المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

[الكتاب الثامن] كتاب النكاح ‌ ‌[الباب الأول] أحكام النكاح النِّكَاحُ هو لغةً: الضمُّ - سبل السلام شرح بلوغ المرام - ت حلاق - جـ ٦

[الصنعاني]

فهرس الكتاب

[الكتاب الثامن] كتاب النكاح

[الباب الأول] أحكام النكاح

النِّكَاحُ هو لغةً: الضمُّ والتداخلُ ويُسْتَعْمَلُ في الوطْءِ وفي العقْدِ، قيلَ: مجازٌ منْ إطلاقِ المسبِّبِ على السَّبَبِ، وقيلَ: إنهُ حقيقة فيهمَا وهوَ مرادُ مَنْ قالَ: إنهُ مشتركٌ فيهما، وكَثُرَ استعمالُه في العَقْدِ فقيلَ: إنهُ فيهِ حقيقةٌ شرعيةٌ ولم يردْ في الكتابِ

(1)

العزيزِ إلا في العَقْدِ.

‌الترغيب في النكاح

1/ 912 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم البَاءَةَ فَلْيَتَزَوّج، فَإنهُ أَغَضُّ للْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيهِ بِالصَّومِ، فَإنهُ لَهُ وِجَاءٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(1)

قال الحافظ في "الفتح"(9/ 103): أفاد أبو الحسين بن فارس أن النكاح لم يرد في القرآن إلا للتزويج إلا في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، فإن المراد به الحلم، والله أعلم. اهـ.

(2)

البخاري (1905)، ومسلم (1400).

قلت: وأخرجه أبو داود (2046)، والترمذي (1081) نحوه، والنسائي (4/ 169)، و (6/ 56 - 57) نحوه، وابن ماجه (1845)، وأحمد (1/ 378، 447)، وابن حبان (9/ 335 رقم 4026 - الإحسان)، والبيهقي (7/ 77).

ص: 5

(عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ لنا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يا معشرَ الشَّبابِ من استطاعَ مِنْكمُ الباءةَ) بالباءِ الموحدةِ والهمزةِ والمدِّ (فليتزوَّجْ، فإنهُ أغضُّ للبصرِ وأحصنُ للفرجِ، ومنْ لم يستطعْ فعليهِ بالصومِ فإنهُ لهُ وِجَاءٌ) بكسرِ الواوِ والجيمِ والمدِّ (متفقٌ عليهِ)، وقعَ الخطابُ منهُ صلى الله عليه وسلم للشبابِ لأنَّهم مظنةُ الشهوةِ للنساءِ. [وقد]

(1)

اختلفَ العلماءُ

(2)

في المرادِ بالباءةِ، والأصحُّ أن المرادَ بها الجماعُ. فتقديرهُ من [راد]

(3)

منكمُ الجماعَ لِقُدْرَتهِ على مُؤنَةِ النكاحِ فليتزوجْ، ومنْ لم يستطعِ الجماعَ لِعَجزِهِ عنْ مُؤْنَتِهِ فعليهِ بالصومِ ليدفعَ شهوتَهُ ويقطعَ شرَّ مائِهِ كما يقطعه الوِجاءُ. ووقعَ في روايةِ ابن حبانَ

(4)

مُدْرَجًا تفسيرُ الوجاءِ بأنهُ الإخصاءُ. وقيلَ الوِجاءُ: رضُّ الخصيتينِ، والإخصاءُ: سلُّهما. والمرادُ أن الصَّوْمَ كالوجاءِ والأمر بالتزوجِ يقتضي وجوبَهُ معَ القدْرةِ على تحصيلِ مؤنه، وإلى الوجوبِ ذهبَ داودُ

(5)

وهوَ روايةٌ عَنْ أحمدَ

(6)

. وقالَ ابن حَزْمٍ

(7)

: وفَرْضٌ على كلِّ قادرٍ على الوَطْءِ إنْ وجدَ أنْ يتزوجَ أو يتسرَّى فإنْ عجزَ عنْ ذلكَ فليكثرْ منَ الصومِ، وقالَ: إنهُ قولُ جماعةٍ منَ السلفِ. وذهبَ الجمهورُ

(8)

إلى أن الأمرَ للنَّدْب مستدلينَ بأنهُ تعالَى خَيَّرَ بينَ التزوجِ والتسرِّي بقولِه: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}

(9)

. والتسرّي لا يجبُ إجْمَاعًا

(10)

فكذلك النكاحُ لأنهُ لا يخيَّر بين الواجب وغير الواجب، إلَّا أن دَعْوَى الإجماعِ غيرُ صحيحةٍ لخلافِ داودَ وابنِ حزمٍ. وذكرَ ابنُ دقيقِ

(11)

العيدِ أن منَ الفقهاءِ مَنْ قالَ بالوجوبِ على مَنْ خافَ الْعَنَتَ، وقَدَرَ على النكاحٍ، وتعذَّرَ التَّسَرِّي، وكَذَا حكاهُ القرطبيُّ

(12)

فيجبُ على مَنْ لا يقدِرُ على تركِ الزّنى

(1)

زيادة من (أ).

(2)

انظر: "فتح الباري"(9/ 108).

(3)

في (ب): "استطاع"

(4)

في "صحيحه"(9/ 335 رقم 4026 - الإحسان).

(5)

انظر: "فتح الباري"(9/ 110)، و "المغني"(7/ 334).

(6)

انظر: "المغني"(7/ 334).

(7)

"المحلَّى"(9/ 440).

(8)

انظر: "فتح الباري"(9/ 110).

(9)

سورة النساء: الآية 3.

(10)

عبارة "الفتح"(5/ 110). والتسرِّي لا يجب اتفاقًا. اهـ.

(11)

انظر: "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام"(4/ 171 - مع العدة)، و"الفتح"، (5/ 110 - 111).

(12)

انظر: "فتح الباري"(5/ 111).

ص: 6

إلَّا بِهِ. ثمَّ ذكرَ مَنْ يحرُمُ عليهِ ويُكْرَهُ، ويُنْدَبُ لهُ ويُبَاحُ، فيحرمُ على منْ يخلُّ بالزوجةِ في الوطْءِ والإنفاقِ معَ قُدْرَته عليهِ وتوقانِهِ إليهِ، ويكرهُ في حقِّ مثلِ هذا حيثُ لا إضرارَ بالزوجةِ، والإباحةُ فيما إذا انتفتِ الدَّواعي والموانعُ، ويُنْدَبُ في حق كل مَنْ يُرْجَى منهُ النَّسْلُ ولوْ لم يكنْ لهُ في الوطءِ شهوةٌ لقولهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

: "فإني مكاثرٌ بكمُ الأممَ"، ولظواهرِ الحثِّ على النِّكَاحِ والأمرِ. وقولُهُ:"فعليهِ بالصومِ" إغراءٌ بلزومِ الصومِ، وضميرُ عليهِ يعودُ إلى "منْ"

(2)

فهُوَ مخاطبٌ في المعنَى، وإنَّما جُعِلَ الصومُ وجاءَ لأنهُ بتقليلِ الطعامِ والشرابِ يحصلُ للنفسِ انكسارٌ عن الشهوةِ ولسِرٍّ جعلَهُ اللهُ [تعالى] في الصومِ فلا ينفعُ تقليلُ الطعام وحدَه منْ دونِ صومٍ. واستدل بهِ الخطابي

(3)

على جوازِ التداوي لقطعِ الشهوةِ بالأدويةِ، وحكاهُ البغويُّ في "شرح السُّنةِ"

(4)

. ولكنْ يحملُ على دواءٍ يُسَكّنُ الشهوةَ ولا يَقْطَعَها بالأصالةِ لأنهُ قدْ يَقْوَى على وُجْدَانِ مُؤَنِ النِكاحِ، بلْ قدْ وعدَ اللهُ منْ يستعفَ أنْ يُغْنِيَهُ اللهُ منْ فَضْلِهِ؛ لأنهُ جعلَ الإغْناءَ غايةَ الاستعفاف؛ ولأنَّهمُ اتفقُوا عَلَى مَنْعِ الجبِّ والإخْصَاءِ فيلحقُ بذلكَ ما في معناهُ. وفيهِ الحثُّ على تحصيلِ ما يُغَضُّ بهِ البصرُ ويُحْصَنُ الفرجُ، وفيهِ أنهُ لا يُتَكَلَّفُ للنكاحِ بغيرِ الممكنِ كالاستدانةِ. واستدل بهِ [القرافي]

(5)

على أن التشريكَ في العبادةِ لا يضرُّ بخلافِ الرياءِ، لكنَّهُ يقالُ

(6)

إنْ كانَ المُشَرَّكُ عبادةَ كالمشرَّكِ فيهِ فلا يضر فإنهُ يحصلُ بالصومِ تحصينُ الفرجِ وعضُّ البصرِ، وأما تشريكُ المباحِ كما لو دخلَ إلى الصلاةِ لتركِ خطابِ مَنْ يحلُّ خطابُه فهو محلُّ نظرِ يُحتَملُ القياسُ على ما ذُكِرَ ويحتملُ عدمُ صحةِ القياسِ. نعمْ إنْ دخلَ في الصلاةِ لتركِ الخوضِ في الباطلِ أو الغيبةِ وسماعِها كانَ مَقْصِدًا صحيحًا. واستدل بهِ بعضُ المالكيةِ

(7)

على تحريمِ الاستمناءِ لأنهُ لو كانَ مباحًا لأرشدَ إليهِ لأنهُ أسهلُ، وقدْ أباحَ الاستمناءَ بعضُ الحنابلةِ وبعضُ الحنفيةِ.

(1)

يأتي تخريجه قريبًا برقم (3/ 914).

(2)

في قوله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم

".

(3)

انظر: "معالم السنن"(3/ 3).

(4)

(9/ 6).

(5)

في المخطوط (أ - ب) والمطبوع "العراقي"، والصواب ما أثبتناه - كما في الفتح -، وانظر له كتاب:"أنوار البروق في أنواء الفروق" المشهور بالفروق للقرافي (3/ 23 الفرق رقم 122).

(6)

انظر: "فتح الباري"(9/ 112).

(7)

انظر: "فتح الباري"(9/ 112).

ص: 7

‌القصد في العبادات والنهي عن الإضرار بالنفس

2/ 913 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:"لكِنِّي أَنا أُصلِّي وَأَنامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتي فَلَيسَ مِنِّي"، متَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ الله وأثْنَى عليهِ وقالَ: لكنِّي أنا أصلِّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النِّساءَ، فمنْ رغبَ عنْ سُنَّتي فليسَ منِّي. متفقٌ عليه) هذا لفظ مسلم. وللحديثِ

(2)

سببٌ وهوَ أنهُ قالَ أنسٌ: جاءَ ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عنْ عبادتِه صلى الله عليه وسلم، فلما أخْبِرُوا كأنَّهم تَقَالُّوها فقالُوا: وأينَ نحنُ منْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قدْ غَفرَ اللَّهُ له ما تقدَّمَ منْ ذنبهِ وما تأخَّرَ، فقالَ أحدُهم: أما أنا فإني أصلِّي الليلَ أبدًا، وقالَ آخَرُ: وأنا أصومُ الدهرَ ولا أفطرُ، وقالَ آخرُ: وأنا أعتزلُ النساءَ فلا أتزوجُ. فجاءَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إليهم فقالَ: "أنتُم قُلْتُمْ كَذَا وكَذَا، أَمَا واللَّهِ إني [أخشاكم]

(3)

للَّهِ وأتقاكُم له، لكنِّي [أنا]

(4)

أصلِّي - الحديث". وهوَ دليلٌ على أن المشروعَ هوَ الاقتصادُ في العباداتِ دونَ الانهماكِ والإضرارِ بالنفسِ وهَجْرِ المألوفاتِ كلِّها، وأنَّ هذهِ الملَّةَ المحمديةَ مبنيةٌ شريعتُها على الاقتصادِ والتسهيلِ والتيسيرِ وعدمِ التعسيرِ:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

(5)

. قالَ الطبريُّ

(6)

: في الحديثِ الردُّ على مَنْ مَنَعَ استعمالَ الحلالِ منَ الطيباتِ مأكلًا ومَلْبَسًا. قالَ القاضي عياضُ (6) رحمه الله: هذا مما اختلفَ فيهِ السلفُ فمنْهم مَنْ ذهبَ إلى ما قالهُ الطبريُّ، ومنْهم مَنْ عكسَ، واستدلَّ بقولهِ تَعَالَى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}

(7)

، قالَ: والحقُّ أن الآيةَ في الكفارِ.

وقدْ أخذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالأمرينِ، والأَوْلَى التوسطُ في الأمورِ وعدمُ الإفراطِ في ملازمةِ الطيباتِ فإنهُ يُؤَدِّي إلى الترفُّهِ والبطرِ ولا يأمنُ منَ الوقوعِ في الشُّبُهاتِ،

(1)

البخاري (5063)، ومسلم (1401).

وأخرجه النسائي (3217)، وأحمد (3/ 241، 259، 285)، والبيهقي (7/ 77).

(2)

انظر رواية البخاري (5063).

(3)

في (ب): "لأخشاكم".

(4)

زيادة من (ب).

(5)

سورة البقرة: الآية 185.

(6)

انظر: "فتح الباري"(9/ 106).

(7)

سورة الأحقاف: الآية 20.

ص: 8

فإنَّ مَنِ اعتادَ ذلكَ قدْ لا يجدُهُ أحيانًا فلا يستطيعُ الصبرَ عنهُ فيقعُ في المحظورِ، كما أنَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تناوُلِ ذلكَ أحيانًا قدْ يفضي بهِ إلى التنطُّعِ وهوَ التكلُّفُ المؤدِّي إلى الخروجِ عن السنةِ المنْهِيِّ عنهُ، ويردُّ عليهِ صريحُ قوله تعالَى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}

(1)

. كما أن الأخْذَ بالتشديدِ في العبادةِ يؤدي إلى المللِ القاطعِ لأصْلِها وملازمةِ الاقتصارِ علَى الفرائضِ مثلًا وتركُ النفلِ يُفْضِي إلى البطالةِ وعدمِ النشاطِ إلى العبادةِ وخيارُ الأمورِ أوساطها، وأرادَ صلى الله عليه وسلم بقولهِ:"فمنْ رغبَ عنْ سُنَّتِي" عنْ طريقتي، "فليسَ مِنِّي" أي ليسَ منْ أهلِ الحنيفيةِ السهلةِ، بلِ الذي يتعيَّنُ عليهِ أنْ يفطرَ ليَقْوَى على الصومِ، وينامُ ليقْوَى على القيامِ، وينكحُ النساءِ ليُعِفَّ نظرَهُ وفَرْجَهُ. وقيلَ

(2)

: إنْ أرادَ منْ خالفَ هَدْيَهُ صلى الله عليه وسلم وطريقتَه أن الذي أَتَى بهِ منَ العبادةِ أَرْجَحُ مما كانَ عليهِ صلى الله عليه وسلم، فمعنَى ليس مِنِّي أي ليسَ منْ أهلِ مِلَّتي لأنَّ اعتقادَ ذلكَ يؤدي إلى الكفرِ.

‌تنكح المرأة لأربع

3/ 914 - وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأمُرُنَا بِالْبَاءَةِ ويَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ:"تَزَوَّجُوا الولُودَ الْوَدُودَ، فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأَنبيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(3)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(4)

. [صحيح]

(1)

سورة الأعراف: الآية 32.

(2)

انظر: "الفتح"(9/ 106).

(3)

في "المسند"(3/ 158، 245).

(4)

في "صحيحه"(ص 302 رقم 1228 - الموارد).

قلت: وأخرجه سعيد بن منصور (1/ 139 رقم 490)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 394 رقم 442/ 675)، والبيهقي (7/ 81)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 219)، وفي سنده: خلف بن خليفة: صدوق اختلط في الآخر كما في "التقريب"(1/ 225 رقم 140)، إلا أن الحديث صحيح لغيره وقد صحَّحه الألباني في "الإرواء"(6/ 195 رقم 1784). ويشهد له ما أخرجه أبو داود (2050)، والنسائي (6/ 65 - 66)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 162)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 62)، من حديث معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: "لا"، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال:"تزوَّجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

ص: 9

- وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَار. [صحيح لغيره]

(وعنه) أي [عنْ]

(1)

أنسٍ (قالَ: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمرُنا بالباءةِ وَيَنْهَى عن التبتلِ نَهْيًا شديدًا ويقولُ: تزوَّجُوا الولودَ الودود، فإنِّي مكاثرٌ بِكمُ الأنبياءَ يومَ القيامةِ. رواهُ أحمدُ وصحَّحَه ابن حِبَّانَ. وله شاهدٌ عندَ أبي داودَ والنسائيَّ وابنِ حِبَّانَ أيضًا منْ حديثِ معقلِ بن يسار)، التبتلُ الانقطاعُ عن النساءِ وتركُ النكاحِ انقطاعًا إلى عبادةِ اللَّهِ تعالى. وأصلُ التبتلِ القْطعُ ومنهُ قيلَ لمريمَ عليه السلام البتولُ، ولفاطمةَ رضي الله عنها البتولُ، لانقطاعِهِمَا عنْ نساءِ [زمانيهما]

(2)

دِيْنًا وفَضْلًا ورغبةً في الآخرةِ.

والمرأةُ الولودُ كثيرةُ الولادةِ، ويعرفُ ذلكَ في البكرِ بحالِ [قَرَابَتِهَا]

(3)

، والودودُ المحبوبةُ بكثرةِ ما هيَ عليهِ منْ خصالِ الخيرِ وحُسْنِ الخُلُقِ والتحبُّب إلى زَوْجِها. والمكاثرةُ: المفاخرةُ، وفيهِ جوازُها في الدارِ الآخرةِ، ووجْهُ ذلكَ أنّ مَنْ أُمَّتُهُ أكثرُ فثوابُه أكثرُ لأنَّ لهُ مثلَ أجرِ مَنْ تَبِعَهُ.

4/ 915 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

مَعَ بَقِيّةِ السّبْعَةِ

(5)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: تُنْكَح المرأةُ لأربع) أي الذي يُرغِّبُ إلى نكاحِها ويدعُو إليه أحد أربع خصال: (لمالها وحَسَبِها وجمالِها ولِدِيْنِها، فاظفر بذاتِ الدِّينْ تَرِبَتْ يداكَ. متفقٌ عليهِ) بينَ الشيخينِ (معَ بقيةِ السَّبعةِ) الذينَ تقدَّمَ ذِكْرُهُم في خطبةِ الكتابِ. الحديثُ إخبارٌ بأن الذي يدعُو الرجالَ إلى التزوجِ أحدُ هذهِ الأربعِ، وآخرُها عندَهم ذاتُ الدينِ فَأَمَرَهُمْ صلى الله عليه وسلم بأنَّهم إذا وجدُوا ذات الدِّيْنِ فلا يعدلون عنْها.

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في (ب): "زمانهما".

(3)

في (أ): "قرايبها".

(4)

البخاري (5090)، ومسلم (53/ 1466).

(5)

أبو داود (2047)، والنسائي (3230) وابن ماجه (1858)، وأحمد (2/ 428)، وليس هو في سنن الترمذي، واللهُ أعلم.

أخرجه: البيهقي (7/ 79)، والبغوي في "شرح السنة"(9/ 7 رقم 2240).

ص: 10

وقدْ وردَ النَّهْيُ عنْ نِكَاحِ المرأةِ لغيرِ دِيْنِهَا، فأخرجَ ابنُ ماجَهْ،

(1)

والبزَّارُ

(2)

، والبيهقي

(3)

، منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بن عمرو مرفُوعًا:"لا تَنْكِحُوا النسَاءَ لِحُسْنِهنَّ فلعلَّه يُرْدِيْهنَّ، ولا لِمالهنَّ فلعلَّه يُطْغِيهنَّ، وانكحوهنَّ للدِّينِ، ولأَمَةٌ سوداءُ خَرْقَاءُ ذاتُ دِيْنٍ أفضلُ". ووردَ في صفةِ خيرِ النساءِ ما أخرجَهُ النسائيُّ

(4)

عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنهُ قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النساءِ خيرٌ؟ قالَ:"التي تسرُّه إنْ نظرَ، وتطيعُه إنْ أمرَ، ولا تخالفُه في نفسها ومالِها بما يَكْرَهُ"، والحَسَبُ هوَ الفِعْلُ الجميلُ للرجلِ وآبائِه.

وقدْ فُسِّرَ الحسبُ بالمالِ في الحديثِ الذي أخرجَهُ الترمذيُّ

(5)

وحسَّنَهُ منْ حديثِ سَمُرَةَ مرفُوعًا: "الْحَسَبُ المالُ، والكرمُ التَّقْوَى"، إلَّا أنهُ لا يُرَادُ [بالمال]

(6)

في حديثِ البابِ لِذِكْرِهِ له بِجَنْبِهِ، فالمرادُ فيهِ المعنَى الأولُ. ودلَّ الحديثُ على أن مصاحبةَ أهلِ الدِّينِ في كلِّ شيءٍ هي الأَوْلَى لأنَّ مُصَاحِبَهُم يستفيدُ منْ أخلاقهم وبركتِهمْ وطرائقهم ولا سيَّما الزوجةُ فَهِيَ أَوْلَى مَنْ يُعْتَبَرُ دِيْنُهُ؛ لأنَّهَا ضجيعتُه وأمُّ أولادِه وأَمِينَتُهُ على مالهِ ومنزلهِ وعلَى نفسِها. وقولُه:"تَرِبَتْ يداكَ"، أي التصقتْ بالترابِ منَ الفقرِ، وهذهِ الكلمةُ خارجةٌ مخرجَ ما يعتادُه الناسُ في المخاطباتِ لا أنهُ صلى الله عليه وسلم قصدَ بها الدعاء.

‌الدعاء للمتزوج بالبركة

5/ 916 - وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَفَّأ إِنْسَانًا إِذَا تَزَوَّج قَالَ: "بَارَك اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيكَ، وَجَمَعَ بَينَكُمَا في خَيْرٍ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(7)

(1)

في سننه (1859).

(2)

في "البحر الزخار" المعروف "بمسند البزار"(6/ 413 رقم 2438).

(3)

في "السنن الكبرى"(7/ 80). وإسناده ضعيف ضعَّفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(3/ 172 رقم 1060).

(4)

في "سننه"(3231). وأخرجه أحمد (2/ 251، 432، 438)، والحاكم (2/ 161)، وقد صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(4/ 453 رقم 1838).

(5)

في "سننه"(3271)، وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث سلام بن أبي مطيع. وأخرجه ابن ماجه (4219)، وأحمد (5/ 10)، والبيهقي (7/ 135 - 136) والحاكم (2/ 163)، (4/ 325) وصحَّحه ووافقه الذهبي، وصحَّحه أيضًا لشواهده الألباني في "الإرواء"(6/ 270 - 272 رقم 1870).

(6)

في (أ): "بهِ المال".

(7)

في "مسنده"(2/ 381).

ص: 11

وَالأَرْبَعَةُ

(1)

، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ

(2)

. [صحيح]

(وعنهُ) أي أبي هريرةَ (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا رفَّئ) بالراءِ وتشديدِ الفاءِ فألفٍ مقصورةٍ (إنسانًا إذا تزوجَ قالَ: "باركَ اللَّه لكَ، وباركَ عليكَ، وجمعَ بينَكما في خيرٍ". رواهُ أحمد والأربعة وصحَّحَه الترمذيُّ وابن خزيمةَ وابن حِبَّانَ). الرَّفاءُ الموافقةُ وحسنُ المعاشرةِ، وهوَ منْ رَفَأ الثوبَ، وقيلَ: منْ رفوت الرجلِ إذا سَكَّنْتَ ما بهِ منْ رَوْعِ. فالمرادُ إذا دَعَاء صلى الله عليه وسلم للمتزوجِ بالموافقةِ بينَه وبينَ أهلِهِ وحسنِ العشْرةِ بينَهما قالَ ذلكَ. وقدْ أخرجَ بقيُّ بنُ مخلدِ

(3)

عنْ رجلٍ منْ بني تميمٍ قالَ: كُنَّا نقولُ في الجاهليةِ بالرَّفَاءِ والبنينَ، فعلَّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ قولُوا: - الحديثِ. وأخرجَ مسلمٌ

(4)

منْ حديثِ جابرٍ: "أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: تزوجتَ؟ قالَ: نعمْ، قالَ: باركَ اللَّهُ لك"، وزادَ الدارميُّ

(5)

: "وباركَ عليكَ". وفيهِ أن الدعاءَ للمتزوجِ سنةٌ، وأما المتزوجُ فَيُسَنَّ لهُ أنْ يفعلَ ويدعوَ بما أفادَهُ حديثُ عمروِ بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إذا أفادَ أحدُكم امرأةً أوْ خادمًا أو دابةً فليأخذْ بنَاصِيَتِها وليقلْ: اللهمَّ إني أسألك خيرَها وخيرَ ما جُبلَتْ عليهِ، وأعوذُ بكَ منْ شرِّها وشرِّ ما جُبِلَتْ عليهِ"، رواهُ أبو داودَ

(6)

والنسائي

(7)

، وابنُ ماجهْ

(8)

.

‌خطبة الحاجة

6/ 917 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

أبو داود (2130)، والترمذي (1091)، وقال: حسن صحيح، والنسائي في "الكبرى"(10089/ 1)، وابن ماجه (1905).

(2)

في "صحيحه"(9/ 359 رقم 4052 - الإحسان). وأخرجه البيهقي (7/ 148)، والحاكم (2/ 183)، وصحَّحه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقد صحَّحه الألباني في "صحيح أبي داود"(2/ 400 رقم 1866).

(3)

عزاه إليه الحافظ في "الفتح"(9/ 222) وفي "التلخيص"(3/ 153).

(4)

في "صحيحه"(56/ 715).

(5)

في "سننه"(2/ 146)، وليس فيه الزيادة ولا أصل الدعاء، وأخرجه البخاري (5367)، بغير الزيادة.

(6)

في "سننه"(2160).

(7)

في "السنن الكبرى"(10093/ 1).

(8)

في "سننه"(1918).

وهو حديث حسن، حسَّنه الألباني في "صحيح أبي داود"(1892).

ص: 12

التَّشَهُّدَ في الْحَاجَةِ: "إن الْحَمْدَ للهِ، نَحْمدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَستَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ، وأَشْهَدُ أَن مُحَمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"، وَيَقْرَأُ ثَلاثَ آياتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

وَالأَرْبَعَةُ

(2)

وَحَسّنَهُ التِّرْمِذِي وَالْحَاكِمُ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: علَّمَنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم التشهُّدَ في الحاجةِ) زادَ فيهِ ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ في النكاحِ وغيرِه (إن الحمدَ للَّهِ نحمدُهُ ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّهِ منْ شرور أَنْفسنَا، مَنْ يهدِ اللَّه فلا فضِلَّ لهُ، ومَنْ يضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّه وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسوله، ويقرأُ ثلاثَ آياتٍ. رواهُ أحمد والأربعة، وحسَّنَة الترمذيُّ والحاكم). والآياتُ [الثلاث]

(4)

: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى [قوله]

(5)

{رَقِيبًا}

(6)

، والثانيةُ [قوله تعالى]

(7)

: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إلى آخرها

(8)

، والثالثة قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} إلى قولهِ: {عَظِيمًا}

(9)

. كذَا

(1)

في "مسند"(1/ 392 - 393، 432).

(2)

أبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (6/ 89)، وابن ماجه (1892).

(3)

في "المستدرك"(2/ 182 - 183).

قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 142)، وابن الجارود (رقم 679)، والبيهقي (7/ 146)، والطيالسي (ص 45 رقم 338)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 178)، زاد الطيالسي والبيهقي عن شعبة قال: قلت لأبي إسحاق: هذه في خطبة النكاح وفي غيرها؟ قال: في كل حاجة. قال المحدث الألباني في كتابه "خطبة الحاجة التي كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه": وردت هذه الخطبة المباركة عن ستة من الصحابة وهم: عبد اللَّهِ بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعبد اللهِ بن عباس، وجابر بن عبد اللهِ، ونبيط بن شريط، وعائشة رضي الله عنهم، وعن تابعي واحد هو الزهري رحمه الله. ثم تكلم عليها على هذا النسق، وقال في الخاتمة: قد تبين لنا من مجموع الأحاديث المتقدمة أن هذه الخطبة تفتح بها جميع الخطب سواء كانت خطبة نكاح أو خطبة جمعة أو غيرها، فليست خاصة بالنكاح كما قد يظن، وفي بعض طرق حديث ابن مسعود التصريح بذلك كما تقدم، وقد أيد ذلك عمل السلف الصالح فكانوا يفتتحون كتبهم بهذه الخطبة ثم ذكر بعضًا منهم.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

سورة النساء: الآية 1.

(7)

زيادة من (أ).

(8)

سورة آل عمران: الآية 102.

(9)

سورة الأحزاب: الآية 70.

ص: 13

في الشرحِ وفي الإرشادِ لابنِ كثيرٍ عدَّ الآياتِ في نفسِ الحديثِ إلَّا أنه جعل الأولى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} الآية، والثانية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية، والثالثة كما هنا. وقولهُ:"في الحاجةِ" عامٌّ لكلِّ حاجةٍ ومنْها النِّكاحُ، وقدْ صَرَّحَ بهِ في روايةٍ كما ذَكَرْنَاهُ. وأخرجَ البيهقي

(1)

أنهُ قالَ شعبةُ: قُلْتُ لأبي إسحاقَ: هذهِ في خُطبَةِ النِّكاحِ وغَيْرِها؟ قالَ: في كلّ حاجةٍ.

وفيهِ دلالةٌ على سُنِّيَّةِ ذلكَ في النكاحِ وغيرهِ، وَيخْطُبُ بِها العاقدُ [لنفسه]

(2)

حالَ العقْدِ وهيَ منَ السُّنَنِ المهجورةِ. وذهبتِ الظاهريةُ

(3)

إلى أنَّها واجبةٌ ووافقَهم منَ الشافعيةِ أبو عَوَانَةَ فترجم في صحيحه: بابُ وجوبِ الخِطْبةِ عندَ الْعَقْدِ، ويأتي في شرح الحديثِ التاسعِ

(4)

ما يدلُّ على عَدَمِ الوجوبِ.

‌جواز النظر إلى المخطوبة

7/ 918 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَطَبَ أَحَدُكمُ الْمَرْأَةَ، فَإنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(5)

وَأَبُو دَاوُدَ

(6)

، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(7)

[حسن]

- وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ

(8)

وَالنَّسَائيِّ

(9)

عَنِ الْمُغِيرَةِ. [صحيح]

(1)

في "السنن الكبرى"(7/ 146).

(2)

في (ب): "نفسه".

(3)

قال الحافظ في "الفتح"(9/ 202): وقد شرطه (أي كلام الخطبة) في النكاح بعض أهل الظاهر وهو شاذ. اهـ.

(4)

برقم (9/ 920)، من كتابنا هذا.

(5)

في "المسند"(3/ 334).

(6)

في "السنن"(2082).

(7)

في "المستدرك"(2/ 165)، ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه البيهقي (7/ 84) وهو حديث حسن، حسَّنه الألباني في "الإرواء"(6/ 200 رقم 1791).

(8)

في "سننه"(1087) وقال: حديث حسن.

(9)

في "سننه"(6/ 69).

قلت: وأخرجه ابن ماجه (1/ 600 رقم 1866)، وأحمد (4/ 244 - 245)، والدارمي (2/ 134)، وابن حبان (ص 303 رقم 1236 - الموارد)، وهو حديث صحيح أشار إلى تصحيحه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1/ 150 رقم 96).

ص: 14

- وَعنْدَ ابْنِ مَاجَهْ

(1)

وَابْنِ حِبَّانَ

(2)

مِنْ حَدِيث مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. [صحيح]

- وَلمُسْلِمٍ

(3)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً: "أَنظَرْتَ إِلَيهَا؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيهَا". [صحيح]

(وعن جابرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذا خطبَ أحدكم المرأةَ فإنِ استطاعَ أنْ ينظرَ منْهَا إلى ما يدعوه إلى نِكَاحِها فليفعلْ)، وتمامُهُ قالَ جابرٌ: فخطبتُ جاريةً فكنتُ أتخبَّأ لها حتَّى رأيتُ منْها ما دعاني إلى نِكَاحِهَا فتزوَّجْتُها (رواهُ أحمد وأبو داودَ ورجاله ثِقَاتٌ، وصحَّحَه الحاكم. وله شاهدٌ عندَ الترمذي والنسائيِّ عن المغيرةِ) ولفظُه أنهُ قالَ لهُ وقدْ خطبَ امرأةً: "انظرْ إليها فإنهُ أحْرَى أنْ يُؤدَمَ بينَكما".

(وعندَ ابن ماجهْ وابنِ حبَّانَ منْ حديثِ محمدِ بن مسلمةَ. ولمسلم عنْ أبي هريرةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لرجلٍ تَزَوَّجَ امرأةً:) أي أرادَ ذلكَ (أَنَظَرتَ إليها؟ قالَ: لا، قالَ: اذهبْ فانظر إليها). دلَّتِ الأحاديثُ على أنهُ يُنْدَبُ للرجلِ تقديمُ النظرِ إلى مَنْ يريدُ نكَاحَها وهوَ قولُ جماهيرِ

(4)

العلماءِ. والتظرُ إلى الوَجهِ والكفَّينِ لأنهُ يُسْتَدَلُّ بالوجْهِ على الجمالِ أو ضدِّه، والكفينِ على خصوبةِ البدنِ أو عدمِها. وقالَ الأوزاعيُّ

(5)

: ينظرُ إلى مواضعِ اللحم، وقالَ داودُ

(6)

: ينظرُ إلى جميعِ بَدَنِها. والحديثُ مُطْلَقٌ، فينظرُ إلى ما يحصل لهُ المقصودُ بالنظرِ إليهِ. ويدلُّ على فَهْمِ

(1)

في "سننه"(1864).

(2)

في "صحيحه"(ص 303 رقم 1235 - الموارد).

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 493)، (4/ 225)، والحاكم (3/ 434)، والبيهقي (7/ 85)، وهو حديث صحيح صحَّحه الألباني في صحيح "سنن ابن ماجه"(1/ 313 رقم 1510).

(3)

في "صحيحه"(75/ 1424).

قلت: وأخرجه النسائي (6/ 69 - 70)، وأحمد (2/ 286، 299)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 14)، والدارقطني (3/ 253 رقم 34)، والبيهقي (7/ 84).

وفي الباب من حديث أنس، وأبي حميد، رضي الله عنهما. انظر تخريجها في كتابنا:"إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب السنة" جزء النكاح.

(4)

انظر: "بداية المجتهد (3/ 10) بتحقيقنا، و"المغني" (7/ 453).

(5)

قال الحافظ في "فتح الباري"(9/ 182): وقال الأوزاعي: يجتهد وينظر إلى ما يريد منها إلا العورة. اهـ.

(6)

انظر: "المغني"(7/ 453 مسألة رقم 5327).

ص: 15

الصحابةِ لذلكَ ما رواهُ عبدُ الرزاقِ

(1)

وسعيدُ

(2)

بنُ منصورٍ أن عمرَ كشفَ عنْ ساقِ أمِّ كلثوم بنتِ عليٍّ لما بعثَ بها عليٌّ إليهِ ليَنْظُرَها ولا يشترطُ رِضَا المرأةِ بذلكَ النظرِ بلْ لهُ أنْ يفعلَ ذلكَ على غَفْلَتِهَا كما فعلَهُ جابرٌ. قالَ أصحابُ الشافعيِّ

(3)

: ينبغي أنْ يكونَ نظرهُ إليها قبلَ الخِطْبةِ حتَّى إنْ كَرِهَهَا تركَها منْ غيرِ إيذاءٍ بخلافهِ بعدَ الخِطْبةِ، وإذا لم يُمْكِنْهُ النظرَ إليها استُحِبَّ أنْ يبعثَ امرأةً يَثِقُ بها تنظرُ إليها وتخبرُهُ بصفاتها، فقدْ رُوِيَ عن أنسٍ أنهُ رضي الله عنه:"بعثَ أمَّ سليمٍ إلى امرأةٍ فقالَ: انظُري إلى عُرْقُوبها وشُمِّي معاطِفَها"، أخرجَهُ أحمدَ

(4)

والطبراني

(5)

والحاكمُ

(6)

والبيهقيُّ

(7)

وفيهِ كلامٌ.

وفي روايةٍ: "شُمِّي عوارِضَها" وهيَ الأسنانُ التي في عرضِ الفمِ وهيَ ما بينَ الثنايا والأضراس واحدها عارض، والمراد اختبار رائحةِ النكهة، وأما المعاطف فهي ناحِيَتَا العُنُقِ. ويثبتُ مِثْلُ هذَا الحكمِ للمرأةِ فإنَّها تنظرُ إلى خاطبِها فإنهُ يعجبُها منهُ مثل ما يعجبُه منْها كذَا قيلَ، ولمْ يردْ بهِ حديثٌ، والأصلُ تحريمُ نظرِ الأجنبيِّ والأجنبيةِ إلَّا بدليلٍ كالدليلِ على جوازِ نظرِ الرجلِ لمنْ يريدُ خِطْبَتَهَا.

‌النهي عن الخطبة على الخطبة

8/ 919 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(8)

، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. [صحيح]

(1)

في "المصنف"(6/ 163 رقم 10352، 10353).

(2)

في "السنن"(1/ 147 رقم 521).

(3)

انظر "روضة الطالبين" 7/ 19: 21).

(4)

في "المسند"(3/ 231).

(5)

عزاه إليه الحافظ في "التلخيص"(3/ 147 رقم 1485).

(6)

في "المستدرك"(2/ 166) وصحَّحه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

(7)

في "السنن الكبرى"(7/ 87). وتعقب البيهقي الحاكم بأن ذكر أنس فيه وهمٌ كما في "التلخيص"(3/ 147). وأخرجه أبو داود في "المراسيل"(ص 186 رقم 216)، بسند رجاله ثقات.

(8)

البخاري (5142)، ومسلم (49/ 1412). وأخرجه أبو داود (2081)، والترمذي (1292)، والنسائي (3243)، وابن ماجه (1868).

ص: 16

(وعنْ ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا يخطبُ أحدُكم على خطْبةِ أَخِيهِ) تقدَّم أنَّها بِكَسْرِ الخاءِ هنا (حتى يتركَ الخاطب قبلَه أوْ يأذنَ له. متفقٌ عليهِ، واللفظُ للبخاري). النَّهْيُ أَصْلُهُ التحريمُ إلَّا لدليلٍ يَصْرِفُهُ عنهُ. وادَّعَى النوويُّ

(1)

الإجماعَ على أنهُ لهُ. وقالَ الخطابي

(2)

: النَّهْيُ للتأديبِ وليسَ للتحريمِ، وظاهرُه أنهُ مَنْهِيٌّ عنهُ سواءٌ قد أجيبَ الخاطبُ أمْ لا، وقدَّمْنَا في البيعِ أنهُ لا يحرمُ إلا بعدَ الإجابةِ، والدليلُ حديثُ فاطمةَ بنتِ قيسٍ وتقدَّم

(3)

. والإجماعُ على تحريمِه بعدَ الإجابةِ، والإجابةُ منَ المرأةِ المكلَّفةِ في الكُفْءِ، ومِنْ وليِّ الصغيرةِ، وأما غيرُ الكُفْءِ فلا بدَّ منْ إِذْنِ الوليِّ علَى القولِ بأنَّ لهُ المنعَ، وهذَا في الإجابةِ الصريحةِ، وأمَّا إذا كانتْ غيرَ صريحةٍ فالأصحُّ عدمُ التحريمِ، وكذلكَ إذا لم يحصلْ ردٌّ ولا إجابة. ونصَّ الشافعيُّ

(4)

أن سكوتَ البكْرِ رِضًا بالخاطبِ فهوَ إجابةٌ، وأما العقدُ معَ تحريمِ الخِطْبَةِ فقالَ الجمهورُ (4): يصحُّ، وقالَ دَاودُ (4): يفسخُ النكاحُ قبلَ الدخولِ وبعدَه.

وقولُه: "أوْ يأذنَ لهُ"، دلَّ أنهُ يجوزُ لهُ الخِطْبَةُ بعدَ الإذْنِ وجوازُها للمأذونِ لهُ بالنصِّ ولغيرِه بالإلحاقِ، لأنَّ إذْنَهُ قدْ دلَّ على إضرابِه فتجوزُ خِطْبَتُها لكلّ مَنْ يريدُ نِكَاحِها، وتقدَّمَ

(5)

الكلامُ على قولِه أخيهِ، وأنهُ أفادَ التحريمَ على خِطْبَةِ المسلمِ لا علَى خِطبَةِ الكافرِ، وتقدَّمَ الخلافُ فيهِ.

وأما إذا كانَ الخاطبُ فاسقًا فهل يجوزُ للعفيفِ الخِطْبةُ على خِطْبَتِهِ؟ قالَ الأميرُ الحسينُ في "الشفاءِ"

(6)

: إنهُ يجوزُ الخطبةُ على خطبةِ الفاسقِ، ونُقِلَ عن ابن القاسمِ صاحبِ مالكٍ ورجَّحَهُ ابنُ العربيِّ

(7)

، وهوَ قريبٌ فيما إذَا كانتِ المخطوبةُ عفيفةً فيكونُ الفاسقُ غيرَ كُفْءٍ لها، فتكونُ خِطْبَتُه كَلا خطبة، ولم يعتبرِ الجمهورُ (7) بذلكَ إذا صدرتْ منها علامةُ القَبولِ.

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 199).

(2)

انظر: "معالم السنن"(3/ 24).

(3)

أثناء شرح الحديث رقم (29/ 764)، من كتابنا هذا.

(4)

انظر: "فتح الباري"(9/ 200).

(5)

أثناء شرح الحديث رقم (29/ 764)، من كتابنا هذا.

(6)

"شفاء الأوام المميز بين الحلال والحرام"(ق 290) مخطوط.

(7)

انظر: "فتح البارى": (9/ 200)، ولم أجده مع عارضة الأحوذي.

ص: 17

‌مشروعية المهر ولو خاتمًا من حديد

9/ 920 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصعَّدَ النظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمّ طَاطَأَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أنهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، قَالَ:"فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيءٍ؟ "، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ:"اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُر هَلْ تَجِدُ شَيئًا؟ " فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا واللهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"انْظُرْ وَلَوْ خَاتمًا مِنْ حَدِيدٍ" فَذَهَبَ، ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا واللَّهِ يا رسول الله، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، ولَكِنْ هَذا إِزَارِي - قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءُ - فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا تَصْنَعُ بِإزَارِكَ؟ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيهَا مِنْهُ شَيءٌ، وَإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيكَ مِنهُ شَيءٌ" فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتى إذا طَالَ مَجْلسُهُ قَامَ. فَرَآه رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ:"مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرآنِ؟ "، قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَة كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ:"تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"اذْهَبْ، فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، وَاللفْظُ لِمُسْلِمٍ. [صحيح]

وَفِي رِوَايَةٍ

(2)

: قَالَ لَهُ: "انْطَلِقْ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآَنِ". [صحيح]

- وفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِي

(3)

: "أمْكَنَّاكهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القْرْآنِ". [صحيح]

(1)

البخاري (5135)، ومسلم (76/ 1425).

قلت: وأخرجه أبو داود (2111)، والترمذي (1114)، والنسائي (6/ 123)، وابن ماجه (1889)، ومالك (2/ 526 رقم 8)، وأحمد (5/ 330، 336)، والدارمي (2/ 142)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (716)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 16)، والدارقطني (3/ 247 رقم 21)، والبيهقي (7/ 236) وله عندهم ألفاظ.

(2)

في "صحيح مسلم"(77/ 1425).

(3)

انظر: "فتح الباري"(9/ 214).

ص: 18

- ولأبي دَاوُدَ

(1)

عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "مَا تَحْفَظُ؟ "، قَالَ: سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَ:"قُمْ فَعَلمْهَا عِشْرِينَ آيَةً". [ضعيف]

(وعنْ سهلِ بن سعدٍ الساعديِّ رضي الله عنه قَالَ: جاءتِ امرأةٌ) قالَ المصنفُ في "الفتح"

(2)

: لمْ أقفْ على اسمِها، (إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ جئت أهبُ لك نفسي) أي أمْرَ نفسي، لأنَّ الحرَّ لا تُملكُ رَقَبَتَهُ (فنظرَ إليها رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فصعَّدَ النظرَ وصوَّبَهُ)، في "النهاية"

(3)

: ومنهُ الحديثُ فصعَّدَ فيَّ النظرِ وصوَّبه، أي نظرَ إلى أعلاي وأسفَلي وتأمَّلني، وهوَ منْ أدلةِ جوازِ النظرِ إلى منْ يريدُ زواجَها. وقالَ المصنفُ

(4)

: إنهُ تحرَّرَ عندَه أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ لا يحرُمُ عليهِ النظرُ إلى المؤمناتِ الأجنبياتِ بخلافِ غيرِه، (ثم طأطأَ رسول اللَّهِ رأسَهُ، فلمَّا رأتِ المرأةُ أنهُ لم يقضِ فيها شيئًا جلستْ فقامَ رجلٌ منَ أصحابه) قالَ المصنفُ

(5)

: لم أقفْ على اسمِه، (فقال: يا رسولَ اللَّهِ إنْ لمْ يكنْ لكَ بِهَا حاجةٌ فزوِّجنِيها، فقالَ: فهلْ عندَكَ منْ شيءٍ؟ [فقال:]

(6)

لا واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: اذهبْ إلى أهلِكَ فانظر هلْ تجدُ شيئًا؟ فذهبَ ثمَّ رجعَ فقال: لا واللَّهِ ما وجدت شيئًا، فقالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انظرْ ولو خاتمًا) أي ولو نظرتَ خاتَمًا (منْ حديدٍ، فذهبَ ثمَّ رجعَ فقالَ: لا واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ ولا خاتَمًا منْ حديدٍ) أي موجودٌ، فخاتمُ مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه (ولكنْ هذَا إزاري - قالَ:) سهلُ بنُ سعدٍ الراوي (ما له رداءُ (2) فلها نِصْفُهُ، فقالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ما تصنعُ بإزارِكَ؟ إنْ لَبِسْتَه) أي كلَّهُ (لم يكنْ عليها منهُ شيءٌ، وإن لَبِسَتْهُ) أي كلُّه (لم يكنْ عليكَ منه شيءٌ)، ولعلَّه بهذَا الجوابِ بيَّنَ لهُ أن قِسْمَةَ الإزار لا تنفعُهُ ولا تنتفع به المرأةَ (فجلسَ الرجل حتَّى إذا طالَ مجلِسُه قامَ، فرآه رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم موَلِّيًا فَدَعَا بهِ، فلمَّا جاءَ قالَ: ما معكَ منَ القرآنِ؟ قَالَ: معي سورة كَذَا وسورة كَذَا، عَدَّدَها، فقالَ: تقرؤهنَّ عنْ ظهرِ قَلْبِكَ؟ قالَ: نعمْ، قال: اذهبْ فقدْ ملَّكْتكَهَا بما معكَ منَ القرآنِ. متفقٌ عليهِ. واللفظُ لمسلمٍ.

وفي روايةٍ له قالَ: انطلقْ فقدْ زوَّجْتُكَها فعلِّمها منَ القرآنِ. وفي روايةٍ للبخاريِّ:

(1)

في "السنن"(2112) ولكن فيه "

أو التي تليها

" وهو حديث ضعيف.

(2)

"فتح الباري"(9/ 206).

(3)

(3/ 30).

(4)

في "فتح الباري"(9/ 210).

(5)

في "فتح الباري"(9/ 207).

(6)

في (أ): "قال".

ص: 19

أمكَنَّاكَها بما معكَ منَ القرآنِ. ولأبي داودَ عنْ أبي هُريرةَ قَالَ) أي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ما تحفظُ؟، قالَ: سورةَ البقرةِ والتي تَليها، قالَ: قمْ فعلِّمْها عشرينَ آيةً).

دلَّ الحديثُ على مسائلَ عديدةِ وقدْ تَتَبَّعَها ابنُ التِّينِ

(1)

وقالَ: هذهِ إحدى وعشرونَ فائدةَ بوَّبَ

(2)

البخاريُّ على أكثرِها.

قلت: ولنأتِ بأنْفَسِها وأوضَحِها.

الأولى: جوازُ عرضِ المرأةِ نفسَها على رجلٍ منْ أهلِ الصَّلاحِ وجوازُ النظرِ منَ الرجلِ وإنْ لم يكنْ خاطِبًا لإرادةِ التزوُّج، يريدُ أنهُ ليسَ جوازُ النظرِ خاصًّا للخاطبِ بلْ يجوزُ لمنْ تخطبُهُ المرأةُ، فإنَّ نظرَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا دليلُ أنهُ أرادَ زواجَها بعدَ عَرْضِها عليهِ نفسَها، وكأنَّها لم تعْجبْه فأعرض عنْها.

والثانيةُ: ولايةُ الإمامِ على المرأةِ التي لا قريبَ لها إذا أذنتْ، إلَّا أن في بعضِ ألفاظِ الحديثِ

(3)

أنَّها فوَّضَتْ أمرَها إليهِ، وذلكَ توكيلٌ، وأنهُ يعقدُ للمرأةِ منْ غيرِ سؤالِ عنْ وَلِيِّها هلْ هوَ موجود أوْ لا، حاضرٌ أوْ لا، ولا سؤَالُها هلْ هيَ في عِصْمَةِ رجلٍ أو عَدَمه. قالَ الخطابيُّ

(4)

: وإلى هذا ذهبَ جماعةٌ حَمْلًا على ظاهرِ الحالِ، وعندَ الهادويةِ أنَّها تحلفُ الغريبةُ احتياطًا.

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 216).

(2)

في هذه الأبواب:

(أ) باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه (9/ 74 - باب/ 21 من كتاب فضائل القرآن).

(ب) باب: القراءة عن ظهر قلب (9/ 78 - باب/22 من كتاب فضائل القرآن).

(ج) باب: تزويج المُعسر (9/ 131 - باب/ 14 من كتاب النكاح).

(د) باب: عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح (9/ 174 باب/ 32 من كتاب النكاح).

(هـ) باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج (9/ 180 باب/ 35 من كتاب النكاح).

(و) باب: التزويج على القرآن وبغير صداق (9/ 205 باب/ 50 من كتاب النكاح).

(ز) باب: المهر بالعروض وخاتم من حديد (9/ 216 باب/ 51 من كتاب النكاح).

(3)

ليس في ألفاظ حديث الباب ما يساعد الشارح إلا أنه - كما ذكر الحافظ في "الفتح (9/ 207) - أخرج النسائي من حديث أبي هريرة قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "

ولكن تملكيني أمرك، قالت: نعم. فنظر في وجوه القوم فدعا رجلًا فقال: إني أريد أن أزوجك هذا أن رضيت، قالت: ما رضيتَ لي فقد رضيت"، وحديث أبي هريرة في "السنن الكبرى" للنسائي (5506/ 1) إلا أنا لم نجد فيه ما ذكره الحافظ، واللهُ أعلم.

(4)

انظر: "فتح الباري"(9/ 215).

ص: 20

الثالثةُ: أنَّ الهِبَةَ لا تَثْبُتُ إلَّا بالقَبولِ.

الرابعةُ: أنهُ لا بدَّ منَ الصَّدَاقِ في النِّكَاحِ وَيصِحُّ أنْ يكونَ شيئًا يَسِيرًا، فإنَّ قَوْلَهُ ولوْ خَاتَمًا منْ حديدٍ مبالغةٌ في تقليلِه، فيصحُّ بكل ما تراضَى عليهِ الزوجانِ أوْ مَنْ إليهِ ولايةُ العقدِ مما فيهِ منفعةٌ، وضابطُه أن كلَّ ما يصلحُ أنْ يكونَ قيمة وثمنًا لشيءٍ يصحُّ أنْ يكونَ مَهْرًا. ونقلَ القاضي عياضُ

(1)

الإجماعَ على أنهُ لا يصحُّ أنْ يكونَ مما لا قيمةَ لهُ ولا يحلُّ بهِ النكاحُ. وقالَ ابنُ حزمِ

(2)

ررحمه الله: يصح بكل ما يُسَمَّى شيئًا ولو حبةً منْ شعيرٍ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: "هلْ تجدُ شيئًا"؟ وأجيبَ بأنَّ قولَهُ صلى الله عليه وسلم ولوْ خَاتَمًا منْ حديدٍ مبالغةٌ في التقليلِ ولهُ قيمةٌ، وبأنَّ قولَه في الحديثِ: منِ استطاعَ منكمُ الباءةَ ومنْ لم يستطعْ دلَّ على أنهُ شيءٌ لا يستطيعُه كل أحدٍ، وحبةُ الشعيرِ مستطاعةٌ لكلِّ أحدٍ، وكذلكَ قولُهُ تعالَى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا}

(3)

وقولُه [تعالى]: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}

(4)

دالٌّ على اعتبارِ الماليةِ في الصَّدَاقِ حتَّى قالَ بعضُهم: أقلُّهُ خمسونَ، وقيلَ أربعونَ، وقيلَ خمسةُ دراهم وإنْ كانتْ هذهِ التقاديرُ لا دليلَ على اعتبارِها بخصوصِهَا، والحقُّ أنهُ يَصِح بما يكونُ لهُ قيمةٌ وإنْ تحقَّرَتْ. والأحاديثُ والآياتُ يُحْتَمَلُ أنَّها خرجتْ مخرجَ الغالب، وأنهُ لا يقعُ الرِّضَا منَ الزوجةِ إلَّا بكونِهِ مالًا لهُ صورةٌ، ولا يطيقُ كلُّ أحدٍ تحصَيلَهُ.

الخامسةُ: أنه ينبغي ذِكْرُ الصَّدَاقِ في العقدِ لأنهُ أقطعُ للنزاعِ وأنفعُ للمرأةِ، فلوْ عقدَ بغيرِ ذكرِ صداقٍ صحَّ العقدُ ووجبَ لها مهرُ المِثْلِ بالدخولِ، وأنهُ يُسْتَحَبُّ تعجيلُ المهرِ.

والسادسةُ: أنهُ يجوزُ الْحَلِفُ وإنْ لم تكنْ عليهِ اليمينُ، وأنهُ يجوزُ الحلفُ على ما يظنُّه الحالف لأنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ بعدَ يمِينه:"اذهبْ إلى أهْلِكَ فانظرْ هلْ تجدُ شيئًا"؟ فدلَّ أن يمينَهُ كانتْ على ظَنِّهِ، ولوْ كانتْ لا تكونُ إلَّا عَلَى علم لم يكنْ للأمرِ بذَهَابِه إلى أَهْلِهِ فائدةٌ.

السابعةُ: أنهُ لا يجوزُ للرَّجُلِ أنْ يُخْرِجَ منْ ملكِهِ ما لا بدَّ لهُ منهُ كالذي يسترُ عورتَه أو يسدَّ خلَّتَهُ منَ الطعامِ والشرابِ، لأنهُ صلى الله عليه وسلم عَلَّلَ مَنْعَهُ عنْ قِسْمَةِ ثوبِه بقولِه:"إنْ لَبِسَتْه لم يكنْ عليكَ منهُ شيءٌ".

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 211).

(2)

في "المحلى"(9/ 494 مسألة رقم 1847).

(3)

سورة النساء: الآية 25.

(4)

سورة النساء: الآية 24.

ص: 21

الثامنةُ: اختبارُ مدَّعي الإعسارِ، فإنهُ صلى الله عليه وسلم لم يصدِّقْهُ في أوَّلِ دَعْوَاهُ الإعسارَ حتَّى ظَهرَ لهُ قرائنَ صِدْقِهِ، وهوَ دليلٌ على أنهُ لا تسمعُ اليمينُ منْ مدَّعِي الإعسارِ حتَّى تظهرَ قرائنُ إعسارِهِ.

التاسعة: أنَّها لا تجبُ الخطبةُ للعقدِ لأنَّها لم تذكرْ في شيءٍ منْ طرقِ الحديثِ. وتقدَّمَ

(1)

أنَّ الظاهريةَ تقولُ بِوُجُوبِها، وهذَا يردُّ قولَهم، وأنهُ يصحُّ أنْ يكونَ الصَّدَاقُ منفعةً كالتعليمِ فإنهُ منفعةٌ. ويُقَاسُ عليهِ غيرُه، ويدل عليهِ قصةُ موسى

(2)

معَ شعيبٍ. وقدْ ذهبَ إلى جوازِ كونِه منفعةً الهادويةُ

(3)

، وخالفتِ الحنفيةُ

(4)

، وتكلَّفُوا لتأويلِ الحديثِ وادعاء أن التزوبج بغيرِ مهرٍ منْ خواصِّه صلى الله عليه وسلم وهوَ خلافُ الأصلِ.

العاشرةُ: قولُه: بما معكَ منَ القرآنِ، يحتملُ كما قالهُ القاضي

(5)

عياضُ وجهينِ أظهرُهما أن يعلِّمها ما معهُ منَ القرآنِ أوْ قَدْرًا مُعَيَّنًا منهُ ويكونُ ذلكَ صَدَاقًا، وبؤيدُه قولُه في بعضِ طُرُقِهِ الصحيحةِ

(6)

: فَعَلِّمْهَا منَ القرآنِ، وفي بعضِها تعيينُ عشرين آية، ويُحْتَمَلُ أن الباءَ للتعليلِ وأنهُ زَوَّجَهُ بها بغيرِ صَدَاقٍ إكرامًا لهُ لكونِه حافظًا لبعضٍ منَ القرآنِ، ويؤيِّدُ هذا الاحتمالَ قصةُ أمِّ سُلَيْم معَ أبي سُلَيْم وذلكَ "أنهُ خَطَبَها فقالتْ: واللهِ ما مِثْلُكَ يُرَدُّ وَلَكِنَكَ كافرٌ وأنا مسلمة ولا يحلُّ لي أن أتزوَّجَكَ، فإنْ تُسْلِمْ فذلكَ مهرُكَ لا أسألَك غيرَهُ، فأسْلَمَ فكانَ ذلكَ مهرَها"، أخرجَهُ النسائي

(7)

وصحَّحَهُ عن ابن عباسٍ

(8)

وتَرْجَمَ لَهُ النسائي بابُ التَّزْوِيجِ على الإسلامِ.

(1)

أثناء شرح الحديث رقم (6/ 917) من كتابنا هذا.

(2)

في قوله تعالى في سورة القصص: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)} .

(3)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 99).

(4)

انظر: "المبسوط"(5/ 80 - 81).

(5)

انظر: "فتح الباري"(9/ 212).

(6)

انظرها في حديث الباب.

(7)

في "سننه"(6/ 114 رقم 3340، 3341).

وهو حديث صحيح صحَّحه الألباني في "صحيح النسائي"(2/ 702 - 703 رقم 3132، 3133).

(8)

كذا في المخطوط والمطبوع "ابن عباس"، وصوابه كما في "سنن النسائي" و"فتح الباري" (9/ 212):"أنس" رضي الله عنه.

ص: 22

وترجمَ عَلَى حديثِ سهلٍ هذَا بقولِه بابُ التزويجِ عَلَى سورةِ البقرةِ

(1)

، وهذا ترجيحٌ منهُ للاحتمالِ الثاني. والاحتمالُ الأولُ أظْهَرُ كما قالَهُ القاضي لثبوتِ روايةِ: فعلِّمْهَا منَ القرآنِ.

الحادية عشْرة: أن النكاحَ ينعقدُ بلفظِ التمليكِ وهوَ مذهبُ الهادويةِ

(2)

والحنفيةِ

(3)

ولا يخْفَى أنه قد اختلفتِ

(4)

الألفاظُ في الحديثِ فرُوِيَ بالتمليكِ وبالتزويجِ وبالإمكانِ. قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ

(5)

: هذهِ لَفْظَةٌ واحدة في قصةٍ واحدةٍ اختلفتْ معَ اتحادِ مَخْرَجِ الحديثِ، والظاهرُ أن الواقعَ منَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لفظٌ واحدٌ فالمرجعُ في هذَا إلى الترجيحِ، وقدْ نُقِلَ عن الدَّارَقُطْنيّ

(6)

أن الصَّوابَ روايةُ مَن رَوَى قدْ زوَّجْتُكَها وأنَّهم أكثرُ وأحفظُ. وأطالَ المصنفُ رحمه الله في "الفتح"(6) الكلامَ على هذهِ الثلاثةِ الألفاظِ ثمَّ قالَ: فروايةُ التزويج والإنكاحِ أرجحُ، وأما قولُ ابن التينِ (6) إنهُ اجتمعَ أهلُ الحديثِ على أن الصحيح روايةُ زوَّجْتُكَها وأنَّ روايةَ مَلَّكْتُكَهَا وهمٌ فيهِ، [فقالَ]

(7)

المصنفُ: إنَّ ذلكَ مبالغةٌ منهُ.

وقالَ البغويُّ

(8)

: الذي يظهرُ أنهُ كانَ بلفظِ التزويجِ على وِفْقِ قَوْلِ الخاطبِ زوِّجْنِيهَا إذْ هوَ الغالبُ في لفظِ العقودِ، إذْ قلَّمَا يختلفُ فيهِ لفظُ المتعاقدينِ، وقدْ ذهبتِ الهادويةُ

(9)

والحنفيةُ

(10)

وهو المشهورُ عن المالكيةِ

(11)

إلى جوازِ العقدِ بكلِّ لفظ يفيدُ معناهُ إذا قُرِنَ بهِ الصداقُ أو قُصِدَ بهِ النكاحُ كالتمليكِ ونحوِه، ولا يصحُّ بلفظِ العاريةِ والإجارةِ والوصيةِ.

(1)

كذا في المخطوط والمطبوع "سورة البقرة" وصوابه كما في "سنن النَّسَائِي"(6/ 113 باب 62) باب: التزويج على سورة من القرآن. وهو الموافق لما في "الفتح".

(2)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 18).

(3)

انظر: "المبسوط"(5/ 59).

(4)

انظر: "فتح الباري"(9/ 214).

(5)

انظر: "الأحكام شرح عمدة الأحكام"(4/ 216 - بحاشية العدة) و"الفتح"(9/ 214).

(6)

انظر: "فتح الباري"(9/ 214).

(7)

في (ب): "فقد قال".

(8)

ذكره عنه الحافظ في "الفتح"(9/ 214 - 215) وذكر أنه في "شرح السنة": "ولم أقف فيه"، واللَّهُ أعلم.

(9)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 18).

(10)

انظر: "المبسوط"(5/ 59: 62).

(11)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 13) بتحقيقنا.

ص: 23

‌إعلان النكاح وضرب الدف فيه

10/ 921 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهم أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أعْلِنُوا النِّكَاحَ"، رَوَاهُ أحْمَدُ

(1)

وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(2)

. [حسن]

‌ترجمة عامر بن الزبير

(وعنْ عامِرِ بن عبدِ اللَّهِ بن الزبيرِ) عامرٌ تابعي سمعَ أباهُ وغيرَه، ماتَ سنةَ

(3)

أربع وعشرينَ ومائةٍ، (عنْ أبيهِ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أعْلِنُوا النكاحَ. رواهُ أحمدُ وصحَّحَه الحاكمُ). وفي البابِ عنْ عائشةَ: "أعْلِنُوا النكاحَ واضْرِبُوا عليهِ بالغِرْبَالِ" أي الدفِّ، أخرجَهُ الترمذيُّ

(4)

وفي رُوَاتِهِ عِيْسَى بنُ ميمونٍ ضعيفٌ

(5)

كما قَالَهُ الترمذيُّ، وأخرجَهُ ابنُ ماجهْ

(6)

، والبيهقي

(7)

وفي إسناد خالدُ بنُ إلياس

(1)

في "المسند"(4/ 5).

(2)

في "المستدرك"(2/ 183). وأخرجهُ البيهقي (7/ 288)، وابن حبان (1/ 553 رقم 1285 - الموارد) وهو حديث حسن حسَّنه الألباني في "آداب الزفاف"(ص 183 - 184) وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنهما ويأتي أثناء الشرح.

(3)

قال الحافظ في "التقريب"(1/ 388 رقم 53): من الرابعة مات سنة إحدى وعشرين. اهـ

يعني ومئة على حسب قاعدة الحافظ في "التقريب".

(4)

لم أجده بهذا اللفظ في "سنن الترمذي"، وهو فيه باللفظ الذي ساقه الشارح بعد هذا وفيه عيسى بن ميمون.

(5)

قال عبد الرحمن بن مهدي: استعديت عليه وقلت: ما هذه الأحاديث التي تروي عن القاسم عن عائشة؟ فقال: لا أعود. اهـ. وقال البخاري: منكر الحديث، وقال مرة: ضعيف ليس بشيء. وقال الفلاس: متروك، وقال ابن حبان: يروي أحاديث كلها موضوعة، واختلف فيه قول ابن معين، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد، وقال النَّسَائِي: ليس بثقة. انظر: "ميزان الاعتدال"(3/ 325 - 326)، وضعَّفه الحافظ في "التقريب"(2/ 102 رقم 926).

(6)

في "سننه"(1/ 611 رقم 1895).

(7)

في "سننه الكبرى"(7/ 290).

قلت: وأخرجه البيهقي أيضًا (7/ 290) من طريق عيسى بن ميمون المتقدم، ومن طريق خالد أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 265)، وخالد متروك كما في "التقريب"(1/ 211 رقم 11)، والحديث ضعيف، ضعَّفه الألباني في الضعيفة (رقم 978)، وفي "الإرواء"(رقم 1993).

ص: 24

مُنْكَرُ الحديثِ قالَه أحمدُ. وأخرجَ الترمذيُّ

(1)

أيضًا منْ حديثِ عائشةَ وقالَ حَسَنٌ غريبٌ: "أعْلِنُوا هذا النكاحَ واجعلُوه في المساجدِ واضْرِبُوا عليهِ بالدفوفِ، ولْيُولِمْ أحدُكم ولو بشاةٍ، فإذا خطبَ أحدُكمْ امرأةً وقدْ خضَّبَ بالسوادِ فَلْيُعْلِمْها لا يغرُّها".

دلَّتِ الأحاديثُ على الأمرِ بإعلانِ النكاح والإعلانُ خِلافُ الإسْرارِ، وعلَى الأمرِ بضَرْبِ الغِرْبَال وفسَّرهُ بالدفِّ. والأحاديث فيهِ واسعةٌ وإنْ كانَ في كلٍّ منْها مقالٌ إِلَّا أنَّها يعضدُ

(2)

بعضُها بعضًا، ويدلُّ على شرعيةِ ضَرْبِ الدُّفِّ لأنهُ أبلغُ في الإعلانِ منْ عَدَمِهِ، وظاهرُ الأمرِ الوجوبُ ولعلَّه لا قائلَ بهِ فيكونُ مسنُونًا ولكنْ بشرطِ أنْ لا يصْحَبَهُ محرَّمٌ منَ التغني بصوتٍ رخيمٍ منِ امرأةٍ أجنبيةٍ بشعرٍ فيهِ مدحُ القدودِ والخدودِ، بلْ ينظرُ الأسلوبُ العربيُّ الذي كانَ في عصرِه صلى الله عليه وسلم فهوَ المأمورُ بهِ، وأما ما أحْدَثَهُ الناسُ بعدَ ذلكَ فهوَ غيرُ المأمورِ بهِ، ولا كلامَ أنهُ في هذهِ الأعْصَارِ يَقْتِرنُ بمُحَرَّمَاتٍ كثيرةٍ فيحْرُمُ لذلكَ لا لِنَفْسِهِ.

‌اشتراط الولي في النكاح

11/ 922 - وَعَنْ أبي بُرْدَةَ بن أَبي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلي"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(3)

وَالأرْبَعَةُ

(4)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْمَدِينِي وَالتِّرْمِذِيُّ

(5)

، وابْن حِبَّانَ

(6)

. وَأُعِلَّ بِالإرْسَالِ. [صحيح بشواهده]

(1)

في "سننه"(3/ 398 رقم 1089).

(2)

ويغني عنها ما أخرجه البخاري (5147) من حديث الرُّبيِّع بنت معوذ قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُنِيَ عليَّ فجلس على فراشي كمجلسكَ مني (تحدِّث الراوي عنها خالد بن ذكوان) فجعلت جوبريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين.

(3)

في "المسند"(4/ 394، 413).

(4)

أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881).

(5)

لم أقف على تصحيح الترمذي في النسخة التي بين أيدينا من السنن.

(6)

في "صحيحه"(ص 304 رقم 1243 - الموارد).

قلت: وأخرجه الحاكم (2/ 170)، والدارمي (2/ 137)، وابن الجارود (701: 704)، والبيهقي (7/ 107)، وأبو يعلى في مسنده (13/ 195 رقم 7/ 7227)، وهو حديث صحيح=

ص: 25

-[وَرَوى الإمَامُ أَحْمَدُ

(1)

عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ مَرْفُوعًا: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَليٍّ وَشَاهِدَيْنِ]

(2)

. [صحيح بشواهده]

(وعنْ أبي بُردةَ بن أبي موسَى عنْ أَبيهِ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا نِكَاحَ إلَّا بوليٍّ. رواهُ أحمدُ والأربعة، وصحَّحَه ابن المديني والترمذيُّ وابنِ حِبَّانَ وأَعلَّهُ بالإرسال). قالَ ابنُ كثيرٍ: قدْ أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ وابنُ ماجهْ وغيرُهم منْ حديثِ إسرائيلَ وأبي عُوَانَة وشريكٍ القاضي وقيسِ بن الربيعِ ويونسَ بن أبي إسحاقَ وزهيرِ بن معاويةَ كلُّهم عنْ أبي إسحاقَ، كذلكَ قالَ الترمذيُّ

(3)

. ورواهُ شُعْبةُ والثَّوْرِيُّ عنْ أبي إسحاقَ مرسلًا قالَ: والأولُ عندي أصحُّ، هكَذَا صحَّحَهُ عبدُ الرحمنِ بنُ مهدي فيما حكاهُ ابنُ خزيمةَ عنْ أبي المثنَّى عنهُ.

وقالَ عليُّ بنُ المديني

(4)

: حديثُ إسرائيلَ في النكاح صحيحٌ، وكَذَا صحَّحَهُ البيهقيُّ وغيرُ واحدٍ منَ الحفاظِ، قالَ: ورواهُ أبو يعلى الموصليِّ في مسندِه

(5)

عنْ جابرٍ مَرْفُوعًا، قالَ الحافظُ الضِّياءُ: بإسنادٍ رجالُه كلُّهم ثِقَاتٌ.

قلتُ: ويأتي

(6)

حديثُ أبي هريرةَ: "لا تُزَوِّجُ المرأةُ المرأةَ، ولا تُزَوِّجُ المرأةُ نفسَها"، وحديثُ

(7)

عائشةَ: "إن النكاحَ [بغير]

(8)

وليٍّ باطلٌ". قالَ الحاكمُ

(9)

: وقدْ

= صحَّحه الألباني بمجموع شواهده كما في "الإرواء"(6/ 235 رقم 1839).

(1)

لم أجده في "المسند" ولا في "أطراف المسند المعتلي بأطراف المسندَ الحنبلي" للحافظ ابن حجر، وقد ذكره الهيثمي في "المجمع" (4/ 286 - 287) وقال: رواه الطبراني وفيه عبد اللَّهِ بن محرز وهو متروك. اهـ. وقد أخرجه البيهقي (7/ 125)، وصحّحه الألباني لشواهده كما "الإرواء"(6/ 261 رقم 1860).

(2)

زيادة من المطبوع.

(3)

في "سننه"(3/ 408 - 409).

(4)

انظر: "سنن البيهقي الكبرى"(7/ 108).

(5)

(4/ 72 رقم 2094) بلفظ: "لا تنكح النساء إلا من الأكْفاء، ولا يزوِّجهم إلا الأولياء، ولا مهر دون عشرة دراهم"، وأخرجه الدارقطني (3/ 244 - 245)، والبيهقي (7/ 133). وقال الهيثمي في "المجمع" (4/ 285): وفيه مبشر بن عبيد وهو متروك. اهـ.

وقال أيضًا (4/ 286): وعن جابر قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، رواه الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن عبد الملك عن أبي الزبير، فإن كان هو الواسطي الكبير فهو ثقة، وإلا فلم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. اهـ.

(6)

برقم (15/ 926) من كتابنا هذا.

(7)

وهو الحديث الآتي بعد هذا.

(8)

في (ب): "من غير".

(9)

في "المستدرك"(2/ 172).

ص: 26

صحَّتِ الروايةُ فيهِ عنْ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عائشةَ وأمِّ سلمةَ وزينبَ بنتِ جحشٍ، [قال]

(1)

: وفي البابِ عنْ عليٍّ وابنِ عباسٍ، ثمَّ سردَ ثلاثينَ صحابيًا

(2)

. والحديثُ دلَّ على أنهُ لا يصحُّ النكاحُ إلا بوليٍّ لأنَّ الأصْلَ في النفي

(3)

نفيُ الصِّحَّةِ لا [نفي]

(4)

الكمالِ، والوليُّ هوَ الأقربُ إلى المرأةِ منْ عُصْبَتِهَا دونَ ذوي أرحامِها. [واختلفَ]

(5)

العلماءُ في اشتراطِ الوليِّ في النكاحِ، فالجمهورُ

(6)

على اشتراطِهِ، وأنَّها لا تُزَوِّجُ المرأةُ نفسَها. وحُكِيَ عن ابن المنذرِ (6) أنهُ لا يُعْرَفُ عنْ أحدٍ منَ الصحابةِ خلافُ ذلكَ وعليهِ دلَّتِ الأحاديثُ. وقالَ مالكٌ

(7)

: يُشْتَرَطُ في حقِّ الشريفةِ لا الوضيعةِ، فَلَهَا أنْ تُزَوِّجَ نَفْسَها. وذهبتِ الحنفيةُ

(8)

إلى أنهُ لا يُشْتَرَطُ مُطْلَقًا مُحْتَجِّينَ بالقياسِ على البيعِ فإنَّها تستقل ببيع لسِلْعَتهَا؛ وهوَ قياس فاسدُ

(9)

(1)

زيادة من (ب).

(2)

الذي في المستدرك ثلاثة عشر صحابيًا فقط وهم: علي بن أبي طالب وعبد اللَّهِ بن عباس ومعاذ بن جبل وعبد اللهِ بن عمر وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد اللهِ وأبو هريرة وعمران بن حصين وعبد اللهِ بن عمرو والمسور بن مخرمة وأنس بن مالك رضي الله عنهم. ثم قال: وأكثرها صحيحة.

(3)

قال الحافظ في "الفتح"(9/ 184): في الاستدلال بهذه الصيغة [يعني لا نكاح إلا بولي] في منع النكاح بغير ولي نظر لأنها تحتاج إلى تقدير: فمن قدَّره نفي الصحة استقام له، ومن قدَّره نفي الكمالُ عُكِّرَ عليه فيحتاج إلى تأييد الاحتمال الأول بالأدلة المذكورة في الباب وما بعده. اهـ. يعني الباب رقم (36) من كتاب النكاح.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في (أ)"واختلفت".

(6)

انظر: "فتح الباري"(9/ 187).

(7)

في رواية ابن القاسم عنه كما بيَّن ذلك صاحب "بداية المجتهد"(3/ 20 - 21) بتحقيقنا، وفي رواية أشهب عنه أنه لا يكون نكاح إلا بولي وأنها شرط في الصحة.

(8)

انظر: "المبسوط"(5/ 10).

(9)

قال الحافظ في "الفتح"(9/ 187): وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يشترط الولي أصلًا ويجوز أن تزوج نفسها ولو بغير إذن وليها إذا تزوجت كفؤًا، واحتج بالقياس على البيع فإنها تستقل به، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة وخص بهذا القياس عمومها وهو عمل سائغ في الأصول وهو جواز تخصيص العموم بالقياس، لكن حديث معقل المذكور رفع هذا القياس. اهـ.

وحديث معقل هو ما أخرجه البخاري (5130)، عن الحسن قال: فلا تعضلوهن (يعني الآية رقم 232 من سورة البقرة) قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه قال: زوَّجت أختًا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك =

ص: 27

الاعتبارِ إذْ هوَ قياسٌ معَ نصٍّ. ويأتي الكلامُ في ذلكَ مُسْتَوْفَى في شرحِ

(1)

حديثِ أبي هريرةَ: "لا تزوِّجُ المرأةُ المرأة - الحديثَ". وقالتِ الظاهريةُ

(2)

: يعتبرُ الوليُّ في حقِّ البكرِ لحديثِ: "الثِّيبُ أَوْلَى بِنَفْسِها" وسيأتي

(3)

. ويأتي أن المرادَ منهُ اعتبارُ رِضَاها جمعًا بينَه وبينَ أحاديثِ اعتبارِ الوليِّ. وقالَ أبو ثورٍ

(4)

: للمرأةِ أنْ تُنْكِحَ نفسَها بِإِذْنِ وليِّها لمفهومِ الحديثِ الآتي:

12/ 923 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطلٌ، فَإنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَليُّ مَنْ لَا وَليَّ لَهُ"، أخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ

(5)

إلَّا النَّسَائِيَّ، وصَحّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبّانَ

(6)

وَالْحَاكِمُ

(7)

. [صحيح]

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّمَا امرأةٍ نكحتْ بغيرِ إِذْنِ وليِّها

= وأكرمتك فطلَّقتها ثم جئت تخطبها؟ لا واللَّه لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} ، فقلت: الآن أفعل يا رسول اللَّهِ، قال: فزوِّجها إياه. ويأتي أثناء شرح الحديث رقم (15/ 926) من كتابنا هذا.

(1)

وهو الحديث رقم (15/ 926) من كتابنا هذا.

(2)

انظر: "المحلَّى"(9/ 455، 457).

(3)

برقم (14/ 925) من كتابنا هذا.

(4)

انظر: "فتح الباري"(9/ 187)، وقال: وتعقِّب بأن إذن الولي لا يصح إلا لمن ينوب عنه والمرأة لا تنوب عنه في ذلك لأن الحق لها، ولو أذن لها في إنكاح نفسها صارت كمن أذن لها في البيع من نفسها ولا يصح. اهـ.

(5)

أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879).

(6)

في "صحيحه"(ص 305 رقم 1247 - الموارد).

(7)

في "المستدرك"(2/ 168).

قلت: وأخرجه ابن الجارود (رقم 700)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 7)، والدارقطني (3/ 221 رقم 10)، والبيهقي (7/ 105)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 88)، والطيالسي (ص 206 رقم 1463)، وأحمد (6/ 47، 165)، والدارمي (2/ 137)، والشافعي (2/ 11 - ترتيب المسند)، وعبد الرزاق (6/ 195 رقم 10472)، والحميدي (1/ 112 رقم 228)، وابن أبي شيبة (4/ 128)، والبغوي في "شرح السنة"(9/ 439) وغيرهم وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة، وهو حديث صحيح صححه الألباني في "الإرواء"(6/ 243 رقم 1840) وقد بسط الكلام عليه البيهقي في السنن (7/ 105، 107) والحافظ في "التلخيص"(3/ 156، 157).

ص: 28

فنكاحُها باطلٌ، فإنْ دخلَ بها فلها المهرُ بما استحلَّ منْ فَرْجِها، فإنْ اشْتَجَرُوا فالسلطانُ وليُّ مَنْ لا وليَّ لها. أخرجَهُ الأربعةُ إلَّا النسائيَّ وصحَّحَهُ أبو عُوَانَةَ وابنُ حِبَّانَ والحاكمُ)، قالَ ابنُ كثيرٍ: وصحَّحَهُ يحيَى بنُ معينٍ وغيرُه منَ الحفَّاظِ. قالَ أبو ثورٍ [قولُه]

(1)

: "بغيرِ إذْنِ وَلِيِّها" يُفْهَمُ منهُ أنهُ إذا أَذِنَ لها جازَ أنْ تعقدَ لِنَفْسِها، وأجيبَ

(2)

بأنهُ مفهومٌ لا يقْوى على معارضةِ المنطوقِ باشتراطِه. واعلمْ أنها طعنت الحنفيةُ

(3)

في هذا الحديثِ بأنهُ رواهُ سليمانُ بنُ موسى عن الزُّهْرِيِّ، وسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عنْهُ فلمْ يَعْرِفْهُ، والذي رَوَى هذا القَدْحَ هو إسماعيلُ بنُ عليةَ القاضي عن ابن جريج الراوي عنْ سليمانَ أنهُ سألَ الزُّهْرِيَّ عنهُ أي عن هذا الحديثِ فلم يعرفْه، وأُجِيْبَ

(4)

عنهُ بأنهُ لا يلزمُ منْ نسيانِ الزُّهْرِي لهُ أنْ يكونَ سليمانُ بنُ موسى وَهِمَ عليهِ لا سيَّما وقدْ أثْنَى الزُّهْرِيُّ على سليمانَ بن موسى. وقدْ طالَ كلامُ العلماءِ على هذا الحديثِ واستوفَاهُ البيهقيُّ في "السُّننِ الكبرى"

(5)

، وقدْ عاضَدَتْهُ أحاديثُ اعتبارِ الوليِّ وغيرُها مما يأتي

(6)

في شرحِ حديثِ أبي هريرةَ.

وفي الحديثِ دليلٌ على اعتبارِ إذْنِ الوليّ في النكاحِ وهو بعقدِه لها أوْ عقدِ وكيلِهِ، وظاهرُه أن المرأةَ تستحقُّ المهْرَ بالدخولِ وإنْ كانَ النكاحُ باطلًا لقولِه صلى الله عليه وسلم:"فإنْ دخلَ بها فَلَهَا المهرُ بما اسْتَحَلَّ منْ فَرْجِهَا"، وفيهِ دليل على أنهُ إذا اختلَّ ركنٌ منْ أركانِ النكاحِ فهوَ باطلٌ معَ العلمِ والجهلِ، وأنَّ النكاحَ يُسَمَّى باطلًا وصحيحًا ولا واسطةَ.

وقد أثبتَ الواسطةَ الهادويةُ

(7)

وجعلُوها العقدَ الفاسدَ قالُوا: وهوَ ما خالفَ مذهبَ الزوجينِ أو أحدَهما جاهِلينَ ولم تكنِ المخالفةُ في أمرٍ مُجْمَع عليهِ وتُرَتَّبُ عليهِ أحكامٌ مبينةٌ في الفروعِ. والضمير في قولِه: "فإنِ اشْتَجَرُوا" عائدٌ إلى الأولياءِ الدالِّ عليهمْ ذِكْرُ الوليِّ والسياقُ، والمرادُ بالاشتجارِ مَنْعُ الأولياءِ منَ العقدِ عليها، وهذَا هوَ العضْلُ وبهِ تنتقلُ الولايةُ إلى السلطانِ إنْ عضلَ الأقربُ، وقيلَ بلْ تنتقلُ إلى الأبعدِ وانتقالُها إلى السلطانِ مبنيٌّ على مَنْعِ الأقربِ والأبعدِ وهوَ

(1)

في (ب) فقولُه.

(2)

نقلنا رد الحافظ عليه أثناء شرح الحديث السابق.

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار"(3/ 8).

(4)

انظر: "التلخيص الحبير"(3/ 157).

(5)

(7/ 105: 107).

(6)

برقم (15/ 926) من كتابنا هذا.

(7)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 29).

ص: 29

مُحْتَمَلٌ، ودلَّ على أن السلطانَ وليُّ مَنْ لا وليَّ لها لِعَدَمِهِ أو لِمَنْعِهِ، ومثْلُهُما غيبةُ الوليِّ. ويؤيدُ حديثَ البابِ ما أخرجَهُ الطبرانيُّ

(1)

منْ حديثِ ابن عباسٍ مرفوعًا: "لا نكاحَ إلَّا بوليٍّ، والسلطانُ وليُّ مَنْ لا وليَّ لهُ"، وإنْ كانَ فيهِ الحجاجُ بنُ أرطأةَ فقدْ أخرجَهُ سفيانُ في جامِعِهِ

(2)

ومنْ طريقِه الطبراني في "الأوسط" بإسنادٍ حسنٍ عن ابن عباسٍ بلفظِ: "لا نِكَاحَ إلَّا بوليٍّ مرسل أو سلطانٍ". ثمَّ المرادُ بالسلطانِ مَنْ إليهِ الأمرُ جائرًا كانَ أوْ عادلًا لعمومِ الأحاديثِ

(3)

القاضيةِ بالأمرِ لطاعةِ السلطانِ جائرًا أو عادلًا، وقيلَ: بلِ المرادُ بهِ العادلُ المتولِّي لمصالحِ العبادِ لا سلاطينُ الجَورِ فإنَّهم ليسُوا بأهل لذلكَ.

‌إذن البكر واستئمار الثيِّب

13/ 924 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حتى تُسْتَأمَرَ، ولا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتى تُسْتَأْذَنَ"، قالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ:"أنْ تَسْكُتَ"، مُتَّفَق عَلَيْهِ

(4)

. [صحيح]

(وعنْ أَبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تُنْكَحُ) مغيَّرُ الصيغةِ مجزومًا ومرفُوعًا ومثلُه الذي بعدَه (الأيِّمُ) التي فارقتْ زوجَها بطلاقٍ أو موتٍ

(5)

(حتى

(1)

ذكره الهيثمي في "المجمع"(4/ 286)، فقال: رواه الطبراني وفيه الحجاج بن أرطأة وهو مدلس وبقية رجاله ثقات. اهـ. وذكره بقريب من لفظه ثم قال (4/ 285): رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه يعقوب غير مسمَّى فإن كان هو التوأم فقد وثقه ابن حبان وضعَّفه ابن معين، وإن كان غيره فلم أعرفه وبقية رجاله ثقات. اهـ.

(2)

ذكره الحافظ في "الفتح"(9/ 191) وحسَّن إسناده.

(3)

من ذلك ما أخرجه البخاري (2957)، ومسلم (1835)، من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"من أطاعني فقد أطاع اللَّهُ، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني".

(4)

البخاري (5136)، وطرفاه في (6968، 6970)، ومسلم (1419).

وأخرجه أبو داود (2092)، والترمذي (1107)، والنسائي (6/ 85)، وابن ماجه (1871)، وأحمد (2/ 250، 279، 425، 434، 475)، والدارمي (2/ 138)، والبيهقي (7/ 119)، وابن الجارود (707)، والدارقطني (3/ 238) وغيرهم.

(5)

هذا المعنى هو ظاهر الحديث كما بيَّنه الحافظ (9/ 192) لمقابلته بالبكر، ونقل عن=

ص: 30

تُسْتَأْمَرَ) منَ الاسْتِئْمَارِ طلبُ الأمرِ (ولا تنكحُ البكرُ حتَّى تُسْتَأدنَ، قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ وكيفَ إِذْنُها؟ قالَ: أنْ تسكتَ. متفقٌ عليهِ)، فيهِ أنهُ لا بدَّ منْ طلبِ الأمرِ منَ الثيبِ (وأمرُها)

(1)

، فلا يعقدُ عليها حتَّى يَطْلُبَ الوليُّ الأمرَ منْها بالإذْنِ بالعقدْ. والمرادُ منْ ذلكَ اعتبارُ رِضَاها وهوَ معنَى أحقِّيّتِها بِنَفْسِها منْ وليِّها في الأحادِيثِ. وقولُه:"والبكرُ" أرادَ بها البكرُ البالغةُ، وعبَّرَ هنا بالاستئذانِ، وعبَّرَ في الثيب بالاستئمارِ إشارةً إلى الفرقِ بينَهما وأنهُ متأكَّدٌ مشاورةُ الثيبِ ويحتاجُ الولي إلى صَرِيحِ القَوْلِ بالإذْنِ منْها في العقدِ عليها، والإذنُ منَ البِكْرِ دائرٌ بينَ القولِ والسكوتِ، بخلافِ الأمرِ فإنهُ صريحٌ في القَوْلِ، وإنَّما اكْتُفِيَ منْها بالسكوتِ لأنَّها قدْ تَسْتَحِي منَ التَّصْرِيحِ. وقدْ وردَ في روايةٍ أن عائشةَ قالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ البكرَ تستحي، قالَ:"رِضَاهَا صِمَاتُها" أخرجَهُ الشيخانِ

(2)

. ولكنْ قالَ ابنُ المنذرِ

(3)

: يُسْتَحَبُّ أنْ يعلمَ أن سكوتَها رضًا. وقالَ سفيانُ

(4)

: يُقَالُ لها ثلاثًا إنْ رضيتِ فاسكُتي وإنْ كرهتِ فانطقي، فأمَّا إذا لم تنطقْ ولكنَّها بَكَتْ عندَ ذلكَ فقيلَ لا يكونُ سكوتُها رِضًا معَ ذلكَ، وقيلَ لا أثرَ لبكائِها في المنعِ إلَّا أنْ يقترنَ بصياحٍ ونحوه، وقيلَ يعتبرُ الدمعُ هلْ هوَ حارٌّ فهوَ يدلُّ على المنعِ أو باردٌ فهوَ يدلّ على الرِّضَا، والأَوْلَى أنْ يُرْجَعَ إلى القرائِنِ فإنَّها لا تخفَى. وَالْحَديثُ عامٌّ للأولياءِ منَ الأبِ وغيرِه في أنهُ لا بدَّ منْ إذنِ البكرِ البالغةِ وإليهِ ذهبَ الهادويةُ

(5)

والحنفيةُ

(6)

وآخرونَ عملًا بعمومِ الحديثِ هُنَا وبالخاصِّ الذي أخرجَهُ مسلمٌ

(7)

بلفظِ: "والبكرُ

= عياض عن إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما أنه يطلق على كل من لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة، بكرًا كانت أو ثيبًا، قال: وحكى الماوردي القولين لأهل اللغة.

(1)

كما في المخطوط (أ)(ب)(ج) والأولى حذفها ليستقيم المعنى.

(2)

البخاري (5137)، وطرفاه في (6946، 6971)، ومسلم (1420)، وأخرجه النَّسَائِي (6/ 85 - 86)، وأحمد (6/ 45، 165، 203)، وابن الجارود (708)، والبيهقي (7/ 119) وغيرهم.

(3)

انظر: "فتح الباري"(9/ 192 - 193) وعبارته: "قال ابن المنذر: يُستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن" اهـ.

(4)

كذا في المخطوط والمطبوع "سفيان"، أما الذي في "الفتح" (9/ 193):"ابن شعبان منهم" أي من المالكية.

(5)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 28).

(6)

انظر: "المبسوط"(5/ 2).

(7)

في "صحيحه"(68/ 1421) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو رواية من روايات الحديث الآتي.

ص: 31

يستأذنُها أبوها"، ويأتي الخلافُ في ذلكَ واستيفاءُ الكلامِ عليهِ في شرحِ الحديثِ الآتي:

‌الثيب أحق بنفسها

14/ 925 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قالَ: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأمَرُ، وَإذْنُهَا سُكُوتُهَا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

وَفِي لَفْظٍ: "لَيسَ لِلْوَليِّ مَعَ الثَّيبِ أَمْرٌ، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

والنَّسَائيُّ

(3)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(4)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الثَّيِّبُ أحقُّ بنفسِها منْ وليِّها والبكرُ تُسْتَأْمرُ وإذْنُهَا سُكُوتُها. رواهُ مسلمٌ، وفي لفظٍ) أي منْ روايةِ ابن عباسٍ: (ليسَ للوليِّ معَ الثيبِ أمرٌ، واليتيمة تُسْتَأْمرُ. رواهُ أبو داودَ والنسائي وصحَّحَه ابنُ حِبَّانَ). تقدَّمَ

(5)

الكلامُ على أن المرادَ بأحقِّيَّةِ الثيبِ بِنَفْسِهَا اعتبارُ رِضَاها كما تقدَّمَ (5) عَلَى استئمارِ البكرِ، وقولُه:"ليسَ للوليِّ معَ الثيّبِ أمرٌ"، أي إنْ لم ترضَ

(6)

لما سلفَ منَ الدليلِ على اعتبارِ رِضَاهَا وعلى أن العقدَ إلى الولي، وأما قولُه:"واليتيمةُ تُسْتَأْمَرُ"، فاليتيمةُ في الشرعِ: الصغيرةُ التي لا أبَ لها، وهوَ دليل للنَّاصِرِ

(7)

(1)

في "صحيحه"(1421).

قلت: وأخرجه أحمد (1/ 241 - 242، 345)، وأبو داود (2098)، والترمذي (1108)، والنسائي (84)، وابن ماجه (1870)، والدارمي (2/ 138)، والبيهقي (7/ 115)، وابن الجارود (709)، وعبد الرزاق (6/ 142 رقم 10282، 10283)، والطحاوي (4/ 366)، وسعيد بن منصور (1/ 155 رقم 556)، والدارقطني (3/ 238 - 239)، والبغوي (9/ 30)، ومالك (2/ 524 رقم 4)، والحميدي (1/ 239 رقم 517)، والذهبي في "تذكرة الحفاظ"(2/ 706) وغيرهم.

(2)

في "سننه"(2100).

(3)

في "سننه"(6/ 84).

(4)

في "صحيحه"(1/ 536 رقم 1241 - الموارد).

(5)

في شرح الحديث السابق.

(6)

في المخطوط بالتحتانية وما أثبتناه من المطبوع.

(7)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 29).

ص: 32

والشافعيِّ

(1)

في أنهُ لا يُزَوِّجُ الصغيرةَ إلَّا الأبُ؛ لأنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: تستأمرُ اليتيمةُ ولا استئمارَ إلَّا بعدَ البلوغِ إذْ لا فائِدَةَ لاستئمارِ الصَّغيرةِ. وذهبتِ الهادوية

(2)

والحنفيةُ

(3)

إلى أنهُ يجوزُ أنْ يزوِّجَها الأولياءُ مُسْتَدِلّيْنَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}

(4)

الآيةُ وما ذُكِرَ في سَبَبِ نزولها

(5)

في أنهُ يكونُ في حِجْرِ الولي يتيمةٌ ليسَ لهُ رغبةً في نِكَاحِهَا وإنَّما يَرْغَبُ في مالِها فيتزوَّجَها لِذَلِكَ فَنُهُوا، وليسَ بصريحٍ في أنْ ينكحَها صغيرةً لاحْتمالِ أنهُ يمنعُها الأزواجَ حتَّى تبلغَ ثمَّ يتزوَّجها قالُوا: ولها بعدَ البلوغِ الخيارُ قياسًا على الأَمَةِ فإنَّها تُخَيَّرُ إذا أعتقَت وهي مزوَّجة، والجامع حدوث ملك التصرفِ ولا يَخْفَى ضعفُ هذَا القولِ وما تفرع منهُ منْ جوازِ الفسْخِ وضعفِ القياسِ، ولهذَا قالَ أبو يوسفَ

(6)

: لا خيارَ لها معَ قولِه بجوازِ تزويجِ غيرِ الأبِ لها كأنهُ لم يقلْ بالخيارِ لضعفِ القياسِ، فالأرجحُ ما ذهبَ إليهِ الشافعيُّ.

‌اشتراط الولي

15/ 926 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأةُ المرأةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَها"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ

(7)

وَالدَّارَقُطْنِي

(8)

وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا تُزَوِّجُ المرأةُ المرأةَ، ولا تُزَوِّجُ المرأة نفسَها. رواهُ ابن ماجه والدارقطني ورجالُه ثقاتٌ). فيهِ دليلٌ على أن

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 197).

(2)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 29).

(3)

انظر: المبسوط (4/ 213 - 214).

(4)

سورة النساء: الآية 3.

(5)

أخرجه البخاري (5092) وفيه أن عروة سأل عائشة رضي الله عنها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن

الحديث. وأخرجه مسلم (4/ 2313 رقم 3018)، وأبو داود (2/ 555 رقم 2068).

(6)

انظر: "المبسوط"(4/ 215).

(7)

في "سننه"(1882).

(8)

في "سننه"(3/ 227 رقم 25: 27). وأخرجه البيهقي (7/ 110)، وهو حديث صحيح صحَّحه الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 248 رقم 1841).

ص: 33

المرأةَ ليسَ لها ولايةٌ في الإنكاحِ لنفسِها ولا لغيرِها، فلا عبارَة لها في النكاحِ إيجابًا ولا قبولًا فلا تُزَوِّجُ نفسَها بإِذنِ الوليِّ ولا غيرِه، ولا تُزَوِّجُ غيرَها بولايةٍ ولا بوكالةٍ، ولا تَقْبلُ النكاحَ بولايةٍ ولا وكالةٍ وهوَ قولُ الجمهورِ

(1)

. وذهبَ أبو حنيفةَ

(2)

إلى تزويجِ البالغةِ العاقلةِ نفسَها وابنتَها الصغيرةَ وتتوكلُ عن الغيرِ لكنْ لو وضعتْ نفسَها عندَ غيرِ كُفْءٍ، فَلأوْليَائِها الاعتراضُ. وقالَ مالكٌ: تُزَوِّجُ الدنيَّةُ نفسَها دونَ الشريفةِ كما تقدَّمَ

(3)

. واستدلَّ الجمهورُ بالحديثِ وبقولِه تعالَى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}

(4)

، قَالَ الشافعيُّ

(5)

رحمه الله: هي أصرحُ آيةٍ في اعتبارِ الوليِّ وإلَّا لَمَا كانَ لَعَضلِهِ معنَى. وسببُ نُزُولها في معقلِ بن يسارٍ زوَّجَ أُخْتَه فطلَّقها زوجُها طلقةً رجعيةً وتركَها حتَّى انقضتْ عدَّتُها ورامَ رجعتَها فحلفَ أنْ لا يزوِّجَها، قالَ: ففيَّ نزلتْ هذهِ الآيةُ. رواهُ البخاريُّ

(6)

، زادَ أبو داودَ

(7)

: فكفَّرتُ عنْ يميني وأنكحتُها إياهُ. فلوْ كانَ لها تزويجُ نفسِها لم يُعَاتَبْ أخاها على الامتناعِ ولكانَ نزولُ الآيةِ لبيانِ أنَّها تُزَوِّجُ نفسَها. وبسببِ نزولِ الآيةِ يُعْرَفُ ضعفُ قولِ الرازي

(8)

إنَّ الضميرَ للأزواجِ، وضعفُ قولِ صاحبِ "نهاية المجتهدِ"

(9)

: إنهُ ليسَ في الآيةِ إلا نَهْيُهُمْ عن العضلِ ولا يُفْهَمُ منهُ اشتراطُ إِذْنِهِمْ في صحةِ العقدِ لا حقيقةً ولا مجازًا، بلْ قدْ يُفْهَمُ منهُ ضدُّ هذا وهوَ أن الأولياءَ ليسَ لهم سبيلٌ على مَنْ يلونَهم اهـ. ويُقَالُ عليهِ: قدْ فهمَ السلفُ شرطَ إِذْنِهِمْ في عصرِه صلى الله عليه وسلم وبادرَ منْ نزلتْ فيهِ إلى التكفيرِ عنْ يمينِهِ والعقدِ، ولوْ كانَ لا سبيلَ للأولياءِ لأبانه تعالَى غايةَ البيانِ، بلْ كرَّرَ تعالى كونَ الأمرِ إلى الأولياءِ في عِدَّةِ آياتٍ ولمْ يأتِ حرفٌ واحدٌ أن للمرأةِ إنكاحُ نفسِها، ودلَّتْ أيضًا على أن نِسبةَ النكاحِ إليهنَّ في الآياتِ

(1)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 26) بتحقيقنا.

(2)

انظر: "المبسوط"(5/ 10).

(3)

أثناء شرح الحديث رقم (11/ 922) من كتابنا هذا.

(4)

سورة البقرة: الآية 232.

(5)

انظر: "فتح الباري"(9/ 187).

(6)

في "صحيحه"(5130).

(7)

في "سننه"(2087). وأخرجه الترمذي (2981)، والبيهقي (7/ 104).

(8)

انظر: "التفسير الكبير" له (6/ 112).

(9)

"بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(3/ 22 - 23) بتحقيقنا.

ص: 34

مثل: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}

(1)

مرادٌ بهِ الإنكاحُ بعقدِ الوليِّ، إذْ لوْ فَهِمَ صلى الله عليه وسلم أنَّها تُنْكِحُ نفسَها لأمَرَهَا بَعدَ نزولِ الآيةِ بذلكَ ولأبانَ لأخِيهَا أنهُ لا ولايةَ لهُ ولم يبحْ له الحنْث في يمينِه والتكفير. ويدلُّ لاشتراطِ الوليِّ ما أخرجَهُ البخاريُّ

(2)

وأبو داود

(3)

منْ حديثِ عروةَ عنْ عائشةَ أنَّها أخبرتْهُ أن النكاح في الجاهليةِ [كانَ]

(4)

علَى أربعةِ أنحاءٍ منْها نكاحُ الناسِ اليومَ، يخطبُ الرجلُ إلى الرجلِ وَليّتَهُ أو ابنتَهُ فيصدقُها ثمَّ ينكحُها، ثمَّ قالتْ في آخرِه: فلما بُعِثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالحقِّ هدمَ نِكَاحَ الجاهليةِ كلَّه إلَّا نكاحَ الناسِ اليومَ، فهذَا دالٌّ [على]

(5)

أنهُ صلى الله عليه وسلم قَرَّرَ ذلكَ النكاحَ المعتبرُ فيهِ الوليُّ، وزادَه تأكيدًا بما قدْ سمعتَ منَ الأحاديثِ، ويدلُّ إنكاحُه

(6)

صلى الله عليه وسلم لأمِّ سلمةَ وقولُها: إنهُ ليسَ أحدٌ منْ أوليائِها حاضرًا ولمْ يقلْ [صلى الله عليه وسلم] أَنْكِحِي أنتِ نفسَك معَ أنهُ مقامُ البيانِ، ويدلُّ لهُ قولُه تعالَى:{وَلَا تُنكِحُوا المُشْرِكَاتَ}

(7)

فإنهُ خطابٌ للأولياءِ بأنْ لا يُنْكِحُوا المسلماتِ المشركينَ، ولو فُرضَ أنهُ يجوزُ لها إنكاحُ نفسِها لما كانتِ الآيةُ دالة على تحريمِ ذلكَ عليهنَّ لأنَّ القائلَ بأنَّها تُنْكِحُ

(1)

سورة البقرة: الآية 230.

(2)

في "صحيحه"(5127).

(3)

في "سننه"(2272).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

أخرجه النَّسَائِي (3254)، وأحمد (6/ 295، 313، 314، 317، 318)، وابن الجارود (706)، والحاكم (4/ 16 - 17)، والبيهقي (7/ 131)، من طريق حماد بن سلمة ثنا ثابت عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة. قال الحاكم: صحيح الإسناد فإن ابن عمر بن أبي سلمة الذي لم يسمِّه حماد بن سلمة سمَّاه غيره سعيد بن عمر بن أبي سلمة. ووافقه الذهبي.

قلت: لا، وابن عمر بن أبي سلمة قال الذهبي نفسه:"لا يعرف" وقد اختلف على ثابت فيه، فأخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (3/ 11 - 12) من طريق حماد بن سلمة وسليمان بن المغيرة قالَا: ثنا ثابت عن عمر بن أبي سلمة عن أم سلمة فسقط ذكر "ابن عمر بن أبي سلمة".

وتابعهما جعفر بن سليمان عن ثابت قال: حدثني عمر بن أبي سلمة، أخرجه أحمد (6/ 314)، حدثنا عفان ثنا جعفر وقد رجح أبو حاتم وأبو زرعة - كما في "العلل" (1/ 405) - رواية من زاد فيه:"ابن عمر بن أبي سلمة".

والخلاصة: أن الحديث ضعيف. انظر: "إرواء الغليل"(6/ 220 - 221).

(7)

سورة البقرة: الآية 221.

ص: 35

نفسَها يقولُ بأنهُ يُنْكِحُها وليُّها أيضًا فيلزمُ أن الآيةَ لم تفِ بالدلالةِ على تحريمِ إنكاحِ المشركينَ للمسلماتِ لأنَّها إنَّما دلَّتْ على نَهْي الأولياءِ عنْ إنكاحِ المشركينَ لا على نَهْي المسلماتِ أنْ يُنْكِحْنَ أنفسَهنَّ منْهم. وقدْ عُلِمَ تحريمُ نكاحِ المشركينَ المسلماتِ فالأمرُ للأولياءِ دالٌّ على أنهُ ليسَ للمرأةِ ولايةٌ في النكاحِ.

ولقدْ تكلَّمَ صاحبُ "نهاية المجتهدِ" على الآيةِ بكلامٍ في غايةِ السُّقوطِ فقالَ

(1)

: الآيةُ مترددةٌ بينَ أنْ تكونَ خطابًا للأولياءِ أوْ لأُولي الأمرِ، ثمَّ قالَ: فإنْ قيلَ هوَ عام والعامُّ يشملُ أُولي الأمرِ والأولياء، قيل: هذَا الخطابُ إنَّما هوَ خطابٌ بالمنعِ، والمنعُ بالشرعِ، فيستوي فيهِ الأولياءُ وغيرُهم، وكونُ الولي مأمورًا بالمنعِ بالشرعِ لا يوجبُ لهُ ولاية خاصة بالإذنِ، ولو قُلْنا: إنهُ خِطابٌ للأولياءِ يوجبُ اشتراطَ إِذْنِهِمْ في النكاحِ لكانَ مجملًا لا يصحُّ بهِ عملٌ لأنهُ ليسَ فيهِ ذكرُ أصنافِ الأولياءِ ولا مراتبهم، والبيانُ لا يجوزُ تأخيرُه عنْ وقتِ الحاجةِ اهـ.

والجوابُ: أن الأظهرَ أن الآيةَ خطابٌ لكافةِ المؤمنينَ المكلَّفينَ الذينَ خُوطِبُوا بِصَدْرِهَا، أعني قولَهُ:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}

(2)

، والمرادُ: لا يُنْكِحُهنَّ مَنْ إليهِ الإنكاحُ وهمُ الأولياءُ، أو خطابٌ للأولياءِ ومنْهمُ الأمراءُ عندَ فَقْدِهم أو عَضلِهم لما عرفتَ من قولِه

(3)

: "فإنِ اشتجَرُوا فالسلطانُ وليُّ مَنْ لا وليَّ لها"، فبطلَ قولُه: إنهُ مترددٌ بينَ خطابِ الأولياءِ وأُولي الأمر. وقولُه: قُلْنا هذَا الخطابُ إنَّما هوَ خطابٌ بالمنعِ بالشرعِ، قلنا: نعمْ.

قولُه: والمنعُ بالشرعِ يستوي فيهِ الأولياءُ وغيرُهم.

قلنا: هذَا كلامٌ في غايةِ السُّقوطِ، فإنَّ المنعَ بالشرعِ هُنَا للأولياءِ الذينَ يتولُّوْنَ العقدَ إما جَوَازًا كما تقولُه الحنفيةُ

(4)

، أو شَرْطًا كما يقولُه غيرُهم

(5)

. فالأجنبيُّ بمعزلٍ عن المنعِ لأنهُ لا ولايةَ لهُ على بناتِ زيدٍ مَثَلًا، فما معنَى نَهْيِه عنْ شيءٍ ليسَ منْ تكليِفِهِ؟ فهذَا تكليفٌ يخصُّ الأولياءَ، فهوَ كمنعِ الغَنِيِّ عن

(1)

"بداية المجتهد"(3/ 23).

