعجم الأوسط (3/ 25)، وهو صحيح.
3 -
تقوى الله
4 -
الإيمانُ والعملُ الصالح
5 -
الصبر والتوكل على الله
6 -
التواصي بالحق والتواصي بالصبر
7 -
الجهاد في سبيل الله
8 -
الشهادة في سبيل الله
9 -
الهجرة في سبيل الله
10 -
المداومة على السنن الراتبة
11 -
كفالة اليتيم
12 -
الحج المبرور
13 -
بناء المساجد ابتغاء وجه الله
14 -
الاستقامة
15 -
طلب العلم الشرعي
16 -
الغدو إلى المساجد لعبادة الله
17 -
الإكثار من السجود
18 -
طاعة الزوج من غير معصية لله
19 -
قيام الليل
20 -
الرحمة بالحيوان
21 -
الصدقة
22 -
قول دعاء سيد الاستغفار
23 -
احتساب الوالدين موت الأولاد قبل بلوغهم.
24 -
صلة الرحم
25 -
التوبة من الذنوب.
لا تضيع الفرصة:
وبعد أن طوّف الخيال في دار الجمال، وسافر القلب بشوقه إلى تلك المنازل البهية، وتاقت الروح إلى الانتقال إلى ذلك النعيم المقيم، ألا يحثنا هذا الشعور العارم إلى اغتنام ما تبقى من رصيد العمر بصرفه في العمل لتلك الدار الأنيقة.
إن العاقل يتمنى ويشتاق لكنه يعمل للوصول إلى ما تمنى. فالجنة تحتاج إلى مسابقة، قال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
والجنة تحتاج إلى منافسة، قال تعالى:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 22 - 26].
والجنة تحتاج إلى مسارعة، قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
فلا تكسل أيها الإنسان ولا تبطئ؛ فما هي إلا أيام قليلة من التعب تعقبها الراحة التامة والسعادة الأبدية.
خاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على من دلنا على سبل الخيرات، وحذَّرنا مسالكَ الشر وطرق المهلكات، أما بعد:
فيا أيها الأخ المسلم، إن كنت على الجادة، فاثبت، واحرص على الاستزادة، واستمر على المنافسة، واحذر الحَوْر بعد الكور، ولا تأمن على نفسك؛ فالقلوب دائمة التقلب، والفتن واردة، والشهوات حاضرة.
وفي هذه العظات التي سقيتْ من كلام الله وكلام رسوله ومن أقوال الأخيار وأخبارهم وأحوالهم موعظة بليغة تعين على الثبات، وحسن السير على الصراط المستقيم.
ويا من فرط في جنب الله، وأسرف على نفسه بالذنوب، وفتنته الدنيا وزينتها، فنسي الآخرة وما فيها؛ لا تقنط من رحمة الله فقد رأيت في هذه المواعظ ما يدعوك إلى الأوبة، ويغرس فيك التفاؤل بقبول التوبة.
فاندم على ماضيك المظلم، ولا تصر على عصيانك وارجع إلى ربك؛ فإنه بك رحيم ولك غفور، فانطلق إلى باب مولاك، واطلبه غفران خطاياك، واليوم:
خلِّ ادّكارَ الأرْبُعِ
…
والمعْهَدِ المُرتَبَعِ
(1)
والظّاعِنِ المودِّعِ
…
وعدِّ عنْهُ ودَعِ
(2)
وانْدُبْ زَماناً سلَفا
…
سوّدْتَ فيهِ الصُّحُفا
(1)
ادكار: تذكُر. الأربع: المنازل. المعهد المرتبع: المنزل المقام فيه.
(2)
الظاعن: المرتحل.