(2)

سورة البقرة: الآية 221.

(3)

صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدَّم برقم (12/ 923) من كتابنا هذا.

(4)

انظر: "المبسوط"(5/ 10).

(5)

وهم الجمهور كما تقدم، وانظر:"فتح الباري"(9/ 187).

ص: 36

السؤالِ ومنعِ النساءِ عن التَّبَرُّجِ، فالتكاليفُ الشرعيةُ منها ما يخصُّ الذكورَ، ومنْها ما يخصُّ الإناثَ، ومنْها ما يخصُّ بعضًا منَ الفريقينِ أوْ فَرْدًا مِنْهما، [وفيهما]

(1)

ما يعمُّ الفريقينِ، وإنْ أرادَ أنهُ يجبُ على الأجنبيِّ الإنكارُ على مَنْ يُزَوِّجُ مسلمةً بمشركٍ فخروجٌ عن البحثِ.

وقولُه: ولوْ قُلْنا إنهُ خطابٌ للأولياءِ لكانَ مجملًا لا يصحُّ بهِ عملٌ، جوابُهُ أنهُ ليسَ بِمُجْمَل، إِذِ الأولياءُ معروفونَ في زمانِ مَنْ أُنزِلَتْ عليهمُ الآيةُ، وقدْ كانَ معروفًا عندَهم، ألا تَرَى إلى قولِ عائشةَ

(2)

: يخطبُ الرجلُ إلى الرجلِ وليّتَهُ، فإنَّهُ دالٌّ على أن الأولياءَ معروفونَ، وكذلكَ قولُ أم سلمةَ

(3)

لهُ صلى الله عليه وسلم: ليسَ أحدٌ منْ أوليائي حاضرًا، وإنَّما ذكرنَا هذَا لأنهُ نقلَ الشارحُ رحمه الله كلامَ "النهايةِ" وهوَ طويلٌ وجَنَحَ إلى رأي الحنفية واستوفاه الشارحُ [رحمه الله]

(4)

، ولم يقْوَ في نظري ما قالَه، فأحببتُ [أنْ]

(5)

أُنَبِّهَ على بعضِ ما فيهِ، ولولا محبةُ الاختصارِ لنقلْتُه بِطُولِهِ وأبَنْتُ ما فيهِ. ومنَ الأدلةِ على اعتبار الولي قولُه صلى الله عليه وسلم

(6)

: "الثيِّبُ أحقُّ بنفسِها منْ وليِّها"، فإنهُ أثبتَ حقًّا للوليِّ كما يفيدُه لفظُ:"أحقُّ"، وأحقِّيَّتُه هي الولايةُ، وأحقيَّتُها رِضَاها، فإنهُ لا يصحُّ عقدُه بِها إلا بعدَه، فحقها بنفسِها آكدُ منْ حقِّه لِتَوَقُّفِ حقِّه عَلَى إِذْنَها.

‌النهي عن نكاح الشِّغار

16/ 927 - وَعَنْ نَافِع عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشِّغَارِ، والشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. مُتَّفَق عَلَيْهِ

(7)

. [صحيح]

(1)

في (ب) منها.

(2)

في حديث أنواع النكاح في الجاهلية المتقدم قبل قليل.

(3)

في حديث خطبة النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم أيضًا قبل قليل.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

في الحديث المتقدم برقم (14/ 925) من كتابنا هذا.

(7)

البخاري (5112) وطرفه في (6960)، ومسلم (1415).

قلت: وأخرجه أبو داود (2074)، والترمذي (1124)، والنسائي (6/ 110)، وابن ماجه (1883)، وأحمد (2/ 62)، ومالك (2/ 535 رقم 24)، والدارمي (2/ 136)، وغيرهم. =

ص: 37

وَاتَّفَقَا

(1)

مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى أن تَفْسِيرَ الشِّغَارِ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ.

(وعنْ نافِعٍ عن ابن عمرَ قالَ: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغارِ) فسَّرهُ بقولِهِ: (أن يزوِّجَ الرجلُ ابنتَه على أنْ يزوِّجَه الآخرُ ابنتَه وليسَ بينَهما صَدَاقٌ. متفقٌ عليهِ) واتفقا على وجه آخر على أن تفسير الشغار من كلام نافع. قالَ الشافعيُّ: لا أدري التفسيرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمرَ أوْ عنْ نافعِ أو عنْ مالكٍ، حكاهُ عنهُ البيهقيُّ في "المعرفة"

(2)

. وقالَ الخطيبُ

(3)

: إنهُ ليسَ منْ كلامِ النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّما هوَ قولُ مالكٍ وُصِلَ بالمتنِ المرفوعِ، وقدْ بيَّنَ ذلكَ ابنُ مهدي والقعنبيُّ. ويدلُّ أنهُ منْ كلامِ مالكٍ أنهُ أخرجَه الدارقطنيُّ

(4)

منْ طريقِ خالدِ بن مخلدٍ عنْ مالكٍ قالَ: سمعتُ أن الشِّغَارَ أنْ يزوِّجَ الرجلُ إلخ. وأما البخاريُّ فصرَّحَ في كتابِ الحيلَ

(5)

أن تفسيرَ الشِّغارِ منْ قولِ نافعٍ. قالَ القرطبيُّ

(6)

: تفسيرُ الشِّغَارِ بما ذكرَ صحيحٌ موافقٌ لما ذكرهُ أهلُ اللغةِ؛ فإنْ كانَ مرفوعًا فهوَ المقصودُ، وإنْ كانَ منْ قولِ الصحابيِّ فمقبولٌ أيضًا لأنهُ أعلمُ بالمقال وأقعد بالحالِ اهـ. وإذْ قدْ ثبتَ النَّهْيُ عنهُ فقدِ اختلفَ الفقهاءُ هلْ هوَ باطلٌ أو غيرُ باطلٍ، فذهبتِ الهادويةُ

(7)

والشافعيُّ

(8)

ومالكٌ

(9)

إلى أنهُ باطلٌ للنَّهْيِ عنهُ وهوَ يقتضي البطلانَ.

وللفقهاءِ خلافٌ في علل النَّهْي لا نُطَوِّلُ بهِ فكلُّها أقوالٌ تخمينيةٌ، ويظهرُ منْ

= وفي الباب: عن أبي هريرة وجابر وأنس ومعاوية وعمران بن حصين وأبي ريحانة وأُبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وسمرة بن جندب ووائل بن حجر وابن عباس رضي الله عنهم.

وانظر تخريجها في كتابنا: "إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة" جزء النكاح.

(1)

أي الشيخان البخاري (6960)، ومسلم (58/ 1415)، فالمدرج من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر، وهذا من طريق عبيد الله (وهو ابن عمر العمري) عن نافع، وقد رجَّح الحافظ في "الفتح"(9/ 162 - 163) أن تفسير الشغار مرفوع.

(2)

"معرفة السنن والآثار"(10/ 166).

(3)

قاله في "المدرج"، انظر:"فتح الباري"(9/ 162) و"التلخيص"(3/ 154).

(4)

ذكره الحافظ في "الفتح"(9/ 162)، ولم أجده في "السنن" ولعله في "الموطآت".

(5)

من "صحيحه"(6960).

(6)

انظر: "فتح الباري"(9/ 163).

(7)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 21 - 22).

(8)

انظر: "معرفة السنن والآثار"(10/ 168 - 169).

(9)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 109) بتحقيقنا.

ص: 38

قولِه في الحديثِ: "لا صَدَاقَ بينَهما" أنهُ عِلَّةُ النَّهْي، وذهبتِ الحنفيةُ

(1)

وطائفةٌ

(2)

إلى أن النكاحَ صحيحٌ ويلغُو ما ذكرَ فيهِ عملًا بعمومِ قولِه تعالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}

(3)

، ويُجَابُ بأنهُ خصَّهُ النَّهْيُ.

‌تخيير من زوِّجت وهي كارهة

17/ 928 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ: أن أَبَاهَا زَوّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ أَحْمَدُ

(4)

وَأَبُو دَاوُدَ

(5)

وابْنُ مَاجَهْ

(6)

، وَأُعِلَّ بِالإرْسَال

(7)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن جاريةً بِكْرًا أتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكرتْ أن أباها زوَّجَها وهيَ كارهةٌ، فيخيَّرها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواهُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجهْ وأُعِلَّ بالإرسالِ) وأجيبَ عنهُ بأنهُ رواهُ أيوبُ بن سويدٍ عن الثوريّ عنْ أيُّوبَ موصولًا، [وكذا]

(8)

رواهُ معمرُ بنُ سليمانَ الرقيّ عنْ زيدِ بن حِبَّانَ عنْ أيوبَ موصولًا. وإذا اختُلِفَ في وصْلِ الحديثِ وإِرْسَالِه فالحكمُ لمنْ [وصل]

(9)

. قالَ المصنفُ

(10)

: الطعنُ في الحديثِ لا معنَى لهُ؛ لأنَّ لهُ طُرُقًا يقوّي بعضُها بعضًا اهـ. وقدْ تقدَّمَ

(11)

حديثُ أبي هريرةَ المتفقُ عليهِ وفيهِ: ولا تُنْكَحُ البكرُ حتَّى تُسْتَأْذَنَ. وهذَا الحديثُ أفادَ ما أفادَهُ فدلَّ على تحريمِ إجبارِ الأبِ [ابنته]

(12)

[البكر]

(13)

على

(1)

انظر: "المبسوط"(5/ 105).

(2)

وهم: الليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري. كما بينهم صاحب "بداية المجتهد"(3/ 110) وصاحب "الاستذكار"(16/ 203).

(3)

سورة النساء: الآية 3.

(4)

في "المسند"(4/ 155).

(5)

في "سننه"(2096).

(6)

في "سننه"(1875). وأخرجه الدارقطني (3/ 234 رقم 56)، وهو حديث صحيح، صحَّحه الألباني في "صحيح أبي داود"(2/ 395 رقم 1845)، وقال الحافظ في "الفتح" (9/ 196): رجاله ثقات. اهـ.

(7)

أعله بذلك أبو حاتم وأبو زرعة كما في "الفتح"(9/ 196).

(8)

في (ب): "وكذلك".

(9)

في (ب): "وصلَهُ".

(10)

في "فتح الباري"(9/ 196).

(11)

برقم (13/ 924) من كتابنا هذا.

(12)

في (ب): لابنته.

(13)

زيادة من (ب).

ص: 39

النكاحِ وغيرُه منَ الأولياءِ بالأَوْلَى. وإلى عدمِ جوازِ إجبارِ الأبِ ذهبتِ الهادوية

(1)

والحنفيةُ

(2)

لما ذُكِرَ ولحديثِ مسلم

(3)

بلفظ: "والبكرُ يَسْتَأْذِنُها أبُوها". وإنْ قالَ البيهقيُّ

(4)

: زيادةُ الأبِ في الحديثِ غيرُ محفوظةٍ ردَّه المصنفُ

(5)

بأنَّها زيادةُ عدلٍ، يعني فَيُعْمَلُ بها، وذهبَ أحمدُ

(6)

وإسحاقُ (6) والشافعيُّ

(7)

إلى أن للأبِ إجبارَ ابنتِهِ البكرِ البالغةِ على النكاحِ عملًا بمفهومِ: "الثَّيّبُ أحقُّ بنَفْسِها" كما تقدَّمَ

(8)

، فإنهُ دلَّ أن البِكْرَ بخلافها، وأنَّ الوليَّ أحقُّ بها. ويُرَدُّ بأَنهُ مفهومٌ لا يقاوِمُ المنطوقَ، وبأنهُ لوْ أُخِذَ بعمومِه لزمَ في حقّ غيرِ الأبِ منَ الأولياءِ وأنْ لا يُخَصَّ الأبُ بجوازِ الإجبارِ. وقالَ البيهقيُّ

(9)

في تقويةِ كلامِ الشافعيّ: إنَّ حديثَ ابن عباسٍ هذَا محمولٌ على أنهُ زوَّجَها منْ غيرِ كُفْءٍ. قالَ المصنفُ

(10)

: جوابُ البيهقيِّ هوَ المعتمدُ لأنَّها واقعةُ عينٍ فلا يثبتُ الحكمُ بها تعميمًا.

قلتُ: كلامُ هذينِ الإمامينِ محاماةٌ على كلامِ الشافعي ومذهبهم، وإلِّا فتأويلُ البيهقي لا دليلَ عليهِ، فلوْ كانَ كما قالَ لذكرتْه المرأةُ، بلْ قالتْ: إنهُ زَوَّجَها وهي كارهة، فالعِلَّةُ كراهتُها فعليها عُلّقَ التخييرُ؛ لأنَّها المذكورةُ، فكأنه قالَ صلى الله عليه وسلم: إذا كنتِ كارهةً فأنتِ بالخِيارِ، وقولُ المصنفِ: إنها واقعةُ عينٍ، كلامٌ غيرُ صحيح، بلْ حكمٌ عام لعمومِ عِلَّتِهِ، فأينَما وُجِدَتِ الكراهةُ ثبتَ الحكمُ. وقدْ أخرجَ النسائيُّ

(11)

عنْ

(1)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 28).

(2)

انظر: "المبسوط"(5/ 8، 9).

(3)

المتقدم أثناء شرح الحديث رقم (13/ 924)، من كتابنا هذا.

(4)

نقل البيهقي ذلك عن أبي داود، ونقل عن الشافعي قوله: قد زاد ابن عيينة في حديثه: "والبكر يزوجها أبوها". اهـ المراد. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 115).

(5)

قال في "التلخيص"(3/ 160 رقم 1507) بعد أن ساق كلام البيهقي عن الشافعي: قال الدارقطني: لا نعلم أحدًا وافقه على ذلك. اهـ.

(6)

انظر: "المغني"(7/ 380).

(7)

انظر: "معرفة السنن والآثار"(10/ 44).

(8)

في المخطوط "سيأتي"، والصواب من المطبوع وقد تقدم برقم (14/ 925).

(9)

انظر: "السنن الكبرى" له (7/ 118).

(10)

انظر: "فتح الباري"(9/ 96).

(11)

في "سننه"(3269)، من طريق كهمس بن الحسن عن عبد اللهِ بن بريدة عن عائشة رضي الله عنهما، وأخرجه ابن ماجه (1874)، من طريق كهمس بن الحسن عن ابن بريدة عن أبيه ولم يذكر فيه عائشة، وهو حديث ضعيف، ضعَّفه المحدّث الألباني في "ضعيف سنن النَّسَائِي"(ص 117 - 118 رقم 208).

ص: 40

عائشةَ أن فتاةَ دخلتْ عليها فقالتْ: إنَّ أبي زوَّجني منِ ابن أخيهِ يرفعُ بي خَسِيْسَتَهُ وأنا كارهةٌ، قالتْ: اجلسي حتَّى يأتيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فجاءَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأخبرتْهُ، فأرسلَ إلى أَبيهَا، فدعاهُ فجعلَ الأمرَ إليها، فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ قدْ أَجَزْتُ ما صَنَعَ أبي ولكنْ أردتُ أنْ أُعَلِّمَ النساءَ أنْ ليسَ للآباءِ منَ الأمرِ شيءٌ. والظاهرُ أنَّها بِكْرٌ ولعلَّها البكرُ التي في حديثِ ابن عباسٍ وقدْ زوَّجَها أبوها كُفْئًا ابنُ أخيهِ وإنْ كانتْ ثيبًا فقدْ صرَّحتْ أنهُ ليسَ مرادُها إلا إعلامَ النساءِ أنهُ ليسَ للآباءِ منَ الأمرِ شيءٌ. ولفظُ النساءِ عام لِلثَّيِّبِ والبكرِ، وقدْ قالتْ هذه عندَهُ صلى الله عليه وسلم فأقرَّها عليهِ، والمرادُ بنفي الأمرِ عن الآباءِ نفيُ التزويجِ للكارهةِ؛ لأنَّ السياقَ في ذلكَ فلا يقالُ هوَ عامٌّ لكلِّ شيءٍ.

‌من عقد لها وليان فهي للأول

18/ 929 - وَعَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أيُّمَا امْرَأةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلأوَّلِ مِنْهُما"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

والأَرْبَعَةُ

(2)

، وَحَسّنَهُ التّرْمِذِيُّ. [ضعيف]

‌ترجمة الحسن أبي سعيد

(وعنِ الحسنِ) وهوَ أبو سعيدٍ

(3)

الحسنُ بنُ أبي الحسنِ مولَى زيدِ بن ثابتٍ

(1)

في "المسند"(8/ 5، 11، 12، 18).

(2)

أبو داود (2088)، والترمذي (1110)، والنسائي (314)، ولم أقف عليه في سنن ابن ماجه. وأخرجه الطيالسي (ص 122 رقم 903)، والدارمي (2/ 139)، والحاكم (2/ 174 - 175)، والبيهقي (7/ 139، 141)، قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي. وصحَّحه أيضًا أبو زرعة وأبو حاتم كما في "التلخيص"(3/ 165) للحافظ، وقال:"وصحَّته متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة فمن رجاله ثقات".

قال الألباني: "بل صحته متوقفة على تصريح الحسن بالتحديث فإنه كان يدلس"، وقد حكم عليه بالضعف. انظر:"الإرواء"(6/ 254 - 255 رقم 1853).

(3)

انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(4/ 563 رقم 223)، و"تاريخ البخاري"(2/ 289)، و"طبقات ابن سعد"(7/ 156)، و"المعارف"(440)، و"الجرح والتعديل"(1/ 2/ 40) و"وفيات الأعيان"(2/ 69)، و"تذكرة الحفاظ"(1/ 71)، و "شذرات الذهب"(1/ 136).

ص: 41

وُلِدَ لسنتينِ بقيتَا منْ خلافةِ عمرَ بالمدينةِ وقدمَ البصرةَ بعدَ مقتلِ عثمانَ، وقيلَ: إنهُ لقيَ عليًا رضي الله عنه بالمدينةِ، وأما بالبصرةِ فلمْ تصحَّ رؤيتُه إياه، [و]

(1)

كانَ إمامَ وقْتِهِ عِلْمًا وزُهْدًا وَوَرَعًا، ماتَ في رجبٍ سنةَ عشرٍ ومائةٍ (عنْ سمُرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: أيُّمَا امرأةِ زوَّجَها وَلِيَّانِ فَهِيَ للأولِ مِنْهما. رواهُ أحمدُ والأربعة وحسَّنَه الترمذيُّ). تقدَّمَ ذِكْرُ الخلافِ

(2)

في سماعِ الحسنِ [من]

(3)

سمُرةَ ورواهُ أحمدُ

(4)

والشافعيُّ

(5)

والنسائيُّ

(6)

منْ طريقِ قتادةَ عن الحسن عنْ عقبةَ بن عامر، قالَ الترمذيُّ

(7)

: الحسنُ عنْ سمرةَ في هذا أصحُّ. قالَ ابنُ المديني

(8)

: لم يسمعِ الحسنُ عن عقبةَ شيئًا. والحديثُ دليلٌ على أن المرأةَ إذا عقدَ لها وليَّانِ لرجلينِ وكانَ العقدُ مترتبًا أنَّها للأولِ منْهما سواءٌ دخلَ بها الثاني أوْ لا، أما إذا دخلَ بها عالمًا فإجماعٌ أنهُ زِنَى وأنَّها للأوَّلِ، وكذلكَ إنْ دخلَ بها جاهلًا، إلا أنهُ لا حدَّ عليهِ للجهلِ؛ فإنْ وقعَ العقدانِ في وقتٍ واحدٍ بَطَلَا، وكذَا إذا علمَ ثمَّ التبسَ فإنهما يبطلانِ، إلَّا أنَّها إذا أقرَّتِ الزوجةُ أو دخلَ بها أحدُ الزوجينِ برضَاها؛ فإنَّ ذلكَ يقررُ العقدَ الذي أقرَّتْ بسبقِه، إذ الحقُّ عليها فإقْرارُها صحيحٌ، وكذا الدخولُ بِرضَاها فإنهُ قرينةُ السبقِ لوجوبِ الحملِ على السلامةِ.

‌تحريم نكاح العبد بغير إذن سيده

19/ 930 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوّجَ بِغَيرِ إذْنِ مَوَالِيهِ أَوْ أَهْلِهِ فَهُوَ عَاهرٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ

(9)

وَأَبُو دَاوُدَ

(10)

(1)

زيادة من المطبوع.

(2)

انظر شرح الحديث رقم (1/ 839) من كتابنا هذا.

(3)

في المطبوع "عن".

(4)

في "المسند"(5/ 8) بالشك بين عقبة وسمرة.

(5)

في "بدائع المنن"(2/ 228 رقم 1550).

(6)

في "الكبرى"(6279/ 2) وفيها قال الحسن: عن عقبة بن عامر وسمرة بن جندب.

(7)

لم أجده في "السنن" وقد نقله عنه الحافظ في "التلخيص"(3/ 165).

(8)

انظر: "التلخيص"(3/ 165).

(9)

في "المسند"(16/ 156 رقم 49 - الفتح الرباني).

(10)

في "السنن"(2078).

ص: 42

وَالتِّرْمِذِي

(1)

وصحّحه، وكذَلك ابن حِبان

(2)

. [حسن]

(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّما عبدٍ تزوَّجَ بغيرِ إذْنِ مواليهِ أو أهلِه فهو عاهرٌ) أي زانٍ (رواهُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ وصحَّحَهُ وكذلكَ) صحَّحهُ (ابنُ حِبَّانَ) ورواهُ

(3)

منْ حديثِ ابن عمرَ موقُوفًا وأنهُ وجدَ عبدًا لهُ تزوَّجَ بغيرِ إذنِه ففرَّقَ بينَهما وأبطلَ عقْدَ [نكاحه]

(4)

وضَرَبَهُ الحدَّ. والحديثُ دليل على أنَّ نكاحَ العبدِ بغيرِ إذنِ مالكِه باطلٌ وحكمُه حكمُ الزِّنَى عندَ الجمهورِ

(5)

، إلَّا أنهُ يسقطُ عنهُ الحدُّ إذا كانَ جاهلًا للتحريم ويلحقُ بهِ النَّسَبُ. وذهبَ داودُ إلى أنَّ نكاحَ العبدِ بغيرِ إذنِ مالكِهِ صحيحٌ؛ لأَن النكاحَ [عندَهُ]

(6)

فرضُ عينٍ لا يفتقرُ إلى إذنِ السيِّدِ، وكأنهُ لم يثبتْ لديهِ الحديثُ. وقالَ الإمامُ يحيى

(7)

: إنَّ العقدَ الباطلَ لا يكونُ لهُ حكمُ الزِّنَى هُنا [ولو]

(8)

كانَ عالمًا بالتحريمِ؛ لأنَّ العقدَ شبهةٌ يَدْرأ بها الحدَّ. وهلْ ينفذُ عقْدُه بالإجازةِ منْ سيِّدِهِ؟ فقالَ الناصرُ (7)

(1)

في "السنن"(1111) وقال: حديث حسن. اهـ. وهو الموافق لما في "التلخيص"(3/ 165 رقم 1519).

(2)

لم يعزه المصنف لابن حبان في "التلخيص" وإنما عزاه للحاكم وهو في "المستدرك"(2/ 194) وصحَّحه ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي (7/ 127)، وعبد الرزاق (7/ 243 رقم 12979) وهو حديث حسن، حسَّنه الألباني في "صحيح أبي داود"(2/ 392 رقم 1829)، وفي "الإرواء"(6/ 351 رقم 1933).

(3)

كذا في المخطوط والمطبوع، وصنيع الشارح يوهم أنه أخرجه ابن حبان والذي في "التلخيص"(3/ 165 رقم 1519) أنه أخرجه عبد الرزاق، وهو في "المصنف"(7/ 243 رقم 12980، 12981)، قال الحافظ في "التلخيص" وصوَّب الدارقطني في "العلل" وقف هذا المتن (يعني متن حديث الباب) على ابن عمر. اهـ.

وأخرجه أبو داود (2079) من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل"، قال أبو داود: هذا الحديث ضعيف، وهو موقوف، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما. اهـ.

(4)

في (ب): "عقدُه".

(5)

انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 23 - بحاشية مختصر أبي داود للمنذري" وفيه: "وممن أبطل هذا النكاح الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقال مالك وأصحاب الرأي: إن أجازه السيد جاز، وإن أبطله بطل، وعند الشافعي لا يثبت النكاح وإن أجازه السيد لأن عقد النكاح لا يقع عنده موقوفًا على إجازة الولي" اهـ.

(6)

زيادة من (ب).

(7)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 131).

(8)

في (أ): "إن".

ص: 43

والشافعي

(1)

: لا ينفذُ بالإجازةِ؛ لأنهُ سمَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم عاهِرًا. وأجيبَ بأن المرادَ إذا لم تحصلِ الإجازةُ، إلَّا أن الشافعي (1) لا يقولُ بالعقدِ الموقوفِ أصلًا، والمرادُ بالعاهرِ أنهُ كالعاهِرِ وأنهُ ليسَ بِزَانٍ حقيقةً.

‌تحريم الجَمع بين المرأةِ وعمتها

20/ 931 - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَا يُجْمَعُ بَينَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَينَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا"، مُتَّفَق عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: لا يجمَعُ) بلفظِ المضارع المبنيِّ للمجهولِ ولا نافيةٌ فهوَ مرفوعٌ وهو في معنى النهيِ وقدْ وردَ في إحدَى رواياتِ الصحيحِ

(3)

بلفظِ: نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُجْمَعَ (بين المرأةِ وَعَمَّتها، ولا بينَ المرأةِ وخالتِها. متفقٌ عليهِ) فيه دليل على تحريمِ الجمْعِ بينَ مَنْ ذُكِرَ. قالَ الشافعي

(4)

: يحرمُ الجمعُ بينَ مَنْ ذُكِرَ وهوَ قولُ مَنْ لَقْيتُهُ منَ المفتينَ لا خلافَ بينَهم في ذلكَ، ومثله قالَ الترمذيُّ

(5)

. وقالَ ابنُ المنذرِ

(6)

: لستُ

(1)

قدَّمنا نقل الخطابي في "المعالم" عن الشافعي.

(2)

البخاري (5109، 5110)، ومسلم (1408).

قلت: وأخرجه أبو داود (2065، 2066)، والترمذي (1125 في آخره، 1126)، والنسائي (6/ 96: 98)، وابن ماجه (1929)، ومالك (2/ 532 رقم 20)، والشافعي (2/ 18 رقم 50 - ترتيب المسند)، وأحمد (1/ 474)، (2/ 229، 401، 426، 465)، وسعيد بن منصور (رقم 650، 654)، والدارمي (2/ 136)، وابن الجارود (رقم 685)، وعبد الرزاق في "المصنف"(6/ 261 رقم 10753)، والبيهقي (7/ 165، 166)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 307) من طرق عن أبي هريرة مرفوعًا. وفي الباب من حديث: جابر وعلي وابن مسعود وابن عمرو بن العاص وابن عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس وأبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وسمرة بن جندب، وعتاب بن أسيد أجمعين. وانظر تخريجها في كتابنا:"إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة" جزء النكاح.

(3)

صحيح البخاري (5110).

(4)

انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (10/ 106).

(5)

في سننه (3/ 433).

(6)

انظر: "فتح الباري"(9/ 161) وقد نقل الإجماع في كتابه "الإجماع"(ص 95 رقم 369).

ص: 44

أعلمُ في منعِ ذلكَ اختلافًا اليومَ، وإنَّما قالَ بالجوازِ فِرقةٌ منَ الخوارجِ، وَنَقَلَ الإجماعَ ابنُ عبدِ البرِّ

(1)

وابنُ حزمٍ

(2)

والقرطبيُّ

(3)

والنوويُّ

(4)

ولا يخْفَى أن هذا الحديثَ خَصَّصَ عمومَ قولِهِ تعالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}

(5)

الآيةَ. قيلَ: ويلزمُ الحنفيةُ أنْ يجوِّزُوا الجمعَ بينَ مَنْ ذُكِرَ؛ لأنَّ أصولَهم [تقديمُ]

(6)

عموم الكتاب على أخبارِ الآحادِ إلَّا أنهُ أجابَ صاحبُ "الهدايةِ"

(7)

بأنهُ حديثٌ مشهورٌ والمشهورُ لهُ حكمُ القطعي لا سيِّما معَ الإجماعِ منَ الأمةِ وعدمِ الاعتدادِ بالمخالفِ.

‌نكاح المحرم

21/ 932 - وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(8)

. [صحيح]

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَلَا يَخْطُبُ"، وَزَادَ ابْنُ حِبّانَ

(9)

: "وَلَا يُخْطَبُ عَلَيهِ".

(عنْ عثمانَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَنْكِحُ) بفتحِ حرفِ المضارعةِ منْ نَكَحَ (المحرمُ لا يُنْكِحُ) بضمِّهِ منْ أنكَحَ (رواهُ مسلمٌ. وفي روايةٍ لهُ) أي عنْ عثمانَ (ولا يخطُبُ) أي لنفسِه أو لغيرِه (زاد ابنُ حبانَ: ولا يُخْطَبُ عليهِ) وتقدَّم ذلكَ في كتابِ

(10)

الحجِّ إلَّا قولَه: "ولا يُخْطَبُ عليه"، والمرادُ أنهُ لا يَخْطُبُ أحد منهُ وليّتَهُ.

(1)

في "الاستذكار"(16/ 170).

(2)

انظر: "المحلَّى"(9/ 524) وفيه قال: وعلى هذا جمهور الناس إلا عثمان البتِّي فإنه أباحه. اهـ وإنما تابع الشارحُ الحافظَ في "الفتح"(9/ 161).

(3)

انظر: "فتح الباري"(9/ 161).

(4)

انظر: "شرح مسلم" له (9/ 191).

(5)

سورة النساء: الآية 24.

(6)

في (أ): "مقدم".

(7)

انظر: "الهداية"(1/ 192).

(8)

تقدم تخريجه برقم (6/ 686) من كتابنا هذا.

(9)

في "صحيحه"(1/ 547 رقم 1274 - الموارد).

(10)

برقم (6/ 686) كما قدَّمنا.

ص: 45

‌شروط النكاح

22/ 933 - وعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: تَزَوّجَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسِ رضي الله عنهما قالَ: تزوَّجَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ميمونةَ وهوَ محرمٌ. متفقٌ عليهِ). الحديثُ قدْ أكثرَ الناسُ فيهِ الكلامَ لمخالفةِ ابن عباسٍ رضي الله عنه لغيرِه. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(2)

: اختلفتِ الآثارُ في هذا الحكمِ لكنَّ الروايةَ أنهُ تزوَّجَها وهوَ حلالٌ جاءتْ منْ طُرُقٍ شَتَّى. وحديثُ ابن عباسٍ صحيحُ الإسنادِ لكنَّ الوهْمَ إلى الواحدِ أقربُ منَ الوهمِ إلى الجماعةِ، فأقلُّ أحوالِ الخبرينِ أنْ يتعارضَا فَتُطْلَبُ الحجةُ منْ غيرِهما، وحديثُ عثمانَ صحيحٌ في منعِ نكاحِ المحرِم فهوَ المعتمَدُ، انتَهى. وقالَ الأثرمُ: قلتُ لأحمدَ

(3)

: إنَّ أبا ثورٍ يقولُ بأيِّ شيءٍ يُدْفَعُ حديثُ ابن عباسٍ أي معَ صِحَّتِهِ، قالَ: اللَّهُ المستعانُ، ابنُ المسيبِ يقولُ وهمَ ابنُ عباسٍ وميمونةُ تقولُ تزوَّجني وهوَ حلالٌ، انتَهى. يريدُ بقولِ ميمونةَ ما رواهُ عنْها مسلمٌ وهوَ:

23/ 934 - وَلمُسْلِمٍ

(4)

عَنْ مَيْمُونَةَ نَفْسِهَا رضي الله عنهما أن النبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ. [صحيح]

(ولمسلمٍ عنْ ميمونةَ نفسِها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوَّجها وهو حلالٌ) وعضَّدَ حديثَها

(1)

البخاري (1837)، ومسلم (47/ 1410).

قلت: وأخرجه أبو داود (1844)، والترمذي (842)، والنسائي (5/ 191)، وابن ماجه (1965)، وابن الجارود (رقم 446)، والطحاوي في "شرح المعاني"(2/ 269)، والدارقطني (3/ 263 رقم 73)، وأحمد (1/ 266)، والطيالسي (1/ 213 رقم 1031 - منحة المعبود).

(2)

انظر: "التمهيد"(3/ 153).

(3)

انظر: "المغني"(3/ 319).

(4)

وفي "صحيحه"(48/ 1411). وأخرجه أبو داود (1843)، والترمذي (845)، وابن ماجه (1964)، وابن الجارود (رقم 445)، والطحاوي في "شرح المعاني"(2/ 269)، والدارقطني (3/ 261 رقم 63: 66)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 315، 316)، والبيهقي (5/ 66)، والدارمي (2/ 38)، وأحمد (6/ 332، 333، 335)، والشافعي (1/ 318 رقم 830 - ترتيب المسند" وغيرهم عن يزيد بن الأصم حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس.

ص: 46

حديثُ عثمانَ

(1)

وقد تؤوِّل حديثُ ابن عباسٍ رضي الله عنه، بأنَّ معنَى وهوَ محرمٌ أي داخلٌ في الحرم أو في الأشهرِ الحُرُم، جزمَ بهذا التأويلِ ابنُ حبانَ في صحيحهِ

(2)

وهوَ تأويلٌ بعيدٌ لا تساعدُ عليهِ ألفاظُ الأحاديثِ، وقدْ تقدَّمَ الكلامُ في هذا في الحجِّ

(3)

.

24/ 935 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن أَحَقَّ الشُّرُوطِ أنْ يُوَفَّى بِهِ ما اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ"، متَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

. [صحيح]

(وعنْ عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إن أحقَّ الشروطِ أنْ يُوَفَّى بهِ ما استحلَلْتُمْ بهِ الفروجَ. متفقٌ عليهِ)، أي أحقُّ الشروطِ بالوفاءِ شروطُ النكاحِ لأنَّ أمْرَهُ أحوطُ وبابهُ أضيقُ. والحديثُ دليلٌ على أن الشروطَ المذكورةَ في عقدِ النكاحِ يتعينُ الوفاءُ بها سواءٌ كانَ الشرطُ عرضًا أو مالًا حيثُ كانَ الشرطُ للمرأةِ لأنَّ استحلالَ البِضْعِ إنَّما يكونُ فيما يتعلقُ بها أو ترضى به لغيرهَا. وللعلماءِ في المسألةِ أقوالٌ، قالَ الخطابيُّ

(5)

: الشروطُ في النكاحِ مختلفٌ فيها، فمنْها ما يجبُ الوفاءُ بهِ اتفاقًا، وهوَ ما أمرَ الله تعالَى بهِ منْ إمساكٍ بمعروفٍ أو تسريحٍ بإحسانٍ وعليهِ حملَ بعضُهم هذا الحديثَ، ومنْها ما لا يُوَفَّى بهِ اتفاقًا كطلاقِ أُختِهَا لما وردَ منَ النهْي

(6)

عنهُ، ومنْها ما اختُلِفَ فيهِ كاشتراطِ أنْ لا يتزوجَ عليها ولا يتسرَّى ولا ينقلَها منْ منزِلِها إلى منزلِهِ. وأما ما يشترطُه العاقدُ لنفسِه خارجًا

(1)

المتقدم برقم (21/ 932) من كتابنا هذا.

(2)

قال مبوبًا: ذكر البيان بأن تزوج المصطفى صلى الله عليه وسلم ميمونة كان وهو حلال لا حرام. انظر: "الإحسان"(9/ 442).

(3)

أثناء شرح الحديث رقم (6/ 686).

(4)

البخاري (2721)، ومسلم (63/ 1418).

قلت: وأخرجه أحمد (4/ 144، 150)، والدارمي (2/ 143)، وأبو داود (2139)، والترمذي (1127)، والنسائي (6/ 92 - 93)، وابن ماجه (1954)، والبيهقي (7/ 248).

(5)

انظر: "فتح الباري"(9/ 217 - 218).

(6)

يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدِّر لها"، أخرجه البخاري (5152)، ومسلم (38، 39/ 1408)، وأبو داود (2176)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 47

عن الصَّداقِ فقيلَ هوَ للمرأةِ مطلقًا وهوَ قولُ الهادويةِ

(1)

وعطاءٍ وجماعةٍ، وقيلَ: هوَ لِمَنْ شَرَطهُ، وقيلَ: يختصُّ ذلكَ بالأبِ دونَ غيرِه منَ الأولياءِ. وقالَ مالكٌ

(2)

: إنْ وقعَ في حالِ العقدِ فهوَ منْ جملةِ المهْرِ، أو خَارِجًا عنهُ فهوَ لمنْ وُهِبَ لهُ. ودليلُه ما أخرجُه النَّسَائِيُّ

(3)

منْ حديثِ عمرِو بن شُعَيْبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ يرفعُه بلفظِ: "أيُّما امرأةٍ نُكِحَتْ على صَدَاقٍ أو حباءٍ أو عدَّةٍ قبلَ عصمةِ النكاحِ فهوَ لها وما كانَ بعدَ عصمةِ النكاحِ فهوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ وأحقُّ ما أكرمَ عليهِ الرجلُ ابنتَهُ أو أختَه" وأخرجَ نحوَه

(4)

الترمذيُّ منْ حديثِ عروةَ عنْ عائشةَ ثمَّ قالَ (4): والعملُ على هذَا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ منَ الصحابةِ منْهم عمرَ قالَ: إذا تزوَّجَ الرجلُ المرأةَ بشرطِ أنْ لا يُخْرِجَها لزمَ، وبهِ يقولُ الشافعيُّ

(5)

وأحمدُ

(6)

وإسحاقُ، إلَّا أنهُ قدْ تعقِّبَ (5) بأنَّ نَقْلَهُ عن الشافعي غريبٌ، والمعروفُ عن الشافعيةِ أن المرأدَ منَ الشروطِ هيَ التي لا تنافي النِّكَاحَ بلْ تكونُ منْ مقتضياتِه ومقاصِدهِ كاشتراطِ حُسْنِ العشرةِ والإنفاقِ [والكسوةِ]

(7)

والسُّكْنَى وأنْ لا يقصِّرَ في شيءٍ منْ حقِّها منْ [قِسْمَةٍ]

(8)

ونفقةٍ وكَشَرْطِهِ عليها ألا تخرجَ إلا بإذنِه وأنْ لا تصرف في متاعِهِ ونحوِ ذلكَ.

قلتُ: هذهِ الشروطُ إنْ أرادُوا أنهُ يحملُ عليها الحديثُ فقدْ قلَّلُوا فائدتَه؛ لأنَّ هذهِ أمورٌ لازمةٌ للعقدِ لا تفتقرُ إلى شرطٍ، وإنْ أرادُوا غيرَ ذلكَ فما هوَ؟ نعمْ لو شَرَطَتْ ما ينافي العقدَ كأنْ لا يقسمَ لها ولا يتسرَّى عليها فلا يجبُ الوفاءُ بهِ، قالَ الترمذيُّ

(9)

: قالَ عليٌّ رضي الله عنه سبقَ شرطُ اللَّهِ شَرْطَها. فالمرادُ في الحديثِ

(1)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 113).

(2)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 52 - 53) بتحقيقنا.

(3)

في "سننه"(6/ 120). وأخرجه ابن ماجه (1955)، وأحمد (2/ 182)، وعبد الرزاق في "المصنف"(6/ 257 رقم 10739)، والبيهقي (7/ 248)، وفي إسناده ابن جريج مدلس وقد عنعنه وتابعه عند البيهقي مدلس آخر وهو الحجاج بن أرطاة، فهو حديث ضعيف ضعَّفه المحدث الألباني في "الضعيفة"(رقم 1007).

(4)

نحو ماذا؟ إنما قال الترمذي هذا الكلام بعد تخريج حديث عقبة بن عامر، وانظره في "السنن"(3/ 434)، والذي يبدو أن الشارح قد حدث له سبق نظر في نقله من "الفتح"(9/ 218).

(5)

انظر: "فتح الباري"(9/ 218).

(6)

انظر: "المغني"(7/ 448 - 449).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

في (أ): "كسوة".

(9)

في "السنن"(3/ 434).

ص: 48

الشروطُ الجائزةُ لا المنْهِيُّ عنها، فأمَّا شرطُها أنْ لا يخرجَها منْ منزِلها فهذَا شرطٌ غيرُ مَنْهِيٍّ عنهُ فيتعينُ بهِ الوفاءُ.

‌نكاح المتعة حرام

25/ 936 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوْطَاسٍ في الْمُتْعَةِ، ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، ثُمَّ نَهى عَنْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ سلمةَ بن الأكوعِ رضي الله عنه قالَ: رخَّصَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عامَ أوطاسٍ في المتعةِ ثلاثةَ أيامٍ ثمَّ نَهَى عنْهَا. رواهُ مسلمٌ).

اعلمْ أن حقيقةَ المتعةِ كما في كتبِ الإماميةِ

(2)

هي النكاحُ المؤقتُ بأمدٍ معلومٍ أوْ مجهولٍ، وغايتُه إلى خمسةٍ وأربعينَ يومًا ويرتفعُ النكاحُ بانقضاءِ المؤقتِ في المنقطعةِ الحيضِ، وبحيضتين في الحائضِ، وبأربعةِ أشهرٍ وعشرٍ في المُتَوَفَّى عنْها زوجُها. وحُكْمُه أنْ لا يثبتَ لها مهرٌ غيرُ المشروطِ ولا تثبت لها نفقة ولا توارثٌ ولا عدَّةٌ إلا الاستبراءُ بما ذُكِرَ، ولا يثبتُ بها نسبٌ إلَّا أنْ يشترطَ وتحرمُ المصاهرةُ بسببهِ، هذا كلامُهم. وحديثُ سلمةَ هذا أفادَ أنهُ صلى الله عليه وسلم رخَّصَ في المتعةِ ونَهَى عنْها، واستمرَّ النَّهْيُ ونُسِخَتِ الرخصةُ، وإلى نَسْخِها ذهبَ الجماهيرُ

(3)

منَ السلفِ والخلفِ، وقدْ رُوِيَ نسخُها بعدَ الترخيصِ في ستَّةِ

(4)

مواطنَ:

الأولُ: في خيبر.

الثاني: في عمرةِ القضاءِ.

الثالث: عامَ الفتحِ.

الرابع: عامَ أوطاسٍ.

الخامسُ: غزوةُ تبوكَ.

السادسُ: في حجَّةِ الوداعِ. فهذهِ التي وردتْ، إلا أن في ثبوتِ بعضِها خلافًا.

(1)

في "صحيحه"(18/ 1405). وأخرجه ابن أبي شيبة (4/ 292)، والبيهقي (7/ 204)، وابن حبان (9/ 457 رقم 4151 - الإحسان).

(2)

انظر: "الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية"(5/ 245 وما بعدها).

(3)

انظر: "فتح الباري"(9/ 173).

(4)

انظر: "فتح الباري"(9/ 169).

ص: 49

قالَ النوويُّ

(1)

: الصوابُ أن تحريمَهَا وإباحتَها وَقَعَا مرتينِ، فكانتْ مباحةً قبلَ خيبرَ ثم حُرِّمَتْ فيها، ثم أبيحتْ عامَ الفتحِ وهو عامُ أوطاسٍ ثمَّ حُرِّمَتْ تحريمًا مؤبَّدًا، وإلى هذا التحريمِ ذهبَ أكثرُ الأمةِ، وذهبَ إلى بقاءِ الرخصةِ جماعةٌ منَ الصحابةِ ورُوِيَ رجوعُهم وقولُهم بالنسخِ، ومنْ أولئكَ ابنُ عباسٍ

(2)

رُوِيَ عنهُ بقاءُ الرخصةِ ثمَّ رجعَ عنهُ إلى القولِ بالتحريم. قالَ البخاريُّ

(3)

: بيَّنَ علي رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهُ منسوخٌ، وأخرجَ ابنُ ماجهْ

(4)

عنْ عمرَ رضي الله عنه بإسنادٍ صحيحٍ أنهُ خطبَ فقالَ: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أذنَ لنا في المتعةِ ثلاثًا ثمَّ حرَّمَها، واللَّهِ لا أعلمُ أحدًا تمتَّعَ وهوَ محصَنٌ إلا رجمتُه بالحجارةِ، وقالَ ابنُ عمرَ

(5)

رضي الله عنه: نهانا عنها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وما كنَّا مسافحينَ، إسنادُه قويٌّ. والقولُ بأنَّ إباحتَها قَطْعِي ونسخُها ظنيٌّ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الرَّاوينَ لإباحتِها رَوَوْا نَسْخَها وذلكَ إما قَطْعي في الطرفينِ أو ظنيٌّ في الطرفينِ جميعًا، كذَا في الشرحِ، وفي "نهايةِ المجتهدِ"

(6)

أنَّها تواترتِ الأخبارُ بالتحريمِ إلَّا أنَّها اختلفتْ في الوقتِ الذي وقعَ فيهِ التحريمُ، انتهَى.

(1)

انظر: "شرح مسلم" له (9/ 181).

(2)

روى البخاري في "صحيحه"(5116)، عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء فرخَّص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفى النساء قلة أو نحوه، فقال ابن عباس: نعم.

وقال الألباني في "الإرواء"(6/ 319): وجملة القول أن ابن عباس رضي الله عنه روي عنه في المتعة ثلاثة أقوال:

الأول: الإباحة مطلقًا.

الثاني: الإباحة عند الضرورة.

والآخر: التحريم مطلقًا، وهذا مما لم يثبت عنه صراحة بخلاف القولين الأولين فهما ثابتان عنه. واللَّهُ أعلم. اهـ.

(3)

في "صحيحه"(9/ 167 آخر الحديث رقم 5119).

(4)

في "سننه"(1963). وقد حسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1/ 332 رقم 1598) وصحّحه الحافظ في "التلخيص"(3/ 154).

(5)

عزاه الحافظ في "التلخيص"(3/ 154) للطبراني في "الأوسط" من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري عن سالم: أتي ابن عمر فقيل له: إن ابن عباس يأمر بنكاح المتعة فقال: معاذ الله ما أظن ابن عباس يفعل هذا، فقيل: بلى، قال: وهل كان ابن عباس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غلامًا صغيرًا، ثم قال ابن عمر:

فذكره ثم قال: إسناده قوي.

(6)

(3/ 110 - 111).

ص: 50

وقدْ بسطْنا القولَ في تحريمِها في "حواشي ضوء النهارِ"

(1)

.

26/ 937 - وَعَنْ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

- وَعَنْهُ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ. أَخْرَجَهُ السّبْعَةُ

(3)

إلَّا أَبَا دَاوُدَ. [صحيح]

- وَعَنْ رَبِيعِ بْنِ سَبُرَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنِّي كنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ في الاسْتِمْتَاعِ مِنَ النسَاءِ، وَإنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأخُذُوا مِمَّا آتَيتُمُوهُن شَيئًا"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

وأَبُو دَاوُدَ

(5)

وَالنَّسَائِي

(6)

وَابْنُ مَاجَه

(7)

وَأَحْمَدُ

(8)

وَابْنُ حِبّانَ

(9)

. [صحيح]

(وعنْ عليٍّ رضي الله عنه قالَ: نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن المتعةِ عامَ خيبرَ. متفقٌ عليهِ)

لَفْظُهُ في البخاري: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المُتعةِ وعنِ الحُمُرِ الأهليةِ زمنَ خيبرَ"

(1)

(2/ 744 - 746).

(2)

لم أجده بهذا اللفظ في الصحيحين وإنما هو فيهما باللفظ التالي له.

(3)

البخاري (4216)، وأطرافه (5115، 5523، 6961)، ومسلم (1407)، والترمذي (1121)، والنسائي (6/ 125، 126)، وابن ماجه (1961)، وأحمد (1/ 79).

قلت: وأخرجه ابن الجارود (رقم 697)، والدارقطني (3/ 257 رقم 51)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 177)، والبيهقي (7/ 201)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(6/ 802)، ومالك في "الموطأ"(2/ 542 رقم 41)، والشافعي (2/ 14 رقم 35 - ترتيب المسند" والطيالسي (ص 18 رقم 111)، والدارمي (2/ 140) من أوجه عنه رضي الله عنه وفي الباب: عن عمر بن الخطاب وسلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد وأبي هريرة وجابر وثعلبة بن الحكم وأبي عمر وأبي ذر والحارث بن غزية وسهل بن سعد وكعب بن مالك وابن عباس وابن مسعود وأنس وحذيفة، انظر تخريجها في كتابنا "إرشاد الأمة

" جزء النكاح.

(4)

في "صحيحه"(21/ 1406).

(5)

في "سننه"(2072، 2073) مختصرًا.

(6)

في "سننه"(3368).

(7)

في "سننه"(1962).

(8)

في "المسند"(3/ 404، 405).

(9)

في "صحيحه"(9/ 454 رقم 4147 - الإحسان). وأخرجه ابن الجارود (699)، والطحاوي (3/ 25، 26)، والدارمي (2/ 140)، والبيهقي (7/ 203، 204)، وابن أبي شيبة (4/ 292) وغيرهم.

ص: 51

بالخاءِ المعجمةِ أوَّلَهُ والراءِ آخرَهُ. وقدْ وَهِمَ

(1)

مَنْ رَواهُ عامَ حُنَيْنٍ بمهملةٍ أوَّلَهُ ونونٍ آخره. أخرجَهُ النسائيُّ والدارقطنيُّ وَنبَّه على أنهُ وَهْمٌ. ثمَّ الظاهرُ أن الظَّرْفَ في روايةِ البخاري متعلِّقٌ بالأمرينِ معًا المتعةِ ولحومِ الحمرِ الأهليةِ، وحَكَى البيهقيُّ

(2)

عن الْحُمَيْدِي أنهُ كانَ يقولُ سفيانُ بنُ عيينةَ: "في خيبرَ" يتعلقَ بالحمُرِ الأهليةِ لا بالمتعةِ، قالَ البيهقيُّ: هوَ محتمِلٌ ذلكَ ولكنَّ أكثرَ الرواياتِ يفيدُ تعلُّقَه بِهِمَا. وفي روايةٍ لأحمدَ

(3)

منْ طريقِ مَعْمَر بسندِه أنهُ بلغهُ

(4)

أن ابنَ عباسٍ رضي الله عنه رخَّصَ في متعةِ النساءِ فقالَ لهُ: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنهُ يومَ خيبرَ وعنْ لحومِ الحمُرُ الأهليةَ، إلَّا أنهُ قالَ السُّهَيْلِي

(5)

: إنهُ لا يُعْرَفُ عنْ أهلِ السيرِ ورُوَاةِ الآثارِ أنهُ نَهَى عن نِكاحِ المتعةِ يومَ خيبرَ، قالَ: والذي يظهرُ أنهُ وقعَ تقديمٌ وتأخيرٌ. وقدْ ذكرَ ابنُ عبدِ البرِّ

(6)

أن الحميدي ذكرَ عن ابن عُيَيْنَةَ أن النَّهْيَ زمنَ خيبرَ عن لحومِ الحمرِ الأهليةِ، وأما المتعةُ فكانَ في غيرِ يومِ خيبرِ. وقالَ أبو عوانَة

(7)

في صحيحه: سمعتُ أهلَ العلمِ يقولونَ: معنَى حديثِ عليٍّ رضي الله عنه، أنهُ نَهَى يومَ خيبرَ عنْ لحومِ الحمُرُ، وأما المتعةُ فسكتَ عنها، وإنَّما نَهَى عنْها يومَ الفتحِ، والحاملُ لهؤلاءِ على ما سمعت ثبوتُ الرخصةِ بعدَ زمنِ خيبرَ ولا تقومُ لعليٍّ رضي الله عنه الحجةُ على ابن عباسٍ إلا إذا وقعَ النَّهْيُ عنْها أخيرًا، إلَّا أنهُ يمكنُ الانفصالُ عنْ ذلكَ بأنَّ عليًا رضي الله عنه لم تبلغْهُ الرخصةُ فيها يومَ الفتحِ لوقوعِ النَّهْي عنْ قرب، ويمكنُ أن عليًا رضي الله عنه عرفَ بالرُّخصةِ يومَ الفتحِ ولكنَّ فهمَ توقيتِ الترخيصِ وهوَ أيامُ شدةِ الحاجةِ معَ العزوبةِ، وبعدَ مُضِيِّ ذلكَ فهِيَ باقيةٌ على أصلِ التحريمِ المتقدَّمِ فتقومُ [لهُ]

(8)

الحجةُ على ابن عباسٍ. وأما قولُ ابنُ القيّمِ

(9)

: إنَّ المسلمينَ لم يكونُوا يستمتعونَ بالكتابياتِ

(10)

، يريدُ أن يتقوَّى به على أن النَّهْي لم يقعْ [يوم]

(11)

خيبرَ،

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 168).

(2)

انظر: "السنن الكبرى"(7/ 201 - 202).

(3)

عزاها إليه الحافظ في "الفتح"(9/ 168) ولم أقف عليها في المسند.

(4)

أي بلغ عليًا رضي الله عنه.

(5)

انظر: "فتح الباري"(9/ 168 - 169).

(6)

انظر: "التمهيد"(10/ 95).

(7)

انظر: "فتح الباري"(9/ 169).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

انظر: "زاد المعاد"(3/ 344 - 345).

(10)

الذي في الزاد: اليهوديات.

(11)

في (ب): "عام".

ص: 52

إذْ لم يقعْ هناكَ نكاحُ متعةٍ فقدْ يجابُ عنهُ بأنهُ قدْ يمكن بأن يكونَ هناك مشركاتٌ غيرُ كتابياتٍ؛ فإنَّ أهْلَ خيبرَ كانُوا يُصاهرُونَ الأوسَ والخزرجَ قبلَ الإسلامِ فلعلَّه كانَ هناكَ منْ نساءِ الأوسِ والخزرجِ منْ يَسْتَمْتِعُونَ مِنْهُنَّ.

‌تحريم التحليل

27/ 938 - وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ. رواه أَحْمَدُ

(1)

وَالنَّسَائِي

(2)

وَالترْمِذِيُّ

(3)

وَصَحّحَهُ. [صحيح]

- وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ

(4)

إلَّا النَّسَائي. [صحيح]

(وعنِ ابن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المحلِّلَ والمحلَّلَ له. رواهُ أحمدُ والنسائي والترمذي وصحَّحَهُ: وفي البابِ عنْ علي رضي الله عنه ولفظُه عنْ عليٍّ أنهُ صلى الله عليه وسلم: "لعنَ المحللَ والمحلَّلَ لهُ"، (أخرَجَهُ الأربعة إلَّا النسائيَّ) وصحَّحَ

(5)

حديثَ ابن مسعودٍ ابنُ القَطانِ، وابنُ دقيقٍ العيدِ على شرطِ البخاري، وقالَ الترمذيُّ

(6)

: حديثٌ صحيحٌ حسنٌ، والعملُ عليهِ عندَ أهلِ العلمِ منهمْ عمرُ وعثمانُ وابنُ عمرَ

(7)

وهوَ قولُ الفقهاءِ منَ التابعينَ، وأما حديثُ عليٍّ رضي الله عنه ففي

(1)

في "المسند"(1/ 450).

(2)

في "سننه"(6/ 149).

(3)

في "سننه"(1120). وأخرجه البيهقي (7/ 208) وصحَّحه الألباني في "صحيح الترمذي"(894)، ويشهد له ما يأتي.

(4)

أبو داود (2076)، والترمذي (1119)، وابن ماجه (1935)، وأحمد (1/ 87).

وأخرجه البيهقي (7/ 208)، وصحّحه الألباني في "صحيح أبي داود"(2/ 392 رقم 1827) ويشهد له ما قبله، وأيضًا ما أخرجه: ابن ماجه (1/ 623 رقم 1936)، والدارقطني (3/ 251 رقم 28)، والحاكم (2/ 199)، وصحَّحه والبيهقي (7/ 208)، من حديث عقبة بن عامر، وكذلك ما أخرجه: أحمد: (2/ 323)، وابن الجارود (684)، والبيهقي (7/ 208) وابن أبي شيبة (4/ 296)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

انظر: "التلخيص الحبير"(3/ 170 رقم 1530).

(6)

في "سننه"(3/ 429).

(7)

في المطبوع "عبد اللهِ بن عمر"، وفي المخطوط "ابن عمر"، وفي "السنن""عبد اللهِ بن عمرو".

ص: 53

إسنادهِ مجالدٌ وهوَ ضعيفٌ وصحَّحَهُ ابنُ السَّكَنٍ

(1)

وأعلَّهُ الترمذيُّ

(2)

ورواهُ ابنُ ماجهْ والحاكمُ منْ حديثِ عقبةَ بن عامرٍ ولفظُه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرُكم بالتيسِ المستعَارِ"؟ قالُوا: بَلَى يا رسولَ اللهِ، قالَ:"هو المحلِّلُ، لعنَ اللَّهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ لهُ".

والحديثُ دليل على تحريمِ التحليلِ؛ لأنهُ لا يكونُ اللعنُ إلا على فاعلِ المحرَّمِ وكلُّ محرَّمٍ مَنْهِيٌّ عنهُ، والنَّهْيُ يقتضي فسادَ العقدِ، واللعنُ وإنْ كانَ للفاعلِ لكنَّهُ عُلِّقَ بوصفٍ يصحُّ أنْ يكونَ علةَ للحكمِ. وذكَرُوا للتحليلِ صُوَرًا، منْها أن يقولَ لهُ في العقدِ: إذا أحلَلْتُها فلا نكاحَ، وهذا مِثْلُ نكَاحِ المتعةِ لأجْلِ التوقيتِ، ومنْها أنْ يقولَ في العقدِ إذا حللتها طلَّقْتَها، ومنْها أنْ يكونَ مُضْمرًا عندَ العقدِ بأنْ يتواطئا على التحليلِ ولا يكونُ النكاحُ الدائمُ هوَ المقصودُ.

وظاهرُ شمولِ اللعنِ فسادُ العقدِ لجميعِ الصورِ، وفي بعضِها خلافٌ بلا دليل ناهضٍ فلا يُشْتَغَلُ [به]

(3)

.

‌نكاح الزاني والزانية

28/ 939 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ الزانِي الْمَجْلُودُ إلَّا مِثْلَهُ"، رَوَاهُ أحْمَدُ

(4)

وَأَبُو دَاوُدَ

(5)

وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا ينكحُ الزَّاني المجلودُ إلَّا مِثْلَه. رواهُ أحمدُ وأبو داودَ ورجالُه ثَقاتٌ). الحديثُ دليل على أنهُ يحرمُ على المرأةِ أن تُزَوَّجَ بمنْ ظَهَرَ زِنَاهُ، ولعل الوصفَ بالمجلودِ بناء على الأغلبِ في حق مَنْ ظَهَرَ منهُ الزنَى، وكذلكَ الرجلُ يحرُمَ عليهِ أنْ يتزوَّجَ بالزانيةِ التي ظَهَر زِنَاها. وهذا الحديثُ موافقٌ قولَهُ تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}

(6)

، إلا أنه حَمَلَ

(1)

انظر: "التلخيص"(3/ 170 رقم 1530).

(2)

في "سننه"(3/ 428).

(3)

في (ب): "بها".

(4)

في "المسند"(2/ 324).

(5)

في "سننه"(2052).

قلت: وهو حديث صحيح، صحَّحه المحدث الألباني في "صحيح أبي داود"(2/ 386 رقم 1807).

(6)

سورة النور: الآية 3.

ص: 54

الحديثَ والآيةَ الأكثرُ منَ العلماءِ

(1)

على أن معنَى لا ينكحُ: لا يَرْغَبُ الزَّاني المجلودُ إلَّا في مثلِه، والزانيةُ لا ترغبُ في نكاحِ غيرِ العاهرِ، هكذَا تأوَّلوهُما، والذي يدلُّ عليهِ الحديثُ والآيةُ النَّهيُ عنْ ذلكَ لا الإخبارُ عنْ مجردِ الرغبةِ، وأنهُ يحرمُ نكاحُ الزاني العفيفةَ والعفيفُ الزانيةَ، ولا أصرحَ منْ قولِه:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، أي كاملي الإيمانِ الذينَ همْ ليسُوا بِزُنَاةٍ، وإلَّا فإنَّ الزاني لا يخرجُ عنْ مسمَّى الإيمانِ عندَ الأكثرِ.

‌لا تحل المطلَّقة لمطلِّقها حتى يذوق الآخر عُسيلتها

29/ 940 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأرَادَ زَوْجُهَا الأوَّلُ أنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:"لَا، حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ مِنْ عُسَيلَتِهَا مَا ذَاقَ الأوَّلُ"، مُتَّفَق عَلَيْهِ

(2)

، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنهما قالتْ: طلَّقَ رجلٌ امرأتَه ثلاثًا فتزوَّجَها رجلٌ ثمَّ طَلَّقَها قَبْلَ أنْ يدخلَ بها، فأرادَ زوْجُها الأولُ أنْ يتزوَّجَها فسُئلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ ذلكَ فقالَ: لا حتَّى يذوقَ الآخرُ منْ عُسَيْلَتِهَا)، مصغَّرُ عسلٍ، وأُنِّثَ

(4)

لأنَّ العسلَ مؤنثٌ، وقيلَ إنهُ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، (ما ذاقَ الأولُ. متفقٌ عليهِ واللفظُ لمسلمٍ).

اختُلِفَ في المرادِ بالعُسيلةِ، فقيلَ: إنزالُ المنيِّ، وأنَّ التحليلَ لا يكونُ إلا بذلكَ وذهبَ إليهِ الحسنُ

(5)

، وقالَ الجمهور (5): ذَوْقُ العُسيلةِ كنايةٌ عن المجامعةِ وهوَ تغييبُ الحَشَفَةِ منَ الرجلِ في فرجِ المرأةِ، ويكفي منهُ ما يوجبُ الحدَّ ويوجبُ الصَّداقَ.

(1)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 73) بتحقيقنا.

(2)

البخاري: (2639)، ومسلم (1433).

قلت: وأخرجه أبو داود (2309)، والترمذي (1118)، والنسائي (6/ 148)، وابن ماجه (1932) وغيرهم.

(3)

في "صحيحه"(115/ 1433).

(4)

قال الحافظ في "الفتح"(9/ 466): جزم به القزاز ثم قال: وأحسب التذكير لغة. اهـ.

(5)

انظر: "فتح الباري"(9/ 466 - 467).

ص: 55

وقالَ الأزهريُّ

(1)

: الصَّوابُ أن معنَى الغسيلةِ حلاوةُ الجِماعِ التي تحصُلُ بتغييبِ الحشفةِ. وقالَ أبو عبيدٍ

(2)

: العسيلةُ لذَّةُ الجِمَاعِ، والعربُ تُسَمّي كلَّ شيءٍ تَستَلِذُّهُ عَسَلًا، والحديثُ محتملٌ.

وأما قولُ سعيدِ بن المسيِّبِ إنهُ يحصلُ التحليلُ بالعقْدِ الصحيحِ، فقد قال ابنُ المنذرِ

(3)

: لا نعلمُ أحدًا وافقَهُ عليهِ إلا الخوارجَ، ولعلَّهُ لم يبلغْهُ الحديثُ فأخذَ بظاهر القرآنِ، وأما روايةُ ذلكَ عنْ سعيدِ بن جُبَيْرٍ فلا يوجد مُسْنَدًا عنهُ في كتاب إنَّما نقلَه (2) أبو جعفرٍ النحاس في معاني القرآنِ، وتَبِعَهُ (2) عبدُ الوهَّابِ المالكيُّ في شرحِ الرسالةِ، وقدْ حَكَى ابنُ الجوزيِّ (2) قولَ ابن المسيِّبِ عنْ داودَ.

* * *

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 466 - 467).

(2)

انظر: "فتح الباري"(9/ 467) ولم أقف عليه في "غريب الحديث" له.

(3)

انظر: "فتح الباري"(9/ 467).

ص: 56

[الباب الثاني] باب الكفاءة والخيار

الكفاءةُ: المساواةُ والمماثلةُ، والكفاءةُ في الدِّينِ معتبرةٌ فلا يحلُّ تزَوُّج مسلمةٍ بكافرٍ إجماعًا

(1)

.

‌الكفاءة واشتراطها

1/ 941 - عَنٍ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكفَاءُ بَعضٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ كفَاءُ بَعْضٍ، إلَّا حَائِكًا أوْ حَجَّامًا"، رَوَاهُ الْحَاكِمُ

(2)

، وَفي إِسْنَادهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِم

(3)

. [موضوع]

- وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْبَزَّارِ

(4)

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلِ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ. [ضعيف جدًّا]

(1)

قال في "الفتح"(9/ 132): واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه فلا تحل المسلمة لكافر أصلًا. اهـ.

(2)

لم أجده في "المستدرك". وإنما أخرجه البيهقي (7/ 134) من طريق الحاكم، وقال البيهقي:"هذا منقطع بين شجاع وابن جريج حيث لم يسم شجاع بعض أصحابه" اهـ.

قلت: وابن جريج مدلس وقد عنعنه. وحكم الألباني على الحديث بالوضع في "ضعيف الجامع"(4/ 66 رقم 3861).

(3)

وقال في "العلل" لابنه (1/ 412 رقم 1236): هذا كذب لا أصل له. اهـ.

وقال في موضع آخر (1/ 421 رقم 1267): باطل: أنا نهيت ابن أبي شريح أن يحدِّث به. اهـ.

قلت: وقد حكم عليه بالوضع: ابن حبان في "المجروحين"(2/ 124)، والذهبي في "الميزان"(3/ 241)، وابن عدي في "الكامل"(5/ 1749).

(4)

عزاه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 275) وقال: فيه سليمان بن أبي الجون ولم أجد من ذكره وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ.

وقال الحافظ في "الفتح"(9/ 133): إسناده ضعيف. اهـ.

ص: 57

(عن ابن عمرَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: العربُ بعضهم أكْفاءُ بعضٍ، والموالي بعضُهم أكْفاءُ بعضٍ إلَّا حائِكًا أو حجَّامًا. رواهُ الحاكمُ، وفي إسنادِه راوٍ لم يسَمَّ، واستنكرَهُ أبو حاتمٍ، ولهُ شاهدٌ عندَ البزَّارِ عنْ معاذِ بن جبلٍ بسندٍ منقطعٍ).

وسألَ ابنُ أبي حاتمٍ

(1)

عنْ هذا الحديثِ أباهُ فقالَ: هذا كَذِبٌ لا أصلَ لهُ، وقالَ في موضعٍ آخرَ: باطلٌ. ورواهُ ابنُ عبدِ البرِّ في "التمهيدِ"

(2)

، قالَ الدارقطنيُّ في "العلل": لا يصِحُّ. وحدَّثَ بهِ هشامُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرازي فزادَ فيهِ بعد أوْ حجَّامًا: أو دبَّاغًا، فاجتمعَ عليهِ الدبَّاغونَ وهمُّوا بهِ. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ (2): هذا مُنْكَرٌ موضوعٌ ولهُ طُرُقٌ كلُّها واهيةٌ. والحديثٌ دليلٌ على أن العربَ كلهم سواءٌ في الكفاءةِ بعضُهم لبعض وأنَّ المواليَ ليسُوا أكفَاءَ لهمْ، وقدِ اختلفَ العلماءُ في المعتَبَرِ منَ الكفاءةِ خلافًا كثيرًا، والذي يقوى هوَ ما ذهبَ إليهِ زيدُ

(3)

بن عليٍّ ومالكٌ

(4)

ويُرْوَى

(5)

عن عمرَ وابنِ مسعودٍ وابنِ سيرينَ وعمرَ بن عبدِ العزيز وأحدُ قَوْلَي الناصرِ (3) أنَّ المعتَبَرَ الدِّينُ لقولِه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

(6)

، ولحديثِ:"الناسُ كلُّهم ولدُ آدمَ": تمامُه: "وآدمُ منْ تراب"، أخرجَه ابنُ سعدٍ

(7)

منْ حديثِ أبي هريرةَ وليسَ فيهِ لفظُ كلهم، "والناسُ كَأسنانِ المشطِ لا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ إلَّا بالتقوى"، أخرجَهُ ابنُ لالٍ

(8)

بلفظٍ قريبٍ منْ لفظه من حديثِ سهلِ بن سعدٍ. وأشارَ البخاري إلى نُصْرَةِ هذا القولِ حيثُ قالَ: بابُ

(9)

الإكفاءِ في الدينِ، وقولُه تعالَى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا}

(10)

الآيةَ، فاستنبطَ منَ

(1)

في "العلل" له (1/ 412 رقم 1236).

(2)

"التمهيد" لما في "الموطأ" من المعاني والأسانيد (19/ 164 - 165).

(3)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 49).

(4)

انظر: "التمهيد"(19/ 163).

(5)

انظر: "فتح الباري"(9/ 132).

(6)

سورة الحجرات: الآية 13.

(7)

في "الطبقات"(1/ 25). وأخرجه مطولًا: أبو داود (5116)، والترمذي (3955، 3956)، وقال في الأول: حسن غريب، وقال في الثاني: وهذا أصح عندنا من الحديث الأول. وأخرجه أيضًا البيهقي (10/ 232)، وأحمد (2/ 361، 524) وهو حديث حسن حسنه الألباني في "الصحيحة"(1009)، وانظر أيضًا:"غاية المرام"(ص 190 رقم 312).

(8)

عزاه إليه صاحب "كنز العمال"(9/ 38 رقم 24822) وفيه: الناس سواء كأسنان المشط وإنما يتفاضلون بالعبادة، ولا تصحبنَّ أحدًا لا يرى لله من الفضل مثل ما ترى له".

(9)

في "صحيحه"(9/ 131 باب رقم 15).

(10)

سورة الفرقان: الآية 54.

ص: 58

الآيةِ الكريمةِ المساواةَ بينَ بني آدمَ ثمَّ أَرْدَفَهُ

(1)

بإنكاحِ أبي حذيفةَ منْ سالمِ بابنةِ أخيهِ هند بنتِ الوليدِ بن عتبةَ بن ربيعةَ، وسالمٌ مولى لامرأةٍ منَ الأنصارِ، وقد تقدَّم

(2)

حديثُ: "فعليكَ بذاتِ الدينِ". وقدْ خطبَ

(3)

النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ فتحِ مكةَ فقالَ: "الحمدُ للهِ الذي أَذْهَبَ عنكمْ عُبِّيَّة

(4)

- بضم المهملةِ وكسرِها - الجاهليةِ وَتَكَبُّرِها. يا أيها الناسُ إنَّما الناسُ رجلانِ: مؤمنٌ تقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّهِ"، ثمَّ قرأ الآيةَ وقالَ

(5)

: "منْ سرَّهُ أنْ يكونَ أكرمَ الناسِ فليتقِ اللَّهِ"، فجعلَ صلى الله عليه وسلم الالتفاتَ إلى الأنسابِ منْ عُبِّيَّةِ الجاهليةِ وتكبُّرِها، فكيفَ ويعتبرها المؤمنُ ويبني عليها حُكْمًا شرعيًا، وفي الحديثِ:"أربعٌ منْ أمورِ الجاهليةِ لا يتركُها الناسُ"، ثم ذكرَ منْها الفخرَ بالأنسابِ. أخرجَهُ ابنُ جريرٍ

(6)

منْ حديثِ ابن عباسٍ.

وفي الأحاديثِ شيءٌ كثيرٌ في ذمِّ الالتفاتِ إلى الترفُّعِ بها. وقدْ أمرَ

(7)

صلى الله عليه وسلم بني بياضةَ بإنكاحِ أبي هندٍ الحجَّامَ وقالَ: "إنَّما هوَ امرؤٌ منَ المسلمينَ"، فنبَّهَ على الوجْهِ المقتضي لمساواتِهم وهوَ الاتفاقُ في وصفِ الإسلام.

وللناس في هذه المسألة عجائبُ لا تدورُ على دليلٍ غير الكبرياءِ والترفُّع، ولا إله إلا اللَّهُ كم حُرِمتِ المؤمناتُ النكاحَ لكبرياء الأولياء واستعظامهم لأنفسهم، اللهمَّ نبرأُ إليكَ منْ شرط وَلَّدَه الهَوَى وربَّاهُ الكبرياءُ. ولقدْ مُنِعَتِ الفاطمياتُ في

(1)

يعني البخاري (5088).

(2)

برقم (4/ 915)، من كتابنا هذا وهو متفق عليه.

(3)

أخرجه أبو داود (5116)، والترمذي (3955)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث حسن، حسَّنه المحدث الألباني في "صحيح أبي داود"(3/ 964 رقم 4269).

(4)

قال في "النهاية"(3/ 169): وهي فُعُّولة أو فعِّيلة، فإن كانت فعولة فهي من التعبية لأن المتكبر ذو تكلف وتعبية خلاف من يسترسل على سجيته، وإن كانت فعِّيلة فهي من عباب الماء وهو أوله وارتفاعه، وقيل: إن اللام قلبت ياء. اهـ، وقيل غير ذلك.

(5)

لم أجده.

(6)

لم أجده في تفسيره لا من حديث ابن عباس ولا غيره، وقد أخرج مسلم في "صحيحه"(29/ 934)، وأحمد (5/ 342، 343، 344)، من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعًا: إلا أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وهو حديث صحيح.

(7)

يأتي قريبًا برقم (3/ 943).

ص: 59

جهةِ اليمنِ ما أحلَّ اللَّهُ لهنَّ منَ النكاحِ لقولِ بعضِ أهلِ مذهبِ الهادوية

(1)

إنهُ يحرمُ نكاحُ الفاطميةِ إلا من فاطميٍّ منْ غيرِ دليلٍ ذكرُوه، وليسَ مذهبًا لإمامِ المذهبِ الهادي عليه السلام، بلْ زوَّج بناتِه من الطبريين. وإنَّما نشأ هذا القولُ منْ بعدِه في أيام الإمامِ أحمدَ بن سليمانَ وتَبعَهم بيتُ رياستها فقالُوا بلسانِ الحالِ [بتحريم]

(2)

شرائِفهم على الفاطميينَ إلَّا منْ مِثْلِهم، وكلُّ ذلكَ منْ غيرِ علمٍ ولا هُدًى ولا كتابٍ منيرٍ، بلْ ثبتَ خلافُ ما قَالُوه عنْ سيِّدِ البشرِ كما دلَّ لهُ:

2/ 942 - وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا:"انْكِحِي أُسَامَةَ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

. [صحيح]

‌ترجمة فاطمة بنت قيس

(وعنْ فاطمةَ بنتِ قيسٍ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ لها: انكحي أسامةَ. رواهُ مسلمٌ) وفاطمةُ

(4)

قرشيةٌ فِهْرِيَّةٌ أختُ الضَّحَّاكِ بن قيسٍ، وهيَ منَ المهاجراتِ الأوَّلِ كانتْ ذاتَ جمالٍ وفَضْلٍ وكمالٍ، جاءتْ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ أنْ طَلَّقَها أبو عمرو بن حفصِ بن المغيرةِ بعدَ انقضاءِ عِدَّتِها منهُ فأخبرتْه أن معاويةَ بنَ أبي سفيانَ وأبا جُهْم خَطَبَاها، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أما أبو جهمٍ فلا يضعُ عصاهُ عنْ عاتقِه، وأما معاوية فصعلوكٌ لا مالَ له، انكحي أسامةَ بنَ زيدٍ - الحديثَ"، فأمرَها بنكاحِ أسامةَ مولاهُ ابن مولاهُ وهي قرشيةٌ، وقدَّمه على أكْفَائِها ممنْ ذُكِرَ ولا علمَ أنهُ طلبَ منْ أحدٍ منْ أوليائِها إسقاطَ حقِّه، وكأن المصنف رحمه الله أورد هذا الحديث بعد بيان ضعف الحديث الأول للإشارةِ إلى أنهُ لا عبرةَ في الكفاءةِ بغيرِ الدينِ كما أوردَ لذلكَ قولَهُ:

3/ 943 - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "يا

(1)

انظر: "الاعتصام بحبل الله"(3/ 255).

(2)

في (ب): "يحرُم".

(3)

في "صحيحه"(36/ 1480).

قلت: وأخرجه أبو داود (2284)، والترمذي (1135)، والنسائي (6/ 75 - 76)، وابن ماجه (1869)، وأحمد (6/ 411، 412)، ومالك (2/ 580 رقم 67)، والبيهقي (7/ 180 - 181) وغيرهم مطولًا.

(4)

انظر ترجمتها في: "سير أعلام النبلاء"(2/ 319 رقم 60) و"الاستيعاب"(13/ 129) و"الإصابة"(13/ 85)، و "تهذيب التهذيب"(12/ 471).

ص: 60

بَنِي بَيَاضَةَ، أَنكِحُوا أَبَا هِنْدٍ، وَانْكِحُوا إلَيهِ"، وَكَانَ حَجَّامًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

وَالْحَاكِمُ

(2)

بِسَنَدٍ جَيِّدٍ. [حسن]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: يا بني بياضةَ أنكِحُوا أبا هندٍ) اسمُهُ يسارُ

(3)

وهوَ الذي حجَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وكانَ مولى بني بياضةَ (وانكحُوا إليه. [وكانَ حجَّامًا]

(4)

، رواه أبو داودَ والحاكم بسندٍ جيِّدٍ) فهوَ منْ أدلةِ عدمِ اعتبارِ كفاءةِ الأنساب. وقدْ صحَّ أن بلالًا

(5)

نكحَ هالةَ بنتَ عوفِ أختَ عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ وعرضَ

(6)

عمرُ بنُ الخطابِ ابنَته حفصةَ على سلمانَ الفارسيِّ.

‌تخيير من عتقت بعد زواجها

4/ 944 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خُيِّرَتْ بريرَةُ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(7)

، في حَدِيثٍ طَوِيلٍ. [صحيح]

- وَلمُسْلِمٍ

(8)

عَنْهَا رضي الله عنهما، أن زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، وَفِي رِوَايَةٍ

(9)

عَنْهَا: كَانَ حُرًّا. والأوّلُ أَثْبَتُ. [صحيح]

(1)

في "سننه"(2102).

(2)

في "المستدرك"(2/ 164)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

قلت: وقد حسُّنه الحافظ في "التلخيص"(3/ 164 في آخر الحديث رقم 1516)، وكذا الألباني في "صحيح أبي داود"(2/ 395 رقم 1850).

(3)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة"(5/ 19 رقم 5630).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

أخرج الدارقطني (3/ 301 رقم 207) ومن طريقه البيهقي (7/ 137) من طريق حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن أمه قالت: رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال، وقد ذكره الحافظ في "التلخيص"(3/ 165 رقم 1520)، ولم يعقب عليه.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 428).

(7)

البخاري (5279)، ومسلم (1504).

قلت: وأخرجه أبو داود (2235)، والترمذي (1155)، النَّسَائِي (6/ 163)، وابن ماجه (2074)، وأحمد (6/ 42)، والدارمي (2/ 169)، والبيهقي (7/ 223).

(8)

في "صحيحه"(9/ 1504).

(9)

أخرجها أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي والبيهقي كما تقدَّمت أرقامها.

ص: 61

وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عِنْدَ الْبُخَارِيِّ

(1)

أَنَّهُ كَانَ عبدًا. [صحيح].

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: خُيِّرَتْ بريرةُ على زوجِها حينَ عَتَقَتْ. متفقٌ عليهِ [من]

(2)

حديثٍ طويلٍ. ولمسلمٍ عنْها: أن زوجَها كانَ عبدًا. وفي روايةٍ عنْها: كانَ حُرًا، والأولُ أثبتُ) لأنهُ جزمَ البخاريُّ [بأنه]

(3)

كانَ عبدًا، ولذَا قَالَ:(وصحَّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنه عندَ البخاريِّ أنهُ كانَ عبدًا)، ورواهُ علماءُ المدينةِ، وإذا رَوَى علماءُ المدينةِ شيئًا ورأَوْهُ فهوَ أصحُّ. وأخرَجَه أبو داودَ

(4)

منْ حديثِ ابن عباسٍ بلفظِ: "إنَّ زوجَ بريرةَ كانَ عَبْدًا أسودَ يسمَّى مُغِيثًا فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرَها أنْ تعتدَّ"، وفي البخاريِّ

(5)

عن ابن عباسٍ: "ذاكَ مغيثٌ عبدُ بني فلانٍ يعنى زوج بريرةَ"، وفي أُخْرَى عندَ البخاريِّ

(6)

: "كانَ زوجُ بريرة عبدًا أسودَ يقالُ لهُ مغيثٌ"، قالَ الدارقطني

(7)

: لم تختلفِ الروايةُ عنْ عروةَ عنْ عائشةَ أنهُ كانَ عبدًا. وكذا قالَ جعفرُ

(8)

بنُ محمدٍ عنْ أبيهِ عنْ عائشةَ. قالَ النوويُّ

(9)

: يؤيدُ قولَ مَنْ قالَ كانَ عبدًا قولُ عائشةَ كانَ عبدًا، فأخبرتْ وهي صاحبةُ القصةِ بأنهُ كانَ عبدًا فصحَّ رجحانُ كونِه عبدًا قوةً وكثرةً وحفظًا. والحديثُ دليلٌ على ثبوتِ الخيارِ للمعتقَةِ بعدَ عَتْقِهَا في زوجِها إذا كانَ عبدًا وهوَ إجماعٌ

(10)

. واختُلِفَ إذا كانَ حُرًّا، فقيلَ: لا يثبتُ لها الخيارُ وهوَ قولُ

(1)

الصحيح أن قوله في الحديث: "كان زوجها حرًا"، من كلام الأسود لا من كلام عائشة رضي الله عنها كما أخرج البخاري (6754) وغيره عن عائشة رضي الله عنها بقصة بريرة وإعتاقها وتخييرها وفي آخر الحديث قال الأسود:"وكان زوجها حرًا"، قال البخاري: قول الأسود منقطع وقول ابن عباس رأيته عبدًا أصح.

(2)

في "صحيحه"(5280: 5283).

قلت: وأخرجه أبو داود (2231)، والترمذي (1156)، والنسائي (8/ 245)، وابن ماجه (2075)، وأحمد (1/ 215)، والدارمي (2/ 169 - 170)، والدارقطني (3/ 293 - 294 رقم 182: 184)، والبيهقي (7/ 221 - 222).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (ب) لأنَّه.

(5)

في "سننه"(2232).

(6)

في "صحيحه"(5281).

(7)

في "صحيحه" أيضًا (5282).

(8)

ذكره الحافظ في "الفتح"(9/ 410).

(9)

انظر: "شرح مسلم"(10/ 141).

(10)

نقله الحافظ في "الفتح"(9/ 407) عن ابن بطال.

ص: 62

الجمهورِ

(1)

قالُوا: لأنَّ العِلَّةَ في ثبوتِ الخيارِ إذا كانَ عبدًا هوَ عدمُ المكافأةِ منَ العبدِ للحرةِ في كثيرٍ من الأحكامِ، فإذا عُتِقَتْ ثبتَ لها الخيارُ منَ البقاءِ في عِصْمَتِهِ والمفارقةِ؛ لأنَّها في وقتِ العقدِ عليها لم تكنْ منْ أهلِ الاختيارِ. وذهبتِ الهادويةُ

(2)

وآخرونَ إلى أنهُ يثبتُ لها الخيارُ وإنْ كانَ حُرًا، واحتجُّوا بأنهُ قدْ وردَ في روايةٍ أن زوجَ بريرةَ كان حرًا وردَّه الأولونَ بأنَّها روايةٌ مرجوحةٌ

(3)

لا يُعْمَلُ بها، قالُوا: ولأنَّها عندَ تزويجها لم يكنْ لها اختيارٌ فإنَّ سيِّدَها يزوِّجُها وإنْ كرهتْ فإذا أُعْتِقَتْ تجدَّدَ لها حالٌ لم يكنْ قبلَ ذلكَ، قالَ ابن القيِّمِ

(4)

: إن في تخييرِها ثلاثةَ مآخذَ وذكرَ مأخذينِ وضعَّفَهما ثمَّ ذكرَ الثالثَ وهوَ أرجحُها، وتحقيقُه أن السيِّدَ عَقَدَ عليها بحكمِ المُلْكِ حيثُ كانَ مالكًا لِرَقَبَتِهَا ومنافعِها والعِتْقُ يقتضي تمليكَ الرقبةِ والمنافعَ للمعتقِ، وهذا مقصودُ العتقِ، فإذا ملكت رقبتَها ملكت بضعَها ومنافعَها، ومنْ جملتِها منافعُ البضْعِ فلا يُمْلَكُ عليها إلا باختيارِها فخيَّرها الشارعُ بينَ الأمرينِ البقاءَ تحتَ الزوجِ أو الفسخِ منهُ. وقدْ جاءَ في بعضِ طرق حديثِ بريرةَ

(5)

: "مَلَكْتِ نفسَكَ فاختاري"، قلتُ: وهوَ منْ تعليقِ الحكمِ وهوَ الاختيارُ على مُلْكِها لِنَفْسِهَا فهوَ إشارةٌ إلى علةِ التخييرِ وهذا يقتضي ثبوتَ الخيارِ وإنْ كانتْ تحتَ حرٍّ. وهلْ يقعُ الفسخُ بلفظِ الاختيارِ؟ قيلَ: نعمْ كما يدلُّ لهُ قولُه في الحديثِ "خُيِّرْتُ"، وقيلَ: لا بدَّ منْ لفظِ الفسخِ، ثمَّ إذا اختارتْ نفسَها لم يكنْ للزوجِ الرجعةُ عليها وإنَّما يراجعُها بعقدٍ جديدٍ إنْ رضيتْ به ولا يزالُ لها الخيارُ بعدَ عِلْمِهَا ما لمْ يطأها لما أخرجَهُ أحمدُ

(6)

عنهُ صلى الله عليه وسلم: "إذا عُتِقَتْ الأمةُ فهيَ بالخيارِ ما لم يطأها إنْ تشأْ فارقتْهُ وإنْ وَطِئَها فلا خيارَ لها"، وأخرجَهُ الدارقطني

(7)

بلفظِ: "إنْ وطِئَكِ فلا خيارَ لكِ"، وأخرَجه أبو داودَ

(8)

بلفظِ: "إنْ [قارَبكِ]

(9)

فلا خِيارَ لكِ"، فدلَّ أن

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 408).

(2)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 69).

(3)

وقدَّمنا القول فيها أثناء تخريج حديث الباب.

(4)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 169 - 170).

(5)

ذكرها ابن القيم في الزاد ولم أقف عليها بهذا اللفظ.

(6)

في "المسند"(5/ 378)، من حديث الفضل بن عمرو بن أمية عن أبيه، بسند ضعيف.

(7)

في "السنن"(3/ 294 رقم 185) من حديث عائشة.

(8)

في "السنن"(2236) من حديث عائشة وهو حديث ضعيف.

(9)

في (ب): "قرُبَك"، وهو موافق لما في سنن أبي داود.

ص: 63

الوَطْءَ مانعٌ منَ الخيارِ وإليهِ ذهبت الحنابلةُ

(1)

. واعلمْ أن هذَا الحديثَ جليلٌ قَدْ ذكرَهُ العلماءُ في مواضعَ منْ كُتُبِهِمْ في الزكاةِ وفي العتقِ وفي البيعِ وفي النكاحِ، وذكرَه البخاريُّ في البيع، وأطالَ المصنفُ

(2)

في عدةِ ما استخْرَجَ منهُ منَ الفوائدِ حتَّى بلغتْ مائةَ واثنتينِ وعشرينَ فائدة، فنذكرُ ما لَهُ تعلُّق بالباب الذي نحنُ بصددِه.

منها: جوازُ بيع أحدِ الزوجينِ الرقيقينِ دونَ الآخرِ، وأَنَّ بيعَ الأمَةِ المزوَّجةِ لا يكونُ طلاقًا، وأن عِتْقَها لا يكونُ طَلَاقًا ولا فَسْخًا، وأنَّ للرقيقِ أنْ يسعَى في فكاكِ رَقْبَتهِ منَ الرقِّ، وأنَّ الكفاءةَ معتبرةٌ في الحرة.

قلتُ: قدْ أشارَ الحديثُ إلى سببِ تخييرِها وهوَ ملَّكَها نفسَها كما عرفتَ فلا يتمُّ هذا، وأنَّ اعتبارها يَسْقُطُ برضَا المرأةِ التي لا وليَّ لها، ومما ذُكرَ في قصةِ بريرةَ أنَّ زوْجَها كانَ يتبعُها في سككِ المدينةِ يتحدَّرُ دمعُه لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لها، قَالُوا فَيُؤْخَذُ منهُ أنَّ الحبَّ يُذْهِبُ الحياءَ وأنهُ يُعْذَرُ مَنْ كانَ كذلكَ إذا كانَ بغيرِ اختيارٍ منهُ، فيعذرُ أهلُ المحبةِ في اللَّهِ إذا حصلَ لهمُ الوجْدُ عند سِمَاع ما يفهمونَ منهُ الإشارةَ إلى أحوالِهم حيثُ يُغْتَفَرُ منْهم ما لا يحصلُ عن اختيارٍ كالرقصِ

(3)

ونحوِه.

قلت: لا يخْفَى أنَّ زوجَ بريرةَ بكى من فراقِ مُحبِّهِ، فمحبُّ اللهِ يبكي شَوْقًا إلى لقائِه وخَوْفًا منْ سَخَطِهِ ما كان يبكي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عندَ سماعِ القرآنِ وكذلكَ أصحابُه ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانِ، وأما الرقْصُ والتصفيقُ فشأنُ أهلِ الفسقِ والخلاعةِ لا شأنُ مَنْ يحبُّ الله ويخشاه، فعجب لهذا المأخذِ الذي أخذُوه منَ الحديثِ وذكَرَهُ المصنفُ في "الفتحِ" ثم سردَ فيه غيرَ ما ذكرْنَاهُ وأبلغَ فوائدَه إلى العددِ الذي وصفْناه، وفي بعضِها خفاءٌ وتَكَلَّفٌ لا يليقُ بجميل كلام رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

‌من أسلم وتحته أختان فارق إحداهما

5/ 945 - وَعَنِ الضَّحّاكِ بن فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِي عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

"المغني" لابن قدامة (10/ 71 - 72 رقم 1184).

(2)

في "فتح الباري"(9/ 410 - 416).

(3)

أقول: الرقص والتصفيق خفة ورعونة لا تليق بالمسلم المحب لربه.

ص: 64

"طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

وَالأرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ

(2)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(3)

، والدَّارَقُطْنِي

(4)

وَالْبَيْهَقِي

(5)

، وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ. [حسن]

‌ترجمة الضحاك

(وعنِ الضَّحَّاكِ)

(6)

تابعيٌّ معروفٌ رَوى عنْ أبيهِ (ابن فَيروزَ) بفتحِ الفاءِ وسكونِ المثناةِ التحتيةِ وضمِّ الراءِ وسكونِ الواوِ وآخرَه زايٌّ، هوَ أبو عبدِ اللَّهِ (الديلميِّ) ويقالُ الحميريُّ لنزوله حميرَ، وهوَ منْ أبناءِ فارسَ منْ فُرْسِ صنعاءَ، كانَ ممنْ وَفَدَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ الذي قَتَلَ العنسيَّ الكذَّابَ الذي ادَّعَى النبوةَ في سنةِ إحدَى عَشْرَةَ وَأَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبر قتله وهوَ مريضٌ مرضَ موتِه، وكانَ بينَ ظهورِه وقَتْلِهِ أربعةُ أشهرٍ (عنْ أبيهِ قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ إني أسلمتُ وتحتي أختانِ، فقالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: طلِّقْ أيَّتهُما شئتَ. رواهُ أحمدُ والأربعة إلَّا النسائيّ وصحَّحَهُ ابن حِبَانَ والدارقطنيُّ والبيهقيُّ وأعلَّه البخاريّ) بأنهُ رواهُ الضَّحَاكُ عنْ أبيهِ ورواهُ عنهُ أبو وهبٍ الجيشانيّ - بفتح الجيمِ وسكونِ المثناةِ التحتيةِ والشينِ المعجمةِ فنونٍ - قالَ البخاريُّ

(7)

: لا نعرفُ سماعَ بعضِهم منْ بعضٍ.

والحديثُ دليلٌ على اعتبارِ أنكحةِ الكفارِ وإن خالفتْ نكاحَ الإسلامِ، وأنَّها لا تخرجُ المرأةُ عن الزوجِ إلا بطلاقِ بعدَ الإسلامِ، وأنهُ يبقَى بعدَ الإسلامِ بلا

(1)

في "المسند"(4/ 232).

(2)

أبو داود رقم (2243)، والترمذي رقم (1129) و (1135)، وابن ماجه رقم (1950) و (1951).

(3)

في "الإحسان" رقم (4155).

(4)

في "السنن"(3/ 273).

(5)

في "السنن الكبرى"(7/ 184).

قلت: وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(18/ رقم 843 و 844 و 845)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (12627)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 317) وهو حديث حسن.

(6)

انظر ترجمته في: "الثقات"(4/ 387): و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 333)، و"تاريخ الطبري"(3/ 185، 231، 236، 240).

(7)

في "التاريخ الكبير"(4/ 333 رقم 3023).

قلت: أبو وهبٍ الجَيْشاني ذكره ابن حبان في "الثقات"(6/ 291) وشيخه الضحاك بن فيروز ذكره أيضًا ابن حبان في "الثقات"(4/ 387)، وصحَّح الدارقطني سند حديثه.

ص: 65

تجديدِ عقدٍ، وهذا مذهبُ مالكٍ وأحمدَ والشافعيِّ وداودَ وعندَ الهادويةِ والحنفيةِ أنهُ لا يقرُّ منهُ إلا ما وافقَ الإسلامَ. وتأوَّلُوا هذا الحديثَ بأنَّ المرادَ بالطلاقِ الاعتزالُ وإمساكُ الأختِ الأخْرى التي بقيتْ عندَه بعقدٍ جديدٍ، ولا يخْفَى أنهُ تأويلٌ متعسِّفٌ، وكيفَ يخاطبُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ دخلَ في الإسلامِ ولم يعرفِ الأحكامَ بمثلِ هذا، وكذلكَ تأوَّلوا مِثْلَ هذَا قولَهُ:

‌من أسلم وتحته أكثر من أربع

6/ 946 - وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أن غَيْلانَ بنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أنْ يَتَخَيّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا". رواهُ أَحْمَدُ

(1)

وَالتِّرْمِذِيُّ

(2)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(3)

وَالْحَاكِمُ

(4)

، وأَعَلَّهُ الْبُخَارِي

(5)

وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ

(6)

. [صحيح]

(وعنْ سالم [بن عبد اللَّهِ]

(7)

عنْ أبيهِ) عبدِ اللَّهِ بن عمرَ (أن غيلانَ بنَ سلمةَ) هوَ ممنْ أسلمَ بعدَ فتحِ الطائفِ ولم يهاجرْ، وهوَ منْ أعيانِ ثقيفٍ وماتَ في خلافةِ عمرَ رضي الله عنه، (أسلم وله عشر نسوة وأسلمن معة فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتخيَّرَ منهنَّ أربعًا. رواة أحمدُ والترمذيُّ وصحَّيحَهُ ابن حبانَ والحاكمُ وأعلَّه البخاريُّ وأبو زرعةَ وأبو حاتم)، قالَ الترمذيُّ

(8)

: قالَ البخاري: هذا حديث غيرُ محفوظٍ. وأطالَ المصنفُ في "التلخيص"

(9)

الكلامَ عَلَى الحديثِ وأخصرُ منهُ أحسنُ إفادةً

(1)

في "المسند"(2/ 14، 44، 83).

(2)

في "السنن" رقم (1128).

(3)

في "الإحسان" رقم (4156).

(4)

في "المستدرك (2/ 192 - 193).

(5)

ذكره الترمذي في "السنن"(3/ 435).

(6)

قال ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 400 - 401): سمعت أبا زرعة يقول مرسل أصح.

قلت: وأخرج الحديث ابن ماجه رقم (1953)، والدارقطني (3/ 270)، والبيهقي (7/ 149 و 181)، والبغوي رقم (2288)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 317)، والشافعي في ترتيب المسند (2/ 16)، وخلاصة القول: أن الحديث صحيح، انظر مزيدًا من الكلام عليه في "التلخيص"(3/ 168).

(7)

زيادة من (أ).

(8)

في "السنن"(3/ 435).

(9)

(3/ 168).

ص: 66

كلامُ ابن كثير في الإرشاد

(1)

، قالَ عَقِبَ سياقِه لهُ: رواهُ الإمامانِ أبو عبدِ اللَّهِ محمدُ بنُ إدريسٍ الشافعي وأحمدُ بنُ حنبل والترمذيُّ وابنُ ماجهْ، وهذا الإسنادُ رجالُه على شرطِ الشيخينِ إلَّا أن الترمذيَّ يقولُ: سمعتُ البخاريَّ يقولُ: هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ. والصحيحُ ما رَوَى شعيبٌ وغيرُه عن الزهريِّ قالَ: حدَّثْتَ عنْ محمدِ بن شعيب الثقفيِّ أن غيلانَ فذكرَهُ. قالَ البخاريُّ: وإنَّما حديثُ الزهريِّ عنْ سالمٍ عنْ أبيهِ أنّ رجلًا منْ ثقيفٍ طلَّقَ نساءَه، فقالَ لهُ عمرَ: لتراجعنَّ نساءكَ الحديث.

قالَ ابنُ كثيرٍ

(2)

: قلتُ قدْ جمعَ الإمامُ أحمدُ في روايته لهذا الحديثِ بينَ هذينِ الحديثينِ بهذا السندِ فليسَ ما ذكرهُ البخاريُّ قادِحًا، وساقَ روايةَ النسائيِّ لهُ برجالٍ ثقاتٍ، إلا أنهُ يُرَدُّ علَى ابن كثيرٍ ما نقلَه الأثرمُ عنْ أحمدَ أنهُ قالَ: هذا الحديثُ غيرُ صحيح. والعملُ عليهِ، وهوَ دليل على ما دلَّ عليهِ حديثُ الضَّحَّاكِ ومنْ تأوَّلَ ذلكَ تأوَّلَ هذا.

فائدةٌ: سبقت إشارةٌ إلى قصةِ تطليقِ رجلٍ منْ ثقيفٍ نساءَه، وذلكَ أنهُ اختارَ أربعًا فلمَّا كانَ في عهدِ عمرَ طلَّقَ نساءَه وقسَّم مالَه بينَ بنيهِ، فلمَّا بلغ ذلكَ عمرَ فقال: "إني [لأظنُّ]

(3)

الشيطانَ مما يسترقُ منَ السمعِ سمعَ بموتِكَ فقذفَه في نفسِك وأعْلَمَكَ أتكَ لا تمكثُ إلا قليلًا وأيمُ اللَّهِ لتُراجعنَّ نساءَكَ [ولترجعهن]

(4)

مالَكَ أوْ لأُورثُهنَّ منكَ ولآمرنَّ بقبركَ فلْيُرْجَمْ كما رُجِمَ قبرُ أبي رِغالٍ

(5)

الحديثَ". ووقَع في الوسيطِ ابنُ غيلانَ وهوَ وهْمٌ بلْ [هوَ غيلانُ]

(6)

، وأشدُّ منهُ وَهْمًا ما وقعَ في مختصرِ ابن الحاجبِ ابنُ عيلانً بالعينِ المهملةِ، وفي سننِ أبي داودَ

(7)

: "أن

(1)

(2/ 159).

(2)

في "إرشاد الفقيه": (2/ 160).

(3)

في (ب): "أظنُّ".

(4)

في (ب): "لترجعنَّ".

(5)

أبو رِغال - بكسر الراء بزنة كتاب - كان من ثمود، وكان بالحرم حين أصاب قومه الصيحة، فلما خرج من الحرم أصابه من الهلاك ما أصاب قومه، فدفن هناك. قيل: كان رجلًا عشارًا في الزمن الأول فقبره يرجم، وهو بين مكة والطائف. وكان عبدًا لشعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال جرير:

إذا مات الفرزدق فارجموه

كما تَرْمون قبر أبي رِغالِ

انظر: "لسان العرب"(5/ 258).

(6)

زيادة من: (ب).

(7)

في "السنن"(2/ 677 رقم 2241).=

ص: 67

قيسَ بنَ الحرثِ أسلمَ وعندَه ثماني نسوةِ فأمرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يختارَ أربعًا".

ورَوَى الشافعي

(1)

والبيهقي

(2)

عنْ نَوْفَلِ بن معاويةَ [أنهُ]

(3)

قالَ: "أسلمتُ وتحتي خمسُ نسوةٍ، فسألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "فارقْ واحدة وأمسكْ أربعًا"، فعمدتُ إلى أقدمِهنَّ عندي عاقرٍ منذُ ستينَ سنةً ففارقْتُها"، وعاشَ نوفلُ بنُ معاويةَ

(4)

مائةً وعشرينَ سنةَ ستينَ في الإسلامِ وستينَ في الجاهليةِ. وفي كلامِ عمرَ ما يدلُّ على إبطالِ الحيلةِ لمنعِ التوريثِ، وأنَّ الشيطانَ قدْ يقذفُ في قلبِ العبدِ ما يسترِقُه منَ السمعِ منْ أحوالِهِ، وأنهُ يرجَمُ القبرُ عقوبةً للعاصي وإهانةً وتحذيرًا عنْ مِثْلِ ما فعلَهُ.

‌ردُّ من أسلمت أبي زوجها بالنكاح الأول

7/ 947 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: رَدّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الأوَّلِ، ولَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ

(5)

والأرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ

(6)

، وَصَحّحَهُ أَحْمدُ وَالْحَاكِمُ

(7)

. [صحيح دون ذكر السنين]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: ردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنتَهُ زينبَ على أبي العاصِ بن الربيعِ بعدَ ستِّ سنينَ بالنكاحِ الأولِ ولم يحدثْ نِكَاحًا. رواهُ أحمدُ والأربعةُ إلَّا النسانيَّ وصحَّحَهُ أحمدُ والحاكمُ)، قال الترمذيُّ: حسنٌ وليسَ بإسنادِه بأسٌ. وفي لفظٍ لأحمدَ: كانَ إسلامُها قبلَ إسلامِهِ بستّ سنينَ، وعَنَى بإسلامِها هجرتَها، وإلَّا فهيَ أسلمتْ معَ سائرِ بناتِهِ صلى الله عليه وسلم، وهنَّ أسْلَمْنَ منذُ بَعَثَهُ اللَّهُ، وكانتْ هجرتُها بعدَ وقعةِ

=قلت: وأخرجه ابن ماجه (1/ 628 رقم 1952)، والدارقطني (3/ 270 رقم 100)، والبيهقي (7/ 183)، وهو حديث حسن بمجموع طرقه، انظر:"الإرواء"(6/ 296).

(1)

في "ترتيب المسند"(2/ 16 رقم 44).

(2)

في "السنن الكبرى"(7/ 184).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب"(10/ 438 رقم 885).

(5)

في "المسند"(1/ 261، 351) و (6/ 366).

(6)

أبو داود رقم (2240)، وابن ماجه رقم (2009)، والترمذي رقم (1143)، وقال: هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا تعرف وجه هذا الحديث.

(7)

في "المستدرك"(2/ 200)، وصحَّحه، ووافقه الذهبي.

وخلاصة القول: أن الحديث صحيح دون ذكر السنين.

ص: 68

بدرٍ بقليلٍ، ووقعةُ بدرٍ كانتْ في رمضانَ منَ السنةِ الثانيةِ منْ هجرتِهِ صلى الله عليه وسلم، وحَرُمتِ المسلماتُ على الكفارِ في الحديبيةِ سنةَ ستٍّ منْ ذي القعدةِ منْها، فيكونُ مُكْثُها بعدَ ذلكَ نحوًا من سنتينِ، ولهذَا وردَ في روايةِ أبي داودَ ردَّها عليهِ بعدَ سنتينِ، وهكذَا قررَ ذلكَ أبو بكرٍ الحافظ البيهقيَ. قالَ الترمذيُّ

(1)

: لا يُعْرَفُ وجهُ هذا الحديثِ، [يشيرُ]

(2)

إلى أنهُ كيفَ ردَّها عليهِ بعدَ ستِّ سنينَ أوْ ثلاثٍ أو سنتينِ وهوَ مُشْكِلٌ لاستبعادِ أنْ تبقَى عِدَّتُها هذهِ المدةَ، ولم يذهبْ أحدٌ إلى تقريرِ المسلمةِ تحتَ الكافرِ إذا تأخرَ إسلامُه عنْ إسلامِها. نَقَلَ الإجماعَ في ذلك ابنُ عبدِ البرِّ

(3)

وأشارَ إلى أنَّ بعضَ أهلِ الظاهرِ جَوَّزَهُ. وَرُدَّ بالإجماعِ وتُعُقِّبَ بثبوتِ الخلافِ فيهِ عنْ عليٍّ والنخعيِّ. أخرجَهُ ابنُ أبي شيبةَ

(4)

عنْهما وبهِ أفتَى حمَّادُ شيخُ أبي حنيفةَ، فَرَوَى عنْ عليٍّ أنَّهُ قالَ في الزوجينِ الكافرينِ يسلمُ أحدُهما:"هوَ أملكُ لِبُضْعِها ما دامتْ في دارِ هجرتِها"، وفي روايةٍ: "وهوَ أَوْلَى بها ما لمْ تخرجْ [منْ]

(5)

مِصْرِها"، وفي روايةٍ عن الزهريِّ: أنهُ إنْ أسلمتْ ولم يسلمْ زوجُها فَهُما على نكاحِها ما لم يفرِّقْ بينَهما سلطانٌ. وقالَ الجمهورُ: إنْ أسلمتِ الحربيةُ وزوجُها حربيٌّ وهي مدخولة فإنْ أسلمَ وهي في العدَّةِ فالنكاحُ باقٍ، وإنْ أسلمَ بعدَ انقضاءِ عُدَّتِها وقعتِ الفرقةُ بينَهما. وهذا الذي ادَّعَى عليهِ الإجماعُ في "البحرِ"

(6)

وادعاهُ ابنُ عبدِ البرِّ كما عرفتَ. وتأوَّلَ الجمهورُ حديثَ زينبَ بأنَّ عدَّتَها لم تكنْ قد انقضتْ وذلكَ بعدَ نزولِ آيةِ التحريمِ لبقاءِ المسلمةِ تحتَ الكافرِ وهوَ مقدارُ سنتينِ وأشهرٍ لأنَّ الحيضَ قدْ يتأخرُ معَ بعضِ النساءِ فردَّها صلى الله عليه وسلم عليهِ لما كانتِ العدَّةُ غيرَ منقضيةٍ. وقيلَ: المرادُ بقولِه: بالنكاحِ الأولِ، أنهُ لم يحدثْ زيادةَ شرطٍ ولا مَهْرٍ. وردَّ هذا ابنُ القيمِ

(7)

وقالَ: لا نعرفُ اعتبارَ العدَّةِ في شيءٍ منَ الأحاديثِ ولا كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسألُ المرأةَ هلِ انقضتْ عدَّتُها أمْ لا، ولا ريبَ أن الإسلامَ لوْ كانَ بمجرَّدِه فرقةٌ لكانتْ فرقةً بائنةً لا رجعيةً فلا أثرَ للعدةِ في بقاءِ النكاحِ، وإنما

(1)

في "السنن"(3/ 448).

(2)

في (أ): "يريد".

(3)

في "الاستذكار"(16/ 326).

(4)

في "المصنف"(5/ 91) عن علي. و (5/ 92)، عن إبراهيم النخعي.

(5)

في (أ): "عن".

(6)

في "البحر الزخار"(3/ 72).

(7)

انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 351 - 353).

ص: 69

أثرُها في منعِ نكاحِها للغيرِ، فلو كانَ الإسلامُ قدْ نجزَ الفرقةَ بينَهما لم يكنْ أحقَّ بها في العدةِ. ولكنَّ الذي دلَّ عليهِ حكمهُ صلى الله عليه وسلم أن النكاحَ موقوفٌ؛ فإنْ أسلمَ قبلَ انقضاءِ عدَّتِها فهي زوجتُه، وإنِ انقضتْ عدَّتُها فَلَها أنْ تنكحَ مَنْ شاءتْ، وإنْ أحبتِ انتظرتْهُ؛ فانْ أسلمَ كانت زوجَتهُ منْ غيرِ حاجةٍ إلى تجديدِ نكاحٍ، ولا يُعْلَمُ أحدٌ جدَّدَ بعدَ الإسلامِ نكاحَه ألبتةَ بلْ كانَ الواقعُ أحدَ الأمرينِ: إما افتراقُهما ونكاحُها غيرَه، وإما بقاؤُهما عليهِ وإن تأخرَ إسلامُه، وأما تنجيزُ الفرقةِ ومراعاةُ العدةِ فلا يعلمُ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بواحدٍ منْهما معَ كثرةِ مَنْ أسلمَ في عهدِه وقربُ إسلامِ أحدِ الزوجينِ منَ الآخرِ وبُعْدُهُ منهُ، قالَ: ولولا إقرارُه صلى الله عليه وسلم الزوجينِ على نكاحِهما، وإنْ تأخَّرَ إسلامُ أحدِهِما عن الآخرِ بعدَ صُلْحِ الحديبيةِ وزمنِ الفتحِ لقلْنا بتعجيلِ الفرقةِ بالإسلامِ منْ غيرِ اعتبارِ عدةٍ لقولِه تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}

(1)

، وقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}

(2)

ثمَّ سردَ قضايا تؤكد ما ذهب إليه وهو أقربُ الأقوالِ في المسألةِ

(3)

.

8/ 948 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ

(4)

: حَدِيثُ ابْنُ عَبّاسٍ أَجْوَدُ إِسْنَادًا، وَالْعَمَلُ أَجْوَدُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. [ضعيف]

(وعنْ عمرِو بن شعيبِ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ قالَ: ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابنتَه زينبَ على أبي العاصِ بن الربيعِ بنكاحٍ جديدٍ. قالَ الترمذيُّ حديث ابن عباسٍ أجودُ إسنادًا والعمل على حديثِ عمرِو بن شعيبٍ). قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ: قالَ الإمامُ أحمدُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ وحجَّاجُ لم يسمعْه منْ عمرِو بن شعيبٍ، إنَّما

(1)

سورة الممتحنة: الآية 10.

(2)

سورة الممتحنة: الآية 10.

(3)

انظر: "بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية"(4/ 433 - 438).

(4)

في "السنن"(3/ 447 رقم 1142)، وقال: هذا حديث في إسناده مقالٌ، وفي الحديثِ الآخر أيضًا مقال. والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم؛ أن المرأة إذا أسلمت قبلَ زوجها، ثم أسلم زوجُها وهي في العِدَّةِ؛ أنَّ زوجَها أحقُ بها ما كانت في العِدَّةِ وهو قول مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق. قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2010)، وهو حديث ضعيف، انظر:"الإرواء" رقم (1922).

ص: 70

سمعَه منْ محمدِ بن عبيد اللَّهِ العرزميِّ

(1)

، والعرزميُّ لا يساوي حديثُه شيئًا، قالَ: والصحيحُ حديثُ ابن عباسٍ يعني المتقدِّمَ. وهكذَا قالَ البخاري والترمذيُّ والدارقطني والبيهقي وحكاهُ عنْ حُفَّاظِ الحديثِ.

وأما ابنُ عبدِ البرِّ

(2)

فنهُ جنحَ إلى ترجيحِ روايةِ عمرِو بن شعيبِ وجمعَ بينَه وبينَ حديثِ ابن عباسٍ، فَحُمِلَ قولُه في حديثِ ابن عباسٍ: بالنكاحِ الأولِ، أي بشروطِه، ومعنَى لم يحدثْ شيئًا: أي لم يزدْ على ذلكَ شيئًا، وقدْ أشرْنا إليهِ آنِفًا. قالَ: وحديثُ عمرِو بن شعيبٍ تعضدُه الأصولُ، وقدْ صرَّحَ فيهِ بوقوعِ عقدٍ جديدٍ ومهرٍ جديدٍ، والأخذُ بالصريحِ أوْلَى منَ الأخذِ بالمحتملِ، انتهى.

قلتُ: يردُّ تأويلَ حديثِ ابن عباسٍ تصريحُ ابن عباسٍ في روايةِ: "فلمْ يحدثْ شهادةً ولا صَدَاقًا"، رواهُ ابنُ كثيرٍ في "الإرشادِ" ونسبَه إلى إخراجِ الإمامِ أحمدَ [له]

(3)

، وأما قولُ الترمذيِّ: والعملُ على حديثِ عمرِو بن شعيبٍ، فإنهُ يريدُ عملَ أهلِ العراقِ، ولا يخْفَى أن عملَهم بالحديثِ الضعيفِ وهجرُ القوي لا يُقَوِّي [الضعيفَ]

(4)

بل يُضَعِّفُ ما ذهبوا إليهِ منَ العملِ.

‌من أسلم فهو أحق بزوجته

9/ 949 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجَتْ، فَجَاءَ زَوْجُها فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلامي، فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَوْجِهَا الآخَرَ، وَرَدَّها إلى زوجِهَا الأوَّلِ. رَوَاهُ أحْمَدُ

(5)

وَأَبُو دَاوُدَ

(6)

وَابْنُ مَاجَهْ

(7)

. وَصَحَّحَه ابْنُ حِبَّانَ

(8)

وَالْحَاكِمُ

(9)

. [ضعيف]

(1)

قال ابن عدي في "الكامل"(6/ 2116): "ولمحمد بن عبيد اللهِ غير ما ذكرت من الحديث وله نسخة يرويها عنه ابنه وابن أخيه وعامة رواياته غير محفوظة".

وانظر: "تهذيب التهذيب"(9/ 287 - 288).

(2)

في "الاستذكار"(16/ 327 رقم 24704 - 24708).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في "المسند"(1/ 323).

(6)

في "السنن" رقم (2239).

(7)

في "السنن" رقم (2008).

(8)

في "الإحسان" رقم (4159).

(9)

في "المستدرك"(2/ 200)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.=

ص: 71

(وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: أسْلَمَتِ امرأةٌ فتزوجتْ، فجاءَ زوجُها فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ إني كنت أسلمتُ وعلمتْ بإسلامي، فانتزعَها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ زوجِها الآخرِ وردَّها إلى زوجِها الأولِ. رواهُ أحمدُ وأبو داودَ وابن ماجهْ وصحَّحَهُ ابن حِبَّانَ والحاكمُ).

الحديثُ دليلٌ على أنهُ إذا أسلمَ الزَّوجُ وعلمتِ امرأتُه بإسلامه فهيَ في عقدِ نكاحِه، وإن تزوَّجتْ فهوَ تَزَوُّجٌ باطلٌ تُنْتَزَعُ منَ الزوجِ الآخرِ، وقولُه:"وعلمتْ بإسلامي"، يحتملُ أنهُ أسلم بعدَ انقضاءِ عِدَّتِها أو قبلَها، وأنَّها تُرَدُّ إليهِ على كلِّ حالٍ، وأنَّ عِلْمَها بإسلامِهِ قبلَ تزوُّجِها بغيرِه يُبْطِلُ نِكَاحَها مطلقًا، سواءٌ انقضتْ عِدَّتُها أمْ لا، فهوَ منَ الأدلةِ لكلامِ ابن القيمِ الذي قدَّمناهُ؛ لأنَّ تركَهُ صلى الله عليه وسلم الاستفصالَ هلْ علمتْ بعدَ انقضاءِ العدةِ أوْ لا، دَليلٌ على أنهُ لا حكمَ للعدةِ. إلَّا أنهُ على كلامِ ابن القيمِ الذي قدَّمناهُ أنَّها بعدَ انقضاءِ عدَّتها تزوَّج مَنْ شاءَتْ لا تتمُّ هذهِ القصةُ إلا على تقديرِ تزوُّجِها في العدَّة

(1)

.

‌عيوب النكاح والفسخ بها

10/ 950 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أبِيهِ: تَزَوّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَالِيَةَ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَوَضَعَتْ ثِيَابَهَا، رَأَى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"الْبَسِي ثِيَابَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ"، وَأَمَرَ لَهَا بِالصَّدَاقِ. رَوَاهُ الحَاكِمُ

(2)

، وَفِي إسْنَادِهِ جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَاخْتُلِفَ عَليْهِ في شَيْخِهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا

(3)

. [ضعيف]

=قلت: وأخرجه الطيالسي رقم (2674)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (12645)، وابن الجارود رقم (757)، والبيهقي (7/ 188 و 189)، والبغوي رقم (2290)، ومدار الإسناد على سماك عن عكرمة، وهو سماك بن حرب الذهلي الكوفي قال الحافظ:"صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بأخره فكان ربما يلقن".

وخلاصة القول: أن الحديث ضعيف، وقد ضعَّفه المحدث الألباني في "الإرواء" رقم (1918).

(1)

في هامش المخطوط (أ) ما نصه: " [كذا قالهُ الشارحُ رحمه الله، ولا يخْفَى أنهُ مشكلٌ؛ لأنهُ إنْ كانَ عقدُ الآخرِ بعدَ انقضاءِ عدتِها منَ الأولِ فنكاحُها صحيحٌ، وإنْ كانَ قبلَ انقضاءِ عدتِها فهوَ باطلٌ، إلا أنْ يقالَ إنهُ أسلمَ وهيَ في العدةِ، وإذا أسلمَ وهيَ فيها فالنكاحُ باقٍ بينَهما، فتزوُّجها بعدَ إسلامِه باطلٌ لأنها باقيةٌ في عقدِ نكاحِه فهذا أقربُ منه] ".

(2)

في "المستدرك"(4/ 34).

(3)

قال ابن عدي في "الكامل"(2/ 593): "جميل بن زيد يُعرف بهذا الحديث، واضطراب =

ص: 72

(وعن زيدِ بن كعبِ بن عجرةَ عنْ أبيهِ قالَ: تزوَّجَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم العاليةَ منْ بني غِفَارٍ) بكسرِ الغينِ المعجمةِ ففاءٍ خفيفةٍ فراءٍ بعدَ الألف؛ قبيلةٌ معروفةٌ، (فلمَّا دخلتْ عليهِ ووضعتْ ثيابَها رأى بِكَشْحِها) بفتح الكاف فشيني معجمةٍ فحاءٍ مهملةٍ هوَ ما بينَ الخاصرتينِ إلى الضلعِ كما في القاموسِ

(1)

، (بياضًا، فقالَ: البسي ثيابكِ والحقي بِأَهْلِكِ، وأمرَ لها بالصَّدَاقِ. رواهُ الحاكمُ وفي إسنادِه جميلُ بنُ زيدٍ وهوَ مجهولُ واختُلِفَ عليه في شيخِه اختلافًا كثيرًا).

اختُلِفَ في الحديثِ عنْ جميلٍ فقيلَ عنهُ كما قالَ المصنفُ، وقيلَ: عن ابن عمرَ

(2)

، وقيلَ: عنْ كَعبِ بن عجرةَ، وقيلَ: عنْ كعبِ بن زيدٍ

(3)

.

والحديثُ فيهِ دليلٌ على أن البَرَصَ مُنَفِّرٌ ولا يدلُّ الحديثُ على أنهُ يُفْسَخُ بهِ النكاحُ صريحًا لاحتمالِ قولِه صلى الله عليه وسلم: "الحقي بأهلك"، أنه قصدَ به الطلاقَ، إلا أنهُ قدْ رَوَى هذا الحديثَ ابنُ كثيرٍ بلفظِ:"أنهُ صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ امرأةً منْ بني غفارٍ، فلمَّا دخلتْ عليهِ رَأَى بكشحها وضحًا، فردَّها إلى أهْلِها وقال: دلَّسْتُم عليَّ"، فهوَ دليلٌ على الفسخِ، وهذا الحديثُ ذكرَهُ ابنُ كثيرٍ في بابِ الخيارِ في النكاحِ والردِّ بالعيبِ.

وقد اختلَفَ العلماءُ في فسخِ النكاحِ بالعيوبِ، فذهبَ أكثرُ الأمةِ إلى ثبوتِه وإنِ اختلفُوا في التفاصيلِ. فَرُوِيَ عنْ عليٍّ رضي الله عنه[وابن]

(4)

عمرَ رضي الله عنه، أنَّها لا تُرَدُّ النساءُ إلا منْ أربعٍ: من الجنونِ، والجذامِ، والبرصِ، والداءِ في الفرجِ، وإسنادُه منقطعٌ. ورَوَى البيهقي

(5)

بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنه: "أربعٌ لا يَجُزْنَ في بيعٍ

= الرواة عنه بهذا الحديث حسب ما ذكره البخاري، وتلوَّن فيه على ألوان، واختلف عليه من روى عنه، فبعضهم ذكره البخاري، وبعضهم ذكرته أنا ممن قال عنه عن ابن عمر ممن لم يذكرهم البخاري

" اهـ.

وخلاصة القول: أن الحديث ضعيف.

(1)

"القاموس المحيط"(ص 305).

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 213 - 214)، وهو حديث ضعيف.

(3)

أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 493)، وسعيد بن منصور في "السنن" رقم (829)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 593)، والبيهقي (7/ 214 و 256 - 257)، وهو حديث ضعيف، وانظر كلام ابن حزم في "المحلَّى"(10/ 115).

(4)

في (ب): "و".

(5)

في "السنن الكبرى"(7/ 215)، بإسناد جيد. وردَّه ابن حزم في "المحلَّى"(10/ 114) =

ص: 73

ولا نكاحٍ: المجنونةُ والمجذومةُ والبرصاءُ والعفْلاءُ"، والرجلُ يشاركُ المرأةَ في ذلكَ، ويزيد بالجبِّ والعنةِ على خلافٍ في العنةِ وفي أنواعٍ منَ المنفراتِ خلافٌ. واختارَ ابنُ القيمِ

(1)

أن كلَّ عيبٍ يُنَفِّرُ الزوجَ الآخرَ منهُ ولا يحصلُ به مقصودُ النكاحِ منَ المودةِ والرحمةِ يوجبُ الخيارَ وهوَ أوْلَى منَ البيعِ، كما أن الشروطَ المشروطة في النكاح أوْلَى بالوفاءِ منَ الشروطِ في البيعِ. قالَ: ومَنْ تدبَّرَ مقاصدَ الشرعِ في مصادرِه وموارِده وعدْلِه وحِكْمَتِهِ وما اشتملتْ عليهِ منَ المصالحِ لم يخفَ عليهِ رجحانُ هذا القولِ وقُرْبُهُ منْ قواعدِ الشريعةِ. قالَ: وأما الاقتصارُ على عيبين أو ثلاثةٍ أو أربعةِ أو ستةِ أو سبعةٍ أو ثمانيةٍ دونَ ما هوَ أوْلَى منْها أو مساويْها فلا وجْهَ لهُ؛ فالعَمَى والخرسُ والطرشُ وكونُها مقطوعةَ اليدينِ أو الرجلينِ أو إحداهُما منْ أعظم المنفراتِ، والسكوتُ عنهُ منْ أقبحِ التدليسِ والغشِ وهوَ منافٍ للدينِ، والإطلاقُ إنما ينصرفُ إلى السلامةِ فهوَ كالمشروطِ عُرْفًا. قالَ: وقدْ قالَ أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطابِ لمنْ تزوَّجَ امرأةً وهو لا يولدَ لهُ أخْبِرْها أنكَ عقيمٌ، فماذا تقولُ في العيوبِ الذي هذا عندَها كمالٌ لا نقصٌ؟! انتهى. وذهبَ داودُ وابنُ حزمٍ

(2)

إلى أنهُ لا يُفْسَخُ النكاحُ بعيبٍ ألبتَةَ، وكأنهُ لما لم يثبتِ الحديثُ بهِ ولا يقولونَ بالقياسِ لم يقولُوا بالفسخِ.

11/ 951 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوّجَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَوَجَدَهَا بَرْصَاءَ، أَوْ مَجْنُونةً، أَوْ مَجْذُومَةً، فَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَسِيسِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْهَا. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصورٍ

(3)

وَمَالِكٌ

(4)

وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ

(5)

. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(6)

. [ضعيف]

= بقوله: "وعن ابن عباس في طريق لا خير فيه ثم لو صح لكان لا حجة فيه لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم مع اختلاف تلك الروايات على انقطاعها

" اهـ.

(1)

في "زاد المعاد"(5/ 180 - 186).

(2)

انظر: "المحلَّى" لابن حزم (10/ 109 - 116) رقم المسألة: (1934، 1935).

(3)

في "السنن" رقم (818 و 819).

(4)

في "الموطأ"(2/ 526 رقم 9).

(5)

في "المصنف"(4/ 175).

قلت: وأخرجه الدارقطني (3/ 266 رقم 82)، والبيهقي (7/ 214).

(6)

وهو كما قال: إلا أنه منقطع بين سعيد وعمر. والخلاصة: أن الحديث ضعيف.

ص: 74

(وعنِ سعيدِ بن المسيَّبِ أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه قالَ: أيُّما رجلٍ تزوَّجَ امرأةً فدخلَ بها فوجدَها برصاءَ أو مجنونة أو مجذومةً فلها الصَّداق بمسيسِهِ إياها، وهو لهُ على مَنْ غرَّه منها. أخرجه سعيدُ بن منصورٍ ومالكٌ وابن أَبي شيبةَ ورجالهُ ثِقَاتٌ) تقدَّمَ الكلامُ في الفسخِ بالعيبِ. وقولُه: (وهوَ)، أي المهرُ (لهُ) أي للزوجِ (على مَنْ غرَّهُ منْها) أي يرجعُ عليه، وإليهِ ذهبَ الهادي ومالكٌ وأصحابُ الشافعيِّ، وذلك لأنهُ غُرْمٌ لحقَهُ بِسبَبِهِ إلَّا أنَّهمُ اشترطُوا عِلْمَه بالعيبِ فإذا كانَ جاهلًا فلا غُرْمَ عليهِ، وقولُ عمرَ:"على مَنْ غرَّهُ"، دالٌ على ذلكَ، إذ لا غررَ منهُ إلَّا معَ العلمِ. وذهبَ أَبو حنيفةَ والشافعيُّ إلى أنهُ لا رجوعَ، إلَّا أن الشافعيَّ قالَ بِهذَا في الجديدِ.

قالَ ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ: وقدْ حَكَى الشافعيُّ في القديمِ عنْ عمرَ وعليٍّ وابنِ عباس في المغرورِ يرجعُ بالمهرِ على منْ غرَّهُ ويعتضدُ بما تقدَّم منْ قولِه صلى الله عليه وسلم: "من غَشَّنا فليس منَّا"

(1)

، ثمَّ قالَ الشافعيُّ في الجديدِ: وإنَّما تركْنا ذلكَ لحديثِ: "أيُّما امرأةٍ نُكِحَتْ بغيرِ إِذْنِ وَليِّها فنكاحُها باطلٌ؛ فإنْ أصابَها فَلَهَا الصَّدَاقُ بما

(1)

وهو حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (10234)، وفي "الصغير"(1/ 261)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 189)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (253) و (254)، وابن حبان رقم (1107 - موارد) عن عبد اللهِ قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "من غشَّنا فليس منا، والمكرُ والخداعُ في النارِ".

• وللجملة الأولى شواهد:

(منها): ما أخرجه أحمد (2/ 242، 417)، ومسلم رقم (101)، وأبو داود (رقم 3455)، والترمذي رقم (1315)، وابن ماجه رقم (2224)، والحاكم (2/ 8، 9)، والبيهقي (5/ 320)، من حديث أَبي هريرة.

(ومنها): ما أخرجه أحمد (2/ 50)، والدارمي (2/ 248)، والقضاعي في "مسند الشهاب"، رقم (351) من حديث ابن عمر.

(ومنها): ما أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 9) من حديث الحارث به سويد النخعي.

(ومنها): ما أخرجه أحمد (3/ 466) و (4/ 45)، والطبراني في "الكبير"(22/ 198)، من حديث أبي بردة بن نيار.

• وللجملة الثانية شاهد من حديث أنس عند الحاكم (4/ 607)، بسند حسن.

وآخر من حديث أَبي هريرة عند البزار رقم (103)، وأبي نعيم في "أخبار أصبهان"(1/ 209).

وخلاصة القول: أن الحديث صحيح، واللهُ أعلم.

ص: 75

استحلَّ منْ فَرْجِها"

(1)

، قال: فجعلَ لها الصَّداقَ في النكاحِ الباطلِ وهي التي غرَّتْه، فلأنْ يجعلَ لها الصداقُ بلا رجوعٍ على الغاز في النكاحِ الصحيحِ الذي فيه الزوجُ مُخَيَّرٌ بطريقِ الأَوْلَى. انتَهى. وقدْ يقالُ: هذا مطلقٌ مُقَيَّدٌ بحديثِ البابِ.

12/ 952 - وَرَوَى سَعِيدٌ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ

(2)

، وَزَادَ: وَبِهَا قَرْنٌ، فَزَوْجُهَا بِالْخِيَارِ، فَإِنْ مَسّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا. [ضعيف].

(وَرَوَى سعيدٌ أيضًا) يعني ابنُ منصورٍ (عنْ عليٍّ رضي الله عنه نحوهَ وزادَ: وبها قَرْنٌ) بفتحِ القافِ وسكونِ الرَّاءِ، هوَ العَفَلَةُ بفتحِ العينِ المهملةِ وفتحِ الفاءِ واللامِ، [وهو شيء يخرج]

(3)

في قُبُلِ النساءِ وَحَيَا الناقةِ كالأَدَرَةِ في الرجالِ، (فزوجُها بالخيارِ، فإنْ مسَّها فَلَهَا المهْرُ بما استحلَّ منْ فَرْجِهَا).

13/ 953 - وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ

(4)

أَيْضًا قَالَ: قَضَى عُمْرُ رضي الله عنه في الْعِنينِ أَنْ يُؤَجَّلَ سَنَةً. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. [ضعيف].

(ومنْ طريقِ سعيدِ بن المسيَّبِ أيضًا)، أي: وأخرجَ سعيدُ بنُ منصورٍ منْ طريقِ ابن المسيبِ (قالَ: قَضَى عمرُ أنَّ العِنِّيْنَ يُؤَجَّلُ سنةَ. ورجالُه ثقاتٌ)، بالمهملةِ فنونٍ فمثناةٍ تحتيةٍ بِزِنَةِ سِكِّيْنٍ، هوَ مَنْ لا يأتي النساءَ عجزًا لعدمِ انتشارِ ذَكَرِهِ ولا يريدُهنَّ، والاسمُ: العَنَانَةُ [والعنينُ]

(5)

والعِنِّيْنَةُ بالكسرِ ويشدَّدُ، والعُنَّةُ بالضمِّ الاسمُ أيضًا منْ عَنَنَ عن امرأتِهِ حَكَمَ عليهِ القاضي بذلِكِ أوْ مُنِعَ بالسحرِ. وهذَا الأثرُ دالٌّ على أنَّها عيبٌ يفسخُ بها النكاحُ بعدَ تحقُّقِها، واختلفُوا في ذلكَ، والقائلونَ بالفسخ اختلفُوا أيضًا في إمهالهِ ليحصلَ التحقيقُ، فقيلَ: يُمْهَلُ سنةً، وهوَ مرويٌّ

(1)

وهو حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 47، 165)، وأبو داود رقم (2083)، وابن ماجه رقم (1879)، والترمذي رقم (1102)، وقال: حديث حسن. وابن حبان (رقم 1248 - موارد)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 168) من حديث عائشة.

وانظر: "الإرواء"(6/ 243 رقم 1840).

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" رقم (820، 821)، والبيهقي (7/ 215)، موقوفًا.

(3)

في (ب): "وهي تخرج".

(4)

أخرجه ابن أَبي شيبة في "المصنف"(4/ 206) موقوفًا.

(5)

في (ب): "والتعنين".

ص: 76

عنْ عمرَ

(1)

وابنِ مسعودِ

(2)

، وَرُوِيَ عنْ عثمانَ أنهُ لم يؤجِّلْه، وعنِ الحارثِ بن عبدِ اللَّهِ

(3)

يُؤَجَّلُ عَشَرةَ أشهرٍ، وذهبَ أحمدُ والهادي وجماعةٌ إلى أنهُ لا فسخَ بذلك. واستدلُّوا بأنَّ الأصلَ عدمُ الفسخِ وهذا أثرٌ لا حجةَ فيهِ وبأنهُ صلى الله عليه وسلم لمْ يُخَيِّرِ امرأةَ رُفاعةَ وقدْ شكتْ منهُ ذلكَ وهوَ في موضعِ التعليمِ. وقدْ أجابَ في "البحر"

(4)

بقولِه: قُلْنَا [لهُ]

(5)

لعلَّ زوجَها أنكرَ والظاهرُ معهُ.

قلتُ: لا يخفَى أن امرأةَ رفاعةَ لم تشكُ منْ رفاعةَ فإنهُ كانَ قد طلَّقَها فتزوَّجَها عبدُ الرحمنِ بنُ الزبيرِ فجاءتْ تشكوُ إليهِ صلى الله عليه وسلم وقالتْ إنما معهُ مثلُ هُدْبَةِ الثوبِ، فقالَ صلى الله عليه وسلم:"أتريدينَ أنْ ترجعي إلى رفاعةَ؟ لا حتَّى يذوقَ عُسَيلتَكِ وتذوقي عُسَيْلَتَهُ"

(6)

. وفي روايةِ "الموطأِ"

(7)

: "أن رفاعةَ طلَّقَ امرأتَه تميمةَ بنتَ وَهْبٍ في عَهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا فَنَكحت عبدَ الرحمنِ ابنَ الزبيرِ فاعترض عنْها فلم يستطِعْ أنْ يَمَسَّها ففارقَها، فأرادَ رفاعةُ أنْ يَنْكِحَها وهوَ زوجُها الأولُ فقالَ صلى الله عليه وسلم: أتريدينَ - الحديثَ". وبهذَا يُعْرَفُ عدمُ صحةِ الاستدلالِ [بحديث]

(8)

رفاعةَ فإنَّها لم تطلبِ الفسخَ بلْ فهمَ مِنْها صلى الله عليه وسلم أنَّها تريدُ أنْ يراجعَها رفاعةُ فأخبرَها أن عبدَ الرحمنِ حيثُ لم تذق عسيلته ولا ذاق عسيلتها [لا يُحِلُّها]

(9)

لرفاعةَ. وكيفَ يحملُ حديثها على طلب الفسخِ وقدْ أخرجَ مالكٌ في "الموطأ"(7)"أن عبدَ الرحمنِ لم يستطعْ أنْ يمسَّها فطلَّقَها فأراد رفاعةُ أنْ ينكحَها وهوَ زوجُها الأولُ فجاءتْ تستفتي رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأجابَها بأنَّها لا تحلُّ لهُ".

وأما قصةُ أَبي ركانةَ وهيَ: "أنهُ نكحَ امرأةَ منْ مزينةَ فجاءتْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: ما يغني عَنِّي إلَّا كما تغني عنيِّ هذهِ الشعرةُ، لشعرةٍ أخذتْها منْ رأسِها ففرِّقْ بيني وبينَه، فأخذتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حميةٌ فدعا بركانةَ وإخوتِهِ ثمَّ قالَ لجلسائهِ:

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 206، 207).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 206).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 206).

(4)

(3/ 64 - 65).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

أخرجه البخاري (10/ 264 رقم 5792)، ومسلم (رقم: 1433) من حديث عائشة.

(7)

(2/ 531 رقم 17).

(8)

في (ب): "بقصةِ".

(9)

في (أ): "لا تحل".

ص: 77

أترونَ فلانًا - يعني ولدًا لهُ - يشبهُ منهُ كذَا وكذَا من عبد يزيد

(1)

، وفلانًا لابنه الآخر يشبه منه كذا وكذا، قالُوا: نعمْ، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعبدِ يزيدَ: طلِّقْها، ففعلَ - الحديثَ"، أخرجَه أَبو داودَ

(2)

عن ابن عباسٍ.

والظاهرُ أنهُ لم يثبتْ عندَهُ صلى الله عليه وسلم ما ادَّعَتْهُ المرأةُ منَ العنَّةِ؛ لأنَّها خلافُ الأصلِ؛ ولأنهُ صلى الله عليه وسلم تَعرَّفَ أولادَه بالقيافةِ، وسألَ عنْها أصابَهُ صلى الله عليه وسلم فدلَّ [على]

(3)

أنهُ لم يثبتْ لهُ أنهُ عِنِّينٌ فأمرهَ بالطلادقِ إرشادًا إلى أنهُ ينبغي لهُ فراقُها حيثُ طلبتْ ذلكَ منهُ لا أنه يجبُ عليهِ.

فائدةٌ: قالَ ابنُ المنذرِ

(4)

: اختلفُوا في المرأةِ تطالبُ الرجلَ بالجماعِ، فقالَ الأكثر: إنْ وَطِئَها بعدَ أنْ دخلَ بها مرةً واحدةً لم يؤجَّلْ أَجَلَ العنِّينِ، وهوَ قولُ الأوزاعيِّ والثوريِّ وأبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وإسحاقَ. وقالَ أَبو ثورٍ: إنْ تركَ جِمَاعَها لِعِلَّةٍ أَجَّلَ لها سنةً، وإنْ كانَ لغيرِ عِلَّةٍ فلا تأجيلَ.

وقالَ عياضٌ: اتفقَ كافةُ العلماءِ على أن للمرأةِ حقًّا في الجماعِ فيثبتُ الخيارُ لها إذا تزوَّجَتْ المجبوبَ والممسوحَ جاهلةً بهمَا، ويضربُ للعنينِ أجلُ سنةٍ لاختبارِ زوالِ ما بهِ، انتَهى.

قلتُ: ولم يستدلُّوا على مقدارِ الأجلِ بالسنةِ بدليلٍ ناهضٍ، إنما يذكرُ الفقهاءُ لأَجْلِ أنْ تمرَّ بهِ الفصولُ الأربعةُ فيتبيَّنُ حالهُ.

* * *

(1)

عبد يزيد اسم أبي ركانة.

(2)

في "السنن" رقم (2196)، وهو حديث حسن.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(4/ 83 م 2324).

ص: 78

[الباب الثالث] باب عِشْرةِ النساء

بكسرِ العينِ وسكونِ الشينِ المعجمةِ، أي عشرةَ الرجالِ - أي الأزواجِ - النساءَ، أي الزوجاتِ.

1/ 954 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

وَالنَّسَائِيُّ

(2)

وَاللَّفْظُ لَهُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لكِنْ أُعِلَّ بِالإِرْسَالِ. [حسن].

(عنْ أَبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ملعونٌ منْ أَتَي امرأةً في دُبُرِها. رواهُ أَبو داودَ والنسائيُّ واللفظُ لهُ، ورجالهُ ثقاتٌ، لكنْ أُعِلَّ بالإرسالِ). رُوِيَ هذا الحديثَ بلفظهِ منْ طُرُقٍ كثيرةٍ عنْ جماعةٍ منَ الصحابةِ منْهم عليُّ بنُ أَبي طالبٍ

(3)

رضي الله عنه، وعمرُ

(4)

،

(1)

في "السنن" رقم (2162).

(2)

في "عشرة النساء" رقم (129).

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 444)، وابن ماجه رقم (1923)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (20952)، وابن أَبي شيبة "المصنف"(4/ 253)، والدارمي (1/ 260)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 44)، والبيهقي (7/ 198)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2297).

وفي إسناده: الحارث بن مُخَلَّد. لا يعرف حاله؛ وخلاصة القول: أن الحديث حسن.

(3)

أخرجه أحمد (1/ 86)، وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 299) وقال: رجاله ثقات.

(4)

أخرجه النسائي في "عشرة النساء" رقم (122)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 376)، والبزار (رقم: 1456 - كشف) وأورده الهيثمي في "المجمع"(4/ 298 - 299) وقال: رواه أَبو يعلى والطبراني في "الكبير"، والبزار، ورجال أَبي يعلى رجال الصحيح، ما عدا عثمان بن اليمان، وهو ثقة، وذكر الدارقطني في "العلل" (2/ 166 - 167) فيه اختلافًا كثيرًا. ثم قال: وقول عثمان ابن اليمان أصحّها.

عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ:"لا تأتوا النساء في أدبارهن".

ص: 79

وخُزَيْمَةُ

(1)

، وعليُّ بنُ طَلْقٍ

(2)

وطلقُ بنُ عليٍّ وابنُ مسعودٍ

(3)

وجابرٌ

(4)

وابنُ عباسٍ

(5)

وابنُ عمر

(6)

والبراءُ

(7)

، وعقبةُ بنُ عامرٍ

(8)

،

(1)

أخرج النسائي في "عشرة النساء" رقم (96)، وابن ماجه رقم (1924)، وأحمد (5/ 213، 214، 215)، والدارمي (1/ 261) و (2/ 145)، وابن حبان رقم (4198 و 4200 - الإحسان)، والطبراني في "الكبير"(4/ 84 رقم 3716) و (4/ 88 - 90 الأرقام من 3733 - 3744)، والبيهقي (7/ 196 - 197)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (728) وغيرهم.

عن عمارة بن خُزيمة بن ثابت عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّهَ لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن"، وهو حديث صحيح، انظر:"الإرواء" رقم (2005).

(2)

أخرج أحمد (16/ 224 رقم 238 - الفتح الرباني)، والترمذي رقم (1164) وقال: حديث حسن. والنسائي في عشرة النساء رقم (137)، وعبد الرزاق رقم (20950)، وابن أَبي شيبة (4/ 251)، والدارمي (1/ 260)، والبيهقي (7/ 198)، وابن حبان رقم (4199 - الإحسان).

من حديث علي بن طلق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأتوا النساء في أعجازهن"، أو قال:"في أدبارهن". ورجال إسناده ثقات غير مسلم بن سلام فلم يوثقه غير ابن حبان.

وخلاصة القول: أن الحديث حسن بشواهده.

(3)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(3/ 1062) بإسناد واهٍ.

(4)

أخرجه البخاري رقم (4528)، ومسلم رقم (1435)، وأبو داود رقم (2163)، وابن ماجه رقم (1925)، والنسائي في عشرة النساء رقم (87 و 88)، والترمذي رقم (2978)، والطبري رقم (4336) و (4339) و (4340) وغيرهم عنه قال: قالت اليهود: "إنَّ الرجُلَ إذا أتى امرأته وهي مُجَبِّيَةٌ جاء ولدهُ أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية إذا كان في صمام واحد".

(5)

أخرج النسائي في "عشرة النساء" رقم (115)، والترمذي رقم (1165) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن الجارود رقم (729)، وابن حبان رقم (4203 - الإحسان) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلًا أو امرأة في دُبُر" بإسناد حسن. وقال الحافظ في "التلخيص"(3/ 181): إن الموقوف أصح من المرفوع.

(6)

أخرج الدارمي (1/ 260 - 261). عن سعيد بن يسار أَبي الحباب، قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض لهن، قال: وما التحميض، فذكرت الدبر، فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين".

وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 272): وقال عَقِبَة: هذا إسناد صحيح، ونص صريح منه بتحريم ذلك فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل، فهو مردود إلى هذا الحكم".

(7)

ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" ونسبه إلى ابن عساكر، ورمز له بالضعف.

(8)

أخرج الطبراني في "الأوسط" رقم (1931) عنه، قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لعنَ اللَّهُ الذينَ يأتونَ النساءَ في محاشهِنَ".

وقال: لم يرو هذا الحديث عن ابن لهيعة إلا ابن وهب، تفرد به: عبد الصمد بن =

ص: 80

وأنسٌ

(1)

، وأبو ذرٍّ

(2)

رضي الله عنهم، وفي طُرُقِهِ جميعِها كلامٌ ولكنَّهُ معَ كثرةِ الطرقِ واختلافِ الرواةِ يشدُّ بعضُ طرقِهِ بعضًا، ويدلُّ على تحريمِ إتيانِ النساءِ في أدبارهنَّ، وإلى هذا ذهبتِ الأمةُ إلَّا القليلَ للحديثِ هذَا؛ ولأنَّ الأصلَ تحريمُ المباشرةِ إلا لما أحلَّه اللَّهُ، ولم يحلَّ تعالى إلا القُبُلَ كما دلَّ [عليه]

(3)

قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}

(4)

، وقولهُ:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}

(5)

فأباحَ موضعَ الحرثِ. [والمرادُ]

(6)

منَ الحرثِ نباتُ الزرعِ، فكذلكَ النساءُ الغرضُ منْ إتيانهنَّ هوَ طلبُ النَّسْلِ لا قضاءُ الشهوةِ وهوَ لا يكونُ إلا في القُبُلِ فيحرمُ ما عدا موضعَ الحرثِ، ولا يقاسُ عليهِ غيرهُ لعدمِ المشابهةِ في كونِهِ محلًا للزرعِ. وأما حلُّ الاستمتاعِ فيما عدا الفرجِ فمأخوذٌ مَنْ دليلٍ آخرَ وهو جوازُ مباشرةِ الحائضِ فيما عدا الفرجِ، وذهبتِ الإماميةُ

(7)

إلى جوازِ إتيانِ الزوجة والأمةِ بلْ والمملوكِ في الدُّبُرِ. ورُوِيَ عن الشافعيِّ أنهُ قالَ: لم يصحَّ في تحليلِهِ ولا تحريمِهِ شيءٌ والقياسُ أنهُ حلالٌ. ولكنْ قالَ الربيعُ: واللَّهِ الذي لا إلهَ إلا هوَ لقدْ نصَّ الشافعيُّ على تحريمِه في ستةِ كتبٍ، ويقالُ إنهُ كانَ يقولُ بحِلِّهِ في القديمِ

(8)

.

= الفضل. وأورده الهيثمي في "المجمع"(4/ 299) وقال: فيه عبد الصمد بن الفضل وثقه الذهبي، وقال: له حديث يستنكر وهو صالح الحال إن شاء الله.

قلت: وأخرجه العقيلي في "الضعفاء"(3/ 84)، وابن عدي في "الكامل"(4/ 1466).

(1)

و

(2)

فلينظر من أخرجهما.

قلت: وأخرج أحمد (2/ 182، 210)، والنسائي في "عشرة النساء" رقم (110)، والبيهقي (7/ 198)، والبزار (2/ 172 - كشف) وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 298) وقال: رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يأتي امرأته في دبرها، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"تلك اللوطية الصغرى".

(3)

في (ب): "له".

(4)

سورة البقرة: الآية 223.

(5)

سورة البقرة: الآية 222.

(6)

في (ب): "والمطلوب".

(7)

قال العاملي: "اللمعة الدمشقية" وهو من كتب فقه الإمامية (5/ 101): " (والوطء في دبرها - أي المرأة - مكروه كراهة مغلظة) من غير تحريم على أشهر القولين والروايتين، وظاهر آية الحرث. (وفي رواية) سدير عن الصادق عليه السلام (يحرم)، لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "محاش النساء على أمتي حرام" وهو مع سلامة سنده محمول على شدة الكراهة، جمعًا بينه وبين صحيحة ابن أَبي يعفور، الدالة على الجواز صريحًا" اهـ.

(8)

قال الشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 29) عقب حديث خزيمة بن ثابت: "فلست أرخص =

ص: 81

وفي الهدي النبويِّ

(1)

عن الشافعيِّ أنهُ قالَ: لا أرخِّصُ فيهِ بلْ أَنْهَى عنهُ، وقالَ: إنَّ منْ نقلَ عن الأئمةِ إباحتهُ فقدْ غَلِطَ عليهم أفحشَ الغلطِ وأقبحَه وإنما الذي أباحُوهُ أنْ يكونَ الدبرُ طريقًا إلى الوطءِ في الفرجِ فيطأُ منَ الدبرِ لا في الدبرِ فاشتبَه على السامعِ، انتَهى. ويُرْوَى جوازُ ذلكَ عن مالكٍ وأنكرَه أصحابُه. وقدْ أطالَ الشارحُ القولَ في هذه المسألةِ بما لا حاجةَ إلى استيفائِه هنا وقرَّرَ آخرًا تحريمه، ومنْ أدلةِ تحريمهِ قولُه:

2/ 955 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى رَجُلٍ أَتى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً في دُبُرِهَا"، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

(2)

وَالنَّسَائِيُّ

(3)

وَابْنُ حِبَّانَ

(4)

، وَأُعِلّ بِالْوَقْفِ. [إسناده حسن].

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: لا ينظرُ اللَهُ إلى رجلٍ أَتَى رجلًا أو أمرأةً في دُبُرِهَا. رواهُ الترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ حبانَ وأُعِلَّ بالوقفِ) على ابن عباسٍ، ولكنَّ المسألةَ لا مسرحَ للاجتهادِ فيها سِيَّما ذكرُ هذا النوعِ منَ الوعيدِ فإنهُ لا يُدْرَكُ بالاجتهادِ فلهُ حكمُ الرفع.

‌الوصاة بالجار وبالنساء

3/ 956 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤذِي جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ في الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ

= فيه - أي في إتيان المرأة في دبرها - بل أنهى عنه".

(1)

المسمَّى: "زاد المعاد في هدي خير العباد"(4/ 261).

(2)

في "السنن" رقم (1165) وقال: حديث حسن غريب.

(3)

في "عشرة النساء" رقم (115).

(4)

في "الإحسان" رقم (4203). وإسناده حسن.

وقد تقدم الكلام عليه قريبًا. وقد قال الحافظ في "التلخيص"(3/ 181): إن الموقوف أصح من المرفوع.

ص: 82

أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. [صحيح].

وَلِمُسْلِم

(2)

: "فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُها طَلاقُهَا".

(وعنْ أَبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: منْ كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ فلا يؤذي جارَهُ، واستوصُوا بالنساءِ خيرًا فإنهنَّ خُلِقْنَ منْ ضِلعٍ) بكسرِ الضادِ المعجمةِ وفتحِ اللامِ وإسكانِها، واحدُ [الأضلع]

(3)

(فإنَّ أعوجَ شيء في الضلعِ أعلاهُ إذا ذهبتَ تقيمهُ كسرتَه وإنْ تركتَه لم يزلْ أعوجَ، واستوصُوا بالنساءِ خيرًا) أي اقبلُوا الوصيةَ فيهنَّ، والمعنَى إني أوصيكم بهنَّ خيرًا، أو المعنَى يوصي بعضكم بعضًا فيهنَّ خيرًا (متفقٌ عليهِ واللفظُ للبخاريِّ. ولمسلمٍ: فإنِ استمتعتَ بها استمتعتَ بها وبها عِوَجٌ) هوَ بكسرِ أولِه على الأرجحِ (وإنْ ذهبتَ تقيمها كسرتَها وكسرُها طلاقُها). الحديثُ دليلٌ على عِظَمِ حقِّ الجارِ وأنّ من آذى الجار فليس بمؤمن بالله واليومِ الآخر، وهذا وإنْ كانَ يلزمُ منهُ كفرُ مَنْ آذى جارَه إلَّا أنهُ محمولٌ على المبالغةِ؛ لأنَّ منْ حقِّ الإيمانِ ذلكَ فلا ينبغي لمؤمنِ الاتصافُ بهِ وقدْ عدَّ أذَى الجارِ منَ الكبائرِ، والمراد منْ كانَ يؤمنُ إيمانًا كاملًا. وقدْ وصَّى اللَّهُ على الجارِ في القرآنِ، وحدُّ الجارِ إلى الأربعين دارًا كما أخرجَ الطبرانيُّ

(4)

أنهُ: "أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ إني نزلتُ في محلِّ بني فلانٍ وإنَّ أشدَّهم لي أذىً أقربُهم إليَّ دارًا، فبعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ وعمرَ وعليًا رضي الله عنهم يأتون المسجدَ فيصيحونَ على أن أربعينَ دارًا جارٌ ولا يدخلُ الجنةَ منْ خافَ جارُه بوائقهُ

(5)

". وأخرج الطبرانيُّ في "الكبير" "والأوسطِ"

(6)

:

(1)

البخاري رقم (5185) و (6518) و (6136) و (6138) و (6475)، ومسلم رقم (65، 59، 60/ 1468).

(2)

رقم (59/ 1468).

(3)

في (ب): "الأضلاع".

(4)

عزاه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 169) من حديث كعب بن مالك وقال: فيه يوسف بن السفر وهو متروك.

(5)

البوائق جمع بائقة وهي الداهية والشر الشديد.

(6)

أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (4080) وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 164) إلى "الكبير" أيضًا. وقال: وفيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف.

قلت: وفيه أيضًا (حفص بن سليمان القاضري) وهو متروك. =

ص: 83

"إنَّ اللَّهَ ليدفعُ بالمسلمِ الصالحِ عنْ مائةِ بيتٍ منْ جيرانِهِ"، وهذا فيه زيادةٌ على الأولِ. والأذيةُ للمسلم مطلقًا محرمةٌ، قالَ تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}

(1)

، ولكنهُ في حقِّ الجارِ أشدُّ تحريمًا فلا يغتفرُ منهُ شيءٌ، وهوَ كلُّ ما يُعَدُّ في العُرْفِ أذىً حتَّى وردَ في الحديثِ: "إنهُ لا يؤذيهِ بِقَتَارِ قِدْرِه إلَّا أنْ يغرفَ لهُ منْ مرقتهِ، ولا يحجزُ عنهُ الريحَ إلا بإذنِه، وإنِ اشترى فاكهةً أَهْدَى [له]

(2)

إليه"

(3)

، وحقوقُ الجارِ مستوفاةٌ في الإحياءِ للغزاليِّ

(4)

. وقولُه: "واستوصُوا" تقدَّمَ بيانُ معناهُ وعلَّلَه بقولهِ: فإنهنَّ خُلْقِنَ منْ ضلعٍ، يريدُ خلِقنَ خلقًا فيهِ اعوجاجٌ لأنهنَّ خلقنَ منْ أصلٍ مُعْوَجٍّ، والمرادُ أن حوَّاءَ أصلُها خلقتْ منْ ضلعِ آدمَ كما قالَ تعالَى:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (5) بعدَ قولهِ: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}

(5)

. وأخرجَ ابنُ إسحاقَ منْ حديثِ ابن عباسٍ: "إنَّ حوَّاءَ خُلِقَتْ من ضلعِ آدمَ الأقصرِ الأيسرِ وهوَ نائمٌ"

(6)

، وقولهُ:"وإنَّ أعوجَ ما في الضلعِ" إخبارٌ بأنها خلقتْ منْ أعوجِ أجزاءِ الضلعِ مبالغةً في إثباتِ هذهِ الصفةِ [فيهنَّ]

(7)

. وضميرُ قولهِ تقيمهُ وكسرتَهُ للضلعِ، وهوَ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وكذا في لفظِ البخاريِّ تقيمها وكسرتَها ويحتملُ أنهُ للمرأةِ، وروايةُ مسلمٍ صريحةٌ في ذلكَ حيثُ قالَ:"وكسرُها طلاقُها". والحديثُ فيهِ الأمرُ بالوصيةِ بالنساءِ والاحتمالُ لهنَّ، والصبرُ على عِوَجِ أخلاقِهنَّ، وأنهُ لا سبيلَ إلى إصلاحِ أخلاقِهنَّ بلْ لا بدَّ منَ العوجِ فيها، وأنهُ مِنْ أصلِ الخلقةِ. وتقدَّمَ ضبطُ العِوَجِ هُنَا، وقالَ أهلُ اللغةِ

(8)

: العوجُ بالفتحِ في كلِّ منتصبٍ كالحائطِ والعودِ وشِبْهِهِمَا وبالكسر ما كانَ في بساطٍ أو [عيش]

(9)

أو دِيْنٍ ويقالُ: فلانٌ في دينهِ عِوَجٌ بالكسرِ.

= وقد أخرجه ابن عدي في "الكامل"(2/ 790) في ترجمته، وقال: لا يرويه عن ابن سوقة غير حفص بن سليمان.

(1)

سورة الأحزاب: الآية 58.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

وهو جزء من حديث أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد"(8/ 165) من حديث معاوية بن حيدة. وقال الهيثمي: وفيه أَبو بكر الهذلي وهو ضعيف.

(4)

(2/ 212 - 215).

(5)

سورة النساء: الآية 1.

(6)

كلام فيه نظر؟!

(7)

في (ب): "لهنَّ".

(8)

انظر: "القاموس المحيط"(ص 255).

(9)

في (ب): "معايش".

ص: 84

‌نهى صلى الله عليه وسلم المسافر عن طروق أهله ليلًا

4/ 957 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في غَزاةٍ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ:"أَمْهِلُوا حَتَّى تدخلوا لَيْلًا - يَعْنِي عِشَاءً - لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"، مُتَّفقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح].

وفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ

(2)

: "إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمْ الْغَيْبَةَ فلا يَطْرُق أَهْلَهُ لَيْلًا". [صحيح].

(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: كُنَّا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ، فلمَّا قَدِمْنا المدينةَ ذَهَبْنَا لندخلَ فقالَ صلى الله عليه وسلم: أمهلُوا حتَّى تدخلُوا ليلًا - يعني عشاءً - لكي تمتشطَ الشعثةُ) بفتحِ الشينِ المعجمةِ وكسرِ العينِ المهملةِ فمثلثةٍ (وتستحدَّ) بسينِ وحاءٍ مهملتينِ (المغيبةً) بضمِّ الميمِ وكسرِ المعجمةِ بعدَها مثناةٌ تحتيةٌ ساكنةٌ فموحدةٌ [مفتوحةٌ]

(3)

التي غابَ عنْها زوجُها (متفقٌ عليهِ). فيهِ دليلٌ على أنهُ يحسنُ التأني [للقادمِ]

(4)

على أهلهِ حتَّى يشعرُوا بقدومِهِ قبلَ وُصولِهِ بزمانٍ يتسعُ لما ذُكرَ منْ تحسينِ هيئاتِ منْ غابَ عنهنَّ أزواجُهن منَ الامتشاطِ وإزالةِ الشعرِ بالموسَى مثلًا منَ المحلاتِ التي يحسنُ إزالتُه منْها، وذلكَ لئلَّا يهجمَ على أهلهِ وهمْ في هيئةٍ غيرِ مناسبةٍ فينفرُ الزوجُ عنهنَّ، والمرادُ إذا سافرَ سَفَرًا يطيلُ فيه الغيبةَ كما دلَّ لهُ قولهُ:(وفي روايةِ البخاريِّ) أي عنْ جابرٍ: (إذا أطالَ أحدُكم الغيبةَ فلا يطرقْ أهلَه ليلًا) قالَ أهلُ اللغةِ: الطروقُ المجيءُ [ليلًا]

(5)

منْ سَفَرٍ وغيرِهِ على غَفْلَةٍ، ويقالُ لكلِّ آتٍ بالليلِ طارقٌ ولا يقالُ في النهارِ إلَّا مجازًا. وقولُه:"ليلًا" ظاهرُه تقييدُ النَّهْي بالليلِ وأنهُ لا كراهةَ في وصوله إلى أهلهِ نهارًا منْ غيرِ شُعُورِهم. واختُلِفَ في علةِ التفرقةِ بينَ الليلِ والنهارِ، فعلَّلَ البخاريُّ في ترجمةِ البابِ بقولهِ: بابُ لا يطرقُ الرجلُ أهلَه ليلًا إذا أطالَ الغيبةَ مخافةَ أن يتخوَّنهم أو يلتمسَ [عوراتهم]

(6)

فعلَى هذا التعليلِ يكونُ الليلُ جزءَ [علة]

(7)

؛ لأنَّ الريبةَ تغلبُ في الليلِ وتندرُ في النهارِ وإنْ

(1)

البخاري رقم (5079)، ومسلم (2/ 1088 رقم 57).

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 303، 355)، وأبو داود رقم (2778).

(2)

في "صحيحه" رقم (5244).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (أ): "للقدوم".

(5)

في (ب): "بالليل".

(6)

في (ب): "عثراتهم".

(7)

في (ب): "العلة".

ص: 85

كانتِ العلةُ ما صرَّحَ بهِ وهوَ قولُه: "لكي تمتشطَ إلى آخرِهِ"[فهوَ حاصلٌ]

(1)

في الليلِ والنهارِ. قيلَ: ويحتملُ أنْ يكونَ معتبرًا في العلة على كلَا التقديرينِ، فإنَّ الغرضَ منَ التنظيفِ والتزيينِ هوَ تحصيلٌ [لكمالِ]

(2)

الغرضِ منْ قضاءِ الشهوةِ وذلكَ في الأغلبِ يكونُ في الليلِ، فالقادمُ في النهارِ يَتَأَنَّى [لتحصيل زوجته]

(3)

التنظيفُ والتزيينُ لوقتِ المباشرةِ وهوَ الليلُ بخلافِ القادمِ في الليلِ، [وكذلكَ]

(4)

ما يُخْشَى منهُ منَ العثورِ على وجودِ أجنبيٍّ هوَ في الأغلبِ يكونُ في الليلِ.

وقدْ أخرجَ ابنُ خزيمةَ

(5)

عن ابن عمرَ قالَ: "نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن نطرقَ النساءَ ليلًا، فطرقَ رجلانِ كلاهُما فوجدَ - يريدُ كلُّ واحدٍ منْهما - معَ امرأتِه ما يكرَهُ". وأخرجَ أَبو عوانة في صحيحهِ

(6)

منْ حديثِ جابرٍ: "أن عبدَ اللَّهِ بنَ رواحةَ أتَى امرأتَه ليلًا وعندَها امرأةٌ تمشطُها فظنَّها رجلًا فأشارَ إليها بالسيفِ، فلمَّا ذُكِرَ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يطرقَ الرجلُ أهلَه ليلًا".

وفي الحديثِ الحثُّ على البعدِ عنْ تَتَبُّعِ عوراتِ الأهلِ والحثُّ على ما يجلبُ التودُّدَ والتحابَّ بينَ الزوجينِ وعدمُ التعرضِ لما يوجبُ سوءَ الظنِّ بالأهلِ وبغيرِهم أَوْلَى. وفيهِ أن الاستحدادَ ونحوَه مما تتزينُ بهِ المرأةُ لزوجِهَا محبوبٌ للشرعِ وأنهُ ليسَ من تغيير خلقِ اللَّهِ المنْهِيِّ عنهُ.

‌نهي الزوجين عن إفشاء ما يكون دينهما

5/ 958 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ منْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وتُفْضِي إِلَيهِ، ثُمّ يَنْشُرُ سرَّهَا"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(7)

. [صحيح]

(1)

في (أ): "فهي حاصلة".

(2)

في (أ): "إكمال".

(3)

في (ب): "يحصل لزوجته".

(4)

في (أ): "كذا".

(5)

عزاه إليه ابن حجر في "الفتح"(9/ 340).

(6)

في "المسند"(5/ 114، 116).

(7)

في "صحيحه" رقم (1437).

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 69)، وأبو داود رقم (4868).

ص: 86

(وعنْ أَبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ شرَّ الناسِ عندَ اللَّهِ منزلةً يومَ القيامةِ الرجلُ يفضي إلى امرأتِهِ)، مِنْ أفْضَى الرجلُ إلى المرأةِ جامعَها أو خَلا بهَا، جامعَ أم لا، كما في القاموسِ، (وتفضي إليه ثم ينشرُ سِرَّها)، أي وتنشرُ سرَّهُ (أخرجهُ مسلمٌ)، إلَّا أنهُ بلفظِ:"إنَّ مِنْ أشرِّ الناسِ". قالَ القاضي عياضٌ: وأهلُ النحوِ يقولونَ: لا يجوزُ أشرُّ وأخْيَرُ، وإنَّما يقالُ: هوَ خيرٌ منهُ وشرُّ منهُ، قالَ: وقدْ جاءتِ الأحاديثُ الصحيحةُ باللغتينِ جميعًا، وهي حجةٌ في جوازهما جميعًا وأنَّهما لغتانِ. والحديثُ دليل على تحريمِ إفشاءِ الرجلِ ما يقعُ بينَه وبينَ امرأتِهِ منْ أمورِ الوقاعِ ووصْفِ تفاصيلِ ذلكَ، وما يجري منَ المرأةِ فيهِ منْ قولٍ أوْ فِعْلٍ ونحوه، وأما مجرَّدُ ذكرِ الوقاعِ فإذا لم يكنْ لحاجةٍ فذكرُه مكروهٌ؛ لأنهُ خلافُ المروءةِ. وقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ فليقلْ خيرًا أو ليصمتْ"

(1)

، فإنْ دعتْ إليهِ حاجةٌ أوْ ترتبتْ عليهِ فائدةٌ، كان ينكرَ إعراضَه عنْها أو تَدَّعي عليهِ العجزَ عن الجماعِ أو نحو ذلكَ فلا كرَاهةَ [في ذِكْرِهِ]

(2)

، كما قالَ صلى الله عليه وسلم:"إني لأفعلُه أنا وهذِهِ"

(3)

، وقالَ لأبي طلحةَ:"أعرَّسْتمُ الليلةَ"

(4)

، وقالَ لجابرٍ:"الكَيْسَ الكَيْسَ"

(5)

، وكذلكَ المرأةُ لا يجوزُ لها إفشاءُ سِرِّه، وقدْ وردَ بهِ نصٌّ أيضًا.

‌هجر الزوجةَ تأديبًا

6/ 959 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ:"تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا في الْبَيتِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(6)

وَأَبُو دَاوُدَ

(7)

(1)

أخرجه البخاري رقم (5672 - البغا)، ومسلم رقم (46) من حديث أَبي هريرة.

وأخرجه البخاري رقم (5673 - البغا)، ومسلم رقم (48) من حديث أَبي شريح العدوي.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

أخرجه مسلم (1/ 272 رقم 89/ 350)، والنسائي في "عشرة النساء" رقم (240) من حديث عائشة.

(4)

أخرجه البخاري رقم (5153 - البغا)، ومسلم رقم (2144) من حديث أنس بن مالك.

(5)

أخرجه البخاري رقم (4948 - البغا) من حديث جابر.

(6)

في "المسند"(4/ 447) و (5/ 3 - 5).

(7)

في "السنن" رقم (2142).

ص: 87

وَالنَّسَائِيُّ

(1)

وابْنُ مَاجَهْ

(2)

وَعَلَّقَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ

(3)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(4)

والْحَاكِمُ

(5)

. [صحيح]

‌ترجمة حكيم بن معاوية

(وعنْ حكيمِ بن معاويةَ)

(6)

أي ابن حَيدةَ بفتحِ الحاءِ المهملةِ فمثناةٍ تحتيةٍ ساكنةٍ فدالٍ مهملةٍ، ومعاويةُ صحابيٌّ

(7)

رَوَى عنهُ ابنُهُ حكيمٌ، ورَوَى عنْ حكيم ابنُه بَهْزٌ بفتحِ الموحدةِ وسكونِ الهاءِ فزاي (عنْ أبيهِ قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما حقٌّ زوجِ أحدِنا) هكذَا بعدمِ التاءِ هيَ اللغةُ الفصيحةُ وجاءَ زوجةُ بالتاءِ (عليهِ، قالَ: تطعمُها إذا أكلتَ وتكسُوها إذا اكتسيتَ ولا تضربِ الوجْهَ ولا تُقَبِّحْ ولا تهجرْ إلا في البيتِ. رواهُ أحمدُ والنسائيُّ وأبو داودَ وابنُ ماجهْ، وعلَّقَ البخاريُّ بعضَه) حيثُ قالَ: "بابُ هجرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم نساءَه في غيرِ بيوتهنَّ"

(8)

ويُذْكرُ عنْ معاويةَ بن حيدةَ رفعُه: "ولا تهجرْ إلا في البيتِ" والأولُ أصحُّ، (وصحَّحهُ ابنُ حبانَ والحاكمُ).

دلَّ الحديثُ على وجوبِ نفقةِ الزوج وكسوتِها وأن النفقةَ بِقَدْرِ سَعَتِهِ لا يُكَلَّفُ فوقَ وُسْعِهِ لقولِه: "إذا أكلتَ" كَذَا قيلَ، وفي أخذِه منْ هذا اللفظِ خفاءٌ فمتَى قدرَ على تحصيلِ النفقةِ وجبَ عليهِ أنْ لا يختصَّ بها دونَ زوجتهِ، ولعلَّه مقيَّدٌ بما زادَ على قَدْرِ سَدِّ خلَّتِهِ لحديثِ:"ابدأْ بِنَفْسِكَ". ومِثْلُه القولُ في الكسوةِ. وفي الحديثِ دليل على جوازِ الضربِ تأديبًا إلَّا أنهُ مَنْهِيٌّ عنْ ضربِ

(1)

في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(8/ 432).

(2)

في "السنن" رقم (1850).

(3)

في "صحيحه"(9/ 300 باب 92).

(4)

في "الإحسان" رقم (4175).

(5)

في "المستدرك"(2/ 188) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه الطبراني في "الكبير"(19/ رقم 1039)، والبيهقي (7/ 295).

والخلاصة: أن الحديث صحيح. انظر: "الإرواء" رقم (2033).

(6)

انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب"(2/ 387 رقم 783)، والثقات لابن حبان (4/ 161).

(7)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (8083)، و"أسد الغابة" رقم (4982)، و"الاستيعاب" رقم (2463).

(8)

البخاري في "صحيحه"(9/ 300 باب 92).

ص: 88

الوجْهِ للزوجةِ وغيرها. وقولهُ: "لا [تقبِّحْ]

(1)

"أي لا [تُسمعْها]

(2)

ما تكرهُ و [تقولُ]

(3)

قبَّحَكِ اللَّهُ ونحوَه منَ الكلامِ الجافي، ومعنَى قولِه: "لا [تهجرْ]

(4)

إلَّا في البيتِ"، أنهُ إذا أرادَ هَجْرَهَا في المضجعِ تأديبًا لها كما قالَ تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}

(5)

فلا يهجرْها إلَّا في البيتِ ولا يتحولْ إلى دارٍ أخرى أو يحوِّلْها إليها. إلَّا أن روايةَ البخاريِّ

(6)

التي ذكرَنَاها دلَّتْ أنهُ صلى الله عليه وسلم هجرَ نساءَه في غيرِ بيوتهنَّ، وخرجَ إلى مشربةٍ لهُ، وقدْ قالَ البخاريُّ: إنَّ هذا أصحُّ منْ حديثِ معاويةَ. هذا وقدْ يُقَالُ دلَّ فعلُه على جوازِ هجرهنَّ في غيرِ البيوتِ، وحديثُ معاويةَ على هجرهنَّ في البيوتِ، ويكون مفهومُ الحصْرِ غيرُ مرادٍ.

واختلفوا في تفسيرِ الهجْرِ، فالجمهورُ فسَّروهُ بتركِ الدخولِ عليهنَّ والإقامةِ عندَهنَّ على ظاهرِ الآيةِ وهوَ منَ الهجرانِ بمعنَى البُعدِ، وقيلَ: يضاجعُها ويوليها ظهرَه، وقيلَ: يتركُ جِمَاعَها، وقيلَ: يجامعُها ولا يكلِّمُها، وقيلَ: هو منَ الهُجرِ الإغلاظُ في القولِ، وقيلَ: منَ الهِجَارِ وهوَ الحبلُ الذي يربطُ بهِ البعيرُ، أي أوثقوهنَّ في البيوتِ، قاله الطبريُّ واستدلَّ له ووهَّاهُ ابنُ العربيِّ.

7/ 960 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: إذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا في قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}

(7)

، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(8)

، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. [صحيح]

(وعنْ جابرِ بن عبدِ اللَّهِ رضي الله عنه قالَ: كانتِ اليهودُ تقولُ: إذا أَتَى الرجل امرأتَهُ منْ دُبُرِهَا في قُبُلِهَا كانَ الولدُ أحولَ فنزلَ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}

(9)

، متفقٌ عليهِ واللفظُ لمسلمٍ)، ولفظُ البخاريِّ سمعتُ جابرًا يقولُ: كانتِ اليهودُ تقولُ إذا

(1)

في (أ): "يقبِّح".

(2)

في (أ): "يسمعها".

(3)

في (أ): "يقول".

(4)

في (أ): "يهجر".

(5)

سورة النساء: الآية 34.

(6)

في "صحيحه"(9/ 300).

(7)

سورة البقرة: الآية 223.

(8)

البخاري (8/ 189 رقم 4528)، ومسلم رقم (1435).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (2163)، والترمذي رقم (2978)، وابن ماجه رقم (1925)، وأحمد (6/ 205).

(9)

سورة البقرة: الآية 223.

ص: 89

جامَعها مِنْ ورائِها أي في قُبُلِهَا كما فسَّرتْهُ الروايةُ الأُولَى جاءَ الولدُ أحولَ فنزلتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}

(1)

، واختلفتِ الرواياتُ في سببِ نُزُولِها على ثلاثةِ أقوالٍ:

الأولُ: ما ذكرَه المصنفُ منْ روايةِ الشيخينِ أنَّهُ في إتيانِ المرأةِ منْ وَرَائِها في قُبُلِها، وأخرجَ هذا المعنى جماعةٌ منَ المحدِّثِيْنَ عنْ جابرٍ وغيرِه، واجتمعَ فيهِ ستةٌ وثلاثونَ طريقًا صرَّحَ في بعضِها بأنه لا يحلُّ إلا في القُبُلِ وفي أكثرِها الردُّ على اليهودِ.

الثاني: أنها نزلتْ في حِلِّ إتيانِ دُبُرِ الزوجةِ، أخرجَهُ جماعةٌ عنَ ابن عمرَ منِ اثْنَي عشرَ طريقًا

(2)

.

الثالثُ: أنَّها نزلتْ في حِلِّ العزلِ عن الزوجةِ، أخرجَه أئمةٌ منْ أهلِ الحديثِ عن ابن عباسٍ وعنِ ابن عمرَ وعنِ ابن المسيِّبِ، ولا يَخْفَى أنَّ ما في الصحيحينِ مقدَّمٌ على غيرهِ فالراجحُ هوَ القولُ الأولُ. وابنُ عمرَ قدِ اختلفتْ عنهُ الروايةُ والقولُ بأنهُ أريدَ بها العزلَ لا يناسبُه لفظُ الآيةِ. هذا وقدْ رُوِيَ عن ابن الحنفيةِ أن معنَى قولِه تعالى:{أَنَّى شِئْتُمْ} ، إذا شئتُم، فهوَ بيانٌ للفظِ أنَّى [و]

(3)

أنهُ بمعنَى إذا فلا يدلُّ على شيءٍ مما ذُكِرَ أنهُ سببُ النزولِ بل على أن إتيانَ الزوجةِ موكولٌ إلى مشيئةِ الزوجِ.

‌التسمية عند مباشرة الزوجة

8/ 961 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، الْلَّهُمّ جَنِّبْنَا الشَّيطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا،

(1)

سورة البقرة: الآية 223.

(2)

هذا القول بيِّن البطلان ولو رُوي من مائة طريق؛ لأنه يخالف قول اللَّه عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، إذْ المعلوم أن الحرث محل الإنبات وهو في المرأة موضع النسل وهو معروف بالفطرة.

وكذلك بما ورد من أحاديث صحيحة تخالف ذلك. وقد تقدمت الرواية الصحيحة عن ابن عمر بخلافه. واللَّهُ أعلم.

(3)

في (أ): "من".

ص: 90

فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَينَهُما وَلَدٌ في ذلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لوْ أن أحدَكم إذا أرادَ أنْ يأتيَ أهلَه قالَ: بسمِ اللَّهِ اللَّهمَّ جَنِّبْنَا الشيطانَ وجنِّبِ الشيطانَ ما رزقْتَنَا، فإنه إنْ يُقَدَّرْ بينَهما ولدٌ في ذلكَ لم يضرَّهُ الشيطانُ أبدًا. متفقٌ عليهِ) هذا لفظُ مسلمٍ.

والحديثُ دليلٌ على أنهُ يكونُ القولُ قَبْلَ المباشرةِ عندَ الإرادةِ، وهذِه الروايةُ تفسرُ روايةَ:"لو أن أحدَكمِ يقولُ حينَ يأتي أهلَه" - أخرجَها البخاريُّ

(2)

- بأنَّ المرادَ حينَ يريدُ وضميرُ جَنِّبنَا للرجلِ وامرأتِه. وفي رواية الطبرانيِّ

(3)

: جنِّبني وجَنِّبْ ما رزقْتَني بالإفرادِ. وقولُه: "لم يضرَّهُ الشيطانُ أبدًا" أي لم يُسَلَّطْ عليهِ. قالَ القاضي عياضٌ

(4)

: نَفْيُ الضررِ على وجهةِ العمومِ في جميعِ أنواع الضررِ غيرُ مرادٍ وإنْ كانَ الظاهرُ العمومَ في جميعِ الأحوالِ منْ صيغةِ النفي معَ التَّأبيدِ، وذلكَ لما ثبتَ في الحديثِ [منْ]

(5)

أن كلَّ ابن آدمَ يطعنُ الشيطانُ في بطنه حينَ يولدُ إلا مريمَ وابنَها؛ فإنَّ في هذا الطعنِ نوعُ ضررٍ في الجملةِ معَ أن ذلكَ سببُ صُراخِهِ. قلتُ: هذا منَ القاضي مبنيٌّ على عمومِ الضَّرَرِ [الدينيِّ]

(6)

والدنيويِّ. وقيل: ليسَ المرادُ إلَّا الدينيُّ وأنهُ يكونُ منْ جملةِ العبادِ الذينَ قالَ تعالى فيهمْ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}

(7)

، ويؤيدُ هذَا أنهُ أخرجَ عبدُ الرزاقِ

(8)

عن الحسنِ وفيهِ: فكانَ يُرْجَى إنْ حملتْ بهِ أنْ يكونَ ولدًا صالحًا، وهوَ مرسلٌ. لكنهُ لا يقالُ منْ قِبلِ الرأي. قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ

(9)

رحمه الله: يُحْتَمَلُ أنهُ لا يضرُّهُ في دينهِ

(1)

البخاري رقم (6961 - البغا)، ومسلم رقم (1434).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (2161)، والترمذي رقم (1092)، وابن ماجه رقم (1919).

(2)

رقم (4870 - البغا) من حديث ابن عباس.

(3)

عزاه إليه الهيثمي في "المجمع"(4/ 292 - 293) من حديث أَبي أمامة وقال الهيثمي وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف.

(4)

في "شرح صحيح مسلم" بشرح النووي (10/ 5).

(5)

في (أ): "مع".

(6)

في (أ) وفي (ب): "للديني" والصواب ما أثبتناه.

(7)

سورة الحجر: الآية 42.

(8)

عزاه إليه ابن حجر في "الفتح"(9/ 229) وهو مرسل.

(9)

"إحكام الأحكام"(4/ 43).

ص: 91

ولكنْ يلزمُ منهُ العصمةُ وليستْ إلا للأنبياءِ. وقدْ أُجِيْبَ بأنَّ العصمةَ في حقِّ الأنبياءِ على جهةِ الوجوبِ وفي حقِّ مَن دُعِيَ لأَجْلِهِ بهذَا الدعاءِ على جهةِ الجوازِ فلا يبعدُ أنْ يوجدَ مَنْ لا يصدرُ منهُ معصيةٌ عَمْدًا، وإنْ لمْ يكنْ ذلكَ واجبًا لهُ، وقيلَ:"لم يضرَّهُ" لم يفْتِنْهُ في دينهِ إلى الكفرِ وليسَ المرادُ عصمتَه عن المعصيةِ، وقيلَ: لم يضرَّهُ مشاركةُ الشيطانِ لأبيهِ في جماعِ أمِّه، ويؤيِّدُه ما جاءَ عنْ مجاهدٍ أن الذي يجامعُ ولا يُسَمِّي يلتفُّ الشيطانُ على إِحْلِيْلِهِ فيجامعُ معهَ، قيلَ: ولعلَّ هذا أقربُ الأجوبةِ. قلت: إلا أنهُ لم يذكرْ مَنْ أخرجَه عنْ مجاهدٍ ثمَّ هوَ مرسلٌ.

ثمَّ الحديثُ سِيْقَ لفائدةٍ تَحْصُلُ للولدِ ولا تحصُلُ على هذا، ولعلَّه يقولُ إنَّ عدمَ مشاركةِ الشيطانِ لأبيهِ في جماعِ أمهِ فائدتُه عائدةٌ على الولدِ أيضًا. وفي الحديثِ استحبابُ التسميةِ وبيانُ بركتِها في كلِّ حالٍ وأنْ يعتصمَ باللَّهِ وذِكْرِه منَ الشيطانِ والتبرُّكِ باسمِه والاستعاذةِ بهِ منْ جميعِ الأسواءِ. وفيهِ أنَّ الشيطانَ لا يفارقُ ابنَ آدمَ في حالٍ منَ الأحوالِ إلَّا إذا ذكرَ اللَّهَ.

‌لعن الملائكة للمرأة إذا عصت زوجها

9/ 962 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأتهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ، فَبَاتَ غَضْبَانَ لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتى تُصْبِحَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

. [صحيح]

وَلمُسْلِمٍ

(2)

: "كَانَ الَّذِي في السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيهَا حَتى يَرْضَى عَنْهَا". [صحيح]

(وعنْ أَبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: إذا دَعَا الرجلُ امرأتهُ إلى فراشهِ فأبتْ أنْ تجيءَ لعنتْها الملائكةُ حتى تصبحَ) أي وترجعَ عن العصيانِ، ففي بعضِ ألفاظِ البخاريِّ

(3)

حتَّى ترجعَ، (متفقٌ عليهِ، واللفط للبخاريِّ. ولمسلمٍ: كانَ الذي في السماءِ ساخطًا عليها حتَّى يرضَى عنْها). [في]

(4)

الحديثِ إخبارٌ بأنهُ يجبُ على المرأةِ

(1)

البخاري رقم (3065 - البغا)، ومسلم رقم (1436).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (2141)، والترمذي رقم (1160).

(2)

في "صحيحه" رقم (121/ 1436).

(3)

في "صحيحه" رقم (4898 - البغا).

(4)

زيادة من (أ).

ص: 92

إجابةُ زَوْجِها أي إذا دَعَاهَا للجماعِ؛ لأنَّ قولَه إلى فراشِهِ كنايةٌ عن الجماعِ كما في قولِه: "الولدُ للفراشِ"

(1)

أي للذي يطأ في الفراش، ودليلُ الوجوبِ لَعْنُ الملائكةِ لها إذْ لا يلعنونَ إلا عنْ أمرِ اللَّهِ تعالى، ولا يكونُ إلَّا عقوبةً، ولا عقوبةَ إلا على تركِ واجبٍ، وقولُه:"حتَّى تصبحَ" دليلٌ على وجوبِ الإجابةِ في الليلِ، ولا مفهومَ لهُ لأنهُ خرجَ ذكرُه مَخْرَجَ الغالبِ، وإلَّا فإنهُ [يجبُ]

(2)

عليها إجابتُه نهارًا. وقدْ أخرجهُ غيرَ مقيَّدٍ بالليلِ ابنُ خزيمةَ

(3)

وابنُ حبانَ

(4)

مرفوعًا: "ثلاثةٌ لا تقبلُ لهم صلاةٌ ولا تصعدُ لهمْ إلى السماءِ حسنةٌ: العبدُ الآبقُ حتَّى يرجعَ، والسكرانُ حتى يصحوَ، والمرأةُ الساخطُ عليها زوجُها حتَّى يرضَى"، وإنْ كانَ هذا في سخطهِ مطلقًا، ولوْ لعدمِ طاعتِها في غيرِ الجماعِ، وليسَ فيهِ لعنٌ إلا أن فيهِ وعيدًا شديدًا يدخلُ فيهِ عدمُ طاعتِها لهُ في جماعِها منْ ليلٍ أو نهارٍ.

وزادَ البخاريُّ

(5)

في روايتِه في بدءِ الخلقِ: فباتَ غضبانَ عليها. أي زوجُها، قيلَ: وهذهِ الزيادةُ يتجهُ وقوعُ اللعنِ عليها لأنَّها حينئذٍ يتحققُ ثبوتُ معصيتِها بخلافِ ما إذا لمْ يغضبْ منْ ذلكَ فإنَّها لا تستحقُّ اللعنَ. وفي قولِه: "لعنتْها الملائكةُ" دلالةٌ على أن مَنْعَ مَنْ عليهِ الحقُّ عمنْ هوَ لهُ وقدْ طلبهُ يوجبُ سخطَ اللَّهِ تعالى على المانعِ سواءً كانَ الحقُّ في بدنٍ أو مالٍ، قيل: ويدلُّ أنهُ يجوزُ لعنُ العاصي المسلمِ إذا كانَ على وجْهِ الإرهابِ عليهِ قبلَ أنْ يواقعَ المعصيةَ، فإذا واقعَها دُعِيَ لهُ بالتوبةِ والمغفرةِ.

قالَ المصنفُ رحمه الله في "الفتحِ"

(6)

بعدَ نَقْلِهِ [لِهَذَا]

(7)

عن المهلبِ: ليسَ هذَا

(1)

أخرجه البخاري رقم (6818)، ومسلم رقم (1458)، والترمذي رقم (1157)، والنسائي رقم (3482) و (3483)، وابن ماجه رقم (2006)، والدارمي (2/ 152)، وأحمد (2/ 239، 280، 386، 409، 466، 475، 492). من حديث أَبي هريرة.

(2)

في (أ): "تجب".

(3)

في "صحيحه" رقم (940).

(4)

في "الإحسان" رقم (5355).

قلت: وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(3/ 1074)، والبيهقي (1/ 389) من حديث جابر بن عبد اللَّهِ.

قال البيهقي: تفرد به زهير، وقال الذهبي في "المهذب": قلت: هذا من مناكير زهير.

(5)

في "صحيحه"(رقم: 3065 - البغا).

(6)

(9/ 294 - 295).

(7)

في (أ): "هذا".

ص: 93

التقييدُ مستفادٌ منَ الحديثِ، بلْ منْ أدلةِ أخْرَى. والحقُّ أن منْ منعَ اللعنَ أرادَ بهِ [المعنى]

(1)

اللغويَّ وهوَ الإبعادُ [منَ]

(2)

الرحمةِ، وهذا لا يليقُ أنْ يَدَّعِيَ بهِ على المسلمِ، بلْ يطلبُ لهُ الهدايةَ والتوبةَ والرجوعَ عن المعصيةِ، والذي أجازَه أرادَ معناهُ العرفيَّ وهوَ مطلقُ السبِّ، ولا يخْفَى أن محلَّه إذا كانَ بحيثُ يرتدعُ العاصي بهِ وينزجرُ، وَلعنُ الملائكةِ لا يلزمُ منهُ جوازُ اللعنِ منَّا، فإنَّ التكليفَ مختلِفٌ، انتَهى كلامُهُ.

قلت: قولُ المهلبِ إنهُ يُلْعَنُ قبلَ وقوعِ المعصيةِ للإرهابِ كلامٌ مردودٌ فإنهُ لا يجوزُ لَعْنُه قبلَ إيقاعِه لها أصلًا؛ لأنَّ سببَ اللعنِ وقوعُها منهُ فقبلَ وقوعِ السبب لا وجْهَ لإيقاعِ المسبِّبِ. ثمَّ إنهُ رتَّبَ في الحديثِ لعنَ الملائكةِ على إباءِ المرأَةِ عن الإجابةِ، وأحاديثُ:"لعنَ اللَّهُ شاربَ الخمرِ"

(3)

رتَّبَ فيها اللعنَ على وصْفِ كونِه شاربًا، وقولُ الحافظِ بأنهُ إنْ أُرِيدَ معناهُ العرفيُّ جازَ لا يخْفَى أنهُ غيرُ مرادٍ للشارعِ إلا المعنَى اللغويَّ. والتحقيقُ أن اللَّهَ تعالى أخبرَنا بأن الملائكةَ تلعنُ مَنْ ذُكِرَ، وبأنهُ تعالى لعنَ شاربَ الخمرِ، ولم يأمرْنا بلعنِه؛ فإنْ وردَ الأمرُ بلعنِه وجبَ علينا الامتثالُ ولعنهُ ما لم تُعْلَمْ توبتُه، ونُدِبَ لنا الدعاءُ لهُ بالتوفيقِ [بالتوبة]

(4)

والاستغفارِ. وقدْ أخبرَ اللَّهُ تعالَى أنَّ الملائكةَ تلعنُ مَنْ ذكرَ ومعلومٌ أنهُ عنْ أمرِ اللَّهِ تعالى، وأخبرَ أنَّهم يستغفرونَ لمنْ في الأرضِ، وهو عامٌّ يشملُ مَنْ يلعنونهم منْ أهلِ الإيمانِ وهمْ المرادونَ في الآيةِ؛ إذِ المرادُ منْ عصاةِ أهلِ الإيمانِ لأنَّهمُ المحتاجونَ إلى الاستغفارِ لا أنَّها مقيدةٌ بقولِه:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}

(5)

الآية كما قيلَ؛ لأنَّ التائبِ مغفورٌ له، وإنما [دعاؤُهم]

(6)

لهُ بالمغفرةِ تعبُّدٌ وزيادةُ تنويهٍ [لشأن]

(7)

التائبينَ.

(1)

في (ب): "معناه". وهو الموافق لما في "الفتح".

(2)

في (أ): "عن".

(3)

أخرج أبو داود رقم (3674)، وابن ماجه رقم (3380).

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لعنَ اللَّهُ الخمر وشارِبهَا، وساقيها، ومُبتاعَها، وبائعها، وعاصِرَها، ومُعتصرها، وحامِلها، والمحمولةَ إليه" وزاد ابن ماجه: "وآكِلَ ثمنها"، وهو حديث حسن.

(4)

في (ب): "للتوبة".

(5)

سورة غافر: الآية 7.

(6)

في (أ): "دعواهم".

(7)

في (ب): "بشأن".

ص: 94

وأما شمولُ عمومِها الكفارَ فمعلومٌ أنهُ غيرُ مرادٍ، وبهذَا يُعْرَفُ أن الملائكةَ قامُوا بالأمرينِ كما أشرْنا إليهِ. وفي الحديثِ رعايةُ اللَّهِ لعبدِه ولعنُ مَنْ عصاهُ في قضاءِ شهوتهِ منهُ، وأيُّ رعايةٍ أعظمُ منْ رعايةِ الملِكِ الكبيرِ للعبدِ الحقيرِ، فليكنْ لِنِعَمِ مولاهُ ذاكرًا، ولأياديهِ شاكرًا، ومنْ معاصيهِ محاذِرًا، ولهذهِ النكتةِ الشريفِ منْ كلامِ رسولِ اللَّهِ ذاكرًا.

‌لعن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة

10/ 963 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لعنَ الواصلةَ) بالصادِ المهملةِ (والمستوصلةَ والواشمةَ) بالشينِ المعجمةِ (والمستوشمةَ. متفقٌ عليه). الواصلةُ هي المرأةُ التي تَصِلُ شَعْرَها بِشَعْرِ غيرِها سواءٌ فعلتهُ لنفسِها أو لغيرِها، والمستوصلةُ التي تطلبُ فعلَ ذلكَ، وزادَ في الشرحِ: ويفعلُ بها، ولا يدلَّ عليهِ اللفظُ. والواشمةُ فاعلةُ الوشْمِ وهوَ أنْ تغرزَ إبرةً ونحوَها في ظهرِ كفِّها أو شَفَتِهَا أو نحوهما منْ بَدَنِها حتَّى يسيلَ الدَّمُ ثم تحشُو ذلكَ الموضعَ بالكحلِ أو النورةِ فَيَخْضَرُّ. والمستوشمةُ الطالبةُ لذلكَ. والحديثُ دليلٌ على تحريمِ الأربعةِ الأشياءِ المذكورةِ في الحديثِ، فالوصلُ محرَّمٌ للمرأةِ مطلقًا بِشَعْرٍ محرَّمٍ أو غيرِه، آدميٍّ أو غيرِه، سواء كانتِ المرأةُ ذاتَ زينةٍ أوْ لا، مزوجةٌ أو غيرُ مزوَّجةٍ. وللهادويةِ والشافعيةِ خلافٌ وتفاصيلُ لا ينهضُ عليها دليلٌ، بلِ الأحاديثُ قاضيةٌ بالتحريمِ مطلقًا لوصلِ الشعرِ واسْتِيْصالِه، كما هيَ قاضيةٌ بتحريمِ الوشْمِ وسؤالِه، ودلَّ اللَّعنُ أن هذِه المعاصي منَ الكبائرِ

(2)

. هذَا وقدْ عُلِّلَ الوشمُ في بعضِ الأحَاديثِ بأنهُ تغييرٌ لخلقِ اللَّهِ تعالى، ولا يُقَالُ إنَّ الخِضَابَ بالحِنَّاءِ ونحوهِ تشملُه العِلَّةُ؛ لأنها وإنْ شملتْه فهوَ

(1)

البخاري رقم (5940)، ومسلم رقم (2124).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (4168)، والترمذي رقم (1759)، والنسائي (8/ 145 - 146)، وابن ماجه رقم (1987)، وأحمد (2/ 21).

(2)

انظر: "الكبيرة الستون" من كتاب "الكبائر" للذهبي (ص 153).

ص: 95

مخصوصٌ بالإجماعِ وبأنهُ قدْ وقعَ في عصرِه صلى الله عليه وسلم، بلْ أمرَ بتغييرٍ بياضِ أصابعِ المرأةِ بالخضابِ كما في قِصَّةِ هندٍ

(1)

. فأمَّا وصْلُ الشَّعْرِ بالحريرِ ونحوهِ منَ الخِرَقِ فقالَ القاضي عياضٌ

(2)

: اختلفَ العلماءُ في المسألةٍ، فقالَ مالكٌ والطبريُّ وكثيرونَ أوْ قالَ الأكثرونَ: الوصْلُ ممنوعٌ بكلِّ شيءٍ سواءٌ وصلتْه بصوفٍ أو حريرٍ أو خِرَقٍ واحتجُّوا بحديثِ مسلمٍ

(3)

عنْ جابرٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "زَجَرَ أنْ تصلَ المرأةُ برأسِها شيئًا"، وقالَ الليثُ بنُ سعدٍ

(4)

: النَهْيُ مختصٌّ بالوصلِ بالشعرِ ولا بأسَ بوصلهِ بصوفٍ وخِرَقٍ وغيرِ ذلكَ، وقال بعضُهم: يجوزُ بكلِّ شيءٍ وهوَ مروي عنْ عائشةَ ولا يصحُّ عنْها. قالَ القاضي (4): وأما ربطُ خيوطِ الحريرِ الملونةِ ونحوِها مما لا يشبهُ الشعرَ فليسَ بمنهيٍّ عنهُ لأنهُ ليسَ بوصلٍ ولا لمعنَى مقصودٍ منَ الوصلِ وإنما هوَ للتجمُّلِ والتحسينِ، انتَهى. ومرادُه منَ المعنَى المناسبِ هوَ ما في ذلكَ منَ الخداعِ للزَّوْجِ فما كانَ لونُه مغايرًا للونِ الشعرِ فلا خِدَاعَ فيهِ.

‌حكم الغيلة والعزل

11/ 964 - وَعَنْ جُذَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أُنَاسٍ، وَهُوَ يَقُولُ:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهى عَنِ الغيلةِ فَنَظَرْتُ في الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإذَا هُمْ يَغيلُونَ أَوْلادَهُمْ فَلا يَضُرُّ ذَلكَ أَوْلادَهُمْ شَيْئًا"، ثُمَّ سَألُوهُ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفيُّ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(5)

. [صحيح]

(1)

التي أخرجها أَبو داود عن عائشة أن هند بنت عتبة. قالت: يا رسول الله، بايعني، فقال: لا أبايعك حتى تغيري كفيك، كأنهما كفا سبع.

(2)

ذكره النووي في "شرح مسلم"(14/ 104).

(3)

في "صحيحه" رقم (121/ 2126).

(4)

ذكره النووي في "شرح مسلم"(14/ 104).

(5)

في "صحيحه" رقم (1442).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (3882)، ومالك في "الموطأ"، (2/ 607 - 608 رقم 16)، والترمذي رقم (2077)، والنسائي (6/ 106 - 107)، وابن ماجه رقم (2011).

ص: 96

‌ترجمةَ جُذامةَ بنتِ وهبٍ

(وعنْ جُذامةَ بنتِ وهبٍ)

(1)

بضمِّ الجيمِ وذالٍ معجمةٍ ويُرْوَى بالدالِ المهملةِ، قيلَ وهوَ تصحيفٌ، هيَ أختُ عكاشةَ بن محصنٍ منْ أُمّهِ، هاجرتْ معَ قَوْمِها وكانتْ تحتَ أُنَيْسِ بن قتادةَ مصغَّرُ أنسٍ، (قالتْ: حضرت رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أناسٍ وهوَ يقولُ: لقدْ هممتُ أنْ أَنْهَى عن الغِيلةِ) بكسرِ الغينِ المعجمةِ فمثناةٍ تحتيةٍ (فنظرتُ في الرومِ وفارسَ فإذا همْ يغيلونَ أولادَهم فلا يضرُّ ذلكَ أولادَهم شيئًا، ثمَّ سألوهُ عن العزْلِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذلكَ الوأْدُ الخفيُّ. رواهُ مسلمٌ). اشتملَ الحديثُ على مسألتينِ:

الأُولَى: "الغيلةُ" تقدَّم ضبطُها ويقالُ لها الغَيَلُ بفتحِ الغينِ المعجمةِ معَ فتحِ المثناةِ [التحتيةِ]

(2)

، والغِيالُ بكسرِ الغينِ والمرادُ بها مجامعةُ الرجلِ امرأتَه وهي ترضعُ، كما قالَه مالكٌ والأصمعيُّ وغيرُهما، وقيلَ: هيَ أنْ ترضعَ المرأةُ وهيَ حاملٌ، والأطباءُ يقولونَ: إنَّ ذلكَ داءٌ والعربُ تكرهُهُ وتتقيهِ، ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ردَّ ذلكَ لهم وبيَّنَ عدمَ الضررِ الذي زعمهُ العربُ والأطباءُ، بأنَّ فارِسًا والرومَ تفعلُ ذلكَ ولا ضررَ يحدثُ معَ الأولادِ، وقولُه:"فإذا همْ يَغِيْلُونَ"، هو مِنْ أَغَالَ يَغِيْلُ.

والمسألةُ الثانيةُ: "العزْلُ" وهوَ بفتحِ العينِ المهملةِ وسكونِ الزاي، وهوَ أن [ينزعَ]

(3)

الرجلُ بعدَ الإيلاجِ لِيُنْزِلَ خارجَ الفرجِ، وهوَ يُفْعَلُ لأحدِ أمرينِ: أما في حقِّ الأَمَةِ فَلِئَلَّا تحملُ كراهةً لمجيءِ الولدِ منَ الأَمَةِ ولأنهُ معَ ذلكَ يتعذَّرُ بيعُها، وأما في حقِّ الحرَّةِ فكراهةَ ضررِ الرضيعِ إنْ كانَ، أوْ لِئَلَّا تحملُ المرأةُ. وقولُه في جوابِ سؤالِهم عنهُ:"إنهُ الوأْدُ الخفيُّ"، دالٌّ على تحريمهِ، لأنَّ الوأْدَ دَفْنُ البنتِ حيةً، وبالتحريمِ جزَمَ ابنُ حزمٍ

(4)

محتجًا بحديثِ الكتابِ هذَا.

وقالَ الجمهورُ: يجوزُ عن الحرَّةِ بِإِذْنِهَا وعنِ الأَمَةِ السُّرِّيَّةِ بغيرِ إِذْنِها، ولهمْ خلافٌ في الأَمَةِ المزوَّجةِ بحُرٍّ، قالُوا: وحديثُ الكتابِ مُعَارَضٌ بحديثينِ؛ الأولُ

(1)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (10975)، و"الثقات"(3/ 67)، و"تجريد أسماء الصحابة"(2/ 254 رقم 3080)، و"الكاشف"(3/ 422).

و"جُدامة" كلها بالمهملة.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (أ): "يعزل".

(4)

في "المحلَّى"(10/ 70) رقم المسألة (1907).

ص: 97

عنْ جابرٍ قالَ: كان لنا جوارٍ وكنَّا نعزلُ، فقالتِ اليهودُ: تلكَ الموءودةُ الصُّغْرى، فَسُئِلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذلكَ فقالَ:"كذبتِ اليهودُ ولوْ أرادَ اللَّهُ خَلْقَه لم تستطعْ ردَّه" أخرجَهُ النسائي

(1)

والترمذيُّ وصحَّحَهُ

(2)

، والثاني: أخرجَه النسائيُّ

(3)

منْ حديثِ أَبي هريرةِ نحوَه. قالَ الطحاويُّ

(4)

: والجمعُ بينَ الأحاديثِ يُحْمَلُ النَّهْيُ في حديثِ جذامةَ على التنزيهِ، ورجَّحَ ابنُ حزمٍ

(5)

حديثَ جذامةَ وأنَّ النَّهْيَ فيهِ للتحريمِ بأنَّ حديثَ غيرِها مرجِّحٌ لأصلِ الإباحةِ وحديثُها مانعٌ، فَمَنِ ادَّعَى أنهُ أُبِيْحَ بعدَ المنعِ فعليهِ البيانُ. ونُوزعَ ابنُ حزمٍ في دلالةِ قولِه صلى الله عليه وسلم:"ذلكَ الوأْدُ الخفيُّ" على الصراحةِ بالتحريم؛ لأنَّ التحريمَ لِلْوَأْدِ المحقَّقِ الذي هوَ قطعُ حياةٍ محقَّقةٍ والعزلُ شَبَّهَهُ صلى الله عليه وسلم به، وإنما هوَ قطعٌ لما يُوَدِّي إلى الحياةِ والمشبَّه دونَ المشبَّهِ بهِ، وإنَّما سمَّاهُ وأْدًا لِمَا تعلَّقَ بهِ منْ قصدِ منعِ الحملِ، وأما عِلةُ النَّهْي عن العزلِ فالأحاديثُ دالَّةٌ على أنَّ وجْهَهُ أنهُ معاندةٌ لِلْقَدَرِ وهذا دالٌّ على عدمِ التفرقةِ بينَ الحرةِ والأَمَةِ.

فائدةٌ: معالجةُ المرأةِ لإسقاطِ النُّطْفَةِ قبلَ نَفْخِ الروحِ يتفرعُ جوازُه وعدمُه على الخلافِ في العزلِ، فمن أجازَهُ أجازَ المعالجةَ، ومنْ حرَّمَ هذا بالأَوْلَى، ويلحقُ بهذا تعاطي المرأةِ ما يقطعُ الحَبَلَ منْ أصلِهِ، وقدْ أفتى بعضُ الشافعيةِ بالمنعِ وهوَ مُشْكِلٌ على قولِهِمْ بإباحةِ العزْلِ مطلقًا.

12/ 965 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تَحَدَّثُ أَنَّ الْعَزْلَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، قَالَ:"كَذَبَتِ الْيَهُودُ، لَو أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(6)

وَأَبُو دَاوُدَ

(7)

،

(1)

في "عشرة النساء" رقم (193) بسند صحيح.

(2)

في "السنن" رقم (1136) وقال: حديث جابر حديث حسن صحيح.

(3)

في "عشرة النساء" رقم (198) بسند حسن.

(4)

في "مشكل الآثار"(5/ 173).

(5)

في "المحلَّى"(10/ 70 - 71).

(6)

في "المسند"(3/ 51، 53).

(7)

في "السنن" رقم (2171).

ص: 98

واللفظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ

(1)

وَالطَّحَاوِيُّ

(2)

. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ أَبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أَنَّ رجلًا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ إنَّ لي جاريةً وأنا أعزلُ عنْها وأنا أكرهُ أنْ تحمِلَ، وأنا أريدُ ما يريدُ الرجالُ، وأنَّ اليهودَ تحدِّثُ أن العزْلَ الموءودةُ الصُّغْرَى قالَ: كذبتْ يهودُ، لو أرادَ اللَّهُ أنْ يخلقَه ما استطعتَ أنْ تَصْرفَه. رواهُ أحمدُ وأبو داودَ واللفظُ لهُ، والنسائيُّ والطحاويُّ ورجالهُ ثِقَاتٌ).

الحديثُ قدْ عارضَ حديثَ النَّهْي وتسميتُه صلى الله عليه وسلم العزلَ الوأدَ الخفيَّ، وفي هذا كَذِبُ يهودَ في تسميتِه الموءودةَ الصُّغْرَى. وقدْ جُمِعَ بينَهما بأنَّ حديثَ النَّهْي حُمِلَ على التنزيهِ

(4)

وتكذيبِ اليهودِ لأنَّهم أرادُوا التحريم الحقيقيَّ. وقولهُ: "لو أرادَ اللَّهُ أن يخلقَه - إلى آخرهِ" معناهُ أنهُ تعالَى إذا قدَّرَ خلْقَ نفسٍ فلا بدَّ منْ خَلْقِهَا وأنهُ يسبقُكم الماءُ فلا تقدرونَ علَى دَفْعِهِ ولا ينفعُكمُ الحرصُ على ذلكَ، فقدْ يسبقُ الماءُ منْ غيرِ شعورِ العازلِ لتمامِ ما قدَّره اللَّهُ. وقدْ أخرجَ أحمدُ

(5)

والبزارُ

(6)

منْ حديثِ أنسٍ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ "أن رجلًا سألَ عن العزلِ فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لوْ أن الماءَ الذي يكونُ منهُ الولدُ أهرقْتَهُ على صخرةٍ لأخرجَ اللَّهُ له منْها ولدًا"، وله شاهدانِ في "الكبير" للطبرانيِّ

(7)

عن

(1)

في "عشرة النساء" رقم (194، 197).

(2)

في "مشكل الآثار" رقم (1916). وهو حديث صحيح.

(3)

وهو كما قال.

(4)

قال ابن قيم الجوزية في "تهذيب السنن"(3/ 85): "فاليهودُ ظنت أن العزلَ بمنزلةِ الوأدِ في إعدام ما انعقد بسبب خلقه، فكذبهم في ذلك، وأخبر أنه لو أراد اللهُ خلقه ما صرفه أحدٌ، وأما تسميته وأدًا خفيًا، فلأنَّ الرجل إنما يعزل عن امرأته هربًا من الولد، وحرصًا على أن لا يكون، فجرى قصده ونيته وحرصه على ذلك مجرى من أعدم الولد بوأده، لكن ذلك وأدٌ ظاهرٌ من العبد فعلًا وقصدًا، وهذا وأد خفي منه، إنما أراده ونواه عزمًا ونية، فكان خفيًا" اهـ.

وانظر كلام الحافظ في "الفتح"(9/ 309).

(5)

كما في "الفتح الرباني"(16/ 220 رقم 229).

(6)

عزاه إليه الهيثمي في "المجمع"(4/ 296). وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 296) وقال: رواه أحمد والبزار وإسنادهما حسن.

(7)

أخرج الطبراني في "الأوسط" رقم (6884) عن ابن عباس قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالحق، لو أن النطفة التي أخذ اللهُ عليها الميثاقَ ألقيت على صخرةٍ لخلقَ اللَّهُ منها إنسانًا" اهـ. =

ص: 99

ابن عباسٍ وفي "الأوسطِ"

(1)

لهُ عن ابن مسعودِ رضي الله عنه.

‌القرآن لم ينه عن العزل

13/ 966 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

وَلمُسْلِمٍ

(3)

: فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ. [صحيح]

(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: كُنَّا نعزلُ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزلُ، لو كانَ شيءٌ ينْهَى عنهُ لنهانَا عنهُ القرآن. متفقٌ عليهِ) إلَّا أن قولَه: لوْ كانَ شيءٌ يُنْهَى عنهُ إلى آخرِه لم يذكرْهُ البخاريُّ وإنَّما رواهُ مسلمٌ منْ كلامِ سفيانَ أحدِ رواتِه وظاهرُه أنهُ قالَه استنباطًا. قالَ المصنفُ في "الفتح"

(4)

: تتبعتُ المسانيدَ فوجدتُ أكثرَ رُوَاتِه عنْ سفيانَ لا يذكرونَ هذهِ الزيادةَ، انتَهى.

وقدْ وقعَ لصاحبِ العمدةِ مثلُ ما وقَعَ للمصنفِ هُنَا فجعله منَ الحديثِ، وشَرَحَها ابنُ دقيقِ العيدِ واستغربَ استدلالَ جابرٍ بتقريرِ الله تعالى لهم. (ولمسلمٍ) أي عنْ جابرٍ (فبلغَ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فلمْ ينْهَنَا عنهُ) فدلَّ تقريرُه صلى الله عليه وسلم لهمْ على جوازِهِ، وقدْ قيلَ: إنهُ أرادَ جابرٌ بالقرآنِ ما يُقْرَأَ أعمَّ منَ المتعبَّدِ بتلاوتهِ أو غيرَهُ مما يُوْحَى إليهِ، فكأنهُ يقولُ: فعلْنا في زمنِ التشريعِ ولوْ كانَ حَرَامًا لم نُقَرَّ عليهِ، قيلَ: فيزولُ استغرابُ ابن دقيقٍ العيدِ، إلَّا أنهُ لا بدَّ منْ علمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّهم فعلُوه. والحديثُ دليل على جوازِ العزْلِ ولا [تنافيه]

(5)

كراهةُ التنزيهِ كما دلَّ لهُ أحاديثُ النَّهْي.

= وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 296) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه من لم أعرفه.

(1)

أخرج الطبراني - كما في "المجمع"(4/ 297): عن ابن مسعود قال: لو أخذ اللَّهُ الميثاق على نسمة في صلب رجل ثم أخرجه على صفا لأخرجه من ذلك الصفا، فإن شئت فأتم إن شئت فلا. وقال الهيثمي: وفيه رجل ضعيف لم أسمه، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(2)

البخاري رقم (5209)، ومسلم رقم (1440).

(3)

في "صحيحه" رقم (138/ 1440).

(4)

(9/ 305).

(5)

في (ب): "ينافي".

ص: 100

‌لم يكن القسم بين نسائه صلى الله عليه وسلم عليه واجبًا

14/ 967 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. أَخْرَجَاهُ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يطوفُ على نسائهِ بِغُسْلٍ واحدٍ. أخرجَاهُ واللفظُ لمسلمٍ). تقدَّمَ الكلامُ عليهِ في بابِ الغسلِ واسْتُدِلَّ بهِ على أنهُ لم يكنِ القَسْمُ بينَ نسائِه صلى الله عليه وسلم واجبًا. وقالَ ابنُ العربيِّ

(2)

: إنهُ كانَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ساعةً منَ النهارِ لا يجبُ عليهِ فيها القَسْمُ وهي بعدَ العصرِ فإن اشتغلَ عنْها كانتْ بعدَ المغربِ. وكأنهُ أخَذَه منْ حديثِ عائشةَ الذي أخرجَهُ البخاريُّ

(3)

: "أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا انصرفَ منَ العصرِ دخلَ على نسائِه فيدنُو منْ إحداهُنَّ"، فقولُها فيدنُو يحتملُ أنهُ للوقاعِ، إلَّا أن في بعضِ رِوَاياتهِ

(4)

منْ غيرِ وقاعٍ، فهوَ لا يتمُّ مأخذًا لابنِ العربيِّ.

وقدْ أخرجَ البخاريُّ

(5)

منْ حديثِ أنسٍ: "أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يطوفُ على نسائِهِ في الليلةِ الواحدةِ ولهُ يومئذٍ تسعُ نسوةِ"، ولا يتمُّ أنْ يُرَادَ بالليلةِ بعدَ المغربِ كما قالَه؛ لأنهُ لا يتسعُ ذلك الوقتُ سِيَّما معَ الانتظارِ لصلاةِ العشاءِ لفعلِ ذلك. كذَا قيلَ وهوَ مجرَّدُ استبعادِ وإلَّا فالظاهرُ اتساعهُ لذلكَ، فقدْ كانَ صلى الله عليه وسلم يؤخِّرُ العِشاءَ، ولأنهُ أُعْطِيَ قوةً في ذلكَ لم يُعْطَهَا غيرُه. والحديثُ دليلٌ أنهُ كانَ لا يجبُ عليهِ القسمُ لنسائِه وهوَ ظاهرُ قولِه تعالَى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ}

(6)

الآية، وذهبَ إليهِ جماعةٌ مِنْ أهلِ العلمِ.

(1)

البخاري رقم (284)، ومسلم رقم (359).

(2)

قال الحافظ في "الفتح"(1/ 379): "وأغرب ابن العربي، فقال: إن اللَّهَ خصَّ نبيه بأشياء.

(منها): أنه أعطاه ساعة في كل يوم لا يكون لأزواجه فيها حق، يدخل فيها على جميعهن فيفعل ما يريد ثم يستقر عند من لها النوبة. وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب. ويحتاج إلى ثبوت ما ذكره مفصلًا" اهـ.

(3)

في "صحيحه" رقم (5216).

(4)

أخرجها أَبو داود رقم (2135)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 123) من حديث عائشة رضي الله عنها. بإسناد حسن.

(5)

في "صحيحه" رقم (5215) من حديث أنس.

(6)

سورة الأحزاب: الآية 51.

ص: 101

والجمهورُ يقولونَ يجبُ عليهِ القسْمُ، وتأوَّلُوا [هذا]

(1)

الحديثَ بأنهُ كانَ يفعلُ ذلكَ برضاءِ صاحبةِ النوبةِ، وأنهُ يُحْتَمَلُ فعلُه عند استيفاءِ القَسْمِ، ثمَّ يستأنفُ القِسْمَةَ، وبأنهُ يحتملُ أنهُ فعلَ ذلكَ قبلَ وجوبِ القَسْم. وقولُه:"ولهُ يومئذٍ تسعُ نسوةٍ" في روايةِ البخاريُّ

(2)

: "وهنَّ إحْدَى عَشْرَةَ" ويُجْمَعُ بينَ الروايتينِ بأنْ يُحْمَلَ قولُ مَنْ قالَ تسعٌ نظرًا إلى الزوجاتِ اللاتي اجتمعْنَ عندَه ولم يجتمعْ عندَه أكثرُ منْ تسعٍ، وأنهُ ماتَ عنْ تسعٍ كما قالَ أنسٌ رضي الله عنه أخرجَهُ الضياءُ عنهُ في المختارةِ، ومَنْ قالَ إحدى عَشْرَةَ أدخلَ ماريةَ القبطيةَ وريحانةَ فيهنَّ وأطلقَ عليهما لفظَ نسائِه تغليبًا

(3)

.