ولمْ تزَلْ مُعتكِفا
…
على القبيحِ الشّنِعِ
كمْ ليلَةٍ أودَعْتَها
…
مآثِماً أبْدَعْتَها
لشَهوَةٍ أطَعْتَها
…
في مرْقَدٍ ومَضْجَعِ
وكمْ خُطًى حثَثْتَها
…
في خِزْيَةٍ أحْدَثْتَها
وتوْبَةٍ نكَثْتَها
…
لمَلْعَبٍ ومرْتَعِ
وكمْ تجرّأتَ على
…
ربّ السّمَواتِ العُلى
ولمْ تُراقِبْهُ ولا
…
صدَقْتَ في ما تدّعي
وكمْ غمَصْتَ بِرّهُ
…
وكمْ أمِنْتَ مكْرَهُ
وكمْ نبَذْتَ أمرَهُ
…
نبْذَ الحِذا المرقَّعِ
وكمْ ركَضْتَ في اللّعِبْ
…
وفُهْتَ عمْداً بالكَذِبْ
ولمْ تُراعِ ما يجِبْ
…
منْ عهْدِهِ المتّبَعِ
فالْبَسْ شِعارَ النّدمِ
…
واسكُبْ شآبيبَ الدّمِ
(1)
قبلَ زَوالِ القدَمِ
…
وقبلَ سوء المصْرَعِ
واخضَعْ خُضوعَ المُعترِفْ
…
ولُذْ مَلاذَ المُقترِفْ
واعْصِ هَواكَ وانحَرِفْ
…
عنْهُ انحِرافَ المُقلِعِ
(1)
شآبيبَ الدّمِ: دفعات الدم.
إلامَ تسْهو وتَني
…
ومُعظَمُ العُمرِ فَني
(1)
فيما يضُرّ المُقْتَني
…
ولسْتَ بالمُرْتَدِعِ
أمَا ترَى الشّيبَ وخَطْ
…
وخَطّ في الرّأسِ خِطَطْ
(2)
ومنْ يلُحْ وخْطُ الشّمَطْ
…
بفَودِهِ فقدْ نُعي
(3)
ويْحَكِ يا نفسِ احْرِصي
…
على ارْتِيادِ المَخلَصِ
وطاوِعي وأخْلِصي
…
واسْتَمِعي النُّصْحَ وعي
واعتَبِرِي بمَنْ مضى
…
من القُرونِ وانْقَضى
واخْشَيْ مُفاجاةَ القَضا
…
وحاذِري أنْ تُخْدَعي
وانتَهِجي سُبْلَ الهُدى
…
وادّكِري وشْكَ الرّدى
وأنّ مثْواكِ غدا
…
في قعْرِ لحْدٍ بلْقَعِ
وبعْدَهُ العَرْضُ الذي
…
يحْوي الحَييَّ والبَذي
والمُبتَدي والمُحتَذي
…
ومَنْ رعى ومنْ رُعي
(4)
فَيا مَفازَ المتّقي
…
ورِبْحَ عبْدٍ قد وُقِي
سوءَ الحِسابِ الموبِقِ
…
وهوْلَ يومِ الفزَعِ
(1)
وتَني: تضعف وتفتر.
(2)
وخط: وخطه الشيب: فشا فيه.
(3)
الشّمَطْ: اختلاط بياض الشعر بسواده. بفَودِهِ: الفود: الشعر النابت فوق جانب الرأس مما يلي الأذن.
(4)
والمُحتَذي: المتّبع.
ويا خَسارَ مَنْ بغَى
…
ومنْ تعدّى وطَغى
وشَبّ نيرانَ الوَغى
…
لمَطْعَمٍ أو مطْمَعِ
يا مَنْ عليْهِ المتّكَلْ
…
قدْ زادَ ما بي منْ وجَلْ
لِما اجتَرَحْتُ من زلَلْ
…
في عُمْريَ المُضَيَّعِ
فاغْفِرْ لعَبْدٍ مُجتَرِمْ
…
وارْحَمْ بُكاهُ المُنسجِمْ
(1)
فأنتَ أوْلى منْ رَحِمْ
…
وخيْرُ مَدْعُوٍّ دُعِي
(2)
.
(1)
المُنسجِمْ: المتصبب.
(2)
مقامات الحريري (ص: 423).