وفي الحديثِ دلالةٌ على أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ أكملَ الرجالِ في الرجوليةِ حيثُ كانَ لهُ هذهِ القوةِ. وقدْ أخرجَ البخاريُّ

(4)

أنهُ كانَ لهُ قوةُ ثلاثينَ رجلًا، وفي روايةِ الإسماعيلي

(5)

قوةُ أربعينَ، ومثلُه لأبي نعيمٍ

(6)

في صفةِ الجنةِ، وزادَ منْ رجالِ أهلِ الجنةِ، وقدْ أخرجَ أحمدُ

(7)

والنسائيُّ

(8)

وصحَّحَهُ الحاكمُ

(9)

منْ حديثِ زيدِ بن أرقمٍ: "أن الرجلَ في الجنةِ لَيُعْطَى قوةُ مائةٍ في الأكْلِ والشربِ والجماعِ والشهوةِ".

* * *

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في "صحيحه" رقم (268).

(3)

انظر كلام الحافظ في "الفتح"(1/ 377 - 378).

(4)

في "صحيحه" رقم (268).

(5)

قال الحافظ في "الفتح"(1/ 378): "ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أَبي موسى عن معاذ بن هشام "أربعين" بدل "ثلاثين"، وهي شاذة من هذا الوجه، لكن في "مراسيل طاوس" مثل ذلك، وزاد "في الجماع" اهـ.

(6)

قال الحافظ في "الفتح"(1/ 378): "من طريق مجاهد" اهـ.

(7)

في "المسند"(4/ 371).

(8)

في التفسير في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(3/ 191).

(9)

ذكر ذلك الحافظ في "الفتح"(1/ 378).

قلت: وأخرجه هناد في "الزهد"(63) و (90)، والدارمي (2/ 334)، وأبو الشيخ في "العظمة"(610)، والطبراني في "الكبير"(5/ 178)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 116) كلهم من حديث زيد بن أرقم.

وله شاهد من حديث أنس أخرجه الترمذي رقم (2536)، فبمجموع الطريقين أن الحديث صحيح.

ص: 102

[الباب الرابع] بابُ الصَّدَاقِ

الصَّدَاقُ بفتحِ الصادِ وكسرِها، مأخوذٌ منَ الصِّدْقِ لإشعارهِ بصدقِ رغبةِ الزوجِ في الزوجةِ، وفيهِ سبعُ لغاتٍ، ولهُ ثمانيةُ أسماءٍ يجمعُها قولُه:

صداقٌ ومهرٌ نحلةٌ وفريضةٌ

حباءٌ وأجرٌ ثم عقرُ علائقِ

وكانَ الصَّداقُ في شرعِ مَنْ قَبْلَنَا للأولياءِ كما قالَ صاحبُ "المستعذبِ" على "المهذَّبِ".

‌صحة جعل العتق صَدَاقًا

1/ 968 - عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

‌ترجمة صفية بنت حيي

(عنْ أنسٍ رضي الله عنه أنهُ صلى الله عليه وسلم أعتقَ صفيةَ وجعلَ عِتْقِها صداقَها. متفقٌ عليهِ). هيَ أمُّ المؤمنينَ صفيةُ بنتُ حُيَيِّ بن أخطبَ

(2)

منْ سبطِ هارونَ بن عمران، كانت تحت ابن أَبي الحُقيق، وقتل يوم خيبر ووقعت صفيةُ في السَّبْي، فاصطفاها

(1)

البخاري رقم (5086)، ومسلم رقم (84/ 1365).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (2054)، والترمذي رقم (1115)، والنسائي (6/ 114).

(2)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (11407)، و"أسد الغابة" رقم (7063)، و"الاستيعاب" رقم (3452).

ص: 103

رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها وماتت سنة خمسين، وقيل غير ذلك. والحديثُ دليلٌ على صحةِ جَعْلِ العتقِ صدَاقًا بأيِّ عبارةٍ وقعتْ تفيدُ ذلكَ، وللفقهاءِ عِدَّةُ عباراتٍ في كيفيةِ العبارةِ في هذا المعنَى. وذهبَ إلى صحَّةِ جَعْلِ العِتْقِ مهْرًا الهادويةُ وأحمدُ وإسحاقُ وغيرُهم، واستدلَّوا بهذا الحديثِ. وذهبَ الأكثرُ إلى عدمِ صحةِ جَعلِ العِتْقِ مهْرًا وأجابُوا عن [هذا]

(1)

الحديثِ بأنهُ صلى الله عليه وسلم أعتقَها بشرطِ أنْ يتزوَّجَها فوجبَ لهُ عليها قيمتُها وكانتْ معلومةً فتزوَّجَها بها، ويردُّ هذا التأويلُ أنهُ في مسلم

(2)

بلفظِ: "ثمَّ تزوَّجَها وجعلَ عِتْقَها صَدَاقَها"، وفيه أنهُ قالَ عبدُ العزيزِ راويهِ: قالَ ثابتٌ لأنسٍ بعدَ أنْ رَوَى هذا الحديثَ: ما أصدقَها؟ قالَ: نفسَها وأعتقَها؛ فانهُ ظاهرٌ أنهُ جعلَ نَفْسَ العِتْقِ صدَاقًا. وأما قولُ منْ قالَ إنَّ هذا شيءٌ فهمه أنسٌ فعبَّرَ به [ويجوزُ]

(3)

أن فَهْمَهُ غيرُ صحيحٍ فجوابهُ أنهُ أعرفُ باللفظِ وأفهمُ لهُ، وقدْ صرَّحَ بأنهُ صلى الله عليه وسلم جعلَ العِتْقَ صَدَاقًا فهوَ راوٍ لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وحُسْنُ الظنِّ بهِ لِثِقَتِهِ يوجبُ قبولَ روايتِه للأفعالِ، كما يجبُ قبولُها للأقوالِ، وإلا لزمَ ردُّ الأقوالِ والأفعالِ إذْ لم ينقلُ الصحابةُ اللفظَ النبويَّ إلا في شيءٍ قليلٍ، وأكثر ما يَرْوُونَهُ بالمعنَى كما هوَ معروفٌ. وروايةُ المعنَى عُمْدَتُها فَهْمَه. وقولُه إنهُ لم يرفعْه أنسٌ بلْ قالَه تَظَنُّنًا، خلافُ ظاهرِ لفظِهِ، فإنهُ قالَ: جعلَ - يريدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صدَاقَها عِتْقَها. وقدْ أخرجَ الطبرانيُّ

(4)

وأبو الشيخِ منْ حديثِ صفيةَ قالتْ: "أعتقني النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجعلَ عِتْقِي صَدَاقي" وهوَ صريحٌ فيما رواهُ أنسٌ وأنهُ لم يقلْ ذلكَ تظننًا كما قيلَ، وإنَّما خالفَ الجمهورُ الحديثَ وتأوَّلُوه، قالُوا لأنهُ خالفَ القياسَ لوجهينِ:

أحدُهما: أن عَقْدَها على نفسها إما أن يقعَ قبلَ عِتْقِها وهوَ محالٌ وإما بعدَه وذلكَ غيرُ لازمٍ لها.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في "صحيحه" رقم (85/ 1365).

(3)

في (أ): "فيجوز".

(4)

أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (4953) و (8502) وفي "الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(4/ 282) وقال الهيثمي: "ورجاله ثقات"، وقال في "الأوسط":"لا يروى عن صفية إلا بهذا الإسناد" اهـ.

ص: 104

والثاني: أنا إنْ جعلْنا العتقَ صَدَاقًا فإما أن يتقررَ العِتْقُ حالةَ الرقِّ وهو محالٌ أيضًا، أو حالة الحريةِ فيلزمُ سبقُها على العقد فيلزم وجودُ العتق حالَ فرضِ عدمِهِ وهوَ مُحَالٌ؛ لأنَّ الصداقَ لا بدَّ أنْ يتقدَّمَ تقرُّرُه على الزوجِ إما نصًا وإما حُكْمًا حتَّى تملكَ الزوجةُ طَلَبَهُ، ولا يَتَأَتَّى مثلُ ذلكَ في العتقِ فاستحالَ أنْ يكونَ صَدَاقًا، وأُجِيْبَ:

أوَّلًا: أنهُ بعدَ صحة هذه القصةِ لا [تبالي]

(1)

بهذهِ المناسباتِ.

وثانيًا: بعدَ تسليمِ ما قالُوه فالجوابُ عن الأوَّلِ أن العقدَ يكونُ بعدَ العتقِ وإذا امتنعتْ منَ العقدِ لزمَها السعايةُ بقيمتها ولا محذورَ في ذلكَ، وعنِ الثاني بأنَّ العتقَ منفعةٌ يصحُّ المعاوضةُ عنْها، والمنفعةُ إذا كانتْ كذلكَ صحَّ العَقْدُ عليها، مثلُ سُكْنَى الدارِ وخدمةِ الزوجِ ونحوِ ذلكَ. وأما قولُ مَنْ قالَ إنَّ ثوابَ العتْقِ عظيمٌ فلا ينبغي أنْ يفوتَ بجعلِهِ صَدَاقًا وكانَ يمكنُ جعلُ المهرِ غيرَه، فجوابُه أنهُ صلى الله عليه وسلم يفعلُ المفضولَ لبيانِ التشريعِ ويكونُ ثوابُه أكثرَ منْ ثوابِ الأفضلِ فهوَ في حقِّهِ أفضل. وأما جعلُ حديثِ عائشةَ في قصةِ جويريةَ مؤيِّدًا لحديثِ صفيةَ ولفظهُ:"أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لجويريةَ لما جاءتْ تستعينُه في كتابتِها: هلْ لكِ أنْ أقضيَ عنكِ كتابتَكِ وأتزوَّجَكِ؟ قالتْ: قدْ فعلتُ"، أخرجَه أَبو داودَ

(2)

. فلا يخْفَى أنهُ ليسَ فيهِ تعرُّضٌ للمهرِ ولا غيره فليسَ مما نحنُ فيهِ.

‌مقدار المهر

2/ 969 - وَعَنْ أَبي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمنِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ اثْنَتَي عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشًّا، قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ

(1)

في (ب): "يبالي".

(2)

في "السنن"(4/ 249 - 250 رقم 3931).

قلت: وأخرجه الحاكم (4/ 26 - 27) من طريقين وقد سكت هو والذهبي عن الرواية الثانية وفيها الواقدي وهو ضعيف، وأخرجه أحمد بسند جيد (14/ 109 - 110)، والطبراني في "الكبير" (24/ 61). والخلاصة: فهو حديث حسن.

ص: 105

أُوقِيّةَ، فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَزْوَاجِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

‌ترجمة أَبي سلمة بن عبد الرحمن الزهري

(وعنْ أَبي سلمةَ بن عبدِ الرحمنِ) هوَ أَبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ بن عوفِ الزُّهْريُّ

(2)

القرشيُّ أحدُ الفقهاءِ السبعةِ المشهورينَ بالفقهِ بالمدينةِ في قولِ منْ مشاهيرِ التابعينَ وأعلامِهِمْ، يُقَالُ: إنَّ اسمَهُ كنيتُه. [وهو كثير]

(3)

الحديثِ واسعُ الروايةِ، سَمِعَ عنْ جماعةٍ منَ الصحابةِ وأخذَ عنهُ جماعةٌ. ماتَ سنةَ أربعٍ [وسبعينَ]

(4)

، وقيلَ: أربعٍ ومائةٍ وهوَ في سبعينَ سنةَ، (قالَ: سألتُ عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كمْ كانَ صَدَاقُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالتْ: كانَ صداقُهُ لأزواجِهِ اثنتيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً) بضمِّ الهمزةِ وتشديدِ المثناةِ التحتيةِ (ونَشًّا) بفتحِ النونِ وشينٍ معجمةٍ مشدَّدَةٍ (وقالتْ: أتدري ما النشُّ؟ قلتُ: لا، قالتْ: نِصْفُ أوقية فتلك خمسمائةِ درهمٍ، فهذَا صداقُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأزواجِه. رواهُ مسلمٌ). المرادُ في الحديثِ أوقيةُ الحجازِ وهيَ أربعونَ دِرْهَمًا. وكانَ كلام عائشةَ هذا بناءً على الأغلبِ، وإلَّا فإنَّ صداقَ صفيةَ عَتْقُهَا، قيلَ: ومثلُها جويريةُ. وخديجةُ لم يكنْ صداقُها هذا المقدارِ، وأمُّ حبيبةَ أصدقَها النجاشيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأربعةِ آلافِ درهمٍ وأربعةِ آلافِ دينارٍ، إلَّا أنهُ كانَ تبرُّعًا منهُ إكرامًا لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولكنه قرَّره. فهذا إخبار من عائشة عن غالب صداق أزواجه، وقد استحبَّ الشافعيةُ جعلَ المهرِ خمسمائةِ درهمٍ تأسيًا، وأما أقلُّ المهرِ الذي يصحُّ بهِ العقدُ فقدْ قدَّمْنَاهُ، أما أكثرُهُ فلا حدَّ لهُ إجماعًا، قالَ تعالَى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}

(5)

، والقنطارُ قيلَ: إنهُ ألفٌ ومائتا أوقيةٍ ذهبًا، وقيلَ:

(1)

في "صحيحه" رقم (1426).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (2105)، والنسائي (6/ 116 - 117).

(2)

انظر ترجمته في: "الجمع بين رجال الصحيحين"(2/ 621) و"تهذيب التهذيب"(12/ 127 - 128) و"التقريب"(2/ 430) و"الكاشف"(3/ 302) و"تاريخ الثقات"(ص 499)، و"الثقات"(5/ 1).

(3)

في (أ): "وهو كثر".

(4)

في (أ): "وتسعين".

(5)

سورة النساء: الآية 20.

ص: 106

ملءُ مسكِ ثورٍ ذهبًا، وقيلَ: سبعونَ ألفِ مِثقالٍ، وقيلَ: مائةُ رطلٍ ذهبًا. وقدْ كانَ أرادَ عمرُ قصْرَ أكثرِهِ على قدْرِ مهورِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وردَّ الزيادةَ إلى بيتِ المالِ وتكلَّمَ بهِ في الخطبةِ فردتْ عليهِ امرأةٌ محتجةً بقولِه تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (1) فرجَعَ وقالَ: كلُّكُمْ أفقهُ منْ عمرَ

(1)

.

‌ينبغي تقديم شيء للزوجة قبل الدخول

3/ 970 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمّا تَزَوّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطِهَا شَيْئًا"، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، قَالَ:"فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

وَالنَّسَائِيُّ

(3)

، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(4)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ [عَنْهُمَا]

(5)

قَالَ: لما تزوَّجَ عليٌّ فاطمةَ رضي الله عنهما) هي

(1)

قال الألباني في "الإرواء"(6/ 347 - 348): "تنبيه: أما ما شاع على الألسنة من اعتراض المرأة على عمر وقولها: "نهيت الناس آنفًا أن يغالوا في صداق النساء، واللَّهُ تعالى يقول في كتابه:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]؟! فقال عمر رضي الله عنه: كل أحد أفقه من عمر، مرتين أو ثلاثًا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل من ماله ما بدا له". فهو ضعيف منكر يرويه مجالد عن الشعبي عن عمر. أخرجه البيهقي (7/ 233) وقال: هذا منقطع.

قلت: ومع انقطاعه ضعيف من أجل مجالد وهو ابن سعيد، ليس بالقوي، ثم هو منكر المتن فإن الآية لا تنافي توجيه عمر إلى ترك المغالاة في مهور النساء

".

ثم وجدت له طريقًا أُخرى عند عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 180 رقم 10420) عن قيس بن الربيع عن أَبي حصين عن أَبي عبد الرحمن السلمي قال: فذكره نحوه مختصرًا وزاد في الآية فقال: "قنطارًا من ذهب" وقال وكذلك هي في قراءة عبد اللَّهِ.

قلت: وإسناده ضعيف أيضًا، فيه علتان:

الأولى: الانقطاع، فإن أبا عبد الرحمن السلمي واسمه عبد اللهِ بن حبيب بن ربيعة لم يسمع من عمر كما قال ابن معين.

الأخرى: سوء حفظ قيس بن الربيع" اهـ.

(2)

في "السنن" رقم (2125).

(3)

في "السنن" رقم (3375).

(4)

لم أعثر عليه في "المستدرك". قلت: حديث ابن عباس صحيح.

(5)

في (أ): "عنه".

ص: 107

سيِّدةُ نساءِ العالمينَ تزوَّجَها عليٌّ رضي الله عنه في السَّنَةِ الثانيةِ منَ الهجرةِ في شهرِ رمضانَ، وبنَى عليها في ذي الحجَّةِ، وَلَدَتْ له الحسنَ والحسينَ والمحسنَ وزينبَ ورقيةَ وأمَّ كلثومٍ، وماتتْ بالمدينةِ بعدَ موتهِ صلى الله عليه وسلم بثلاثةِ أشهرٍ، وقدْ بسطْنا ترجمتَها في الروضةِ النديةِ

(1)

. (قالَ لهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أعطِها شيئًا، قالَ: ما عندي شيءٌ، قالَ: فأينَ درعُكَ الحُطَميَّةُ) بضمِّ الحاءِ المهملةِ وفتحِ الطاءِ المهملةِ نسبةً إلى حطمةَ بن محاربَ بطنٍ منْ عبدِ القيس كانُوا يعملونَ الدروعَ، (رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ وصصَّحَهُ الحاكمُ).

فيهِ دليلٌ على أنهُ ينبغي تقديمُ شيءٍ للزوجةِ قبلَ الدخولِ بها جَبْرًا لخاطرِها، وهوَ المعروفُ عندَ الناسِ كافةً. ولم يذكرْ في الروايةِ هلْ أعطاهَا درعَه المذكورةَ أو غيرَها. وقدْ وردتْ رواياتٌ في تعيينِ ما أعطَى عليٌّ فاطمةَ رضي الله عنهما إلَّا أنَّها غيرُ مسندةٍ.

‌الصداق والحباء والعدة

4/ 971 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ، أَوْ حِبَاءٍ، أَو عِدَةٍ، قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ الرَّجُلُ عَلَيهِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتُهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(2)

وَالأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ

(3)

. [ضعيف]

(وعنِ عَمْرِو بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّما امرأةٍ نَكَحَتْ على صداقٍ أو حِبَاءٍ) بكسرِ الحاءِ المهملةِ فموحدةٍ فهمزةٍ ممدودٍ، العطيةُ للغيرِ أو للزوجةِ زائدًا على مهرهَا (لو عِدَةٍ) بكسر العينِ المهملةِ ما وعدَ بهِ الزوجُ

(1)

(ص 157 - 167).

(2)

في "المسند"(2/ 182).

(3)

أَبو داود رقم (2129)، والنسائي (6/ 120)، وابن ماجه رقم (1955).

قلت: وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" رقم (10739)، والبيهقي (7/ 248).

وفي إسناده ابن جريج وهو مدلس وقد عنعنه.

وقد تابعه مدلِّس آخر وهو الحجاج بن أرطاة. فقال: "عن عمرو بن شعيب به ولفظه: "ما استُحِل به فرجُ المرأةِ من مَهرٍ أو عِدة، فهو لها، وما أكرمَ به أبوها أو أخوها أو وليها بعد عقدة النكاح، فهو له، وأحق ما أكرم الرجل به ابنته أو أخته". أخرجه البيهقي (7/ 248) فالحديث ضعيف، واللَّهُ أعلم.

ص: 108

وإنْ لم يحضرْ (قبلَ عصمةِ النكاحِ فهوَ لها، وما كانَ بعدَ عصمةِ النكاحِ فهوَ لمن أُعطيَهُ وأحقُّ ما أُكْرِمَ الرجل عليهِ ابنتُه أو أختهُ. رواهُ أحمدُ والأربعةُ إلَّا الترمذيَّ).

الحديثُ دليلٌ على أن ما سمَّاهُ الزوجُ قبلَ العقدِ فهوَ للزوجةِ وإنْ كانَ تسميتُه لغيرِها منْ أبٍ أو أخٍ، وكذلكَ ما كانَ عندَ العقدِ. وفي المسألةِ خلافٌ فذهبَ إلى ما أفادهُ الحديثُ الهادي ومالكٌ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ والثَّوْري، وذهبَ أَبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أن الشرطَ لازمٌ لمنْ ذكرَ منْ أبٍ أو أخٍ والنكاحُ صحيحٌ، وذهبَ الشافعيُّ إلى أن تسميةَ المهرِ تكونُ فاسدةً ولها صداقُ المِثْلِ، وذهبَ مالكٌ إلى أنهُ إنْ كانَ الشرطُ عندَ العقدِ فهوَ لابنتهِ وإنْ كانَ بعدَ النكاحِ فهوَ لهُ. قالَ في "نهايةِ المجتهدِ"

(1)

: وسببُ اختلافِهم تشبيهُ النكاحِ في ذلكَ بالبيعِ، فمنْ شَبَّهَهُ بالوكيلِ ببيعِ السلعةِ وشرطَ لنفسهِ حِباءً قالَ: لا يجوزُ النكاحُ كما لا يجوزُ البيعِ، ومن جعلَ النكاحَ في ذلكَ مخالفًا للبيعِ قالَ: يجوزُ. وأما تفريقُ مالكٍ فلأنهُ اتهمهُ إذا كانَ الشرطُ في عقدِ النكاحِ أنْ يكونَ ذلكَ اشترطَ لنفسهِ [نقصانًا]

(2)

عنْ صداقِ مِثْلِهَا، ولمْ يتهِمْهُ إذا كانَ بعدَ انعقادِ النكاحِ والاتفاقِ على الصداقِ، انتهَى.

وإنَّما علَّلَ ذلكَ بما سمعتَ ولم يذكرِ الحديثَ لأنَّ فيهِ مقالًا، هذَا وأمَّا ما يُعطِي الزوجُ في العُرْفِ مما هوَ للإتلافِ كالطعامِ ونحوهِ فإنْ شُرِطَ في العقدِ كانَ مَهْرًا وما سُلِّمَ قبلَ العقدِ يكون إباحةً فيصحُّ الرجوعُ فيهِ معَ بقائهِ إذا كانَ في العادةِ يُسَلَّمُ للتلفِ، وإنْ كانَ يُسَلَّمُ للبقاءِ رجعَ في قيمتهِ بعدَ تلفهِ إلَّا أن [يتمنَّعُوا]

(3)

منْ زواجته رجعَ بقيمتِه في الطرفينِ جميعًا، وإذا ماتتِ الزوجةُ أو امتنعَ هوَ من التزوج كانَ لهُ الرجوعُ فيما بقي وفيما سَلَّمَ للبقاءِ وفيما تلفَ قبلَ الوقتِ الذي يُعْتَادُ التلفُ فيهِ لا فيما عدا ذلكَ، و [ما]

(4)

سلَّمَهُ بعدَ العقدِ هبةً أو هديةً على حسبِ الحالِ أو رشوةَ إنْ لم تُسَلَّمْ إلَّا بهِ، وإنْ كانَ الطعامُ الذي يُفْعَلُ في وليمةِ العرسِ مما ساقَه الزوجُ إلى ولي الزوجةِ وكانَ مشروطًا معَ العقدِ لصغيرةٍ وفعلَ ذلكَ جازَ التناولُ منهُ لمنْ يعتادُ لمثلِهِ كالقرابةِ وغيرِهم؛ لأنَّ الزوجَ

(1)

لابن رشد الحفيد (3/ 52 - 53) بتحقيقنا.

(2)

في (أ): "نقصانها".

(3)

في (ب): "يمتنعوا".

(4)

زيادة من (ب).

ص: 109

إنما شرطَه وسلَّمه ليفعلَ ذلكَ لا ليبقى مُلْكًا للزوجة، والعرفُ معتبرٌ في هذا.

‌مهر من لم يفرض لها صداق

5/ 972 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَها صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتى مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُود: لَهَا مِثْلُ صدَاقِ نسائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانِ الأَشْجَعِيُّ. فَقَالَ: قَضى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ بنت وَاشِقٍ - امْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

وَالأَرْبَعَةُ

(2)

، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(3)

، وَحَسّنَهُ جَمَاعَةٌ

(4)

. [صحيح]

‌ترجمة علقمة النخعي

(وعنْ علقمةَ)

(5)

أي ابن قيسٍ أَبي شِبْلِ ابن مالكٍ منْ بني بكرِ بن النخعِ النخعي، رَوَى عنْ عمرَ وابنِ مسعودٍ، وهوَ تابعيٌّ جليلٌ اشتهرَ بحديثِ ابن مسعودٍ وصحبتِه، وهوَ عمُّ الأسودِ النَّخَعيِّ، ماتَ سنةَ إحدى وستينَ، (عن ابن مسعودِ أنه سُئِلَ عنْ رجلٍ تزوَّجَ امرأةً ولم يفرضْ لها صداقًا ولم يدخلْ بها حتَّى ماتَ فقالَ ابنُ مسعودٍ: لها مِثْلُ صداقِ نسائِها لا وَكْسَ) بفتحِ الواو وسكونِ الكاف وسينٍ مهملةٍ

(1)

في "المسند"(4/ 279، 280).

(2)

أَبو داود رقم (2116)، والنسائي (6/ 121، 122)، والترمذي رقم (1145)، وابن ماجه رقم (1891).

قلت: وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" رقم (718)، والحاكم (2/ 180)، والبيهقي (7/ 245)، وابن حبان رقم (1263)، وسعيد بن منصور في "السنن" رقم (929)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (10898).

(3)

في "السنن"(3/ 450).

(4)

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الشافعي رحمه الله: لم أحفظ بعد من وجه يثبت مثله. قال الحاكم: سمعت شيخنا أبا عبد اللَّهِ يقول: لو حضرت الشافعي لقمت على رؤوس الناس وقلت: قد صح الحديث فقل به".

وخلاصة القول: أن الحديث صحيح، واللَّهُ أعلم.

(5)

انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب"(7/ 244 رقم 485)، و"تقريب التهذيب"(2/ 31).

ص: 110

هوَ النقصُ، أي لا ينقصُ عن مهرِ نسائها (ولا شططَ) بفتحِ الشينِ المعجمةِ وبالطاءِ المهملةِ وهوَ الجوْرُ، أي لا يجارُ على الزوجِ بزيادةِ مهرِها على نسائِها (وعليها العِدَّةُ ولها الميراثُ. فقالَ معقل) بفتحِ الميم وسكون العينِ المهملةِ وكسرِ القافِ (ابنُ سِنانٍ)

(1)

بكسرِ السينِ المهملةِ فنونٍ فأَلف [فنونٍ]

(2)

(الأشجعيُّ) بفتحِ الهمزةِ وشينٍ معجمةٍ ساكنةٍ، ومعقلُ هو أَبو محمدٍ شهدَ فتحَ مكةَ ونزلَ الكوفةَ وحديثُه في أهلِ الكوفةِ وقُتِلَ يومَ الحرَّةَ صبْرًا (فقالَ: قَضَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ) بفتحِ الباءِ الموحدةِ وسكون الراءِ وفتحِ الواوِ فعينٍ مهملةِ (بنتِ واشقٍ)

(3)

بواوٍ مفتوحةٍ فألفٍ فشينٍ معجمةٍ فقافٍ (امرأة منَّا) بكسرِ الميمِ فنونٍ مشددةٍ [فألفٍ]

(4)

(مثلَ ما قضيتَ، ففرحَ [بها]

(5)

ابنُ مسعودٍ. رواهُ أحمدُ والأربعة وصحَّحَهُ الترمذيُّ وجماعةٌ) منْهم ابنُ مهدي وابنُ حزمٍ وقالَ: لا مغمزَ فيهِ لصحةِ إسنادِه، ومثلُه قال البيهقي في "الخلافياتِ". وقال الشافعي: لا أحفظُه منْ وجْهٍ يثبتُ مثلُه، وقالَ: لو ثبتَ حديثُ بَرْوَعَ لقلتُ بهِ، وقالَ في "الأمِّ"

(6)

: إنْ كانَ يثبتُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فهوَ أَوْلَى الأمورِ ولا حجةَ في أحدٍ دونَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وإنْ كبرَ، ولا شيءَ في قولِه إلا طاعةُ اللَّهِ بالتسليمِ لهُ، ولمْ أحفظْهُ عنهُ منْ وجهٍ يثبتُ مثلُه، مرةً يقالُ عنْ معقلِ بن سنانٍ، ومرةً عنْ معقلِ بن يسارٍ، ومرةً عنْ بعضِ أشجعَ لا يُسَمِّي.

هذا تضعيفُ الشافعيِّ بالاضطرابِ، وضعَّفَهُ الواقديُّ بأنهُ حديثٌ وردَ إلى المدينةِ منْ أهلِ الكوفةِ فما عرفَه علماءُ المدينةِ، وقدْ رُوِيَ عنْ عليٍّ رضي الله عنه أنهُ ردَّه بأنَّ معقلَ بنَ سنانٍ أعرابيٌّ بَوَّالٌ على عَقِبَيْهِ. وأُجِيْبَ بأنَّ الاضطرابَ غيرُ قادحٍ؛ لأنهُ متردِّدٌ بينَ صحابيٍّ وصحابيٍّ، وهذا لا يطعنُ بهِ في الروايةِ، وعنْ قولِه: إنهُ يُرْوَى عنْ بعضِ أشجعَ فلا يضرُّ أيضًا؛ لأنهُ قد فَسَّرَ ذلكَ البعضُ بمعقلٍ فقدْ تبينَ أن ذلكَ البعضَ صحابيٌّ، وأما عدمُ معرفةِ علماءِ المدينةِ لهُ فلا يُقْدَحُ بها معَ

(1)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (8154)، و"أسد الغابة" رقم (5033)، و"الاستيعاب" رقم (2489)، و"التاريخ الكبير"(7/ 391).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (10931)، و"الاستيعاب" رقم (3300).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

(7/ 181). وانظر: "التلخيص الحبير"(3/ 191).

ص: 111

عدالةِ الراوي، وأما الروايةُ عنْ عليٍّ رضي الله عنه فقالَ في "البدرِ المنيرِ": لم يصحَّ عنهُ. وقدْ رَوَى الحاكمُ

(1)

منْ حديثِ حرملةَ بن يَحْيَى أنهُ قالَ: سمعتُ الشافعيَّ يقولُ: إنْ صحَّ حديثُ بَرْوَعَ بنتِ واشقٍ [عملت]

(2)

بهِ، قالَ الحاكمُ: قلتُ صحَّ فقلْ بهِ. وذكرَ الدارقطنيُّ الاختلافَ فيهِ في "العلل" ثمَّ قالَ: وأنسبُها إسنادًا حديثُ قتادةَ إلا أنهُ لم يحفظْ اسمَ الصحابيِّ.

قلت: [لا يضرُّ]

(3)

جهالةُ اسمِه على رأي المحدثينَ. وما قالَ المصنفُ منْ أن لحديثِ بَرْوَعَ شاهدًا منْ حديثِ عقبةَ بن عامرٍ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زوَّجَ امرأةً رجلًا فدخلَ بها ولمْ يفرضْ لها صداقًا فحضرتْه الوفاةُ فقالَ: أشهدُكم أن سهمي بخيبرَ لها، أخرجَه أَبو داودَ

(4)

والحاكمُ

(5)

، فلا يخْفى أنْ لا شهادةَ له على ذلكَ؛ لأنَّ هذا في امرأةٍ دخلَ بها زوجُها، نعمْ فيهِ شاهدٌ أنهُ يصحُّ النكاحُ بغيرِ تسميةٍ. والحديثُ دليلٌ على أن المرأةَ تستحقُّ كمالَ المهرِ بالموتِ وإنْ لم يسمِّ لها [الزوجُ]

(6)

ولا دخلَ بها، وتستحقُّ مهر مِثْلِها، وفي المسألةِ قولانِ: الأولُ: العملُ بالحديثِ وأنَّها تستحقُّ المهرَ كما ذكرَ، وقولُ ابن مسعودٍ اجتهادٌ موافقٌ للدليلِ وقولُ أَبي حنيفةَ وأحمدَ وآخرينَ، والدليلُ الحديثُ وما طُعِنَ بهِ فيهِ قدْ سمعتَ دَفْعَهُ.

والقول الثاني: لا تستحقُّ إلا الميراثَ، لعليٍّ وابنِ عباسٍ [وابن عمر]

(7)

والهادي ومالكٍ وأحدُ قولَي الشافعيّ، قالُوا: لأنَّ الصداقَ عوضٌ فإذا لم يستوفِ الزوجُ المعوضَ عنهُ لم يلزمْ، قياسًا على ثمنِ المبيعِ، قالُوا: والحديثُ فيهِ تلكَ المطاعنُ، قلْنا: تلك المطاعنُ قدْ دُفِعَتْ فنهضَ الحديثُ للاستدلالِ فهوَ أَوْلَى منَ القياسِ.

(1)

في "المستدرك"(2/ 180).

(2)

في (ب): "قلتُ".

(3)

في (ب): "لا تضر".

(4)

في "السنن" رقم (2117).

(5)

في "المستدرك"(2/ 181 - 182) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وصحَّحه الألباني في "صحيح أَبي داود".

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (ب).

ص: 112

‌يصح أن يكون المهر من غير الدراهم والدنانير

6/ 973 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْطَى في صَدَاقِ امْرَأَةٍ سَوِيقًا، أَوْ تَمْرًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ. [ضعيف]

(وعنْ جابرِ بن عبدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: منْ أعطَى في صداقِ امرأةٍ سويْقًا) هوَ دقيقُ القمحِ المقلوِّ أو الشعيرِ أو الذرةِ أو [غيرهما]

(2)

(أوْ تمرًا فقدِ استحل. أخرجَه أَبو داودَ وأشارَ إلى ترجيحِ وقْفهِ).

وقالَ المصنفُ في "التلخيص"

(3)

: فيهِ موسى بنُ مسلمٍ بن رومانَ وهوَ ضعيفٌ ورُوِيَ موقوفًا وهوَ أقوى، انتَهى.

فكانَ عليهِ أنْ يشيرَ إلى أن فيهِ ضعفًا على عادتهِ، وأخرجَه الشافعيُّ بلاغًا. والحديثُ دليلٌ على أنهُ يصحُّ [أن يكون]

(4)

المهرُ منْ غيرِ الدراهمِ والدنانيرِ وأنهُ يجزي مطلقُ السَّويقِ والتمرِ وظاهرُه وإنْ قلَّ، وتقدَّمتْ أقاويلُ العلماءِ في قَدْرِ أقلِّ المهرِ في شرحِ حديثِ الواهبةِ نفسِها

(5)

.

7/ 974 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبيعَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ عَلَى نَعْلَيْنِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(6)

، وَخُولِفَ في ذَلِكَ. [ضعيف]

(1)

في "السنن" رقم (2110) قال أَبو داود: رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن صالح بن رومان، عن أَبي الزبير، عن جابر - موقوفًا -.

(2)

في (ب): "وغيرها".

(3)

(3/ 190). قلت: وفي سنده: إسحاق بن جبريل البغدادي، قال الذهبي: لا يعرف.

وضعفه الأزدي. وخلاصة القول: أن حديث جابر ضعيف.

(4)

في (ب): "كون".

(5)

رقم (9/ 920) من كتابنا هذا.

(6)

في "السنن"(3/ 420 رقم 1113).

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 445)، وابن ماجه (1/ 608 رقم 1888)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 138).

قال أَبو حاتم الرازي في "العلل"(1/ 424 رقم 1276): "سألت أَبي عن عاصم بن عبيد الله؟ فقال: منكر الحديث. يقال: إنه ليس له حديث يعتمد عليه. قلت: ما أنكروا =

ص: 113

‌ترجمة عبد الله بن عامر

(وعنْ عبدِ اللَّهِ بن عامرِ بن ربيعةَ)

(1)

هوَ أَبو محمدٍ عبدُ اللَّهِ بنُ عامرِ بن ربيعةَ العنزيِّ بفتحِ العينِ المهملةِ وسكونِ النونِ وبالزاي، وفي نَسَبِهِ خلافٌ كثيرٌ، قُبِضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهوَ في أربعِ سنينَ أو خمسٍ. ماتَ عبدُ اللَّهِ المذكورُ سنةَ خمسٍ وثمانينَ، وقيلَ سنةَ تسعينَ، (عنْ أبيهِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أجازَ نكاحَ امرأةٍ على نعلينِ. أخرجَهُ الترمذيُّ وصحَّحَهُ وخُولِفَ) أي الترمذيُّ (في ذلكَ) أي في التصحيحِ.

لفظُ الحديثِ أنَّ امرأةً منْ بني فزارةَ تزوَّجتْ على نعلينِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رضيتِ منْ نفسكِ ومالكِ بنعلينِ"؟ قالتْ: نعمْ، فأجازهُ. والحديثُ دليلٌ على صحةِ جَعْلِ المهرِ أيَّ شيءٍ له ثمنٌ. وقد سلفَ أن [كلما]

(2)

صحَّ جعلُه ثمنًا صحَّ جعلُه مهرًا، وفيهِ مأخذٌ لِمَا وَرَدَ في غيرِه منْ أنَّها لا تصرَّف المرأةُ في مالِها إلا برأْي زوجِها.

‌تقليل الصداق

8/ 975 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: زَوّجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ

(3)

، وَهُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ في أَوَائِلِ النِّكَاحِ. [صحيح]

(وعنْ سهلِ بن سعدٍ رضي الله عنه قالَ: زوَّج النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا امرأةً بخاتَمٍ منْ حديدٍ. أخرجَه الحاكمُ). قد تَقَدَّمَ حديثُ سَهْلٍ في الواهبةِ نفسِها بطولِه وفيهِ أنهُ صلى الله عليه وسلم أمرَ مَنْ خَطَبَها أنْ يلتمسَ ولو خاتَمًا منْ حديدٍ فلمْ يجدْهُ فزوَّجَهُ إيَّاها على تعليمِها شيئًا منَ القرآنِ؛ فإنْ كانَ هذا هوَ ذلكَ الحديثُ فلم يتمَّ جعلُ المهرِ خاتمًا منْ

= عليه؟ قال: روى عن عبد اللهِ بن عامر بن ربيعةِ عن أبيه أن رجلًا تزوج امرأة على نعلين، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم. وهو منكر".

وخلاصة القول: أن الحديث ضعيف.

(1)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (4795)، و"أسد الغابة" رقم (3031)، و"الاستيعاب" رقم (1653)، والثقات (3/ 219) و"الكاشف"(2/ 99).

(2)

في (ب): "كل مَّا".

(3)

في "المستدرك"(2/ 178) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقد تقدم تخريجه رقم (9/ 925).

ص: 114

حديدٍ كما عرفتَ، وإنْ أُرِيدَ غيرُه فيحتملُ وهوَ بعيدٌ لقولِ المصنفِ (وهوَ طرفٌ منَ الحديثِ الطويلِ المتقدِّمِ في أوائلِ النكاحِ) وعلى تقديرِ أنهُ أريدَ ذلكَ الحديثُ فتأويلُه أنهُ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ في جَعْلِ الصداقِ خاتمًا منْ حَديدٍ وإنْ لم يتمَّ العقدُ عليهِ.

9/ 976 - وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.

أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا

(1)

، وفي سَنَدِهِ مَقَالٌ. [ضعيف]

(وعنْ عليٍّ رضي الله عنه قالَ: لا يكونُ المهرُ أقلَّ منْ عشرةِ دراهمَ، أخرجُه الدارقطنيُّ موقوفًا وفي سندهِ مقالٌ)، أي موقوفٌ على عليٍّ رضي الله عنه. وقدْ رُويَ منْ حديثِ جابرٍ مرفوعًا ولم يصحَّ

(2)

. والحديثُ معارضٌ بالأحاديث المتقدمةِ المرفوعةِ الدالةِ على صحةِ أيِّ شيءٍ صح جعلُه ثمنًا صحَّ جعله مهرًا كما عرفتَ، والمقالُ الذي في الحديثِ هوَ أن فيهِ مبشرَ بنَ عبيدٍ، قالَ أحمدُ: كانَ يضعُ الحديثَ.

‌استحباب تخفيف المهر

10/ 977 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرَهُ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(3)

وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(4)

. [صحيح]

(1)

في "السنن"(3/ 245 رقم 13).

قال الآبادي في "التعليق المغني": "قال ابن الجوزي في "التحقيق": قال ابن حبان: داود الأودي ضعيف، كان يقول بالرجعة. ثم إن الشعبي لم يسمع من علي، قال الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 199): وما أخرجه الدارقطني في الحدود عن الضحاك بطريقين فهو أيضًا ضعيف لأن في الطريق الأولى: جويبر وهو ضعيف. وفي الثانية: محمد بن مروان أَبو جعفر، قال الذهبي: لا يكاد يعرف" اهـ.

(2)

أخرجه الدارقطني (3/ 244 - 245 رقم 11) عن جابر، وقال: مبشر بن عبيد متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها. وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 240)، وفي "معرفة السنن والآثار" (10/ 218 رقم 14272) وقال: وهذا منكر حجاج لا يحتج به، ولم يأت به عن الحجاج غير مبشر بن عبيد، وقد أجمع أهل العلم على ترك حديثه

" وخلاصة القول: أن الحديث موضوع.

(3)

في "السنن" رقم (2117).

(4)

في "المستدرك"(2/ 182) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. =

ص: 115

(وعنْ عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: خيرُ الصَّداقِ أيسرُه)، أي أسهلُه على الرجل (أخرجَه أَبو داودَ وصحَّحَهُ الحاكمُ) فيهِ دلالةٌ على استحبابِ تخفيفِ المهرِ وأنَّ غيرَ الأيسرِ على خلافِ ذلكَ وإنْ كانَ جائزًا كما أشارتْ إليهِ الآيةُ الكريمةُ في قولِه:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}

(1)

. وتقدَّمَ أن عمرَ نَهَى عن المغالاةِ في المهورِ، فقالتِ امرأةٌ: ليسَ ذلكَ إليكَ يا عمرُ، إنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ:"وآتيتمْ إحداهنَّ قنطارًا منْ ذهب"، قالَ عمرُ: امرأةٌ خاصمتْ عمرَ فَخَصَمَتْهُ

(2)

، أخرَجه عبدُ الرزاقِ

(3)

. وقولُه في الروايةِ: منْ ذهبٍ، هي قراءةُ ابن مسعودٍ، ولهُ طُرُقٌ بألفاظٍ مختلفةٍ، ويحتملُ أن الخيريةَ بركةُ المرأةِ، ففي الحديثِ:"أبركُهنَّ أيسرُهنَّ مُؤْنَةً"

(4)

.

= قلت: بل هو على شرط مسلم، فإن محمد بن سلمة، وخالد بن أَبي يزيد لم يخرج لهما البخاري في صحيحه.

والخلاصة: أن الحديث صحيح، واللَّهِ أعلم. انظر:"الإرواء" رقم (1924).

(1)

سورة النساء: الآية 20.

(2)

فهذا ضعيف منكر، تقدم الكلام عليه في آخر شرح الحديث (2/ 969) من كتابنا هذا.

(3)

في "المصنف"(6/ 180 رقم 10420) بإسناد ضعيف.

(4)

• أخرج أحمد (6/ 82)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق"(1/ 305، 306)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 256 - 257) عن عائشة مرفوعًا بلفظ:"إن أعظمَ النكاحِ بركةً أيسره مؤنة".

• وأخرج أحمد (6/ 145)، والخطيب في "الموضح"(1/ 304، 305)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 186)، وابن أَبي شيبة في "المصنف"(4/ 189)، والقضاعي في "المسند"(1/ 105 رقم 123)، والحاكم (2/ 178)، والبيهقي (7/ 235)، والبزار (2/ 158 رقم 1417 - كشف) وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 255) وقال: رواه أحمد والبزار وفيه: ابن سخبرة يقال اسمه: عيسى بن ميمون وهو متروك. وقال الأعظمي في تحقيق "الكشف": ليس ابن سخبرة في إسناد البزار.

عن عائشة مرفوعًا بلفظ: "إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة"، وعند بعضهم:"صداقًا".

• وأخرج أحمد (6/ 77)، وابن حبان (رقم 1256 - موارد)، والبيهقي (7/ 235)، والحاكم (2/ 181). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 281) وقال: رواه الطبراني في "الصغير""والأوسط" وفي إسناده أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وقد وثق.

وعن عائشة مرفوعًا بلفظ: "إن من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها" قال عروة: وأنا أقول من عندي: "ومن شؤمها تعسير أمرها وكثرة صداقها".

وخلاصة القول: أن حديث عائشة ضعيف بكل ألفاظه، انظر:"الإرواء" رقم (1928).

ص: 116

‌الدليل على شرعية المتعة للمطلَّقة قبل الدخول

11/ 978 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ الْجَوْنِ تَعَوّذَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ - تَعْني لَمَّا تَزَوّجَهَا - فَقَالَ: "لَقَدْ عُذْتِ بمُعَاذ" فَطَلَّقَهَا، وَأَمَرَ أُسَامَةَ فَمَتَّعَهَا بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ

(1)

، وَفي إِسْنَادِهِ رَاوٍ مَتْرُوكٌ

(2)

. [منكر]

- وَأَصْلُ الْقِصّةِ في الصَّحِيحِ

(3)

مِنْ حَدِيثِ أَبي أَسِيدِ السَّاعِدِيّ. [صحيح]

(وعنْ عائشةِ رضي الله عنها أن عَمْرَةَ بنتَ الجَوْنِ) بفتحِ الجيمِ وسكونِ الواوِ فنونٍ (تعوَّذتْ منْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حينَ أُدْخِلَتْ عليهِ تعني لما تزوَّجَها فقالَ: لقدْ عُذْتِ بِمُعَاذٍ) بفتحِ الميمِ ما يستعاذُ بهِ (فطلَّقها وأمرَ أسامةَ فمتعها بثلاثةِ أثوابٍ. أخرجَهُ ابنُ ماجَهُ وفي إسنادهِ [رجل]

(4)

متروكٌ. وأصلُ القصةِ في الصحيحِ منْ حديثِ أَبي أسيدٍ الساعدي)، وقدْ سمَّاها في الحديثِ عمرةَ ووقعَ معَ ذلكَ اختلافٌ في اسمِها ونسبِها كثيرٌ، لكنهُ لا يتعلَّقُ بهِ حكمٌ شرعيٌّ، واختُلِفَ في سببِ تعوُّذِها: ففي روايةٍ أخرجَها ابنُ سعدٍ

(5)

أنهُ صلى الله عليه وسلم لما دخلَ عليها وكانتْ منْ أجملِ النساءِ فداخلَ نساءَه صلى الله عليه وسلم غيرةً، فقيلَ لها: إنما تحظَى المرأةُ عندَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ تقولَ إذا دخلتْ عليهِ: أعوذُ باللَّهِ منكَ، فاستعيذي منه. وفي روايةٍ أخرجَها ابنُ سعدٍ

(6)

أيضًا بإسنادِ البخاريِّ أن عائشةَ وحفصةَ دَخَلَتَا عليها أولَ ما قدمتْ مشَّطَتَاها

(1)

في "السنن" رقم (2037).

(2)

قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 127 رقم 718/ 2037): "في إسناده عبيد بن القاسم، قال ابن معين فيه: كان كذابًا خبيثًا. وقال صالح بن محمد: كذاب، كان يضع الحديث، وقال ابن حبان: ممن يروي الموضوعات عن الثقات.

حدَّث عن هشام بن عروة نسخة موضوعة. وضعَّفه البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وغيره" اهـ.

قلت: وانظر "ميزان الاعتدال"(3/ 21).

وخلاصة القول: أن الحديث منكر.

(3)

في "صحيح البخاري"(9/ 356 رقم 5254، 5255، 5256، 5257).

(4)

في (ب): "راوٍ".

(5)

في "الطبقات"(8/ 145): واسمها: أسماء بنت النعمان الجونية.

(6)

في "الطبقات"(8/ 146) واسمها: أسماء بنت النعمان الجونية.

ص: 117

وخضَّبَتَاهَا وقالتْ لها إحداهُما: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ منَ المرأةِ إذا دخلَ عليها أنْ تقولَ أعوذُ باللَّهِ منكَ، وقيلَ في سببهِ غيرُ ذلكَ. والحديثُ دليلٌ على شرعيةِ المتعةِ للمطلقةِ قبلَ الدخول، واتفقَ [الأكثرُ]

(1)

على وجوبِها في حقِّ مَنْ لم يسمِّ لها صَدَاقًا إلَّا عن الليثِ ومالكٍ. وقدْ قالَ تعالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}

(2)

الآية، وظاهرُ الأمرِ الوجوبُ. وأخرجَ البيهقيُّ

(3)

في سُنَنِهِ عن ابن عباسٍ قالَ: المسُّ النكاحُ والفريضةُ الصداقُ، ومتِّعوهنَّ قالَ: هوَ على الزوج يتزوجُ المرأةَ ولم يسمِّ لها صَدَاقًا ثمَّ يطلِّقُها قبل أنْ يدخلَ بها فأمَرَهُ اللَّهُ تعالى أَن يمتِّعَها على قدرِ عُسرهِ ويُسرِه - الحديثَ. وقدْ أخرجَ عنهُ ابنُ جريرٍ وابن المنذر، وابنُ أَبي حاتمٍ

(4)

: "متعةُ الطلاقِ أعلاها الخادمُ، ودونَ ذلكَ الورِقُ، ودونَ ذلكَ الكسوةُ". نعمْ هذهِ المرأةُ التي متَّعَها صلى الله عليه وسلم يُحْتَمَلُ أنهُ لم يسمِّ لها صَدَاقًا فمتَّعها كما قضتْ بهِ الآيةُ [الكريمة]

(5)

، ويحتملُ أنهُ كانَ سمَّى لها فمتَّعها إحسانًا منهُ وفضلًا، وأما تمتيعُ مَنْ لم يسمِّ لها الزوجُ مهرًا ودخلَ بها ثم فارقَها فقدِ اختُلِفَ في ذلكَ؛ فذهبَ عليٌّ وعمرُ والشافعيُّ إلى وجوبها أيضًا عملًا بقولِهِ تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}

(6)

، وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ إلى أنهُ لا يجبُ إلا مهرُ المِثْلِ لا غيرُ. قالُوا: وعمومُ الآيةِ مخصوصٌ بِمَنْ لم يكنْ قدْ دخلَ بها، والذي خصَّه الآيةُ الأخرى التي أوجبَ فيها المتعةَ؛ لأنهُ شرطَ فيها عدمَ المسِّ وهذا قدْ مسَّ، وأما قولُه تعالَى:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ}

(7)

فإنهُ يَحْتَمِلُ نفقةَ العدَّةِ ولا دليلَ معَ الاحتمالِ هذا.

وقد سبقتْ إشارةٌ إلى أن الليثَ لا يقولُ بوجوبِ المتعةِ مطلقًا، واستُدِلَّ بأنَّها لو كانتْ واجبةً لكانتْ مقدَّرةً، ودُفِعَ بأنَّ نفقةَ القريبِ واجبةٌ ولا تقديرَ لها.

* * *

(1)

في (أ): "الأكابر".

(2)

سورة البقرة: 236.

(3)

في "السنن الكبرى"(7/ 244).

(4)

عزاه إليهم السيوطي في "الدُّرُّ المنثور"(1/ 697).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

سورة البقرة: الآية 241.

(7)

سورة الأحزاب: الآية 28.

ص: 118

[الباب الخامس] باب الوليمة

الوليمةُ مشتقةٌ منَ الوَلْمِ بفتحِ الواوِ وسكونِ اللامِ وهوَ الجمعُ؛ لأنَّ الزوجينِ يجتمعانِ، قالهُ الأزهريُّ

(1)

وغيرُه. والفعلُ مِنْها أَوْلَمَ، وتقعُ على كلِّ طعام يُتَّخَذُ لسرورٍ حادِثٍ، ووليمةُ العُرسٍ ما يُتَّخَذُ عندَ الدخولِ وما يتخذُ عندَ الإملاكِ

(2)

.

‌حكم وليمة العرس

1/ 979 - عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرّحْمنِ بن عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ: "مَا هذَا؟ "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي تَزَوّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ:"فَبَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. [صحيح]

(عنْ أنسِ بن مالك رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى على عبدِ الرحمنَ بن عوفٍ أثرَ صفرةٍ فقالَ: ما هذا؟ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ إني تزوَّجْتُ امرأةَ على وزنِ نواةٍ منْ ذهبٍ، فقال: باركَ اللَّهُ لكَ أَوْلِمْ ولوْ بشاةٍ. متفقٌ عليهِ، واللفظُ لمسلمٍ).

جاءَ في الرواياتِ تعيين الصُّفرةِ بإنهُ رَدْغٌ منْ زعفرانَ، وهوَ بفتحِ الراء ودالٍ مهملةٍ وغينٍ معجمةٍ، أثرُ الزعفرانِ.

(1)

في "تهذيب اللغة"(15/ 406).

(2)

في "النهاية": المِلاك والإملاك التزويج وعقد النكاح. وقال الجوهري: لا يقال: ملاك.

(3)

البخاري رقم (5167)، ومسلم رقم (1427).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (2109)، والترمذي رقم (1094)، والنسائي (6/ 119 - 120)، ومالك (2/ 545 رقم 47)، وابن ماجه رقم (1907).

ص: 119

فإنْ قلتَ: قدْ عُلِمَ النَّهْيُ عن التزعفرِ فكيفَ لم ينكرْهُ صلى الله عليه وسلم.

قلت: هذا [مخصِّصٌ]

(1)

للنَّهي بجوازِه للعرس، وقيلَ: يحتملُ أنَّها كانتْ في ثيابهِ دونَ بدنهِ بناءً على جوازِهِ في الثوبِ. وقدْ مَنَعَ جوازَه فيهِ أَبو حنيفةَ والشافعيُّ ومَنْ تَبعَهُمَا، والقولُ بجوازِه في الثياب [روي]

(2)

عنْ مالكٍ وعلماءِ المدينةِ، واستدلَّ لهمْ بمفهومِ النَّهْي الثابتِ في الأحَاديثِ الصحيحةِ كحديثِ أَبي موسَى مرفوعًا:"لا يَقْبلُ اللَّهُ صلاةَ رَجُلٍ في جسدِه شيءٌ منَ الخلوقِ"

(3)

. وأُجِيب بأنَّ ذلكَ مفهومٌ لا يقاومُ النَّهيْ الثابتَ في الأحاديثِ الصحيحةِ وبأنَّ قصةَ عبدِ الرحمنِ كانتْ قبلَ النَّهي في أولِ الهجرةِ، وبأنهُ يحتملُ أن الصفرةَ التي رَآهَا صلى الله عليه وسلم كانتْ منْ جهةِ امرأتهِ علقتْ بهِ فكانَ ذلكَ غيرَ مقصودٍ لهُ، ورجَّحَ هذا النوويَّ

(4)

وعزاهُ للمحققينَ وبَنَى عليهِ البيضاويُّ. وقولُه: "على وزنِ نُواةٍ منْ ذهبٍ" قيلَ المرادُ واحدةُ نَوَى التمرِ، قيلَ كانَ قدْرَها يومئذٍ رُبْعُ دينارٍ، وَرُدَّ بأنَّ نَوَى التمرِ يختلفُ فكيفَ يُجْعَلُ معيارًا لما يُوزَنُ، وقيلَ: إنَّ النواةَ منْ ذهبٍ عبارةٌ عما قيمتُه خمسةُ دراهمَ منَ الورقِ وجزَمَ بهِ الخطابيُّ

(5)

واختارَهُ الأزهريُّ

(6)

ونقلَه عياضٌ عنْ أكثرِ العلماءِ، ويؤيدُه أن في روايةِ البيهقيِّ

(7)

وزنُ نواةٍ منْ ذهبٍ قُوِّمَتْ خمسةُ دراهمَ.

وفي روايةٍ عند البيهقيِّ

(8)

عنْ قتادةَ قوِّمتْ ثلاثةُ دراهمَ وثُلْثًا وإسنادُه ضعيفٌ، لكنْ جزمَ بهِ أحمدُ، وقيلَ في قَدْرِها غيرُ ذلكَ، وعنْ بعضِ المالكيةِ أن النواةَ عندَ أهلِ المدينةِ ربعُ دينارٍ. والحديثُ دليلٌ على أنهُ يُدْعَى للمعرِّس بالبركةِ وقدْ نالَ عبدُ الرحمنِ بركةَ الدعوةِ النبويةِ حتَّى قال: لقدْ رأيتُني لو رفعتُ حَجَرًا لرجوتُ أنْ أصيبَ ذهبًا أو فضةً، رواهُ البخاريُّ عنهُ في آخرِ هذهِ الروايةِ، وفي

(1)

في (ب): "تخصيص".

(2)

في (ب): "مرويُّ".

(3)

أخرجه أَبو داود رقم (4178)، وابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 182 - 183) من حديث الربيع بن أنس عن جدَّيه، قال أَبو داود: جَدَّاه زيد وزياد. قلت: سنده ضعيف.

وقد ضعَّف الحديث الألباني في: "ضعيف أَبي داود وغيره".

(4)

في "شرح صحيح مسلم"(9/ 216).

(5)

في "حاشية سنن أَبي داود"(2/ 584).

(6)

في "تهذيب اللغة"(15/ 557 - 558).

(7)

في "السنن الكبرى"(7/ 237).

(8)

في "السنن الكبرى"(7/ 237).

ص: 120

قولهِ: "أوْلِمْ ولوْ بشاةٍ"، دليلٌ على وجوبِ الوليمةِ في العرسِ، وإليهِ ذهبَ الظاهريةُ

(1)

، قيلَ: وهوَ نصُّ الشافعيِّ في "الأمِّ"

(2)

، ويدلُّ لهُ ما أخرجَه أحمدُ

(3)

منْ حديثِ بريدةَ أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لما خطبَ عليٌّ فاطمةَ رضي الله عنهما: "لا بدَّ منْ وليمةٍ"، وسندُه لا بأسَ بهِ، وهوَ يدلُّ علَى لزوم الوليمةِ وهوَ في معنَى الوجوبِ. وما أخرجَه أَبو الشيخِ والطبرانيُّ في "الأوسطِ"

(4)

منْ حديثِ أَبي هريرةِ مرفُوعًا: "الوليمةُ حقٌّ وسنةٌ فمنْ دُعِيَ ولم يجبْ فقدْ عَصَى"، والظاهرُ منَ الحقِّ الوجوبُ. وقالَ أحمدُ: الوليمةُ سنةٌ، وقالَ الجمهورُ: مندوبةٌ، وقالَ ابنُ بطالٍ: لا أعلمُ أحدًا أوجبَها، وكأنهُ لم يعرفِ الخلافَ. واستدلَّ الجمهور على النُّدبيةِ بما قالَ الشافعيُّ رحمه الله: لا أعلمُ أمرَ بذلكَ غيرَ عبدِ الرحمنِ، ولا أعلمُ أنهُ صلى الله عليه وسلم تركَ الوليمةَ، رواهُ عنهُ البيهقيُّ فجعلَ ذلكَ مستندًا إلى كونِ الوليمةِ غيرَ واجبةٍ ولا يخفَى ما فيهِ

(5)

. واختلفَ العلماءُ في وقتِ الوليمةِ، هلْ هيَ عندَ العقدِ أو عقبَهُ أو عندَ الدخولِ؟ وهي أقوالٌ في مذهبِ المالكيةِ، ومنْهم مَنْ قالَ عندَ العقدِ وبعدَ الدخولِ، وصرَّحَ الماوردي منَ الشافعيةِ

(6)

بأنَّها عندَ الدخولِ، قالَ ابنُ السبكي: والمنقولُ منْ فِعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها بعدَ الدخولِ، وكأنهُ يشيرُ إلى قصةِ زواجِ زينبَ بنتِ جحشٍ

(7)

، لقولِ أنسٍ: أصبحَ - يعني النبيُّ صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينبَ فدعَا القومَ. وقدْ ترجَم عليهِ البيهقيُّ بابُ وقتِ الوليمةِ

(8)

. وأما مقدارُها فظاهرُ الحديثِ أن الشاةَ أقلُّ ما يجزئُ، إلَّا أنهُ قدْ ثبتَ أنهُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ على أمِّ سلمةَ وغيرِها بأقلَّ منْ شاةٍ

(9)

، وأولمَ على زينبَ بشاةٍ.

(1)

كما في "المحلَّى"(9/ 450 رقم المسألة: 1819).

(2)

(6/ 196).

(3)

في "الفتح الرباني"(16/ 205 رقم 175) بسند جيد.

(4)

أخرجه الطبراني في "الأوسط" - كما في "مجمع الزوائد"(4/ 52) من حديث أَبي هريرة وقال الهيثمي: "وفيه يحيى بن عثمان التيمي وثقه أَبو حاتم الرازي، وابن حبان، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح" اهـ.

(5)

انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 192 - 193 مسألة 1217).

(6)

انظر: "الحاوي الكبير"(12/ 190 - 205) باب الوليمة.

(7)

أخرجه مسلم (2/ 1050 رقم 93/ 1428).

(8)

في "السنن الكبرى"(7/ 260).

(9)

• أخرج البخاري رقم (371) عن أنس، قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حُيَيٍّ وفيه: =

ص: 121

وقالَ أنسٌ: لم يولمْ على غيرِ زينبَ بأكثرَ مما أولمَ عليها، إلَّا أنهُ أولمَ صلى الله عليه وسلم على ميمونةَ بنتِ الحارثِ لما تزوَّجها بمكةَ عامَ القَضِيَّةِ

(1)

، وطلبَ منْ أهلِ مكةَ أن يحضُروا فامتنعُوا، بأكثرَ منْ وليمتهِ على زينبَ وكأنَّ أَنَسًا يريدُ أنهُ وقعَ في وليمةِ زينبَ بالشاةِ منَ البركةِ في الطعام ما لمْ يقعْ في غيرِها فإنهُ أشبعَ الناسَ خبزًا ولحمًا، فكانَ المرادُ لم يشبعْ أحدًا خبزًا ولحمًا في وليمةٍ منْ ولائِمهِ صلى الله عليه وسلم أكثرَ مما وقعَ في وليمةِ زينبَ.

2/ 980 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

وَلِمُسْلِمٍ

(3)

: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ". [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذا دُعِيَ أحدُكم إلي وليمةٍ فليأتِها. متفقٌ عليهِ، ولمسلمٍ) أي عن ابن عمرَ مرفوعًا: (إذا دَعَا أحدُكم أخاهُ فليجبْ عرسًا كانَ أو نحوَه)، الحديثُ.

الأولُ: دالٌّ على وجوبِ الإجابةِ إلى الوليمةِ.

والثاني: دالٌّ على وجوبِها إلى كلِّ دعوةٍ، ولا تعارضَ بينَ الروايتينِ وإنْ

= "

فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروسًا، فقال: من كان عندَه شيءٌ فليجئ به، وبسط نِطعًا فجعل الرجلُ يجيء بالتمر، وجعلَ الرجلِ يجِيء بالسمن، قال: وأحسبُه قد ذكرَ السَّويق. قال: فحاسوا حيسًا، فكانت وليمة رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ".

• الحَيس: بفتح أوله خليط السمن والتمر والأقط.

• وأخرج البخاري رقم (5172) عن صفية بنت شيبة قالت: "أولمَ النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائِه بمدَّين من شعير".

(1)

أي عام عمرة القَضيَّة أو القضاء، وذلك في سنة سبع للهجرة، وقد دخل صلى الله عليه وسلم مكة، ثم خرج بعد إكمال عمرته. وسمِّيت عمرة القضية؛ لأنه قاضى فيها قريشًا. وانظر:"زاد المعاد"(2/ 90، 92).

(2)

البخاري رقم (5173)، ومسلم رقم (96/ 1429).

قلت: وأخرجه أَبو داود رقم (3736)، والبغوي رقم (2314). ومالك في "الموطأ"(2/ 546 رقم 49).

(3)

في "صحيحه" رقم (100/ 1429).

ص: 122

[كانا]

(1)

عنْ راوٍ واحدِ [لأنه يحتمل أنه تارة اقتصر على بعض الحديث، وتارة استوفاه، أو أن ذلك من أحد رواته]

(2)

. وقد أخذتِ الظاهريةُ

(3)

والشافعيةِ

(4)

بِظاهرِه فقالُوا: تجبُ الإجابةُ إلى الدعوةِ مطلقًا، وزعمَ ابنُ حزمٍ

(5)

أنه قولُ جمهورِ الصحابةِ والتابعينَ. ومنْهم مَنْ فرَّقَ بينَ وليمةِ العرسِ وغيرِها، فنقلَ ابنُ عبدِ البرِّ

(6)

وعياضُ والنوويُّ الاتفاقَ على وجوبِ إجابةِ وليمةِ العرسِ، وصرَّحَ جمهورُ الشافعيةِ والحنابلةِ

(7)

بأنَّها فرضُ عينٍ ونصَّ عليهِ مالكٌ، وعنِ البعضِ فرضُ كفايةٍ.

وفي كلامِ الشافعيِّ ما يدلُّ على وجوبِ الإجابةِ في وليمةِ العُرسِ وعدمِ الرخصةِ في غيرِها فإنهُ قالَ: إتيانُ دعوةِ الوليمةِ حقٌّ، والوليمةُ التي تعرفُ وليمةُ العرسِ، وكل دعوةٍ دُعِيَ إليها رجلٌ وليمةٌ [ولا]

(8)

أرخِّصُ لأحدٍ في تركِها، ولو تركَها لم يتبينْ لي أنهُ عاصٍ كما تبيَّنَ لي في وليمةِ العرسِ. وفي "البحرِ"

(9)

للمهدي حكايةُ إجماعِ العترةِ على عدمِ وجوبِ الإجابةِ في الولائمِ كلِّها.

‌موانع إجابة الدعوة

هذا وعلى القولِ بالوجوبِ، فقدْ قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ في شرحِ الإلمام: وقدْ يُسَوَّغُ تركُ الإجابةِ لأعذارٍ منْها: أنْ يكونَ في الطعامِ شبهةٌ أو يخصُّ بها الأَغنياءَ، أو يكونَ هناكَ مَنْ يتأذَّى بحضورِه معهُ أو لا يليقُ لمجالستِه أو يدعُوه لخوفِ شَرِّه أو لطمع في جاهِهِ أو ليعاونَه على باطلٍ، أو يكونَ هناكَ منكرٌ منْ خمرٍ أو لَهْو أوْ فراشِ حريرٍ أو سَتْرٍ لجدارِ البيتِ، أو صورةٍ في البيتِ، أوْ يتعذرُ إلى الداعي فيتركُه، أو كانت في الثالثِ

(10)

كما يأتي، فهذه الأعذارُ ونحوُها في تركِها على القولِ بالوجوبِ وعلى القولِ بالندبِ بالأَوْلى. وهذا مأخوذٌ مما عُلِمَ مِنَ الشريعةِ ومنْ قَضَايا وقعتْ للصحابةِ كما في البخاريِّ: أن أبا أيوبَ دعاهُ ابنُ عمرَ فرأَى

(1)

في (أ): "كان".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

انظر: "المحلَّى"(9/ 450 - 451 مسألة 1825).

(4)

انظر: "الحاوي"(12/ 191 - 192).

(5)

في "المغنى"(9/ 451).

(6)

انظر: "الاستذكار"(16/ 353).

(7)

انظر: "المغني"(10/ 193 - 194).

(8)

في (ب): "فلا".

(9)

أي "البحر الزخار"(3/ 85 - 86).

(10)

انظر تفصيل ذلك في "المغني"(10/ 198 - 207) فقد أجاد وأفاد.

ص: 123

في البيتِ سِتْرًا على الجدارِ فقالَ ابنُ عمرَ: غَلَبَنَا عليهِ النساءُ، فقالَ: منْ كنتُ أخشَى عليهِ فلمْ أكنْ أخشَى عليكَ، واللَّهِ لا أطعمُ لكَ طعامًا فرجعَ. أخرجَه البخاريُّ تعليقًا

(1)

ووصلَه أحمدُ

(2)

ومسدِّدٌ

(3)

. وأخرجَ الطبراني

(4)

عنْ سالمِ بن عبدِ اللَّهِ بن عمرَ قالَ: أعرسْتُ في عهدِ أبي فَأَذِنَّا الناسَ وكان أبو أيوبَ فيمنْ أَذَنَّا، وقدْ سَتَرُوا بيتي ببجادٍ أخضرَ فأقبلَ أبو أيوبَ فاطَّلعَ فرآهُ فقالَ: يا عبدَ اللَّهِ أتسترونَ الجُدُرَ؟ فقالَ أبي واستَحَى: غَلَبَنَا عليهِ النساءُ يا أبا أيوبَ، فقالَ: منْ خشيتَ أنْ يغلبه النساءُ فذكره. وفي روايةِ: فأقبلَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يدخلونَ الأولَ فالأولَ حتَّى أقبلَ أبو أيوبَ وفيهِ: فقالَ عبدُ اللَّهِ: أقسمتُ عليكَ لترجعنَّ، فقالَ: وأنا أعزمُ على نفسي أنْ لا أدخلَ يومي هذَا، ثُمَّ انصرفَ. وأخرجَ أحمدُ في كتابِ "الزهدِ" أن رجلًا دَعَا ابنَ عمرَ إلى عرسٍ فإذا بيتُه قد سُتِرَ بالكرورِ، فقالَ: يا فلانٌ مَتى تحولتِ الكعبةُ في بيتِكَ، ثمَّ قالَ لنفرٍ معَهُ منْ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ليهتكْ كلُّ رجلٍ ما يليهِ. والحديثُ وما قبلَهُ دليلٌ على تحريم ستْرِ الجدرانِ. وقدْ أخرجَ أبو داودَ

(5)

وغيرُه منْ حديثِ ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا: "لا تسترُوا الجدُرَ بالثيابِ" وفيهِ ضعفٌ ولهُ شاهدٌ. وأخرجَ البيهقي

(6)

وغيره منْ حديثِ سلمانَ موقوفًا أنهُ أنكرَ سَتْرَ البيتِ فقالَ: محمومٌ بيتُكم أو تحولتِ الكعبةُ؟ ثمَّ قالَ: لا أدخلُه حتَّى يُهْتَكَ. والمسألةُ فيها خلافٌ جزمَ جماعةٌ بالتحريمِ لسترِ الجدران وجمهورُ الشافعيةِ على أنهُ مكروهٌ. وقد أخرجَ مسلمٌ

(7)

أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إن اللَّهَ لم يأمرْنا أنْ نكسوَ

(1)

في "صحيحه"(9/ 249 باب رقم 86).

(2)

في كتاب الورع كما في "الفتح": (9/ 249).

(3)

في مسنده كما في "الفتح": (9/ 249).

(4)

في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(4/ 54 - 55) وقال: ورجاله رجال الصحيح.

(5)

في "السنن" رقم (1485).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3866).

قال أبو داود: روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلُّها واهية، وهذا الطريق أمثلها. وهو ضعيف أيضًا، قلت: لأن فيه راويًا مجهولًا، وهو الذي رواه عن محمد بن كعب القرظي. وهو حديث ضعيف.

(6)

في "السنن الكبرى"(2/ 272 - 273).

(7)

في "صحيحه"(3/ 1666 رقم 2107).

ص: 124

الحجارةَ والطينَ" وجذبَ السترَ حتَّى هتكَهُ في قصةٍ معروفةٍ، وقدْ كنَّا كتبْنا رسالةً في هذا، جوابِ سؤال في مدةٍ قديمةٍ. وأخرجَ الطبرانيُّ في "الأوسطِ"

(1)

منْ حديثِ عمرانَ بن [حصينِ]

(2)

: نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ إجابةِ طعامِ الفاسقينَ. وأخرجَ النسائي

(3)

منْ حديثِ جابرٍ مرفُوعًا: "مَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يقعدْ على مائدةٍ يدارُ عليها الخَمْرُ" وإسنادُه جيدٌ، وأخرجَه الترمذيُّ

(4)

منْ وجْهٍ آخرَ عنْ جابرٍ وفيهِ ضعفٌ. وأخرجَهُ أحمدُ

(5)

منْ حديثِ عمرَ. وبالجملةِ الدعوةُ مقتضيةٌ للإجابةِ وحصولُ المنكرِ مانعٌ عنْها، فتعارضَ المانعُ والمقتضي والحكمُ للمانعِ.

‌من دعي إلى وليمة العرس فليجب

3/ 981 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ الطِّعامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ: يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيهَا مَنْ يَأْباهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصى اللهُ وَرَسُولَهُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(6)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: شرُّ الطعامِ طعامُ الوليمةِ يُمْنَعْهَا مَنْ يأتيها) وهمُ الفقراءُ كما يدلُّ لهُ حديثُ ابن عباسٍ عندَ الطبرانيِّ

(7)

:

(1)

(1/ 140 رقم 441). وقال: لا يُروى هذا الحديث عن عمران بن الحصين إلا بهذا الإسناد. تفرد به: عبد الرحيم بن مُطَرِّف. قلت: هو ثقة كما في "التقريب".

وأخرجهُ الطبراني في "الكبير"(18/ 168 رقم 376). وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 54) وقال: فيه أبو مروان الواسطي ولم أجد من ترجمه.

قلت: هو من رجال "التهذيب" ولكنه ضعيف.

(2)

في (ب): "الحصين".

(3)

في "الكبرى" - كما في "تحفة الأشراف"(2/ 333 رقم 2886).

(4)

في "السنن"(5/ 113 رقم 2801) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث طاووس عن جابر إلا من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: ليث بن أبي سليم صدوق ربما يهم في الشيء

".

(5)

في "الفتح الرباني"(16/ 209 رقم 193) بسند ضعيف.

(6)

في "صحيحه" رقم (1432).

قلت: وقد أخرجه البخاري أيضًا رقم (5177). وأبو داود رقم (3742)، وابن ماجه رقم (1913)، ومالك (2/ 546 رقم 50).

(7)

في "الأوسط" رقم (3264) موقوفًا على أبي هريرة. =

ص: 125

"بئسَ الطعامُ طعامُ الوليمةِ يُدْعَى إليها الشبعانُ ويمنعُ عنه الجيعانُ". اهـ. فلوْ شَمِلَتْ الدعوةُ الفريقينِ زالتِ الشرِّيَّةُ عنْها (ويُدْعَى إليها مَنْ يأباها) يعني الأغنياءُ، (ومنْ لم يجبِ الدعوة) بفتحِ الدال المهملة على المشهور، وضمها قطرب في مثلثته وغلط (فقد عَصَى اللَّهَ ورسولَه. أخرجَه مسلمٌ).

المرادُ منَ الوليمةِ وليمةُ العرسِ لما تقدَّمَ قريبًا منْ أنَّها إذا أُطلِقَتْ منْ غيرِ تقييد انصرفتْ إلى وليمةِ العرسِ وشرِّيَّةُ طعامِها قدْ بيَّنَ وجْهَهُ. قولُه: "يمنعها من يأتيها ويُدْعَى إليها مَنْ يأباها"، فإنَّها جملةٌ مستأنفةٌ بيانٌ لوجهِ شرِّيَّة الطعامِ. والحديثُ دليلٌ على أنهُ يجبُ على مَنْ يُدْعَى الإجابةُ وإن كانتْ إلى شرِّ طعامٍ، وأنهُ يعصي اللَّهَ ورسولَه مَنْ لم يُجِبْ، وتقدَّمَ الكلامُ على ذلكَ.

‌إذا دعي إلى وليمة العرس فليجب ولو كان صائمًا

4/ 982 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا دُعِيَ أحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا

(1)

. [صحيح]

- وَلَهُ

(2)

مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَهُ وَقَال: "فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ". [صحيح]

(وعنْه) أي أبي هريرة (قال: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذا دُعِيَ أحدُكم فليجبْ فإنْ كانَ صائمًا فليصلِّ، وإنْ كانَ مفطِرًا فَلْيَطْعَمْ. أخرجَهُ مسلمٌ). فيهِ دليل على أنهُ يجبُ على مَنْ كانَ صَائِمًا أنْ لا يعتذِرَ بالصومِ. ثمَّ إنهُ قدِ اختُلِفَ في المرادِ منَ الصلاةِ، فقالَ الجمهورُ: المرادُ فليدعُ لأهلِ الطعامِ بالمغفرةِ والبركةِ، وقيلَ المرادُ

= وأخرجه الطبراني في "الكبير"(12/ 159 رقم 12754)، والبزار (2/ 75 - كشف) من حديث ابن عباس.

وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 53) وقال: فيه سعيد بن سويد المعولي ولم أجد من ترجمه، وفيه عمران وثقه أحمد وجماعة، وضعفه النسائي وغيره ولحديث ابن عباس شاهد، انظر:"الصحيحة" رقم (1085).

(1)

في "صحيحه" رقم (1431).

(2)

في "صحيحه" رقم (1430).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3740)، وابن ماجه رقم (1751).

ص: 126

بالصلاةِ المعروفةُ، أي يشتغلُ بالصلاةِ ليحصِّلَ له فضلَها وينالَ بركتَها أهلُ الطعامِ والحاضرونَ. وظاهرُه أنهُ لا يلزمُه الإفطارُ [فيجيبُ]

(1)

فإنْ كانَ صومُه فرضًا فلا خلافَ أنهُ يحرمُ عليهِ الإفطارُ، وإنْ كانَ نفلًا جازَ لهُ. وظاهرُ قولِه فليطعَمْ وجوبُ الأكلِ. وقدِ اختلَفَ العلماءُ في ذلكَ، والأصح عندَ الشافعيةِ أنهُ لا يجبُ الأكلُ في طعامِ الوليمةِ ولا غيرِها، وقيلَ يجبُ لظاهرِ الأمرِ، وأقله لقمةٌ ولا تجبُ الزيادةُ، وقالَ منْ لم يوجبِ الأكلَ: الأمرُ للندبِ، والقرينةُ الصارفةُ إليهِ قولُه:(ولهُ) أي لمسلمٍ (منْ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه نحوَه وقالَ: إنْ شاءَ طَعِمَ وإنْ شاءَ تَرَكَ)، فإنهُ خيَّره والتخييرُ دليلٌ على عدمِ الوجوبِ للأكلِ، ولذلكَ أوردَه المصنفُ رحمه الله، عقيبَ حديثِ أبي هريرةَ.

‌أيام الوليمة

5/ 983 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طَعَامُ الْوَلِيمَةِ أَوَّلَ يَوْم حَقٌّ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سَمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ"، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ

(2)

، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. [ضعيف]

- ولَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ

(3)

. [ضعيف]

(وعنِ ابن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: طعامُ [الوليمة]

(4)

أولَ يومٍ حقٌّ) أي واجبٌ أوْ مندوبٌ (وطعامُ يومِ الثاني سنةٌ، وطعامُ يومِ الثالثِ سَمْعةٌ. رواهُ الترمذي واستغربَهُ) وقالَ: لا نعرفُه إلَّا منْ حديثِ زيادِ بن عبدِ اللَّهِ البكائي وهوَ كثيرُ الغرائبِ والمناكير، قالَ المصنفُ كالرادِ على الترمذي ما لفظُه: (ورجالُه

(1)

في (ب): "ليجيب".

(2)

في "السنن" رقم (1097). وهو حديث ضعيف.

قال الترمذي: حديث ابن مسعود لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث زياد بن عبد اللهِ.

وزياد بن عبد اللهِ كثير الغرائب والمناكير.

قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يذكر عن محمد بن عُقبة قال: قال وكيعٌ: زياد بن عبد اللهِ، مع شرفه يكذب في الحديث" اهـ.

(3)

في "السنن" رقم (1915). وهو حديث ضعيف.

(4)

زيادة من (أ).

ص: 127

رجالُ الصحيحِ) إلَّا أنهُ قالَ المصنفُ

(1)

: إنَّ زيادًا مُخْتَلَفٌ فيهِ وشيخُه عطاءُ بنُ السائبِ

(2)

اختلطَ وسماعُه منهُ بعدَ اختلاطِه، انتَهى.

قلتُ: وحينئذٍ فلا يصحُّ قولُه إنَّ رجالَه رجالُ الصحيحِ، ثمَّ قالَ:(ولهُ شاهدٌ عنْ أنسٍ عندَ ابن [ماجهْ])

(3)

وفي إسناده عبدُ الملكِ بنُ حسينِ

(4)

وهوَ ضعيفٌ وفي البابِ أحاديثُ لا تخلُو عنْ مقالٍ، والحديثُ دليلٌ على شرعيةِ الضيافةِ في الوليمةِ يومينِ ففي أولِ يومٍ واجبةٌ كما يفيدُه لفظُ "حق" لأنهُ الثابتُ اللازمُ وتقدَّمَ الكلامُ في ذلكَ، وفي اليومِ الثاني سنةٌ أي طريقةٌ مستمرةٌ يعتادُ الناسُ فعلَها لا يدخلُ صاحبُها الرياءَ والتسميعَ، وفي اليومِ الثالثِ رياءٌ وسمعةٌ فيكونُ فعلُها حرامًا والإجابةُ إليها كذلكَ وعليهِ أكثرُ العلماءِ. قالَ النوويُّ

(5)

: إذا أوْلَمَ ثلاثًا فالإجابةُ في اليومِ الثالثِ مكروهةٌ، وفي اليومِ الثاني لا تجبُ مطلقًا ولا يكونُ استحبابُها فيهِ كاستحبابِها في اليوم الأولِ. وذهبَ جماعةٌ إلى أنَّها لا تُكْرَهُ في الثالثِ لغيرِ المدعوِّ في اليومِ الأولِ والثاني؛ لأنهُ إذا كانَ المدعوِّ كثيرينَ وهو يشق جَمْعُهم في يومٍ واحدٍ فَدَعَا في كلِّ يومٍ فريقًا لم يكنْ في ذلكَ رياءٌ ولا سمعةٌ وهذَا [أقرب]

(6)

. وجنحَ البخاريُّ

(7)

إلى أنهُ لا بأسَ بالضيافةِ ولوْ إلى سبعةِ أيامٍ حيثُ قالَ: بابُ حقِّ إجابةِ الوليمةِ والدعوةِ ومَنْ أَوْلَمَ سبعةَ أيامٍ ونحوَه. ولم يوقِّتِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا ولا يومينِ، وأشارَ بذلكَ إلى ما أخْرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ

(8)

مِنْ طريقِ

(1)

قال المصنف في "التقريب"(1/ 268 رقم 118): "زياد بن عبد اللهِ بن الطَفيْل العامري، البَكَائي، أبو محمد الكوفي، صدوق ثبت في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، من الثامنة، ولم يثبت أن وكيعًا كذبه، وله في البخاري موضع واحد متابعة، مات سنة ثلاث وثمانين" اهـ.

(2)

عطاء بن السائب، أبو محمد، ويقال: أبو السائب، الثقفي الكوفي، صدوق اختلط، من الخامسة، مات سنة ست وثلاثين" اهـ. قاله ابن حجر في "التقريب" (2/ 22 رقم 191).

(3)

في (أ): "مالك".

(4)

ضعفه أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود، وقال عمرو بن علي ضعيف منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه

"تهذيب التهذيب"(12/ 240 رقم 1006).

(5)

في شرحه لصحيح مسلم (9/ 234).

(6)

في (ب): "قريب".

(7)

في "صحيحه"(9/ 240 باب رقم 71).

(8)

في "المصنف"(4/ 313 - 314) عن حفصة.

ص: 128

حفصة بنتِ سيرينَ قالتْ: لما تزوَّجَ أبي دعا الصحابةَ سبعةَ أيامٍ، وفي روايةٍ ثمانيةَ أيامٍ، وإليها أشارَ البخاريُّ

(1)

بقولِه أوْ نحوِه. وفي قولِه: "ولم يوقتْ" ما يدلُّ على عدمِ صحةِ حديثِ البابِ عندَه. قالَ القاضي عياضٌ: استحبَّ أصحابُنا لأهلِ السعةِ كونها أسبوعًا، فأخذتِ المالكيةُ بما دلَّ عليهِ كلامُ البخاريّ.

‌الوليمة بما تيسر من الطعام

6/ 984 - وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسِائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

. [صحيح]

‌ترجمة صفية بنت شيبة

(وعن صفيةَ بنتِ شيبةَ)

(3)

أي ابن عثمانَ بن أبي طلحةَ الحجيِّ منْ بني عبدِ الدارِ، قيلَ: إنَّها رأتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقيلَ: إنَّها لم ترهُ، وجزمَ ابنُ سعدٍ أنها تابعيةٌ (قالتْ: أولَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على بعضِ نسائِه بِمُدَّيْنِ منْ شعيرٍ. أخرجَهُ البخاريُّ) قالَ المصنفُ

(4)

: لم أقفْ على تعيينِ اسمِها، يعني بعضِ نسائِه المذكورةَ هنا، قالَ: وفي البابِ أحاديثُ تدلّ على أنَّها أمُّ سلمةَ، وقيلَ إنَّها وليمةُ عليٍّ بفاطمةَ رضي الله عنهما، وأرادَ ببعضِ نسائِهِ مَنْ تَنْتَسِبُ إليهِ منَ النساءِ في الجملةِ وإنْ كانَ خلافُ المتبادرِ له، إلَّا أنهُ يدلُّ لهُ ما أخرَجُه الطبراني

(5)

منْ حديثِ أسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ قالتْ: لقدْ أوْلَمَ علي بفاطمةَ فما كانتْ وليمةٌ في ذلكَ الزمانَ أفضلَ منْ وليمتِهِ رَهَنَ درعَه عندَ يهوديٍّ بشطرِ شعيرٍ، ولعلَّ المرادُ بمدَّينِ منْ شعيرٍ؛ لأنَّ المدينِ نصفُ صاعٍ فكأنَّه قالَ شطرُ صاعٍ فينطبقُ على القصةِ التي في البابِ، [وتكونُ]

(6)

نسبةُ الوليمةِ إلى

(1)

في "صحيحه"(9/ 240).

(2)

في "صحيحه" رقم (5172).

(3)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (11410)، و"أسد الغابة" رقم (7066)، و"الاستيعاب" رقم (3454)، و"طبقات ابن سعد"(8/ 469).

(4)

في "فتح الباري"(9/ 339).

(5)

في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(4/ 50) وقال الهيثمي: وفيه عون بن محمد بن الحنفية ولم أجد من ترجمه.

(6)

في (ب): "يكون".

ص: 129

رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مجازيةً إما لكونِه الذي وفَّى اليهوديَّ شعيره، أو لغيرِ ذلكَ.

قلتُ: ولا يخْفَى أنهُ تكلُّفٌ ولا مانعَ أنْ يولمَ صلى الله عليه وسلم بمدينِ ويولمَ عليٌّ رضي الله عنه بمدينِ، والمذكورُ في البابِ وليمتُه صلى الله عليه وسلم.

7/ 985 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إلَى وَليمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبُز وَلا لَحْم، وَمَا كَانَ فِيهَا إلَّا أَنْ أَمَرَ بِالأنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمرُ والأَقِطُ والسَّمْنُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَقَامَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بينَ خيبرَ والمدينةِ ثلاثَ ليالٍ يُبْنَى) مغيَّرُ الصيغةِ (عليهِ بصفيةَ) أي يبنَى عليهِ خباءٌ جديدٌ بسببِ صفيةَ أو بمصاحَبَتِها (فدعوت المسلمين إلى وليمتهِ فما كانَ فيها منْ خبزٍ ولا لحمٍ وما كانَ فيها إلَّا أنْ أمرَ بالأنطاعِ فَبُسِطَتْ فَألقِيَ عليها التمرُ والأقِطُ)، وفي "القاموس"

(2)

: الأقطُ ككتفٍ وإبلٍ شيءٌ يُتَّخَذُ منَ المخيضِ الغنميِّ (والسمن) ومجموعُ هذه الأشياءِ يسمَّى حَيْسًا (متفقٌ عليهِ. واللفظُ للبخاريِّ)، فيهِ إجزاءُ الوليمةِ بغيرِ ذبحِ شاةٍ والبناءُ بالمرأةِ في السفرِ وإيثارُ الجديدةِ بثلاثةِ أيامٍ وإنْ كانُوا في السفرِ.

8/ 986 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُما بَابًا، فَإنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَجِبِ الَّذِي سَبَقَ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

(3)

، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ

(4)

. [ضعيف]

(وعنْ رجلٍ منْ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتمعَ داعيانِ فأجبْ أقربَهما بابًا) زادَ في "التلخيص"

(5)

: فإنَّ أقربَهُما إليكَ بابًا أقربهُما إليكَ جِوارًا، (فإن سبقَ

(1)

البخاري رقم (5585)، ومسلم رقم (1365).

(2)

(ص 850).

(3)

في "السنن" رقم (3756).

(4)

في سنده أبو خالد الدالاني، يزيد بن عبد الرحمن؛ قال ابن حبان: فاحش الوهم، لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن عدي: في حديثه لين، إلا أنه يكتب حديثه. "ميزان الاعتدال":(4/ 432).

والخلاصة: أن الحديث ضعيف، انظر:"الإرواء" رقم (1951).

(5)

(3/ 196 رقم 1561).

ص: 130

أحدُهما فأجبِ الذي سبقَ. رواهُ أبو داودَ وسندُه ضعيفٌ) لكنَّ رجالَ سنده موثقونَ ولا يُدْرَى ما وجهُ ضعفِ سندِه؛ فإنهُ رواهُ أبو داودَ عن هنادِ بن السريِّ عنْ عبدِ السلامِ بن حرب عن أبي خالدٍ الدالانيِّ عنْ أبي العلاءِ الأوْدي عنْ حُميدِ بن عبدِ الرحمنِ الحميريِّ عنْ رجلٍ منْ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ هؤلاءِ وثَّقَهُمُ الأئمةُ إلَّا أبا خالدٍ الدالاني فإنَّهم اختلفُوا فيهِ فوثَّقَهُ أبو حاتمٍ، وقالَ أحمدُ وابنُ معينِ: لا بأسَ بهِ، وقالَ ابنُ حِبَّانَ: لا يجوزُ الاحتجاجُ بهِ، وقالَ ابنُ عديٍّ، حديثُه ليِّنٌ، وقالَ شريكٌ: كانَ مرجِئًا. والحديثُ على سياقِ المصنفِ ظاهرُه الوقفُ، وفيهِ دليل على أنهُ إذا اجتمعَ داعيانِ فالأحقُّ بالإجابةِ الأسبقُ، فإنْ استويا قُدِّمَ الجارُ، والجارُ على مراتبَ، فأحقُّهم أقربُهم بابًا، فإنِ استويا أقْرَعَ بينَهم.

‌الآكل متكئًا

9/ 987 - وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا آكُلُ مُتكِئًا"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ أبي جحيفةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا آكلُ متكئًا. رواهُ البخاريُّ) الاتكاءُ مأخوذٌ منَ الوكاءِ، والتاءُ بدلٌ عن الواوِ، والوكاءُ هوَ ما يُشَدُّ بهِ الكيسُ أوْ غيرُه فكأنهُ أوكأَ مقعدتَه ويشدَّها بالقعودِ على الوطاءِ الذي تحتَه، ومعناهُ الاستواءُ على وطاء متمكنًا. قالَ الخطابيُّ

(2)

: المتكئُ هنا هوَ المتمكنُ في جلوسِه منَ التربُّعِ وشبهِه المعتمدُ على الوطاءِ تحتَه، قالَ: ومنِ استوى قاعدًا على وطاءِ فهو متكئٌ والعامة لا

تعرفُ المتكئَ إلا مَنْ مالَ على أحدِ شِقَّيْهِ. ومعنَى الحديثِ: إذا أكلتُ لا أقعدُ متكئًا كفعلِ مَنْ يريدُ الاستكثارَ منَ الأكلِ ولكنْ آكلُ بُلغةً فيكونُ قعودي مستوفزًا، ومَنْ حملَ الاتكاءَ على الميلِ على أحدِ الشقينِ تأولَ ذلكَ على مذهبِ أهلِ الطبِ بأنَّ ذلكَ فيه [ضررٌ]

(3)

فإنهُ لا ينحدرُ في مجاري الطعامِ سهلًا ولا يسيغُه هنيئًا وربَّما تأذَّى بهِ.

(1)

في "صحيحه"(9/ 540 رقم 5398 - 5399).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3262)، والترمذي رقم (1830)، وأبو داود رقم (3769).

(2)

في "معالم السنن" حاشية أبي داود (4/ 141).

(3)

في (أ): "ضررًا".

ص: 131

‌حكم التسمية على الطعام

10/ 988 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يا غُلامُ، سَمِّ الله وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

[صحيح]

(وعنْ عمرَ بن أبي سلمةَ قالَ: قالَ [لي]

(2)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: يا غلامُ سمِّ الله وكلْ بيمينكَ وكلْ مما يليكَ. متفقٌ عليهِ). الحديثُ دليلٌ على وجوبِ التسميةِ للأمرِ بها، وقيلَ إنها مستحبةٌ في الأكلِ ويقاسُ عليهِ الشربُ. قالَ العلماءُ: ويستحبُّ أن يجهرَ بالتسميةِ لِيُسْمِعَ غيرَهُ ويُنَبِّهَهُ عَلَيْها؛ فإنْ تركَهَا لأي سبب منْ نسيانٍ أو غيرِه في أولِ الطعامِ فليقلْ في أثنائِه بسم اللهِ أولَه وأخرَه حديث أبي داودَ

(3)

والترمذيِّ

(4)

وغيرِهما، قالَ الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ:"إذا أكلَ أحدُكم فليذكرِ اسمَ اللَّهِ فإنْ نسي أنْ يذكرَ الله في أولهِ فليقلْ بِسْمِ اللهِ أولَهُ وآخرَه". وينبغي أنْ يسميَ كلُّ [واحد]

(5)

منَ الآكلينَ فإنْ سمَّى واحدٌ فقطٌ فقدْ حصلَ بتسميتِه السنةُ، قالَهُ الشافعيُّ. ويستدلُّ لهُ بأنهُ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أن الشيطانَ يستحلُّ الطعامَ الذي لم يُذْكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ فإنْ ذكَرَهُ واحدٌ منَ الآكلينَ صدقَ عليهِ أنهُ ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليهِ. وفي الحديثِ دليلٌ على وجوبِ الأكلِ باليمينِ للأمرِ بهِ أيضًا، ويزيدُه تأكيدًا أنهُ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أن الشيطانَ يأكلُ بشمالِه ويشربُ بشمالِه

(6)

، وفعلُ الشيطانِ يحرمُ على الإنسانِ. ويزيدُه تأكيدًا أن رجلًا أكلَ عندَه صلى الله عليه وسلم بشمالِه فقالَ:

(1)

البخاري رقم (5376)، ومسلم رقم (2022).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3777)، والترمذي رقم (1857)، ومالك في "الموطأ"(2/ 934 رقم 32).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في "السنن" رقم (3767).

(4)

في "السنن" رقم (1858) وقال: حديث حسن صحيح.

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 207 - 208)، وابن ماجه رقم (3264) وهو حديث صحيح.

انظر: "الإرواء"(7/ 24 رقم 1965).

(5)

في (ب): "أحد".

(6)

يشير المؤلف: رحمه الله إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (105/ 2020)، وأبو داود رقم (3776)، والترمذي رقم (1800)، ومالك (2/ 922 رقم 6) عن ابن عمر، أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أكل أحدُكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرَبْ بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، وبشرب بشمالِهِ".

ص: 132

"كلْ بيمينكَ"، فقالَ: لا أستطيعُ، قالَ:"لا استطعتَ" ما منعَه إلا الكبرُ فما رفعَها إلى فيهِ، أخرجَهُ مسلمٌ

(1)

، ولا يدعُو صلى الله عليه وسلم إلا على مَنْ تَركَ الواجبَ، وأما كونُ الدعاءِ لتكبُّرِه فهوَ محتملٌ أيضًا. ولا ينافي أن الدعاءَ عليهِ للأمرينِ معًا.

وفي قولِه: "وكلْ مما يليكَ"، دليلٌ أنهُ يجبُ الأكلُ مما يليهِ وأنهُ ينبغي حسنُ العشرةِ للجليس وأنْ لا يحصلَ منَ الإنسانِ ما يسوءُ جليسَه مما فيهِ سوءُ عُشْرةٍ وتركُ مروءةٍ، فقدْ يتقذَّرُ جليسُه ذلكَ لا سيَّما في الثريد والأمراقِ ونحوِها، إلَّا في مثلِ الفاكهةِ فإنهُ قدْ أخرجَ الترمذيُّ

(2)

وغيرُه منْ حديثِ عكراشِ بن ذؤيبٍ قالَ: أُتِيْنا بجفنةٍ كثيرةِ الثريدِ والوَذَرِ - وهوَ بفتحِ الواوِ وفتحِ الذالِ المعجمةِ فراءِ جَمْعُ وذرةِ قطعةٌ منَ اللحمِ لا عظمَ فيها - فخبطتُ بيدي في نواحيها وأكلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ بين يديْه فقبضَ بيدِه اليسرى على يدي اليمنَى ثمَّ قالَ: "يا عكراشُ كلْ منْ موضعٍ واحدٍ فإنهُ طعامٌ واحدٌ"، ثم أُتِيْنَا بطبقٍ فيهِ ألوانُ التمرِ فجعلتُ آكلُ منْ بين يدي وجالتْ يدُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الطبقِ فقالَ:"يا عكراشُ كلْ منْ حيثُ شئتَ فإنهُ غيرُ لونٍ واحدٍ"، فهذَا يدلُّ على التفرقةِ بينَ الأطعمةِ والفواكِهِ. بلْ يدلُّ على أنهُ إذا تعددَ لونُ المأكولِ منْ طعامِ أم غيرِه فلهُ أنْ يأكلَ من أيّ جانبٍ. وكذلكَ إذا لم يبقَ تحتَ يدِ الآكلِ شيءٌ فلهُ أنْ [يتتبع]

(3)

ذلكَ ولوْ منْ سائرِ الجوانبِ. فقدْ أخرجَ البخاريُّ

(4)

ومسلمٌ

(5)

منْ حدِيثِ أنسٍ أن خياطًا دعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنَعهُ قالَ: فذهبتُ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقرَّبَ خبزَ شعيرٍ ومرقًا فيهِ دباءٌ وقديدٌ فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتتبعُ الدباءَ منْ حوالي القصعةِ أي جوانِبَها فلمْ أزلْ أتتبعُ الدباءَ منْ يومئذٍ. وفي الحديثِ قال أنسٌ: فلمَّا رأيتُ ذلكَ جعلتُ ألقيهِ إليهِ ولا أطعمهُ، وهوَ دليلٌ على تطلبهِ له منْ جميعِ القصعةِ لمحبتِه لهُ.

وهذا مما نُهِيَ عنهُ الأكلُ منْ وسطِ القصعةِ كما يدلُّ لهُ الحديثُ الآتي وهوَ قولُه:

(1)

في "صحيحه" رقم (107/ 2021) من حديث إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه.

(2)

في "السنن" رقم (1848) قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث العلاء بن الفضل، وقد تفرد العلاء بهذا الحديث، ولا نعرف لعِكراش عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث. وهو حديث ضعيف.

(3)

في (ب): "يتبع".

(4)

في "صحيحه" رقم (1986 - البغا).

(5)

في "صحيحه" رقم (2041).

ص: 133

‌النهي عن الأكل من وسط القصعة

11/ 989 - وَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ. فَقَالَ: "كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلَا تَأكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا، فَإنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا"، رَوَاهُ الأرْبَعَةُ

(1)

، وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيّ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بقصعةٍ منْ ثريدٍ فقالَ: كُلُوا منْ جوانِبها ولا تأكلُوا منْ وسَطِهَا فإنَّ البركةَ تنزلُ في وسطِها، رواهُ الأربعةُ وهذا لفظُ النسائي وسندُه صحيحٌ). دلَّ على النَّهْي عن الأكْلِ منْ وسطِ القصعةِ وعلَّلَهُ بأنها تنزلُ البركةُ في وسطِها، وكأنهُ إذا أكلَ منهُ لم تنزِل البركةُ على الطعامِ، والنهيُ يقتضي التحريمَ وسواءً كانَ الآكلُ وحدَه أو معَ جماعةٍ.

‌ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا قط

12/ 990 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، كَانَ إِذَا اشْتَهى شَيْئًا أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: ما عابَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طعامًا قطُّ، كانَ إذا اشتَهى

(1)

أبو داود رقم (3772)، والترمذي رقم (1805)، وابن ماجه رقم (3277).

قلت: وأخرجه أحمد (1/ 270، 345، 364)، والدارمي (2/ 100)، وابن الجعد (860)، والحاكم (4/ 116)، والبيهقي في "الآداب" رقم (632) وفي "السنن الكبرى"(7/ 278)، والبغوي رقم (2872)، وابن حبان رقم (1346 - موارد).

قال الترمذي: حديث حسن صحيح. إنما يعرف من حديث عطاء بن السائب وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

وقد أشار المنذري في "الترغيب والترهيب"(3/ 63) إلى إعلاله بعطاء هذا؛ لأنه كان قد اختلط، ولكن عند أبي داود من رواية شعبة عن عطاء، وقد سمع منه قبل الاختلاط.

وكذلك رواه أحمد عن شعبة، وعن سفيان أيضًا. وقد سمع منه قبل الاختلاط.

• وله شاهد من حديث عبد اللهِ بن بسر أخرجه ابن ماجه رقم (3275)، وأبو داود رقم (3773)، والبيهقي (7/ 283) وغيرهم وهو حديث صحيح.

(2)

البخاري رقم (5409)، ومسلم رقم (2064).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3763)، والترمذي رقم (2031).

ص: 134

شيئًا أكلَه وإن كَرِهَة تركَه. متفقٌ عليه)، فيه إخبارٌ بعدمِ عيبِه صلى الله عليه وسلم للطعامِ وذمِّه لهُ فلا يقولُ هوَ مالحٌ أو حامضٌ أو نحوَ ذلكَ. وحاصلُه أنهُ دلَّ على عدم عنايتِه صلى الله عليه وسلم بالأكلِ بلْ ما اشتهاهُ أكلَه وما لم يشتَهِهِ تركَه، وليسَ في تركِهِ ذلكَ دليل علَى أنهُ يحرمُ عيبُ الطعامِ.

‌النهي عن الأكل بالشمال

13/ 991 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَأكُلُوا بِالشِّمَالِ، فإنَّ الشَّيطَانَ يَأكُلُ بِالشِّمَالِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: لا تأكلُوا بالشمالِ فإنَّ الشيطانَ يأكلُ بالشمالِ، رواهُ مسلمٌ). تقدَّم أنهُ منْ أدلةِ تحريمِ الأكلِ بالشمالِ وإنْ ذهبَ الجماهيرُ إلى كراهتِه لا غيرُ. وقدْ وردَ في الشربِ كذلكَ أيضًا، وهوَ دليل على أن الشيطان يأكلُ أكلًا حقيقيًا.

‌آداب الشرب

14/ 992 - وَعَنْ أبي قَتَادَةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا شَرِبَ أحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وعنْ أبي قتادةَ رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: إذا شربَ أحدُّكم فلا يتنفسْ في الإناءِ. متفقٌ عليهِ). وقد أخرجَ الشيخانَ

(3)

منْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يتنفسُ في الشرابِ ثلاثًا، أي في أثناءِ الشرابِ لا أنهُ في إناءِ الشرابِ. ووردَ تعليلُ ذلكَ في روايةِ مسلمٍ

(4)

أنهُ أرْوَى، أي أقمعُ للعطشِ، وأبرأُ، أي أكثرُ بُرًا لما فِيهِ منَ

(1)

في "صحيحه" رقم (2019).

(2)

البخاري رقم (5630)، ومسلم رقم (121/ 267).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1889)، والنسائي (1/ 43 - 44).

(3)

البخاري رقم (5631)، ومسلم رقم (122/ 2028).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1884)، وأبو داود رقم (3727).

(4)

في "صحيحه" رقم (123/ 2028).

ص: 135

الهضْمِ ومنْ سلامتِهِ من التأثيرِ في بردِ المِعدَةِ، وأَمرأُ أي أكثرُ مراءةً لما فيهِ منَ السهولة، وقيلَ العلةُ خشيةَ تقذيرِه [على غيرهِ]

(1)

؛ لأنهُ قدْ يخرجُ شيءٌ منَ الفمِ فيتصلُ بالماءِ فيقذِّرُه على غيرِهِ.

15/ 993 - وَلأبِي دَاوُدَ

(2)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، نَحْوَهُ، وَزَادَ:"وَينْفُخْ فِيهِ"، وَصحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(3)

. [صحيح]

(ولأبي داودَ نحوَه عن ابن عباسٍ) أي مرفُوعًا (وزاد) على ما ذكرَ (وينفخُ فيهِ. وصحَّحه الترمذيُّ)، فيهِ دلالةٌ على تحريمِ النفخِ في الإناءِ. وأخرجَ الترمذيُّ

(4)

منْ حديثِ أبي سعيدٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن النفخِ في الشرابِ فقالَ رجلُ: القَذَاةُ في [الشرابِ]

(5)

فقالَ: "أهْرقْها"، قالَ: فإني لا أرْوَى منْ نَفَسٍ واحدٍ، قالَ:"فأبِنِ القدحَ عنْ فيكَ ثمَّ تنفسْ". وفي الشربِ ثلاثَ مراتٍ منْ حديثِ ابن عباسٍ

(6)

رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تشربُوا واحدًا - أي شُرْبًا واحدًا - كشربِ البعيرِ ولكنِ اشربُوا مثنَى وثُلاثَ، وسمُّوا إذا أنتُم شربتُم واحمدُوا إذا أنتُم رفعْتُم"، وأفادَ أن المرتينِ سنةٌ [أيضًا]

(7)

. نعمْ، وقدْ وردَ النَّهيُ عن الشربِ منْ فمِ السِّقاءِ فأخرجَ الشيخانِ

(8)

منْ حديثِ ابن عباسٍ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الشربِ منْ فيِّ السقاءِ. وأخرجَا

(9)

منْ حديثِ أبي سعيدٍ قالَ: "نَهَى

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في "السنن" رقم (3728).

(3)

في "السنن"(4/ 300 رقم 1888).

قلت: وأخرجه أحمد (1/ 220، 309، 357)، وابن ماجه رقم (3429) وهو حديث صحيح، انظر:"الإرواء" رقم (1977).

(4)

في "السنن" رقم (1887) وقال: حديث حسن صحيح وهو كما قال.

قلت: وأخرجه أحمد في "الفتح الرباني"(17/ 113 رقم 35).

(5)

في (ب): "الإناء".

(6)

أخرجه الترمذي رقم (1885) وقال: هذا حديث غريب، ويزيد بن سنان الجزري هو أبو فروهَ الرهاويُّ. وهو حديث ضعيف.

(7)

زيادة من (ب).

(8)

البخاري رقم (5629).

(9)

البخاري رقم (5625)، ومسلم رقم (111/ 2023).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3720)، والترمذي رقم (1890)، وابن ماجه رقم (3418).

ص: 136

رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن اختناثِ الأسقية". زادَ في روايةٍ

(1)

: واختناثُها أنْ يقلبَ رأسَها ثمَّ يشربَ منهُ. وقدْ عارضَه حديثُ كبشةَ قالتْ: دخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فشربَ منْ فيِّ قربةٍ مُعَلَّقةٍ قائمًا فقمتُ إلى فيها فقطعْتُهُ، أي أخذْتُه شفاءً نتبركُ بهِ ونستشفي بهِ. أخرجَهُ الترمذيُّ

(2)

وقالَ: حسنٌ غريبٌ صحيحٌ. وأخرجَه ابنُ ماجَهْ

(3)

. وجُمِعَ بَيْنهما بأنَّ النَّهْيَ إنَّما هوَ في السقاءِ الكبيرِ والقربةُ هي الصغيرةُ، أوْ أن النهيَ للتنزيهِ لئلَّا يتخذَّه الناسُ عادةً دونَ الندرةِ، وعلةُ النهي أنَّها قدْ تكونُ فيهِ دابةٌ فتخرجُ إلى فيِّ الشاربِ فيبتلعُها معَ الماءِ كما روي أنهُ شربَ رجلٌ منْ فيِّ السقاءِ فخرجتْ منهُ حيةٌ. وكذلكَ ثبتَ النَّهْيُ عن الشربِ قائِمًا، فأخرجَ مسلمٌ

(4)

منْ حديثِ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يشربنَّ أحدُكمَ قائمًا فمنْ نَسِيَ فلْيستقئْ" أي يتقيأْ، وفي روايةٍ

(5)

عنْ أنسٍ: زَجَرَ عن الشربِ قائمًا، قالَ قتادةُ: قلنا: "فالأكلُ قالَ: أشدُّ وأخبثُ".

ولكنه عارضَه ما أخرجَه مسلمٌ

(6)

منْ حديثِ ابن عبسٍ قالَ: سقيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منْ زمزَم فشربَ وهوَ قائمٌ. وفي لفظٍ

(7)

: أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شربَ منْ زمزمَ وهوَ قائمٌ، وفي "صحيح البخاريِّ"

(8)

أن عليًا رضي الله عنه شربَ قائمًا وقالَ: رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فعلَ كما رأيتموني، وجُمِعَ بينَهما بأنَّ النهيَ للتنزيهِ فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم بيانًا لجوازِ ذلكَ فهوَ واجبٌ في حقِّه صلى الله عليه وسلم التشريعِ وقدْ وقعَ منهُ صلى الله عليه وسلم مثلُ هذا في صورٍ كثيرةٍ. وأما التقيؤُ لمنْ شربَ قائمًا فإنهُ يستحبُّ للحديثِ الصحيحِ الواردِ بذلكَ، وظاهرُ حديثِ التقيؤ أنهُ يُسْتَحَبُّ مطلقًا لعامدٍ وناسٍ ونحوِهما.

وقالَ القاضي عياضُ: إنهُ مَنْ شربَ ناسيًا فلا خلافَ بينَ العلماءِ أنهُ ليسَ عليهِ أنْ يتقيأَ. نعم، ومنْ آدابِ الشربِ أنهُ إذا كانَ عندَ الشاربِ جلساءُ وأرادَ أنْ

(1)

لمسلم في "صحيحه" رقم (00/ 2023).

(2)

في "السنن" رقم (1892) وقال: حديث حسن صحيح غريب.

وأخرجه في "الشمائل" رقم (213)، وهو حديث صحيح.

(3)

في "السنن" رقم (3423).

(4)

في "صحيحه" رقم (116/ 2026).

(5)

في "صحيح مسلم" رقم (112/ 2024).

(6)

في "صحيحه" رقم (117/ 2027).

(7)

لمسلم في "صحيحه" رقم (118/ 2027).

(8)

رقم (5616).

ص: 137

يعممَ الجلساءَ بهِ أنْ يبدأ بِمَنْ عنْ يميِنه كما أخرجَ الشيخانِ

(1)

منْ حديثِ أنسٍ أنهُ أُعْطِيَ صلى الله عليه وسلم القدحَ فشربَ وعلى يسارِه أبو بكرٍ وعنْ يمينِه أعرابيٌّ فقالَ عمرُ: أعطِ أبا بكرٍ يا رسولَ اللَّهِ، فأعطَى الأعرابيَّ الذي عنْ يمينِه ثمَّ قالَ:"الأيمنُ فالأيمنُ".

وأخرجَا

(2)

منْ حديثِ سهلِ بن سعدٍ قالَ: أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بقدحٍ فشربَ منهُ وعنْ يمينِه غلامٌ أصغرُ القومِ هو عبدُ اللَّهِ بنُ عباسٍ والأشياخُ عنْ يسارِه فقالَ: "يا غلامُ أتأذنُ أنْ أعطيهُ الأشياخَ"؟ فقالَ: ما كنتُ لأوثرَ بفضلٍ منكَ أحدًا يا رسولَ اللَّهِ، فأعطاهُ إياهُ.

ومِنْ مكروهاتِ الشربِ أنْ لا تشربَ منْ ثُلمةِ القدحِ، لما أخرجَه أبو داودَ

(3)

منْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ: نَهَى رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الشربِ منْ ثلْمَةِ القدحِ.

* * *

(1)

البخاري رقم (5619)، ومسلم رقم (124/ 2029).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3726)، والترمذي رقم (1893)، وابن ماجه رقم (3425)، ومالك (2/ 926 رقم 17).

(2)

البخاري رقم (5620)، ومسلم رقم (127/ 2030).

(3)

في "السنن" رقم (3722)، وهو حديث صحيح.

ص: 138

[الباب السادس] باب القسم بين الزوجات

1/ 994 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ:"اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أمْلِكُ". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ

(1)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(2)

وَالْحَاكِمُ

(3)

، وَلكِنْ رَجّحَ الترْمِذِيُّ إِرْسَالَهُ. [ضعيف]

(1)

أبو داود رقم (2134)، والنسائي (7/ 64)، والترمذي رقم (1140)، وابن ماجه رقم (1971).

(2)

في "الموارد" رقم (1305).

(3)

في "المستدرك"(2/ 187). وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي لكن المحققين من الأئمة قد أعلُّوه:

فقال النسائي عقبه: "أرسله حماد بن زيد" اهـ.

وقال الترمذي: "هكذا رواه غير واحدٍ عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد اللهِ بن يزيد، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسِمُ. ورواه حماد بن زيد وغير واحدٍ عن أيوب، عن أبي قلابة، مرسلًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة" اهـ.

وأورده ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 425) من طريق حماد بن سلمة ثم قال: "فسمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا".

وأورده ابن أبي حاتم بقوله: "قلت: روى ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة. قال: كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه. الحديث مرسلًا" اهـ.

وقال الألباني في "الإرواء"(7/ 82): "قلت: وصله ابن أبي شيبة، فقد اتفق حماد بن زيد وإسماعيل بن علية على إرساله. وكل منهما أحفظ وأضبط من حماد بن سلمة، فروايتهما =

ص: 139

(عنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: كانَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقسم بينَ نسائِه فيعدل ويقول: اللهمَ هذا قَسْمي) بفتحِ القافِ (فيما أملك) وهوَ المبيتُ معَ كلِّ واحدةٍ في نَوْبَتِهَا (فلا تَلُمْني فيما تملكُ ولا أملكُ)، قالَ الترمذيُّ: يعني بهِ الحبَّ والمودةَ، (رواهُ الأربعة وصحَّحهُ ابن حبانَ والحاكمُ. ولكنْ رجَّحَ الترمذيُّ إرسالَه)، قالَ أبو زرعةَ

(1)

: لا أعلمُ أحدًا تابعَ حمادَ بنَ سلمةَ على وصْلِهِ، لكنْ صحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ

(2)

منْ طريقِ حمادِ بن سلمةَ عنْ أيوبَ السختيانيِّ عنْ أبي قلابةَ عنْ عبدِ اللَّهِ بن يزيدَ عنْ عائشةَ موصولًا. والذي رواهُ مرسلًا هوَ حمادُ بنُ يزيدَ عنْ أيوبَ عنْ أبي قلابةَ. قالَ الترمذيُّ

(3)

: المرسلُ أصحُّ. قلت: بعدَ تصحيحِ ابن حبانَ للوصلِ فقدْ تعاضدَ الموصولُ والمرسلُ، دلَّ الحديثُ على أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يقسِمُ بينَ نسائِه، وتقدَّمتِ الإشارةُ إلى أنهُ هلْ كانَ واجبًا عليهِ أمْ لا؟ قيلَ: وكانَ القَسْمُ عليهِ صلى الله عليه وسلم غيرَ واجبٍ لقولِه تعالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}

(4)

الآيةُ، قالَ بعضُ المفسرينَ إنهُ أباحَ اللَّهُ لهُ [ترك]

(5)

التسويةَ والقسْمَ بينَ أزواجِه حتَّى إنهُ ليؤخِّرَ مَنْ [يشاء]

(6)

عنْ نوبتِها ويطأُ منْ يشاءُ في غيرِ نوْبَتِها وأنَّ ذلكَ منْ خصائِصِهِ صلى الله عليه وسلم بناءَ على أن الضميرَ في منهنَّ للزوجاتِ، وإذا ثبتَ أنهُ لا يجبُ القسمُ عليهِ صلى الله عليه وسلم فإنهُ كانَ يقسمُ بينَهنَّ منْ حسنِ عشْرَتَهِ وكمالِ حُسْنِ خُلُقِهِ وتأليفِ قلوبِ نِسائِهِ صلى الله عليه وسلم.

والحديثُ يدلُّ على أن المحبةَ وميلَ القلبِ أمرٌ غيرُ مقدورٍ للعبدِ، بل هوَ من اللَّهِ تعالَى لا يملكُه العبدُ، ويدلُّ له قوله تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}

(7)

بعدَ قولِه: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}

(8)

، وبهِ فُسِّرَ:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}

(9)

.

= أرجح عند المخالفة، لا سيما إذا اجتمعا عليها، لكن الشطر الأول منه له طريق أخرى عن عائشة بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم

"، الحديث رقم (2020) وإن إسناده حسن".

وهو حديث ضعيف، والله أعلم.

(1)

في "العلل"(1/ 425).

(2)

رقم (1305 - الموارد).

(3)

في "السنن"(3/ 446).

(4)

سورة الأحزاب: الآية 51.

(5)

في (ب): "أن يترك".

(6)

في (ب): "شاء منهنَّ".

(7)

سورة الأنفال: الآية 63.

(8)

سورة الأنفال: الآية 63.

(9)

سورة الأنفال: الآية 24.

ص: 140

‌تحريم الميل إلى إحدى الزوجتين

2/ 995 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

وَالأَرْبَعَةُ

(2)

، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: منْ كانتْ لهُ امرأتانِ فمالَ إلى إحداهُما - دونَ الأُخْرى

(3)

- جاءَ يومَ القيامةِ وشِقهُ مائلٌ. رواهُ أحمدُ والأربعةُ وسندُه صحيحٌ). الحديثُ دليلٌ على أنهُ يجبُ على الزوجِ التَّسويةُ بينَ الزوجاتِ ويحرمُ عليهِ الميلُ إلى إحداهنَّ. وقدْ قالَ تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}

(4)

، والمرادُ الميلُ في القَسْمِ والإنفاقِ لا في المحبةِ لما عرفتَ منْ أنَّها مما لا يملكُه العبدُ.

ومفهومُ قولِه: "كلَّ الميلِ" جوازُ الميلِ اليسيرِ ولكنَّ إطلاقَ الحديثِ ينفي ذلكَ، ويحتملُ تقييدُ الحديثِ بمفهومِ الآيةِ.

‌للزوج البكر سبعة أيام وللثيب ثلاثة

3/ 996 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُمَّ قَسَمَ، وَإذَا تَزَوّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. [صحيح]

(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه قالَ: منَ السنةِ إذا تزوَجَ الرجلُ البكرَ على الثيِّبَ أقامَ عندَها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قَسَمَ. متفقٌ عليهِ واللفظُ للبخاريِّ). يريدُ منْ سنةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلهُ حكمُ الرفعِ. ولِذَا قالَ أبو قلابةَ راوْيهِ عنْ أنسٍ: ولوْ شئتُ لقلتُ إنَّ أَنَسًا رفعَه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يريدُ فيكونُ راوْيهِ بالمعنَى، إذْ

(1)

في "المسند"(2/ 347، 471).

(2)

أبو داود: (2132)، والنسائي (7/ 63)، والترمذي (1141)، وابن ماجه (1969).

قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 143)، وابن حبان (1307 - موارد)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 186)، وهو حديث صحيح. انظر:"الإرواء الغليل"(7/ 80 رقم 2017).

(3)

أبو داود (2133).

(4)

سورة النساء: الآية 129.

(5)

البخاري رقم: (5214)، ومسلم (1461).

ص: 141

معنَى منَ السنةِ هوَ الرفعُ إلا أنهُ رأى المحافظةَ على قولِ أنسٍ أوْلَى، وذلكَ لأنَّ كونَه مرفوعًا إنما هوَ بطريقٍ اجتهاديٍّ محتَمَلٍ والرفعُ نصٌّ، وليسَ للراوي أنْ ينقلَ ما هوَ محتمَلٌ إلى ما هوَ نصٌّ غيرُ مُحْتَمَلٍ. كذَا قالَهُ ابنُ دقيقِ العيدِ

(1)

. وبالجملةِ إنَّهم لا يعنونَ بالسنةِ إلا سنةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقدْ قالَ سالمٌ: وهلْ يعنونَ - يريدُ الصحابةَ - بذلكَ إلا سنةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والحديثُ قد أخْرَجَهُ أئمةٌ منَ المحدِّثينَ عنْ أنسٍ مرفُوعًا منْ طُرُقٍ مختلفةِ عنْ أبي قلابةَ، والحديثُ دليلٌ على إيثارِ الجديدةِ لمنْ كانتْ عندَه زوجةٌ. وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(2)

: جمهورُ العلماءِ على أن ذلكَ حقٌّ للمرأةِ بسببِ الزفافِ سواءٌ كانتْ عندَه زوجةٌ أمْ لا واختارهُ النوويُّ

(3)

، لكنَّ الحديثَ دلَّ على أنهُ فيمنْ كانتْ عندَه زوجةٌ. وقدْ ذهبَ إلى التفرقةِ بينَ البكرِ والثِّيبِ بما ذكرَ الجمهورُ فظاهرُ الحديثِ أنهُ واجبٌ، وأنهُ حق للزوجةِ الجديدةِ وفي الكل خلافٌ لم يقمْ عليهِ دليل يقاومُ الأحاديثَ، والمرادُ بالإيثارِ في البقاءِ عندَها ما كان متعارَفًا حالَ الخطابِ، والظاهرُ أن الإيثارَ يكونُ بالمبيتِ والقيلولة لا استغراقَ ساعاتِ الليلِ والنهار عندَها كما قالَه جماعةٌ، حتَّى قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ إنهُ أفرطَ بعضُ الفقهاءِ حتَّى جعلَ مُقَامَهُ عندَها عُذْرًا في إسقاطِ الجمعةِ. وتجبُ الموالاةُ في السبعِ والثلاثِ، فلوْ فرَّقَ وجبَ الاستئنافُ ولا فَرْقَ بينَ الحرةِ والأمَةِ، فلو تزوَّجَ أُخْرَى في مدةِ السبعِ أو الثلاثِ، فالظاهرُ أنهُ يتمُّ ذلكَ لأنهُ قدْ صارَ مستَحَقًا لها.

4/ 997 - وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوّجَهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ:"إنهُ لَيسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانْ، إنْ شِئْتِ سَبعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبّعْتُ لِنِسَائي"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

. [صحيح]

(وعنْ أمِّ سلمةَ رضي الله عنها أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما تزوَّجَها أقَامَ عندَها ثلاثًا وقالَ: إنهُ ليسَ بكَ على أهْلِكِ) يريدُ نفسَه (هوانٌ، إنْ شئتِ سبَّعْتُ لكِ) أي أتممتُ عندكِ سبعًا (وإنْ سَبَّعْتُ لكِ سَبَّعْتُ لنسائي. رواهُ مسلمٌ) وزاد في روايةٍ

(5)

: "إن شئتِ ثلثتُ ثم درتُ، قالت: ثلِّث"، وفي رواية

(6)

: "دخلَ عليها فلمَّا أرادَ أنْ يخرجَ أخذتْ

(1)

في "إحكام الأحكام"(4/ 41).

(2)

في "الاستذكار"(16/ 141).

(3)

في "شرح صحيح مسلم" رقم (10/ 45).

(4)

في "صحيحه" رقم (1460).

(5)

في "صحيح مسلم" رقم (42/ 1460).

(6)

في "صحيح مسلم" رقم (000/ 1460).

ص: 142

بثوبِه، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنْ شئتِ زدتُ لكِ وحاسبْتُكِ للبكرِ سبعٌ وللثيبِ ثلاث.

دلَّ ما تقدَّمَ على استحقاقِ البكرِ والثيبِ ما ذُكِرَ منَ العددِ، ودلَّتِ الأحاديثُ على أنهُ إذا تعدَّى الزوْجُ المدةَ المقدرةَ برضا المرأةِ سَقَطَ حَقها منَ الإيثارِ ووجبَ عليهِ القضاءُ لذلك، وأما إذا كانَ بغيرِ رِضَاها فحقها ثابتٌ وهوَ مفهومُ قولِه صلى الله عليه وسلم:"إن شئتِ"، ومعنَى قولِه:"ليسَ بك على أهلِكِ" هوَ أنهُ لا يلحقَكَ منَّا هوانٌ ولا نضيعُ مما تستحقيْنَهُ شيئًا بل تأخذِيْنَهُ كاملًا. ثم أعْلَمَهَا بأن إليها الاختيارَ بينَ ثلاثٍ بلا قضاءٍ وبينَ سبعٍ ويقضي نساءَه، وفيهِ حسنُ ملاطفةِ الأهلِ وإبانةُ ما يجبُ لهمْ وما لا يجبُ والتخييرُ لهم فيما هوَ لهمْ.

‌جاز تنازل المرأة عن نوبتها

5/ 998 - وَعَنْ عَائِشَةَ أَن سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيوْمَ سَوْدَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

‌ترجمة سودة بنت زمعة

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أن سودَة بنتَ زمعةَ)

(2)

بفتح الزاي والميمِ وعينٍ مهملةٍ وكانَ صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ سودةَ بمكةَ بعدَ موتِ خديجةَ رضي الله عنها وتوفيتْ بالمدينةِ سنةَ أربعٍ وخمسينَ (وهبتْ يومَها لعائشةَ وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقسمُ لعائشةَ يومَها ويومَ سودَة. متفقٌ عليهِ)، زادَ البخاري: وليلتَها، وزادَ أيضًا في آخرِه: تبتغي بذلكَ رِضَا رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وأخرجَه أبو داوَد

(3)

وذكرَ فيهِ سببَ الهبةِ بسندٍ رجالُه رجالُ مسلمٍ أنَّ سودةَ حينَ أسنَّتْ وخافتْ أن يفارقَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالتْ: يا رسولَ اللَّهِ يومي لعائشةَ، فقبلَ منها ذلكَ، ففيها وأشباهِها نزلتْ:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}

(4)

الآية. وأخرجَ ابنُ سعدٍ

(5)

برجالٍ ثقاتٍ منْ روايةِ القاسمِ بن

(1)

البخاري رقم (5212)، ومسلم رقم (1463).

(2)

انظر ترجمتها في: "أسد الغابة" رقم (7035)، و"الاستيعاب"(3441)، و"الإصابة" رقم (11363)، و"طبقات ابن سعد"(8/ 52).

(3)

في "السنن" رقم (2135).

(4)

سورة النساء: الآية 128.

(5)

في "طبقاته"(8/ 54) برجالٍ ثقات.

ص: 143

أبي بزةَ مرسلًا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم طلَّقَها، يعني سودةَ، فقعدتْ على طريقِهِ وقالتْ: والذي بَعَثَكَ بالحقِّ ما لي في الرجالِ حاجةٌ ولكنْ أحبُّ أنْ أُبْعَثَ مَع نسائِكَ يومَ القيامةِ، فأنشدُكَ بالذي أنزلَ عليكَ الكتابَ هل طلَّقْتَني لموجدة وجدتَها عليَّ؟ قالَ: لا، قالتْ: فأنشدكَ اللَّهَ لما راجعْتَنِي فراجَعَها، قالتْ: فإني جعلتُ يومي لعائشةَ حبَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وفي الحديثِ دليلٌ على جوازِ هبةِ المرأةِ نوبتَها لضُرَّتِها ويعتبرُ رِضَا الزوجِ؛ لأنَّ لهُ حقًّا في الزوجةِ فليسَ لها أن تسقطَ حقَّهُ إلَّا برضاهُ.

واختلفَ الفقهاءُ إذا وهبتْ نوبتَها للزوجِ فقالَ الأكثرُ: تصحُّ وَيخصُّ بها الزوجُ مَنْ أرادَ وهذا هوَ الظاهرُ. وقيلَ: ليسَ لهُ ذلكَ بلْ تصيرُ كالمعدومةِ، وقيلَ: إنْ قالتْ له خُصَّ بها مَنْ شئتَ جازَ لا إذا أطلقتْ له، قالُوا: ويصحُّ الرجوعُ للمرأةِ فيما وهبتْ منْ نوبتِها؛ لأنَّ الحقَّ يتجدَّدُ.

‌يجوز للرجل الدخول على من لم يكن يومها من نسائه

6/ 999 - وَعَنْ عُرْوَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يُفَضِّل بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مَكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُوَ مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتى يَبْلُغَ الَّتي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيتُ عِنْدَهَا، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

وَأَبُوا دَاوُدَ

(2)

وَاللَّفْظُ لَهُ. وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ عروةَ قالَ: قالتْ عائشةُ: يا ابنَ أختي كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يفضِّلُ بعضَنا على بعضٍ في القَسْمِ من مكْثِهِ عندَنا وكان قلَّ يومٌ إلَّا وهوَ يطوف علينا جميعًا فيدنُوَ منْ كلِّ امرأة منْ غيرِ مسيسٍ)، وفي روايةٍ

(4)

: بغيرِ وِقَاعٍ، فهوَ المرادُ هنا، (حتَّى يبلغَ التي هوَ يومُها فيبيتُ عندَها، رواهُ أحمدُ وأبو داودَ واللفظُ له،

(1)

في "المسند"(16/ 238 رقم 283 - الفتح الرباني).

(2)

في "السنن" رقم (2135).

(3)

في "المستدرك"(2/ 186) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وهو حديث صحيح، انظر: الصحيحة رقم (1479).

(4)

أخرجها أبو داود رقم (2135)، والبيهقي (1/ 123) من حديث عائشة بإسناد حسن.

ص: 144

وصحَّحَه الحاكم) فيهِ دليلٌ على أنهُ يجوزُ للرجلِ الدخولُ على مَنْ لم يكنُ في يومِها منْ نسائِه والتأنيسُ لها واللمسُ والتقبيلُ، وفيه بيانُ حسنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم وأنهُ كانَ خيرَ الناسِ لأهلِه، وفي هذِه ردٌّ لما قالَه ابنُ العربي. وقدْ أشرنا إليهِ سابقًا

(1)

أنهُ كانَ له صلى الله عليه وسلم ساعةٌ منَ النهارِ لا يجبُ عليهِ القَسْمُ فيها وهي بعدَ العصرِ، قالَ المصنفُ رحمه الله: لم أجدْ لما قالَه دليلًا.

وقدْ عيَّنَ الساعةَ التي كانَ يدورُ فيها الحديثُ الآتي وهو قولُه:

7/ 1000 - ولمُسْلِمٍ

(2)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دارَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يَدْنُو مِنْهُنَّ. الْحَدِيثَ. [صحيح]

(ولمسلمٍ عنْ عائشةَ كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى العصرَ دارَ على نسائِه ثمَّ يدنُو منهنَّ، الحديث) أي دنُوَّ لمسٍ وتقبيلٍ منْ دونِ وِقَاعٍ كما عرفتَ.

8/ 1001 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "أَيْنَ أَنا غَدًا؟ " يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يسألُ في مرضِه الذي ماتَ فيهِ أينَ أنا غدًا يريدُ يومَ عائشةَ، فأذنَ له أزواجُه يكون حيث [يشاء]

(4)

فكانَ في بيتِ عائشةِ. متفقٌ عليهِ). وفي روايةٍ: وكانَ أولَ ما بُدئَ بهِ منْ مرضِهِ في بيتِ ميمونَةَ، أخرجَها البخاريُّ في آخرِ كتابِ المغازي. وقولُه: فأذنَ له أزواجُه، وقعَ عندَ أحمدَ

(5)

عنْ عائشةَ أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: إني لا أستطيعُ أنْ أدورَ بيوتَكنَّ فإنْ شئتنّ أذنتنَّ لي فَأَذِنَّ لهُ، ووقعَ عندَ ابن سعدٍ

(6)

بإسنادٍ صحيحٍ عن الزهريِّ أن فاطمةَ رضي الله عنها هيَ التي خاطبتْ أمهاتِ المؤمنينَ وقالتْ: إنهُ يشقُّ عليه الاختلافُ، ويمكنُ أنهُ

(1)

في "شرح الحديث" رقم (14/ 967) من كتابنا هذا.

(2)

لم أعثر عليه عند مسلم. بل أخرجه البخاري رقم (5216) عنها.

(3)

البخاري رقم (5217)، ومسلم رقم (2443).

(4)

في (ب): "شاء".

(5)

في "الفتح الرباني"(21/ 226 رقم 477).

(6)

في "طبقاته"(2/ 231 - 232) بإسناد صحيح.

ص: 145

استأذنَ صلى الله عليه وسلم واستأذنتْ له فاطمةُ رضي الله عنها فيجتمعُ الحديثانِ. ووقعَ في روايةٍ أنهُ دخلَ بيتَ عائشةَ يومَ الاثنينِ وماتَ يومَ الاثنينِ الذي يليهِ. والحديثُ دليلٌ على أن المرأةَ إذا أذنتْ كانَ مسقطًا لحقِّها منَ النوبةِ وأنها لا تكفي القرعةُ إذا مرضَ كما تكفي إذا سافرَ كما دلَّ لهُ قولُه:

‌إقراع المسافر بين نسائه

9/ 1002 - وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيّتُهُنَ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنْها) أي عائشةَ (قالتْ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ سفرًا أَقْرَعَ بينَ نسائِه فَأيَّتُهُنَّ خَرَجَ سهمُها خرجَ بها معَهُ. متفقٌ عليهِ). وأخرجَهُ ابنُ سعدٍ وزادَ فيهِ عنْها فكانَ إذا خرجَ سهمُ غيري عُرِفَ فيهِ [الكراهة]

(2)

. دلَّ الحديثُ على القرعةِ بينَ الزوجاتِ لمن أرادَ سفرًا وأرادَ إخراجَ إحداهنَ معهُ، وهذا فعلٌ لا يدلُّ على الوجوبِ، وذهبَ الشافعي إلى وجوبِهِ وذهبتِ الهادويةُ إلى أن له السفرَ بمنْ شاءَ وأنها لا تلزمُه القرعة، قالُوا: لأنهُ لا يجبُ عليهِ القَسْمُ في السفرِ وفعلُه صلى الله عليه وسلم إنَّما كانَ منْ مكارِمِ أخلاقِهِ ولطفِ شمائِله وحسنِ معاملتِه؛ فإنْ سافرَ بزوجةٍ فلا يجبُ القضاءُ لغيرِ مَنْ سافرَ بها. وقالَ [أبو حنيفةَ:]

(3)

يجبُ القضاءُ سواءً كانَ سفرُه بقرعةٍ أو بغيرِها. وقالَ الشافعي إنْ كانَ بقرعةٍ لم يجبِ القضاءُ، وإنْ كانَ بغيرِها وجبَ عليهِ القضاءُ ولا دليلَ على الوجوبِ مطلقًا ولا مفصلًا. والاستدلالُ بأنَّ القَسْمَ واجبٌ وأنهُ لا يسقطُ الواجبُ بالسفرِ، جوابُه أن السفرَ أسقطَ هذا الواجبَ بدليلِ أن له أنْ يسافرَ ولا يخرجَ منهن أحدًا فإنهُ لا يجبُ عليهِ بعدَ عَوْدِةِ قضاءُ أيامِ سفرِه لهنَّ اتفاقًا، والإقراعُ لا يدلُّ الحديثُ على وجوبهِ لما عرفتَ أنهُ فعلٌ وفي الحديثِ دليلٌ على اعتبارِ القرعةِ بينَ الشركاءِ ونحوِهم. والمشهورُ عن المالكيةِ والحنفية عدمُ اعتبارِ القرعةِ. قالَ القاضي عياضُ: هو مشهورٌ عنْ مالكٍ وأصحابِهِ

(1)

البخاري رقم (2593)، ومسلم رقم (2770).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2138)، وابن ماجه رقم (1970).

(2)

في (ب): "الكراهية".

(3)

زيادة من (ب).

ص: 146

لأنهُ من بابِ الخطرِ والقمارِ وحُكِيَ عن الحنفيةِ إجازتُها. اهـ.

واحتجَّ منْ مَنْعَ منَ القرعةِ بأنَّ بعضَ النساءِ قدْ تكونُ أنفعَ في السفرِ منْ غيرِها، فلوْ خرجتِ القرعةُ للتي لا نفعَ فيها في السفرِ لأضرَّ بحالِ الزوجِ، وكَذَا قدْ يكونُ بعضُ النساءِ أقومَ برعايةِ مصالحِ بيتِ الرجلِ في الحضرِ، فلوْ خرجتِ القرعةُ عليها بالسفرِ لأضرَّ بحال الزوج مِنْ رعايةِ مصالحِ بيتِ الرجلِ. وقالَ القرطبي: تختصُّ مشروعيةُ القرعةِ بما إذا اتفقتْ أحوالُهُنَّ لئلَّا يخصُّ واحدةً فيكونُ ترجيحًا بلا مرجِّحٍ، قيلَ: هذا تخصيصٌ لعمومِ الحديثِ بالمعنَى الذي شُرِعَ لأجلِه الحكمُ، والجرْيُ على ظاهِرِهِ كما ذهبَ إليهِ الشافعي أقْوَمُ.

‌النهي عن جلد المرأة

10/ 1003 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمْ امْرَأتهُ جَلْدَ الْعَبْدِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

‌ترجمة عبد الله بن زمعة

(وعنْ عبدِ اللَّهِ بن زَمْعَةَ

(2)

رضي الله عنه هوَ ابنُ الأسودِ بن عبدِ المطلبِ بن أسدٍ بن عبدِ العزَّى صحابيٌّ مشهورٌ وليسَ لهُ في البخاريِّ سِوى هذا الحديثِ وعدادُه في أهلِ المدينةِ، (قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَجْلِد أحدُكم امرأتَه جَلْدَ العبدِ) بالنصبِ على المصدريةِ (رواهُ البخاريُّ) وتمامُه فيهِ: "ثمَّ يجامعُها"، وفي روايةٍ

(3)

: ولعلَّه أنْ يضاجعَها. وفي الحديثِ دليل على جوازِ ضَرْبِ المرأةِ ضربًا خفيفًا لقولِه جلدَ

(1)

في "صحيحه" رقم (5204).

قلت: وأخرجه مسلم رقم (2855)، وابن ماجه رقم (1983)، والبيهقي (7/ 305)، وأحمد (4/ 17)، والدارمي (2/ 147)، والترمذي رقم (3343)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (4190)، والبغوي رقم (2342 و 2343)، والنسائي في "عشرة النساء" رقم (284).

(2)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (4702)، و"أسد الغابة" رقم (2951)، و"الاستيعاب" رقم (1555).

(3)

أخرجها البخاري رقم (4942).

ص: 147

العبدِ، ولقولِه في روايةِ أبي داودَ

(1)

: "ولا تضربْ ظعينتَكَ ضربَكَ أَمَتَكَ"، وفي لفظِ للنسائيِّ

(2)

: "كما تضربُ العبدَ أوِ الأمةَ"، وفي روايةِ للبخاريِّ

(3)

: "ضَرْبَ الفحلِ أو العبدِ"، فإنَّها دالةٌ على جوازِ الضربِ إلَّا أنهُ لا يبلغُ ضربَ الحيواناتِ والمماليكِ.

وقدْ قالَ تعالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}

(4)

ودلَّ على جوازِ ضربِ غيرِ الزوجاتِ فيما ذكرَ ضربًا شديدًا.

وقولُه: ثمَّ يجامعُها، دالٌ على أن علةَ النَّهْي أن ذلكَ لا يستحسنُه العقلاءُ في مجرى العاداتِ؛ لأنَّ الجماعَ والمضاجعةَ إنما تليقُ مَع ميلِ النفسِ والرغبةِ في العشرةِ والمجلودُ غالبًا ينفرُ عمَّن جَلَدَهُ بخلافِ التأديبِ المستحسَنِ فإنهُ لا ينفرُ الطباعَ، ولا ريبَ أن عدمَ الضربِ والاغتفارَ والسماحةَ أشرفُ منْ ذلكَ كما هوَ أخلاقُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وقدْ أخرجَ النسائيُّ

(5)

منْ حديثِ عائشةَ: ما ضربَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امرأةً لهُ ولا خادمًا قط، ولا ضربَ بيدِه قط إلا في سبيلِ اللَّهِ، أو تُنْتَهَكُ محارمُ اللَّهِ فينتقمُ للَّهِ تعالى.

* * *

(1)

في "السنن" رقم (4786) ولفظه: "ما ضرب رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خادمًا ولا امرأة قط".

(2)

في "عشرة النساء" رقم (284).

(3)

في "صحيحه" رقم (6042).

(4)

سورة النساء: الآية 34.

(5)

في "عشرة النساء" رقم (281).

قلت: وأخرجه مسلم رقم (77/ 2327)، والترمذي في "الشمائل" رقم (349)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (17942)، والطبراني في "الكبير"(2/ 78 - 79 رقم 841) وغيرهم، وهو حديث صحيح.

ص: 148

[الباب السابع] باب الخُلْع

بضمِّ المعجمةِ وسكونِ اللامِ، هوَ فراقُ الزوجةِ على مالٍ، مأخوذٌ منْ خَلَعَ الثوبَ؛ لأنَّ المرأةَ لباسُ الرجلِ مجازًا. وضم المصدرِ تفرقةٌ بينَ المعنَى الحقيقيِّ والمجازيِّ، والأصلُ فيهِ قولُه تعالَى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(1)

.

‌الخُلع ورد ما أخذت الزوجة

1/ 1004 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ في خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ في الإِسْلَامِ، فَقَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ"؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

، وفي روَايَةٍ لَهُ

(3)

: وَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا. [صحيح]

- وَلأَبِي دَاوُدَ

(4)

وَالتِّرْمِذِي

(5)

، وَحَسّنَهُ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجعَلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عِدَّتَهَا حَيْضَةً. [صحيح]

(1)

سورة البقرة: الآية 229.

(2)

في "صحيحه" رقم (5273).

قلت: وأخرجه النسائي (6/ 169)، وابن ماجه رقم (2056).

(3)

أي للبخاري في "صحيحه" رقم (5274).

(4)

في "السنن" رقم (2229).

(5)

في "السنن" رقم (1185) مكرر.

ص: 149

(عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن امرأةَ ثابتِ بن قيسٍ) سمَّاها البخاريُّ جميلةً، ذكرهُ

(1)

عنْ عكرمةَ مرسلًا وأخرجَ البيهقي

(2)

مرسلًا أن اسمَها زينبُ بنتُ عبدِ اللَّهِ بن أُبيِّ بن سلولٍ، وقيلَ غيرُ ذلكَ، (أتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ ثابت بن قيسٍ

(3)

هوَ خزرجيٌّ أنصاريٌّ شهدَ أُحُدًا وما بعدَها وهوَ منْ أعيانِ الصحابةِ، كانَ خطيبًا للأنصارِ ولرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شهدَ لهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالجنةِ (ما أعيبُ) رُوِيَ بالمثناةِ الفوقيةِ مضمومةً ومكسورةً منَ العتْبِ وبالمثناةِ التحتيةِ ساكنةً من العيْبِ وهوَ أوفقُ بالمرادِ (عليهِ في خُلُقٍ) بضمِّ الخاءِ المعجمةِ وضمّ اللامِ ويجوزُ سكونُها، (ولا دينٍ، ولكنِّي أكرهُ الكفرَ في الإسلامِ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أتردِّينَ عليهِ حديقتَه، فقالتْ: نعمْ، فقالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقبلِ الحديقةَ وطلِّقْها تطليقةً. رواة البخاريُّ، وفي روايةٍ لهُ:[فأمره]

(4)

بطلاقِها. ولأبي داودَ والترمذيِّ) أي منْ حديثِ ابن عباسٍ (وحسَّنَه: أن امرأةَ ثابتِ بن قيسٍ اختلعتْ منة فجعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عدَّتَها حيضةً). قولُها: أكرهُ الكفرَ في الإسلامِ، أي أكرهُ منَ الإقامةِ عندَه أنْ أقَعَ فيما يقتضي الكفرَ، والمرادُ ما يضادُّ الإسلامَ منَ النشوزِ وبغضِ الزوجِ وغيرِ ذلكَ، أطلقتْ على ما ينافي خُلُقُ الإسلامِ الكفرَ مبالغةً، ويحتملُ غيرُ ذلكَ. وقولُه:"حديقتُه" أي بستانَه، ففي الروايةِ أنهُ كانَ تزوَّجَها على حديقةِ نَخْلٍ. الحديثُ فيهِ دليلٌ على شرعيةِ الخُلْعِ وصِحَّتهِ وأنهُ يحلُّ أَخْذُ العِوَضِ منَ المرأةِ، واختلفَ العلماءُ هلْ يُشْتَرَطُ في صحتهِ أنْ تكونَ المرأةُ ناشزةً أمْ لا؟ فذهبَ إلى الأولِ الهادي والظاهريةُ

(5)

، واختارهُ ابنُ المنذرِ

(1)

أي البخاري في "صحيحه" رقم (5277) عن عكرمة مرسلًا.

(2)

في "السنن الكبرى"(7/ 313).

(3)

انظر ترجمته في الإصابة رقم (906)، و"طبقات ابن سعد"(5/ 206)، و"التاريخ الكبير"(2/ 167)، و"أسد الغابة" رقم (569)، و"الاستيعاب" رقم (253)، و"تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 139 - 140).

(4)

في (ب): "وأمره".

(5)

اختلف الفقهاء في الخُلْع إذا وقع هل هو طلاق أو فسخ؟ إلى مذهبين:

الأول: ذهب الإمام داود الظاهري، ورواية عن الإمام أحمد، وأحد قولي الشافعي، وإسحاق، وطاوس وعكرمة وأبو ثور، وابن المنذر إلى أنه فسخ لا طلاق.

ثانيًا: وذهب الحنفية والإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، وأحد قولي الشافعي والحسن البصري وشريح وعطاء، ومجاهد والزهري، والنخعي والشعبي والثوري إلى أنه طلاق. =

ص: 150

مستدلِّينَ بقِصةِ ثابتٍ هذهِ فإنَّ طلبَ الطلاقِ نشوزٌ، [ولقوله]

(1)

تعالَى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}

(2)

، وقولهِ:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}

(3)

.

وذهبَ أبو حنيفةَ والشافعي والمؤيدُ وأكثرُ أهلِ العلمِ إلى الثاني وقالُوا: يصحُّ الخلعُ معَ التراضي بينَ الزوجينِ وإنْ كان الحالُ مستقيمةً بينَهمَا ويحلُّ العِوَضُ لقولِه تعالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسً}

(4)

الآيةَ ولم يفرق، ولحديثِ:"إلا بطيبةٍ منْ نفسهِ"

(5)

، وقالُوا: إنهُ ليسَ في حديثِ ثابتٍ هذَا دليلٌ علَى الاشتراطِ، والآيةُ يحتملُ أن الخوفَ فيها وهوَ الظنُّ والحسبانُ يكونُ في المستقبلِ فيدلُّ على جوازهِ وإنْ كانَ الحالُ مستقيمًا بينَهما وهما مقيمانِ لحدودِ اللهِ [تعالى]

(6)

في الحالِ، ويحتملُ أنْ يرادَ أنْ يَعْلَمَا ألَّا يقيما حدودَ اللهِ ولا يكونُ العلمُ إلا لِتَحَقُّقِهِ في الحالِ، كذَا قيلَ، وقدْ يقالُ إنَّ العلمَ لا ينافي أنْ يكونَ النشوزُ مستقبلًا، والمرادُ إني أعلمُ في الحالِ أني لا أحتملُ معهُ إقامةَ حدودِ اللَّهِ في الاستقبالِ وحينئذٍ فلا دليلَ على اشتراطِ النشوزِ في الآيةِ على التقديرينِ.

= انظر: "بداية المجتهد"(3/ 135) بتحقيقنا. و"نهاية المحتاج"(6/ 405)، و"مغني المحتاج"(3/ 268)، و"الإنصاف للمرداوي"(8/ 394)، و"آيات الأحكام" لابن العربي (1/ 195).

(1)

في "ب": "وبقوله".

(2)

سورة البقرة: الآية 229.

(3)

سورة النساء: الآية 19.

(4)

سورة النساء: الآية 4.

(5)

• أخرجه الدارقطني (3/ 26 رقم 91) من حديث أنس. وفيه: الحارث بن محمد الفهري مجهول. "التلخيص الحبير"(3/ 46).

• وأخرَّجه الدارقطني (3/ 25 رقم 88) أيضًا من حديث أنس. وفيه: داود بن الزبرقان وهو متروك الحديث. "التلخيص الحبير"(3/ 46).

• وأخرجه أحمد في "المسند"(5/ 72 - 73) مطولًا، والدارقطني (3/ 26 رقم 92) من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه. وفيه: علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف. "التلخيص الحبير"(3/ 46).

وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 265 - 266) وقال: "رواه أحمد، وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود، وضعفه ابن معين، وفيه علي بن زيد وفيه كلام، اهـ.

• وأخرجه البيهقي (6/ 100)، وابن حبان (رقم: 1166 - موارد) عن أبي حميد الساعدي، وقد صحَّح الحديث الألباني في "الإرواء" رقم (1459).

(6)

زيادة من (أ).

ص: 151

ودلَّ الحديثُ على أنهُ يأخذُ الزوجُ منها ما أعطاها منْ غيرِ زيادةٍ واختُلفَ هل تجوزُ الزيادةُ أمْ لا؛ فذهبَ الشافعيُّ ومالكٌ إلى أنَّها تحلُّ الزيادةُ إذا كانَ النشوزُ منَ المرأةِ، قالَ مالكٌ: لمْ أزلْ أسمعُ أن الفديةَ تجوزُ بالصَّداقِ وبأكثرَ منهُ لقولِه تعالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(1)

.

قال ابنُ بطال: ذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ يجوزُ للرجلِ أنْ يأخذَ في الخلْعِ أكثرَ مما أعْطَاها، وقال مالكٌ: لم أرَ أحدًا ممن يُقْتَدَ بهِ منعَ [من]

(2)

ذلكَ لكنهُ ليسَ منْ مكارمِ الأخلاقِ، وأما الروايةُ التي فيها أنهُ قالَ [المصنف]

(3)

: "أما الزيادةُ فلا" فلم يثبتْ رفعُها. وذهبَ عطاءُ وطاووسُ وأحمدُ وإسحاقُ والهادويةُ وآخرونَ إلى أنَّها لا تجوزُ الزيادةُ لحديثِ البابِ، ولما وردَ منْ روايةٍ: أما الزيادةُ فلا؛ فإنهُ قدْ أخرجَها في آخرِ حديثِ الباب البيهقي

(4)

وابنُ ماجهْ عن ابن جريج عنْ عطاءٍ مرسلًا، ومثلُه عندَ الدارقطنيِّ

(5)

وأنَّها قالتْ: "لما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أتردِّينَ عليهِ حديقتَه قالتْ: وزيادةً، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أما الزيادةُ فلا" الحديثَ، ورجالُه ثقاتٌ إلا أنهُ مرسلٌ. وأجابَ منْ قالَ بجوازِ الزيادةِ بأنه لا دلالةَ في حديثِ البابِ على الزيادةِ نَفْيًا ولا إِثبَاتًا، وحديثُ: "أما الزيادةُ فلا" قدْ تقدَّم الجوابُ عنهُ مع أنهُ مرسلٌ وعلى أنه إنْ ثبتَ رفعُها فلعلَّه خرجَ مَخْرَجَ المشورةِ عَلَيْها والرأيِ، وأنهُ لا يلزمُها، لا أنهُ خرجَ مَخْرَجَ الإخبارِ عنْ تحريْمِهَا على الزوجِ.

وأما أمرُهُ صلى الله عليه وسلم بتطليقِهِ لها فإنهُ أمرُ إرشادٍ لا إيجابٍ كَذَا قيلَ، والظاهرُ بقاؤُه على أصْلِهِ منَ الإيجابِ، ويدلُّ لهُ قولُه تعالَى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(6)

فإنَّ المرادَ يجبُ عليهِ أحدُ الأمْرينِ وهُنَا قدْ تعذَّر الإمساكُ بمعروفٍ لِطَلَبِها للفراقِ فيتعينُ عليهِ التسريحُ بإحسانٍ. ثمَّ الظاهرُ أنهُ يقعُ الخلعُ بلفظِ الطلاقِ وأنَّ المواطأَةَ علَى ردِّ المهرِ لأجلِ الطلاقِ يصيرُ [لها]

(7)

الطلاقُ خُلْعًا. واختلفُوا إذا كانَ بلفظِ الخلعِ فذهبتِ الهادويةُ وجمهورُ العلماءِ إلى أنهُ طلاقٌ

(1)

سورة البقرة: الآية 29.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (ب): " صلى الله عليه وسلم".

(4)

في "السنن الكبرى"(7/ 314).

(5)

في "السنن"(3/ 255 رقم 39) بإسناد صحيح.

(6)

سورة البقرة: الآية 229.

(7)

في (ب): "بها".

ص: 152

وحجَّتُهم أنهُ لفظٌ لا يملكُه إلَّا الزوجَ، فكانَ طلاقًا ولو كانَ فَسْخًا لما جازَ على غيرِ الصداقِ كالإقالةِ وهوَ يجوزُ عندَ الجمهورِ بما قلَّ أوْ كَثُرَ فدلَّ أنهُ طلاقٌ. وذهبَ ابنُ عباسٍ وآخرونَ إلى أنهُ فسْخٌ، وهوَ مشهورُ مذهبِ أحمدَ ويدلُّ لهُ أنهُ صلى الله عليه وسلم أمرَها أن تعتدَّ بحيضةٍ

(1)

قالَ الخطابي: في هذا أقْوى دليلٍ لمنْ قالَ أن الخلْعَ فَسْخٌ وليسَ بطلاقٍ، إذْ لو كانَ طَلَاقًا لم يكتفِ بحيضةٍ للعدَّةِ، واستدلَّ القائلُ بأنَّهُ فسخٌ بأنهُ تعالى ذكرَ في كتابهِ الطلاقَ فقالَ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}

(2)

ثم ذكر الافتداءَ ثم قالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}

(3)

، فلوْ كانَ الافتداءُ طَلَاقًا لكانَ الطلاقُ الذي لا تحلُّ لهُ إلا منْ بعدِ زوجٍ هوَ الطلاقُ الرابعُ وهذا الاستدلالُ مرويٌّ عن ابن عباسٍ؛ فإنهُ سألهُ رجلٌ طلَّقَ امرأته طلقَتْينِ ثمَّ اخْتَلَعَهَا قالَ: نعمْ ينكحُها فإنَّ الخلعَ ليسَ بطلاقٍ، ذكرَ اللَّهُ الطلاقَ في أولِ الآيةِ وآخرِها والخلعُ فيما بينَ ذلكَ فليسَ الخلعُ بشيءٍ، ثمَّ قالَ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2)، ثمَّ قرأَ:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3). وقدْ قررْنا أنهُ ليسَ بطلاقٍ في "منحة الغفارِ"

(4)

حاشيةِ "ضوءِ النهارِ" ووضَّحْنا هناكَ الأدلةَ وبسطْناها فيه، ثمَّ مَنْ قالَ إنهُ طلاقٌ يقولُ إنهُ طلاقٌ بائنٌ لأنهُ لو كانَ للزوجِ الرجعةُ لم يكنْ للافتداءِ بها فائدةٌ، وللفقهاءِ أبحاثٌ طويلةٌ وفروعٌ كثيرةٌ في الكتبِ الفقهيةِ فيما يتعلَّقُ بالخلْعِ، ومقصودُنا شرحُ ما دلَّ له الحديثُ على أنهُ قدْ زِدْنا ذلكَ ما يحتاجُ إليهِ.

2/ 1005 - وَفي روَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما عِنْدَ ابْنِ

(1)

لحديث الربيع بنت معوذ عند النسائي (6/ 186 رقم 3497) في قصة ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: خذِ الذي لها عليك وخلِّ سَبيلَها. قال: نعم، فأمرها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة واحدةٍ، وتلحق بأهلها"، ورجال إسناده كلهم ثقات.

ولها حديث آخر عند الترمذي (3/ 491 رقم 1185)، والنسائي (6/ 186 رقم 3498)، وابن ماجه (1/ 663 رقم 2058) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد بحيضة"، وفي إسناده: محمد بن إسحاق، وقد صرَّح بالتحديث.

والخلاصة: أن الحديث صحيح.

(2)

سورة البقرة: الآية 229.

(3)

سورة البقرة: الآية 230.

(4)

(3/ 962 - 964).

ص: 153

مَاجَهْ

(1)

: أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ كَانَ دَمِيمًا، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ: لَوْلَا مَخَافَةُ اللهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَصَقْتُ في وَجْهِهِ. [ضعيف]

(وفي روايةِ عمروِ بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّه عندَ ابن ماجهْ أن ثابتَ بنَ قيسٍ كانَ دميمًا وأن امرأتَه قالتْ: لولا مخافة اللهِ إذا دخلَ علي لبصقت في وجْهِهِ)، وفي روايةٍ

(2)

عن ابن عباسٍ أن امرأةَ ثابتٍ أتتْ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ لا يجتمعُ رأسي ورأسُ ثابتٍ أبدًا، إني رفعتُ جانبَ الخباءِ فرأيتُه أقبلَ في عدةٍ وإذا هوَ أشدُّهم سوادًا وأقصرُهم قامةً وأقبحهُم وجْهًا" الحديثُ، فصرَّحَ الحديثُ بسببِ طلبِها الخلعَ وأبان.

‌أول خلع في الإسلام

3/ 1006 - وَلأَحْمَدَ

(3)

مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبي حَثْمَةَ: وَكَانَ ذلِكَ أَوّلَ خُلْعٍ في الإِسْلَامِ. [ضعيف]

(ولأحمدَ منْ حديثِ سهلِ بن أبي حَثمةَ) بفتحِ الحاءِ المهملةِ فمثلثةٍ ساكنةٍ (وكانَ ذلكَ أولَ خلعٍ في الإسلامِ) أنهُ أولُ خلعٍ وقعَ في عصرِه صلى الله عليه وسلم وقيلَ إنهُ وقعَ في الجاهليةِ وهوَ أن عامرَ بنَ الظَرِبِ، بفتحِ الظاءِ المعجمةِ وكسرِ الراءِ ثمَّ موحَّدَةٍ، زوَّجَ ابنته من ابن أخيهِ عامرِ بن الحارثِ فلما دخلتْ عليهِ نفرتْ منهُ فشكا إلى أبيْها فقالَ: لا أجمعُ عليكَ فراقَ أَهلِكَ ومالِكَ: وقدْ خلعتُها منكَ بما أعطيتَها. زعمَ بعض العلماء أن هذا كانَ أولَ خلعٍ في العربِ.

(1)

في "السنن" رقم (2057).

قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 134 رقم 726 - 2057): "هذا إسناد ضعيف لتدليس الحجاج وهو ابن أرطاة".

رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن عبد القدوس بن بكر بن حبيش عن الحجاج عن عمرو بن شعيب به.

وله شاهد من حديث عبد اللهِ بن عباس رواه النسائي وابن ماجه.

ورواه البزار في "مسنده" من حديث أنس رضي الله عنه اهـ.

وهو حديث ضعيف. انظر: "الإرواء"(7/ 103).

(2)

فلينظر من أخرجها.

(3)

في "المسند"(3/ 4)، وهو حديث ضعيف.

ص: 154

[الكتاب التاسع] كتاب الطلاق

هوَ لغةً: حَلُّ الوثاقِ، مشتقٌ منَ الإطلاقِ وهوَ الإرسالُ والتركُ، وفلانُ طَلْقُ اليدينِ بالخيرِ أي كثيرُ البذلِ والإرسالِ لهما بذلكَ. وفي الشرعِ: حل عقدةِ التزويجِ، قالَ إمامُ الحرمينِ: هوَ لفظٌ جاهلي وردَ الإسلامُ بتقريرِه.

1/ 1007 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطلَاقُ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

وَابْنُ مَاجَهُ

(2)

، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(3)

، وَرَجّحَ أَبُو حَاتِم إِرْسَالَهُ

(4)

[ضعيف]

(عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إن أبغضَ الحلالِ إلى اللهِ الطلاقُ. رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجهْ وصحَّحَهُ الحاكم ورجَحَ أبو حاتمٍ إرسالَه)، وكذلك الدارقطنيُّ

(5)

والبيهقي

(6)

رجَّحا الإرسالَ. الحديثُ فيهِ دليل على أن في الحلالِ أشياءَ مبغوضة إلى اللَّهِ تعالى وأنَّ الطلاقَ أبغضُها، فيكون البغض مجازًا عنْ كونِه لا ثوابَ فيهِ ولا قُرْبَةَ في فعلِه. وَمثَّلَ بعضُ العلماءِ المبغوضَ منَ الحلالِ بالصلاةِ المكتوبةِ في غيرِ المسجدِ لغير عذرٍ. وفي الحديثِ دليل على أنهُ يحسنُ تجنبُ إيقاعِ الطلاقِ ما لم يجد عنهُ مندوحةً. وقدْ قسَّمَ بعضُ العلماءِ الطلاقَ إلى

(1)

في "السنن"(2/ 631 رقم 2178).

(2)

في "السنن"(1/ 650 رقم 2018).

(3)

في "المستدرك"(2/ 196) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: صحيح على شرط مسلم. وليس كما قالا بل الحديث ضعيف كما حققه المحدث الألباني في "الإرواء"(7/ 106 رقم 2040).

(4)

في "العلل"(1/ 431).

(5)

لعله ذكر ذلك في "العلل".

(6)

في "السنن الكبرى"(7/ 322).

ص: 155

الأحكامِ الخمسةِ، فالحرامُ الطلاقُ البِدْعي، والمكروهُ الواقعُ لغير سببٍ معَ استقامةِ الحالِ، وهذا هوَ القِسْمُ المبغوضُ معَ حِلِّهِ.

‌طلاق الحائض

2/ 1008 - وَعَنْ ابْن عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهيَ حَائِضٌ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ، فَقَالَ:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتى تَطْهُرَ، ثُم تَحِيضَ، ثُم تَطْهُرَ، ثُمْ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

- وَفي روَايَةٍ لِمُسْلِمٍ

(2)

: "مُرْهُ فَلْيرَاجِعْهَا، ثُمّ ليطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا". [صحيح]

- وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ

(3)

: "وَحُسِبَتْ تَطْلِيقَةٌ". [صحيح]

- وَفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِم

(4)

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أُرَاجِعَهَا ثُمّ أُمْسِكَهَا حَتى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمّ أُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ أُطَلِقَهَا قَبْلَ أَنْ أَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ عَصَيْتَ رَبّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ. [صحيح]

- وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى

(5)

: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَدَّهَا عَلَيّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ:"إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطلِّقْ أَوْ لِيمْسِكْ". [صحيح]

(1)

البخاري رقم (5332)، ومسلم رقم (1471).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2179)، والترمذي رقم (1175)، والنسائي (6/ 137 - 141)، ومالك في "الموطأ"(2/ 576 رقم 53).

(2)

في "صحيحه"(2/ 1095 رقم 5/ 1471).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2181)، والترمذي رقم (1176).

(3)

في "صحيحه"(9/ 351 رقم 5253).

(4)

في "صحيحه"(2/ 1093 رقم 1/ 1471).

(5)

لمسلم في "صحيحه"(2/ 1098 رقم 14/ 1471).

ص: 156

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما أنهُ طلَّقَ امرأتَه وهيَ حائضٌ في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فسألَ عمرُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ ذلكَ فقالَ: مُرْهُ فليراجِعْها ثم ليمسكْها حتى تطهرَ ثم تحيضُ ثم تطهرَ ثمَ إنْ شاءَ أمسكَ بعدُ وإنْ شاءَ طَلَّقَ قبلَ أنْ يمسَّ فتلكَ العدةُ التي أمرَ اللهُ أنْ تُطَلَّقَ لها النساءُ. متفقٌ عليهِ). في قوله: مُرْهُ فليراجعْها، دليل علَى أن الآمِرَ لابنِ عمرَ بالمراجعةِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فإنَّ عمرَ مأمورٌ بالتبليغِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ابنهِ بأنهُ مأمورٌ بالمراجعةِ فهوَ نظيرُ قولِه تعالَى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}

(1)

فإنهُ صلى الله عليه وسلم مأمورٌ بأنْ يأمرَنا بإقامةِ الصلاةِ فنحنُ مأمورونَ منَ اللَّهِ تعالَى، وابنُ عمرَ كذلكَ مأمورٌ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلا يُتَوَهَّمُ أن هذِه المسألةَ منْ بابِ مسألةِ هلِ الأمرُ بالأمرِ بالشيءِ أمرٌ بذلك الشيءِ، وإنَّما تلكَ المسألةُ مثلُ قولِه صلى الله عليه وسلم:"مُرُوا أولادُكم بالصلاةِ لسبعٍ"

(2)

الحديثَ لا مثلَ هذهِ. وإذا عرفتَ أنهُ مأمورٌ منهُ صلى الله عليه وسلم بالمراجعةِ فهلِ الأمرُ للوجوبِ فتجبُ الرجعةُ أم لا؟ ذهبَ إلى الأولِ مالكٌ وهوَ روايةٌ عنْ أحمدَ، وصحَّحَ صاحبُ "الهدايةِ"

(3)

منَ الحنفيةِ وجوبَها وهوَ قولُ داودَ، ودليلُهم الأمرُ بها، قالُوا: فإذا امتنعَ الرجلُ منْها أدَّبه الحاكمُ فإنْ أصرَّ على الامتناعِ ارتجعَ الحاكمُ عنهُ. وذهَبَ الجمهورُ إلى أنَّها مستحبةٌ فقطْ قالُوا: لأنَّ ابتداءَ النكاحِ لا يجبُ فاستدامتُه كذلكَ، فكانَ القياسُ قرينةً علَى أن الأمرَ للنُّدبِ وأُجِيْبَ بأنَّ الطلاقَ لما كانَ محرمًا في الحيضِ كانَ استدامةُ النكاحِ فيهِ واجبةً. وقولهِ:"حتَّى تطهرَ ثم تحيضَ ثُم تطهرَ" دليل على أنهُ لا يُطَلّقُ إلا في الطهرِ الثاني دونَ الأولِ. وقدْ ذهبَ إلى تحريم الطلاقِ فيهِ مالكٌ، وهو الأصحُّ عندَ الشافعيةِ، وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أن الانتظارَ إلى الطهرِ الثاني مندوبٌ وكذَا عنْ أحمدَ مستدلينَ بقولِه:(وفي روايةٍ لمسلمٍ) أي عن ابن عمرَ (مُرْهُ فليراجِعْهَا ثمَّ ليطلقْها طاهرًا أو حاملًا) فأُطْلِقَ الطهرَ ولأنَّ التحريمَ إنَّما كانَ لأجلِ الحيضِ فإذا زالَ زال موجبُ التحريمِ فجاز طلاقُها في هذا الطهرِ كما جازَ في الذي بعدَهُ،

(1)

سورة إبراهيم: الآية 31.

(2)

أخرجه أحمد في "المسند"(2/ 187)، والدارقطني (1/ 230 رقم 3) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. بسند حسن.

(3)

(1/ 228).

ص: 157

وكما يجوزُ في الطهرِ الذي لمْ يتقدم طلاقٌ في حيضته ولا يَخْفَى قربُ ما قَالُوه. وفي قولِه: "قبلَ أنْ يمسَّ" دليلٌ علَى أنهُ إذا طلَّقَ في الطهرِ بعدَ المسِّ فإنهُ طلاقٌ بِدْعِي محرَّمٌ وبهِ صرَّحَ الجمهورُ، وقالَ بعضُ المالكيةِ: إنهُ يُجْبَرُ على الرجعةِ فيهِ كما إذا طلقَ وهي حائضٌ. وفي قولِه: "ثم تطهرَ"، وقولِه:"طاهرًا" خلافٌ للفقهاءِ هلِ المرادُ بهِ انقطاعُ الدمِ أوْ لا بدَّ منَ الغُسْلِ؟ فعنْ أحمدَ روايتانِ الراجحُ أنهُ لا بدَّ منِ اعتبارِ الغُسلِ لما مرَّ في روايةِ النسائيِّ

(1)

: "فإذا اغتسلتْ منْ حيضتِها الأخْرى فلا يمسَّها حتى يُطَلِقَها وإنْ شَاءَ أنْ يمسكَها أمسكَها"، وهوَ مفسِّرٌ لقولِه: طاهرًا، وقولِه: ثمَّ تطهرُ.

وقولِه: "فتلك العدةُ التي أمرَ اللَّهُ أنْ تطلَّقَ لها النساءُ" أي أَذِنَ في قولِه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(2)

. وفي روايةِ مسلمٍ

(3)

قالَ ابنُ عمرَ: وقرأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} الآيةَ. وفي الحديثِ دليل على أن الأقراءَ الأطهارَ للأمْرِ بطلاقِها في الطهرِ، وقولِه:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) أي وقتَ ابتداءِ عدتهنَّ، وفي قولِه: أو حاملًا، دليل على أن طلاقَ الحاملِ سنيٌّ وإليهِ ذهبَ الجمهورُ.

وإذا عرفتَ أن الطلاقَ البدعيَّ منهيٌّ عنهُ محرَّمٌ فقدِ اختُلِفَ فيهِ هلْ يقعُ ويُعْتَدُّ بهِ أمْ لا يقعُ؟ فقالَ الجمهورُ: يقعُ، مستدلينَ بقولِه في هذَا الحديثِ:(وفي أُخْرى) أي في روايةٍ أُخْرى (للبخاريِّ: وحُسِبَتْ تطليقةٌ) وهوَ بضمِّ الحاء المهملةِ مبني للمجهولِ منَ الحسابِ، والمرادُ جَعْلُها واحدةً منَ الثلاثِ التطليقاتِ التي [ملكها]

(4)

الزوجُ ولكنَّهُ لم يصرحْ بالفاعلِ هنا؟ فإنْ كانَ الفاعلُ ابنَ عمرَ فلا حجةَ فيهِ وإنْ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فهوَ الحجةُ إلَّا أنهُ قدْ صرَّحَ بالفاعلِ في غيرِ هذهِ الروايةِ كما في مسندِ ابن وهبٍ بلفظِ وزادَ ابنُ أبي ذئبٍ في الحديثِ: "عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهي واحدةٌ"، وأخرجَهُ الدارقطني

(5)

منْ حديثِ ابن أبي ذئبٍ وابنِ إسحاقَ جميعًا عنْ نافعٍ عن ابن عمرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "قالَ هيَ واحدةٌ". وقدْ وردَ

(1)

في "السنن"(6/ 140 - 141 رقم 3396).

(2)

سورة الطلاق: الآية 1.

(3)

في "صحيحه"(2/ 1098 رقم 14/ 1471).

(4)

في (ب): "يملكها".

(5)

في "السنن"(4/ 9 رقم 24).

ص: 158

أن الحاسبَ لها هوَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منْ طُرُقٍ يقوِّي بعضُها بعضًا، (وفي روايةٍ لمسلمٍ: قالَ ابنُ عمرَ) أي لمَّا سألَه سائلٌ (أمَّا أنتَ طلَّقْتَها واحدةً أوِ اثنتينِ فإنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمرني أنْ أراجِعَها ثم أمسكَها حتَّى تحيضَ حيضةً أخرى [أي الحديث]

(1)

، وأما أنتَ طلقتَها تلاثًا فقدْ عصيتَ رَبَّكَ فيما أمركَ بهِ منْ طلاقِ امرأتِك) دال على تحريمِ الطلاقِ في الحيضِ، وقدْ يدلُ قولُه:"أمرني أن أراجِعَها" على وقوعِ الطلاقِ إذِ الرجعةُ فرعُ الوقوع وفيهِ بحثٌ. وخالفَه فيهِ طاوسُ والخوارجُ والروافضُ وحكاهُ في "البحر"

(2)

عن الباقرِ [والصادقِ]

(3)

والناصرِ قالُوا: لا يقعُ شيءٌ، ونصرَ هذا القولَ ابنُ حزمٍ

(4)

ورجَّحَهُ ابنُ تيميةَ

(5)

وابنُ القيمِ

(6)

واستدلُّوا بقولِه: (وفي روايةٍ أُخْرى) أَي لمسلمٍ عن ابن عمرَ (قالَ عبدُ اللَّهِ بن عمرَ: فردَّها عليَّ ولم يَرَهَا شيئًا وقالَ: إذا طَهُرَتْ فليطلقْ أو ليمسكْ)، ومثلُه في روايةِ أبي داودَ: فردَّها عليَّ ولمْ يَرَها شيئًا وإسنادُه على شرطِ الصحيحِ. إلَّا أنهُ قالَ ابنُ عبدِ البرِّ في قولِه: "ولم يرَها شيئًا" منكرٌ لم يقلْه غيرُ أبي الزبيرِ وليسَ بحجةٍ فيما خالَفه فيهِ مِثلُه فكيفَ [من]

(7)

هوَ أثبتُ منهُ؟ ولو صحَّ لكانَ معناهَا واللَّهُ أعلمُ: ولمْ يَرَها شيئًا مستقيمًا لكونِها لم تقعْ على السنةِ.

وقالَ الخطابي

(8)

: قالَ أهلُ الحديثِ لم يروِ أبو الزبيرِ حديثًا أنكرَ منْ هذا ويحتملُ أن معناها لم يرَها شيئًا تحرمُ [معها]

(9)

المراجعةُ، أو لم يَرَها شيئًا جائزًا في السنةِ ماضيًا في الاختيارِ وإنْ كانَ لازمًا لهُ. ونقلَ البيهقي في "المعرفة"

(10)

عن الشافعيِّ أنهُ ذكرَ روايةَ أبي الزبيرِ فقالَ نافعٌ: أثْبَتُ منْ أبي الزبيرِ والأثبتُ منَ الحديثيْنِ أَوْلَى أَنْ يؤخذَ بهِ إذا تَخَالَفَا. وقدْ وافقَ نافعًا غيرُه منْ أهلِ التثبتِ.

(1)

في (ب) لما سأله سائل.

(2)

"البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار"(3/ 154).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في "المحلَّى"(10/ 161 - 170) رقم (1949).

(5)

في "مجموع الفتاوى"(32/ 5 - وما بعدها).

(6)

في "زاد المعاد"(5/ 218 - 238).

(7)

في (ب): "بمن".

(8)

في "معالم السنن"(2/ 636) حاشية السنن.

(9)

في (ب): "معهُ".

(10)

(11/ 28 رقم 14631).

ص: 159

قالوا: وحملَ قولَه ولم يَرَهَا شيئًا على أنهُ لم يعدْها شيئًا صوابًا غيرَ خطأ بلْ يؤمرُ صاحبُه ألا يقيمَ عليهِ لأنهُ أمرهُ بالمراجعةِ، ولوْ كانَ طلَّقَهَا طَاهِرًا لم يؤمرْ بذلكَ فهوَ كما يُقَالُ للرجلِ إذا أخطأ في فعلِهِ أو أخطأَ في جوابه إنهُ لم يصنعْ شيئًا أي لم يصنعْ شيئًا صوابًا. وقدْ أطالَ ابنُ القيمِ في "الهدي"

(1)

الكلامَ على نصْرةِ عدمِ الوقوعِ لكنْ بعدَ ثبوتِ أنهُ صلى الله عليه وسلم حَسَبَهَا تطليقة تطيحُ كلُّ عبارةٍ ويضيعُ كلُّ صنيعٍ. وقدْ كنَّا نفتي بعدمِ الوقوعِ وكتبْنا فيهِ رسالةً وتوقَّفْنَا مدةً ثمَّ رأينا وقوعَه.

تنبيهٌ: ثمَّ إنهُ قَوِيَ عندي ما كنتُ أفتي بهِ أولًا منْ عدمِ الوقوعِ لأدلةٍ قويةٍ سُقْتُها في رسالةٍ سمَّيْنَاها الدليلَ الشرعيَّ في عدمِ وقعِ الطلاقِ البِدْعيِّ. ومنَ الأدلةِ أنهُ منسوبٌ، ومسمَّى النسبة إلى البدعةِ، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، والضلالةُ لا تدخلُ في نفوذِ حكمٍ شرعيٍّ ولا يقعُ بها بلْ هيَ باطلةٌ؛ ولأنَّ الرواةَ لحديثِ ابن عمرَ اتفقُوا على أن المسندَ المرفوعَ في هذا الحديثِ غيرُ مذكورٍ فيهِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حسبَ تلكَ التطليقةَ على ابن عمرَ ولا قالَ لهُ قدْ وقعتْ، ولا رواهُ ابنُ عمرَ مرفوعًا. بلْ في صحيحِ مسلمٍ

(2)

ما دلَّ على أن وقوعَها إنَّما هوَ رأيٌ لابنِ عمرَ وأنهُ سُئِلَ عنْ ذلكَ فقالَ: "وما لي لا أعتدُّ بها وإنْ كنتُ قدْ عجزتُ واستحمقتُ"، وهذا يدلُّ علَى أنهُ لا يعلمُ في ذلكَ نصًا نبويًا لأنهُ لو كانَ عندَه لم يتركْ روايتَه ويتعلقْ بهذِه العلةِ العليلةِ فإنَّ العجزَ والحَمَقَ لا مدخلَ لهما في صحةِ الطلاقِ، ولوْ كانَ عندَه نصٌّ نبويٌّ لقالَ وما لي لا أعتدُّ بها وقدْ أمرني رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ أعتدَّ بها.

وقدْ صرَّحَ الإمامُ الكبيرُ محمدُ بنُ إبراهيمَ الوزيرِ بأنهُ قدِ اتفقَ الرواة على عدمِ رفْعِ الوقوعِ في الروايةِ إليهِ صلى الله عليه وسلم، وقد ساقَ السيدُ محمدُ رحمه الله سِتَّ عشْرةَ حُجَّةً على عَدَمِ وقوعِ الطلاقِ البِدْعِيِّ ولخَّصْنَاها في رِسَالَتِنَا المذكورةِ، وبعدَ هذا تعرفُ رجوعَنا عما هُنا فلْيُلْحقْ هذا في نُسَخِ سبلِ السلامِ.

وأمَّا الاستدلالُ على الوقوعِ بقولِه: فلْيراجِعْها، ولا رجعةَ إلَّا بعدَ طلاقٍ، فهوَ غيرُ ناهضٍ لأنَّ الرجعةَ المقيدةَ بِبُعْدِ الطلاقِ عُرْفٌ شرعيٌّ متأخرٌ إذْ هيَ لغةٌ أعمُّ منْ ذلكَ. ودلَّ الحديثُ على تحريمِ الطلاقِ في الحيضِ وبأنَّ الرجعةَ يستقلُّ بها الزوجُ منْ دونِ رضا المرأةِ والوليِّ لأنهُ جُعِلَ ذلكَ إليهِ، ولقولِه تعالَى:

(1)

(5/ 221 - 238).

(2)

(2/ 1097 رقم 11/ 1471).

ص: 160

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}

(1)

وبأنَّ الحاملَ لا تحيضُ لقولِهِ: طاهرًا أو حاملًا، فدلَّ على أنَّها لا تحيضُ لإطلاقِ الطلاقِ فيهِ. وأُجِيْبَ بأنَّ حيضَ الحاملِ لما لمْ يكن لهُ أثرٌ في تطويلِ العِدَّةِ لم يعتبرْ لأنَّ عَدَّتَها بوضعِ الحملِ وأنَّ الأقراءَ في العدةِ هي الأطهارُ.

قالَ الغزاليُّ: ويُسْتَثْنَى منْ تحريمِ طلاقِ الحائضِ طلاقُ المخالعةِ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصلْ حالَ امرأةِ ثابتٍ هلْ هيَ طاهرةٌ أو حائضٌ معَ أَمْرِهِ له بالطلاقِ، والشافعي يذهبُ إلى أن تركَ الاستفصالِ في مقامِ الاحتمالِ يُنْزَلُ منزلةِ العمومِ في المقالِ.

‌طلاق الثلاث بلفظ واحد

3/ 1009 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَهِ عُمَرَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ وَاحِدَة، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا في أَمْرٍ كَانَتْ لَهُم فيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: كانَ الطلاق علي عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وسنتينِ منْ خلافةِ عمرَ طلاقَ الثلاثِ واحدةً، فقالَ عمرُ بنُ الخطابِ: إنَّ الناسَ قد اسْتعجَلوا في أمرٍ [كان]

(3)

لهم فيهِ أناةٌ) بفتحِ الهمزةِ أي مهلةٌ (فلوْ أمضيناهُ عليهمْ، فأمضاهُ عليهمْ. رواهُ مسلمٌ). الحديثُ ثابتٌ منْ طُرُقٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنه، وقدِ استشكلَ أنهُ كيفَ يصحُّ منْ عمرَ مخالفةَ ما كانَ في عصرِهِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ في عصرِ أبي بكرٍ ثمَّ في أولِ أيامِه؟ وظاهِرُ كلامِ ابن عباس أنهُ كانَ الإجماعُ على ذلكَ، وأُجِيْبَ عنهُ بستةِ أجوبةٍ:

(1)

سورة البقرة: الآية 228.

(2)

في "صحيحه" رقم (1472).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2199) و (2200)، والنسائي (6/ 145)، وهو حديث صحيح.

(3)

في (ب): "كانت".

ص: 161

الأولُ: أنهُ كانَ الحكمُ كذلكَ ثمَّ نُسِخَ في عصرِه صلى الله عليه وسلم. فقدْ أخرجَ أبو داودَ

(1)

منْ طريقِ يزيدَ النَّحْوِيِّ عنْ عكرمةَ عن ابن عباسٍ قالَ: "كانَ الرجلُ إذا طلَّقَ امرأتَه فهوَ أحقُّ بِرَجْعَتِها وإنْ طلَّقها ثلاثًا، فَنُسِخَ ذلكَ" اهـ. إلَّا أنهُ لم يشتهرِ النسخُ فبقي الحكمُ المنسوخُ معمولًا بهِ إلى أنْ أنكرَهُ عمرُ.

قلت: إنْ ثبتتْ روايةُ النسخِ فذاكَ، وإلا فإنهُ يُضَعِّفُ هذَا قولُ عمرَ إن الناسَ قدِ استعجلُوا في أمرٍ كانتْ لهمْ فيهِ أناةٌ إلخ؛ فإنهُ واضحٌ في أنهُ رَأْيٌ مَحْضٌ لا سُنَّةَ فيهِ، وما في بعضِ ألفاظِه عندَ مسلمٍ

(2)

أنهُ قالَ ابنُ عباسٍ لأبي الصهباءِ: "لما تتابعَ الناسُ في الطلاقِ في عهدِ عمرَ فأجازَهُ عليهمْ".

ثانيها: أن حديثَ ابن عباسٍ هذا مضطربٌ. قالَ القرطبي: في شرحِ مسلمٍ وقعَ فيهِ معَ الاختلافِ على ابن عباسٍ الاضطرابُ في لفظهِ، فظاهرُ سياقِهِ أن هذَا الحكمَ منقولٌ عنْ جميعِ أهلِ ذلكَ العصرِ والعادةُ تقتضي أنْ يظهرَ ذلكَ وينتشرَ ولا ينفردَ بهِ ابنُ عباسٍ، فهذا يقتضي التوقفَ عن العملِ بظاهرهِ إذا لم يقتضِ القطعُ ببطلانِه اهـ.

قلتُ: وهذا مجردُ استبعادٍ فإنهُ كمْ منْ سُنَّةٍ وحادثةٍ انفردَ بها راوٍ ولا يضرُّ سِيَّما مثلُ ابن عباسٍ بحرِ الأمةِ. ويؤيدُ ما قالَه ابنُ عباسٍ من أنَّها كانتِ الثلاثُ واحدةَ ما يأتي منْ حديثِ أبي ركانةَ

(3)

وإنْ كانَ فيهِ كلامٌ وسيأتي.

الثالثُ: أن هذا الحديثَ وردَ في صورةٍ خاصةٍ هيَ قولُ المطلِّق: أنت طالق أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ، وذلكَ أنهُ كانَ في عصرِ النبوةِ وما بعدَه وكانَ حالُ الناسِ [محمولًا]

(4)

على السلامةِ والصدقِ فيقبلُ قولُ منِ ادَّعَى أن اللفظَ الثاني تأكيدٌ للأولِ لا تأسيسُ طلاقِ آخرَ [و]

(5)

يصدَّقُ في دعواهُ. فلمَّا رَأَى عمرُ تَغَيُّرَ أحوالِ الناسِ وغلبة الدعاوَى الباطلةِ رأى منَ المصلحةِ أن يُجْرَى المتكلِّمُ على ظاهرِ

(1)

في "السنن" رقم (2195) بإسناد حسن.

(2)

رقم (17/ 1472).

(3)

سيأتي تخريجه برقم (5/ 1011) من كتابنا هذا.

(4)

في (أ): "محمول"، والصواب ما ذكرناه في (ب).

(5)

زيادة من (ب).

ص: 162

[كلامه]

(1)

ولا يصدَّقُ في دَعْوى ضميرِه، وهذا الجوابُ ارتضاهُ القرطبيُّ. قالَ النوويُّ

(2)

: هو أصحُّ الأجوبةِ.

قلتُ: ولا يخْفَى أنهُ تقريرٌ لكونِ نَهْي عمرَ رأيًا محضًا ومعَ ذلكَ فالناسُ مختلفونَ في كل عصرٍ فيهمُ الصادقُ والكاذبُ، وما يُعْرَفُ ما في ضميرِ الإنسانِ إلَّا منْ كلامِه فَيُقْبَلُ قولُه وإنْ كانَ مُبْطَلًا في نفسِ الأمرِ فَيُحْكَمُ بالظاهرِ واللَّهُ يتولى السرائرَ، معَ أن ظاهرَ قولِ ابن عباسٍ طلاقُ الثلاثِ واحدةٌ أنهُ كانَ ذلكَ بأي عبارةٍ وقعتْ.

الرابعُ: أن معنَى قولِه: كانَ الطلاقُ الثلاثِ واحدةً، أن الطلاقَ الذي كانَ يوقعُ في عهدِه صلى الله عليه وسلم وعهدِ أبي بكرٍ إنَّما كانَ يوقعُ في الغالبِ واحدةً لا يوقعُ ثلاثًا، فمرادُه أن هذا الطلاقَ الذي يوقعون ثلاثًا كانَ يوقعُ في ذلكَ العهدِ واحدةً [ويكون]

(3)

قولُه فلو أمضيناهُ عليهمْ بمعنَى لو أجْريناهُ على حكمِ ما شُرعَ منْ وقوعِ الثلاثِ. وهذَا الجوابُ يتنزلُ على قولِه: استعجلُوا في أمرٍ كان لهم فيهِ أناةٌ، تنزلًا قريبًا منْ غيرِ تكلُّفٍ، ويكونُ معناهُ الإخبارُ عن اختلافِ عاداتِ الناسِ في إيقاعِ الطلاقِ لا في وقوعِه فالحكمُ متقررٌ. وقدْ رجَّحَ هذا التأويلَ ابنُ العربيِّ ونسَبَهُ إلى أبي زرعةَ. وكذا البيهقيُّ

(4)

أخرجَهُ عنهُ قال: معناهُ أن ما تطلقونَ أنتُم ثلاثًا كانُوا يطلقونَ واحدةً.

قلتُ: وهذا يتمُّ إنِ اتفقَ على أنهُ لم يقعْ في عصرِ النبوةِ إرسالُ ثلاثِ تطليقاتٍ دُفْعَةً واحدةً. وحديثُ أبي ركانَةَ وغيرُه يدفعُه وينْبُو عنهُ قولُ عمرَ: فلوْ أمضيناهُ، فإنهُ ظاهرٌ في أنهُ لم يكنْ مضَى في ذلكَ العصرِ حتَّى رَأَى إمضاءَه، وهوَ دليلُ وقوعِه في عصرِ النبوةِ لكنَّه لمْ يمضِ فليسَ فيهِ أنهُ كانَ وقوعُ الثلاثِ دفعةً نادِرًا في ذلكَ العصرِ.

الخامسُ: أن قولَ ابن عباسٍ كانَ طلاقُ الثلاثِ ليسَ لهُ حكمُ الرفعِ فهوَ موقوفٌ عليهِ، وهذَا الجوابُ ضعيفٌ لما تقرَّرَ في أصولِ الحديثِ وأصولِ الفقهِ أنْ "كنَّا نفعلُ"، و"كانُوا يفعلونَ" لهُ حكمُ الرفعِ.

(1)

في (ب): "قوله".

(2)

في شرحه لصحيح مسلم (10/ 71).

(3)

في (ب): "فيكون".

(4)

في "السنن الكبرى"(7/ 338).

ص: 163

السادسُ: أنهُ أُرِيْدَ بقولِه طلاقَ الثلاثَ واحدةً هوَ لفظُ البتَة إذا قالَ: أنتِ طالقٌ البتةَ، وكما سيأتي في حديثِ ركانةَ. فكانَ إذا قالَ القائلُ ذلكَ قُبِلَ تفسيرِه بالواحدةِ وبالثلاثِ، فلما كانَ في عصرِ عمرَ لم يُقْبَلْ منهُ التفسيرُ بالواحدةِ، قيلَ وأشارَ إلى هذا البخاريُّ فإنهُ أدخلَ في هذا البابِ الآثارَ التي فيها البتةَ والأحاديثَ التي فيها التصريحُ بالثلاثِ كأنهُ يشيرُ إلى عدمِ الفرقِ بينَهما وأنَّ البتةَ إذا أُطْلِقَتْ حُمِلَتْ على الثلاثِ إلا إذا أرادَ المطلِّقُ واحدةً فيُقبلُ، فَرَوى بعضُ الرواةِ البتةَ بلفظِ الثلاثِ يريدُ أن أصلَ حديثِ ابن عباسٍ رضي الله عنه كانَ طلاقُ البتةَ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعهدِ أبي بكرِ إلى آخرِه.

قلتُ: ولا يخْفَى بُعْدُ هذا التأويلِ وتوهيمُ الراوي في التبديلِ، ويبعدُه أن الطلاقَ بلفظِ البتةَ في غايةِ الندورِ فلا يحملُ عليهِ ما وقعَ، كيفَ وقولُ عمرَ: قدِ استعجلُوا في أمرٍ كان لهم فيه أناةٌ، يدلُّ أن ذلكَ واقعٌ أيضًا في عصرِ النبوةِ، والأقربُ أن هذا رأيٌ منْ عمرَ رجح له كما مَنعَ منْ [متعة]

(1)

الحجِّ وغيرِها. وكلُّ [واحد]

(2)

يؤخذْ منْ قولِه ويتركُ غيرُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وكونُه خالفَ ما كانَ على عهدِه صلى الله عليه وسلم فهوَ نظيرُ متعةِ الحجِّ بلا ريبٍ، والتكلفاتُ في الأجوبةِ ليوافقَ ما ثبتَ في عصرِ النبوةِ لا يليق، فقدْ ثبتَ عنْ عمرَ اجتهاداتٌ يعسرُ تطبيقُها على ذلكَ، نعمْ إذا أمكنَ التطبيقُ على وجْهٍ صحيحٍ فهوَ المرادُ.

4/ 1010 - وَعَنْ مَحْمُودِ بْن لَبيدٍ رضي الله عنه قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ:"أَيُلْعَبُ بكِتَاب اللَّهِ وَأَنَا بَينَ أَظْهُرِكُمْ"؟ حَتى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ؟ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ

(3)

وَرُوَاتُهُ مُوَثقُونَ. [ضعيف]

(وعنْ محمودِ بن لبيدٍ رضي الله عنه)

(4)

ابن أبي رافعٍ الأنصاريِّ الأشهليِّ، ولدَ على

(1)

في (أ): "عمرة".

(2)

في (ب): "أحدٍ".

(3)

في "السنن"(6/ 142 رقم 3401)، وهو حديث ضعيف.

(4)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير"(7/ 402)، و"الجرح والتعديل"(8/ 289)، و"الإصابة" =

ص: 164

عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وحدَّثَ عنهُ أحاديثَ، قالَ البخاري: لهُ صحبةٌ، وقالَ أبو حاتمٍ: لا نعرفُ له صحبةً، وذكرَهُ مسلمٌ في التابعينَ، وكانَ منَ العلماءِ. ماتَ سنةَ ستٍ وتسعينَ. وقدْ تَرْجَمَ لهُ أحمدُ في مسندِهِ وأخرجَ لهُ أحاديثَ ليسَ فيها شيءٌ صرَّحَ فيهِ بالسماع، (قالَ: أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنْ رجلٍ طلَّقَ امرأتَه ثلاثَ تطليقاتٍ جميعًا فقامَ غضبانَ ثمَّ قالَ: أَيُلْعَبُ بكتابِ اللهِ وأنا بينَ أظْهُرِكُمْ؟ حتَّى قامَ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ اللهِ أقتلُه. رواهُ النسائيُّ ورواتُه مَوَثَّقُونَ).

الحديثُ دليلٌ على أن جَمْعَ الثلاثِ التطليقاتِ بدعةٌ. واختلفَ العلماءُ في ذلكَ، فذهبَ الهادوية وأبو حنيفةَ ومالكٌ إلى أنهُ بدعةٌ. وذهبَ الشافعيُّ وأحمدُ والإمامُ يحيى إلى أنهُ ليسَ ببدعةٍ ولا مكروهٍ. واستدلَّ الأولونَ بغضبِهِ صلى الله عليه وسلم وبقولِه أَيُلْعَبُ بكتابِ اللَّهِ؟ وبما أخرجَه سعيدُ بنُ منصورٍ

(1)

بسندٍ صحيحٍ عنْ أنسٍ أن عمرَ كانَ إذا أُتِيَ برجل طلَّقَ امرأتَه ثلاثًا أَوْجَعَ ظهرَه ضَرْبًا، وكأنهُ أخذَ عمر تحْريمَهُ منْ قولِه صلى الله عليه وسلم:"أيلعبُ بكتابِ اللَّهِ". استدلَّ الآخرونَ بقولهِ تعالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(2)

، وبقولِه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}

(3)

وبما يأتي في حديثِ اللِّعانِ

(4)

أنهُ طلَّقها الزوجُ ثلاثًا بحضرتهِ صلى الله عليه وسلم ولم ينكرْ عليهِ. واجِيْبَ بأنَّ الآيتينَ مُطْلَقَتَانِ، والحديثُ صريحٌ بتحريمِ الثلاثِ فَتُقَيَّدُ بهِ الآيتانِ، وبأنَّ طلاقَ الملاعنِ لزوجتهِ ليسَ طلاقًا في محلِه؛ لأنَّها بانتْ بمجردِ اللعانِ كما يأتي. واعلمْ أن حديثَ محمودٍ لمْ يكنْ فيه دليلٌ على أنهُ صلى الله عليه وسلم أمْضَى عليهِ الثلاثَ أوْ جعلَها واحدة، وإنَّما ذكرهُ المصنفُ [إخبارًا]

(5)

بأنَّها قد وقعتِ التطليقاتُ الثلاثُ في عصرِه صلى الله عليه وسلم.

5/ 1011 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَلَّقَ أَبو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"رَاجعِ امْرَأَتَكَ"، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، قَالَ:"قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(6)

. [حسن]

= رقم (7838)، و"أسد الغابة" رقم (4780)، و"الاستيعاب" رقم (2375)، والجمع بين رجال الصحيحين" (2/ 505).

(1)

في "السنن"(1/ 264 رقم 1073) بسند صحيح.

(2)

سورة الطلاق: الآية 1.

(3)

سورة البقرة: الآية 229.

(4)

رقم (5/ 1034) من كتابنا هذا.

(5)

في (أ): "إخبار".

(6)

في "السنن" رقم (2196)، وهو حديث حسن.

ص: 165

- وَفي لَفْظٍ لأَحْمَدَ

(1)

: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ امْرَأَتَهُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلاثًا، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَإِنها وَاحِدَةٌ" وَفي سَنَدِهِمَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَفيه مَقَالٌ. [حسن]

- وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ

(2)

مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَرَدْتُ بهَا إلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. [ضعيف]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: طلَّقَ أبو ركانةَ) بضمّ الراءِ وبعدَ الألفِ نونٌ (أمَّ ركانةَ، فقالَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: راجعِ امرأتَكَ، فقالَ: إني طلقتُها ثلاثًا، قالَ: قدْ علمتُ راجِعْها، رواهُ أبو داودَ. وفي لفظِ أحمدَ) أي عن ابن عباسٍ: (طلَّقَ ركانة امرأتَه في مجلسٍ واحدٍ ثلاثًا فحزنَ عليها فقالَ لهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [راجعها]

(3)

فإنَّها واحدةٌ. وفي سندِهِما) أي حديثِ أبي داودَ وحديثِ أحمدَ (ابنُ إسحاقَ) أي محمدٌ صاحبُ السيرةِ (وفيهِ مقالٌ)، قدْ حقَّقْنَا في "ثمراتِ النظرِ في علمِ أهلِ الأثرِ"

(4)

وفي "إرشادِ النقادِ إلى تيسيرِ الاجتهادِ"

(5)

عدَمَ صحةِ القدحِ بما يجرحُ روايتَه (وقدْ روى

(1)

في "المسند"(1/ 265) وفي إسناده محمد بن إسحاق. قال النسائي وغيره: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: لا يحتج به. "الميزان"(3/ 468).

(2)

في "السنن" رقم (2206) و (2207) و (2208).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1177)، وابن ماجه رقم (2051)، وابن حبان رقم (1321 - موارد)، والحاكم (2/ 199)، والبيهقي (7/ 342)، والطيالسي رقم (1188) وغيرهم.

قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمدًا - البخاري - عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب.

وقال الألباني في "الإرواء" رقم (2063): "هو إسناد مسلسل بعلل:

الأولى: جهالة علي بن يزيد بن ركانة

الثانية: ضعف عبد اللَّهِ بن علي بن يزيد

الثالثة: ضعف الزبير بن سعيد أيضًا

الرابعة: الاضطراب

فالخلاصة: أن الحديث ضعيف، واللَّهُ أعلم.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

أعانني الله على إتمام تحقيقه وتخريج أحاديثه.

(5)

طبع الكتاب بتحقيقنا. ن: مؤسسة الريان - بيروت.

ص: 166

أبو داودَ منْ وجهٍ آخرَ أحسنَ منهُ أن ركانةَ طلَّقَ امرأتَه سهيمةَ) بالسين المهملةُ تصغيرُ سهمةٍ (البتةَ فقالَ: واللَّهِ ما أردت إلا واحدةً فردَّها إليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم). وأخرجَه أبو يعلى

(1)

وصحَّحَهُ وطُرُقُهُ كلهَا منْ روايةِ محمدِ بن إسحاقَ عنْ داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباسٍ. وقد عملَ العلماءُ بمثل هذا الإسنادِ في عدةٍ منَ الأحكامِ مثلُ حديثِ أنهُ صلى الله عليه وسلم ردَّ ابنتَه علَى أبي العاصِ بالنكاحِ الأولِ، تقدَّمَ

(2)

.

وقدْ صحَّحَهُ أبو داودَ لأنهُ أخرجَهُ أيضًا منْ طريقٍ أُخْرَى وهيَ التي أشارَ إليها المصنفُ بقولِه أحسنُ منهُ، وهيَ أنهُ أخرجَه منْ حديثِ نافعِ بن عُجَيْرِ بن عبدِ يزيدَ بن ركانةَ أن ركانةَ، الحديثَ. وصحَّحَهُ أيضًا ابنُ حِبَّانَ

(3)

، والحاكمُ

(4)

وفيهِ خلافٌ بينَ العلماءِ بينَ مصحِّحٍ ومضعِّفٍ

(5)

. والحديثُ دليل على أن إرسالَ الثلاثِ التطليقاتِ في مجلسٍ واحدٍ يكونُ [تطليقة]

(6)

واحدةً. وقدِ اختلَفَ العلماءُ في المسألةِ على أربعةِ أقوالٍ:

الأولُ: إنهُ لا يقعُ بها شيءٌ [لأنهُ]

(7)

طلاقُ بدعةٍ. وهذا للنافين وقوع طلاق البدعة وتقدَّم ذِكْرُهم وأدلتُهم.

الثاني: إنهُ يقعُ بهِ الثلاثُ وإليهِ ذهبَ عمرُ وابنُ عباسٍ وعائشةُ وروايةٌ عنْ علي رضي الله عنه والفقهاءُ الأربعةُ وجمهورُ السلفِ والخلفِ. واستدلُّوا بآياتِ الطلاقِ وأنَّها لم تفرِّقْ بينَ واحدةٍ ولا ثلاثٍ. وأُجيْبَ بما سلفَ أنَّها مُطْلَقاتٌ تحتملُ التقييدَ بالأحاديثِ، واستدلُّوا بما في الصحيحينِ

(8)

أن عويمرًا العجلانيَّ طلَّقَ امرأتَه ثلاثًا بحضرتِهِ صلى الله عليه وسلم ولم ينكرْ عليهِ فدلَّ على إباحةِ جَمْعِ الثلاثِ وعلى وقوعِها. وأجيبَ بأنَّ هذا التقريرَ لا يدلُّ على الجوازِ ولا على وقوعِ الثلاثِ؛ لأنَّ النَّهْيَ إنَّما هوَ فيما يكونُ في طلاقٍ رافعٍ لنكاحٍ كانَ مطلوبَ الدوامِ والملاعنُ أوقعَ الطلاقَ على ظن أنهُ بقيَ له إمساكُها ولم يعلمْ أنهُ باللعانِ حصلتْ فرقةُ الأبدِ

(1)

في "المسند" رقم (1538).

(2)

رقم (8/ 948) من كتابنا هذا.

(3)

في "الموارد" رقم (1321).

(4)

في "المستدرك"(2/ 199).

(5)

والأصح أنه ضعيف كما تقدم قريبًا.

(6)

في (ب): "طلقة".

(7)

في (ب): "لأنها".

(8)

البخاري رقم (5259) و (5308) و (5309) و (423) و (4745) و (4746) و (6854) و (7165) و (7166) و (7304)، ومسلم رقم (1492).

ص: 167

سواءٌ كانَ فراقُه بنفسِ اللعانِ، أو بتفريقِ الحاكمِ، فلا يدلُّ على المطلوبِ. واستدلُّوا بما في المتفقِ عليهِ

(1)

أيضًا في حديثِ فاطمةِ بنتِ قيسٍ أن زوجَها طلَّقَها ثلاثًا وأنهُ صلى الله عليه وسلم أخْبِرَ بذلكَ قالَ: ليسَ لها نفقةٌ وعليها العدةُ.

وأجيب عنه بأنهُ ليسَ في الحديثِ تصريحٌ بأَنهُ أوقعَ الثلاثَ في مجلسٍ واحدٍ فلا يدلُّ على المطلوبِ. قالُوا: عدمُ استفصالِه صلى الله عليه وسلم هل كان في مجلسٍ أو مجالسَ دالٌ على أنهُ لا فَرْقَ في ذلكَ. ويُجَابُ عنهُ بأنهُ لم يستفصلْ لأنهُ كانَ الواقعُ في ذلكَ العصرِ غالبًا عدمَ إرسالِ الثلاثِ كما تقدَّمَ، وقولُنا غالبًا لئلَّا يقالَ قدْ أسلفْنَا أنَّها وقعتِ الثلاثُ في عصرِ النبوةِ؛ لأنَّا نقولُ نعمْ لكنْ نادرًا، ومثلُ هذا [ما استدل]

(2)

بهِ منْ حديثِ عاشثةَ أن رجلًا طلَّقَ امرأتَه ثلاثًا فتزوَّجتْ فطلَّقَ الآخرُ فَسُئِلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أتحلُّ للأولِ؟ قالَ: "لا حتَّى يذوقَ عُسَيْلَتَها"، أخرجَهُ البخاريُّ

(3)

. والجوابُ عنهُ هوَ ما سلفَ، ولهمْ أدلةٌ منَ السنةِ فيها ضعفٌ فلا تقومُ بها حجةٌ فلا نعظِّمُ بها حجمَ الكتابِ.

وكذلكَ ما استدلّوا بهِ منْ فَتَاوَى الصحابة أقوالُ أفرادٍ لا تقومُ بها حجةٌ.

القولُ الثالثُ: أنَّها تقعُ بها واحدةٌ رجعيةٌ، وهوَ مرويٌّ عنْ على وابنِ عباسٍ وإليه ذهبَ الهادي والقاسمُ والصادقُ والباقرُ ونَصَرَهُ أبو العباسِ ابنُ تيميةَ وتبعَهُ ابنُ القيمِ تلميذُه على نصرِه. واستدلُّوا بما مرَّ منْ حديثي ابن عباسٍ وهما صريحانِ في المطلوبِ، وبأنَّ أدلةَ غيرِه منَ الأقوالِ غيرُ ناهضةٍ؛ أما الأولُ والثاني فَلِمَا عرفتَ ويأتي ما في غيرِهما.

القولُ الرابعُ: أنهُ يفرَّقَ بينَ المدخولِ بها وغيرِها، فتقعُ الثلاثُ على المدخولِ بها و [يقع]

(4)

على غيرِ المدخولِ بها واحدةٌ، وهوَ قولُ جماعةٍ منْ أصحابِ ابن عباس، وإليهِ ذهبَ إسحاقُ بنُ راهويهِ. واستدلُّوا بما وقعَ في روايةِ أبي داودَ

(5)

:

(1)

أخرجه مسلم رقم (1480)، ولم يخرجه البخاري.

(2)

في (ب): "ما استدلوا".

(3)

في "صحيحه" رقم (5261) من حديث عائشة.

(4)

في (ب): "تقع".

(5)

في "السنن" رقم (2199)، وهو حديث ضعيف.

ص: 168

"أما علمتَ أن الرجلَ كانَ إذا طَلَّقَ امرأتَه ثلاثًا قبلَ أنْ يدخلَ بها جعلُوها واحدة على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"، الحديثَ. وبالقياسِ فإنهُ إذا قالَ أنتِ طالقٌ بانتْ منهُ بذلكَ فإذا أعادَ اللفظَ لم يصادفْ محلًا للطلاقِ فكانَ لغوًا. وأُجِيْبَ بما مرَّ منْ ثبوتِ ذلكَ في حقِّ المدخولةِ وغيرِها فمفهومُ حديثِ أبي داودَ لا يقاومُ عمومَ أحاديثِ ابن عباسٍ.

واعلمْ أن ظاهرَ الأحاديثِ أنهُ لا فرقَ بين أنْ يقولَ أنتِ طالقٌ ثلاثًا أو يكررُ هذا اللفظَ ثلاثًا، وفي كتبِ الفروعِ أقوالٌ وخلافٌ في التفرقةِ بينَ هذه الألفاظِ لم يستندْ إلى دليلٍ واضحٍ. وقدْ أطالَ الباحثونَ في الفروعِ في هذهِ المسألةِ الأقوالَ، وأطبقَ أهلُ المذاهبِ الأربعةِ على وقوعِ الثلاثِ [متتابعة]

(1)

لإمضاءِ عمرَ لها، واشتدَّ نكيرُهم على مَنْ خالفَ ذلكَ، وصارتْ هذهِ المسألةُ عَلَمًا عندَهم للرافضةِ والمخالفينَ، وعوقبَ ابن تيمية بسببِ الفُتيا بها، وطِيفَ بتلميذِه ابن القيمِ على جملٍ بسببِ الفتْوى بعدمِ وقوعِ الثلاثِ، ولا يخْفَى أن هذهِ محضُ عصبيةِ شديدةِ في مسألةٍ فروعية قد اختلفَ فيها سلفُ الأمةِ وخلفُها فلا نكيرَ على مَنْ ذهبَ إلى أي قولٍ منَ الأقوالِ المختلفِ فيها كما هوَ معروفٌ، وهاهُنا يتميزُ المنصفُ منْ غيرِه منْ فحولِ النظارِ والأتقياءِ منَ الرجالِ

(2)

.

‌الجد والهزل في النكاح والطلاق والرجعة

6/ 1012 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثٌ جَدُهُنَّ جَدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطلاقُ وَالرَّجْعَةُ"، رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ

(3)

وَصَحّحَهُ الحاكِمُ

(4)

. [حسن]

(1)

في (أ): "متابعة".

(2)

انظر إلى ما قاله ابن تيمية في "الفتاوى"(3/ 16 - 17)، وما قاله ابن قيم الجوزية في "إغاثة اللهفان"(1/ 283 - 331)، و"إعلام الموقعين"(3/ 30، 40) و"زاد المعاد"(5/ 241 - 271).

(3)

أبو داود رقم (2194)، والترمذي رقم (1184)، وابن ماجه رقم (2039).

(4)

في "المستدرك"(2/ 197 - 198) وقال: حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: عبد الرحمن بن حبيب بن أردك: فيه لين.

وخلاصة القول: أن الحديث حسن. انظر: "إرواء الغليل" رقم (1826).

ص: 169

- وَفي رِوَايَةٍ لابْنِ عَدِيٍّ

(1)

مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ: "الطَّلاقُ وَالْعِتَاقُ وَالنِّكَاحُ". [حسن لغيره]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثلاثٌ جَدّهنَّ جَدٌّ وهزلهنَّ جَدٌّ: النكاحُ والطلاقُ والرجعةُ. رواه الأربعة إلا النسائيَّ وصحَّحَهُ الحاكمُ، وفي روايةٍ) عنْ أبي هريرةَ (لابنِ عديٍّ منْ وجْهٍ آخرَ ضعيفٍ: الطلاق والعتاق والنكاحُ)، وقد بيَّنَ معناها قولهُ:

7/ 1013 - وَللْحَارِثِ بْنِ أَبي أُسَامَةَ

(2)

مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه رَفَعَهُ: "لَا يَجُوزُ اللَّعِبُ في ثَلاثٍ: الطَّلَاقِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْعِتَاقِ، فَمَنْ قَالَهُنَّ فَقَدْ وَجَبْنَ"، وَسَنَدُهُ ضَعيفٌ. [حسن لغيره]

(وللحارثِ بن أبي أُسامةَ منْ حديثِ عبادةَ بن الصامتِ رفعه: لا يجوز اللعبُ في ثلاثٍ: النكاحِ والطلاقِ والعتاقِ، فمنْ قالهنَّ فقد وجَبْنَ. وسندهُ ضعيفٌ) لأنَّ فيهِ ابنَ لهيعةَ وفيهِ انقطاعٌ. أيضًا والأحاديثُ دلَّتْ على وقوعِ الطلاقِ منَ الهازلِ وأنهُ لا يحتاجُ إلى النيةِ في الصريحِ، وإليهِ ذهبَ الهادويةُ والحنفيةُ والشافعيةُ، وذهبَ أحمدُ والناصرُ والصادقُ والباقرُ إلى أنهُ لا بدَّ منَ النيةِ لعمومِ حديثِ الأعمالِ بالنياتِ، وأُجِيبَ بأنهُ عامٌّ خصَّه ما ذكرَ منَ الأحاديثِ ويأتي الكلامُ في العتقِ.

‌حكم ما تحدَّثت به النفس

8/ 1014 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الله تَعَالَى تَجَاوَزَ

(1)

في "الكامل"(6/ 2033) من حديث أبي هريرة.

وفي "سنده""غالب بن عبيد الله الجزري" ضعيف. وقد قال ابن عدي عنه: "ولغالب غير ما ذكرت، وله أحاديث منكرة المتن مما لم أذكره".

والحديث حسن لغيره، واللهُ أعلم.

(2)

(رقم: 501 - زوائد مسند الحارث) وفيه علتان:

1 -

الانقطاع بين عبيد اللهِ، وعبادة.

2 -

وضعف ابن لهيعة.

والحديث حسن لغيره.

ص: 170

عَنْ أُمّتِي مَا حَدَّثَتْ بهِ أَنفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: إن الله تجاوزَ عنْ أمَّتِي ما حدَّثَتْ بهِ أنفسَها ما لم تعملْ أو تَكَلَّمْ. متفقٌ عليهِ)، ورواهُ ابنُ ماجْه

(2)

منْ حديثِ أبي هريرةَ بلفظِ: "عما توسوسُ بهِ صدُورُها" بدلَ: "ما حدَّثتْ بهِ أنفسَها"، وزادَ في آخرهِ:"وما استُكْرِهُوا عليهِ". قالَ المصنفُ

(3)

: وأظنُّ الزيادةَ هذهِ مدرجةً كأنَّها دخلتْ على هشامِ بن عمارٍ منْ حديثٍ في حديثٍ.

والحديثُ دليل على أنهُ لا يقعُ الطلاقُ بحديثِ النفسِ وهوَ قولُ الجمهورِ، ورُوِيَ عن ابن سيرينَ والزهريِّ وروايةٌ عنْ مالكٍ بأنهُ إذا طلَّقَ في نفسهِ وقعَ الطلاقُ، وقوَّاهُ ابنُ العربي بأنَّ منِ اعتقدَ الكفرَ بقلبِهِ ومَنْ أصرَّ على المعصيةِ أثِمَ، وكذلكَ مَنْ قذفَ مسلِمًا بقلبه وكلُّ ذلكَ منْ أعمالِ القلبِ دونَ اللسانِ. ويجابُ عنهُ بأنَّ الحديثَ المذكورَ أَخبرَ عن اللَّهِ تعالَى بأنَّهُ لا يؤاخذُ الأمةَ بحديثِ نفسها، وأنهُ تعالَى قالَ:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

(4)

وحديثُ النفسِ يخرجُ عن الوسعِ، نعمْ الاسترسالُ معَ النفسِ في باطلِ أحادِيثها يُصيِّرُ العبدَ عازمًا على الفعلِ فَيُخَافُ منهُ الوقوعُ فيما يحرُمُ فهوَ الذي ينبغي أنْ يُسَارعُ بقطعهِ إذا خطرَ، وأما احتجاجُ ابنُ العربيِّ بالكفرِ والرياءِ فلا يخْفَى أنَّهما منْ أعمالِ القلبِ فَهُما مخصوصانِ منَ الحديثِ على أن الاعتقادَ وقَصْدَ الرياءِ قدْ خَرَجَا عنْ حديثِ النفسِ، وأما المصرُّ على المعصيةِ فالإثمُ على عملِ المعصيةِ المتقدِّمِ على الإصرارِ فإنهُ دالٌّ على أنهُ لم يتبْ عنها. واستُدِلَّ بهِ على أن مَنْ كَتَبَ الطلاقَ طلقتِ امرأتهُ؛ لأنهُ عزمَ بقلبِه وعملَ بكتابِه وهوَ قولُ الجماهير، وشرطَ مالكٌ فيهِ الإشهادَ على ذلكَ وسيأتي:

‌أعمال الخاطئ والناسي والمكره

9/ 1015 - وَعَن ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

(1)

البخاري رقم (5269)، ومسلم (1/ 116 - 117 رقم 127).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2209)، والترمذي رقم (1183)، وابن ماجه رقم (2044).

(2)

في "السنن" رقم (2044).

(3)

في "فتح الباري"(5/ 161).

(4)

سورة البقرة: الآية 286.

ص: 171

"إِنَّ الله تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ

(1)

وَالْحَاكِمُ

(2)

، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَثْبُتُ

(3)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: إنَّ الله وضعَ عنْ أمتي الخطأَ والنسيانَ وما استُكْرِهُوا عليهِ. رواهُ ابنُ ماجهْ والحاكمُ وقالَ أبو حاتم: [لم]

(4)

يثبتُ)، وقالَ النوويُّ في الروضةِ في تعليقِ الطلاقِ إنهُ حديثٌ حسنٌ. وكذَا قالَ في [آخر]

(5)

الأربعينَ

(6)

لهُ اهـ. وللحديثِ أسانيدُ.

وقالَ ابنُ أبي حاتمِ

(7)

: إنهُ سألَ أباهُ عنْ أسانيدِه فقالَ هذه أحاديثُ منكرةٌ كلُّها موضوعةٌ. وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدُ في "العلل"

(8)

: سألتُ أبي عنهُ فأنكرهُ جِدًا، وقالَ: ليس يُرْوَى هذا إلا عن الحسنِ عن النبى صلى الله عليه وسلم. ونقلَ الخلالُ عنْ أحمدَ أنهُ قالَ: مَنْ زعمَ أن الخطأ والنسيانَ مرفوعٌ فقدْ خالفَ كتابَ اللَّهِ وسنةَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ اللَّهَ أوجبَ في قتلِ النفس الخطأ الكفارة. والحديثُ دليلٌ على أن الأحكام الأخرويةَ منَ العقابِ معفوةٌ عن الأمةِ المحمديةِ إذا صدرتْ عنْ

(1)

في "السنن" رقم (2045).

(2)

في "المستدرك"(2/ 198) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

قلت: وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 56)، وابن حزم في "أصول الأحكام"(5/ 149)، وابن حبان في "الموارد" رقم (1498).

(3)

في "العلل"(1/ 431): "وقال أبي: لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء. إنما سمعه من رجل لم يسمه. أتوهم أنه عبد الله بن عامر أو إسماعيل بن مسلم، ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده" اهـ.

وتعقبه الألباني في "الإرواء"(1/ 124): "ولست أرى ما ذهب إليه أبو حاتم رحمه الله، فإنه لا يجوز تضعيف حديث الثقة لا سيما إذا كان إمامًا جليلًا كالأوزاعي، بمجرد دعوى عدم السماع، فنحن على الأصل، وهو صحة حديث الثقة حتى يتبين انقطاعه، سيما وقد روي من طرق ثلاث أخرى عن ابن عباس، وروي من حديث أبي ذر وثوبان وابن عمر وأبي بكرة، وأم الدرداء والحسن مرسلًا. وهي وإن كانت لا تخلو جميعها من ضعف فبعضها يقوي بعضًا، وقد بيَّن عللها الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 64 - 66)

"، وبعد ذلك صحَّح الحديث.

(4)

في (ب): "لا".

(5)

في (ب): "أواخر".

(6)

النووية رقم الحديث (39).

(7)

في "العلل"(1/ 431).

(8)

(1/ 561 رقم 1340).

ص: 172

خطأٍ أوْ نسيانٍ أو إكراهٍ. فأما ابتناءُ الأحكامِ والآثارِ الشرعية عنها ففي ذلكَ خلافٌ بينَ العلماءِ فاختلفُوا في طلاقِ الناسي؛ فعنِ الحسنِ أنهُ كانَ يراهُ كالعَمْدِ إلا إذا اشترطَ

(1)

، أخرجَه ابنُ أبي شيبةَ

(2)

عنهُ وعنْ عطاءٍ و [هو قولُ]

(3)

الجمهورِ أنهُ لا يكونُ طلاقًا للحديثِ، وكذا ذهبَ الجماهيرُ أنهُ لا يقعُ [طلاقُ]

(4)

الخاطئِ؛ وعنِ الحنفيةِ يقعُ، واختُلِفَ في طلاقِ المكْرَهِ فعندَ الجماهيرِ لا يقعُ. ويروى عن النخعيِّ وقالت الحنفيةُ إنهُ يقعُ. واستدل الجمهورُ بقولِه تعالَى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}

(5)

. وقالَ عطاءٌ الشركُ أعظمُ منَ الطلاقِ. وقرَّرَ الشافعيٌّ الاستدلالَ بأنَّ الله تعالَى لما وضعَ الكفرَ عمنْ تلفظَ بهِ حالَ الإكراهِ وأسقطَ عنهُ أحكامَ الكفرِ كذلكَ سقطَ عن المكْرَهِ ما دونَ الكفرِ؛ لأنَّ الأعظمَ إذا سقطَ سقطَ ما هوَ دونَه بطريقِ الأُولى.

‌تحريم الحلال والقول بأنه لغو

10/ 1016 - وَعَن ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: إِذَا حَرّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بشَيءٍ. وَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(6)

. [صحيح]

- وَلمُسْلِمٍ

(7)

عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إِذَا حَرّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. [صحيح]

(عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: إذا حرَّمَ امرأتَهُ ليسَ بشيءٍ وقالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

(8)

رواهُ البخاريُّ. ولمسلمٍ عن ابن عباسِ: إذا حرَّمَ الرجلُ عليهِ امرأتَه فهوَ يمينٌ يكفّرُها) الحديثُ موقوفٌ، وفيهِ دليلٌ علَى أن تحريمَ الزوجةِ لا يكونُ طلاقًا وإنْ كانَ يلزمُ فيهِ كفارةُ يمينٍ، كما دلتْ لهُ روايةُ مسلمٍ، فمرادُه ليسَ بشيءٍ ليسَ بطلاقٍ لا أنهُ لا حكمَ لهُ أصلًا، وقدْ أخرجَ البخاريُّ عنهُ هذا الحديثَ

(1)

يعني يقع الطلاق ويبطل الشرط بخلاف العمد فإن الشرط لا يبطل اهـ. من هامش فتح العلام.

(2)

في "المصنف"(5/ 220 - 221).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

سورة النحل: الآية 106.

(6)

في "صحيحه" رقم (5266).

(7)

في "صحيحه" رقم (1473).

(8)

سورة الأحزاب: الآية 21.

ص: 173

بلفظِ: "إذا حرَّمَ الرجلُ امرأتَه فإنَّما هيَ يمينٌ يكفِّرها"، فدل على أنهُ المرادُ بقولِه ليسَ بشيءٍ أنهُ ليسَ بطلاقٍ، ويحتملُ أنهُ أرادَ لا يلزمُ فيهِ شيءٌ، وتكونُ روايةُ أنهُ يمين رواية أخْرى فيكونُ لهُ قولانِ في المسألةِ. والمسألةُ اختلفَ فيها السلفُ منَ الصحابةِ والتابعينَ والخلفُ منَ الأئمةِ المجتهدينَ حتَّى بلغتِ الأقوالُ إلى ثلاثةَ عشرَ قولًا أصولًا وتفرَّعتْ إلى عشرينَ مذْهبًا

(1)

.

الأولُ: أنهُ لغوٌ لا حكمَ لهُ في شيءٍ منَ الأشياءِ وهوَ قولُ جماعةٍ منَ السلفِ، وهو قولُ الظاهرية والحجةُ على ذلكَ أن التحريمَ والتحليلَ إلى اللهِ تعالَى كما قالَ:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}

(2)

، وقدْ قالَ اللَّهُ تعالَى لنبيهِ صلى الله عليه وسلم:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}

(3)

، وقالَ تعالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}

(4)

، قالُوا: ولأنهُ لا فرقَ بينَ تحليلِ الحرامِ وتحريمِ الحلالِ، فكما كانَ الأولُ باطلًا فليكنِ الثاني باطلًا. ثمَّ قولُه:"هيَ حرامٌ" إنْ أرادَ [به]

(5)

الإنشاءَ فإنشاءُ التحريمِ ليسَ إليهِ، وإنْ أرادَ بهِ الإخبارَ فهوَ كذبٌ، قالُوا: ونظرُنَا إلى ما سِوَى هذا القولِ - يعني منَ الأقوالِ التي في المسألةِ - فوجدْناها أقوالًا مضطربةً لا برهانَ عليها منَ اللهِ فيتعينُ القولُ بهذَا. وهذَا القولُ يدلُّ عليهِ حديثُ ابن عباسٍ

(6)

وتلاوتُه لقولِه تعالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

(7)

فإنهُ دالُّ على أنهُ لا يحرَّمُ بالتحريمِ ما حرَّمهُ على نفسِه؛ فإنَّ اللَّهَ تعالَى أنكرَ على رسولِه تحريمَ ما أحلَّ اللَّهُ لهُ وظاهرُه أنَّها لا تلزمُ الكفارةُ، وأما قولهُ تعالَى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}

(8)

فإنَّها كفارةُ حَلِفِهِ صلى الله عليه وسلم كما أخرجَهُ الطبريُّ

(9)

بسندٍ صحيح عنْ زيدِ بن أسلمَ التابعيِّ المشهورِ قالَ: أصابَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمَّ إبراهيمَ ولدِه في بيتِ بعضِ نسائِه فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ في بيتِي وعلى فراشي فجعلَها عليهِ حرامًا، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ كيفَ تحرِّمُ

(1)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 302 - 306).

(2)

سورة النحل: الآية 116.

(3)

سورة التحريم: الآية 1.

(4)

سورة المائدة: الآية 87.

(5)

زيادة من (ب).

(6)

تقدم وهو حديث الباب رقم (10/ 1016).

(7)

سورة الأحزاب: الآية 21.

(8)

سورة التحريم: الآية 2.

(9)

في "جامع البيان"(14/ ج 28/ 155 - 159).

ص: 174

الحلالَ فحلفَ باللهِ لا يصيبُها فنزلتْ، هذا أحدُ القوليْنِ فيما حرَّمه صلى الله عليه وسلم وسيأتي القولُ الآخرُ في [تحقيق]

(1)

إيلائِه صلى الله عليه وسلم. والحديثُ وإنْ كانَ مرسلًا فقدْ أخرجَ النسائيُّ

(2)

بسندٍ صحيحٍ عنْ أنسٍ صلى الله عليه وسلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانتْ لهُ أمةٌ يطؤُها فلمْ تزلْ بهِ حفصةُ وعائشةُ حتَّى حرَّمَها فأنزلَ اللهُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}

(3)

، وهذَا أصحُّ سببِ النزولِ، والمرسلُ عنْ زيدٍ قدْ شهدَ لهُ هذا فالكفارةُ لليمينِ لا لمجردِ التحريمِ. وقدْ فَهِمَ هذا زيدُ بنُ أسلمَ فقالَ بعدَ روايتِه القصةَ:"يقولُ الرجلُ لامرأتِه أنتِ عليَّ حرامٌ لغوٌ وإنَّما يلزمُه كفارةُ يمينٍ إنْ حلفَ"، وحينئذٍ فالأسوةُ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلغاءُ التحريم والتكفيرُ إنْ حلفَ، وهذا القولُ أقربُ الأقوالِ المذكورةِ وأرجحُها عندي فلم أَسردْ منْها شيئًا سواه.

11/ 1017 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ:"لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأهْلِكِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(4)

. [صحيح]

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أن ابنةَ الجونِ لما أُدْخِلَتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ودنا منْها قالتْ: أعوذ باللهِ منكَ، قالَ: لقدْ عذتِ بعظيمٍ الحقي بأهلكِ. رواهُ البخاريُّ)، اختُلِفَ في اسمِ ابنةِ الجونِ المذكورةِ اختلافًا كثيرًا، ونفعُ تعيينِها قليلٌ فلا نشتغلُ بنقلهِ. أخرج ابنُ سعدٍ

(5)

منْ طريقِ عبدِ الواحدِ بن أبي عونٍ قالَ: قدمَ النعمانُ بنُ أبي الجونِ الكنديِّ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولُ اللهِ أزوِّجُكَ أجملَ أيِّمٍ في العربِ كانتْ تحتَ ابن عمٍّ لها فَتُوُفِّيَ وقدْ رغبت فيكَ، قالَ:"نعمْ"، قالَ: فابعثْ مَنْ يحملُها إليكَ فبعثَ معهُ أبا أسيدٍ الساعديِّ، قالَ أبو أسيدٍ: فأقمتُ ثلاثةَ أيامٍ، ثمَّ تحملتْ بها معي في محفةٍ فأقبلتُ بها حتَّى قدمتُ المدينة فأنزلْتُها في بني

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في "عشرة النساء" رقم (21) وفي "السنن": عشرة النساء، باب الغيرة رقم (3959)، وفي "التفسير" سورة التحريم رقم (619). بسند صحيح.

قلت: وأخرجه الحاكم (2/ 493) وقال على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي.

(3)

سورة التحريم: الآية 1.

(4)

في "صحيحه"(9/ 356 رقم 5254) وقد تقدم.

(5)

في "الطبقات"(8/ 143 - 144).

ص: 175

ساعدةَ ووجهتُ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهوَ في بني عمروِ بن عوفٍ فأخبرتُه الحديثَ. قالَ ابنُ أبي عونٍ: وكانَ ذلكَ في ربيعٍ الأولِ سنةَ سبعٍ، ثمَّ أخرجَ ذلكَ منْ طريقيْنِ

(1)

. وفي تمامِ القصةِ قيلَ لها: استعيذي منهُ فإنهُ أحْظَى لكِ عندَه وخدعتْ، لما رُئِيَ منْ جمالِها، وذُكِرَ لرسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ حملَها على ما قالتْ فقال: إنهنَّ صواحبُ يوسفَ وكيدُّهنَّ. والحديثُ دليلٌ على أن قولَ الرجلِ لامرأتهِ الحقي بأهلكِ طلاقٌ؛ لأنهُ لم يرد أنهُ زادَ غيرَ ذلكَ فيكونُ كنايةَ طلاقٍ إذا أُريدَ بهِ الطلاقُ كانَ طلاقًا. قالَ البيهقيُّ

(2)

: زادَ ابنُ أبي ذئبِ عن الزهريِّ: الحقي بأهلكِ جعلَها تطليقةً، ويدلُّ على أنهُ كنايةُ طلاقٍ أنهُ قدْ جاءَ في قصةِ كعبِ بن مالكٍ

(3)

: أنهُ لما قيلَ لهُ اعتزلِ امرأتَكَ قالَ: الحقي بأهلكِ فكوني عندَهم فكوني عندهم

(4)

ولم يُردِ الطلاقَ فلمْ تُطَلَّقْ وإلى هذا ذهبَ الفقهاءُ الأربعةُ وغيرُهم.

وقالتِ الظاهريةُ: لا يقعُ الطلاقُ بالحقي بأهلكِ، قالُوا: والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يكنْ قدْ عقدَ بابنةِ الجونِ، وإنَّما أرسلَ إليها لِيَخْطِبَها إذِ الرواياتُ قدِ اختلفتْ في قِصَّتِها، ويدلُّ على أنهُ لم يكنْ عقدَ بها ما في صحيحِ البخاريِّ

(5)

أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: هبي لي نفسَك، قالتْ: وهلْ تهبُ الملكةُ نفسَها للسُّوقةِ، فأهوى ليضعَ يدَه عليها لتسكنَ فقالتْ: أعوذُ باللَّهِ منكَ، قالُوا: فطلبُ الهبةِ دالٌ على أنهُ لم يكنْ عقدَ بها ويبعدُ ما قالُوه قولُه: ليضعَ يدَه، وروايةُ: فلمَّا دخلَ عليها، فإن ذلكَ إنَّما يكونُ معَ الزوجةِ.

وأما قولُه: "هبي لي نفسَكِ" فإنهُ [قالهُ تطييبًا]

(6)

لخاطرِها واستمالةً لقلبِها، ويؤيدُه ما سلفَ منْ روايةٍ أنَّها رغبت فيكَ. وقدْ رُوِيَ اتفاقُه معَ أبيها على مقدارِ صَدَاقِها، وهذهِ وإنْ لم تكنْ صرائحَ في العقدِ بها إلَّا أنهُ أقربُ الاحتماليْنِ.

‌لا طلاق إلا بعد النكاح

12/ 1018 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا طَلاقَ إِلَّا

(1)

في "الطبقات"(8/ 144 - 145).

(2)

في "السنن الكبرى"(7/ 342).

(3)

أخرجه البخاري رقم (4418)، ومسلم رقم (2769).

(4)

كذا في المخطوط (أ) و (ب) مكررة.

(5)

رقم (5255).

(6)

في (ب): "قاله تطيبًا".

ص: 176

بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْك"، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى

(1)

وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(2)

، وَهُوَ مَعْلُولٌ. [حسن لغيره]

(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا طلاقَ إلَّا بعدَ نكاحٍ ولا عتقَ إلا بعدَ مِلْكٍ. رواهُ أبو يعلى وصحَّحَهُ الحاكمُ) وقال: أنا متعجبٌ منَ الشيخينِ كيفَ أهملاهُ، لقد صحَّ على شرطِهِمَا منْ حديثِ ابن عمرَ وعائشةَ وعبدِ اللهِ بن عباسٍ ومعاذِ بن جبلٍ وجابرٍ، انتَهى. (وهوَ معلولٌ) بما قالَه الدارقطنيُّ

(3)

الصحيحُ مرسلٌ ليسَ فيهِ جابرٌ. قالَ يحيى بنُ معينٍ: لا يصحُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لا طلاقَ قبلَ نكاح، وقالَ ابنُ عبدِ البرِ: رُوِيَ منْ وجوهٍ إلَّا أنَّها عند أهلِ العلمِ بالحديثِ معلولةٌ، انتهَى. ولكنَّهُ يشهدُ لهُ:

13/ 1019 - وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ

(4)

عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لكِنَّهُ مَعْلُولٌ أَيْضًا. [صحيح]

(1)

لم أجده في "مسند أبي يعلى" المطبوع. كما لم يعزه صاحب المطالب العالية إلى أبي يعلى. بل عزاه (للحارث) رقم (1667)، وقال الشيخ الأعظمي: في إسناده حرام بن عثمان. قال الشافعي: الرواية عنه حرام. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (8224). وأورده الهيثمي في "مجمع البحرين" رقم (2380)، وفي "مجمع الزوائد"(4/ 334) ورجاله رجال الصحيح ما عدا شيخه وهو ثقة.

وأخرجه البزار في "كشف الأستار"(2/ 192) ورجاله رجال الصحيح، والحاكم (2/ 204) وقال صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

(2)

في "المستدرك"(2/ 419 - 420). وقال: أنا متعجِّب من الشيخين الإمامين كيف أهملا هذا الحديث، ولم يخرجاه في الصحيحين. فقد صح على شرطهما حديث ابن عمر وعائشة وابن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد اللهِ.

وخلاصة القول: أن الحديث حسن لغيره، انظر:"الإرواء" رقم (2068).

(3)

في "العلل"(3/ 75).

(4)

في "السنن" رقم (2048) بإسناد حسن.

وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 132 رقم 723/ 2048): "هذا إسناد حسن، علي بن الحسين وهشام بن سعد مختلف فيهما.

وله شاهد رواه ابن حبان في صحيحه.

والحاكم في "المستدرك" من حديث جابر بن عبد اللهِ.

ورواه الحاكم من حديث عائشة. =

ص: 177

‌ترجمة المسور بن مخرمة

(وأخرجَ ابن ماجة عَنْ المِسْورِ)

(1)

بكسرِ الميمِ وسكونِ السينِ المهملةِ وفتحِ الواوِ [فراءٍ]

(2)

(ابن مَخْرَمةَ) بفتحِ الميمِ فخاء معجمةٍ ساكنةِ (مثلَه وإسنادُه حسنٌ لكنَّهُ معلولٌ أيضًا) لأنهُ اختُلِفَ فيهِ على الزهريِّ. قالَ علي بنُ الحسينِ بن واقدٍ عنْ هشامٍ عنْ سعيدِ عن الزهريِّ عنْ عروةَ عن المسورِ، وقالَ حمادُ بنُ خالدٍ: عنْ هشامٍ عنْ سعيدِ عن الزهريِّ عنْ عروةَ عنْ عائشةَ وعنْ أبي بكرِ وعنْ أبي هريرةَ وأبي موسَى الأشعريِّ وأبي سعيدٍ الخدريِّ وعمرانَ بن حُصَيْنٍ وغيرِهم ذكرَها البيهقي في الخلافياتِ. وقالَ البيهقيُّ: أصح حديثِ فيهِ حديثُ عمرِو بن شعيب عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ. قالَ الترمذيُّ

(3)

: هوَ أحسنُ شيء رُوِيَ في هذا البابِ ولفظُهَ عندَ أصحابِ السننِ

(4)

: "ليسَ علَى رجلٍ طلاقٌ فيما لا يملكُ"، الحديثَ.

قالَ البيهقيُّ قالَ البخاريُّ أصحُّ شيءٍ فيهِ وأشهرُه حديثُ عمرِو بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ ويأتي

(5)

. وحديثُ الزهريِّ عنْ عائشةَ

(6)

وعنْ عليٍّ

(7)

مدارُه علَى جويبرٍ عن الضحاكِ عن النزالِ بن سبرةَ عنْ عليٍّ رضي الله عنه وجويبرٌ متروكٌ. ثمَّ قالَ البيهقي: ورواهُ ابنُ ماجة بإسنادٍ حسنٍ. والحديثُ دليلٌ على أنهُ لا يقعُ الطلاقُ على المرأةِ الأجنبيةِ، فإنْ كانَ تنجيزًا فإجماعٌ وإنْ كانَ تعليقًا بالنكاحِ كأنْ يقولَ إنْ نكحتُ فلانةَ فهيَ طالقٌ ففيهِ ثلاثةُ أقوالٍ:

الأولُ: أنهُ لا يقعُ مطلقًا وهوَ قولُ الهادويةِ والشافعيةِ وأحمدَ وداودَ وآخرينَ.

= ورواه أصحاب السنن الأربعة خلا النسائي من حديث عبد اللهِ بن عمرو.

والخلاصة: أن الحديث صحيح. انظر: "الإرواء"(7/ 152).

(1)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (8011)، و"أسد الغابة" رقم (4926)، و"الاستيعاب" رقم (2434)، "شذرات الذهب"(1/ 72)، "تجريد أسماء الصحابة"(2/ 77).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في "السنن"(3/ 486).

(4)

أبو داود رقم (2190، 2191، 2192)، والترمذي رقم (1181)، وابن ماجه رقم (2047)، والنسائي (7/ 289).

(5)

برقم (14/ 1020) من كتابنا هذا.

(6)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 321).

(7)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 320) بسند ضعيف.

ص: 178

ورواهُ البخاريُّ عن اثنينِ وعشرينَ صحابيًا. ودليلُ هذا القولِ حديثُ البابِ وإنْ كانَ فيهِ مقالٌ منْ قِبَلِ الإسنادِ فهوَ متأيدٌ بكثرةِ الطُّرقِ، وما أحسنَ ما قالَ ابنُ عباسٍ قالَ تعالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}

(1)

، ولم يقلْ إذا طلقتموهن ثمَّ نكحتموهنَّ، وبأنهُ إذا قالَ المطلِّقُ: إنْ تزوجتُ فلانةَ فهي طالقٌ مطلِّقٌ لأجنبيةٍ فإنَّها حينَ أنشأَ الطلاقَ أجنبيةٌ والمتجددُ هوَ نكاحُها، فهوَ كما لو قالَ لأجنبيةٍ: إنْ دخلتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ فدخلتْ وهيَ زوجتُه لم تطلَّقْ إجماعًا. وذهبَ أبو حنيفةَ وهوَ أحدُ قَوْلي المؤيَّدِ باللهِ إلى أنهُ يصحُّ التعليقُ مطلقًا، وذهبَ مالكٌ وآخرونَ إلى التفصيلِ، فقالُوا: إنْ خصَّ بأنْ يقولَ: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجُها منْ بني فلانٍ أوْ منْ بلدِ كذا فهيَ طالقٌ أوَ قالَ في وقتِ كَذَا وقعَ الطلاقُ، وإنْ عمَّ فقال: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجُها فهيَ طالقٌ لم يقعْ شيءٌ، وقالَ في "نهاية المجتهد"

(2)

: سببُ الخلافِ هلْ منْ شرطِ وقوعِ الطلاقِ وجودُ الملكِ متقدِّمًا على الطلاقِ بالزمانِ أوْ ليسَ منْ شَرْطِهِ؟ فَمَنْ قالَ هوَ منْ شرطِهِ قالَ لا يتعلَّقُ الطلاقُ بالأجنبيةِ ومَنْ قالَ: ليسَ منْ شَرْطِهِ إلا وجودُ الملكِ فقطْ قالَ: يقعُ

(3)

.

قلتُ: دَعْوى الشرطيةِ تحتاجُ إلى دليل ومَنْ لم يدعْها فالأصلُ معَه ثمَّ قالَ: وأما الفرقُ بينَ التخصيصِ والتعميمِ فاستحسانٌ مبنيٌّ على المصلحةِ، وذلكَ أنه إذا وقعَ فيه التعميمُ فلو قلْنا بوقوعِه امتنعَ منهُ التزويجُ فلمْ يجدْ سبيلًا إلى النكاحِ الحلالِ فكانَ منْ بابِ النذرِ بالمعصيةِ، وأما إذا خصَّصَ فلا يمتنعُ منهُ ذلكَ اهـ.

قلتُ: سبقَ الجوابُ عنْ هذا بعدم الدليلِ على الشرطيةِ، هذَا والخلافُ في العتقِ مثلُ الخلافِ في الطلاقِ فيصحُّ عندَ أبي حنيفةَ وأصحابِه. وعندَ أحمدَ في أصحِّ قوليْهِ وعليهِ أصحابُه ومنْهمُ ابنُ القيمِ فإنهُ فرَّقَ بينَ الطلاقِ والعتاقِ فأبطلَه في الأولِ وقالَ بهِ في الثاني مستدلًا على الثاني بأنَّ العتقَ لهُ قوةٌ وسرايةٌ؛ فإنهُ يسري إلى ملكِ الغيرِ؛ ولأنهُ يصحُّ أنْ يجعلَ الملكَ سببًا للعتقِ كما لو اشترَى عبدًا ليعتقَه عنْ كفارةٍ أو نذرٍ أو اشتراهُ بشرطِ العتقِ؛ ولأنَّ العتقَ منْ باب القربِ والطاعاتِ وهوَ يصحُّ النذرُ بها وإنْ لم يكنْ المنذور بهِ مملوكًا، كقولَكَ: لئنْ

(1)

سورة الأحزاب: الآية 49.

(2)

(3/ 159): بتحقيقنا.

(3)

انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته"(7/ 375 - 378).

ص: 179

آتاني اللَّهُ منْ فَضْلِهِ لأَصَّدقنُّ بكذَا وكذَا، ذكرهُ في "الهدي النبوي"

(1)

.

قلتُ: ولا يخْفَى ما فيهِ، فإنَّ السرايةَ إلى ملكِ الغيرِ تفرَّعتْ منْ إعتاقِهِ لما يملكُه منَ الشقصِ فحكمُ الشارعِ بالسرايةِ لعدمِ تبعُّضِ العتقِ. وأما قولُه: ولأنهُ يصحُّ أنْ يجعلَ الملكَ سببًا للعتقِ كما لوِ اشتَرى عبدًا ليعتقَهُ فيجابُ عنهُ بأنهُ لا يعتقُ هذا الذي اشتراهُ إلَّا بإعتاقهِ كما قالَ ليعتقَه وهذا عتقٌ لما يملكُهُ. وأما قولُه: إنهُ يصحُّ النذرُ، ومثلُه بقولِه لئنْ آتاني اللهُ منْ فَضْلِهِ، فهذِه فيها خلافٌ، ودليلٌ المخالفِ أنهُ قدْ قالَ صلى الله عليه وسلم: لا نَذْرَ فيما لا يملكُ ابن آدمَ، كما يفيدُه قولُه:

14/ 1020 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نَذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيما لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لَهُ فيما لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ

(3)

. وَنُقِلَ عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّهُ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فيهِ

(4)

. [صحيح]

(وعنْ عمروِ بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا نَذْرَ لابنِ آدمَ فيما لا يملكُ، ولا عتقَ لهُ فيما لا يملكُ، ولا طلاقَ لهُ فيما لا يملكُ. أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ وصحَّحَه ونُقِلَ عن البخاريِّ أنهُ أصحُّ ما وردَ فيهِ) تقدَّمَ الكلامُ في ذلكَ مُسْتَوْفَى.

15/ 1021 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

(1)

(5/ 215 - 218) حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق قبل النكاح.

(2)

في "السنن" رقم (2190).

(3)

في "السنن" رقم (1181) وقال: حديث حسن صحيح.

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2047)، وابن الجارود رقم (743)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 280 و 281)، والبيهقي (7/ 318)، والطيالسي رقم (1610 - منحة المعبود)، والحاكم (2/ 304 - 305)، وأحمد (2/ 189، 190، 207)، والدارقطتني (4/ 14 - 15) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. مطولًا، ومختصرًا.

قلت: وله شاهد من حديث جابر بن عبد اللهِ. أخرجه الطيالسي في "المسند" رقم (1682)، والبيهقي (7/ 319)، والحاكم (2/ 204).

والخلاصة: أن الحديث صحيح، واللهُ أعلم.

(4)

ذكره ابن حجر في "فتح الباري"(9/ 382).

ص: 180

"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتى يَسْتَيقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتى يَعْقِلَ، أَوْ يُفِيقَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

وَالأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ

(2)

، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(3)

، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(4)

. [صحيح]

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: رُفِعَ القلمُ) أي ليسَ يجري أصالةً، لا أنهُ رُفِعَ بعدَ وَضْعٍ، والمرادُ برفع [القلم]

(5)

عدمُ المؤاخذةِ لا قلمُ الثوابِ، فلا ينافيْهِ صحةُ إسلامِ الصبيِّ المميِّز كما ثبتَ في غلامِ اليهوديِّ الذي كانَ يخدمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعرضَ عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإسلامَ فأسْلَمَ، فقالَ:"الحمدُ للهِ الذي أنقذَهُ منَ النارِ"

(6)

، وكذلكَ ثبتَ أن امرأةً رَفَعَتْ إليهِ صلى الله عليه وسلم صبيًا فقالتْ: أَلِهذَا حجٌّ؟ فقالَ: "نعمْ ولكِ أجرٌ"

(7)

، ونحوُ هذا كثيرٌ في الأحاديثِ، (عنْ ثلاثةٍ: عن النائمِ حتى يستيقظ، وعنِ الصغيرِ حتَّى يكبرَ، وعنِ المجنونِ حتَّى يعقلَ أو يفيقَ. رواهُ أحمدُ والأربعةُ إلَّا الترمذيَّ، وصحَّحَهُ الحاكمُ، وأخرجَهُ ابنُ حِبَّانَ).

الحديثُ فيهِ كلامٌ كثيرٌ [لأهلِ]

(8)

الحديثِ وفيهِ دليل على أن الثلاثةَ لا يتعلَّقُ بهمْ تكليفٌ، وهوَ في النائمِ المستغرقِ إجماعٌ، والصغيرِ الذي لا تمييزَ لهُ.

(1)

في "المسند"(6/ 100، 101، 144).

(2)

أبو داود رقم (4398)، والنسائي (6/ 156)، وابن ماجه رقم (2041).

(3)

في "المستدرك"(2/ 59) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

ووافقه الذهبي وهو كما قالا.

(4)

رقم (1496 - موارد).

قلت: وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" رقم (148).

وللحديث شواهد من حديث علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبي هريرة وغيرهم، انظر تخريجها في كتابنا "إرشاد الأمة" جزء الطهارة.

(5)

في (ب): "قلم".

(6)

أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 175) من حديث أنس.

(7)

أخرجه مسلم رقم (1336)، وأبو داود رقم (1736)، والنسائي (5/ 120 - 121)، والبغوي رقم (1852)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (411)، وأحمد (1/ 219)، والحميدي رقم (504)، والطيالسي رقم (2707)، وابن خزيمة رقم (3049) من حديث ابن عباس.

(8)

في (ب): "أئمة".

ص: 181

وفيهِ خلافٌ إذا عقلَ وميَّزَ، والحديثُ جعلَ غايةَ رفعِ القلمِ عنهُ إلى أنْ يكبرَ، فقيلَ إلى أنْ يطيقَ الصيامَ ويحصي الصلاةَ وهذَا لأحمدَ، وقيلَ: إذا بلغَ اثنتي عشْرةَ سنةً، وقيلَ: إذا ناهزَ الاحتلامَ، وقيلَ: إذا بلغَ. والبلوغُ يكون بالاحتلامِ في حقِّ الذَّكَرِ معَ إنزالِ المنيِّ إجماعًا، وفي حقِّ الأنثَى عندَ الهادويةِ وبلوغُ خمسَ عشْرَةَ سنة، وإنباتُ الشعرِ الأسودِ المتجعدِ في العانةِ بعدَ تسعِ سنينَ عندَ الهادويةِ وكذلكَ الإمناءُ في حالِ اليقظةِ إذا كانَ لشهوةٍ وفي الكلِّ خلافٌ معروفٌ. وأما المجنونُ فالمرادُ بهِ زائلُ العقلِ فيدخلُ فيهِ السكرانُ والطفلُ كما يدخلُ المجنونُ وقدِ اختُلِفَ في طلاقِ السكرانِ على قوليْنِ:

الأولُ: أنهُ لا يقعُ وإليهِ ذهبَ عثمانُ وزيدٌ وجابرٌ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وجماعةٌ منَ السلفِ وهوَ مذهبُ أحمدَ وأهلُ الظاهرِ لهذا الحديثِ ولقولِه تعالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}

(1)

، فجعلَ قولَ السكرانِ غيرَ مُعْتَبَرَ؛ لأنهُ لا يعلمُ ما يقولُ وبأنهُ غيرُ مكلَّفٍ لانعقادِ الإجماعِ، على أن منْ شرطِ التكليفِ العقلُ ومَنْ لا يعقلُ ما يقولُ فليسَ بمكلَّفٍ، أوْ بأنهُ كانَ يلزمُ أنْ يقعَ طلاقُه إذا كانَ مُكْرَهًا علَى شُرْبِها أوْ غيرَ عالِمٍ بأنَّها خمرٌ ولا يقولُه المخالفُ.

والثاني: وقوعُ طلاقِ السكرانِ، ويُرْوَى عنْ عليٍّ وابنِ عباسٍ وجماعةٍ منَ الصحابةِ وعنِ الهادي وأبي حنيفةَ والشافعيِّ ومالكٍ واحتجَّ لهمْ بقولِه تعالَى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}

(2)

فإنهُ نَهْيٌ لهمْ عنْ قُربَانِها حالَ السُّكْرِ والنَّهْيُ يقتضي أنَّهمْ مكلَّفونَ حالَ سُكْرِهِمْ، والمكلَّف تصح منهُ الإنشاءاتُ وبأنَّ إيقاعَ الطلاقِ عقوبةٌ لهُ وبأنَّ ترتيبَ الطلاقِ على التطليقِ منْ بابِ رَبْطِ الأحكامِ بأسبابِها فلا يؤثرُ فيه السكرُ وبأنَّ الصحابةِ أقاموهُ مقامَ الصاحي في كلامهِ فإنَّهم قالُوا: إذا شربَ سَكِرَ، وإذا سَكِرَ هَذَى، فإذا هَذَى افْتَرى، وحدُّ المفتري ثمانونَ. وبأنهُ أخرجَ سعيدُ بنُ منصورٍ

(3)

عنهُ صلى الله عليه وسلم: "لا قيلولةَ في الطلاقِ"، وأُجِيْبَ بأنَّ الآيةَ

(1)

سورة النساء: الآية 43.

(2)

سورة النساء: الآية 43.

(3)

في "سننه" رقم (1130).

قلت: وأخرجه العقيلي في "الضعفاء"(3/ 441 - 442) في ترجمة غازي بن جبلة الجيلاني، والزيلعي في "نصب الراية"(3/ 222)، وابن حزم في "المحلَّى"(10/ 203)، =

ص: 182

خطابٌ لهمْ حالَ صَحْوِهِم ونهيٌ لهم قبلَ سُكْرِهمْ أن يقربُوا الصلاةَ حالةَ أنَّهم لا يعلمونَ ما يقولونَ، فهي دليلٌ لنَا كما سلفَ، وبأنَّ جَعْلَ الطلاقِ عقوبةً يحتاجُ إلى دليلِ على المعاقبةِ للسكرانِ بفراقِ أهلهِ؛ فإنَّ الله لم يجعلْ عقوبتَه إلَّا الحدَّ، وبأنَّ ترتيبَ الطلاقِ على التطليقِ محلَّ النزاعِ.

وقدْ قالَ أحمدُ والبتيُّ: إنهُ لا يلزمُه عَقدٌ ولا بَيْعٌ ولا غيرُه، على أنهُ يلزمُهم القولُ بترتيبِ الطلاقِ على التطليقِ صحَّةُ طلاقِ المجنونِ والنائمِ والسكرانِ غيرِ العاصي بِسُكْره والصبيِّ، وبأَنَّ ما نُقِلَ عن الصحابةِ أنَّهم قالُوا: إذا شربَ إلى آخرِه فقالَ ابنُ حزمٍ

(1)

: إنهُ خبرٌ مكذوبٌ باطلٌ متناقضٌ، فإنَّ فيهِ إيجابَ الحدِّ على مَنْ هَذَى والهاذي لا حدَّ عليهِ، وبأنَّ حديثَ:"لا قيلولةَ في طلاقٍ"، خبرٌ غيرُ صحيحٍ، وإنْ صحَّ فالمرادُ طلاقُ المكلَّفِ العاقلِ دونَ مَنْ لا يعقلُ، ولهمْ أدلةٌ غيرُ هذهِ لا تنهضُ على المدَّعي.

* * *

= كلهم عن صفوان بن غزوان الطائي عن رجل به.

قال ابن حزم: "وهذا خبر في غاية السقوط، صفوان منكر الحديث، وبقية ضعيف، والغازي بن جبلة مغموز" اهـ.

وخلاصة القول: أن الحديث منكر، واللهُ أعلم.

(1)

في "المحلَّى"(10/ 211).

ص: 183

[الكتاب العاشر] كتاب الرجعَة

الإشهاد على الرجعة والطلاق

1/ 1022 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرّجُلِ يُطَلِّقُ ثُمَّ يُرَاجِعُ وَلَا يُشْهِدُ؟ فَقَالَ: أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

هَكَذَا مَوْقُوفًا، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ

(2)

. [صحيح]

- وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقيُّ

(3)

بِلَفْظِ: أَنَّ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه سُئِلَ عَمنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يُشْهِدْ، فَقَالَ: راجع في غَيْرِ سُنّةٍ؟ فَلْيُشْهِدِ الآنَ. وَزَادَ الطَّبَرَانيُّ في رِوَايَةٍ: وَيَسْتَغْفِرِ الله. [بسند منقطع]

(عنْ عمرانَ بن حصينٍ رضي الله عنه أنهُ سُئِلَ عن الرجلِ يطلِّق امرأته ثمَّ يراجعُ ولا يشهدُ فقالَ: أشهدْ على طلاقِها وعلى رجْعَتِها. رواهُ أبو داودَ هكذا موقوفًا وسندُه صحيحٌ. وأخرجَه البيهقيُّ بلفظِ: أن عمرانَ بنَ حصينٍ سُئِلَ عمَّنْ راجع امرأتَه ولم يُشهدْ، فقالَ: راجع في غير سنَّةٍ، فيشهدُ الآنَ، وزادَ الطبرانيُّ في روايةٍ: ويستغفر اللَّهِ). دلَّ الحديثُ على شرعيةِ الرجعةِ والأصلُ فيْها قولُه تعالَى:

(1)

في "السنن" رقم (2186).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2025).

(2)

وهو كما قال: إسناده صحيح على شرط مسلم.

وهو حديث صحيح، واللهُ أعلم.

(3)

في "السنن الكبرى"(7/ 373) وهو منقطع، لأن "محمد بن سيرين" لم يسمع من "عمران بن حصين".

ص: 185

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}

(1)

الآيةَ. وقدْ أجمعَ العلماءُ على أن الزوج يملكُ رجعةَ زوجتهِ في الطلاقِ الرجعيِّ ما دامتْ في العدَّةِ منْ غيرِ اعتبارِ رِضَاها ورِضَا وليِّها إذا كانَ الطلاقُ بعدَ المسيسِ وكانَ الحكمُ بصحةِ المرجعةِ مُجْمَعًا عليهِ لا إذَا كانَ مختلفًا فيهِ.

والحديثُ دلَّ على ما دلَّتْ عليهِ آيةُ سورةِ الطلاقِ وهيَ قولُه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(2)

بعدَ ذكرهِ الطلاقَ. وظاهرُ الأمرِ وجوبُ الإشهادِ وبهِ قالَ الشافعيُّ في القديمِ وكأنهُ استقرَّ مذهبُه على عدمِ وجوبِه فإنهُ قالَ المرزعيُّ في "تيسير البيانِ": وقدِ اتفقَ الناسُ على أن الطلاقَ منْ غيرِ إشهادٍ جائزٌ، وأما الرجعةُ فيحتملُ أنَّها تكونُ في معنَى الطلاقِ لأنَّها قرينتُه فلا يجبُ فيها الإشهادُ؛ لأنَّها حقٌّ للزوجِ ولا يجبُ عليهِ الإشهادُ على قَبْضِهِ ويحتملُ أنْ يجبَ الإشهادُ وهوَ ظاهرُ الخطابِ، انتَهى. والحديثُ يُحْتَمَلُ أنهُ قالَه عمرانُ اجتهادًا إذْ للاجتهادِ فيهِ مَسْرَحٌ إلَّا أن قولَه: أرجع في غيرِ سنةٍ، قدْ يقالُ إنَّ السنةَ إذا أُطْلِقتْ في لسانِ الصحابيِّ يرادُ بها سنهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيكونُ مرفُوعًا، إلَّا أنهُ لا يدلُّ على الإيجابِ لتردُّدِ كونِه منْ سنتهِ صلى الله عليه وسلم بينَ بين الإيجابِ والندبِ. والإشهادُ على المرجعةِ ظاهرٌ إذا كانت بالقول الصريح واتفقوا على الرجعة بالقولِ، واختلفُوا إذا كانتِ الرجعةُ بالفعلِ، فقالَ الشافعيُّ والإمامُ يَحْيَى: إنَّ الفعلَ محرَّمٌ فلا تحلُّ بهِ ولأنهُ تعالَى ذكر الإشهاد ولا إشهاد إلا على القول وأجيب بأنه لا إثم عليه لأنه تعالى قالَ: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ}

(3)

وهيَ زوجةٌ والإشهادُ غيرُ واجب كما سلفَ. وقالَ الجمهورُ: يصحُّ بالفعلِ. واختلفُوا هلْ منْ شرطِ الفعلِ النيةُ فقالَ مالكٌ: لا يصحُّ بالفعلِ إلا معَ النيةِ كأنهُ يقولُ لِعمومِ الأعمالِ بالنياتِ، وقالَ الجمهورُ: تصح لأنَّها زوجةٌ شَرْعًا داخلةٌ تحتَ قولِه تعالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ}

(4)

، ولا يشترطُ النيةُ في لمسِ الزوجةِ وتقبيلِها وغيرِهما إجماعًا.

واختُلِفَ هلْ يجبُ عليهِ إعلامُها بأنهُ قدْ راجَعَها لِئلَّا تزوَّج غيرَه؟ فذهبَ الجمهورُ منَ العلماءِ أنهُ لا يجبُ عليهِ، وقيل يجبُ. وتفرَّعَ منَ الخلافِ لو تزوجتْ قبلَ عِلْمِها بأنهُ راجَعَها، فقالَ الأولونَ: النكاحُ باطلٌ وهيَ لزوجِها الذي

(1)

سورة البقرة: الآية 228.

(2)

سورة الطلاق: الآية 2.

(3)

سورة المؤمنون: الآية 23. وسورة المعارج: الآية 7.

(4)

سورة المؤمنون: الآية 23. وسورة المعارج: الآية 7.

ص: 186

ارتجعَها. واستدلُّوا بإجماعِ العلماءِ على أن المرجعةَ صحيحةٌ وإنْ لمْ تعلمْ بِها المرأةُ وبأنَّهم أجمعُوا أن الزوجَ الأولَ أحقُّ بِها قبلَ أنْ تزَوَّجَ، وعنْ مالكٍ أنَّها للثاني دخلَ بها أوْ لم يدخلْ. واستدلَّ بما رواهُ ابنُ وهب عنْ يونسَ عن ابن شهابٍ عن ابن المسيِّبِ أنهُ قالَ:"مضتِ السُّنةُ في الذي يطلقُ امرأتَه ثمَّ يراجِعُها ثم يكتُمُها رجْعَتَهَا فتحلُّ فتنكحُ زوجًا غيرَه أنهُ ليسَ لهُ منْ أمرِها شيءٌ ولكنَّها لِمنْ تزَوَّجَها"

(1)

، إلَّا أنهُ قيلَ: إنهُ لم يَرْوَ هذَا إلَّا عن ابن شهابٍ فقطْ وهوَ الزهريُّ فيكونُ منْ قولِه وليسَ بحجةٍ. ويشهدُ لكلامِ الجمهورِ حديثُ الترمذيِّ

(2)

عنْ سمرةَ بن جندب أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أيُّما امرأةٍ تزوَّجها اثنانِ فهيَ للأولِ مِنْهما"، فإنهُ صادقٌ على هذهِ الصورةِ. واعلمْ أنهُ قالَ تعالَى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}

(3)

أي أحقُّ بردِّهنَّ في العدةِ بشرطِ أنْ يريدَ الزوجُ بردِّها الإصلاحَ وهوَ حسنُ العشرةِ والقيامُ بحقوقِ الزوجيةِ؛ فإنْ أرادَ بالمرجعةِ غيرَ ذلكَ كمنْ يراجعُ زوجَتَه ليطلِّقَها كما يفعلهُ العامةُ فإنهُ يطلِّق ثمَّ ينتقلُ منْ موضِعِه فيراجعُ ثمَّ يطلِّقُ إرادة لِبَيْنُونَةِ المرأةِ فهذِه المراجعةُ لم يُرِدْ بها إصْلاحًا ولا إقامةَ حدودِ اللهِ فهيَ باطلةٌ، إذ الآيةُ ظاهرةٌ في أنهُ لا تباحُ لهُ المراجعةُ ويكونُ أحقَّ بردِّ امرأتِه إلا بشرطِ إرادةِ الإصلاح، وأيُّ إرادةِ إصلاحٍ في مراجعتِها ليطلِّقَها. ومَنْ قالَ إنَّ قولَه:{إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}

(4)

ليسَ بشرطٍ للرجعةِ فإنهُ قولٌ مخالفٌ لظاهرِ الآيةِ بلا دليلٍ.

2/ 1023 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ لَمّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: "مُرهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما أنهُ لما طلقَّ امرأتَه قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمرَ: مُرة فليراجِعْها. متفقٌ عليهِ)، تقدَّمَ الكلامُ عليهِ بما يكْفي منْ غيرِ زيادةٍ.

* * *

(1)

انظر: "معجم فقه السلف" للكتاني (7/ 225).

(2)

في "السنن" رقم (1110) وقال: هذا حديث حسن.

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2088)، والنسائي (7/ 314).

وهو حديث ضعيف. انظر: "الإرواء" رقم (1853).

(3)

سورة البقرة: الآية 228.

(4)

سورة البقرة: الآية 228.

(5)

تقدم تخريجه رقم (2/ 1008) من كتابنا هذا.

ص: 187

[الباب الأول] باب الإيلاء والظهار والكفارة

الإيلاءُ هو لغةً: الحلفُ. وشرْعًا: الامتناعُ باليمينِ منْ وطءِ الزوجةِ.

والظهارُ: بكسرِ الظاءِ مشتقٌ منَ الظَّهْرِ لقولِ القائلِ أنتِ عليَّ كظهرِ أميِّ.

والكفارةُ: وهي منَ التكفيرِ التغطيةُ.

‌جواز حَلف الرجل من زوجته

1/ 1024 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَائِهِ وَحَرّمَ، فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. [ضعيف]

(عنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: آلَى رسول الله منْ نسائِه وحرَّم وجعلَ الحرامَ حلالًا وجعلَ لليمينِ كفارةً. رواهُ الترمذيُّ ورجالُه ثقاتٌ)، ورجَّحَ الترمذيُّ إرسالَه على وصْلِه. والحديثُ دليلٌ على جوازِ حلفِ الرجلِ منْ زوجَتِه وليسَ فيهِ تصريحٌ بالإيلاءِ المصْطَلَحِ عليهِ في عُرْفِ الشرعِ وهوَ الحلفُ منْ وطْءِ الزوجةِ. واعلمْ أنَّها اختلفتِ الرواياتُ في سببِ إيلائِه صلى الله عليه وسلم وفي الشيءِ الذي حرَّمهُ على رواياتٍ:

أحدُها: أنهُ بسبب إفشاءِ حفصةَ للحديثِ الذي أسرَّه إليها واختُلِفَ في الحديثِ الذي أسرَّهُ إليها، أخرجَهُ البخاريُّ

(2)

عن ابن عباسٍ عنْ عمرَ في حديثٍ

(1)

في "السنن" رقم (1201). وهو حديث ضعيف، انظر:"الإرواء" رقم (2574).

(2)

في "صحيحه" رقم (5191).

ص: 188

طويلٍ، وأجملَ في روايةِ البخاريِّ هذهِ، وفسَّره في روايةٍ أخرجَها الشيخانِ

(1)

بأنهُ تحريمُه لماريةَ وأنهُ أسرَّه إلى حفصةَ فأخبرتْ بهِ عائشةَ، أو تحريمُه للعسلِ

(2)

، وقيلَ: بلْ أسرَّ إلى حفصةَ أن أباها يلي أمرَ الأمةِ بعدَ أبي بكرٍ (1)، وقالَ: لا تخبري عائشةَ بتحريمي ماريةَ.

وثانيها: أن "السببَ في إيلائِه أنه فرَّقَ هديةً جاءتْ لهُ بينَ نسائِه، فلمْ ترضَ زينبُ بنتُ جحشٍ بنصيبها فزادَها مرةً أُخْرَى فلم ترضَ، فقالتْ عائشةُ: لقدْ أقمتَ وجْهَكَ تردُّ عليكَ الهديةَ، فقالَ: لأنتُن أهونُ على اللَّهِ منْ أنْ [يغمَّنِي]

(3)

، لا أدخلُ عليكنَّ شَهْرًا"، أخرجَه ابنُ سعدٍ

(4)

عنْ عمرةَ عنْ عائشةَ، ومنْ طريقِ الزهري عنْ [عمرةَ]

(5)

عنْ عائشةَ نحوُه وقالَ: ذبحَ ذبحًا.

ثالثُها: أنهُ بسببِ طلبهنَّ النفقةَ، أخرجَه مسلمٌ

(6)

منْ حديثِ جابرٍ. فهذهِ أسبابٌ ثلاثةٌ. أما [إفشاء]

(7)

بعضِ نسائِه السرًّ وهيَ حفصةُ، والسرُّ أحدُ ثلاثةٍ: إما تحريمُه ماريةَ أو العسلَ، أو وجد أنه مع مارية، أو بتحريج صدْرِه منْ قِبَلِ ما فرَّق بينَهنَّ منَ الهديةِ، أو تضييقِهنَّ في طلبِ النفقةِ.

قالَ المصنفُ رحمه الله: [الأليَق]

(8)

بمكارمِ أخلَاقِه صلى الله عليه وسلم وسعةِ صدرِه وكثرةِ صفحِه أن يكونَ مجموعُ هذهِ الأشياءَ سببًا لاعتزالهنَّ، فقولها:"وحرَّم"، أي حرَّمَ ماريَّةَ أو العسلَ، وليسَ فيهِ دليلٌ على أن التحريمَ للجماعِ حتَّى يكونَ منْ بابِ الإيلاءِ الشرعيِّ، فلا وجْهَ لجزمِ ابن بطالٍ وغيرِه أنهُ صلى الله عليه وسلم امتنعَ منْ جماعِ نسائِه

(1)

لم أعثر عليه عند البخاري ومسلم.

بل أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (2316)، وأورده الهيثمي في "المجمع"(7/ 127)، وقال: رواه الطبراني

من طريق موسى بن جعفر بن أبي كثير، عن عمه، قال الذهبي: مجهول ساقط، وخبره ساقط.

وأخرجه أيضًا العقيلي (4/ 155) في ترجمة موسى بن جعفر هذا، وقال: لا يصح إسناده.

(2)

أخرجه البخاري (8/ 656 رقم 4912)، ومسلم (2/ 1100 رقم 1474) من حديث عائشة.

(3)

في (أ): "تغمني".

(4)

في "الطبقات"(8/ 190).

(5)

في (أ): "عروة".

(6)

في "صحيحه" رقم (29/ 1478).

(7)

في (ب): "لإفشاء".

(8)

في (ب): "الائق".

ص: 189

ذلكَ الشهرَ إنْ أخذَه منْ هذا الحديثِ ولا مستندَ له غيرُه؛ فإنهُ قالَ المصنفُ: لم أقفْ على نَقْلٍ صريحٍ في ذلكَ فإنهُ لا يلزمُ منْ عدمِ دخولِه عليهنَّ أنْ لا تدخلَ إحداهنَّ عليهِ في المكانِ الذي اعتزلَ فيهِ إلَّا إنْ كانَ المكانُ المذكورُ منَ المسجدِ فيتمُّ استلزامُ عدمِ الدخولِ عليهنَّ معَ استمرارِ الإقامةِ في المسجدِ العزمَ على تركِ الوطءِ لامتناعِ الوطءِ في المسجدِ.

‌أحكام الإيلاء

2/ 1025 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَقَفَ الْمُولِي حَتى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتى يُطلِّقَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما: إذا مضتْ أربعة أشهرٍ وقفَ المُولي حتى يطلِّقَ، ولا يقعُ عليهِ الطلاقُ حتى يطلِّقَ. أخرجَهُ البخاريُّ). الحديثُ كالتفسيرِ لقولِه تعالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}

(2)

، وقدِ اختلفَ العلماءُ في مسائلَ منَ الإيلاءِ.

الأُولى: في اليمينِ، فإنَّهم اختلَفُوا فيها فقالَ الجمهورُ: ينعقدُ الإيلاءُ بكلِّ يمينٍ على الامتناعِ منَ الوطْءِ سواءٌ حلفَ باللَّهِ أو بغيرِه، وقالتِ الهادويةُ: إنهُ لا ينعقدُ إلَّا بالحلفِ باللهِ، قالُوا: لأنهُ لا يكونُ يمينًا إلا ما كانَ باللَّهِ تعالَى فلا تشملُ الآيةُ ما كانَ بغيرِه.

قلتُ: وهوَ الحقُّ كما يأتي.

الثانيةُ: في الأمرِ الذي تعلَّقَ بهِ الإيلاءُ وهوَ تركُ الجماعِ صريحًا أو كنايةً أو تركُ الكلامِ عندَ البعضِ، والجمهورُ على أنهُ لا بدَّ فيهِ منَ التصريحِ بالامتناعِ منَ الوطْءِ لا مجرَّدَ الامتناعِ عن الزوجةِ. ولا كلامَ أن الأصلَ في الإيلاءِ قولُه تعالَى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}

(3)

الآيةَ، فإنَّها نزلتْ لإبطالِ ما كانَ عليهِ الجاهليةُ منْ إطالةِ مدةِ الإيلاءِ فإنهُ كانَ الرجلُ يولي منِ امرأتِه سنةً وسنتينِ فأبطلَ اللَّهُ تعالَى ذلكَ وأنظرَ المولي أربعةَ أشهرٍ فإما أنْ يفيءَ أو يطلِّقَ.

(1)

في "صحيحه" رقم (5291).

(2)

سورة البقرة: الآية 226.

(3)

سورة البقرة: الآية 226.

ص: 190

الثالثةُ: اختلفُوا في مدةِ الإيلاءِ فعندَ الجمهورِ والحنفيةِ لا بدَّ أنْ يكونَ أكثرَ منْ أربعةِ أشهرٍ، وقالَ الحسنُ وآخرونَ: ينعقدُ بقليلٍ الزمانِ وكثيرِه لقوله تعالى: {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}

(1)

، وَرُدَّ بأنهُ لا دليلَ في الآيةِ إذْ قدْ قدَّرَ اللهُ المدةَ فيها بقولِه تعالَى:{أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (1)، فالأربعةُ قدْ جعلَها اللهُ مدةَ الإمهالِ فهي كأجلِ الدَّيْنِ لأنهُ تعالَى قالَ:{فَإِنْ فَاءُوا} (1) بفاءِ التعقيبِ وهوَ بعدَ الأربعةِ، فلوْ كانتِ المدةُ أربعةً أوْ أقل لكانتْ قدِ انقضتْ فلا يطالبُ بعدَها، والتعقيبُ للمدَّةِ لا للإيلاءِ لبُعْدِهِ.

والرابعةُ: أنَّ مُضِيَّ المدةِ لا يكونُ طلاقًا عندَ الجمهورِ. وقالَ أبو حنيفة: بلْ إذا مضتِ الأربعةُ الأشهرِ طُلِّقتِ المرأةُ. قالُوا: والدليلُ على أنهُ لا يكونُ بمضيِّها طلاقًا أنهُ تعالى خيَّرَ في الآيةِ بينَ الفيئةِ والعزْمِ على الطلاق فيكونانِ في وقتٍ واحدٍ وهوَ بعدَ مُضِيِّ الأربعةِ، فلوْ كانَ الطلاقُ يقعُ [بعد مضي]

(2)

الأربعةِ والفيئةِ بعدَها لم يكنْ [مخيرًا]

(3)

لأنَّ حقَّ المخيَّر أنْ يقَعَ أحدُهما في الوقتِ الذي يصحُّ فيهِ الآخرُ كالكفارةِ؛ ولأنهُ تعالَى أضافَ عَزْمَ الطلاقِ إلى الرجلِ وليسَ مضيُّ المدةِ منْ فعلِ الرجلِ، ولحديثِ ابن عمرَ هذا الذي نحنُ في سياقِه وإنْ كانَ موقوفًا فهوَ مقوٍّ للأدلةِ.

الخامسةُ: الفيئةُ هيَ الرجوعُ. ثمَّ اختلفُوا بماذا تكونُ، فقيلَ تكونُ بالوطْءِ على القادرِ، والمعذورِ يَبِيْنُ عذْرُهُ بقولهِ لوْ قدرتُ لَفِئْتُ؛ لأنهُ الذي يقدرُ عليهِ لقولهِ تعالَى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

(4)

، وقيلَ: بقولِه رجعتُ عنْ يميني وهذا للهادويةِ؛ كأنَّهم يقولونَ: المرادُ رجوعُه عنْ يمينِه لا إيقاعَ ما حلفَ عليهِ، وقيلَ: يكون في حقِّ المعذورِ بالنيةِ؛ لأنَّها توبةٌ يكفي فيها العزمُ ورُدَّ بأنَّها توبةٌ عنْ حقِّ مخلوقٍ فلا بدَّ منْ إفهامِهِ الرجوعَ عن الأمرِ الذي عزمَ عليهِ.

السادسةُ: اختلفُوا هل تجبُ الكفارةُ على مَنْ فاءَ. فقالَ الجمهورُ: تجبُ لأنَّها يمينٌ قدْ حنثَ فيها فتجبُ الكفارةُ، ولحديثِ: "مَنْ حلفَ على يمينٍ فرأَى

(1)

سورة البقرة: الآية 226.

(2)

في (ب): "بمضِيِّ".

(3)

في (ب): "تخييرًا".

(4)

سورة البقرة: الآية 286.

ص: 191

غيرَها خيرًا منْها فليكفرْ عنْ يمينِه وليأتِ الذي هوَ خيرٌ"

(1)

، وقيلَ لا تجبُ لقولِه تعالَى:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

(2)

، وأُجِيْبَ بأنَّ الغفرانَ يختصُّ بالذنبِ لا بالكفارةِ ويدلُّ للمسألةِ الخامسةِ قولُه:

‌حكم المولي بعد مضي مدة الإيلاء

3/ 1026 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَقِفُونَ الْمُولِي. رَوَاهُ الشَّافِعيُّ

(3)

. [صحيح]

‌ترجمة سليمان بن يسار

(وعنْ سليمانَ بن يسارٍ)

(4)

بفتحِ المثناةِ فسينٍ مهملةٍ مخففةٍ بعدَ الألفِ راءٌ، هوَ أبو أيوبَ سليمانُ بنُ يسارٍ مولى ميمونةَ زوجِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهوَ أخو عطاءَ بن يسارٍ كانَ سليمانُ منْ فقهاءِ المدينةِ وكبارِ التابعينَ ثقةً فاضلًا ورعًا حجةً، هوَ أحدُ الفقهاءِ السبعةِ، رَوَى عن ابن عباسٍ وأبي هريرةَ وأمِّ سلمةَ. ماتَ سنةَ سبعٍ ومائةٍ، وهوَ ابنُ ثلاثٍ وسبعينَ سنة (قالَ: أدركتُ بضعةَ عشرَ رجلًا منْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كلّهم يقفونَ المولِي. رواهُ الشافعيُّ) وفي "الإرشاد" لابنِ كثيرٍ أنهُ قالَ الشافعيُّ بعدَ روايةِ الحديثِ: وأقلُّ ذلكَ ثلاثةَ عشرَ اهـ.

يريدُ أقلُّ ما يطلقُ عليهِ لفظُ بضعةَ عشرَ. وقولُه: "يقفونَ" بمعنَى يقفونَه أربعةَ أشهرٍ كما أخرجَه إسماعيلُ - هوَ ابنُ أبي إدريسَ - عنْ سليمانَ أيضًا، أنهُ قالَ: أدركْنا الناسَ يقفون الإيلاءَ إذا مضتِ الأربعةُ، فإطلاقُ روايةِ الكتابِ محمولةٌ على

(1)

أخرجه مسلم رقم (12/ 1650)، ومالك في، "الموطأ"(2/ 478)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 17 رقم 2438) من حديث أبي هريرة.

(2)

سورة البقرة: الآية 226.

(3)

في "ترتيب المسند"(2/ 42 رقم 139)، وفي "الأم"(5/ 282) بإسناد صحيح على شرط الشيخين.

(4)

انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(4/ 444 رقم 173)، و"طبقات ابن سعد"(5/ 174)، و"العبر"(1/ 100)، و"النجوم الزاهرة"(1/ 252)، و"شذرات الذهب"(1/ 134).

ص: 192

هذهِ الروايةِ المقيَّدةِ. وقدْ أخرجَ الدارقطنيُّ

(1)

منْ حديث سهيلِ بن أبي صالحٍ عنْ أبيهِ أنهُ قالَ: سألتُ أثنى عَشَرَ رجلًا منَ الصحابةِ عن الرجلِ يولى فقالُوا: ليسَ عليهِ شيءٌ حتَّى تمضيَ أربعةُ أشهرٍ فيوقفُ؛ فإنْ فاءَ وإلَّا طلَّقَ. وأخرجَ إسماعيلُ المذكورُ منْ حديثِ ابنُ عمرَ أنهُ قالَ: "إذا مضتْ أربعةُ أشهرٍ يوقفُ حتَّى يطلِّقَ ولا يقعُ عليها الطلاقُ حتى يطلِّقَ". وأخرجَ الإسماعيليُّ أثرَ ابن عمرَ بلفظِ أنهُ كانَ يقولُ: "أيما رجلٍ آلَى منِ امرأتِه فإذا مضتْ أربعةُ أشهرٍ لِوقفُ حتَّى يطلِّقَ أو يفيءَ، ولا يقعُ عليها طلاقٌ إذا مضتْ حتَّى يوقفَ"، وفي البابِ آثارٌ كثيرةٌ عن السلفِ

(2)

كلُّها قاضيةٌ بأنهُ لا بدَّ بعدَ مضيِّ الأربعةِ الأشهرِ منْ إيقافِ المولي، ومعنَى إيقافِه هوَ أنْ يطالبَ إما بالفيءِ أو بالطلاقِ، ولا يقعُ الطلاقُ بمجردِ مُضِيِّ المدةِ، وإلى هذَا ذهبَ الجماهيرُ وعليهِ دلَّ ظاهرُ الآيةِ إذْ قولُه تعالَى:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}

(3)

يدلُّ قولُه: "سميعٌ" على أن الطلاقَ يقعُ بقولٍ يتعلَّقُ بهِ السمعُ ولو كانَ يقعُ بمضيِّ المدة [كما قاله ابن المسيب والأوزاعي وربيعة ومكحول والزهرى والكوفيون إنه يقع الطلاق بنفس مضي المدة فقيل طلقة رجعية، وقيل بائنة ولا عدة عليها]

(4)

لكَفَى قولُه: "عليمٌ" لما عرفَ منْ بلاغةِ القرآنِ وأنَّ فواصلَ الآياتِ تشيرُ إلى ما دلتْ عليهِ الجملةُ السابقةُ، فإذا وقعَ الطلاقُ فإنهُ يكونُ رجْعيًّا عندَ الجمهورِ وهوَ الظاهرُ ولغيرِهم تفاصيلُ لا يقومُ عليها دليل.

‌أقل ما ينعقد به الإيلاء أربعة أشهر

4/ 1027 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إِيْلَاءُ الْجَاهِلِيّةِ السَّنَةَ وَالسّنَتَيْنِ. فَوَقَّتَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيْلَاءٍ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقيُّ

(5)

. [إسناده صحيح]

(1)

في "السنن"(4/ 61 رقم 147)، وعنه البيهقي (7/ 377). وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(2)

انظرها في "فتح الباري"(9/ 428 - 429). وفي "الإرواء"(7/ 169 - 172).

(3)

سورة البقرة: الآية 227.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في "السنن الكبرى"(7/ 381).

ص: 193

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: كانَ إيلاءُ الجاهليةِ السنةَ والسنتينِ فوقَّتَ اللَّهُ أربعةَ أشهر، فإنْ كانَ أقلَّ منْ أربعةِ أشهرٍ فليسَ بإيلاءٍ. أخرجَه البيهقيُّ). وأخرجَهُ الطبرانيُّ

(1)

أيضًا عنهُ وقالَ الشافعيُّ: كانتِ العربُ في الجاهليةِ تحلفُ بثلاثةِ أشياءٍ، وفي لفظ:"كانوا يطلِّقونَ الطلاقَ والظِّهارَ والإيلاء فنقلَ تعالَى الإيلاء والظهارَ عما كانَ عليهِ الجاهليةُ منْ إيقاعِ الفرقةِ على الزوجةِ إلى ما استقرَّ عليهِ حكمُهُما في الشرعِ وبقيَ حكمُ الطلاقِ على ما كانَ عليهِ".

والحديثُ دليلٌ على أن أقلَّ ما ينعقدُ بهِ الإيلاءُ أربعةُ أشهرٍ.

‌أحكام الظهار

5/ 1028 - وَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي وَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، قَالَ:"فَلا تَقْرَبْهَا حَتى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ

(2)

، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَجّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وزَادَ فيهِ:"كَفرْ وَلَا تَعُدْ". [حسن]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن رجلًا ظاهرَ منِ امرأتهِ ثمَّ وقعَ عليها فأَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: إنِّي وقعت عليها قبلَ أنْ أكفِّرَ قالَ: فلا تقربْها حتَّى تفعلَ ما أَمَرَكَ الله. رواهُ الأربعة وصحَّحَه الترمذيُّ ورجَّحَ النسائيُّ إرسالَه، ورواهُ البزَّارُ منْ وجْهٍ آخرَ عن ابن عباسٍ وزادَ فيهِ: كفِّرْ ولا تعدْ) هذَا منْ بابِ الظهارِ والحديثُ لا يضرُّ إرسالُه كما كرَّرْناهُ منْ أن إتيانَه منْ طريقٍ مرسلَةٍ وطريقٍ موصولةٍ لا يكونُ علةً بلْ يزيدُه قوةً، والظهارُ مشتقٌّ منِ الظَّهْرِ؛ لأنهُ قولُ الرجلِ لامرأتِه أنتِ عليَّ كظهْرِ أمِّي فأُخِذَ اسمُه منْ لفظِه وكَنَّوْا بالظَّهْرِ عما يُسْتَهْجَنُ ذِكْرُهُ وأضافُوه إلى الأمِّ لأنَّها أمُّ المحرماتِ. وقدْ أجمعَ العلماءُ على تحريمِ الظِّهارِ وإثمِ فاعلِه كما قالَ تعالَى:

(1)

كما في "مجمع الزوائد"(5/ 10)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(2)

أبو داود رقم (2221، 2222، 2223، 2224، 2225)، والترمذي رقم (1199) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وابن ماجه رقم (2065)، والنسائي (6/ 167) وهو حديث حسن. انظر:"التلخيص الحبير"(3/ 222).

ص: 194

{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}

(1)

. وأما حكمهُ بعدَ إيقاعِه فيأتي. وقدِ اتفقَ العلماءُ علَى أنهُ يقعُ بتشبيهِ الزوجةِ بظهرِ الأمِّ، ثمَّ اختلفُوا فيهِ في مسائلَ:

الأُولَى: إذا شبَّهَهَا بعضوٍ منْها غيرِهِ، فذهبَ الأكثرُ إلى أنهُ يكونُ ظِهارًا أيضًا، وقيلَ يكونُ ظِهارًا إذا شبَّهَهَا بعضوٍ يحرمُ النظرُ إليهِ. وقد عرفتَ أن النصَّ لم يردْ إلَّا في الظَّهْرِ.

الثانيةُ: أنَّهم اختلفُوا أيضًا فيما إذا شبَّهَهَا بغيرِ الأمِّ منَ المحارمٍ، فقالتِ الهادويةُ

(2)

: لا يكونُ ظِهارًا؛ لأنَّ النصَّ وردَ في الأمِّ. وذهبَ آخرون

(3)

منهمْ مالكٌ والشافعيُّ وأبو حنيفةَ إلى أنهُ يكونُ ظهارًا ولو شبَّهَها بمحرَّم منَ الرضاعِ. ودليلُهم القياسُ، فإنَّ العلةَ التحريمُ المؤبَّدُ [الثابت]

(4)

، وهوَ ثابتٌ في المحارمِ كثبوتِهِ في الأمِّ. وقالَ مالكٌ وأحمدُ: إنهُ ينعقدُ وإنْ لم يكنِ المشبَّهُ بهِ مؤبَّدَ التحريم كالأجنبيةِ، بلْ قالَ أحمدُ: حتَّى منْ البهيمةِ ولا يخْفَى أن النصَّ لم يردْ إلَّا في الأمِّ وما ذُكِرَ منْ إلحاقِ غيرِها فبالقياسِ وملاحظةِ المعنَى ولا ينتهضُ دليلًا على الحكْمِ.

الثالثةُ: أنَّهم اختلفُوا أيضًا هلْ ينعقدُ الظِّهارُ منَ الكافرِ؟ فقيلَ: نعمْ لعمومِ الخطابِ في الآيةِ، وقيلَ: لا ينعقدُ منهُ لأنَّ منْ لوازمِهِ الكفارةُ وهيَ لا تصحُّ منَ الكافرِ، ومَنْ قالَ: ينعقدُ منهُ قالَ: يكفِّرُ بالعتْقِ أو الإطعامِ لا بالصوم لتعذُّرِهِ في حقِّهِ، وأُجِيْبَ بأنَّ العتقَ والإطعامَ إذا فُعِلا لأجلِ الكفارةِ كانا قربةً، ولا قربةَ لكافرٍ.

الرابعةُ: أنَّهم اختلفُوا أيضًا في الظهارِ منَ الأمَةِ المملوكةِ، فذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ والشافعيةُ إلى أنهُ لا يصحُّ الظِّهارُ منْها؛ لأنَّ قَولَه تعالَى منْ نسائِهم لا يتناولُ المملوكةَ في عُرْفِ اللغةِ للاتفاقِ في الإيلاءِ على أنَّها غيرُ داخلةٍ في عمومِ النساءِ وقياسًا على الطلاقِ. وذهبَ مالكٌ وغيرُه إلى أنهُ يصحُّ منَ الأمَةِ لعمومِ لفظِ النساءِ إلَّا أنهُ اختلفَ القائلونَ بصحتِه منْها في الكفارةِ، فقيلَ: لا تجبُ إلَّا نصفُ الكفارةِ فكأنَّهُ قاسَ ذلكَ على الطلاقِ عندَه.

(1)

سورة المجادلة: الآية 2.

(2)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 232).

(3)

انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته"(7/ 584 - 591).

(4)

زيادة من (أ).

ص: 195

الخامسةُ: الحديثُ دليلٌ على أنهُ يحرمُ وطءُ الزوجةِ التي ظاهرَ منْها قبلَ التكفيرِ، وهوَ مجمَعٌ عليهِ لقولهِ تعالَى:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، فلو وطئَ لم يسقطِ التكفيرُ ولا يتضاعفُ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"حتَّى تفعلَ ما أمرَكَ اللَّهُ"، قالَ الصلْتُ بنُ دينارِ: سألتُ عشرةً

(1)

منَ الفقهاءِ عن المظَاهِرِ يجامعُ قبلَ التكفيرِ فقالُوا: "كفارةٌ واحدةٌ" وهو قولُ الفقهاءِ الأربعةِ

(2)

. وعنِ ابن عمرَ أن عليهِ كفارتينِ إحداهُما للظهارَ الذي اقترنَ بهِ العودُ والثانيةُ للوطْءِ المحرَّمِ كالوطءِ في رمضانَ نَهَارًا، ولا يخْفَى ضعفُه. وعن الزهريِّ وابنِ جبيرٍ أنَّها تسقطُ الكفارةُ لأنهُ فاتَ وقتُها [لأنهُ] قبلَ المسيسِ وقدْ فاتَ، وأُجِيْبَ: بأنَّ فواتَ وقتِ الأداءِ لا يسقطُ الثابتَ في الذمةِ كالصلاةِ وغيرِها منَ العباداتِ.

واختُلِفَ في تحريمِ المقدماتِ، فقيلَ: حُكْمُها حكمُ المسيسِ في التحريمِ لأنَّهُ شبَّهَهَا بمنْ يحرُمُ عليه في حقِّها الوطءُ ومقدماتُه وهذا قولُ الأكثرِ، وعنِ الأقلِّ لا تَحرُمُ المقدماتُ لأنَّ المسيسَ هوَ الوطءُ وحدَه فلا يشملُ المقدماتِ إلا مجازًا ولا يصحُّ أنْ يُرَادَا لأنهُ جَمْعٌ بينَ الحقيقةِ والمجازِ، وعنِ الأوزاعيِّ يحلُّ لهُ الاستمتاعُ بما فوقَ الإزارِ.

‌ترتيب خصال الكفارة في الظهار

6/ 1029 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَخِفْتُ أَنْ أُصِيبَ امْرَأَتِي، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا فَانْكَشَفَ لي شَيْءٌ مِنْهَا لَيْلَةً فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"حَرِّرْ رَقَبَةً"، فَقُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَتِي، قَالَ:"فَصُمْ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ"، قُلْتُ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ؟ قالَ: "أَطْعِمْ فَرَقًا منْ تَمْرٍ ستِّينَ مِسْكِينًا". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ

(3)

والأَرْبَعَةَ إِلَّا النَّسَائِي

(4)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ الْجَارُودِ

(5)

. [صحيح غيره]

(1)

هم: "الحسن، وابن سيرين، ومسروق، وبكر، وقتادة، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة. قال: والعاشر: أراه، نافعًا" اهـ هامش "فتح العلام".

(2)

انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته"(7/ 605 - 607).

(3)

في "المسند"(4/ 37).

(4)

أبو داود رقم (2213)، والترمذي رقم (1198) و (3299)، وابن ماجه رقم (2062).

(5)

في "المنتقى" رقم (744). =

ص: 196

‌ترجمة سلمة بن صخر

(وعنْ سلمةَ بن صخرٍ)

(1)

هوَ البياضيُّ، بفتحِ الموحَّدةِ وتخفيفِ المثناةِ التحتيةِ وضادٍ معجمةٍ، أنصاريٌّ خزرجيٌّ كانَ أحدَ البكائينَ. رَوَى عنهُ سليمانُ بنُ يسارٍ وابنُ المسيِّبِ. قالَ البخاريُّ: لا يصحُّ حديثهُ يعني هذا الذي في الظِّهارِ.

(قالَ: دخلَ رمضانُ فخِفْتُ أنْ أصيبَ امرأتي) وفي الإرشادِ [قال إني]

(2)

كنتُ [رجلًا]

(3)

أصيبُ منَ النساءِ ما لا يصيبُ غيري (فظاهرتُ منْها فانكشفَ لي شيءٌ منْها ليلةً فوقعتُ عليها، فقالَ لي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: حرِّرْ رقبةً، فقلتُ: ما أملكُ إلَّا رقبتي، قالَ: فصمْ شهرينِ متتابعينِ، قلتُ: وهلْ أصبتُ الذي أصبتُ إلَّا منَ الصيامِ؟ قالَ: أطعمْ فَرَقًا منْ تمرٍ ستينَ مسكينًا. أخرجَهُ أحمدُ والأربعةُ إلا النسائيَّ وصحَّحَهُ ابنُ خزيمةَ وابنُ الجارودِ)، وقدْ أعلَّه عبدُ الحقِّ بالانقطاعِ بينَ سليمانَ بنَ يسارِ وسلمةَ؛ لأنَّ سليمانَ لم يدركْ سلمةَ. حَكَى ذلكَ الترمذيُّ

(4)

عن البخاريِّ وفي الحديثِ مسائلُ:

= قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 163 - 164)، والحاكم (2/ 203)، والبيهقي (7/ 390) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار عنه، به.

قال الترمذي: "حديث حسن" وقال محمد - يعني البخاري -: سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر".

قلت: ومحمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعنه عند جميع من ذكرناهم، ومع ذلك فقد صححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

وللحديث طريق آخر. أخرجه الترمذي رقم (1200)، والحاكم (2/ 204)، والبيهقي (7/ 390) وقال الترمذي: حديث حسن.

وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

قلت: بل هو منقطع بين أبي سلمة وأبي ثوبان، وبين سلمة بن صخر، وله شاهد من حديث ابن عباس، انظر تخريجه في "بداية المجتهد"(3/ 196) بتحقيقنا.

والخلاصة: أن الحديث صحيح لغيره، واللهُ أعلم.

(1)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" رقم (2176)، و"الاستيعاب"(1028)، و"الإصابة" رقم (3398)، و"تجريد أسماء الصحابة"(1/ 232).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (ب): "أمرًا".

(4)

في "السنن"(5/ 406).

ص: 197

الأُوْلَى: أنهُ دلَّ على ما دلَّتْ عليهِ الآيةُ منْ ترتيبِ خصالِ الكفَّارةِ، والترتيبُ إجماعٌ بينَ العلماءِ

(1)

.

الثانيةُ: أنَّها أُطْلِقَتِ الرقبةُ في الآيةِ وفي الحديثِ أيضًا ولم تقيَّدْ بالإيمانِ كما قُيِّدتْ بهِ في آيةِ القتلِ، فاختلفَ العلماءُ في ذلكَ، فذهبَ زيدُ بنُ عليٍّ وأبو حنيفةَ وغيرُهما إلى عدمِ التقييدِ وأنها تجزئُ رقبةٌ ذميةٌ وقالوا: لا تَقَيُّدَ بما في آيةِ القتلِ لاختلافِ السببِ. وقدْ أشارَ الزمخشريُّ

(2)

إلى عدمِ اعتبارِ القياسِ لعدمِ الاشتراكِ في العلةِ؛ فإنَّ المناسبةَ في آية القتل أنهُ لما أخرجَ رقبةً مؤمنةً منْ صفةِ الحياةِ إلى صفة الموتِ كانت كفارتُه إدخالَ رقبةٍ مؤمنةٍ في حياةِ الحريةِ وإخراجَه عنْ موتِ الرَّقِّيَّةِ؛ فإنَّ الرقَّ يقتضي سلبَ التصرفِ عن المملوكِ فأشْبَهَ الموتَ الذي يقتضي سَلْبَ التصرفِ عن الميتِ، فكانَ في إعتاقهِ إثباتُ التصرفِ فأشْبَهَ الإحياءَ الذي يقتضي إثباتَ التصرفِ للحيِّ، وذهبت الهادويةُ ومالكٌ والشافعيُّ إلى أنهُ لا يجزئُ إعتاقُ رقبةٍ كافرةٍ، [قالوا]

(3)

: تقيَّدُ آيةُ الظِّهارِ كما قُيّدَتْ آيةُ القتلِ وإنْ اختلَفَ السببُ، قالُوا: وقدْ أيدتْ ذلكَ السنةُ، فإنهُ لما جاءَهُ صلى الله عليه وسلم السائلُ يستفتيهِ في عتقِ رقبةٍ كانتْ عليهِ سألَ صلى الله عليه وسلم الجاريةَ:"أينَ اللَّهُ"؟ فقالتْ: في السماءِ، فقالَ:"منْ أَنَا"؟ فقالتْ: أنتَ رسولُ اللَّهِ، قالَ:"فأعتقْها فإنَّها مؤمنة"، أخرجَهُ البخاريُّ

(4)

وغيرُه.

قالُوا: فسؤالُه صلى الله عليه وسلم لها عن الإيمانِ وعدمُ سؤالِه عنْ صفةِ الكفَّارةِ وسببها دالٌّ على اعتبارِ الإيمانِ في كلِّ رقبةٍ تُعْتَقُ عنْ سببٍ، لأنهُ قدْ تقرَّرَ أن تَرْكَ الاستفصَالِ معَ قيام الاحتمالِ ينزلُ منزلةَ العمومِ في المنالِ كما قدْ تكرَّرَ.

(1)

انظر: "المغني"(11/ 85 - 86)، "البحر الزخار"(3/ 234).

(2)

في "الكشاف"(1/ 289).

(3)

في (أ): "فقالوا".

(4)

لم يخرجه البخاري. بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (33/ 537) ضمن قصة طويلة، عن معاوية بن الحكم.

وأخرجه أبو داود رقم (930)، والنسائي رقم (1218)، وأحمد (5/ 447، 448 - 449)، والطيالسي في "المسند" رقم (1105)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" رقم (652)، وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (489)، والبيهقي في "الأسماء والصفات) (ص 421 - 422)، وابن خزيمة في "التوحيد"(1/ 279 - 280) وغيرهم.

ص: 198

قلتُ: الشافعيُّ قائلٌ بهذهِ القاعدةِ، فإنْ قالَ بها مَنْ مَعَهُ منَ المخالفينَ كانَ الدليلُ على التقييدِ هوَ السُّنَّةُ لا الكتابَ؛ لأنَّهم قرَّرُوا في الأصولِ أنهُ لا يحملُ المطلقُ على المقيَّدِ إلَّا معَ اتحادِ السبب. لكنَّه وقعَ في حديثِ أبي هريرةَ عندَ أبي داودَ

(1)

ما لفظُه فقالَ: يا رسولَ اللهِ إنَّ عليَّ رقبةً مؤمنةً، الحديثَ إلى آخرِه.

قالَ عِزُّ الدينِ الذهبيُّ: وهذا حديث صحيحٌ. وحينئذٍ فلا دليلَ في الحديثِ على ما ذُكِرَ فإنهُ صلى الله عليه وسلم لم يسألْها عن الإيمانِ إلَّا لأنَّ السائلَ قالَ عليهِ رقبةٌ مؤمنةٌ.

الثالثةُ: اختلفَ العلماءُ في الرقبةِ المعِيْبَةِ بأيِّ عَيْبٍ، فقالتِ الهادوبةُ وداودُ: تجزئُ المعيبةُ لتناولِ اسمِ الرقبةِ لها، وذهبَ آخرونَ إلى عدمِ إِجْزاءِ المعيبةِ قياسًا علَى الهدايا والضحايا بجامعِ التقربِ إلى اللَّهِ. وفصَّلَ الشافعي فقالَ: إنْ كانتْ كاملةَ المنفعةِ كالأعورِ أجزأتْ وإنْ نقصتْ منافعُه لم تجزْ إذا كانَ ذلكَ ينقصُها نُقْصَانًا ظاهرًا كالأقطع والأعْمى، إذِ العتقُ تمليكُ المنفعةِ وقد نقصتْ، وللحنفيةِ تفاصيلُ في العيبِ يطولُ تعدادُها ويعزُّ قيامُ الأدلةِ عليْها

(2)

.

الرابعةُ: أن قولَه صلى الله عليه وسلم فصمْ شهرينِ متتابعينِ دالٌ على وجوبِ التتابعِ

(3)

وعليهِ دلتِ الآيةُ، وشرطتْ أنْ تكونَ قبلَ المسِ، فلو مسَّ فيهما استأنفَ وهوَ إجماعٌ إذا وَطِئَها نهارًا متعمّدًا. [وكذلك]

(4)

ليلًا عندَ الهادويةِ وأبي حنيفةَ وآخرينَ ولو ناسيًا للآيةِ. وذهبَ الشافعي وأبو يوسفَ إلى أنهُ لا يضرُّ ويجوزُ؛ لأنَّ علةَ النَّهْي إفسادُ الصومِ ولا إفسادَ بوَطْءِ الليلِ، وأُجِيْبَ بأنَّ الآيةَ عامةٌ، واختلفُوا إذا وطئَ نهارًا ناسيًا فعندَ الشافعيِّ وأبي يوسفَ لا يضرُّ لأنهُ لم يفسدِ الصومَ. وقالتِ الهادويةُ وأبو حنيفةَ: بلْ يستأنفُ كما إذا وطِئَ عامدًا لعمومِ الآيةِ، قالُوا: وليستِ العلةُ إفسادَ الصومِ بلْ دلَّ عمومُ الدليلِ للأحوالِ كلِّها على [أنه]

(5)

لا تتمُّ الكفارةُ إلا بوقوعِها قبلَ المسيسِ.

الخامسةُ: اختلفُوا أيضًا فيما إذا عرضَ لهُ في أثناءِ صيامِهِ عذرٌ مأيوسٌ ثمَّ

(1)

في "السنن" رقم (3284) وهو حديث ضعيف.

(2)

انظر: "المغني"(11/ 82 - 85) و"الفقه الإسلامي وأدلته"(7/ 608 - 610).

(3)

انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته"(7/ 610 - 613). و"المغني"(11/ 85 - 92).

(4)

في (ب): "كذا".

(5)

في (ب): "أنها".

ص: 199

زالَ هلْ يبني على صومِه أوْ يستأنفُ؟ فقالتِ الهادويةُ ومالكٌ وأحمدُ: إنهُ يبني على صومِه؛ لأنهُ فرَّقَهُ بغيرِ اختيارهِ، وقالَ أبو حنيفةَ وهوَ أحدُ قولي الشافعيِّ: بلْ يستأنفُ لاختيارهِ التفريقَ. وأُجيْبَ بأنَّ العذرَ صيَّرهُ كغيرِ المختارِ. وأما لو كانَ العذرُ مرجُوًّا فقيلَ يبني أيضًا، وقيلَ: لا يبني؛ لأنَّ رجاءَ زوالِ العذرِ صيَّرهُ كالمختارِ. وأجيبَ بأنهُ معَ العذرِ لا اختيارَ لهُ.

السادسةُ: أن ترتيبَ قولِه صلى الله عليه وسلم فصمْ على قولِ السائلِ: "ما أملكُ إلَّا رقبتي"، يقضي بما قضتْ بهِ الآيةُ منْ أنهُ لا ينتقلُ إلى الصومِ إلَّا لعدمِ وُجْدَان الرقبةِ، فإنْ وجدَ الرقبةَ إلَّا أنهُ يحتاجُها لخدمتِه للعجزِ فإنهُ لا يصحُّ منهُ الصومُ. فإن قيلَ: إنهُ قدْ صحَّ التيممُ لواجدِ الماءِ إذا كانَ يحتاجُ إليهِ فهلَّا قستمُ ما هنا عليهِ؟

قلتُ: لا يقاسُ، لأنَّ التيممَ قدْ شُرعَ معَ العذرِ فكانَ الاحتياجُ إلى الماءِ كالعذرِ.

فإنْ قيلَ: فهلْ يجعلُ الشبق إلى الجماع عذرًا يكونُ لهُ معهُ العدولُ إلى الإطعامِ ويُعَدُّ صاحبُ الشبق غيرَ مستطيعٍ للصومِ؟

قلتُ: هوَ ظاهرُ حديثِ سلمةَ، وقولُه في الاعتذارِ عن التكفيرِ بالصيامِ: وهلْ أصبتُ الذي أصبتُ إلَّا منَ الصيامِ وإقرارهُ صلى الله عليه وسلم على عذرِه. وقولُه: "أطْعم"، يدلُّ على أنهُ عذرٌ يُعْدَلُ معهُ إلى الإطعامِ.

السابعةُ: أن النصَّ القرآنيَّ والنبويَّ صريحٌ في إطعامِ ستينَ مِسْكِينًا كأنهُ جعلَ عنْ كلِّ يومٍ منَ الشهرينِ إطعامَ مسكينٍ، واختلفَ العلماءُ هلْ لا بدَّ منْ إطعامِ ستينَ مسكينًا أوْ يكفي إطعامُ مسكينٍ واحدٍ ستينَ يومًا؟ فذهبتِ الهادويةُ ومالكٌ وأحمدُ والشافعيُّ إلى الأولِ لظاهرِ الآيةِ، وذهبتِ الحنفيةُ وهوَ أحدُ قولَي زيدُ بنُ عليٍّ والناصرِ إلى الثاني وأنهُ يكفي إطعامُ واحدٍ ستينَ يومًا أوْ أكثرَ منْ واحدٍ بقدرِ إطعامِ ستينَ مسكينًا، قالُوا: لأنهُ في اليومِ الثاني مستحقٌّ كَقَبْلِ الدفعِ إليهِ، وأجيبَ بأنَّ ظاهرَ الآيةِ تغايرُ المساكينِ بالذاتِ، ويُرْوَى عنْ أحمدُ ثلاثةُ أقوالٍ كالقولينِ هذيْنِ، والثالثُ: إنْ وجد غيرَ المسكينِ لم يجزِ الصرفُ إليهِ وإلَّا أجْزَأَ إعادةُ الصرفِ إليهِ.

الثامنةُ: اختلفَ في قدْرِ الإطعامِ لكلِّ مسكينٍ

(1)

، فذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ

(1)

انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته"(7/ 614 - 618)، و"البحر الزخار"(3/ 238 - 240).

ص: 200

إلى أن الواجبَ سِتُّونَ صالحًا منْ تمرٍ أو ذُرةٍ أوْ شعيرٍ، أو نصفه منْ برٍّ، وذهبَ الشافعيُّ إلى أن الواجبَ لكلِّ مسكينٍ مدٌّ والمدُّ ربعُ الصالح. واستدلَّ بقولِه في حديثِ البابِ أطعمْ عرقًا منْ تمرٍ ستينَ مسكينًا، والعَرَقُ

(1)

مكتلٌ يأخذُ خمسةَ عشرَ صَاعًا أو ستةَ عشر، ولإعانته صلى الله عليه وسلم للواطئ في رمضان بعرق خمسة عشر صاعًا منْ تمرٍ ولأنهُ أكثرُ الرواياتِ في حديثِ سلمةَ هذَا. واستدلَّ الأولونَ بأنهُ وردَ في روايةِ عبدِ الرزاقِ

(2)

: "اذهبْ إلى صاحبِ صدقةِ بني زُريقٍ فقلْ لهُ فليدفعْها إليكَ فأطعمْ عنكَ منْها وسقًا [من تمرٍ]

(3)

ستينَ مسكينًا"، قالُوا: والوِسْقُ ستونَ صاعًا. وفي رواية لأبي داود

(4)

والترمذي

(5)

: فأطعم وساقًا منْ تمرٍ ستينَ مِسْكِينًا، وجاءَ في تفسيرِ العَرَق أنهُ ستونَ صاعًا. وفي رواية لأبي داودَ أن العرقَ مكتلٌ يسعُ ثلاثينَ صاعًا، قالَ أبو داودَ: وهذا أصحُّ الحديثيْنِ. ولما اختُلِفَ في تفسيرِ العرقِ على ثلاثةِ أقوالٍ واضطربتِ الرواياتُ فيهِ جنحَ الشافعيُّ إلى الترجيحِ بالكثرةِ وأكثرُ الرواياتِ خمسةَ عشرَ صالحًا.

وقالَ الخطابيُّ في "معالمِ السنن"

(6)

: العرقُ السفيفةُ

(7)

التي منَ الخوصِ فَيُتَّخَذُ منْها المكاتلُ، قالَ: وجاءَ تفسيرُه أنهُ ستونَ صاعًا، وفي روايةٍ لأبي داودَ

(8)

: يسعُ ثلاثينَ صَاعًا وفي روايةِ

(9)

سلمةَ: يسعُ خمسةَ عشرَ صاعًا، فدلَ أن العَرَقَ يختلفُ في السَّعةِ والضِّيقِ، قالَ: فذهبَ الشافعي إلى روايةِ الخمسةَ عشرَ صاعًا.

قلتُ: يؤيدُ قولَه أن الأصلَ براءةُ الذمةِ عن الزائدِ وهوَ وجهُ الترجيحِ.

التاسعةِ: في الحديثِ دليلٌ على أن الكفارةَ لا تسقط جَمِيعُ أنواعِها بالعجزِ وفيهِ خلافٌ، فذهبَ الشافعيُّ وأحدُ الروايتينِ عنْ أحمدَ إلى عَدَمِ سقوطِها بالعجزِ

(1)

العَرَق = 41.265 كلغ.

(2)

عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(8/ 78 - 79) ولم أجدها في تفسيره المطبوع.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في "السنن" رقم (2213).

(5)

في "السنن" رقم (3299) وهو حديث حسن.

(6)

(2/ 663 - هامش السنن).

(7)

وهي القطعة المنسوجة، والنسيج من الخوص.

(8)

في "السنن" رقم (2215). وهو حديث حسن دون قوله: "والعَرَقُ مكتل يسع ثلاثين صاعًا"، قاله الألباني في "ضعيف أبي داود".

(9)

أخرجها أبو داود رقم (2216)، وهو حديث صحيح.

ص: 201

لما في حديثِ أبي داودَ عن [خولة]

(1)

بنتِ مالكِ بن ثعلبةَ

(2)

قالتْ: ظاهرَ منِّي زوجي أوسُ بنُ الصامتِ إلى أنْ قالَ لها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يعتقُ رقبةً"، قالتْ: لا يجدُ، قالَ:"يصومُ شهرينِ متتابعينِ"، قالتْ: إنهُ شيخٌ كبيرٌ ما بهِ منْ صيامٍ، قالَ:"يطعمُ ستينَ مِسْكِينًا"، قالتْ: ما عِندَهُ شيءٌ يتصدقُ بهِ، قالَ:"فإني سأعينُه بعرقٍ من تمر" الحديثَ، فلوْ كانَ يسقطُ عنهُ بالعجْزِ لأبانَهُ صلى الله عليه وسلم ولم يعنْهُ منْ عندِه. وذهبَ أحمدُ في روايةٍ وطائفةٌ إلى سقوطِها بالعجزِ كما تسقطُ الواجباتُ بالعجزِ عنْها وعنْ أبدالِها، وقيلَ إنَّها تسقطُ كفارةُ الوطْءِ في رمضانَ بالعجزِ عنْها لا غيرُها منَ الكفاراتِ، قالُوا: لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ المجامِعَ في نهارِ رمضانَ أنْ يأكلَ الكفارةَ هوَ وعيالُه والرجلُ لا يكونُ مصرفًا لكفارتهِ، وقالَ الأولونَ: إنما حلَّت لهُ لأنهُ إذا عجزَ وكفَّرَ عنهُ الغيرُ جازَ أنْ يصْرفَها [فيه]

(3)

وهوَ مذهبُ أحمدَ في كفَّارةِ الوطْءِ في رمضانَ، ولهُ في غيرِها منَ الكفاراتِ قولانِ وهوَ نظيرُ ما قالتْه الهادويةُ منْ أنهُ يجوزُ للإمامِ إذا قبضَ الزكاةَ منْ شخصٍ أنْ يردَّها إليهِ.

العاشِرةُ: قالَ الخطابي

(4)

: دلَّ الحديثُ عَلَى أن الظِّهارَ المقيَّدَ كالظِّهَار المطْلَقِ، وهوَ إذا ظَاهرَ منِ امرأتِه إلى مدةٍ ثمَّ أصابَها قبلَ انقضاءِ تلكَ المدةِ. واختلَفُوا فيهِ إذا برَّ ولم يَحْنَثْ فقالَ مالكٌ وابنُ أبي لَيْلَى: إذا قالَ لامرأتِه أنتِ عليَّ كظهْرِ أمي إلى الليلِ لزِمْته الكفَّارةُ وإنْ لم يقربْها، وقالَ أكثرُ أهلِ العلمِ: لا شيءَ عليهِ إذا لم يقربْها، وجعلَ الشافعيُّ في الظِّهارِ المؤقتِ قولينِ أحدُهما أنهُ ليسَ بِظِهارِ.

فائدةٌ: قدْ يُتَوَّهَمُ أن سببَ نزولِ آيةِ الظِّهارِ حديثُ سلمةَ هذا لاتفاقِ الحكميْنِ في الآيةِ والحديثِ، وليسَ كذلكَ؛ بلْ سببُ نزولها قصةُ أوسِ بن الصامتِ ذكرَهُ ابنُ كثيرٍ في "الإرشادِ" منْ حديثِ خويلةَ بنتِ ثعلبةَ قالتْ: "فيَّ

(1)

في (ب): "خويلة".

(2)

أخرجه أبو داود رقم (2214)، وأحمد (6/ 410). وهو حديث صحيح. انظر:"الإرواء"(7/ 173 رقم 2087).

(3)

في (ب): "إليه".

(4)

في "معالم السنن"(2/ 661 - هامش السنن).

ص: 202

واللَّهِ وفي أوسٍ أَنْزَلَ اللَّهُ سورةَ المجادلةِ، قالتْ: كنتُ عندَه وكانَ شَيْخًا كَبِيْرًا قدْ ساءَ خُلُقه وقدْ ضجر، قالتْ: فَدَخَلَ عليَّ يومًا فراجعْتُه بشيءٍ فغضبَ فقالَ: أنتِ عليَّ كظهرِ أميِّ، قالتْ: ثمَّ خرجَ فجلسَ في نادي قومِه ساعةً ثمَّ دخلَ عليَّ فإذَا هو يريدني عنْ نفسي، قالتْ: قلتُ كلَّا والذي نفسُ خويلةَ بيدِه لا تخلُصُ إليَّ وقدْ قلتَ ما قلتَ، فحكمَ اللَّهُ ورسولُه فيها" الحديثَ، رواهُ الإمامُ أحمدُ

(1)

وأبو داودَ

(2)

وإسنادُه مشهورٌ، وأُخِذَ منهُ أنهُ إذا قصدَ بلفظِ الظهارِ الطلاقَ لم يقعِ الطلاقُ وكانَ ظِهارًا، وإلى هذَا ذهبَ أحمدُ والشافعيُّ وغيرُهما، قالَ الشافعيُّ: ولو ظاهرَ يريدُ طلاقًا كانَ ظِهَارًا، ولَوْ طلَّق يريدُ ظِهارًا كانَ طلاقًا.

وقالَ أحمدُ: إذا قالَ: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي، وعَنَى بهِ الطلاقَ كانَ ظِهَارًا ولا تطلَّق، وعلَّلَه ابنُ القيمِّ

(3)

بأنَّ الظّهارَ كانَ طلاقًا في الجاهليةِ فَنُسِخَ فلمْ يجزْ أنْ يُعَادَ إلى الأمرِ المنسوخِ، وأيضًا فأوسٌ إنَّما نَوَى بهِ الطلاقَ لما كانَ عليهِ فأُجْرِيَ عليهِ حكمُ الظهارِ دونَ الطلاقِ، وأيضًا فإنهُ صريحٌ في حُكْمِهِ، فلمْ يجزْ جعلُه كنايةً في الحكمِ الذي أبطلَ اللَّهُ شَرْعه، وقضاءُ اللَّهِ أحقُّ وحكم اللَّهِ أوجبُ.

* * *

(1)

في "المسند"(6/ 410).

(2)

في "السنن" رقم (2214). وهو حديث صحيح، وقد تقدم قريبًا.

(3)

في "زاد المعاد"(5/ 325 - 326).

ص: 203

[الباب الثاني] باب اللعان

هوَ مأخوذٌ منَ اللَّعْنِ لأنهُ يقولُ الزوجُ في الخامسةِ: لعنةُ اللَّهِ عليهِ إنْ كانَ منَ الكاذبينَ. ويقالُ فيهِ: اللعانُ والالتعانُ والملاعنة. واختُلِفَ في وجوبِه على الزوجِ، فقالَ في الشفاءِ

(1)

للأميرِ الحسين: يجبُ إذا كانَ ثمةَ ولدٍ وعلمَ أنهُ لم يقربْها. وفي المهذِّبِ والانتصارِ أنهُ معَ غلبةِ الظنِّ بالزِّنَى منَ المرأةِ أوِ العلم يجوزُ ولا يجبُ، ومعَ عدمِ الظنِّ يحرُمُ.

‌التفريق بين المتلاعنين إلى الأبد

1/ 1030 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: سَألَ فُلَانٌ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذلَكَ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ذلِكَ أَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآيَاتِ في سُورَةِ النُّورِ، فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، قَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا كَذَلِكَ، قَالَتْ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقَّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بِالرّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ

(1)

أي في "شفاء الأوام" ولا يزال مخطوطًا ولديَّ صورة عن المخطوط. ووضع الشوكاني عليه حاشية، سمَّاها:"وبل الغمام على شفاء الأوام"، وقد قمت بتحقيقها وتخريبها وللَّهِ الحمد والمنة، ن: مكتبة ابن تيمية - القاهرة. ت مكتبة العلم بجدة.

ص: 204

شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، ثُمَّ ثنَّى بِالْمَرْأَةِ، ثُمّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: سألَ فلانٌ) هوَ عويمرُ العجلاني كما في أكثرِ الرواياتِ (فقال: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ أنْ لو وجدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ كيفَ يصنعُ؟ إنْ تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإنْ سكتَ سكتَ على مِثْلِ ذلكَ) أيْ عَلَى أمرٍ عظيمٍ، (فلم يجبْهُ، فلمَّا كانَ بعدَ ذلكَ أتاهُ فقالَ: إنَّ الذي سألتُكَ عنهُ قدِ ابْتُلِيتُ بهِ)، فأنزلَ اللَّهُ الآياتِ في سورةِ النُّورِ

(2)

. والأكثرُ في الرواياتِ أن سببَ نزولِ الآياتِ قصةُ هلالِ بن أميةَ وزوجتِه

(3)

وكانتْ متقدمة على قصةِ عويمرٍ، وإنَّما تلاها صلى الله عليه وسلم لأنَّ حُكْمَها عامٌّ للأمةِ، (فتلاهنَّ عليه ووعظَه وذكَّرة)، عطفُ تفسيرٍ، إذ الوعظُ هوَ التذكيرُ، (وأخبرَهُ أن عذابَ الدنيا أهونُ منْ عذابِ الآخرةِ) الموعودِ بهِ في قولهِ:{لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

(4)

، (قالَ: لا، والذي بعثكَ بالحقِّ ما كذبتُ عليها، ثمَّ دَعَاها فوعظَها كذلكَ، قالتْ: لا، والذي بعثكَ بالحقِّ إنهُ لكاذبٌ، فبدأَ بالرجلِ فشهدَ أربعَ شهاداتٍ باللَّهِ ثمَّ ثَنَّى بالمرأةِ ثمَّ فرَّقَ بينَهما. رواهُ مسلمٌ)، في الحديثِ مسائل:

الأُولى: قولُه: فلم يجبْه، وقعَ عندَ أبي داودَ

(5)

: فكرهَ صلى الله عليه وسلم المسائلَ وعابَها، قالَ الخطابيُّ

(6)

: يريدُ المسألةَ عمَّا لا حاجة بالسائلِ إليهِ، وقالَ الشافعيُّ: كانتِ المسائلُ فيما لم ينزل فيه حكمٌ زمنَ نزولِ الوحي ممنوعةً لئلّا يَنزلَ في ذلكَ ما يوقِعُهم في مشقةٍ وعنَت كما قالَ تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ [إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]

(7)

}

(8)

، وفي الحديثِ الصحيحِ:"أعظمُ الناس جُرْمًا مَنْ سألَ عنْ شيءٍ لم يحرَّمْ فَحُرِّمَ منْ أجلِ مسألتهِ"

(9)

.

وقالَ الخطابيُّ

(10)

: قدْ وجدْنا المسألةَ في كتابِ اللَّهِ على وجهينِ: أحدُهما

(1)

في "صحيحه" رقم (1493).

(2)

سورة النور: الآيات 6 - 9.

(3)

كما في "أسباب النزول" للواحدي (ص 316 - 318).

(4)

سورة النور: الآية 23.

(5)

في السنن (2/ 679 - 682 رقم 2245).

(6)

في "معالم السنن"(2/ 680 - هامش السنن).

(7)

زيادة من (أ).

(8)

سورة المائدة: الآية 101.

(9)

أخرجه البخاري رقم (7289)، ومسلم رقم (2358) من حديث عامر بن سعد عن أبيه.

(10)

في "معالم السنن"(2/ 680 - 681) هامش السنن.

ص: 205

ما كانتْ على وجْهِ التبيينِ والتعليمِ فيما يلزمُ الحاجةُ إليهِ منْ أمرِ الدينِ، والآخرُ ما كانَ علَى طريقِ التعنُّتِ والتكلُّفِ، فأباحَ [الأمر]

(1)

الأولَ وأمرَ بهِ وأجابَ عنهُ فقالَ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}

(2)

، وقالَ:{فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}

(3)

، وأجابَ تعالَى في الآياتِ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}

(4)

، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}

(5)

وغيرِها، وقالَ في النوع الآخَرِ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}

(6)

، وقالَ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)}

(7)

، فكلُّ ما كانَ منَ السؤالِ على هذا الوجْهِ فهوَ مكروه، فإذا وقعَ السكوتُ عنْ جوابِه فإنَّما هوَ زجْرٌ للسائلِ، فإذَا وقعَ الجوابُ فهوَ عقوبةٌ وتغليظٌ.

‌يبدأ الرجل باللعان

الثانية: في قولِه: فبدأَ بالرجلِ، ما يدلُّ على أنهُ يبدأُ بهِ وهوَ قياسُ الحكمِ الشرعيِّ؛ لأنهُ المدَّعي فيقدَّم وبهِ وقعتِ البداءةُ في الآيةِ، وقدْ وقعَ الإجماعُ على أن تقديْمَهُ سنةٌ. واختُلِفَ هلْ تجبُ البداءةُ بهِ أمْ لا؟ فذهبَ الجماهيرُ إلى وجوبِها لقولِه صلى الله عليه وسلم لهلالٍ:"البيِّنةُ وإلَّا حدٌّ في ظَهْرِكَ"

(8)

فكانتِ البداءةُ بهِ لدفعِ الحدِّ عن الرجلِ، فلو بدأَ بالمرأةِ كانَ دافعًا لأمرٍ لم يثبتْ، وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنها تصحُّ البداءةُ بالمرأةِ؛ لأنَّ الآيةَ لم تدلَّ علَى لزومِ البداءةِ بالرجلِ لأنَّ العطْفَ فيها بالواوِ وهيَ لا تقتضي الترتيبَ. وأُجِيْبَ عنهُ بأنَّها وإنْ لم تقتضِ الترتيبَ فإنهُ تعالَى: لا يبدأُ إلَّا بما هوَ الأحقُّ في البداءةِ والأقدمُ في العنايةِ، وبيَّنَ فعلُه صلى الله عليه وسلم ذلكَ فهوَ مثلُ قولِه:"نبدأُ بما بدأَ اللَّهُ بهِ"

(9)

في وجوبِ البداءةِ بالصَّفَا.

(1)

في (ب): "النوع".

(2)

سورة النحل: الآية 43.

(3)

سورة يونس: الآية 94.

(4)

سورة البقرة: الآية 189.

(5)

سورة البقرة: الآية 222.

(6)

سورة الإسراء: الآية 85.

(7)

سورة النازعات: الآيتان 42 - 43.

(8)

وهو جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (4747)، وأبو داود رقم (2254)، والترمذي رقم (3179) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وابن ماجه رقم (2067)، والبيهقي (7/ 393 - 394) من طريق هشام بن حسان، قال: حدثنا عكرمة عن ابن عباس.

(9)

وهو جزء من حديث جابر بن عبد اللهِ أخرجه مسلم رقم (1218)، وأبو داود رقم (1905)، وابن ماجه رقم (3074)، ومالك (1/ 372)، والدارمي (2/ 44 - 49)، =

ص: 206

الثالثةُ: قولُه: ثمَّ فرَّقَ بينَهما، دالٌّ على أن الفرقة بينَهما لا تقعُ إلا بتفريقِ الحاكمِ لا بنفسِ اللعانِ. وإلى هذا ذهبَ كثيرٌ مستدلينَ بهذَا اللفظِ في الحديثِ، وأنهُ ثبتَ في الصحيحِ بأنَّ الرجلَ طلَّقَها ثلاثًا بعدَ تمامِ اللعانِ، وأقرَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلكَ، ولوْ كانتِ الفرقةُ بنفسِ اللعانِ لَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أن طلاقَه في غيرِ محلِّهِ.

وقالَ الجمهورُ: بلِ الفرقةُ تقعُ بنفسِ اللعانِ وإنَّما اختلَفُوا هلْ تحصلُ الفرقةُ بتمامِ لعانهِ وإنْ لم تلتعنْ هيَ؟ فقالَ الشافعيُّ: تحصلُ بهِ، وقالَ أحمدُ: لا تحصلُ إلَّا بتمامِ لعانِهما وهوَ المشهورُ عندَ المالكيةِ وبهِ قالتِ الظاهريةُ. واستدلُّوا بما في صحيح مسلمٍ

(1)

منْ قولِهِ صلى الله عليه وسلم: "ذلكمُ التفريقُ بينَ كلِّ متلاعنينِ".

قالَ ابنُ العربيِّ: أخبرَ صلى الله عليه وسلم بقولِه ذلكمْ عنْ قولِه: "لا سبيلَ لكَ عليها"، قالَ: كذَا حكمُ كلِّ متلاعنينِ فإنْ كانَ الفراقُ لا يكونُ إلا بمحكمٍ فقدْ نفذَ الحكمُ فيهِ منَ الحاكمِ الأعظمِ صلى الله عليه وسلم بقولِه ذلكمُ التفريقُ بينَ كلِّ متلاعنينِ، قالُوا: وقولُه: فرّقَ بينهما معناه إظهار ذلك وبيان حكم الشرع فيه لا أنه أنشأ الفرقة بينهما، قالوا: وأما طلاقُه إيَّاها فلمْ يكنْ عنْ أمرِه صلى الله عليه وسلم وبأنهُ لم يزدِ التحريمُ الواقعُ باللعانِ إلا تأكيدًا فلا يحتاجُ إلى إنكارِه، وبأنهُ لو كانَ لا فرقةَ إلَّا بالطلاقِ لجازَ لهُ الزواجُ بها بعدَ أنْ تنكحَ زوجًا غيرَهُ. وقدْ أخرجَ أبو داودَ

(2)

عن ابن عباسٍ رضي الله عنه الحديثَ وفيهِ: وقضَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ لا بيتَ لها عليهِ ولا قوتَ منْ أجلِ أنَّهما يتفرقانِ منْ غيرِ طلاقٍ ولا متوفَّى عنْها. وأخرجَ أبو داودَ

(3)

منْ حديثِ سهلِ بن سعدٍ في حديثِ المتلاعنيْنِ قالَ: مضتِ السُّنةُ بعدُ في المتلاعنينِ أنْ يفرَّقَ بينَهما ثمَّ لا يجتمعانِ أبدًا. وأخرجَهُ البيهقيُّ

(4)

بلفظِ: فرَّقَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بينَهما وقالَ: "لا يجتمعانِ أبدًا"، وعنْ عليٍّ

(5)

وابنِ مسعودٍ

(6)

قالا: مضتِ السُّنةُ

= وأحمد (3/ 320، 321)، والبيهقي (5/ 7، 9).

(1)

رقم (3/ 1492).

(2)

في "السنن" رقم (2256). وهو حديث ضعيف.

(3)

في "السنن" رقم (2250). وهو حديث صحيح.

(4)

في "السنن الكبرى"(7/ 410).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 112 - 113 رقم 12436)، والبيهقي (7/ 410).

(6)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 112 رقم 12434)، والبيهقي (7/ 410).

ص: 207

بينَ المتلاعنينِ أنْ لا يجتمعَا أبدًا"، وعنْ عمرَ

(1)

يُفَرَّقُ بينَهما ولا يجتمعانِ أبدًا.

‌هل فرقة اللعان فسخ أم طلاق بائن

الرابعةُ: اختلفَ العلماءُ في فرقةِ اللعانِ هلْ هيَ فسخٌ أو طلاقٌ بائنٌ؟

فذهبتِ الهادويةُ والشافعيُّ وأحمدُ وغيرُهم إلى أنَّها فسخٌ مستدلينَ بأنَّها توجبُ تحريمًا مؤبَّدًا فكانتْ فَسْخًا كفرقةِ الرضاعِ إذْ لا يجتمعانِ أبدًا، ولأنَّ اللعانَ ليسَ صريحًا في الطلاقِ ولا كنايةَ فيهِ. وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنَّها طلاقٌ بائنٌ مستدلًا بأنَّها لا تكونُ إلَّا منْ زوجةٍ فهيَ منْ أحكامِ النكاحِ المختصةِ فهيَ طلاقٌ إذْ هوَ منْ أحكامِ النكاحِ المختصةِ، بخلاف الفسخِ فإنهُ قدْ يكونُ منْ أحكامِ غيرِ النكاحِ كالفسخِ بالعيبِ. وأُجِيْبَ بأنهُ لا يلزمُ منِ اختصاصِه بالنكاحِ أنْ يكونَ طلاقًا كما أنهُ لا يلزمُ فيهِ نفقةٌ ولا غيرُها.

الخامسة: وهي فرع للرابعة. اختلفوا لو أكذب نفسه بعد اللعان هل تحل له الزوجة؟ فقالَ أبو حنيفةَ: تحلُّ لهُ لزوالِ المانعِ المحرِّم وهوَ قولُ سعيدِ بن المسيِّبِ فإنهُ قالَ: فإنْ أكذبَ نفسَه فإنهُ خاطبٌ منَ الخطَّابِ. وقالَ ابنُ جبيرٍ: تُرَدُّ إليهِ ما دامتْ في العدةِ، وقالَ الشافعي وأحمدُ: لا تحلُّ لهُ أبدًا لقولِه صلى الله عليه وسلم لا سبيلَ لكَ عليها.

قلت: قدْ يجابُ عنهُ بأنهُ صلى الله عليه وسلم قالَه لِمنِ التعنَ ولم يكذِّبْ نفسَه.

السادسةُ: في حديثِ لعانِ هلالِ بن أميةِ أنهُ قذفَ امرأتَهُ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشريكِ بن سحماءَ، الحديثُ عندَ أبي داودَ

(2)

وغيرِهِ. قالَ الخطابيُّ

(3)

: فيهِ منَ الفقهِ أن الزوجَ إذا قذفَ امرأتَه برجلٍ بعينِه ثمَّ تلاعَنَا فإنَّ اللعانَ يسقطُ عنهُ الحدَّ فيصيرُ في التقديرِ ذِكْرُه المقذوفَ بهِ تبعًا ولا يعتبرُ حكْمهُ، وذلكَ أنهُ صلى الله عليه وسلم قال لهلالِ بن أميةَ: البينةُ أو حدٌّ في ظَهْرِكَ، فلمَّا تلاعَنَا لم يتعرضْ لهلالٍ بالحدِّ. ولا يُرْوَى في شيءٍ منَ الأخبارِ أن شريك بنَ سحماءَ عفا عنهُ فعلِم أن الحدَّ الذي

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 351).

(2)

في "السنن" رقم (2254) وقد تقدم تخريجه قريبًا.

(3)

في "معالم السنن"(2/ 687) هامش السنن.

ص: 208

كانَ يلزمُه بالقذفِ سقطَ عنهُ باللعانِ وذلكَ لأنهُ مضْطَّرٌ إلى ذِكْرِ مَنْ يقذفُها بهِ لإزالةِ الضررِ عنْ نفسهِ، فلم يحملْ نفسَه على القصدِ لهُ بالقذفِ وإدخالِ الضررِ عليهِ.

قلتُ: ولا يخْفَى أنهُ لا ضرورةَ في تعيينِ مَنْ قَذَفَها بهِ، وقالَ الشافعيُّ: إنَّما يسقطُ عنهُ الحدُّ إذا ذكرَ الرجلَ وسمَّاهُ في اللعانِ، فإنْ لمْ يفعلْ ذلكَ حُدَّ لهُ. وقالَ أبو حنيفةَ: الحدُّ لازم لهُ وللرجلِ مطالبتُه بهِ، وقالَ مالكٌ: يُحَدُّ للرجلِ ويُلاعَنْ للزوجةِ، انتَهى.

قلتُ: ولا دليلَ في حديثِ هلالٍ علَى سقوطِ الحدِّ بالقذْفِ؛ لأنهُ حقٌّ للمقذوفِ ولم يردْ أنهُ [طالبه]

(1)

بهِ حتَّى يقولَ لهُ صلى الله عليه وسلم قدْ سَقَطَ باللعانِ أو بحده للقاذف، فيتبينُ الحكمُ، والأصلُ ثبوتُ الحدِّ على القاذفِ، واللعانُ إنَّما شُرعَ لدفعِ الحدِّ عن الزوجِ والزوجةِ.

2/ 1031 - وَعَنْهُ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: "حِسَابُكُما عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيهَا"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالي. فَقَالَ:"إِنْ كنْتَ صَدَقْتَ عَلَيهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا". مُتَّفَق عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ للمتلاعنَيْنِ: حسابُكما على اللَّهِ) بَيَّنَه بقولِه: (أحدُكما كاذبٌ) فإذَا كانَ أحدُهما كاذبًا فاللَّهُ هوَ المتوفي لجزائِهِ (لا سبيلَ لكَ عليْها) هوَ إبانةٌ للفُرقَةِ بينَهما كما سلفَ (قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، مالي)، يريدُ بهِ الصَّدَاقَ الذي سلَّمه إليها، (قالَ: إنْ كنتَ صدقْتَ عليها فهوَ بما استحللتَ من فَرْجِهَا، وإن كنتَ كاذبًا عليها فذلكَ أبعدُ لك منْها. متفقٌ عليهِ). الحديثُ أفادَ ما سلفَ منَ الفراقِ بينَهما وأنَّ أحدَهما كاذب في نفسِ الأمرِ، وحسابُه على اللهِ، وأنهُ لا يرجعَ بشيءٍ

(1)

في (ب): "طالب".

(2)

البخاري رقم (5312)، ومسلم رقم (1493).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2257)، والنسائي (6/ 177)، وأحمد في "المسند" رقم (4587 - شاكر)، والبيهقي (7/ 401)، وابن عبد البر في "التمهيد"(6/ 201)، وسعيد بن منصور في "السنن" رقم (1556) وغيرهم.

ص: 209

مما سلَّمَهُ منَ الصَّدَاقِ، لأنهُ إنْ كانَ صادقًا في القذْفِ فقدِ استحقَّتِ المالَ بما استحل منْها وإن كانَ كاذبًا فقدِ استحقَّتْهُ أيضًا بذلكَ ورجوعُه إليهِ أبعدُ لأنهُ هَضَمَهَا بالكذبِ عليها فكيفَ يرتجعُ ما أعطاهَا.

‌صحة اللعان للحامل

3/ 1032 - وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُبْصُرُوهَا، فَإنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أكحَلَ جَعْدًا، فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أُبصرُوها فإنْ جاءتْ بهِ أبيضَ سَبِطًا) بفتحِ السينِ المهملةِ ووكسرِ الباءِ الموحدةِ بعدَها طاءٌ مهملةٌ، وهوَ الكاملُ الخلْقِ منَ الرجالِ (فهوَ لزوجِها، وإن جاءتْ بهِ أكحلَ) بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الكافِ، هوَ الذي مَنَابِتُ أجفانِه سودٌ كأنَّ فيها كُحْلًا وهيَ خِلْقةٌ (جَعْدًا) بفتحِ الجيمِ وسكونِ العينِ المهملةِ فدالٍ مهملةٍ، وهوَ منَ الرجالِ القصيرُ (فهوَ للذي رَمَاها بهِ. متفقٌ عليه) ولَهُمَا

(2)

في أُخْرَى فجاءتْ بهِ على النعتِ المكروهِ. وفي الأحاديثِ ثبت لهُ عدةُ صفاتٍ، وفي روايةٍ لهما

(3)

وللنسائيِّ

(4)

أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم: بعدَ سردِ صفاتِ ما في بطْنِها: اللهمَّ بَيِّنْ، فوضعتْ شبيهًا بالذي ذكرَ زوجُها أنهُ وجدَه عندَها. وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ يصحُّ اللعانُ للمرأةِ الحاملِ ولا يؤخَّرُ إلى أنْ تَضَعَ وإليهِ ذهبَ الجمهورُ لهذا الحديثِ، وقالتِ: الهادويةُ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ، ويُرْوَى عنْ أبي حنيفةَ، وأحمدَ: أنهُ لا لِعَانَ لنفيِ الحملِ لجوازِ أنْ يكونَ ريحًا فلا يكونُ لِلِّعانِ حينئذٍ معنىً.

قلتُ: وهذا رأيٌ في مقابلةِ النصِّ، وكأنهم يريدونَ أنهُ لا لعانَ بمجردِ ظنِّ الحملِ منَ الأجنبيِّ لا لِوُجْدَانِهِ مَعَها الذي هوَ صورةُ النصِّ.

وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ ينتفي الولدُ باللعانِ وإنْ لم يذكرِ النفيَ في

(1)

أخرجه مسلم رقم (1496) من حديث أنس، وأخرجه النسائي (6/ 171 - 172 رقم 3468).

(2)

البخاري رقم (5316)، ومسلم رقم (1497) من حديث ابن عباس.

(3)

البخاري رقم (5316)، ومسلم رقم (1497) من حديث ابن عباس.

(4)

في "السنن"(6/ 173 - 174 رقم 3470).

ص: 210

اليمينِ، وإلى هذا ذهبَ أهلُ الظاهرِ، وعندَ بعضِ المالكيةِ وبعضِ أصحاب أحمدَ أنهُ يصح اللعانُ على الحمْلِ بشرطِ ذِكْرِ الزوجِ لنفي الولدِ دونَ المرأةِ [وبهِ]

(1)

يصحُّ نفيُ الولدِ وهوَ حملٌ ويُؤَخِّرُ اللعانُ إلى ما بعدَ الوضْعِ ولا دليلِ عليْهِما، بلِ الحقُّ قولُ الظاهريةِ فإنهُ لم يقعْ في اللعانِ عندَه صلى الله عليه وسلم نفيُ الولدِ ولمْ نرَهُ في حديثِ هلالٍ ولا عويمرٍ، ولم يكنِ اللعانُ إلَّا منْهما في عصْرِه صلى الله عليه وسلم، وأما لعانُ الحاملِ فقدْ ثَبَتَ في هذهِ الأحاديثِ. وقدْ أخرجَ مالكٌ

(2)

عنْ نافعٍ عن ابن عمرَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بينَ رجلٍ وامرأتِه وانتفَى منْ ولدهِ فَفُرِّقَ بينَهما وأُلحِقَ الولدُ بالمرأةِ.

وفي حديثِ سهلٍ وكانتْ حاملًا فأنكرَ حَمْلَها وذكرَ أنهُ انتفَى منْ ولدِهِ ولكنَّه لا يدلُّ على اشتراطِ نفي الولدِ؛ لأنهُ فَعَلَهُ الرجلُ منْ تِلقاءِ نفسِه، وقالَ أبو حنيفةَ: لا يصحُّ نفيُ الحمْلِ واللعانُ عليهِ فإنْ لاعنَها حاملًا ثمَّ أتتْ بالولدِ لزمَهُ ولمْ يُمَكَّنْ منْ نَفْيهِ أصلًا لأنَّ اللعانَ لا يكونُ إلَّا بينَ الزوجيْنِ، وهذهِ قدْ بانتْ بلعانِهِمَا في حالِ حَمْلِها. ويجابُ بأنَّ هذَا رأيٌ في مقابلةِ النصِّ الثابتِ في حديثِ البابِ وفي حديثِ ابن عمرَ هذَا، وإنْ كانَ البخاريُّ قدْ بَيَّنَ أن قولَه فيهِ: وكانتْ حاملًا، منْ كلام الزُّهْريِّ لكنَّ حديثَ الباب صحيحٌ صريحٌ. وفي الحديثِ دليلٌ على العملِ بالقيافةِ

(3)

وكانَ مقتضَاها إلحاقَ الولدِ بالزوجِ إنْ جاءتْ بهِ على صفتِه لأنهُ للفراشِ لكنَّه صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ المانعَ عن الحكمِ بالقيافةِ نَفْيًا وإثباتًا بقولِه: لولا الأَيْمانُ لكانَ لي ولها شأنٌ.

‌يشرع للحاكم المبالغة في المنع من الحلف

4/ 1033 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضعَ يَدَهُ عِنْد الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، وَقَالَ:"إِنَّهَا مُوْجِبَةٌ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(4)

والنَّسَائِيُّ

(5)

، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. [صحيح]

(1)

في (ب): "بأنه".

(2)

في "الموطأ"(2/ 567 رقم 35).

(3)

القائف: الذي يتتبَّع الآثار ويَعْرِفُها، ويَعْرِفُ شَبَهِ الرجُلِ بأخيهِ وأبيه، والجمع: القافَة.

يقال: فُلانٌ يَقُوفَ الأثر ويقتافُه قِيافةً، مثل: قَفَا الأثر واقتفاه. "النهاية"(4/ 121).

(4)

في "السنن" رقم (2255).

(5)

في "السنن"(6/ 175 رقم 3472)، وهو حديث صحيح.

ص: 211

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمرَ رجلًا أنْ يضَعَ يدَهُ عندَ الخامسةِ علي فيهِ وقالَ: إنَّها موجبةٌ. رواة أبو داودَ والنسائيُّ ورجالُه ثِقاتٌ)، فيهِ دلالةٌ على أنهُ يُشْرَعُ منَ الحاكمِ المبالغةُ في مَنْعِ الْحَلِف خشيةَ أنْ يكونَ كاذِبًا فإنهُ صلى الله عليه وسلم مَنع بالقولِ بالتذكيرِ والوعْظِ كما سلفَ، ثمَّ مَنَعَ هُنا بالفعلِ ولم يُرْوَ أنهُ أمر بوضْعِ يدِ أحدٍ على فمِ المرأةِ وإنْ أوهَمَهُ كلامُ الرافعيِّ، وقولُه:"إنَّها الموجبَةُ" أيْ للفرقةِ ولعذَابِ الكاذب، وفيهِ دليلٌ على أن اللعنةَ الخامسةَ واجبةٌ. وأمَّا كيفيةُ التحْليفِ فأخرجَ الحاكمُ

(1)

والبيهقيُّ

(2)

منْ حديثِ ابن عباسٍ في تحليفِ هلالِ بن أميةَ أنهُ قالَ لهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "احلفْ باللَّهِ الذي لا إلهَ إلَّا هوَ إني [صادق]

(3)

"، يقولُ ذلكَ أربعَ مراتٍ، الحديثُ بطولِهِ قالَ الحاكمُ: صحيح عَلَى شَرْطِ البخاريِّ.

5/ 1034 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه في قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ: فَلَمّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأَمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

[صحيح]

(وعنْ سهلِ بن سعدٍ رضي الله عنه في قصةِ المتلاعِنَيْنِ قالَ) أيُّ الرجلِ (لما فَرَغَا منْ تلاعنَهما: كذبْت عليها يا رسولَ اللَّهِ إن أمسكتُها فطلَّقَها ثلاثًا قبلَ أنْ يأمرَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. متفقٌ عليهِ) تقدَّمَ الكلامُ على تحقيقِ المقامِ.

6/ 1035 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قالَ:"غَرِّبْهَا"، قال: أَخَافُ أنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي. قَالَ: "فَاسْتَمْتِعْ بِهَا"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(5)

وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. [إسناده صحيح]

(1)

في "المستدرك"(2/ 202) وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه بهذه السياقة. وإنما أخرجا حديث هشام بن حسان عن عكرمة مختصرًا وأقرَّه الذهبي.

(2)

في "السنن الكبرى"(7/ 395).

(3)

في (ب): "لصادق".

(4)

البخاري رقم (5308)، ومسلم رقم (1492).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2245)، والنسائي (6/ 170 - 171 رقم 3466)، وابن ماجه رقم (2066)، ومالك (2/ 566 - 567 رقم 34).

(5)

في "السنن" رقم (2049).

ص: 212

وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِي

(1)

مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَفْظِ قَالَ: "طَلِّقْهَا" قَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ:"فَأَمْسِكْهَا".] إسناده صحيح].

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن رجلًا جاءَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: إنَّ امرأتي لا تردُّ يدَ لامسٍ، قالَ: غرِّبْها) بالغينِ المعجمةِ والراءِ وباءٍ موحدةٍ، قالَ في "النهايةِ"

(2)

: أي أبعدْها يريدُ الطلاقَ (قال: [أخشى]

(3)

أنْ تتبعَها نفسي، قال: استمتعْ بها. رواهُ أبو داودَ ورجالُه ثِقاتٌ) وأطلقَ النوويُّ عليهِ الصحةَ لكنَّهُ نقلَ ابنُ الجوزي

(4)

عنْ أحمدَ أنهُ قالَ: لا يثبتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيءٌ وليسَ لهُ أصلٌ، فتمسكَ بهذَا ابنُ الجوزيِّ وعدَّهُ في الموضوعاتِ معَ أَنهُ أوردَه بإسنادٍ صحيحٍ (وأخرجَهُ النسائيُّ منْ وجْهٍ آخرَ عن ابن عباسٍ بلفظِ قال: طلِّقْهَا، قالَ: لا أصبرُ عنْها قالَ: فأمسكْها).

‌معنى قوله لا ترد يد لامس

اختلفَ العلماءُ في تفسير قولِه: لا تَرُدُّ يَد لامس على قوليْنِ:

الأولُ: أن معناهُ الفجورُ وأنَّها لا تمنعُ مَنْ يريدُ منْها الفاحشةَ، وهذَا قولُ أبي عُبَيْدٍ والخلالِ والنسائيِّ وابنِ الأعرابيِّ والخطابيِّ

(5)

. واستدل بهِ الرافعيُّ على

(1)

في "السنن"(6/ 170 رقم 3465) وقال: "أبو عبد الرحمن هذا خطأ والصواب مرسلٌ" وأخرجه النسائي موصولًا (6/ 67 - 68 رقم 3229): "وقال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث ليس بثابت. وعبد الكريم ليس بالقوي. وهارون بن رِئاب أثبت منه، وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم" اهـ.

وأخرجه النسائي أيضًا (6/ 169 - 170 رقم 3464) من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه. "وإسناده أصح وأطلق النووي عليه الصحة"، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 225).

ونقل ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 272) عن أحمد بن حنبل أنه قال: لا يثبت عن النبي في هذا الباب شيء، وليس له أصل. وتمسك بهذا ابن الجوزي فأورد الحديث في "الموضوعات" مع أنه أورده بإسناد صحيح.

وانظر ما قاله ابن حجر في "التلخيص"(3/ 225).

(2)

(3/ 349).

(3)

في (ب): "أخاف".

(4)

في "الموضوعات"(2/ 272).

(5)

في "معالم السنن"(2/ 541 - هامش السنن).

ص: 213

أنهُ لا يجبُ تطليقُ منْ فسقتْ بالزِّنَى إذا كانَ الرجلُ لا يقدرُ على مفارقتِها.

والثاني: أنَّها تبذِّرُ بمالِ زَوْجِها ولا تمنعُ أحدًا طلبَ منْها شيئًا، وهذا قولُ أحمدَ والأصمعيِّ ونقلَه عنْ علماءِ الإسلامِ، وأنكرَ ابنُ الجوزي على مَنْ ذهبَ إلى الأولِ. قالَ في "النهاية": وهوَ أشبهُ بالحديثِ لأنَّ المعَنَى الأولَ يشكلُ على ظاهرِ قولهِ تعالَى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}

(1)

وإنْ كانَ في معنَى الآيةِ وجوهٌ كثيرةٌ.

قلتُ: الوجْهُ الأوَّلُ في غايةٍ منَ البعدِ بلْ لا يصحُّ للآيةِ؛ ولأنهُ صلى الله عليه وسلم لا يأمرُ الرجلَ أنْ يكونَ ديوثًا فحمْلُه على هذَا لا يصحُّ، والثاني بعيدٌ لأنَّ التبذيرَ إنْ كانَ بمالِها فَمَنْعُها ممكنٌ وإنْ كانَ منْ مالِ الزوجِ فكذلكَ، ولا يوجبُ أمرهُ بطلاقِها، على أنهُ لم يتعارفْ في اللغةِ أنْ يُقَالَ فلانٌ لا يردُّ يدَ لامسٍ كناية عن الجودِ فالأقربُ المرادُ أنَّها سهلةُ الأخلاقِ ليسَ فيها نفورٌ وحشمةٌ عن الأجانب لا أنَّها تأتي الفاحشةَ، وكثيرٌ منَ النساءِ والرجالِ بهذهِ المثابةِ معَ البعدِ [عن]

(2)

الفاحشةِ كما قال أبو الطيب:

بيضاء يطمع فيما تحت حلتها

وعز ذلك مطلوب إذا طلب

ولو أرادَ بهِ أنَّها لا تمنعُ نفسَها عن الوقاعِ منَ الأجانبِ لكانَ قاذفًا لها.

‌التحذير من نفي الولد بعد إثباته

7/ 1036 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيسَ مِنْهُمْ فَلَيسَتْ مِنَ الله في شَئٍ، وَلَمْ يُدْخِلْهَا اللهُ جَنتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ - وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيهِ - احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤوسِ الأَوّلِينَ وَالآخِرِينَ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(3)

وَالنَّسَائِيُّ

(4)

وَابْنُ مَاجَهْ

(5)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(6)

. [ضعيف]

(1)

سورة النور: الآية 3.

(2)

في (ب): "من".

(3)

في "السنن" رقم (2263).

(4)

في "السنن"(6/ 179 رقم 3481).

(5)

في "السنن" رقم (2743) بإسناد ضعيف. موسى بن عبيدة: ضعيف، وشيخه يحيى: مجهول.

(6)

في "صحيحه"(9/ 418 رقم 4108 - الإحسان). =

ص: 214

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنهُ سمعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ حينَ نزلتْ آيةُ المتلاعنيْنِ: أيُّما امرأةٍ أَدْخَلَتْ على قومٍ مَنْ ليسَ منْهم فليستْ منَ اللَّهِ في شيء ولنْ يدخلَها الله جنَّتهُ، وأيُّما رجلٍ جحدَ ولدَه وهوَ ينظرُ إليهِ) أي يعلمُ أنهُ ولدُه (احتجبَ اللهُ عنهُ وفضحَهُ على رؤوسِ الأولينَ والآخرينَ. أخرجَهُ النسائيُّ وأبو داودَ وابنُ ماجهْ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ)، وقدْ تفرَّدَ بهِ عبدُ اللَّهِ بنُ يونسَ

(1)

عنْ سعيدٍ المقبريِّ عنْ أبي هريرةَ، ولا يُعْرَفُ عبدُ اللَّهِ إلَّا بهذَا الحديثِ ففي تصحيحِه نظرٌ، وصحَّحَهُ أيضًا الدارقطنيُّ معَ اعترافِه بتفردِ عبدِ اللَّهِ

(2)

.

وفي البابِ عن ابن عمرَ عندَ البزَّارِ

(3)

وفيهِ إبراهيمُ بنُ يزيدَ الخوزيِّ

(4)

ضعيفٌ.

وأخرجَ أحمدُ

(5)

منْ طريقِ مجاهدٍ عن ابن عمرَ نحوَه، أخرجَهُ عبدُ اللَّهِ بنُ

= قلت: وأخرجه البيهقي (7/ 403)، والدارمي (2/ 153)، والشافعي (2/ 49)، والحاكم (2/ 202 - 203)، والبغوي رقم (2375) من طرق.

وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي. مع أن "عبد اللهِ بن يونس" لم يخرج له مسلم.

وقال ابن حجر في "التلخيص"(3/ 226): صحَّحه الدارقطني في "العلل" مع اعترافه بتفرد عبد اللهِ بن يونس به عن سعيد المقبري، وأنه لا يعرف إلا بهذا الحديث" اهـ.

وقد ضعَّفه المحدث الألباني في أكثر من كتاب.

(1)

وهو مجهول الحال، مقبول من السادسة. كما في "التقريب"(1/ 463 رقم 761).

(2)

ذكر ذلك ابن حجر في "التلخيص"(3/ 226).

(3)

(2/ 141 رقم 1386 - كشف) وأخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (4694)، وابن عدي في "الكامل" (1/ 229) وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 225) وقال: رواه البزار، والطبراني في "الأوسط، وفيه إبراهيم بن يزيد وهو ضعيف" بلفظ: "اشتدَّ غضب اللهِ على امرأة أدخلت على قوم ولدًا ليس منهم يطَّلع على عوراتهم، ويشركهم في أموالهم".

(4)

وهو إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي. ويعرف بالخوزي لأنه كان ينزل بمكة شعب الخوز، فنسب إلى الخوز وكنيته أبو إسماعيل. قال عنه يحيى بن معين: ضعيف.

وقال النسائي: متروك الحديث. انظر: "الكامل لابن عدي"(1/ 227 - 230).

(5)

في "المسند"(2/ 26) ورجاله رجال الصحيح.

قلت: وأخرجه الطبراني في "الكبير"(12/ 400 رقم 13478) و"الأوسط" رقم (4297) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من انتفَى من ولَدهِ ليفضَحَهُ في الدنيا فضحهُ اللهُ يوم القيامةِ على رؤوسِ الأشهادِ، قصاصٌ بقصاصٍ".

وأورده الهيثمي في "المجمع"(5/ 15) وقال: "رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا عبد اللهِ بن أحمد وهو ثقة إمام" اهـ.

ص: 215

أحمدَ في زوائدِ المسندِ عنْ وكيعٍ وقالَ: تفرَّدَ بهِ وكيعٌ، ومعنَى الحديثِ واضحٌ.

‌لا يحل نفي الولد بعد إثباته

8/ 1037 - وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ أَقَرَّ بوَلَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقيُّ

(1)

، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ. [حسن موقوف]

(وعنْ عمرَ رضي الله عنه قالَ: مَنْ أقرَّ بولدِهِ طَرفَةَ عينٍ فليسَ لهُ أنْ ينفيَهُ، أخرجَهُ البيهقيُّ وهوَ حسنٌ موقوفٌ). فيهِ دليلٌ على أنهُ لا يصحُّ النفيُ للولدِ بعدَ الإقرارِ بهِ وهوَ مجمَعٌ عليهِ. واختُلِفَ فيما إذا سكتَ بعدَ العلم بهِ ولم ينفِه، [قال]

(2)

المؤيَّدُ: إنهُ يلزمُه وإنْ لم يعلمْ أن لهُ النفيَ؛ لأنَّ ذلكَ حقٌّ يبطلُ بالسكوتِ وذلكَ كالشفيعِ إذا أبطلَ شُفْعَتَهُ قبلَ عِلْمِهِ باستحقاقِها، وذهبَ أبو طالبٍ إلى أن لهُ النفيَ متَى علمَ إذْ لا يثبتُ التخييرُ منْ دونِ علمٍ؛ فإنْ سكتَ عندَ العلمِ لزمَ ولم [يمكَّنْ]

(3)

منَ النفي بعدَ ذلكَ ولا يعتبرُ عندَه فورٌ ولا تراخٍ بلِ السكوتُ كالإقرارِ. وقال الإمامُ يَحْيَى والشافعي: بلْ يكونُ نَفْيُهُ على الفورِ. قالَ: وحدُّ الفورِ ما لم يُعدْ تراخيًا عُرْفًا كما لو اشتغلَ بإسراجِ دابَّتِهِ أوْ لَبِسَ ثيابَه أو نحوَ ذلكَ لم يُعَدَّ تراخيًا. ولهمْ في المسألةِ تقاديرُ ليسَ عليها دليلٌ إلَّا الرأيُ وفروعٌ على غيرِ أصلٍ أصيلٍ.

9/ 1038 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، قَالَ:"هَلْ لَكَ مِنْ إِبلٍ؟ "، قَال: نَعَمْ، قَال:"فَمَا أَلْوَانُهَا؟ "، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ:"هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ "، قَال: نَعَمْ، قَالَ:"فأَنَّى ذلِكَ؟ "، قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ:"فَلَعَلَّ ابْنَكَ هذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

. [صحيح]

(1)

في "السنن الكبرى"(7/ 411 - 412) من رواية مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر وأخرجه البيهقي أيضًا (7/ 411).

من طريق قبيصة بن ذؤيب أنه كان يحدث عن عمر: أنه قضى في رجل أنكر ولدًا من المرأة وهو في بطنها، ثم اعترف به وهو في بطنها، حتى إذا ولدت أنكره، فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة لفريته عليها، ثم ألحق به الولد". إسناده حسن.

(2)

في (ب): "فقال".

(3)

في (أ): "يكن".

(4)

البخاري رقم (5305)، ومسلم رقم (1500). =

ص: 216

وَفي روَايَةٍ لِمُسْلِمٍ

(1)

: وَهُوَ يُعَرِّضُ بأَنْ يَنْفِيَهُ، وَقَالَ في آخِرِه: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ في الانْتِفَاءِ مِنْهُ. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رجلًا)، قالَ عبدُ الغني

(2)

: إنَّ اسمَهُ ضمضمُ بنُ قتادةَ، (قالَ: يا رسولَ اللَّهِ إنَّ امرأتي ولدتْ غلامًا أسودَ، قالَ: هلْ لكَ منْ إبلٍ، قالَ: نعمْ، قالَ: فما ألوانُها؟ قالَ: حُمْرٌ، قالَ: هلْ فيها منْ أَوْرَقَ) بالراءِ والقافِ بزنةِ أحمرَ، وهوَ الذي في لونِه سوادُ ليسَ بحالكٍ، (قالَ: نعمْ، قالَ: فأنَّى ذلكَ؟ قالَ: لعلَّه نَزَعَة) بالنونِ فزاي وعينٍ مُهْمَلَةٍ، أي جَذَبَهُ إليهِ (عِرْقٌ، قالَ: فلعلَّ ابنَكَ هذا نَزَعَهُ عرقٌ. متفقٌ عليهِ. وفي روايةٍ لمسلمٍ) أي عنْ أبي هريرةَ (وهوَ) أي الرجلُ (يعَرِّضُ بأنْ يَنْفِيَهُ، وقالَ في آخرهِ: ولمْ يرخِّصْ لهُ في الانتفاءِ منهُ).

قالَ الخطابيُّ

(3)

: هذا القولُ منَ الرجلِ تعريضٌ بالريبةِ، كأنهُ يريدُ نفيَ الولدِ، فحكَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ الولدَ للفراشِ ولم يجعلْ خلافَ الشَّبَهِ واللونِ دلالةً يجبُ الحكمُ بها، وضربَ لهُ المثلَ بما يوجدُ منِ اختلافِ الألوانِ في الإبلِ ولقاحِها واحدٌ. وفي هذا إثباتُ القياسِ وبيانُ أن المتشابهينِ حُكْمُهما منْ حيثُ الشبهِ واحدٌ، ثمَّ قالَ: وفيهِ دليلٌ على أن الحدَّ لا يجبُ في المكاني

(4)

وإنَّما يجبُ بالقذف الصريحِ.

وقالَ المهلَّبُ: التعريضُ إذا كانَ على جهةِ السؤالِ لا حدَّ فيهِ، وإنَّما يجبُ الحدُّ في التعريضِ إذا كانَ على المواجهةِ والمشاتمةِ.

وقالَ ابنُ المنيِّرِ: يُفَرَّقُ بينَ الزوجِ والأجنبيِّ في التعريضِ بأنَّ الأجنبيَّ يقصدُ الأذيةَ المحضةَ، والزوجُ قد يُعْذَرُ بالنسبةِ إلى صيانةِ النسبِ.

= قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2260) و (2261 و 2262)، والترمذي رقم (2128)، والنسائي (6/ 178 - 179)، وابن ماجه رقم (2002).

(1)

في "صحيحه" رقم (19/ 1500).

(2)

عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" له من طريق قطبة بنت عمرو بن هرم أن مدلوكًا حدثها: "أن ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة من بني عجل

" الحديث، ذكر ذلك ابن حجر في "الفتح" (9/ 443).

(3)

في "معالم السنن"(2/ 694) هامش السنن.

(4)

جمع كناية.

ص: 217

وقالَ القرطبيُّ: لا خلافَ أنهُ لا يجوزُ نفيُ الولدِ باختلافِ الألوانِ المتقاربةِ كالسمرةِ والأُدمَةِ ولا في البياضِ والسوادِ إذا كانَ قدْ أقرَّ بالوطْءِ ولم تمضِ مدةُ الاستبراءِ.

قالَ في الشرحِ: كأنهُ أرادَ في مذهبِه، وإلَّا فالخلافُ ثابتٌ عندَ الشافعيةِ بتفصيلٍ، وهوَ إنْ لم تنضمَّ إليهِ قرينةُ زِنَى لم يجزِ النفيُ، وإنِ اتَّهَمَهَا فأتت بولدٍ على لونِ الرجلِ الذي اتَّهَمَهَا بهِ جازَ النفيُ على الصحيحِ، وعندَ الحنابلةِ يجوزُ النفيُ معَ القرينةِ مطْلقًا، والخلافُ إنَّما هوَ عندَ عدمِها، والحديثُ يحتملُه لأنهُ لم يذكرْ أن معَهُ قرينةَ الزِّنَى وإنَّما هوَ مجردُ مخالفةِ اللونِ.

* * *

ص: 218

[الباب الثالث] باب العِدَّةِ والإحدادِ والاستبراءِ، وغيرِ ذلك

[العِدَّة] بكسرِ العينِ المهملةِ اسمٌ لمدةٍ تتربَّصُ بها المرأةُ عن التزويجِ بعدَ وفاةِ زَوْجِها أوْ فراقِهِ لها إما بالولادةِ أوْ الأقراءِ أوْ الأشهرِ، "والإحدادَ" بالحاءِ المهملةِ بعدَها دالانِ مهملتانِ بينَهما ألفٌ، وهوَ لغةً: المنعُ، وشرعًا: تركُ الطِّيْبِ والزينةِ للمعتدَّةِ عنْ وفاةٍ.

‌عدة الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي بالوضع

1/ 1039 - عَن الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبَيْعَة الأَسْلَمِيّة رضي الله عنها نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَاستَأذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. وَأَصْلُهُ في الصَّحِيحَيْن

(2)

. [صحيح]

وَفي لَفْظٍ

(3)

: أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. [صحيح]

وَفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ

(4)

، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَا أَرَى بَأسًا أَنْ تَزَوَّجَ وَهيَ في دَمِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ. [صحيح]

(عن المسورِ) بكسرِ الميمِ وسكونِ السينِ المهملةِ فواوٍ مفتوحةٍ فراءٍ (بن

(1)

في "صحيحه" رقم (5320).

قلت: وأخرجه مالك (2/ 590 رقم 85)، والنسائي (6/ 190).

(2)

البخاري رقم (4909)، ومسلم (1485) من حديث أم سلمة.

(3)

للبخاري رقم (4909).

(4)

في "صحيحه" عقب الحديث رقم (56/ 1484).

ص: 219

مخرمةَ) بفتحِ الميمِ وسكونِ الخاءِ المعجمةِ وفتحِ الراءِ تقدمتْ ترجمتُه (أن سُبيْعَةَ)

(1)

بضمِّ السينِ المهملةِ فباءٍ موحدةٍ فمثناةٍ تحتيةٍ تصغيرُ سَبُع وتاءِ التأنيثِ (الأسلميةَ نُفِسَتْ) بضمِّ النونِ وكسرِ الفاءِ (بعدَ وفاةِ زَوْجِها) هوَ سعيدُ بنُ خولةَ تُوفيَ بمكةَ بعدَ حجَّةِ الوداعِ (بليالٍ) وقعَ في تقديرِها خلافٌ كثير لا حاجةَ إلى ذِكْرِه ويأتي بعضُه قَرِيْبًا، (فجاءتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فاستأذنتْه أنْ تنكحَ فأذنَ لها فنكحتْ. رواهُ البخاريُّ وأصلْه في الصحيحينِ. وفي لفظٍ) (للبخاريِّ) (أنَّها وَضَعَتْ بعدَ وفاةِ زَوْجِها بأربعينَ ليلةً. وفي لفظٍ لمسلمٍ) أي عن المسورِ (قالَ الزهريُّ: ولا أَرَى بأسًا أنْ تَزَوَّجَ وهي في دِمها) أي دمِ نفاسها (غيرَ أنهُ لا يقربُها زوجُها حتَّى تطهرَ). الحديثُ دليلٌ على أن الحاملَ المتوفَّى عنْها زوجُها تنقضي عِدَّتُها بوضعِ الحملِ وإنْ لم يمضِ عليها أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ ويجوزُ بعدَه أنْ تنكحَ. وفي المسألةِ خلافٌ، فهذَا الذي أفادَهُ الحديثُ قول جماهيرِ العلماءِ منَ الصحابةِ وغيرِهم لهذا الحديثِ ولعمومِ قولِه تعالَى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(2)

، والآيةُ وإنْ كانَ ما قبلَها في المطلقاتِ لكنَّ ذلكَ لا يخصُّ عمومَهَا، وأيَّدَ بقاءَ عمومِها على أصْلِهِ ما أخرجَه عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ في روايةِ المسندِ

(3)

، والضياءُ في المختارةِ، وابنُ مَرْدَويهَ عنْ أبيِّ بن كعب قالَ: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(4)

هي المطلقةُ ثلاثًا أمِ المتوفَّى عنْها؟ قالَ: "هيَ المطلَّقةُ ثلاثًا والمتوفَّى عنْها"، وأخرجَهُ ابنُ جريرٍ

(5)

وابنُ أبي

(1)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (11278)، و"أسد الغابة" رقم (6979)، و"الاستيعاب" رقم (3417)، و"تجريد أسماء الصحابة"(2/ 274)، و"الكاشف"(3/ 472).

(2)

سورة الطلاق: الآية 4.

(3)

"الفتح الرباني"(17/ 45 رقم 5). قلت: وأخرجه الدارقطني في "السنن"(4/ 39 رقم 111).

وقال الشيخ البنا في "بلوغ الأماني"(17/ 45): "

وأخرجه أيضًا الدارقطني، وأبو يعلى والضياء في المختارة، وابن مردويه. وفي إسناده "المثنى بن الصباح" قال الهيثمي: وثقه ابن معين وضعفه الجمهور

"، قلت: بل المثنى بن الصباح متروك، انظر: "نصب الراية" (3/ 256)، و"الميزان" (3/ 435).

(4)

سورة الطلاق: الآية 4.

(5)

في "جامع البيان"(14/ ج 28/ 143) قلت: وفي رواية الطبري وابن أبي حاتم: "ابن لهيعة" وهو ضعيف.

ص: 220

حاتمٍ وابنُ مردويهَ

(1)

والدارقطني

(2)

عنْ أبي منْ وجْهٍ آخرَ قالَ: لما نزلتْ هذهِ الآيةُ قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ هذهِ الآيةُ مشتركةٌ أمْ مبهمَةٌ؟ قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أيةُ آيةٍ؟ "، قلتُ:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(3)

المطلقةُ والمتوفَّى عنْها زوجُها؟ قالَ: "نعمْ". وثبتَ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عِدَّةُ رواياتٍ دالةٍ على قولهِ بهذَا

(4)

. وأخرجَ عنهُ ابنُ مردويهَ

(5)

قالَ: "نسختْ سورةُ النساءِ القصْرى كلَّ عِدَّةٍ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (3) أَجَلُ كلِّ حاملٍ مطلقةٍ أو متوفَّى عنْها زوجُها أنْ تَضَعَ حملَها. وأخرجَ ابنُ مردويهَ

(6)

عنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ قالَ: نزلتْ

(1)

عزاه إليهما السيوطي في "الدر المنثور"(8/ 203).

(2)

في "السنن"(3/ 302 رقم 210) وفي سنده المثنى بن الصباح وهو متروك كما تقدم.

(3)

سورة الطلاق: الآية 4.

(4)

أخرج البخاري (8/ 193 رقم 4532). عن محمد بن سيرين، قال: جلست إلى مجلس فيه عُظَم من الأنصار، وفيهم عبد الرحمن بن أبي ليلى فذكرت حديث عبد الله بن عتبة في شأن سبيعة بنت الحارث، فقال: عبد الرحمن: ولكن عمه كان لا يقول ذلك، فقلت: إني لجريء إن كذبت على رجل في جانب الكوفة، ورفع صوته، قال: ثم خرجت فلقيت مالك بن عامر - أو مالك بن عوف - قلت: كيف كان قول ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؟ فقال: قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى. وأخرجه البخاري (8/ 654 رقم 4910) بنحو اللفظ المذكور.

وأخرجه أبو داود (11/ 82 - بذل المجهود) عن عبد اللَّهِ قال: من شاء لاعنته، لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشرًا. وهو حديث صحيح.

وأخرجه ابن ماجه (1/ 654) رقم (2030) بنحو اللفظ المذكور عند أبي داود. وهو حديث صحيح.

وأخرجه أحمد (6/ 136) عن عبد الله بن مسعود أن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة، فدخل عليها أبو السنابل فقال: كأنكِ تحدثين نفسك بالباءة، ما لك ذلك حتى ينقضي أبعد الأجلين، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال أبو السنابل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب أبو السنابل، إذا أتاك أحد ترضينه فأتني به أو قال: فأنبئيني، فأخبرها أن عدتها قد انقضت.

وفي سند أحمد قتادة مدلس ولم يصرّح بالسماع هنا، إلا أن هذا الضعف انجبر بالمتابعات فهو حديث حسن لغيره.

(5)

عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(8/ 204).

(6)

عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(8/ 204).

ص: 221

سورةُ النساءِ القُصرى بعدَ التي في البقرةِ بسبعِ سنينَ. وأخرجَ الشيخانِ وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجهْ وابنُ جريرٍ وابنُ المنذرِ وابنُ مروديهَ

(1)

عنْ أبي سلمةَ بن عبدِ الرحمنِ قالَ: كنتُ أنا وابنُ عباسٍ وأبو هريرةَ رضي الله عنهم فجاءَ رجلٌ فقالَ: أفتني في امرأةٍ ولدتْ بعدَ وفاةِ زوْجِها بأربعينَ ليلةً أحَلَّتْ؟

قالَ ابنُ عباسٍ: تعتدُّ آخرَ الأجلينِ، قلتُ أنا:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(2)

قالَ ابنُ عباسٍ ذلكَ في الطلاقِ. قالَ أبو سلمةَ: أرأيتَ لوْ أن امرأةً جرتْ حملها سنةً فما عِدَّتُها؟ قالَ ابنُ عباسٍ: آخرُ الأجليْنِ، قالَ أبو هريرةَ: أنا معَ ابن أخي يعني أبا سلمةَ، فأرسلَ ابنُ عباسٍ غلامَهُ كُرَيْبًا إلى أمِّ سلمةَ يسألُها أَمَضَتْ في ذلكَ سنةٌ؟ فقالتْ:"قُتِلَ زوج سبيعةَ الأسلميةَ وهيَ حُبْلَى فوضعتْ بعدَ موتِه بأربعينَ ليلةً فَخُطِبَتْ فأنكحَها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ". وأخرجَهُ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ

(3)

منْ حديثِ أبي سلمةَ وفيهِ: أنَّهم أرسلُوا إلى عائشةَ فسألوها فقالتْ: ولدتْ سبيعةُ مثلَ ما مضَى إلَّا أنَّها قالتْ: بعدَ وفاةِ زَوْجِها بليالٍ.

وفي البابِ عِدَّةُ رواياتٍ عن السلفِ دالَّةٍ على أن الآيةَ باقيةٌ على عمومِها في جميعِ العُددِ وأنَّ عمومَ آيةِ البقرةِ منسوخٌ بهذِه الآيةِ الكريمةِ

(4)

، ومعَ تأخُّر نُزُولهَا كما صرَّحتْ بهِ الرواياتُ فينبغي أنْ يكونَ التخصيصُ أوِ النسخُ متَّفَقًا عليهِ. وذهبتِ الهادويةُ وغيرُهم

(5)

ويُرْوَى عنْ عليٍّ عليه السلام أنَّها تعتدُّ بآخرِ الأجليْنِ: إما وضعُ الحملِ إنْ تأخَّرَ عن الأربعةِ الأشهرِ والعشرِ، أو بالمدةِ المذكورةِ إنْ تأخرتْ عنْ وضعِ الحملِ مستدلينَ بقولِه تعالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ

(1)

أخرجه البخاري رقم (4909) و (5318)، ومسلم رقم (1485)، والنسائي (6/ 91 - 192)، والترمذي (3/ 498 رقم (1194)، ومالك (2/ 590 رقم 86)، وأحمد (6/ 432). وزاد السيوطي نسبته في "الدر المنثور" إلى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن ماجَهْ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه بألفاظ مطولًا ومختصرًا.

(2)

سورة الطلاق: الآية 4.

(3)

عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(8/ 205).

(4)

انظر تفصيل ذلك في "ناسخ القرآن ومنسوخه" لابن الجوزي (ص 243 - 246).

(5)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 221).

ص: 222

بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}

(1)

قالُوا: فالآيةُ الكريمةُ فيها عمومٌ وخصوصٌ منْ وجْهٍ. وقولُه: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}

(2)

كذلكَ فجَمَعَ بينَ الدليلينِ بالعملِ بهمَا والخروجِ منَ العهدةِ بيقينٍ، بخلافٍ ما إذا عملَ بأحدِهما، وأجيبَ عنهُ بأنَّ حديثَ سبيعةَ نصٌّ في الحكمِ مبيِّنٌ بأنَّ آيةَ النساءِ القُصْرى شاملةٌ للمتوفَّى عنْها وأيدَ حديثُها ما سمعتَه منَ الأحاديثِ والآثارِ. وأما الروايةُ عنْ عليٍّ رضي الله عنه فقالَ الشعبيُّ: ما أصدِّقُ أن عليَّ بنَ أبي طالب كانَ يقولُ عدةُ المتوفَّى عنْها زوجُها آخرُ الأجلينِ. هذا وكلامُ الزهريِّ صريحٌ أَنهُ يعقدُ [عليها]

(3)

وإن كانتْ لم تطهرْ منْ دمِ نفاسِها وإنْ حَرُمَ وطؤُها لأجلِ علةٍ أخْرى هيَ بقاءُ الدمِ.

وقالَ النوويُّ في شرحِ مسلمٍ

(4)

: "قالَ العلماءُ منْ أصحابنَا وغيرِهم سواءٌ كانَ الحملُ ولدًا أو أكثرَ، كاملَ الخِلْقةِ أو ناقصَها أو علقةً أَو مضغةً، فإنَّها تنقضي العدةُ بوضْعِهِ إذا كانَ فيهِ صورةُ خِلْقةِ آدميٍّ سواءٌ كانتْ صورةً خفيةً تختصُّ النساءِ بمعرفتها أو صورةً جليةً يعرفُها كلُّ أحدٍ". وتوقَّفَ ابنُ دقيقِ العيدِ رحمه الله فيهِ منْ أجلِ أن الغالبَ في إطلاقِ وضعِ الحمْلِ هوَ الحملُ التامُّ المتخلقُ، وأما خروجُ المضغةِ والعلقةِ فهوَ نادرٌ والحملُ على الغالبِ أقْوَى.

قالَ المصنفُ

(5)

: "ولهذَا نُقِلَ عن الشافعيِّ قولٌ بأنَّ العدةَ لا تنقضي بوضعِ قطعةِ لحمٍ ليسَ فيها صورةٌ بَيِّنةٌ ولا خفيةٌ". وظاهرُ الحديثِ والآيةِ الإطلاقُ فيما يتحققُ كونه حَمْلًا، وأما ما لا يتحققُ كونُه حملًا فلا لجوازِ أنهُ قطعةُ لحمِ والعِدَّةُ لازمةً بيقينٍ فلا تنقضي بمشكوكٍ فيهِ.

2/ 1040 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أُمِرَتْ بَريرَةُ أَن تَعْتَدَّ بثَلَاثِ حِيَض.

رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ

(6)

وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، لكِنَّهُ مَعلُولٌ. [صحيح]

(1)

سورة البقرة: الآية 234.

(2)

سورة الطلاق: الآية 4.

(3)

في (ب): "بها".

(4)

(10/ 109).

(5)

في "فتح الباري"(9/ 475).

(6)

في "السنن" رقم (2077).

قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 138 رقم 771/ 2073): "هذا إسناد صحيح=

ص: 223

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: أمِرَتْ) مغيَّرُ الصيغةِ والآمرُ هوَ النبي صلى الله عليه وسلم: (بريرة أنْ تعتدَّ بثلاثِ حِيَضٍ. رواة ابن ماجهْ، وروائه ثقاتٌ لكنة معلولٌ)، وقدْ وردَ ما يؤيدُه. وهوَ دليلٌ على أن العدَّةَ تعتبرُ بالمرأةِ عندَ منْ يجعلُ عدةَ المملوكةِ دونَ عدةِ الحرةِ لا بالزوجِ على القولِ الأظهرِ منْ أن زوجَ بريرةَ كانَ عَبْدًا.

‌هل للمطلقة ثلاثًا نفقة وسكنى على زوجها؟

3/ 1041 - وَعَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (في الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا): "لَيسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

[صحيح]

‌ترجمة الشعبي

(وعنِ الشعبيِّ)

(2)

هوَ أبو عمرٍو عامرُ بنُ [شراحيل]

(3)

بن عبدِ اللَّهِ الشعبيُّ الهمذانيُّ الكوفيُّ تابعي جليلُ القدْرِ، قالَ ابنُ عيينةَ: كانَ ابنُ عباسٍ في زمانهِ والشعبي في زمانِهِ. مرَّ ابنُ عمرَ بالشعبيّ وهوَ يحدِّثُ بالمغازي فقالَ: شهدتُ القومَ وهوَ أعلمُ بها مِنِّي. وقالَ الزهريُّ: العلماءُ أربعةٌ: ابنُ المسيِّبِ بالمدينةِ، والشعبيُّ بالكوفةِ، والحسنُ [البصْرَيُّ]

(4)

بالبصْرَة، ومكحولٌ بالشامِ. وُلدَ الشعبيُّ في خلافةِ عمرَ كما في "الكاشفِ"

(5)

للذهبيّ، وقيلَ: لِسِتِّ [سنين]

(6)

خلتْ منْ خلافةِ عثمانَ. وماتَ سنةَ أربع ومائةٍ ولهُ اثنتانِ وستونَ سنةً، (عنْ فاطمةَ بنتِ قيسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المطلقةِ ثلاثًا ليسَ لها سُكْنَى ولا نفقةٌ. رواة مسلمٌ). الحديثُ دليلٌ على أن المطلقةَ ثلاثًا ليسَ لها نفقةٌ ولا سُكْنَى وفي المسألةِ خلافٌ.

= رجاله موثقون" وقال الألباني في "الإرواء" (7/ 200 رقم 2120): "وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير علي بن محمد، وهو ثقة

".

والخلاصة: أن الحديث صحيح، واللَّهُ أعلم.

(1)

في "صحيحه" رقم (44/ 1480). وانظر بقية تخريجه في "بداية المجتهد" بتحقيقنا (3/ 178).

(2)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد"(6/ 246)، و"تاريخ البخاري"(6/ 451)، و"المعرفة والتاريخ"(2/ 592)، و"تذكرة الحفاظ"(1/ 79 - 88)، و"شذرات الذهب"(1/ 126 - 128)، و"الجرح والتعديل"(6/ 322).

(3)

في المخطوط: "شَرْحَبِيْلَ" والصواب ما أثبتناه.

(4)

زيادة من (ب). (4)

(5)

(2/ 49).

(6)

زيادة من (أ).

ص: 224

ذهبَ إلى ما أفادَه الحديثُ ابنُ عباسٍ والحسنُ وعطاءٌ والشعبيُّ وأحمدُ في إحْدَى الرواياتِ والقاسمُ والإماميةُ وإسحاقُ وأصحابُه وداودُ وكافةُ أهلِ الحديثِ مستدلينَ بهذا الحديثِ، وذهبَ عمرُ بنُ الخطاب وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ والحنفيةُ والثوريُّ وغيرُهم إلى أنَّها تجبُ لها النفقةُ والسُّكْنَى مستدلينَ على الأولِ بقولِه تعالَى:{فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(1)

وهذَا في الحاملِ، وبالإجماعِ

(2)

في الرجعيةِ على أنَّها تجبُ لها النفقةُ. وعلى الثاني بقولِه تعالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}

(3)

وذهبَ الهادي وآخرونَ إلى وجوبِ النفقةِ دونَ السكْنَى

(4)

مستدلينَ بقولِه تعالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ}

(5)

ولأنَّها حُبِستْ بسببهِ كالرجعيةِ ولا يجبُ لها السُّكْنَى لأنَّ قولَه: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (3) يدلُّ على أن ذلكَ حيثُ يكونُ الزوجُ وهوَ يقتضي الاختلاطَ ولا يكونُ ذلكَ إلا في حق الرجعيةِ. قالُوا وحديثُ فاطمةَ بنتِ قيسٍ

(6)

قدْ طعِنْ فيهِ بمطاعنَ يضعفُ معَها الاحتجاجُ بهِ وحاصلُها أربعةُ مطاعنَ:

الأولُ: كونُ الراوي امرأةً ولم تقترنْ بشاهديْنِ عَدْلَيْنِ يتابعانِها على حدِيثِها.

الثاني: أن الروايةَ تخالفُ ظاهر القرآنِ.

الثالثُ: أن خروجَها منَ المنْزِلِ لم يكنْ لأَجْلِ أنهُ لا حقَّ لها في السكْنَى بلْ لإيذائِها أهلَ زوجها بلسانِها.

الرابعُ: معارضةُ روايتها بروايةِ عمرَ.

وأُجِيْبَ بأنْ كونَ الراوي امرأةً غيرُ قادحٍ، فكمْ منْ سُنَنٍ ثبتتْ عن النساءِ يعلمُ ذلكَ مَنْ عرفَ السِّيَرَ وأسانيدَ الصحابةِ. وأما قولُ عمرَ

(7)

: "لا نتركُ كتابَ ربّنا وسنةَ نبيِّنا لقولِ امرأةٍ لا ندري أحفظتْ أمْ نسيتْ"، فهذَا تردُّدٌ منهُ في حِفْظِها

(1)

سورة الطلاق: الآية 6.

(2)

نقله ابن المنذر في "الإجماع"(ص 108 رقم 443).

(3)

سورة الطلاق: الآية 6.

(4)

ومذهب مالك والشافعي وجماعة: أن لها السكنى دون النفقة. انظر: "بداية المجتهد" بتحقيقنا (3/ 178 - 179).

(5)

سورة البقرة: الآية 241.

(6)

تقدم تخريجه في حديث الباب رقم (3/ 1041).

(7)

أخرجه مسلم رقم (46/ 1480)، والدارقطني في "السنن"(4/ 24 رقم 69).

ص: 225

وإلَّا فإنهُ قدْ قيلَ عنْ عائشةَ وحفصةَ عِدَّةُ أخبارٍ وتردُّدُه في حِفْظِها عذرٌ لهُ في عدمِ العملِ بالحديثِ ولا يكونُ شكُّهُ حجةً على غيرِه. وأما قولِه: إنهُ مخالفٌ للقرآنِ وهوَ قولُه تعالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}

(1)

فإنَّ الجمْعَ ممكنٌ بحملِ الحديثِ على التخصيصِ لبعضِ أفرادِ العامِّ، وأما روايةُ عمرَ فأرادُوا بها قولَه: وسنةَ نبيِّنا، وقدْ عُرِفَ منْ علومِ الحديثِ أنَّ قولَ الصحابيِّ منَ السُّنَةِ كذَا يكونُ مرفُوعًا.

فالجوابُ أنهُ أنكرَ أحمدُ بنُ حنبلٍ هذه الزيادةَ منْ قولِ عمرَ وجعلَ يُقْسِمُ ويقولُ: وأينَ في كتابِ اللَّهِ إيجابُ النفقةِ والسُّكْنَى للمطلقةِ ثلاثًا، وقالَ: هذَا لا يصح عنْ عمرَ قالَ ذلكَ الدارقطني. وأما حديثُ عمر (1) سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: لَهَا السُّكْنَى والنفقةُ، فإنهُ منْ روايةِ إبراهيمَ النخعيِّ عنْ عمرَ، وإبراهيمُ لم يسمعْه منْ عمرَ فإنهُ لم يولدْ إلا بعدَ موتِ عمرَ بسنينَ. وأما القولُ بأنَّ خروجَ فاطمةَ منْ بيتِ زَوْجها كان لإيذائِها لأهلِ بيتِه بلسانِها فكلامٌ أجنبي عما يفيدهُ الحديثُ الذي روتْ، ولوْ كانتْ تستحق السُّكْنَى لما أسقطَه صلى الله عليه وسلم لبذاءةِ لسانِها ولوعظها وكفَّها عنْ إذايةِ أهلِ زَوْجِها. ولا يخْفَى ضعفُ هذهِ المطاعنِ في ردِّ الحديثِ، فالحق ما أفادَه الحديثُ وقدْ أطالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله ذلكَ في "الهدي النبويِّ"

(2)

ناصرًا للعملِ بحديثِ فاطمةَ.

‌لا تحد امرأة فوق ثلاث إلا على زوج

4/ 1042 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيّةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَس ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلْ، وَلَا تَمَسَّ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِم، وَلأَبِي دَاوُدَ

(4)

وَالنَّسَائِي

(5)

مِنَ الزِّيَادَةِ: "وَلَا تَخْتَضِبْ"، وَللنَّسَائيِّ

(6)

: "وَلَا تَمْتَشِطْ". [صحيح]

(1)

سورة الطلاق: الآية 1.

(2)

(5/ 675).

(3)

البخاري رقم (5341)، ومسلم (2/ 1127 رقم 66/ 938).

(4)

في "السنن" رقم (2302).

(5)

في "السنن"(6/ 204 رقم 3536).

(6)

في "السنن"(6/ 202 - 203 رقم 3534).

ص: 226

‌ترجمة أم عطية

(وعنْ أمِّ عطيةَ رضي الله عنها)

(1)

اسمُها نُسَيبةُ بضمِّ النونِ وفتحِ [السين]

(2)

المهملةِ، صحابيةٌ لها أحاديثُ في كتبِ الحديثِ (أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: لا تُحِدُّ) بضمِّ حرفِ المضارعَةِ وكسرِ الحاءِ المهملةِ ويجوزُ ضمُّ الدالِ على أن لا نافيةٌ، وجزْمُها على أنَّها نَهيٌ (امرأةٌ على ميِّتٍ فوقَ ثلاثٍ إلَّا علَى زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا ولا تلبسُ ثوبًا مصبوغًا إلَّا ثوبَ عَصْبٍ) بفتحِ العينِ المهملةِ وسكونِ الصادِ المهملةِ فباءٍ موحدةٍ، في "النهايةِ"

(3)

أنَّها بَرُودٌ يمنيةٌ يُعْصَبُ غزلُها أي يُجْمَعُ ويُشَدُّ ثمَّ يُصْبَغُ ويُنْشَرُ فيبقَى موشَّى لبقاءِ ما عصبَ منهُ أبيضَ لم ياخذْه الصبغُ (ولا تكتحلُ ولا تمسَّ طيبًا إلا إذا طَهُرَتْ نُبْذَةَ) بضمِّ النونِ وسكونِ الباءِ الموحدةِ فذالٍ معجمةٍ أي قطعةٍ (منْ قُسْطٍ) بضمِّ القافِ وسكونِ السينِ المهملةِ، في "النهايةِ"

(4)

: ضَرْبٌ منَ الطِّيبِ وقيلَ العودُ (أو أظفارٍ) يأتي تفسيرُه (متفقٌ عليهِ وهذا لفظُ مسلمٍ، ولأبي داودَ والنسائيِّ منَ الزيادةِ: ولا تختضبْ، وللنسائيِّ: ولا تمتشطْ) الحديثُ فيهِ مسائلُ:

الأُولَى: تحريمُ إحدادِ المرأةِ فوقَ ثلاثةِ أيامٍ على أيّ ميِّتٍ منْ أبٍ أو غيرِه وجوازُه ثلاثًا عليهِ. وعلى الزوجِ فقطْ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، إلَّا أنهُ أخرجَ أبو داودَ في "المراسيل"

(5)

منْ حديثٍ عمرِو بن شعيب عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للمرأةِ أنْ تحدَّ على أبيْها سبعةَ أيامٍ وعلى مَنْ سواهُ ثلاثةَ أيامٍ"، فلوْ صحَّ كانَ مخصَّصًا للأبِ منْ عمومِ النَّهْي في حديثٍ أمِّ عطيةَ، إلَّا أنهُ مرسلٌ لا يقْوى على التخصيصِ.

‌إحداد الصغيرة كالكبيرة

الثانية: في قوله امرأةٌ إخراجٌ للصغيرةِ بمفهومهِ، فَلَا يجبُ عليها الإحدادُ

(1)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (12171)، و"أسد الغابة" رقم (7542)، و"الاستيعاب" رقم (3646)، و"تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 364).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

(3/ 245).

(4)

(4/ 60).

(5)

رقم (409) ورجاله ثقات رجال الصحيح غير عمرو بن شعيب، وهو صدوق.

ص: 227

على الزوجِ فلا تُنْهَى عن الإحدادِ على غيرِه أكثرَ منْ ثلاثةٍ، وإليهِ ذهبتِ الحنفيةُ والهادي وذهبَ الجمهورُ إلى أنَّها داخلةٌ في العمومِ وأنَّ ذِكْرَ المرأةِ خرجَ مَخْرَجَ الغالبِ والتكليفِ على وليِّها في مَنْعِهَا منَ الطِّيبِ وغيرِه؛ ولأنَّ العِدَّةَ واجبةٌ علَى الصغيرةِ كالكبيرةِ ولا تحلُّ خِطْبَتُهَا.

‌لا إحداد في الطلاق

الثالثة: في قولِه: على ميِّتٍ، دليلٌ على أنهُ لا إحدادَ على المطلَّقةِ، فإنْ كانَ رجْعيًا فإجماعٌ، وإنْ كانَ بائِنًا فذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ لا إحدادَ عليْها وهوَ قولُ الهادي والشافعيِّ ومالكٍ وروايةٌ عنْ أحمدَ لظاهرِ قولِه على ميِّتٍ وإنْ كانَ مفهومًا فإنهُ يؤيدُه أن الإحدادَ شُرعَ لِقَطْعِ ما يدعُو إلى الجماعِ وكانَ هذَا في حقِّ [المتوفَّى عنْها]

(1)

لِتَعَذُّرِ رجوعِها إلى الزوجِ، وأما المطلقةُ بائنًا فانهُ يصحُّ أنْ تعودَ معَ زوجِها بعقدٍ إذا لم تكنْ مثلثةً، وذهبَ آخرونَ منهم علي وزيدُ بنُ عليٍّ وأبو حنيفةَ وأصحابُه إلى وجوب الإحدادِ على المطلَّقةِ بائنًا قياسًا على المتوفَّى عنْها لأنَّهما اشتركَتَا في العِدَّةِ وَاختلفَتَا في سَبَبِها، ولأنَّ العدةَ تحرِّمُ النكاحَ فحرِّمتْ دواعيْه والقولُ الأولُ أَظْهَرُ دليلًا.

الرابعةُ: أنهُ لا دلالة في الحديث على وجوبِ الإحدادِ وإنَّما دلَّ على حِلِّهِ علَى الزوجِ الميِّتِ، وذهبَ إلى وجوبِه أكثرُ العلماءِ لِمَا أخْرَجَهُ أبو داودَ

(2)

منْ حديثٍ أمِّ سلمةَ [أنَّها]

(3)

قالَتْ: دخلَ علَي رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حينَ تُوُفِّيَ أبُو سَلمةَ وقدْ جعلْتُ عليَّ صَبْرًا الحديثُ سيأتي

(4)

وَرَوَاهُ النسائيُّ

(5)

. قالَ ابنُ كثيرٍ: وفي سندِه غرابةٌ قالَ: ولكنْ رَوَاهُ الشافعيُّ

(6)

عنْ مالكٍ أنهُ بلغَهُ عنْ أمِّ سلمةَ فذكرهُ، وهوَ مما يتقوَّى بهِ الحديثُ ويدلُّ علَى أن لهُ أصْلًا. ولما أخرجَهُ عنْها أيضًا أحمدُ

(7)

(1)

في المخطوطتين (المميتة) والأصوب ما أثبتناه.

(2)

في "السنن" رقم (2305).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

برقم: (5/ 1543) من كتابنا هذا.

(5)

في "السنن"(6/ 204 - 205) رقم (3537) وهو حديث ضعيف.

(6)

في "بدائع المنن"(2/ 319 - 321 رقم 1710).

(7)

في "المسند"(6/ 302).

ص: 228

وأبو داودَ

(1)

والنسائي

(2)

أنَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "المتوفَّى عنْها زوجُها لا تلبسُ المعصفَرَ منَ الثياب ولا الممشقةَ ولا الحليَّ ولا تختضبُ ولا تكتحلُ"، قالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ: إسنادُه جَيِّدٌ. لكنْ رواهُ البيهقيُّ

(3)

موقوفًا عليها. وذهبَ الحسنُ والشعبيُّ أنَّ المطلقةَ ثلاثًا والمتوفَّى عنْها زوجُها يكتحلان ويمتشطان ويتطيبانِ ويتنقلانِ ويصنعانِ ما شاءتا، واستدلَّا بما أخرجَهُ أحمدُ

(4)

وصحَّحَهُ ابنُ حبَّانَ

(5)

منْ حديثٍ أسماءَ بنتِ عُمَيسٍ قالتْ: دخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اليومَ الثالثَ منْ قَتْلِ جعفَرَ بن أبي طالبٍ فقالَ: لا تحدِّي بعدَ يومِكِ هذا. هذا لفظُ أحمدَ ولهُ ألفاظٌ كلُّهَا دالةٌ على أمْرِه صلى الله عليه وسلم لها بعدمِ الإحدادِ بعدَ ثلاثٍ، وهذا ناسخٌ لأحاديثِ أمِّ سلمةَ في الإحدادِ لأنهُ بعدَها [قالت]

(6)

أمُّ سلمةَ أُمِرْتُ بالإحدادِ، بعدَ موتِ زَوْجِها، وموتُهُ متقدِّمٌ على قَتْلِ جعفرَ، وقدْ أجابَ الجمهورُ عنْ حديثٍ أسماءَ بأجوبةٍ سبعةٍ كلُّها تكلُّفٌ لا حاجةَ إلى سَرْدِها.

المسألة الخامسةُ: في قولِه: أربعةَ أشهرٍ وعشْرًا، قيلَ الحكمةُ في التقديرِ بهذهِ المدةِ أن الولدَ [يتكامل خلقه]

(7)

وينفخُ فيهِ الروحُ بعدَ مضيٍّ مائةٍ وعشرينِ يومًا وهي زيادةٌ على أربعةِ أشهرٍ بنقصانِ الأهلةِ فَجَبْرُ الكسرِ إلى العقدِ على طريقِ الاحتياطِ، وذِكْرُ العشرِ مؤنَّثًا باعتبارِ الليالي والمرادُ مع أيامِها عندَ الجمهورِ، فلا تحلُّ حتى تدخلَ الليلةُ الحاديةُ عشَرَ.

(1)

في "السنن" رقم (2304).

(2)

في "السنن"(6/ 203 - 204 رقم 3535)، وهو حديث صحيح.

(3)

في "السنن الكبرى"(7/ 440) موقوفًا عليها.

(4)

في "المسند"(6/ 369) و (6/ 438).

(5)

في "الإحسان"(7/ 418 رقم 3148).

قلت: وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(3/ 75)، والبيهقي (7/ 438)، والطبراني في "الكبير"(24/ 139 رقم 369).

وأورده الهيثمي في "المجمع"(3/ 17) وقالَ: ورجال أحمد رجال الصحيح.

قلت: وقال الحافظ في "الفتح"(9/ 487): "قال شيخنا في "شرح الترمذي": ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتفاق وهي والدة أولاده عبد اللَّهِ، ومحمد، وعون وغيرهم. قالَ: بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز، وأجابَ بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه

" اهـ.

(6)

في (ب): "فإن".

(7)

في (ب): "تتكامل خلقته".

ص: 229

المسألة السادسةُ: في قولِه: ثَوْبًا مصبُوغًا، دليلٌ على النَّهْي عنْ كلِّ مصبوغٍ بأيِّ لونٍ إلَّا ما استَثْنَاهُ في الحديثِ. وقالَ ابنُ عبدِ البرّ: أجمعَ الَعلماءُ على أنهُ لا يجوزُ للحادَّةِ لبسُ المعصفرةِ ولا المصبغة إلا ما صُبغَ بسوادٍ، فَرَخَّصَ فيهِ مالكٌ والشافعيُّ لكونِه لا يُتَّخَذُ للزينةِ بلْ هوَ من لباسِ الحزْنِ. واختُلِفَ في الحريرِ فذهبتِ الشافعيةُ في الأصحّ إلى المنعِ لها مُطْلَقًا مصْبوغًا أو غيرَ مصبوغٍ، قالُوا: لأنهُ أُبِيحَ للنساءِ للتزيُّنِ بهِ والحادَّةُ ممنوعَةٌ منَ التزيُّنِ. وقالَ ابنُ حزمٍ

(1)

: إنَّها تجتنبُ الثيابَ المصبوغةَ فقطْ ويحلُّ لها أنْ تلبسَ ما شاءتْ منْ حريرٍ أبيضَ أوْ أصفرَ منْ لونِهِ الذي لم يُصْبَغْ ويباحُ لها أنْ تَلْبَسَ المنسوجَ بالذهبِ والحليِّ كلِّهِ منَ الذهب والفضةِ والجوهرِ والياقوتِ وهذا جمودٌ منهُ على لفظِ النصّ الواردِ في حديثٍ أَمّ عطيةَ. وأما حديثُ أمّ سلمةَ الذي فيهِ النَّهْيُ عنْ لُبْسِها الثيابَ المعصفرةَ ولا الممشقةَ ولا الْحُلِيَّ فقالَ: إنهُ لم يصحَّ لأنهُ منْ روايةٍ إبراهيمَ بنَ طهمانَ ورُدَّ عليه بأنهُ منَ الحفَّاظِ الأثْبَاتِ الثقاتِ وقدْ صحَّحَ حديثَهُ جماعةٌ منَ الأئمةِ كابْنِ المباركِ وأحمدَ وأبي حاتمٍ. وابنُ حَزْمٍ أدارَ التحريمَ على ما ثبتَ بالنصِّ عندَه وغيرُه منَ الأئمةِ أدارَهُ على التعليلِ [المناسبِ، أعني الزينة مطلقًا]

(2)

، فبقيَ كلامُهم أن ثوبَ العصْبِ إذا كانَ فيه زينةٌ مُنِعَتْ منهُ ويخصِّصُونَ الحديثَ بالمعنى المناسبِ للمنْعِ وتقدَّم تفسيرُ ثوبِ العصْبِ عن "النهاية" وللعلماءِ في تفسيرِه أقوالٌ أُخَرُ.

المسألة السابعة: قولِه: ولا تكتحلْ دليلٌ على منْعِها منَ الاكتحالِ وهوَ قولُ الجمهورِ، وقالَ ابنُ حزمٍ

(3)

: "ولا تكتحلْ ولو ذهبتْ عينَاها لا ليلًا ولا نَهارًا"، ودليلُه حديثُ البابِ وحديثُ أمِّ سلمةَ المتَّفَقِ عليهِ

(4)

أن امرأة توفِّيَ عنْها زوجُها فخافُوا على عَيْنِها فَأتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فاستأذنُوهُ في الكُحْلِ فَمَا أذنَ فيهِ بلْ قالَ: لا، مرتينِ أوْ ثلاثًا، وذهبَ الجمهورُ مالكٌ وأحمدُ وأبو حنيفةَ وأصحابُه إلى أنهُ يجوزُ الاكتحالُ بالإثْمِدِ للتداوي مستدلِّينَ بحديثِ أمّ سلمةَ الذي أخرجَهُ أبو داودَ

(5)

أنَّها

(1)

في "المحلَّى"(10/ 276 - 277).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في "المحلَّى"(10/ 276).

(4)

البخاري رقم (5336)، ومسلم رقم (61/ 1488/ 1486).

(5)

في "السنن" رقم (2299)، وهو حديث صحيح.

ص: 230

قالتْ في كُحْلِ الجلاءِ لما سألتْها امرأةٌ أنَّ زوْجَها تُوُفِّيَ وكانتْ تشتكي عينَها فأرسلتْ إلى أمِّ سلمةَ فسألتْها عنْ كُحْلِ الجلاءِ فقالتْ أم سلمةَ: لا يُكْتَحَلُ منهُ إلا مِنْ أمرٍ لا بدَّ منهُ يشتدُّ عليكِ فتكتحلينَ بالليلِ وتمسحينَهُ بالنَّهارِ. ثمَّ قالتْ أمُّ سلمةَ: دخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ أبو سَلمةَ وذكرتْ حديثَ الصَّبْرِ، قالَ ابنُ عبدِ البرّ: وهذا عندي وإنْ وإنَّ مخالِفًا لحديثِها الآخرَ الناهي عن الكحلِ معَ الخوفِ على العينِ إلا أنهُ يمكنُ الجَمْعُ بأنهُ صلى الله عليه وسلم عرفَ منَ الحالةِ التي نَهَاهَا أن حَاجَتَها إلى الكحلِ خفيفةٌ غيرُ ضروريةٍ والإباحةُ في الليلِ لدفعِ الضررِ بذلكَ.

قلتُ: ولا يخْفَى أن فَتْوَى أمِّ سلمةَ قياسٌ مِنْها للكحلِ على الصبرِ، والقياسُ معَ النصِّ الثابتِ والنَّهْيِ المتكررِ لا يُعْمَلُ بهِ عندَ مَنْ قالَ بوجوبِ الإحدادِ.

5/ 1043 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَعَلْتُ عَلَى عَيْني صَبِرًا، بَعْدَ أنْ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّهُ يُشِبُّ الْوَجْهَ، فَلا تَجْعَلِيهِ إلَّا باللَّيْلِ وَانْزَعِيهِ بالنَّهَارِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بالطِّيبِ، وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإنَّهُ خِضَابٌ"، قُلْتُ: بِأَيِّ شيْءٍ أمْتَشِطُ؟ قَالَ: "بِالسِّدْرِ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

وَالنَّسَائِيُّ

(2)

، وَإسْنَادُهُ حَسَنٌ. [ضعيف]

(وعنْ أمِّ سلمةَ قالتْ: جعلْتُ عَلَى عَيْني صَبرًا بعدَ أنْ تُوُفِّيَ أبو سلمةَ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنهُ يُشِبُّ

(3)

الوجْهَ) بضم حرفِ المضَارَعَةِ (فلا تَجْعَلِيهِ إلَّا بالليلِ وانزعِيهِ بالنهارِ ولا تمتشطي بالطِّيبِ ولا بالحناءِ فإنه خضابٌ، قلتُ: بأيِّ شيء أمتشطُ قالَ: بالسِّدْرِ. رواة أبو داودَ والنسائيُّ وإسنادُه حسنٌ). فيهِ دليل على تحريمِ الطّيبِ وهوَ عامٌّ لكلّ طِيبٍ. وقدْ وردَ في لفظِ: لا تمسَّ طِيْبًا. ولكنُه قدِ استَثْنَى فيما سلفَ حالَ طُهْرِها منْ حَيْضِها وأذِنَ لها في القُسطِ والأظفارِ. قالَ البخاريُّ: القسطُ والكستُ مثلُ الكافورِ والقافورِ يجوزُ في كلٍّ منْهما القاف والكافُ. قالَ النوويُّ

(4)

: القُسطُ والأظفارُ نَوْعَانِ معروفانِ منَ البُخُورِ.

(1)

في "السنن" رقم (2305).

(2)

في "السنن"(6/ 204 - 205 رقم 3537)، وهو حديث ضعيف.

(3)

أي يحسِّنه ويجملِّه ويلوِّنه.

(4)

في "شرح صحيح مسلم"(10/ 119).

ص: 231

‌النهي عن الكحل للمعتدَّة

6/ 1044 - وَعَنْهَا رضي الله عنها أن امْرَأَة قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنَتِي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا، أَفَنَكْحُلُهَا؟ قَالَ:"لَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنْها) أي أمِّ سلمةَ (أن امرأةً قالتْ: يا رسولَ اللَّهِ إن ابْنَتِي ماتَ عَنْها زوجُها وقدِ اشتكتْ عينُها أفَتَكْحُلُها)[بضمِّ الحاءِ]

(2)

(قالَ: لا. متفقٌ عليهِ) تقدَّمَ الكلامُ في الكُحْلِ وظاهرُ الحديثِ أنَّها [لا تكتحل]

(3)

للتداوي فمنْ قالَ: إنهُ تمنعُ الحادَّةُ منَ الكحلِ بالإثْمدِ لأنهُ الذي [يحصل]

(4)

بهِ الزينةُ، فأما الكحلُ التُوتْيَا والغندروتُ ونحوُهما فلا بأسَ بِهِ؛ لأنهُ لا زينةَ فيهِ بلْ يصحُّ العينَ، يردُّ عليهِ لفظُ الحديثِ، فإنَّها سألتْ عن كحلٍ تُدَاوَى بهِ العينِ لا عنْ كُحْلٍ الإثْمدِ بخصُوصِهِ إلَّا أنْ يُدَّعَى أن الكحلَ إذا أُطْلِقَ لا يتبادرُ إلا إليهِ.

‌تخرج المعتدة لحاجة

7/ 1045 - وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا. فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أنْ تَخْرُجَ، فَأَتَت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"بَلَى، جُذِّي نَخْلَكِ، فإنَّكَ عَسَى أنْ تَصَّدَّقي أوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(5)

. [صحيح]

(وعنْ جابرٍ قالَ: طلِّقَتْ خالتي فأرادتْ أنْ تَجدَّ) بالجيمِ والذالِ المعجمةِ هوَ القَطْعُ المستأصِلُ كما في "القاموس"

(6)

، وفي "النهاية"

(7)

: بالدالِ المهملةِ صِرَامُ النخلِ وهوَ قطعُ ثمرِهَا (فزجرَهَا رجلٌ أنْ تخرجَ فأتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: بلْ جذِّي نَخْلَكِ فإنَّكِ عَسَى أنْ تَصَّدَّقي أو تفعلِي مَعْرُوفًا. رواة مسلمٌ) في باب جوازِ خروجِ المعتدَّةِ البائنِ كما بَوَّبَ لهُ النوويُّ

(8)

. وأخرجهُ أبو داودَ

(9)

والنسائيُّ

(10)

بزيادةِ طُلِّقَتْ خالتي ثلاثًا.

(1)

البخاري رقم (5336)، ومسلم رقم (61/ 1488).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (ب): "لا تكحلُها".

(4)

في (ب): "تحصل".

(5)

في صحيحه رقم (1483).

(6)

"القاموس المحيط"(ص 423).

(7)

(1/ 250).

(8)

في "شرح صحيح مسلم"(1101/ 108).

(9)

في "السنن" رقم (2297).

(10)

في "السنن" رقم (6/ 209 رقم 3550).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2034)، وهو حديث صحيح.

ص: 232

والحديثُ دليلٌ عَلَى جَوازِ خروجِ المعتدَّةِ منْ طلاقٍ بائنٍ من مَنْزِلِها في النهارِ للحاجةِ إلى ذلكَ ولا يجوزُ لغيرِ حاجةٍ. وقدْ ذهبَ إلى ذلكَ طائفةٌ منَ العلماءِ وقالُوا: يجوزُ الخروجُ للحاجةِ والعذْرِ ليلًا ونَهَارًا كالخوفِ وخَشْيَةِ انهدامِ المنزلِ، ويجوزُ إخراجُها إذا تأذَّتْ بالجيرانِ أو تأذَّوا بِها أذَىً شديدًا، لقولِه تعالَى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}

(1)

، وفسَّرَ الفاحشةَ بالبذاءةِ على الأحماءِ [ونحوهم]

(2)

. وذهبتْ طائفةٌ منْهم إلى جوازِ خُروبِها نَهَارًا مطلقًا دونَ الليلِ للحديثِ المذكورِ وقياسًا عَلَى عِدَّةِ الوفاةِ، ولا يخْفَى أن الحديثَ المذكورَ عُلِّلَ فيهِ جوازُ الخروجِ برجاءِ أنْ تَصدَّقَ أوْ تفعلَ معروفًا وهذا عذرٌ في الخروجِ، وأما لغيرِ عُذْرٍ فلا يدل عليهِ، إلَّا أنْ يُقَالَ إنَّما هذا رجاءُ فعلِ ذلكَ، وقدْ يُرْجَى في كل خُروجٍ في الغالبِ. وفيهِ دليلٌ على استحبابِ الصَّدَقَةِ منَ التمرِ عندَ جِدَادِهِ واسْتِحْبَابِ التعرِيضِ لِصَاحِبِهِ بِفِعْلِ الخيرِ والتذْكيرِ بالمعْرُوفِ والبِرِّ.

‌المعتدَّة تمكث في بيت زوجها حتى تنقضي عدَّتها

8/ 1046 - وَعَنْ فُرَيْعَةَ بنْتِ مَالِكٍ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ في طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ الَلَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فإنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ مَسْكَنًا لي يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً، فَقَالَ:"نَعَمْ"، فَلَمَّا كُنْتُ في الحُجْرَةِ نَادَانِي، فَقَالَ:"امْكُثي في بَيتِكِ حَتى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ"، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أشْهُر وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَقَضَى بِهِ بَعْدَ عُثْمَانُ. أَخْرَجَهُ أحْمَدُ

(3)

وَالأرْبَعَةَ

(4)

، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالذُّهَلِي وَابْنُ حِبَّانَ

(5)

وَالْحَاكِمُ

(6)

وَغَيْرُهُمْ

(7)

. [صحيح]

(1)

سورة الطلاق: الآية 1.

(2)

في (ب): "غيرهم".

(3)

في "المسند"(6/ 370، 420 - 421).

(4)

أبو داود رقم (2300)، والترمذي رقم (1204)، وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (6/ 199)، وابن ماجه رقم (2031).

(5)

كما في "الموارد" رقم (1332).

(6)

في "المستدرك"(2/ 208) وأقره الذهبي، ونقل الحاكم تصحيحه عن محمد بن يحيى الذهلي.

قلت: وأخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 591 رقم 87)، والدارمي (2/ 168)، والشافعي في "الرسالة" فقرة (1214)، والطيالسي رقم (1664).

(7)

كالمحدِّث الألباني في "الإرواء" رقم (2131 - التحقيق الثاني)، ذكر ذلك في "صحيح سنن =

ص: 233

‌ترجمة فُرَيْعَةَ

(وعنْ فُرَيْعَةَ)

(1)

بضمِّ الفاءِ وفتحِ الراءِ وسكونِ المثناةِ التحتيةِ وعينٍ مهملةٍ أختِ أبي سعيدٍ الخدريِّ، شهدتْ بيعةَ الرِّضْوانِ ولها روايةٌ، (بنتِ مالكٍ أن زوْجَها خرجَ في طلبِ أَعْبُدٍ لهُ فقتلُوه قالتْ: فسألتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن ارجعَ إلى أهلي فإنَّ زوجي لم يتركْ لي مَسْكَنًا يملكُه ولا نفقةً فقالَ: "نعمْ"، فلمَّا كنتُ في الحجرةِ ناداني فقالَ: امكُثِي في بيتِكِ حتَّى يبلغَ الكتابُ أجله، قالتْ: فاعتددت فيهِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، قالتْ: فَقَضَى بِهِ عثمان بعدَ ذلكَ. أخرجَهُ أحمدُ والأربعةُ وصحَّحَة الترمذيُّ والذهليُّ) بضمِّ الذال [المعجمةِ]

(2)

(وابن حبانَ والحاكمُ وغيرُهم) أخرجُوهُ كلُّهم منْ حديثٍ سعدِ بن إسحاقَ بنَ كعبٍ عنْ عمَّتِه زينبَ بنتِ كعبِ بن عُجْرَةَ عن [فريعة هذه المذكورة في هذا الحديث]

(3)

. قالَ ابنُ عبدِ البرِ

(4)

: هذا حديثٌ معروفٌ مشهورٌ عِنْدَ علماءِ الحجازِ والعراقِ، وأعلَّهُ عبدُ الحقِّ تِبْعًا لابنِ حزمٍ بجهالةِ حالِ زينبَ وبأنَّ سعدَ بنَ إسحاقَ غيرُ مشهورِ العدالةِ، وتُعُقِّبَ بأنَّ زينبَ هذهِ منَ التابعياتِ وهيَ امرأةُ أبي سعيدٍ، رَوَى عنْها سعدُ بنُ إسحاقَ وذكرَها ابنُ حبانَ في الثقاتِ

(5)

، وقدْ رَوَى عنْها سليمانُ بنُ محمدِ بن كعبِ بن عجرةَ فهيَ امرأةٌ تابعيةٌ تحتَ صحابيٍّ، ثم رَوَى عنْها الثقاتُ ولم يطعنْ فيها بحرفٍ

(6)

، وسعدُ بنُ إسحاقَ وثقهُ ابنُ معينٍ والنسائيُّ والدارقطنيُّ

(7)

، وَرَوى عنهُ حمادُ بنُ زيدٍ وسفيانُ الثوريُّ وابنُ جريجٍ ومالكٌ وغيرُهم. والحديثُ دليل على أنَّ المتوفى عنْها زوجُها تعتدُّ في بيتِها الذي نوَتْ فيهِ العدةَ ولا تخرجُ منهُ إلى غيرِهِ، وإلى هذَا ذهبَ جماعةٌ منَ السلفِ

= ابن ماجه" رقم (1651).

وخلاصة القول: أن الحديث صحيح، واللَّهُ أعلم.

(1)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (11628)، و"أسد الغابة" رقم (7206)، و"الاستيعاب" رقم (3517)، و"تجريد أسماء الصحابة"(2/ 296، 293) و"الثقات"(3/ 337).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في "الاستذكار"(18/ 181 رقم 27416).

(5)

(3/ 271).

(6)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (11252)، و"الاستيعاب" رقم (3410).

(7)

كما في "تهذيب التهذيب"(3/ 405 رقم 868).

ص: 234

والخلفِ، وفي ذلكَ عدَّةُ رواياتٍ وآثارٌ عن الصحابةِ ومَنْ بعدَهمْ

(1)

.

وقالَ بهذَا أحمدُ والشافعي وأبو حنيفةَ وأصحابُهم، وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ: وبهِ يقولُ جماعةُ فقهاءِ الأمصارِ بالحجاز والشامِ ومصرَ والعراقِ وقضَى بهِ عمرُ بمحضَرٍ منَ المهاجرينَ والأنصارِ. والدليلُ حديثُ [فريعة]

(2)

ولم يَطْعنْ فيهِ أحدٌ ولا في رُواتِهِ إلا ما عرفتَ وقدْ دُفعَ. ويجبُ لها السُّكْنَى في مالِ زَوْجِهَا لقولِه تعالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}

(3)

، والآيةُ وإنْ كانَ قدْ نُسِخَ [منها]

(4)

استمرارُ النفقةِ والكسوةِ حولًا فالسُّكْنَى باقٍ حُكْمُهَا مدةَ العِدَّةِ، وقدْ قرَّرَ الشافعيُّ الاستدلالَ بالآيةِ بما فيهِ تطويلٌ. وذهب طائفةٌ منَ السلفِ والخلَفِ إلى أنهُ لا سُكْنَى للمتوفَّى عنْها. رَوَى عبدُ الرزاقِ

(5)

عنْ عُرْوَةَ عنْ عائشَةَ أنَّها كانتْ تفتي المتوفَّى عنْها بالخروجِ في عِدَّتِها. وأخرجَ أيضًا

(6)

عن ابن عباسٍ أنهُ قالَ: إنَّما قالَ اللَّهُ تعتدُّ أربعةَ أشهرٍ ولمْ يقلْ تعتدُّ في بَيْتِهَا فتعتدُّ حيثُ شاءتْ. ومثلُه أخرجَهُ

(7)

عنْ

(1)

منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان، وابن مسعود، وابن عمر، وأم سلمة، وزيد بن ثابت والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وابن شهاب.

• أما عن عمر فقد أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 591 - 592 رقم 88) والبيهقي (7/ 453) و"مصنف عبد الرزاق"(7/ 33) بإسناد رجاله ثقات عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب، كان يردُّ المتوفى عنهنَّ أزواجُهُن من البيداءِ، يمنعُهنَّ الحج".

• أما عن عثمان فقد أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 591) وغيره كما تقدم في أواخر حديث الفريعة. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه (7/ 32) وابن حزم في "المحلى"(10/ 286): عن يوسف بن ماهك عن أُمه مسيكة، أن امرأة متوفى عنها زوجها زارت أهلها في عدَّتها وضربها الطلق، فأتوا عثمان فسألوه، فقال: احملوها إلى بيتها وهي تطلق.

• أما عن ابن مسعود فقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (6/ 316)، والبيهقي (7/ 417)، وابن حزم في "المحلى"(10/ 259).

• أما عن ابن عمر فقد أخرجه مالك (2/ 592)، وعبد الرزاق في "المصنف"(7/ 31) بإسناد صحيح، والبيهقي (7/ 435، 436).

• أما عن البقية فقد ذكرهم ابن عبد البر في "الاستذكار"(18/ 181 - 182).

(2)

في (أ): "المفريعة".

(3)

سورة البقرة: الآية 240.

(4)

في (ب): "فيها".

(5)

في "المصنف"(7/ 29 رقم 12054) بإسناد صحيح.

(6)

في "المصنف"(7/ 29 رقم 12051)، والبيهقي (7/ 435) بإسناد صحيح.

(7)

في "المصنف"(7/ 30 رقم 12059).

ص: 235

جابرٍ بن عبدِ اللَّهِ، ومثلُه عنْ جماعةٍ منَ الصحابةِ وإليهِ ذهبَ الهادي فقالَ: لا تجبُ لها السُّكْنَى لا تبيتُ إلَّا في مَنْزِلِهَا. ودليلُهم ما ذكرَهُ ابنُ عباسٍ منْ أنهُ تعالَى ذَكَرَ مُدَّةَ العدةِ ولم يذكرِ السُّكْنَى. والجوابُ أنهُ ثَبَتَ بالسُّنَّةِ وهوَ حديثُ [فريعة]

(1)

وبالكتابِ أيضًا كما تقدَّمَ، إلَّا أن [فريعة]

(2)

صرَّحتْ فيهِ أن البيتَ ليسَ لِزَوْجِها، فيُوخَذُ منهُ أنَّهَا لا تخرجُ منَ البيتِ الذي ماتَ فيهِ وهي فيهِ، سواءٌ كانَ لهُ [أم]

(3)

لا.

وقدْ أطالَ في "الهدي النبويِّ"

(4)

الكلامَ على ما يتفرَّعُ من إثباتِ السُّكْنَى، وهلْ تجبُ على الوَرَثَةِ منْ رأسِ الترِكَةِ أوْ لا؟ وهلْ تَخْرُجُ منْ منزِلها للضرورةِ [أم لا]

(5)

؟ وذَكَرَ خِلَافًا كثيرًا بينَ العلماءِ في ذلكَ ليسَ للتطويلِ بنقلهِ كثيرُ فائدةٍ، إذْ ليسَ عَلَى شيءٍ منْ تلكَ الفروعِ دليلٌ ناهضٌ.

9/ 1047 - وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ، فَأَمَرَهَا، فَتَحَوَّلَتْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(6)

. [صحيح]

(وعنْ فاطمةَ بنْتِ قيسٍ قالتْ: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجي طَلَّقَنِي ثلاثًا وأخافُ أنْ يُقْتَحَمَ)[بغير]

(7)

الصيغةِ (عليَّ) أي يُهْجَمُ عليَّ أحدٌ بغيرِ شعورٍ (فَأَمَرَهَا فتحوَّلتْ. رواهُ مسلمٌ). تقدَّم الكلامُ على حديثٍ فاطمةَ وحكمِ ما أفادَه ولا وجْهَ لإعادةِ المصنفِ لهُ.

‌عدَّة أم الولد إذا توفي عنها سيدها

10/ 1048 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ

(8)

وَأَبُو دَاوُدَ

(9)

وَابْنُ مَاجَهْ

(10)

،

(1)

في (ب): "الفريعة".

(2)

في (ب): "الفريعة".

(3)

في (ب): "أو".

(4)

(5/ 679 - 693).

(5)

في (ب): "أو لا".

(6)

في صحيحه رقم (1482).

(7)

في (ب): "مغيَّرُ".

(8)

في "المسند"(4/ 203).

(9)

في "السنن" رقم (2308).

(10)

في "السنن" رقم (2083).

ص: 236

وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(1)

، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بالانْقِطَاعِ

(2)

. [حسن]

(وعنْ عمرِو بن العاصِ قالَ: لا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّة نبينا، عِدَّة أمِّ الولدِ إذا تُوُفِّيَ عنْها سيِّدُها أربعةُ أشهرٍ وعَشْرٌ. رواة أحمدُ وأبو داودَ وابن ماجهْ وصحَّحَة الحاكمُ وأعلَّهُ الدارقطنيُّ بالانقطاعِ)، وذلكَ لأنهُ منْ روايه قُبَيْصَه بن ذُؤيبٍ عنْ عمرِو بن العاصِ ولم يَسْمعْ منهُ، قالَه الدارقطنيُّ. وقالَ ابنُ المنذرِ: ضَعَّفَهُ أحمدُ وأبو عبيدٍ. وقالَ محمدُ بنُ موسى: سألتُ أبا عبدِ اللَّهِ عنهُ فقالَ: لا يصحُّ. وقالَ الميمونيُّ: رأيتُ أبا عبدِ اللَّهِ يتعجب منْ حديثٍ عمرِو بن العاصِ هذَا ثمَّ قالَ: أيُّ سُنَّةٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا وقالَ: أربعةَ أشهرٍ وعشرًا إنَّما هيَ عِدَّةُ الحرَّةِ عن النِّكاحِ وإنَّما هذهِ أمَة خرجتْ عن الرِقِّ إلى الحريَّةِ. وقالَ المنذري

(3)

في إسنادِ حديثٍ عمرٍو: مطرُ بنُ طَهْمَانَ أبو رَجَاءٍ الورَّاقُ وقدْ ضعَّفهُ غيرُ واحدٍ، ولَهُ عِلَّةٌ ثالثةٌ هيَ الاضطرابُ، لأنهُ رُوِيَ على ثلاثةِ وُجُوهٍ. قالَ أحمدُ

(4)

: حديثٌ مُنْكَرٌ. وقَدْ رَوَى خُلاسُ عنْ عليٍّ مثلَ روايةٍ قبيصةَ عنْ عمرٍو لكنَّ خُلاسَ بنَ عمرٍو قدْ تُكُلِّمَ في حديثِه كانَ ابنُ معينٍ لا يَعْبَأُ بحديثِه. وقال أحمدُ في روايتِه عنْ عليٍّ: يُقَالُ إنَّها كتابٌ. وقالَ البيهقيُّ

(5)

روايةُ خُلاسٍ عنْ عليٍّ ضعيفةٌ عندَ أهلِ العلمِ والمسألةُ فيها خلافٌ ذهبَ إلى ما أفادَهُ حديثُ عمرٍو الأوزاعيِّ، والناصرُ، والظاهريةُ، وآخرونَ وذهبَ مالكٌ والشافعيِّ وأحمدُ وجماعةٌ

(6)

إلى أن عِدَّتَها

(1)

في "المستدرك"(2/ 258) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

قلت: مطر الورّاق روى له البخاري تعليقًا ومسلم في المتابعات، كما تكلَّموا في حفظه فحديثه حسن في المتابعات.

(2)

في "السنن"(3/ 309) وقال: "

والموقوف أصح. وقبيصة لم يسمع من عمرو".

قلت: وأخرجه البيهقي (7/ 447 - 448) وقال: والصواب موقوف، وهو مرسل لأن قبيصة لم يسمع من عمرو. وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر.

وأخرجه ابن حبان رقم (1333 - موارد) وابن الجارود في "المنتقى" رقم (769).

وخلاصة القول أن الحديث حسن، واللَّه أعلم.

(3)

في "المختصر"(3/ 255).

(4)

ذكره البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 448).

(5)

ذكره البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 448).

(6)

انظر: "الاستذكار"(18/ 188 رقم 27443، 27444).

ص: 237

حَيْضَةٌ لأنَّها ليستْ زوجةً ولا مطلَّقةً فليسَ إلَّا استبراءُ رَحِمِها وذلكَ بحيضةٍ تشبيهًا بالأَمَةِ يموتُ عنْها سيِّدُها، وذلكَ مما لا خلافَ فيهِ. وقالَ مالكٌ

(1)

: فإنْ كانتْ ممنْ لا تحيضُ اعتدَّتْ بثلاثةِ أشهرٍ ولها السُّكْنَى. وقالَ أبو حنيفةَ

(2)

: عِدَّتُها ثلاثُ حِيِضٍ، وهوَ قولُ عليٍّ

(3)

وابنِ مسعودٍ

(4)

، وذلكَ لأنَّ العِدَّةَ إنَّما وجبتْ عليْها وهيَ حُرَّةٌ وليستْ بزوجةٍ فتعتدَّ عِدَّةَ الوفاةِ، ولا أمة فتعتدُّ عِدَّةَ الأَمَةِ، فوجبَ أنْ يُسْتَبْرَأَ رحمُها بِعِدَّةِ الحرائرِ. قُلْنَا: إذا كانَ المرادُ الاستبراءُ كَفَتْ حيضةٌ إذْ بها يتحققُ [براءة الرحم]

(5)

، وقالَ قومٌ: عِدَّتُها نِصْفُ عِدَّةِ الحُرَّةِ تشبيها بالأمَةِ المزوَّجةِ عندَ مَنْ يَرَى ذلكَ، وسيأتي. وقالتِ الهادويةُ: عِدَّتُها حيضتانِ تشبيهًا بعدةِ البائعِ والمشتري فإنَّهم [أوجبوا]

(6)

على البائعِ الاستبراءَ بحيضةِ وعلى المشتري كذلكَ والجامعُ زوالُ الملْكِ. قالَ في "نهاية المجتهد"

(7)

: "سببُ الخلافِ أنَّها مسكوتٌ عنْها - أيْ في الكتابِ والسُّنَّةِ - وهيَ متردِّدَةُ الشَّبَهِ بينَ الأمَةِ والحرَّةِ، فأمَّا مَنْ شَبَّهَهَا بالزَّوْجَةِ الأمَةِ فضعيفٌ، وأضعفُ منهُ مَنْ شَبَّهَهَا بِعِدَّةِ الحرَّةِ المطلَّقةِ"، انتَهى.

قدتُ: وقدْ عرفتَ ما في حديثٍ عمرِو منَ المقالِ فالأقربُ قولُ أحمدُ والشافعيِّ أنَّها تعتدُّ بحيضةٍ، وهوَ قولُ ابن عمرَ وعروةَ بن الزبيرِ والقاسمِ بن محمدِ والشعبيّ والزُّهريِّ، لأنَّ الأَصْلَ البراءةُ [عن]

(8)

الحكمِ وعدمُ حَبْسِها عن الأزواجِ، واستبراءُ الرَّحِمِ يحصلُ بحيضةٍ.

‌القَرء الطهر والدليل عليه

11/ 1049 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّمَا الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ في قِصَّةٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ

(9)

. [إسناده صحيح]

(1)

ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار"(18/ 188 رقم 27447).

(2)

ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار"(18/ 189 رقم 27457).

(3)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 448).

(4)

ذكر ذلك ابن عبد البر في "الاستذكار"(18/ 190 رقم 27458).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

في (ب): "يوجبون".

(7)

أي "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد (3/ 182) بتحقيقنا.

(8)

في (ب): "من".

(9)

في "الموطأ"(2/ 576 - 577) بسند صحيح.

ص: 238

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: إن الأقراءُ الأطهاز. أخرجه مالكٌ في قصه بسندٍ صحيحٍ) والقصةُ هيَ ما أفادَهُ سياقُ الحديثِ. قالَ الشافعيِّ: [أنا]

(1)

مالكٌ عن ابن شهابٍ عنْ عروةَ عنْ عائشةَ أنَّهَا قالتْ: وقدْ جادَلَها في ذلكَ ناسٌ وقالُوا: إنَّ اللَّهَ تعالَى يقولُ ثلاثةَ قروءٍ فقالتْ عائشةَ: صدقتُم وهل تدرونَ ما الأقراءُ؟ الأقراءُ الأطهارُ، قالَ الشافعيُّ: أخْبَرَنا مالكٌ عن ابن شهابٍ ما أدركتُ أحدًا منْ فقهاءِنَا إلَّا وهوَ يقولُ هذَا. يريدُ الذي قالته عائشةُ، انتَهى. واعلمْ أنَّ هذهِ مسئلةٌ اختَلَفَ فيها سلفُ الأمَّةِ وخَلَفُها معَ الاتفاقِ أن القَرْءَ بفتحِ القافِ وضمِّها يُطْلَقُ لغةً على الحيضِ والطُّهْرِ وأنهُ لا خلافَ أن المرادَ في قولِه تعالَى:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}

(2)

أحدُهما لا مجموعُهما إلَّا أنَّهم اختلفُوا في الأحدِ المرادِ منْهما فيها؛ فذهبَ كثيرٌ منَ الصحابةِ وفقهاءُ المدينةِ والشافعيُّ وأحمدُ في إحْدى الروايتينِ وهوَ قولُ مالكٍ وقالَ: هوَ الأمرُ الذي أدركتُ عليهِ أهلُ العلمِ ببلدِنا أنَّ المرادَ بالأَقْراءِ في الآيةِ الكريمةِ الأطهارُ مستدلِّينَ بحديثِ عائشةَ هذَا، قالَ الشافعيِّ: إنهُ يدلُّ لذلكَ الكتابُ واللسانُ، أي اللغةُ أما الكتابُ فقولُه [تبارك و]

(3)

تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(4)

وقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم في حديثٍ ابن عمرَ

(5)

: "ثمَّ تطهرُ ثمَّ إنْ شاءَ أمسكَ وإنْ شاءَ طلَّقَ، فتلكَ العِدَّةُ التي أمَرَ اللَّهُ أنْ تطلَّقَ لها النساءُ"، وفي حديثٍ ابن عمر

(6)

لما طلَّقَ امرأتَهُ حائضًا قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذا طهرتْ فليطلِّقْ أو يُمْسِكْ وَتَلَا صلى الله عليه وسلم: "إذا طَلَّقتم النساءَ فطلقوهنَّ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ أوْ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ"

(7)

، قالَ الشافعيُّ: أنا شَكَكْتُ. فأخبرَ صلى الله عليه وسلم أن العدَّةَ الطُّهْرُ دونَ الحيضِ وقرأَ فطلقوهنَّ لِقَبْلِ عدتهنَّ وهو أنْ يطلِّقَهَا طاهرًا، وحينئذٍ يستقبلُ عِدَّتَها، فلو طُلِّقَتْ حائضًا لم تكنْ مستقبلةً عِدَّتَها إلَّا بعدَ الحيضَ. وأما اللسانُ فهوَ أن القَرْءَ اسمٌ معناهُ الحبسُ، تقولُ العربُ: هو يقرئُ الماءَ في حوضِه وفي سِقَائِه، وتقولُ: يقرئُ الطعامَ في شِدْقِهِ، يعني

(1)

في (ب): "أخبرنا".

(2)

سورة البقرة: الآية 228.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

سورة الطلاق: الآية 1.

(5)

أخرجه البخاري رقم (5332)، ومسلم رقم (1471).

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (14/ 1471).

(7)

"قُبُلِ عِدتهنَّ" هذه قراءة ابن عباس وابن عمر. وهي قراءة شاذة لا تثبت قرآنًا بالإجماع.

ولا يكون لها حكم خبر الواحد عندنا - أي الشافعية - وعند محققي الأصوليين.

ص: 239

يحبسُ الطعامَ فيهِ، وتقولُ إذا حبسَ الشيءَ: أقْرَأَهُ، أي خَبَّأَهُ، وقالَ الأعشَى

(1)

:

أفي كلِّ يومٍ أنتَ جاشمُ غزوةٍ

تشدُّ لأقْصَاهَا عزيمَ عزائِكَا

مورِّثَةً عزًا وفي الحيِّ رفعةٌ

لما ضاعَ فيها منْ قروءِ نِسَائِكَا

فالقَرْءُ في البيتِ بمعنَى الظهرِ، لأنهُ ضيَّعَ أطهارَهنَّ في غزَاتِهِ وآثَرَهَا عليهنَّ أي آثرَ الغزْوَ على القعودِ فضاعتْ قروءُ نِسائِهِ بلا جماعٍ، فدلَّ على أنَّها الأطهارُ. وذهبَ جماعةٌ منَ السلفِ كالخلفاءِ الأربعةِ وابنِ مسعودِ وطائفةٌ كثيرةٌ منَ الصحابةِ والتابعينَ إلى أنَّها الحيضُ، وبهِ قالَ أئمة الحديثِ، وإليهِ رجعَ أحمدُ ونُقِلَ عنهُ أنهُ قالَ: كنتُ أقولُ إنَّها الأطهارُ وأنا اليومَ أذهبُ إلى أنَّها الحيضُ. وهوَ قولُ الحنفيةِ وغيرهمْ

(2)

، واستدلُّوا بأنهُ لمْ يُسْتَعْمَلِ القَرْءُ في لسانِ الشارع إلَّا في الحيضِ كقولِه تعالَى:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}

(3)

، وَهذا هو الحيضُ والحملُ لأنَّ المخلوقَ في الرحمِ هوَ أحدُهما، وبهذَا فسَّرهُ السلفُ والخلفُ، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"دَعِي الصلاةَ أيامَ أقرائِكِ"

(4)

، ولم يقلْ أحدٌ أن المرادَ بهِ الطهرُ،

(1)

والأبيات في ديوانه (91).

(2)

انظر: "المغني"(11/ 199 - 202).

(3)

سورة البقرة: الآية 228.

(4)

وهو حديث صحيح.

روي من حديث عدي بن ثابت، ومن حديث عائشة، ومن حديث أم سلمة، ومن حديث سودة بنت زمعة.

• أما حديث عدي بن ثابت فقد أخرجه أبو داود رقم (297)، والترمذي (126)، وابن ماجه رقم (625)، وإسناده ضعيف.

• وأما حديث عائشة فقد أخرجه الطبراني في "الصغير"(2/ 292 رقم 1187 - الروض الداني) من طريق قمير امرأة مسروق عنها.

وأخرجه ابن حبان في صحيحه (4/ 188 رقم 1354) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عنها بإسناد صحيح.

• وأما حديث أم سلمة فقد أخرجه الدارقطني (1/ 208 رقم 8)، وقال الدارقطني: رواته كلهم ثقات ذكره الزيلعي في "نصب الراية"(1/ 202).

• وأما حديث سودة فقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (9184)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 281) وقال: وفيه جعفر عن سودة لم أعرفه.

وانظر كلام الإمام الزيلعي في "نصب الراية" على الأحاديث هذه (1/ 251 - 252).

ص: 240

ولقولِه صلى الله عليه وسلم أخرجَه أحمدُ

(1)

وأبو داودَ

(2)

في سَبَايَا أَوْطَاسٍ

(3)

: "لا توطَأُ حاملٌ حتَّى تضعَ، ولا غيرُ ذاتِ حَملٍ حتَّى تحيضَ حيضةً" وسيأتي

(4)

. وأجابَ الأولونَ عن الآيةِ [بأنها]

(5)

أفادَتْ تحريمَ كِتْمَانِ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحَامِهِنَّ، وهوَ الحيضُ أوِ الحَبَلُ أوْ كلاهُما. ولا ريبَ أن الحيضَ داخلٌ في ذلكَ، ولكنَّ تحريمَ كتمانِه لا يدلُّ على أن القرْءَ المذكورَ في الآيةِ هوَ الحيضُ، فإنَّها إذا كانتِ الأطهارُ فإنَّها تنقضي بالطَّعْنِ في الحيضةِ الرابعةِ أو الثالثةِ، فكتمانُ الحيضِ يلزمُ منهُ عدمُ معرفةِ انقضاءِ الطُّهْرِ الذي تتمُّ بهِ العِدَّةُ فتكونُ دلالةُ الآيةِ على أن الأقراءَ الأطهارُ أظهرَ [وأجابوا]

(6)

عن الحديثِ الأولِ بأنَّ الأصحَّ أن لَفْظَهُ كما قالَ الشافعيُّ

(7)

: [أنا]

(8)

مالكٌ عنْ نافعِ بن سليمانِ بن يسارٍ عنْ أمِّ سلمةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لِتَنْتَظِرْ عِدادَ الليالي والأيامِ التي كانتْ تحيضهنَّ منَ الشهر قبلَ أنْ يصيبَها الذي أصابَها ثمَّ لِتَدَعِ الصلاةَ ثمَّ لِتَغْتَسِلْ ولْتُصلِّ"، وهذهِ روايةُ نافعٍ ونافعٌ أحفظُ منْ سليمانَ عن أيوب الراوي لذلكَ اللفظِ

(9)

. هذا حاصلُ ما نُقِلَ عن الشافعيِّ منْ ردِّه للحديثِ الأولِ وعنِ الحديثِ الثاني بأنهُ [لا يشك]

(10)

أن الاستبراءَ وردَ بحيضةٍ وهوَ النصُّ عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهوَ قولُ جمهورِ الأُمَّةِ. والفرقُ بينَ الاستبراءِ والعِدَّةِ أن العِدَّةَ وجبتْ قضاءً لحقِّ الزَّوْجِ فاختصتْ بزمانِ حقِّه وهوَ الطُّهْرُ وبأنَّها تتكررُ فتعلم فيها البراءةَ بواسطةِ الحيضِ بخلافٍ الاستبراءِ. واعلمْ أنهُ قدْ أكثرَ الاستدلالَ المنازعون في المسئلةِ منَ الطرفَيْنِ، كلُّ يستدلُّ على ما

(1)

في "المسند"(17/ 55 رقم 21 - فتح الرباني).

(2)

في "السنن" رقم (2157).

قلت: وأخرجه الحاكم (2/ 195)، من حديث أبي سعيد الخدري وصحَّحه على شرط مسلم. وكذلك صحَّحه المحدث الألباني في "صحيح أبي داود".

(3)

أوطاس: واد من ديار هوازن، فيه كانت وقعةُ حُنين للنبي صلى الله عليه وسلم ببني هوازن "معجم البلدان"(1/ 281).

(4)

رقم (18/ 1056) من كتابنا هذا.

(5)

في (ب): "بأن الآية".

(6)

في (ب): "و".

(7)

في "بدائع المنن"(1/ 38 رقم 114).

(8)

في (ب): "أخبرنا".

(9)

أخرجها الدارقطني في "السنن"(1/ 207 رقم 7).

(10)

في (ب): "لا شك".

ص: 241

ذهبَ إليهِ، وغايةُ ما [أفاده الآية والحديث]

(1)

أنهُ أُطْلِقَ القُرْءُ على الحيضِ وأُطْلِقَ على الطُّهرِ، وهوَ في الآيةِ محتمَلٌ كما عرفتَ فإنْ كانَ مشتَركًا كما قالَه جماعةٌ فلا بدَّ منْ قرينةٍ [معينة]

(2)

، وإنْ كانَ في أحدِهِما حقيقةً وفي الآخَرِ مجازًا فالأصلُ الحقيقةُ ولكنَّهم مختلفونَ هلْ هوَ حقيقةٌ في الحيضِ مجازٌ في الطهْرِ أوِ العكسُ. قالَ الأكثرونَ بالأوَّلِ، وقالَ الأقلُّونَ بالثاني؛ فالأولونَ يحملونَهُ في الآيةِ علَى الحيضِ لأنهُ الحقيقةُ، والأقلونَ على الطُّهْرِ ولا ينهضُ دليل على تَعَيُّنِ أحدٍ القولَيْنِ؛ لأنَّ غايةَ الموجودِ في [كتب]

(3)

اللغةِ الاستعمالُ في المعنَيَيْنِ وللمجازِ علامات منَ التبادرِ وصحةِ النَّفْي [وغيره]

(4)

ولا ظهورَ [ما أفاده لهما ههنا]

(5)

وقد أطالَ ابنُ القيم الاستدلالَ على أنهُ الحيضُ واستوفَى المقالَ، ولم يقهرْنَا دليلُه إلى تعيينِ ما قالَ، ومنْ أدلةِ القولِ بأنَّ الأقراءَ الحيضُ:

‌طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان

12/ 1050 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: طَلَاقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي

(6)

، وَأَخْرَجَهُ مَرْفُوعًا، وَضَعَّفَهُ

(7)

. [صحيح]

(1)

في (ب): "أفادت الأدلة".

(2)

في (ب): "معنييه".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في (ب): "ونحو ذلك".

(5)

في (ب): لها هُنا".

(6)

في "السنن"(4/ 38 رقم 109).

(7)

وأخرجه الدارقطني في "السنن"(4/ 38 رقم 104) مرفوعًا وضعفه.

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2079) كليهما من طريق عمر بن شبيب المُسْلِي، عن عبد اللَّهِ بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر.

قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 139 رقم 2079/ 733): "هذا إسناد ضعيف، لضعف عطية بن سعيد العوفي، وعمر بن شبيب الكوفي.

رواه البيهقي في سننه الكبرى - (7/ 369) - من طريق سعدان بن نصر عن عمر بن شبيب به مرفوعًا، وقال: الصحيح أنه موقوف على ابن عمر، ورواه مالك في "الموطأ"(2/ 574 رقم 50) - موقوفًا على ابن عمر.

وكذا رواه الدارقطني في سننه - (2/ 39 رقم 110) من طريق عبيد اللَّهِ بن عمر عن نافع عن ابن عمر به.

ومن طريق الدارقطني وغيره رواه البيهقي في سننه الكبرى (7/ 369).

وله شاهد من حديث عائشة رواه أبو داود رقم (2189)، والترمذي رقم (1182)، وابن ماجه رقم (2080) اهـ. =

ص: 242

- وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَخَالَفُوهُ، فَاتَّفقُوا عَلَى ضعْفِهِ

(1)

. [ضعيف]

قولُه: (وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما: طلاقُ الأمَةِ) المزوَّجَةِ (تطليقتانِ وعِدَّتُها حيضتانِ.

رواهُ الدارقطنيُّ) موقُوفًا على ابن عمرَ (وأخرجَهُ مرفُوعًا وضغَفهُ) لأنهُ منْ روايةٍ عطيةَ العوفيِّ وقدْ ضعَّفهُ غيرُ واحدٍ منَ الأئمةِ

(2)

، (وأخرجَهُ أبو داودَ والترمذيُّ وابن ماجهْ منْ حديثٍ عائشةَ) بلفظِ: طلاقُ الأمَةِ طلقتانِ وقَرؤُها حيضتانِ، وهوَ ضعيفٌ لأنهُ منْ حديثٍ مظاهرِ بن مسلمٍ قالَ فيهِ أبو حاتمٍ

(3)

: مُنْكَرُ الحديثِ، وقالَ ابنُ معينٍ: لا يعرفُ (وصحَّحَه الحاكمُ وخالفوهُ فاتفقُوا على ضَعْفِهِ) لما عرفْتَهُ فَلَا يتم بهِ الاستدلالُ [على المسألة]

(4)

الأُولَى. واستُدلَّ بهِ هُنَا على أن الأَمَةَ تخالفُ الحرةَ فَتَبِيْنُ عن الزوجِ بطلقتيْنِ وتكونُ عِدَّتُها قُرْأَيْنِ. واختلفَ العلماءُ [في هذا الحكم]

(5)

على أربعةِ أقوالٍ أقْواها ما ذهبتْ إليه الظاهريةُ

(6)

منْ أن طلاقَ العبدِ والحرِّ سواءٌ لعمومِ النصوصِ الواردةِ في الطلاقِ منْ غيرِ فَرْقٍ بينَ حُرٍّ وعَبْدٍ وأدلةُ التفرقةِ كلُّها غيرُ ناهضةٍ، وقدْ سردَ الأقوال الثلاثة وأدلتها في الشرحِ فَلَا

= قلت: وأخرج حديث عائشة الحاكم (2/ 205) والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 370).

قال الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث".

وقال أبو داود: "وهو حديث مجهول".

وقال الحاكم: "مظاهر بن أسلم شيخ من أهل البصرة لم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح، فإذًا الحديث صحيح". ووافقه الذهبي.

وقال الألباني في "الإرواء"(7/ 149): "وذلك من عجائبه - أي الذهبي - فإنه أورد مظاهرًا هذا في كتابه "الضعفاء"

اهـ.

قلت: حديث عائشة ضعيف. وكذلك حديث ابن عمر، واللَّهُ أعلم.

(1)

تقدم تخريجه في التعليقة أعلاه.

(2)

انظر: "المجروحين"(2/ 176)، و"الجرح والتعديل"(6/ 382)، و"الكاشف"(2/ 235)، و"المغني"(2/ 436)، و"الميزان"(3/ 79)، و"التقريب"(2/ 24).

(3)

وقال أبو عاصم: ضعيف كما في "التاريخ الكبير"(8/ 73 رقم 2211). وقال ابن حزم في "المحلى"(10/ 234): ضعيف.

(4)

في (ب): "للمسألة".

(5)

في (ب): "في المسألة".

(6)

انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 230 - 235).

ص: 243

حاجةَ بالإطالةِ بِذِكْرِها معَ عدمِ نهوضِ دليلِ قولٍ منها عندَنا. وأما عِدَّتُها فاختُلِفَ أيضًا فيها فذهبتِ الظاهريةُ إلى أنَّها كَعِدَّةِ الحرة أيضًا قالَ أبو محمدٍ بن حَزْمٍ: لأنَّ اللَّهَ تعالى عَلَّمَنَا العددَ في الكتابِ فقالَ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}

(1)

، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}

(2)

، وقال:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(3)

.

وقدْ علمَ اللَّهُ تعالَى إذْ أباحَ لَنَا الإماءَ أنَّ عليهنَّ العُدَدَ المذكوراتِ وما فرَّقَ عز وجل بينَ حُرَّةٍ ولا أَمَةٍ في ذلكَ وما كانَ ربُّكَ نسيًّا.

وتُعُقِّبَ [في]

(4)

استدلاله بالآياتِ بأنَّها كلُّها في الزوجاتِ الحرائرِ فإنَّ قولَه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(5)

في حقِّ الحرائرِ فإن افتداءَ الأمَةِ إلى سيّدها لا إليها، وكَذَا قولُه:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}

(6)

فجعلَ ذلكَ إلى الزَّوْجيْنِ، والمرادُ بهِ العقدُ، وفي الأمَةِ ذلكَ يختصُّ بسَيّدِها، وكَذَا قولُه:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(7)

، والأَمَةُ لا فعلَ لها في نفسِها.

قلتُ: لكنَّها إذا لم تدخلْ في هذِه الآياتِ ولا تثبتُ فيها سنَّةٌ صحيحةٌ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ ناهضٌ هُنَا فماذَا يكونُ حكْمُها في عِدَّتِها؟ فالأقربُ أنها زوجةٌ شَرْعًا قطعًا فإنَّ الشارعَ قسمَ لنا منْ أحلَّ لنا وطؤُها إلى زوجةٍ أو ما ملكتِ اليمينُ في قولِه: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}

(8)

وهذهِ التي هي محلُّ النزاعِ ليستْ ملكَ يمينٍ قطعًا فَهِيَ زوجةٌ [فشملتها]

(9)

الآياتُ، وخروجُها عنْ حكمِ الحرائرِ فيما ذكرَ منَ الافتداءِ، والعقدُ والفعلُ بالمعروفِ في نفسها، لا ينافي دخولُها في حُكْمِ العِدَّةِ، لأنَّ هذهِ أحكامٌ أُخَرُ تعلَّقَ الحقُّ فيها بالسيِّدِ كما تعلَّق في الحرَّةِ الصغيرةِ وبالوليِّ، فالراجحُ أنَّها كالحرَّةِ تطليقًا وعِدَّةٍ.

(1)

سورة البقرة: الآية 228.

(2)

سورة البقرة: الآية 234.

(3)

سورة الطلاق: الآية 4.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

سورة البقرة: الآية 229.

(6)

سورة البقرة: الآية 230.

(7)

سورة البقرة: الآية 234.

(8)

سورة المؤمنون: الآية 6.

(9)

في (ب): "فتشملها".

ص: 244

‌تحريم وطء الحامل من غير الواطئ

13/ 1051 - وَعَنْ رُويفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَا يَحِلُّ لامرِئٍ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيرِهِ"، أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

وَالترْمِذِيُّ

(2)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(3)

، وَحَسَّنَهُ الْبَزَّارُ. [حسن]

‌ترجمةُ رويفع بن ثابت

(وعنْ رُويفعِ) تصغيرُ رافعٍ (بن ثابتٍ)

(4)

من بني مالكِ بن النجارِ عدادُه في المصريينَ توفيَ سنةَ ستٍّ وأربعينَ (عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لا يحلُّ لامرئٍ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ أنْ يسقيَ ماءَهُ زَرْعَ غيرِهِ. أخرجَهُ أبو داودَ والترمذيُّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والبزارُ) فيهِ دليل على تحريمِ وطْءِ الحاملِ منْ غيرِ الواطئِ وذلك كالأَمَةِ المشتراةِ إذا كانتْ حاملًا منْ غيرِه والمسبيةِ، وظاهرُه أن ذلكَ إذا كانَ الحمْلُ متحققًا، أمَّا إذا كانَ غيرَ متحقِّقٍ [ويملك]

(5)

الأمةُ بسبي أو شراء أو غيرِه فسيأتي أنهُ لا يجوزُ وطؤُها حتى تُسْتَبْرَأَ بحيضةٍ. وقدِ اختلَفَ العلماءُ في الزانيةِ غيرِ الحاملِ هلْ تجبُ عليها العِدَّةُ أو تستبرأُ بحيضةٍ؟ فذهبَ الأقلُّ إلى وجوبِ العِدَّةِ عليها وذهبَ الأكثرُ إلى عدمِ وجُوبها عليها، والدليلُ غيرُ ناهضٍ معَ الفريقينِ، فإنَّ الأكثرَ استدلُّوا بقولِه صلى الله عليه وسلم: "الولدُ للفراشِ [وللعاهر الحجر]

(6)

"

(7)

ولا دليلَ فيهِ إلا على عدمِ

(1)

في "السنن" رقم (2158) و (2159) و (2708).

(2)

في "السنن" رقم (1131) وقال حديث حسن.

(3)

رقم (1675 - موارد).

قلت: وأخرجه البيهقيُّ في "السنن الكبرى"(9/ 62)، وأحمد مطولًا ومختصرًا (4/ 108، 108، 109)، وسعيد بن منصور رقم (2722)، والدارمي (2/ 230)، والطبراني في "الكبير" رقم (4482) و (4483)، و (4485)، و (4486) و (4488) و (4489) من طرق

وهو حديث حسن، انظر الكلام عليه في "الإرواء" رقم (2137).

(4)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (2705)، و"الثقات"(3/ 126)، و"شذرات الذهب"(1/ 55).

(5)

في (ب): "وتملك".

(6)

زيادة من (أ).

(7)

وهو حديث متفق عليه أخرجه البخاري رقم (6818)، ومسلم رقم (37/ 1458)، وسيأتي تخريجه رقم (19/ 1057) من كتابنا هذا.

ص: 245

لحوقِ ولدِ الزِّنَى بالزَّانِي. والقائلُ بوجوبِ العدَّةِ استدلَّ بعمومِ الأدلةِ ولا يخْفَى أن الزانيةَ غيرُ داخلةٍ فيها فإنَّها في الزوجاتِ، نعمْ تدخلُ في دليلِ الاستبراءِ وهوَ قولُه صلى الله عليه وسلم:"لا تُوْطَأُ حاملٌ حتى تضعَ، ولا غيرُ ذاتِ حَمْلٍ حتى تحيضَ حيضةً"

(1)

. قالَ المصنفُ في "التلخيصِ"

(2)

: إنها استدلتِ الحنابلةُ بحديثِ رويفعٍ علَى فسادِ نكاحِ الحاملِ منَ الزِّنَى، واحتجَّ بهِ الحنفيةُ على امتناعِ وطْئِها، قالَ: وأجابَ الأصحابُ عنهُ بأنهُ وردَ في السَّبْي لا في مُطْلَقِ النساءِ، وتُعُقِّبَ بأنَّ العبرةَ [لعموم]

(3)

اللفظِ.

‌ما تصنعه امرأة المفقود

14/ 1052 - وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه (في امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ) تَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ

(4)

وَالشَّافِعِيُّ

(5)

. [مرسل]

(وعنْ عمرَ رضي الله عنه في امرأةِ المفقودِ تربص أربعَ سنينَ ثمَّ تعتدُّ أربعةَ أشهرٍ وعشْرًا. أخرجَهُ مالكٌ والشافعيِّ) ولهُ طُرقٌ أُخَرُ، وفيهِ قصةٌ أخرجَها عبدُ الرزاقِ بسندِه

(6)

إلى الفقيدِ الذي فُقِدَ قالَ: دخلتُ الشِّعبَ فاستهوتْني الجنُّ فمكثتُ أربعَ سنينَ فأتتِ امرأتي عمَرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه فأمرَها أنْ تربَّصَ أربعَ سنينَ منْ حينَ رفعتْ أمرَها إليهِ ثمَّ دَعَا وليَّه - أي وليَّ الفقيدِ - فطلَّقَها ثمَّ أَمَرَها أن تعتدَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا ثمَّ جئتُ بعدَ ما تزوَّجتْ، فخيَّرني عمرُ بينَها وبينَ الصَّداقِ الذي

(1)

أخرجه أحمد (17/ 55 رقم 21 - الفتح الرباني)، وأبو داود رقم (2157)، والحاكم في "المستدرك (2/ 195)، وصحَّحه على شرط مسلم. من حديث أبي سعيد الخدري.

قلت: وهو حديث صحيح.

(2)

(3/ 232).

(3)

في (ب): "بعموم".

(4)

في "الموطأ"(2/ 575 رقم 52).

(5)

في "الأم"(5/ 241).

قلت: وأخرجه البيهقيُّ (7/ 445)، وابن حزم في "المحلى" (10/ 135) وقال: روى عن عمر أيضًا قول رابع لا يصح لأنه مرسل من طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: إن عمر بن الخطاب قال: فذكره.

(6)

في "المصنف"(7/ 86 رقم 12320).

ص: 246

أصدقتُها. ورواهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ

(1)

عنْ عمرَ وَرَوَاهُ البيهقيُّ

(2)

[وقصة المفقودِ أخرجَها البيهقيُّ وفيها أنهُ قالَ لعمرَ لما رجَعَ: إني خرجتُ لصلاةِ العشاءِ فسبتني الجنُّ فلبثتُ فيهمْ زمانًا طويلًا فغزاهمُ جنٌّ مؤمنونَ أوْ قالَ مسلمونَ، فقاتلُوهُم وظهروا عليهمْ فَسَبَوْا منهمْ سَبَايا فسبَوْني فيمن سَبَوْا منهم فقالُوا: نراكَ رجلًا مسلمًا لا يحل لنا سباؤُكَ فخيَّروني بينَ المقامِ وبينَ القُفولِ فاخترتُ القفولَ، فأقبلُوا معي فأما الليلُ فلا يحدِّثوني وأما النهارُ فعصار ريحٍ اتَّبعَها، فقالَ لهُ عمرُ: فما كان طعامُكَ فيهم؟ قالَ: الفولُ وما لا يذكرُ اسمُ اللَّهِ عليهِ، قالَ: فما شرابُك؟ قالَ: الجدفُ، قالَ قتادةُ: والجدفُ ما لا يخمَّرُ منَ الشراب]

(3)

. وفيهِ دليلٌ على أن مذهبَ عمرَ أن امرأةَ المفقودِ بعدَ مضيِّ أربعِ سنينَ منْ يومِ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إلى الحاكمِ تَبينُ من زَوْجِهَا كما يفيدُه ظاهرُ روايةٍ الكتابِ، وإنْ كانتْ روايةُ ابن أبي شيبةَ دالَّة على أنهُ يأمرُ الحاكمُ وليَّ الفقيدِ بطلاقِ امرأتِه. وقدْ ذهبَ إلى هذَا مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ وهوَ أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ وجماعةٌ منَ الصحابةِ بدليلِ فعْلِ عمرَ، وذهبَ أبو يوسفَ ومحمدٌ وروايةٌ عنْ أبي حنيفةَ وأحدُ قَوْلَي الشافعيِّ إلى أنَّها لا تخرجُ عن الزوجيةِ حتَّى يصحَّ لها موتُه أو طلاقُه أو رِدَّتُه، ولا بُدَّ منْ تَيَقُّنِ ذلكَ، قالُوا: لأنَّ عقدَها ثابتٌ بيقينٍ فلا يرتفعُ إلَّا بيقينٍ، وعليهِ يدلُّ ما رواهُ الشافعيُّ

(4)

عنْ عليٍّ موقُوفًا: "امرأةُ المفقودِ امرأةٌ ابتليتْ فلتصبرْ حتَّى يأتيَها يقينُ موتِهِ"، قالَ البيهقيُّ

(5)

: هوَ عنْ عليٍّ مطوَّلًا مشهورًا. ومثلُه أخرجَه عنهُ عبدُ الرزاقِ

(6)

قالتِ الهادويةُ: فإنْ لم يحصلِ اليقينُ بموتِه ولا طلاقِهِ تربصتٍ العمرَ الطبيعيَّ مائةً وعشرينَ سنةً، وقيلَ مائةً وخمسينَ إلى مائتينِ. وهذَا كما قالَ بعضُ المحققينَ قضيةٌ فلسفيةٌ طبيعيةٌ يتبرأُ الإسلامُ منْها إذِ الأعمارُ قَسْمٌ منَ الخالقِ الجبارِ، والقولُ بأنَّها العادةُ غيرُ صحيحةٍ كما يعرفُه كل مميز، بلْ هوَ أندرُ النادرِ، بلْ مُعْتَرَكُ المنايا كما أخبرَ بهِ الصادقُ بينَ الستينَ والسبعينَ، وقالَ الإمامُ يحيى: لا وجْهَ للتربُّصِ لكنْ إنْ تركَ لها الغائبُ [ما تقوم به]

(7)

فهوَ كالحاضرِ، إذْ لم

(1)

في "المصنف"(4/ 238).

(2)

في "السنن الكبرى"(7/ 446).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في "الأم"(5/ 241).

(5)

في "السنن الكبرى"(7/ 444).

(6)

في "المصنف"(7/ 90 رقم 12332).

(7)

في (ب): "ما يقوم بها".

ص: 247

يفتْها إلَّا الوَطءُ وهوَ حقٌّ له لا لها، [وإن لم يترك لها ما تقوم بها فسخه]

(1)

الحاكمُ عندَ مطالبتِها منْ دونِ انتظارِ لقولِه تعالَى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا}

(2)

، ولحديثِ: " [لا ضررَ و،]

(3)

لا ضِرارَ في الإسلامِ"

(4)

، والحاكمُ وُضعَ لرفعِ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

سورة البقرة: الآية 231.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

وهو حديث حسن.

روي من حديث: عبادة بن الصامت، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر بن عبد اللَّهِ، وعائشة، وعمرو بن عوف، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة.

• أما حديث عبادة بن الصامت فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2340)، والبيهقي (10/ 133)، وأحمد (5/ 326 - 327)، وأبو نعيم في "أخبار أصفهان"(1/ 344).

قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 33 رقم 827): "هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع

"، قلت: والانقطاع بين إسحاق وعبادة، وفيه علة أخرى وهي جهالة حال إسحاق هذا، قال الحافظ في "التقريب" رقم (445): "مجهول الحال".

• وأما حديث ابن عباس، فيرويه عنه عكرمة، وله ثلاث طرق عنه:

الأولى: عن جابر عنه. أخرجه ابن ماجه رقم (2341)، وأحمد (1/ 313)، والطبراني في "الكبير" (11/ 302 رقم 11806). قلت: وهذا في سنده واه، وهو جابر الجعفي، قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 33 رقم 828):"وقد اتهم".

الثانية: عن داود بن الحصين، عن عكرمة به. وزاد:"ولجارك أن يضع في جدارك خشبته". أخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 86)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق"(2/ 97)، والطبراني في "الكبير" (2/ 86 رقم 1387) بدون الزيادة. قلت: هذا سند لا بأس به في الشواهد.

الثالثة: عن عكرمة به. أخرجه ابن أبي شيبة - كما في "نصب الراية"(4/ 384 - 385) وسكت عليه الزيلعي. قلت: وهذا سند لا بأس به في الشواهد.

• وأما حديث أبي سعيد الخدري. فأخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 85)، دون الزيادة، والحاكم (2/ 57 - 58) والبيهقي (6/ 69) من طريق الداروردي، عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عنه وزاد:"من ضارَّ ضرَّه اللَّهِ، ومن شاق شق اللَّهِ عليه".

قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وخالفهما الألباني في "الإرواء" (3/ 410) بقوله:"وهذا وهم منهما معًا، فإن عثمان هذا مع ضعفه لم يخرج له مسلم أصلًا، وأورده الذهبي نفسه في "الميزان"، وقال: "قال عبد الحق في أحكامه: الغالب على حديثه الوهم".

نعم تابعه عبد الملك معاذ النصيبي عن الداروردي به أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" كما في "نصب الراية"(4/ 385) وقال: "قال ابن القطان في كتابه: وعبد الملك هذا لا يعرف له حال ولا يعرف من ذكره". =

ص: 248

المضَارَّةِ في الإيلاءِ والظِّهارِ وهذَا أبلغُ، والفسخُ مشروعٌ بالعيبِ ونحوِه.

قلت: وهذا أحسنُ الأقوالِ، وما سلفَ عنْ علي وعمرَ أقوالٌ موقوفةٌ.

وفي الإرشادِ لابنِ كثير عن الشافعيِّ بسندِهِ إلى أبي الزنادِ قالَ: سألتُ سعيدَ بنَ المسيِّبِ عن الرجلِ لا يجدُ ما ينفقُ على امرأتِهِ قالَ: يفرَّقُ بينَهما، قلتُ: سنَّةً، قالَ: سنَّةً، قالَ الشافعي: الذي يشبهُ أن قولَ سعيدٍ سنةً أنْ يكونَ سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقدْ طوَّلنا الكلامَ في هذا في حواشي "ضَوْءِ النهارِ"

(1)

واخترْنا الفسخَ بالغيبةِ أو بعدمِ قدرةِ الزوجِ علَى الإنفاقِ، نعمْ لو ثبتَ قولُه:

= وقد أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 745 رقم 31) عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرفوعًا وقال الألباني في "الإرواء"(3/ 411): وهذا مرسل صحيح الإسناد. وهذا هو الصواب من هذا الوجه.

• وأما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 86)، وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 385): وأبو بكر بن عياش مختلف فيه. وقال الألباني في الإرواء (3/ 411): "هو حسن الحديث، وقد احتج به البخاري، وإنما علة هذا السند من شيخه ابن عطاء، وهو يعقوب بن عطاء بن أبي رباح وهو ضعيف كما في التقريب".

• وأما حديث جابر، فقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (5193) وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 110) وقال: وفيه محمد بن إسحاق وهو ثقة ولكنه مدلس وقد عنعنه.

• وأما حديث عائشة فله عنها طريقان:

الأول: من طريق الواقدي: أخرجه الدارقطني (4/ 227 رقم 83) وسنده واه جدًّا من أجل الواقدي فإنه متروك، والطريق الأخرى من وجهين آخرين، ومن رواية القاسم عن عائشة.

الوجه الأول: أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1/ 193 رقم 270 - الطحان) وسنده واه جدًّا.

روح بن صلاح ضعيف، وأحمد بن رشدين، قال ابن عدي: كذبوه [المجمع (4/ 110)].

الوجه الثاني: أخرجه أيضًا الطبراني في "الأوسط"(2/ 23 رقم 1037 - الطحان) وقد فات الهيثمي في "المجمع" هذا الطريق. قلت: وفيه أبو بكر بن أبي سَبْرَةَ رموه بالوضع - كما في "التقريب"(2/ 397 رقم 51).

• وأما حديث عمرو بن عوف. فقد ذكره ابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 157 - 158) وقال: إسناده غير صحيح.

• وأما حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي، فقد أخرجه الطبراني في "الكبير"(2/ 86 رقم 1387) وفي سنده إسحاق بن إبراهيم هو ابن سعيد الصواف، لينَ الحديث. قاله الحافظ في "التقريب"(1/ 54 رقم 367).

• وأما حديث أبي لبابة فقد أخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (407).

وخلاصة القول: أن الحديث حسن بطرقه وشواهده.

(1)

لم أعثر عليه في الحاشية المذكورة.

ص: 249

15/ 1053 - وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتهُ حَتى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ"، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإسْنادٍ ضَعِيفٍ

(1)

. [موضوع]

(وعنِ المغيرةِ بن شعبةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: امرأةُ المفقودِ امرأئه حتَّى يَأْتِيَهَا البيانُ. أخرجَهُ الدارقطنيُّ بإسنادٍ ضعيفِ) لكانَ مقوِّيًا لتلكَ الآثارِ إلَّا أنهُ ضعَّفهُ أبو حاتمٍ والبيهقيُّ وابنُ القطانِ وعبدُ الحقِّ وغيرُهم.

‌تحريم الخلوة بالأجنبية

16/ 1054 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبِيتَنَّ رَجُلْ عِنْدَ امْرَأَةٍ إلَّا أنْ يَكُونَ نَاكِحًا أَوْ ذَا مَحْرَمٍ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

. [صحيح]

(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَبِيتَنَّ) منَ البيتوتةِ وهيَ بقاءُ الليلِ (رجلٌ عندَ امرأةٍ إلَّا أنْ يكونَ ناكِحًا أو ذَا محرمٍ. أخرجَهُ مُسلمٍ)، وفي لفظٍ لمسلمٍ

(3)

أيضًا زيادةٌ: عندَ امرأةٍ ثيِّبٍ، قيلَ: إنَّما خصَّ الثيِّبَ لأنَّها التي يُدْخَلُ عليها غالبًا، وأما البِكْرُ فهيَ متصونةٌ في العادةِ مجانبةٌ للرجالِ أشدَّ مجانبةٍ، ولأنة يُعْلَمُ بالأَوْلَى أنهُ إذَا نُهِيَ عن الدخولِ على الثيبِ التي يتساهلُ الناسُ في الدخولِ عليها فبالأَوْلَى البكرُ. والمرادُ منْ قولِه:"ناكِحًا" أي مزوجًا بها. وفي الحديثِ دليل علَى أنَّها تحرمُ الخلوةُ بالأجنبيةِ وأنهُ يباحُ لها الخلوةُ بالمحرَمِ وهذانِ الحكمانِ مُجْمَعٌ عليهما. وقدْ ضَبَطَ العلماءُ المحرَمَ بأنهُ كلُّ مَنْ حَرُمَ عليهِ نكاحُها على التأبِيد بسببٍ مباحٍ يحرِّمُها، فقولُه:"علَى التأبِيدِ" احترازٌ منْ أُخْتِ الزوجةِ وَعَمَّتِهَا وخَالَتِها

(1)

في "السنن"(3/ 312) رقم (255). وهو حديث ضعيف.

قال ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 432): "سالت أبي عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث منكر. ومحمد بن شرحبيل متروك الحديث، يروي عن المغيرة بن شعبة مناكير وأباطيل" اهـ.

"وأعله أيضًا عبد الحق بمحمد بن شرحبيل، وقال: إنه متروك.

وقال ابن القطان في كتابه: وسوار بن مصعب أشهر في المتروكين منه، ودونه صالحٍ بن مالك ولا يعرف، ودونه محمد بن الفضل لا يعرف حاله" اهـ.

وخلاصة القول: أن الحديث موضوع، واللَّهُ أعلم.

(2)

في "صحيحه" رقم (2171).

(3)

في "صحيحه" رقم (19/ 2171).

ص: 250

ونحوهِنَّ، وقولُه:"بسببٍ مباحٍ"، احترازٌ عنْ أمِّ الموطوءةِ لشبهة وبنتُها فإنَّها حرامٌ على التأبيدِ لكنْ لا بسببٍ مباحٍ، فإنَّ وَطْءَ الشُّبهةِ لا يوصفُ بأنهُ مباحٌ ولا محرَّمٌ ولا بغيرِهِمَا منْ أحكامِ الشرعَ الخمسةِ لأنهُ ليسَ فعلٌ مكلَّفٌ. وقولُه:"يحرِّمُها"، احترازٌ عن الملاعنةِ، فإنَّها محرَّمةٌ على التأبيدِ لا لحرمتِها بلْ تغليظًا عليها. ومفهومُ قولِهِ: لا يَبيتنَّ، أنهُ يجوزُ لهُ البقاءُ عندَ الأجنبيةِ في النهارِ خلوةً أو غَيرَها، لكنَّ قولَه:

17/ 1055 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لا يخلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا معَ ذي محرَمٍ. أخرجَه البخاريُّ). دلَّ على تحريمِ خَلْوَتِهِ بها ليلًا أوْ نهارًا، وهُوَ دليلٌ لما دلَّ عليهِ الحديثُ الذي قَبْلَهُ وزيادةٌ، وأفادَ جوازَ خلوةِ الرجلِ بالأجنبيةِ معَ مَحْرَمِها، وتسميتُها خلوةً تسامحٌ، فالاستثناءُ منقطعٌ.

‌استبراء المسبيَّة وجواز وطئها قبل الإسلام

18/ 1056 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: في سَبَايَا أَوْطَاسٍ: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتى تَضَعَ وَلَا غَيرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتى تَحِيضَ حَيضَةً"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(3)

. [صحيح]

(1)

في "صحيحه" رقم (5233).

قلت: وأخرجه مسلم رقم (424/ 1341).

(2)

في "السنن" رقم (2157).

(3)

في "المستدرك"(2/ 195)، وصحَّحه على شرط مسلم. وأقره الذهبي.

قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 171)، والبيهقي (7/ 449)، وأحمد (3/ 62)، من طريق شريك، عن قيس بن وهب (زاد أحمد، وأبي إسحاق) عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري.

قال الحافظ في "التقريب"(1/ 351 رقم 64): "شريك بن عبد اللَّهِ النخعي الكوفي القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد اللهِ، صدوق، يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. وكان عادلًا فاضلًا عابدًا، شديدًا على أهل البدع

".

ومع ذلك فقد حسَّن الحافظ في "التلخيص"(1/ 172) إسناده.

قلت: وللحديث شواهد وبها يكون الحديث صحيحًا، واللَّهُ أعلم.

ص: 251

- وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في الدَّارَقُطْنيِّ

(1)

. [حسن]

(وعنْ أبي سعيد رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في سَبَايَا أوطاسٍ) اسمُ وادٍ في ديارِ هَوَازِنَ وهوَ موضعٌ [بقرب]

(2)

حُنَيْنٍ، وقيلَ: وادي أوطاسٍ غيرُ وادي حنينٍ (لا تُوْطَأُ حاملٌ حتَّى تضعَ، ولا غيرُ ذاتِ حَمْلٍ حتى تحيضَ حيضةً. أخرجَهُ أبو داودَ وصحَّحَهُ الحاكمُ ولهُ شاهدٌ عن ابن عباسٍ) بلفظِ نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ تُوطَأَ حاملٌ حتَّى تضعَ أوْ حائلٌ حتى تحيضَ، (في الدارقطني) إلَّا أنه من روايةٍ شُريكِ القاضي وفيهِ كلامٌ

(3)

قالَه ابنُ كثيرٍ في "الإرشادِ". والحديثُ دليلٌ على أنهُ يجبُ على السابي استبراءُ المسبيَّةِ إذا أرادَ وطْأهَا بحيضةٍ [إذا]

(4)

كانتْ حائلًا ليتحققَ براءةُ رَحِمِهَا، وبوضعِ الحمْلِ إنْ كانتْ حاملًا، وقيسَ على المسبيَّةِ المشتراةِ والمتملَّكَةِ بأيِّ وجْهٍ منْ وجوهِ التمليكِ بجامعِ ابتداءِ الملك. وظاهرُ قولِه:"ولا غيرُ ذاتِ حَمْلٍ حتَّى تحيضَ حيضةً" عمومُ البِكْرِ والثيِّبِ، فالثيِّبُ لِمَا ذُكِرَ والبِكْرُ أَخْذًا بالعمومِ وقياسًا على العِدَّةِ فإنَّها تجبُ على الصغيرةِ معَ العلم ببراءةِ الرَّحِمِ وإلى هذا ذهبَ الأكثرونَ.

وذهبَ آخرونَ إلى أن الاستبراءَ إنما يكونُ في حقِّ مَنْ لم يعلمْ براءةَ رحمِها، وأما مَنْ علمَ براءةَ رحِمِهَا فلا استبراءَ عليها، وهذَا رواهُ عبدُ الرزاقِ

(5)

عن ابن عمرَ قالَ: إذا كانتِ الأمَةُ عَذْراءَ لمْ تستبرئ إنْ شاءَ، ورواهُ البخاريُّ في الصحيحِ

(6)

(1)

في "السنن"(3/ 257 رقم 50).

وقال الألباني في "الإرواء"(1/ 200): "سكت عليه الزيلعي ثم العسقلاني وإسناده عندي حسن، فإن رجاله كلهم ثقات معروفون من رجال مسلم، غير أبي محمد بن صاعد، وهو يحيى بن محمد بن صاعد وهو ثقة حافظ، وشيخه عبد اللَّهِ بن عمران العابدي وهو صدوق كما قال ابن أبي حاتم في "الجرح" (2/ 2/ 130) عن أبيه. وله طريق أخرى من رواية مجاهد عن ابن عباس مرفوعًا بالشطر الأول منه وزاد: "أتسقي زرع غيرك"، أخرجه الحاكم (2/ 137) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي وهو كما قالا" اهـ.

والخلاصة: أن الحديث حسن، والله أعلم.

(2)

في (ب): "حرب".

(3)

ذكره الحافظ في "التقريب"(1/ 35 رقم 64) وقد تقدم قريبًا.

(4)

في (ب): "إن".

(5)

في "المصنف"(7/ 227 رقم 12906).

(6)

(4/ 423 - مع الفتح) معلقًا. ووصله البيهقي (7/ 450)، وصحَّحه الألباني في "الإرواء"(7/ 214 رقم 2139).

ص: 252

عنهُ، وأخرجَ في الصحيحِ

(1)

مثلَه عنْ عليٍّ رضي الله عنه منْ حديثٍ بريدةَ، ويؤيدُ هذا مفهومُ القولِ ما أخرجَه أحمدُ منْ حديثٍ رُوَيْفَعٍ

(2)

: "مَنْ كَانَ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا ينكحُ ثيِّبًا من السَّبايا حتَّى تحيضَ"، وإلى هَذا ذهبَ مالكٌ على تفصيلٍ أفادَه قولُ المازَرِي [من المالكية]

(3)

في تحقيقِ مذهبِه حيث قالَ: إنَّ القولَ الجامعَ في ذلكَ أن كلَّ أمَةٍ أَمِنَ عليها الحملَ فلا يلزمُ فيها الاستبراءُ، وكلُّ مَنْ غَلَبَ على الظنِّ كونُها حاملًا أو شكَّ في حملها أو تردَّدَ فيهِ فالاستبراءُ لازِمٌ فيها، وكلُّ مَنْ غلبَ على الظنِّ براءةُ رحِمِها لكنَّه يجوزُ حصولُه فالمذهبُ على قولَيْنِ في ثبوتِ الاستبراءِ وسقوطِه، وأطالَ بما خلاصتُه: أن مأخذَ مالكٍ في الاستبراءِ إنَّما هوَ العلمُ ببراءةِ الرحم بحيثُ لا تُعْلَمُ ولا تُظَنُّ البراءةُ وجبَ الاستبراءُ وحيثُ تُعْلَمُ أو تُظَنُّ البراءةُ لم يجب الاستبراء، وبهذا قالَ ابنُ تيميةَ وتلميذُه ابنُ القيِّمِ

(4)

. والأحاديثُ الواردةُ في البابِ تشيرُ إلى أن العِلَّةَ الحملُ أو تجويزُه، وقدْ عرفتَ أن النصَّ وردَ في سبايا أوطاس وقِيسَ عليهِ انتقالُ الملكِ بشراءٍ أو غيرُه. وذهبَ داودَ الظاهريُّ

(5)

إلى أنهُ لا يجبُ الاستبراءُ في غيرِ السَّبَايَا لأنهُ لا يقولُ بالقياسِ فوقفَ على محلِّ النصِّ، ولأن الشّراءَ ونحوَه عقد كالتزويج.

واعلمْ أن ظاهرَ أحاديثِ السَّبايا جوازُ وطْئِهِنَّ وإنْ لم يدخلْنَ في الإسلامٍ فإنهُ صلى الله عليه وسلم لم يذكرْ في حلِّ الوطْءِ إلَّا الاستبراءُ بحيضةٍ أو بوضعِ الحملِ، ولوْ كان الإسلامُ شرطًا لبَيَّنه وإلَّا لزِمَ تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ ولا يجوزُ، فالذي قَضَى بهِ إطلاقُ الأحاديثَ وعملُ الصحابةِ في عهدِ [الرسول]

(6)

صلى الله عليه وسلم يقضي جوازُ الوطْءِ للمسبيَّةِ منْ دونِ إسلامٍ، وقدْ ذهبَ إلى هذا طاوسُ وغيرُه. واعلمْ أن الحديثَ دلَّ بمفهومِه على جوازِ الاستمتاعِ قبلَ الاستبراءِ بدونِ الجماعِ، وعليهِ دلَّ

(1)

في "صحيحه"(8/ 66 رقم 4350).

قلت: وأخرجه أحمد في "المسند"(5/ 359).

(2)

وهو حديث حسن تقدم تخريجه رقم (13/ 1051) من كتابنا هذا.

(3)

زيادة من (ب).

(4)

انظر ما قاله ابن القيم في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء "زاد المعاد"(5/ 711 - 745).

(5)

انظر: "المحلَّى"(10/ 315 - 320 رقم 2011).

(6)

في (ب): "رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ص: 253

فعلُ ابن عمرَ أنهُ قالَ: وقعتْ في سهمي جاريةٌ يومَ جَلُولَاءَ

(1)

كأنَّ عُنُقَها إبريقُ فضةٍ، قالَ: فما ملكتُ نفسي أنْ جعلتُ أُقَبِّلُها والناسُ ينظرونَ. أخرجهُ البخاري

(2)

.

‌الولد للفراش وللعاهر الحجر

19/ 1057 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْوَلَدُ لِلْفِراشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثهِ

(3)

. [صحيح]

- وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ في قِصَّةٍ ستأتي قريبًا

(4)

. [صحيح]

- وَعَنِ ابْنِ مَسعودٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ

(5)

. [صحيح لغيره]

وَعَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ أبي دَاوُدَ

(6)

. [ضعيف]

(وعنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: الولدُ للفراشِ وللعاهرِ الحَجَرُ. متفقٌ عليهِ من حديثِهِ) أي أبي هريرةَ (ومن حديثٍ عائشةَ في قِصةٍ ستأتي قريبًا، وعنِ ابن مسعودٍ عِنْدَ النَّسائِيِّ، وَعَنْ عُثْمَانَ عِندَ أبي دَاودَ). قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: إنهُ جاءَ عنْ بضعٍ وعشرينَ نَفْسًا منَ الصحابةِ. والحديثُ دليلٌ على ثبوتِ نسبِ الولدِ بالفراشِ منَ الأبِ. واختلفَ العلماءُ في معنَى الفراشِ، فذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ اسمٌ

(1)

جلولاء: ناحية من نواحي السواد، في طريق خُراسان، فتحها المسلمون في السنة التاسعة عشر. "معجم البلدان"(2/ 107)، و"معجم ما استعجم"(2/ 390).

(2)

لم يخرجه البخاري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 227 - 228).

وانظر: "التلخيص الحبير"(4/ 3).

(3)

البخاري: رقم (6818)، ومسلم (37/ 1458).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1157)، والنسائي (6/ 180 رقم 3482 و 3483)، وابن ماجه رقم (2006)، وأحمد (2/ 239، 280، 386، 409، 466، 475، 492).

والدارمي (2/ 152).

(4)

أخرجه البخاري رقم (2053) ومسلم رقم (36/ 1457)، ومالك (2/ 739 رقم 20)، وأحمد (6/ 129، 200، 237)، وأبو داود رقم (2237)، والنسائي (6/ 180 رقم 3484) وابن ماجه رقم (2004)، والدارقطني مختصرًا (2/ 152).

(5)

أخرجه النسائي (6/ 181 رقم 3486)، وقال أبو عبد الرحمن: ولا أحسب هذا عن عبد الله بن مسعود، والله تعالى أعلم. وهو صحيح لغيره.

(6)

أخرجه أبو داود رقم (2275)، وهو حديث ضعيف.

ص: 254

للمرأةِ وقدْ يُعَبَّرُ بهِ عنْ حالةِ الافتراشِ، وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنهُ اسمٌ للزوْجِ ثمَّ اختلفُوا بماذَا يثبتُ، فعندَ الجمهورِ إنَّما يثبتُ للحرَّةِ بإمكانِ الوطْءِ في نكاحٍ صحيحٍ أوْ فاسدٍ وهوَ مذهبُ الهادويةِ والشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ أنهُ يثبتُ بنفسِ العقْدِ وإنْ علمَ أنهُ لم يجتمعْ بها بلْ ولو طلَّقها [عقيبهُ]

(1)

في المجلسِ [ثبت الفراش]

(2)

، وذهبَ ابنُ تيميةَ إلى أنهُ لا بدَّ منْ معرفةِ الدخولِ المحقَّقِ واختارَهُ تلميذُه ابنُ القيِّمِ قالَ: وهلْ يَعُدُّ أهلُ اللغةِ وأهلُ [المعرفة]

(3)

المرأةَ فِرَاشًا قبلَ البناءِ بها، وكيفَ تأتي الشريعةُ بإلحاقِ نسبِ منْ لم يَبْنِ بامرأتِهِ ولا دخلَ بِها ولا اجتمعَ بها لمجردِ إمكانِ ذلكَ، وهذَا الإمكانُ قدْ يُقْطَعُ بانتفائِه عادةً فلا تصيرُ المرأةُ فِرَاشًا إلا بدخولٍ محقَّقٍ. قالَ في "المنارِ"

(4)

: "هذا هوَ المتيقنُ ومِنْ أينَ لنا الحكمُ بالدخولِ بمجردِ الإمكانِ فإنَّ غايتَهُ أنهُ مشكوكٌ فيهِ ونحنُ متعبَّدونُ في جميعِ الأحكامِ بعلمٍ أو ظنٍّ، والممكنُ أعمُّ منَ المظنونِ، والعجبُ منْ تطبيقِ الجمهورِ بالحكمِ معَ الشكِّ" فظهرَ لكَ قوةُ كلامِ ابن تيميةَ وهوَ روايةٌ عنْ أحمدَ هذا في ثبوتِ فراشِ الحرَّةِ، وأما ثبوتُ فراشِ الأمَةِ فظاهرُ الحديثِ شمولُه لهُ وأنهُ يثبتُ الفراشُ للأَمَةِ بالوطْءِ إذا كانتْ مملوكةً للواطِئِ أو في شبهةِ مِلْكٍ إذا اعترفَ السيِّدُ أو ثبتَ بوجهٍ. والحديثُ واردٌ في الأَمَةِ ولفظُه في روايةٍ عائشةَ

(5)

قالتْ: اختصمَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ وعبدُ بنُ زمعةَ في غلام، فقالَ سعدٌ: يا رسولَ اللَّهِ هذا ابنُ أخي عتبة

(6)

بنَ أبي وقاصٍ عهدَ إليَّ أنهُ ابنه انظر إلى شِبْهِهِ، وقالَ عبدُ بنُ زمعةَ: هذا أخي يا رسولَ اللَّهِ وُلدَ على فراشِ أبي منْ وليدتِه. فنظرَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى شِبْهِهِ فَرأى شَبَهًا بَيِّنًا بعتبةَ فقالَ: "هوَ لكَ يا عبدُ بنُ زمعةَ، الولدُ للفراشِ وللعاهرِ الحَجَرُ واحتجبي منهُ يا سودةُ"، فأثبتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الولدَ بفراشِ زمعةَ للوليدةِ المذكورةِ فسببُ الحكمِ ومحلُّه إنَّما كانَ في الأمَةِ. وهذَا قولُ الجمهورِ وإليه ذهبَ الشافعيُّ ومالكٌ والنخعُّي وأحمدَ وإسحاقُ، وذهبتِ الهادويةُ

(1)

في (أ): "عقيب".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (ب): "العرف".

(4)

للمقبلي (1/ 517).

(5)

تقدم تخريج حديث عائشة في حديث الأب.

(6)

مات عتبة هذا كافرًا وكان أوصى أخاه سعدًا باستلحاق هذا المولود الذي ولد على فراش زمعة.

ص: 255

والحنفيةُ إلى أنهُ لا يثبتُ الفراشُ للأَمَةِ إلَّا بدعْوى الولدِ ولا يكفي الإقرارُ بالوطْءِ فإن لم يدَّعِهِ فلا نسبَ وكانَ مِلْكًا لمالِك الأمَةِ، وإذا ثبتَ فراشُها بدعوته أولِ ولدٍ منْها فما ولدتْه بعدَ ذلكَ لحقَ بالسيِّدِ وإنْ لم يدعِ المالكُ ذلكَ قالُوا: وذلكَ للفرقِ بينَ الحرَّةِ والأمَةِ فإنَّ الحرَّةَ ترادُ للاستفراشِ والوطْء بخلافٍ مِلْكِ اليمينِ فإنَّ ذلكَ تابعٌ وأغلبُ المنافعِ غيرُه. وأُجِيبَ بأنَّ الكلامَ في الأَمَةِ التي اتُّخِذَتْ للوطْءِ، فإنَّ الغرضَ منَ الاستفراشِ قدْ حصلَ بها فإذا عرفَ الوطْءَ كانتْ فِرَاشًا ولا يحتاجُ إلى استلحاقٍ، والحديثُ [دل]

(1)

لذلكَ؛ فإنهُ لِمَا قالَ عبدُ بنُ زمعةَ: ولدَ على فَرَاش أبي ألحقَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بزمعةَ صاحبِ الفراشِ ولم يُنْظَرْ إلى الشَّبَه البيِّنِ الذِي فيهِ المخالفةُ للملْحوقِ بهِ. وتأولتِ الهادويةُ والحنفيةِ حديثَ أبي هريرةَ بتأويلاتٍ كثيرةٍ وزعمُوا أنهُ صلى الله عليه وسلم لم يُلْحِقِ الغلامَ المتنازَعَ فيهِ بنسبِ زمعةَ واستدلُّوا بأنهُ صلى الله عليه وسلم أمرَ سودةَ بنتَ زمعةَ بالاحتجاب منْهُ. وأجيبَ بأنهُ أمَرَها بالاحتجابِ منهُ على سبيلِ الاحتياطِ والوَرعِ والصيانةِ لأمهاتِ المؤمنينَ منْ بعضِ المباحاتِ معَ الشُّبهةِ وذلكَ لما رآهُ صلى الله عليه وسلم في الولدِ منَ الشَّبَهِ البيِّنِ بعتبةَ بن أبي وقاصٍ، وللمالكيةِ هُنا مسلكٌ آخرُ فقالوا: الحديثُ دال على مشروعيةِ حكمٍ بينَ حكميْنِ وهو أنْ يأخذَ الفرعُ شَبَهًا منْ أكثرِ منْ أصلٍ فيعطى أحكامًا فإنَّ الفراشَ يقتضيِ إلحاقَهُ بزمعةَ والشَّبهُ يقتضي إلحاقَه بعتبةَ فأَعْطَى الفرعُ حُكْمًا بينَ حكمين فَرُوْعِيَ الفراشُ في إثباتِ النسبِ وروعيَ الشَّبهُ البيِّنُ بعتبةَ في أمرٍ سودةَ بالاحتجابِ، قالُوا: وهذَا أَوْلَى التقديراتِ، فإنَّ الفرْعَ إذا دارَ بينَ أصليْنِ فأُلْحِقَ بأحدِهِما فقطْ فقدْ أُبْطِلَ شبْهُهُ بالثاني منْ كلِّ وجهٍ، فإذا الْحِقَ بكلِّ واحدٍ منْهما منْ وجْهٍ كانَ أوْلَى منْ إلغاءِ أحدِهِما في كلِّ وجْهٍ، فيكونُ هذا الحكمُ وهوَ إثباتُ النَّسبِ بالنظرِ إلى ما يجبُ للمدَّعي منْ أحكامِ البنوةِ ثابتًا وبالنظرِ إلى ما يتعلَّقُ بالغيرِ منَ النظرِ إلى المحارِمِ غيرُ ثابتٍ، قالُوا: ولا يمتنعُ ثبوتُ النسبِ منْ وجْهٍ دونَ وجْهٍ، كما ذهبَ أبو حنيفةَ والأوزاعيُّ وغيرُهم إلى [أنه]

(2)

لا يحلُّ أنْ يتزوَّجَ بنتَه منَ الزِّنَى وإنْ كانَ لها حكمُ الأجنبيةِ، وقدِ اعترضَ هذَا [المحقق العلامة تاج الدين]

(3)

ابنُ

(1)

في (ب): "دال".

(2)

في (أ): "أن".

(3)

زيادة من (أ).

ص: 256

دقيقِ العيدِ بما ليسَ بناهضٍ. وفي الحديثِ دليلٌ على أن لغيرِ الأبِ أنْ يستلْحقَ الولدَ، فإنَّ عبدَ بنَ زمعةَ استلحقَ أخاهُ بإقرارهِ [بالفراش]

(1)

لأبيهِ وظاهرُ الروايةِ أن ذلك يصح وإن لم يصدقْه الورثةُ فإنَّ سودَة لم يذكرْ منْها تصديقٌ ولا إنكارٌ إلا أنْ يُقَالَ إنَّ سكوتَها قائمٌ مقامَ الإقرارِ، وفي المسئلةِ قولانِ:

الأول: أنهُ إذا كان المستلحقُ غيرَ الأبِ ولا وارثَ غيرُه وذلكَ كأنْ يستلحقُ الجدُّ ولا وارثَ سواهُ صحَّ إقرارُه وثبتَ نسبُ المقرِّ به [كذا]

(2)

إنْ كانَ المستحلقُ بعضَ الورثةِ وصدَّقَهُ الباقونَ والأصلُ في ذلكَ أن مَنْ حازَ المالَ ثبتَ النسبُ بإقرارِه واحِدًا كانَ أو جماعةً، وهذا مذهبُ أحمدَ والشافعيِّ لأنَّ الورثةَ قامُوا مقامَ الميِّتِ وحلُّوا محلَّهُ.

الثاني: للهادويةِ أنهُ لا يصحُّ الاستلحاقُ منْ غيرِ الأبِ وإنَّما المقَرُّ بِه يشاركُ المقِرَّ في الإرثِ دونَ النسبِ، ولكنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم لعبدٍ هوَ أخوكَ كما أخرجَه البخاريُّ

(3)

دليلُ ثبوتِ النسبِ في ذلكَ. ثمَّ اختلفَ القائلونَ بلحوقِ النسبِ بإقرارِ غيرِ الأب هلْ هوَ إقرارُ خلافةٍ ونيابةٍ عن الميِّتِ فلا يشترطُ عدالةُ المستلْحَقِ [بلْ]

(4)

وَلا إسلامُه، أوْ هوَ إقرارُ شهادةٍ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ أهليةُ الشهادةِ؟ فقالتِ الشافعيةُ وأحمدُ: إنهُ إقرارُ خلافةٍ ونيابةٍ، وقالتِ المالكية: إنهُ إقرارُ شهادةٍ، و [استدلت]

(5)

الهادويةُ والحنفيةُ بالحديثِ على عدمِ ثبوتِ النَّسبِ بالقيافة لقولِه: "الولدُ للفراشِ"

(6)

، قالُوا: ومثلُ هذَا التركيبِ يفيدُ الحصرَ ولأنهُ لو ثبتَ بالقيافةِ لكانتْ قدْ حصلتْ بما رآهُ منْ شَبَهِ المدَّعِي بهِ بعتبةَ ولم يحكمْ لهُ بهِ بلْ حُكِمَ بهِ لغيرِه، وذهبَ الشافعيُّ وغيرُه إلى ثبوت النسبِ بالقيافة إلا أنهُ إنما يثبتُ بها فيما حصلَ منْ وطْأَيْنِ محرَّميْنِ كالمشتري والبائع يطآنِ الجاريةَ في طُهْرٍ قبلَ الاستبراءِ واستدلُّوا بما أخرَجَهُ الشيخانِ

(7)

منِ استبشارِهِ صلى الله عليه وسلم بقولِ مُجَزِّزٍ المدلجيِّ وقد رَأَى

(1)

في (ب): "بأن الفراش".

(2)

في (ب): "كذلك".

(3)

في "صحيحه" رقم (4303) من حديث عائشة.

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (ب): "استدل".

(6)

وهو حديث صحيح، تقدَّم تخريجه رقم (19/ 1057) من كتابنا هذا.

(7)

أخرجه البخاري رقم (3555)، ومسلم رقم (1459)، من حديث عائشة.

ص: 257

قدمي أسامةَ بنَ زيدٍ وزيدٍ إنَّ هذهِ الأقدامَ بعضُها منْ بعضٍ، فاستبشَر صلى الله عليه وسلم بقولِه وقرَّرَهُ على قيافتِه، وسيأتي الكلامُ فيهِ آخرِ بابِ الدَّعاوَى

(1)

، وبما ثبتَ منْ قولِه في قصةِ اللِّعانِ

(2)

: إنْ جاءتْ بهِ على صفةِ كَذَا فهوَ لفلانٍ، أو علَى صفةِ كَذَا فهوَ لفلانٍ، فإنهُ دليلُ الإلحاقِ بالقيافةِ ولكنْ مَنَعَتْهُ الأيمانُ عن الإلحاقِ، فدلَّ على أن القيافةَ مقتضٍ لكنَّه [عارضَ]

(3)

العملَ بها المانعُ؛ وبأنهُ صلى الله عليه وسلم قال لأمِّ سُلَيْمٍ لما قالتْ: أوَ تَحتلمُ المرأةُ؟ فقال: فمنْ أينَ يكونُ الشَّبَهُ

(4)

؟ ".

ولأنهُ أمرَ سودةَ بالاحتجاب كما سلفَ لما رأى منَ الشَّبَهِ؛ وبأنهُ قالَ للذي ذكرَ لهُ أن امرأتَه [ولدت]

(5)

علىَ غيرِ لونِه: لعلَّه نَزَعَهُ عِرْقٍ

(6)

، فانهُ ملاحظةٌ للشَّبهِ ولكنَّه لا حكمَ للقيافةِ معَ ثبوتِ الفراشِ في ثبوتِ النسبِ.

وقدْ أجابَ النُّفاةُ للقيافةِ بأجوبةٍ لا تخلُو عنْ تكلُّفِ، والحكمُ الشرعيُّ يثبتُه الدليلُ الظاهرُ، فالتكلفُ لردِّ [الظواهرِ]

(7)

منَ الأدلةِ [محاباة]

(8)

عن المذْهبِ ليسَ منْ شأنِ المتَّبعِ لما جاءَ عن اللَّهِ وعنْ رسوله، وأما الحصْرُ في حديثٍ: الولدُ للفراشِ، فنعمْ هوَ لا يكونُ الولدُ إلا للفراشِ معَ ثبوتهِ والكلامُ مع انتفائِهِ؛ ولأنهُ قدْ يكونُ حَصْرًا أغلبيًا وهوَ غالبُ ما يأتي منَ الحصرِ، فإنَّ الحصْرَ الحقيقيَّ قليلٌ فلا يقالُ قدْ رجعتُم إلى ما ذممتُم منَ التأويلِ.

وأما قولُه: وللعاهر - أي الزَّاني - الحجرُ، فالمرادُ به الخيبةُ والحِرْمانُ، وقيلَ: لهُ الرميُ بالحجارةِ، إلا أنهُ لا يخْفَى أنه [يقتصر]

(9)

الحديثُ على الزاني المحصَنِ والحديثُ عام.

* * *

(1)

رقم الحديث (10/ 1336)، من كتابنا هذا.

(2)

وهو حديث متفق عليه، تقدَّم تخريجه برقم (3/ 1532) من كتابنا هذا.

(3)

في (أ): "عارضه".

(4)

أخرجه مسلم رقم (30/ 311) من حديث أنس.

(5)

في (ب): "أتت بولد".

(6)

وهو حديث متفق عليه، تقدم تخريجه رقم (9/ 1538) من كتابنا هذا.

(7)

في (أ): "الظاهر".

(8)

في (ب): "محاماة".

(9)

في (ب): "يقصرُ".

ص: 258

[الباب الرابع] باب الرضاع

بكسر الراء وفتحها، ومثله الرضاعة

‌لا يصير الصبي رضيعًا بمصِّه للثدي مرة أو مرتين

1/ 1058 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(عنْ عائشةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تحرِّمُ المصَّةُ والمصَّتانِ. أخرجَهُ مسلمٌ). المصَّةُ الواحدةُ منَ المصِّ، وهوَ أخذُ اليسيرِ منَ الشيءِ كما في الضياءِ، وفي "القاموس"

(2)

: مَصِصْتُهُ بالكسرِ أمَصُّهُ، ومَصَصْتُهُ أمُصُّهُ، كخصَصْتُهُ أخُصُّهُ: شَرِبْتُهُ شُرْبًا رفيقًا. والحديثُ دلَّ على أن مصَّ الصبيِّ للثدي مرةً أو مرتينِ لا يصيرُ بهِ رَضِيعًا وفي المسألةِ أقوالٌ:

الأول: أن الثلاثَ فَصاعِدًا تحرِّمُ وإلى هَذا ذهبَ داودُ وأتباعُهُ وجماعةٌ منَ العلماءِ لمفهوم حديثٍ مسلمٍ هذَا وحديثُه الآخرُ بلفظِ: "لا تحرِّمُ الإملاجةُ والإملاجَتَانِ"

(3)

، فأفادَ بمفهومِهِ تحريمَ ما فوقَ الاثنتينِ.

القولُ الثاني: لجماعةٍ منَ السلفِ والخلَفِ وهوَ أن قليلَ الرِّضاعِ وكثيرَهُ يحرِّمُ، وهذَا يُرْوَى عنْ عليٍّ وابنِ عباسٍ وآخرينَ منَ السلفِ وهوَ مذهبُ الهادويةِ

(1)

في "صحيحه"رقم (1450).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 96)، وأبو داود رقم (2063)، والنسائي (6/ 101)، والترمذي رقم (1150)، وابن ماجه رقم (1940).

(2)

"القاموس المحيط"(ص 814).

(3)

أخرجه مسلم رقم (18/ 1451).

ص: 259

والحنفيةِ ومالكٍ وقالُوا: حدُّه ما وصلَ الجوفَ بنفسِه. وقد ادُّعِيَ الإجماعُ على أنهُ يحرِّمُ منَ الرِّضاعِ ما يفطرُ الصائمَ، واستدلُّوا بأنهُ تعالَى علَّق التحريمَ باسمِ الرضاعِ فحيثُ وجدَ اسمُه وجدَ حُكْمُهُ، ووردَ الحديثُ موافِقًا للآيةِ فقالَ صلى الله عليه وسلم:"يَحْرُمُ منَ الرِّضَاعِ ما يَحْرُمُ منَ النسبِ"

(1)

. ولحديثِ عقبةَ الآتي

(2)

، [وقولُهُ]

(3)

صلى الله عليه وسلم: "كيفَ وقدْ زعمتْ أنَّها أرضعتكما" ولم يستفصل عن عدد [الرضعات]

(4)

، فهذه أدلتهم ولكنها اضطربتْ أقوالُهم في ضبطِ الرضعةِ وحقيقتها اضْطرابًا كَثِيرًا ولم يرجعْ إلى دليلٍ.

ويُجابُ عما ذكروهُ منَ التعليقِ باسمِ الرَّضاعِ أنهُ مُجْمَلٌ بيَّنهُ الشارعُ بالعددِ وضَبَطَهُ بهِ وبعدَ البيانِ لا يقالُ إنهُ تركَ الاستفصالَ.

القول الثالث: إنَّها لا تُحرِّم إلَّا خمسُ رضعات وهو قولُ ابن مسعودٍ وابنِ الزبيرِ والشافعيِّ وروايةٌ عنْ أحمدَ، واستدلُّوا بما يأتي منْ حديثٍ عائشةَ

(5)

وهوَ نصٌّ في الخمسِ. وبأنَّ سهلةَ بنتَ سهيلٍ أرضعتْ سَالِمًا خمسَ رضعاتٍ ويأتي أيضًا

(6)

. وهذا وإنْ عارضَه مفهومُ حديثٍ المصَّةِ والمصَّتَانِ فإنَّ الحكمَ في هذا منطوقٌ وهوَ أَقْوَى منَ المفهومِ فهوَ مقدَّمٌ عليهِ، وعائشةُ وإنْ روتْ أن ذلكَ كانَ قرآنًا فإنَّ لهُ حُكْمَ خبرِ الآحادِ في العملِ بهِ كما عُرِف في الأصولِ، وقدْ عَضَدَهُ حديثُ سهلةَ فإن فيهِ أنَّها أرضعتْ سالمًا خمسَ رَضعاتٍ لتحرُمَ عليهِ وإنْ كانَ فعل صحابيةٍ فإنهُ دالٌ أنهُ قدْ كانَ متقرِّرًا عندَهم [أنها]

(7)

لا [تحرم]

(8)

إلا الخمسُ الرضعاتِ ويأتي تحقيقُه. وأما حقيقةُ الرضعةِ فَهيَ المرةُ مِنْ الرَّضَاعِ كالضربةِ من الضربِ والجلسةِ منَ الجلوسِ، فمتَى الْتَقَمَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ وامتصَّ منهُ ثمَّ تركَ ذلكَ باختيارِهِ منْ غيرِ عارضٍ كانَ ذلكَ رضعةً، والقطعُ لعارضٍ كنَفَسٍ أوِ استراحةٍ يسيرةٍ أو لشيءٍ يلهِيهِ ثمَّ يعودُ منْ قريبٍ لا يخرجُها عنْ كَوْنِها رضعةً واحدةً، كما أن الآكِلَ إذا قطعَ أكْلَه بذلكَ ثم عادَ عنْ قريبٍ كانَ ذلكَ أكلةً واحدةً، وهذا

(1)

أخرجه البخاري رقم (2645)، ومسلم رقم (1447) من حديث ابن عباس.

(2)

وهو حديث صحيح سيأتي رقم (10/ 1067) من كتابنا هذا.

(3)

في (أ): "ولقوله".

(4)

في (أ): "الرضاع".

(5)

وهو حديث صحيح سيأتي رقم (5/ 1062) من كتابنا هذا.

(6)

وهو حديث صحيح سيأتي رقم (3/ 1060) من كتابنا هذا.

(7)

في (ب): "أنه".

(8)

في (ب): "يحرم".

ص: 260

مذهبُ الشافعيِّ في تحقيقِ الرضعةِ الواحدةِ وهوَ موافقٌ للغةِ، فإذا حصلتْ خمسُ رَضَعَاتٍ على هذهِ الصفةِ حَرَّمَتْ.

‌لا يحرِّم من الرضاع إلا ما كان من مجاعة

2/ 1059 - وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانكُنَّ، فإنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنْها)[أي عنْ عائشةَ](قالتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انظرْنَ منْ إخوانُكُنَّ فإنَّما الرَّضاعةُ منَ المجاعةِ. متفقٌ عليهِ). في الحديثِ قصةٌ وهوَ أنهُ صلى الله عليه وسلم دخلَ على عائشةَ وعندَها رجلٌ، فكانهُ تغيَّرَ وجْهُهُ صلى الله عليه وسلم، كأنهُ كرهَ ذلكَ فقالتْ: إنهُ أخي فقال: "انظرْنَ منْ إخوانُكُنَّ فإنَّما الرَّضاعةُ منَ المجاعةِ". قالَ المصنفُ

(2)

: لم أقفْ على [اسم هذا الرجل]

(3)

وأظنُّه ابنًا لأبي الْقَعِيْسِ. وقولُه: انظرنَ، أمر بالتحقُّقِ في أمرٍ الرضاعَةِ، هلْ هوَ رضاعٌ صحيحٌ بشرطِه منْ وقوعِهِ في زمنِ الرَّضَاعِ ومقدارِ الإرْضَاعِ؛ فإنما الحكمُ الذي ينشأُ منَ الرَّضاعِ إنَّما يكونُ إذا وقعَ الرضاعُ [المشروط]

(4)

. وقالَ أبو عبيدٍ: معناهُ أنهُ الذي إذا جاعَ كانَ طعامُهُ الذي يشبعُهُ اللبنَ منَ الرضاعِ لا حيثُ يكونُ الغذاءُ بغيرِ الرضاع، وهوَ تعليل لإمعانِ التحققِ في شأنِ الرضاع، وإنَّ الرضاعَ الذي تثبتُ بهِ الحرُمة وتحلُّ بهِ الخلوةُ هوَ حيثُ يكونُ الرضيعُ طفلًا يسدُّ اللبنُ جوعته؛ لأنَّ معدتَه ضعيفة يكفيْها اللبنُ وينبتُ بذلكَ لحمُه فيصيرُ جُزْءًا منَ المرضعةِ فيشتركُ في الحُرْمَةِ معَ أولادِها، فمعناهُ لا رضاعةَ معتبرةٌ إلا المغْنِيَةُ عن المجاعةِ، أو المُطعمةُ منَ المجاعةِ، فهوَ في معنَى حديثٍ ابن مسعودٍ الآتي

(5)

: "لا رضاعَ إلَّا ما أنشزَ العظمَ وأنبتَ اللحمَ"،

(1)

البخاري رقم (5152)، ومسلم رقم (32/ 1455).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 94)، والدارمي (2/ 158)، وأبو داود رقم (2058)، والنسائي (6/ 102)، وابن ماجه رقم (1945)، والبيهقي (7/ 460)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (691).

(2)

في "فتح الباري"(9/ 147).

(3)

في (ب): "اسمُه".

(4)

في (ب): "المشترط".

(5)

وهو حديث ضعيف سيأتي تخريجه رقم (9/ 1066) من كتابنا هذا.

ص: 261

وحديثُ أُمِّ سلمةَ: "لا يحرِّمُ منَ الرضاعِ إلا ما فتقَ الأمعاءَ"، أخرجَهُ الترمذيُّ وصحَّحَهُ

(1)

. واستدلَّ بهِ علَى أن التغذيَ بلبنِ المرضعةِ محرَّمٌ سواءٌ كانَ [شرابًا]

(2)

أو وُجُورًا أو سُعُوطًا أو حُقنةً حيثُ كانَ يسدُّ جوعَ الصبيِّ وهوَ قولُ الجمهورِ، وقالتِ الهادويةُ والحنفيةُ: لا تحرِّم الحقنةُ وكأنَّهم يقولون: لا تدخلُ تحتَ اسمِ الرضاعِ. قلت: إذا لوحظَ المعنَى منَ الرضاعِ دخلَ كلُّ ما ذكرُوا، وإنْ لُوحِظَ مسمَّى الرضاعِ فلا يشملُ إلا التقامَ الثَّدْي ومصَّ اللبنِ منهُ كما تقولُه الظاهريةُ، فإنَّهم قالُوا: لا يحرِّم إلَّا ذلكَ، ولما حصَرَ في الحديثِ الرضاعةَ على ما كانَ منَ المجاعةِ كما قدْ عرفتَ. وقدْ وردَ حديث عائشة معارضًا لذلك وهو:

‌الإرضاع في الكبر

3/ 1060 - وعَنْها رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ مَعَنَا في بَيْتِنَا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ. فَقَالَ:"أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيهِ" رَوَاهُ مُسْلِمُ

(3)

[صحيح]

(وعنْها)[أي عنْ عائشة] (قالتْ: جاءتْ سهلة بنتُ سهيلٍ فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ إنَّ سالمًا مولى أبي حذيفةَ معنا في بيتِنَا وقدْ بلغَ ما يبلغ الرجالُ فقالَ: أرضِعِيهِ

(1)

في "السنن" رقم (1152) وقال الشوكاني في "نيل الأوطار"(6/ 316): "أعل بالانقطاع لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر بن الزبير الأسدية عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئًا لصغر سنِّها إذ ذاك".

قلت: وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير، أخرجه ابن ماجه رقم (1946) بإسناد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير ابن لهيعة وهو سيء الحفظ، إلا أنه في رواية العبادلة عنه فإنه صحيح الحديث، وهذا منها. وهو حديث صحيح، وسيأتي باقي الكلام عليه رقم (7/ 1064) من كتابنا هذا.

(2)

في (ب): "شربًا".

(3)

في صحيحه رقم (1453).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 38 - 39، و 6/ 201)، والحميدي رقم (278)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (13884)، والنسائي (6/ 104 - 105، و 6/ 105)، وابن ماجه رقم (1943)، والطبراني في "الكبير" رقم (6373) و (6374)، و (6376) و (24/ رقم 737 و 738 و 740)، والبيهقي (7/ 459) من طرق عن القاسم به.

ص: 262

تَحْرُمي عليهِ. - وفي سننِ أبي داودَ

(1)

: فأرضعته خمسَ رَضَعَاتٍ، فكانَ بمنزلةِ ولدِها منَ الرِّضاعةِ) - رواهُ مسلم. وكأنهُ ذكرهُ المصنفُ كالمشيرِ إلى أنهُ قدْ خصَّصَ هذا الحكمَ بحديثِ سهلةَ، فإنهُ دالٌّ على أنَّ رضاعَ الكبيرِ يحرِّمُ معَ أنهُ ليسَ داخلًا تحتَ الرضاعةِ منَ المجاعة. وبيانُ القصةِ أنَّ أبا حذيفةَ كانَ قدْ تَبَنى سالمًا وزوَّجَهُ، وكانَ سالمٌ مولَى امرأة منَ الأنصارِ، فلما أنزلَ اللَّهُ:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}

(2)

الآيةَ كانَ مَنْ [لا]

(3)

أبَ معروفٌ نُسِبَ إلى أبيهِ، ومَنْ لا أبَ لهُ معروفٌ كانَ مولىَ وأخًا في الدينِ، فعندَ ذلكَ جاءتْ سهلةُ تذكرُ ما نصَّهُ الحديثُ في الكتابِ.

وقد اختلَفَ السَّلَفُ في هذا الحكمِ، فذهبتْ عائشةُ رضي الله عنها إلى ثبوتِ حكمِ التحريمِ وإنْ كان الراضعُ بالغًا عاقلًا. قالَ عروةُ: إن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ أخذتْ بهذا الحديثِ فكانتْ تأمرُ أختَها أمِّ كلثومٍ وبناتِ أخيها [أن]

(4)

يُرْضِعْنَ مَنْ أحبَّتْ أنْ يدخلَ عليها منَ الرجالِ. رواهُ مالكٌ

(5)

ويُرْوَى عنْ عليٍّ وعروةَ وهوَ قولُ الليثَ بن سعدٍ [وأبي محمدِ]

(6)

ابن حزمٍ ونسَبَهُ في "البحر"

(7)

إلى عائشةَ وداودَ الظاهريِّ وحجَّتُهم حديثُ سهلةَ هذا وهوَ حديثٌ صحيحٌ لا شك في صِحَّتِهِ، ويدلُّ له أيضًا قولُه تعالَى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}

(8)

، فإنهُ مطلقٌ غيرُ مقيدٍ بوقت، وذهبَ الجمهورُ منَ الصحابةِ والتابعينَ والفقهاءِ إلى أنهُ لا يحرِّمُ منَ الرضاعِ إلا ما كانَ في الصِّغَرِ.

وإنما اختلفُوا في تحديدِ الصِّغَرِ، فالجمهورُ قالُوا: مَهْمَا كانَ في الحولَيْن فإنَّ رضاعه يحرِّمُ، ولا يحرِّمُ ما كانَ بعدَهما مستدلِّينَ بقولِه تعالَى:{حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}

(9)

، وقالت جماعةٌ: الرضاعُ المحرِّم ما كان قبلَ الفطامِ

(1)

في "السنن" رقم (2061).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 255 و 269 و 270 - 271)، والدارمي (1/ 158)، وعبد الرزاق رقم (13887)، والبخاري رقم (4000) و (5088)، والنسائي (6/ 63 - 64)، والبيهقي (7/ 459 - 460 و 460)، من طرق عن الزهري، عن عروة عن عائشة، وبعضهم يزيد فيه على بعض.

(2)

سورة الأحزاب: الآية 5.

(3)

في (ب): "له".

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في "الموطأ"(2/ 603 رقم 7).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

(3/ 265).

(8)

سورة النساء: الآية 23.

(9)

سورة البقرة: الآية 233.

ص: 263

ولم يقدِّروهُ بزمانٍ، وقالَ الأوزاعيُّ: إنْ فُطِمَ ولهُ عامٌ واحدٌ واستمرَّ فِطَامُهُ ثمَّ رضعَ في الحوليْن لم يحرِّمْ هذا الرضاعُ شيئًا وإنْ تمادَى رضاعُه ولم يفطمْ فما يرضعُ وهوَ في الحولينِ حرِّم وما كان بعدهما [لم]

(1)

يحرِّم [وإنْ تَمَادَى إرضاعُه]

(2)

. وفي المسألةِ أقوالٌ أُخَرُ عاريةٌ عن الاستدلالِ فلا نطيلُ بها المقالُ، واستدلَّ الجمهورُ بحديثِ:"إنَّما الرضاعةُ منَ المجاعةِ"

(3)

وتقدَّم بأنه لا يصدقُ ذلكَ إلَّا على مَنْ يشبعُه اللبنُ ويكونُ غذاء لا غير فلا يدخلُ الكبيرُ سيَّما وقدْ وردَ بصيغةِ الحصرِ، وأجابُوا عنْ حديثٍ سالمٍ [هذا]

(4)

بأنهُ خاصٌ بقصةِ سهلةَ فلا يتعدَّى حكمُه إلى غيرِها كما يدلُّ لهُ جوابُ أمّ سلمةَ أمِّ المؤمنينَ لعائشةَ رضي الله عنها: "لا نَرَى هذا إلَّا خاصًّا بسالمٍ وما نَدْرِي لعلَّهُ رخصةٌ لسالمٍ"، أوْ أنهُ منسوخٌ.

وأجابَ القائلونَ بتحريمِ رضَاعِ الكبيرِ بأنَّ الآيةَ وحديثَ: "إنما الرضاعةُ منَ المجاعةِ"(3) واردانِ لبيانِ الرضاعةِ الموجبةِ للنفقةِ للمرضعةِ [والذي]

(5)

يجبرُ عليْها الأبوانِ رضِيا أمْ كَرِها كما يرشدُ إليهِ آخرُ الآيةِ وهوَ قولُه تعالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(6)

، وعائشةُ هيَ الراويةُ لحديثِ:"إنَّما الرضاعةُ منَ المجاعةِ"(3) وهيَ التي قالتْ: "برضاعِ الكبيرِ، وأنهُ يحرمُ فدلَّ أنَّها فهمتْ ما ذكرْنَاهُ في معنَى الآيةِ والحديثِ. وأما قولُ أمِّ سلمةَ إنهُ خاصٌّ بسالمٍ فذلكَ تَظَنُّنٌ منْها وقدْ أجابتْ عليْها عائشةُ فقالتْ: أما لكِ في رسولِ اللَّهِ أسوةٌ حسنةٌ، فسكتتْ أمُّ سلمةَ ولوْ كانَ خاصًّا لبيَّنهُ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ اختصاصَ أبي بردةَ بالتضحيةِ بالجذعةِ منَ المعْزِ

(7)

. والقولُ بالنسخِ يدفعُه أن قصةَ سهلةَ [متأخرةٌ]

(8)

عنْ نزولِ آيةِ

(1)

في (ب): "لا".

(2)

زيادة من (ب).

(3)

وهو حديث متفق عليه تقدم تخريجه رقم (2/ 1059) من كتابنا هذا.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في (ب): "والتي".

(6)

سورة البقرة: الآية 233.

(7)

يشير المؤلف رحمه الله إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في رقم (5556)، ومسلم رقم (4/ 1961)، وأبو داود رقم (2800)، والترمذي رقم (1508)، والنسائي (7/ 222، 223)، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ضحَّى خالٌ لي يُقالَ له أبو بُردة قبل الصلاة، فقال له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"شاتُكَ شاةُ لحم" فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إن عندي داجنًا جذعةً من المعز، قال:"اذبحها ولا تصلُحُ لغيرك"

الحديث.

(8)

في (أ): "متوخرة".

ص: 264

الحولَيْنِ فإنَّها قالتْ سهلةُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كيفَ أرضعُهُ وهوَ رجلٌ كبيرٌ؟ [قال]

(1)

: هذَا السؤالَ منْها استنكارٌ لرضاعِ الكبير دالٌّ على أن التحليلَ بعدَ اعتقادِ التحريمِ.

قلتُ: لا يخْفَى أن الرضاعةَ لغةً إنَّما تصدقُ على مَنْ كانَ في سنِّ الصغرِ، وعلى اللغةِ وردتْ آيةُ الحولَيْنِ وحديثُ:"إنَّما الرضاعةُ منَ المجاعةِ"

(2)

، والقولُ بأنَّ الآيةَ لبيانِ الرضاعةِ الموجبةِ للنفقةِ لا ينافي أيضًا أنَّها لبيانِ زمانِ الرضاعةِ، بلْ جعلَه الله تعالَى زمانَ مَنْ أرادَ تمامَ الرضاعةِ وليسَ بعدَ التمامِ ما يدخلُ في حكمِ ما حكمَ الشارعُ بأنهُ قدْ تمَّ، والأحسنُ في الجمعِ بينَ حديثِ سهلةَ وما عارضَهُ كلامُ ابن تيميةَ

(3)

فإنهُ قالَ: [إنهُ]

(4)

يُعْتَبَرُ الصِّغَرُ في الرضاعةِ إلَّا إذا دعتْ إليهِ الحاجةُ كرضاعِ الكبيرِ الذي لا يُسْتَغْنَى عنْ دخولِهِ على المرأةِ ويشق احتجابُها عنهُ كحالِ سالمٍ معَ امرأةِ أبي حذيفَة، فَمِثْلُ هذا الكبير إذا أرضعتْه للحاجةِ أثَّرَ رضاعِه، وأما مَنْ عَدَاهُ فلا بدَّ منَ الصِّغَرِ، انتَهى. فإنهُ جَمْعٌ حسن بينَ الأحاديثِ، وإعمالٌ لها منْ غيرِ مخالفةٍ لظاهرِها باختصاصٍ ولا نسخٍ ولا إلغاءٍ لما اعتبرتْه اللغةُ ودلَّتْ لهُ الأحاديثُ.

‌ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة

4/ 1061 - وَعَنْهَا أن أفْلَحَ - أَخَا أَبي الْقُعَيْسِ - جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْحِجَابِ. قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أنْ آذَنَ لَهُ، فَلَما جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أخْبَرْتُهُ بالَّذِي صَنَعْتُهُ، فَأَمَرَنِي أنْ آذَنَ [لَهُ] (4) عَلَيّ وَقَالَ:"إنَّهُ عَمُّكِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

. [صحيح]

(1)

في (ب): "فإن".

(2)

وهو حديث متفق عليه تقدم تخريجه رقم (2/ 1059) من كتابنا هذا.

(3)

انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية"(34/ 60).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

البخاري رقم (5103)، ومسلم رقم (1145).

قلت: وأخرجه الحميدي رقم (229)، والشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 24)، وأحمد في "المسند"(6/ 33 و 36، 37، 38، و 177، و 271)، والنسائي (6/ 103)، وابن ماجه رقم (1948)، والدارقطني (4/ 177، 178، و 178)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 452)، وفي "معرفة السنن والآثار"(11/ 15410) من طرق عن الزهري، عن عروة، به.

ص: 265

(وعنْها) أيْ عنْ عائشةَ (أن أفْلَحَ) بفتحِ الهمزةِ ففاءٍ آخرُه حاءَ مهملةٌ، مولَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[وقيلَ مولَىً لأمِّ سلمةُ]

(1)

(أخا أبي القُعَيْسِ) بقافٍ مضمومةٍ وعينٍ وسينٍ مهملتينِ بينَهما مثناةٌ تحتيةٌ (جاءَ يستأذنُ عَلَيْهَا بعدَ الحجابِ قالتْ: فأبيتُ أنْ آذنَ له، فلمَّا جاءَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أخبرتُه بالذي صنعته، فأمرني أنْ آذنَ لهُ عليَّ وقالَ: إنهُ عمَّكِ. متفقٌ عليهِ). اسمُ أبي القعيسِ وائلُ بنُ أفلحَ الأشعريِّ، وقيلَ: اسمُه الجعدُ، فَعَلَى الأولِ يكونُ أخوهُ وافقَ اسمُه اسمَ أبِيهِ، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: لا أعلمُ لأبي القعيس ذِكْرًا إلا في هذَا الحديثِ

(2)

.

والحديثُ دليلٌ على ثبوتِ حُكْمِ الرضاعِ في حقِّ زوجِ المرضعةِ وأقاربِهِ كالمرضعةِ، وذلكَ لأنَّ سببَ اللبنِ هوَ ماءُ الرجلِ والمرأةِ مَعًا فوجبَ أنْ يكونَ الرضاعُ منْهما كالجدِّ لما كانَ سببُ ولدِ الولدِ أوجبَ تحريمَ ولدِ الولدِ بهِ لتعلُّقِهِ [به]

(3)

، ولذلكَ قالَ ابنُ عباسٍ في هذا الحكمِ: اللقاحُ واحدٌ. أخرجَهُ عنهُ ابنُ أبي شيبةَ

(4)

، [قال]

(5)

: الوطْءُ يدرُّ اللبنَ فللرجلِ منهُ نصيبٌ، وإلى هذَا ذهبَ الجمهورُ منَ الصحابةِ والتابعينَ وأهلُ المذاهبِ. والحديثُ واضحٌ لما ذهبُوا إليهِ، وفي روايةٍ أبي داودَ

(6)

زيادةُ تصريحٍ حيثُ قالتْ: دخلَ عليَّ أفلحُ فاستترتُ منهُ فقالَ: أتستترينَ منِّي وأنا عمُّكِ؟ قلتُ: منْ أينَ؟ قالَ: أرضعَتْكِ امرأةُ أخي، قلتُ: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجلُ، الحديثَ. وخالفَ في ذلكَ ابنُ عمرَ وابنُ الزبيرِ ورافعُ بنُ خُدَيْجٍ وعائشةُ وجماعةٌ منَ التابعينَ وابنُ المنذرِ وداودُ وأتباعُه فقالُوا: لا يثبتُ حكمُ الرضاعِ للرجلِ؛ لأنَّ الرضاعَ إنَّما هوَ للمرأةِ التي اللبنُ منْها، قالُوا: ويدلُّ عليهِ قولُه تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}

(7)

وأُجيبَ بأنَّ الآيةَ ليسَ فيها ما يعارضُ الحديثَ فإنَّ ذِكْرَ الأمهاتِ لا يدلّ على أنَّ [من]

(8)

عداهنَّ ليسَ كذلكَ، ثمَّ إنْ دلَّ بمفهومِه فهوَ مفهومُ

(1)

زيادة من (ب).

(2)

انظر: "التمهيد"(8/ 235 - 248).

(3)

في (ب): "بولده".

(4)

أخرجه مالك (2/ 602 - 603)، والترمذي رقم (1149)، وإسناده صحيح.

(5)

في (ب): "فإن".

(6)

في "السنن" رقم (2057)، وهو حديث صحيح.

(7)

سورة النساء: الآية 23.

(8)

في (ب): "ما".

ص: 266

لقب مطَّرَحٍ كما عُرِفَ في الأصولِ. وقدْ استدلُّوا بِفَتْوَى جماعةٍ منَ الصحابةِ بهذا المذهبِ ولا يخْفَى أنهُ لا حجَّةَ في ذلكَ. وقدْ أطالَ بعضُ المتأخرينَ البحثَ في المسألةِ وسبقَه ابنُ القيِّمِ في "الهدى"

(1)

وشيخه ابنُ تيميةَ

(2)

والواضحُ ما ذهبَ إليهِ الجمهورُ.

5/ 1062 - وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَات مَعْلُومَاتِ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

. [صحيح]

(وعنْها) أي عائشةَ (قالتْ: كانَ فيما أُنْزِلَ منَ القرآنِ عشرُ رضعاتٍ معلوماتٍ يحرِّمنَ ثم نُسِخْنَ بخمسٍ معلوماتٍ، فتُوُفِّيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهوَ فيما يُقْرَأُ منَ القرآنِ. رواهُ مسلمٌ)، يُقْرَأُ بضم حرفِ المضارَعَةِ تريدُ أن النسخَ بخمسِ رضعاتٍ تأخَّرَ إنزالُه جدًّا حتَّى إنهُ تُوُفِّيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وبعضُ الناسِ يقرأُ خمسَ رضعاتٍ ويجعلُها قرآنًا مَتْلُوًا لكونه لم يبلغْه النسخُ لقربِ عهدِه، فلمَّا بَلَغَهُمُ النسخُ بعدَ ذلكَ رجعُوا عنْ ذلكَ وأجمعُوا أن لا يُتْلَى، وهذا منْ نسخِ التلاوةِ دونَ الحكْمِ وهوَ أحدُ أنواعِ النسخِ، فإنهُ ثلاثةُ أقسامٍ:

نسخُ التلاوةِ والحكمِ مثلُ عشْرِ رَضَعَاتٍ.

والثاني: نسخُ التلاوةِ دونَ الحكْمِ كخمسِ رَضَعَاتٍ، وكالشيخِ والشيخةِ إذا زَنيا فارجُمُوهُما.

والثالث: نسخُ الحكمِ دونَ التلاوةِ وهوَ كثيرٌ، نحوُ قولِهِ تعالَى: {وَالَّذِينَ

(1)

(5/ 556 - 570).

(2)

في مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (34/ 31 - 35).

(3)

في صحيحه رقم (1452).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2062)، والترمذي رقم (1150)، والنسائي (6/ 100)، وابن ماجه رقم (1942)، وابن الجارود رقم (688)، والبيهقي (7/ 454)، والدارمي (2/ 157)، والشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 21 رقم 66، 67)، ومالك (2/ 608 رقم 17)، وابن حبان (6/ 213 رقم 4207، 4208)، وسعيد بن منصور رقم (976)، والدارقطني (4/ 181 رقم 30).

ص: 267

يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}

(1)

الآية وقد تقدَّمَ تحقيقُ القولِ في حكمِ هذا الحديثِ وأنَّ العملَ على ما أفادَهُ هوَ أرجح الأقوالِ والقولُ بأنَّ حديثَ عائشةَ [هذا]

(2)

ليسَ بقرآنٍ؛ لأنهُ لا يثبتُ بخبرِ الآحادِ ولا هوَ حديثٌ لأنَّها لم تَرْوِهِ حديثًا مردودٌ بأنَّها وإنْ لم تثبتْ قرآنيتُه ويجري عليهِ حُكْمُ ألفاظِ القرآنِ فقدْ روتْهُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلهُ حكمُ الحديثِ في [وجوب]

(3)

العملِ بهِ. وقدْ عملَ بمثلِ ذلكَ العلماءُ فعملَ بهِ الشافعيُّ وأحمدُ في هذا الموضعِ، وعملَ [بهِ]

(4)

الهادويةُ والحنفيةُ في قراءةِ ابن مسعودٍ في صيامِ الكفَّارةِ ثلاثةَ أيامٍ متتابعاتٍ، وعملَ مالكٌ في فرضِ الأخِ منَ الأمِّ بقراءةِ أُبَيِّ ولهُ أخٌ أو أختٌ منْ أمٍّ، والناسُ كلُّهم احتجُّوا بهذِه القراءةِ، والعملُ بحديثِ البابِ هذا لا عذْرَ عنهُ، ولذَا اخترنا العملَ بهِ فيما سلفَ.

‌ما معنى يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؟

6/ 1063 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ:"إنَّهَا لا تَحِل لِي، إنَّها ابْنَةُ أَخي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" متفقٌ عَلَيْهِ

(5)

. [صحيح]

(وعَنِ بْنِ عباسٍ رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيدَ) بضمِّ الهمزةِ مبنيٌّ للمجهولِ من الإرادة (على ابنةِ حمزةَ) أي قيلَ لهُ لو تزوجْتَها (قالَ: إنَّها لا تحلُّ لي إنَّها ابنةُ أخي منَ الرضاعةِ ويحرُمُ منَ الرضاعةِ ما يحزم منَ النسبِ. متفقٌ عليهِ).

اختُلِفَ في اسْمِ ابنةِ حمزةَ على سبعةِ أقوالٍ ليسَ فيها ما يجزمُ بهِ وإنَّما كانتِ ابنةُ أخيهِ صلى الله عليه وسلم لأنهُ رَضَعَ منْ ثُوَيْبَةَ أمَةِ أبي لَهبٍ وقدْ كانتْ أرضعتْ عمَّه حمزةَ، وأحكامُ الرضاعِ هي حرمةُ التنَاكُحِ وجوازُ النظرِ والخلوةِ والمسافَرَةِ لا غيرُ ذلكَ منَ التوارثِ ووجوبِ الإنفاقِ والعتقِ بالملكِ وغيرِه منْ أحكامِ النسبِ. وقولُه صلى الله عليه وسلم:"ويحرُمُ منَ الرضاعِ ما يحرُمُ منَ النَّسَبِ" يرادُ بهِ تشبيهُه بهِ في التحريمِ بهِ. ثمَّ التحريمُ ونحوُه بالنظرِ إلى المرضعِ فإنَّ أقاربَهُ أقاربُ للرضيعِ، وأما أقاربُ

(1)

سورة البقرة: الآية (234).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

البخاري رقم (2645)، ومسلم رقم (1147).

ص: 268

الرضيعِ [ما عدا أولادَهُ]

(1)

فلا علاقةَ بينَهم وبينَ المرضعِ فلا يثبتُ شيءٌ منَ الأحكامِ لهم.

7/ 1064 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الأمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ،، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(2)

هُوَ وَالْحَاكِمُ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ أمِّ سلمةَ رضي الله عنها قالتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يحرِّمُ منَ الرضاعِ إلا ما فَتَقَ) بالفاءِ فمثناةٍ فوقيةٍ فقافٍ (الأمعاءَ) جمعُ المِعا بكسرِ الميم وفتحِها (وكانَ قبلَ الفطامِ. رواهُ الترمذيِّ وصحَّحَهُ هوَ والحاكمُ). والمرادُ ما سلكَ فيها منَ الفتْقِ بمعنَى الشقِّ والمرادُ ما وصلَ إليها فلا يحرِّمُ القليلُ الذي لا ينفذُ إليها ويحتملُ أن المرادَ ما وصلَها وغذَّاها [واكتفى به الرضيع]

(4)

عنْ غيرِه فيكونُ دليلًا على عدمِ تحريمِ رضاعِ الكبيرِ، ويدلُّ على أن المرادَ هذَا قولُه في الحديثِ وكانَ قبلَ الفطامِ فإنهُ يرادُ بهِ قبلَ الحولَيْنِ كما وردَ في الحديثِ الآخرِ:"إنَّ ابْني إبراهيمَ ماتَ في الثدي وإنَّ لهُ مُرْضِعًا في الجنةِ"، وتقدَّم الكلامُ في الأمريْنِ، ويدلُّ لِهَذَا [الحديثِ]

(5)

الأخيرِ:

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في "السنن" رقم (1152)، وقال: حديث حسن صحيح.

قلت: وأخرجه ابن حبان (10/ 37، 38 رقم 4224).

وقال الشوكاني في "نيل الأوطار"(6/ 316): "أعل بالانقطاع لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر بن الزبير الأسدية عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئًا لصغر سنِّها إذ ذاك" اهـ.

قلت: وله شاهد من حديث عبد اللَّهِ بن الزبير أخرجه ابن ماجه رقم (1946) بسند رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير ابن لهيعة وهو سيء الحفظ، إلا أنه في رواية العبادلة عنه فإنه صحيح الحديث، وهذا منها.

وله شاهد آخر أخرجه البزار رقم (1444 - كشف)، والبيهقي (7/ 455) حديث أبي هريرة. بسند رجاله ثقات، إلا أن محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن.

وخلاصة القول: أن الحديث صحيح، والله أعلم. انظر:"الإرواء" رقم (2150).

(3)

قلت: ولعل الصواب (ابن حبان) كما قال الحافظ نفسه في "الفتح"(9/ 148) عقب الحديث: "وصحَّحه الترمذي وابن حبان"، واللَّهُ أعلم.

(4)

في (ب): "واكتفت به".

(5)

زيادة من (أ).

ص: 269

‌لا رضاع إلا الحولين

8/ 1065 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَا رَضَاعَ إلَّا في الحَوْلَينِ"، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَرَجّحا الْمَوْقُوفَ

(1)

. [موقوف]

قولُه: (وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: لا رَضَاعَ إلَّا في الحولَيْنِ. رواة الدارقطنيُّ وابن عديٍّ مرفوعًا وموقوفًا ورجَّحا الموقوفَ) لأنهُ تفرَّد برفْعِهِ الهيثمُ بنُ جميلٍ

(2)

عن ابن عُيَيْنَةَ قالَهُ الدارقطنيُّ وقالَ: كانَ ثقةً حافِظًا. ورواهُ سعيدُ بنُ منصورٍ

(3)

عن ابن عيينةَ فوقَفَهُ. قلت: وهذا ليسَ بعلَّةٍ كما قرَّرْنَاهُ مِرَارًا، وقالَ ابنُ عديٍّ: إنَّ الهيثَمَ كانَ يغلَطُ. وقالَ البيهقيُّ

(4)

: الصحيحُ أنهُ موقوفٌ ورَوَى التحديدَ بالحولَيْنِ البيهقي

(5)

عنْ عمرَ وابن مسعودٍ. والحديثُ دالٌّ على اعتبارِ الحولَيْنِ وأنهُ لا يُسَمَّى الرضاعُ رَضَاعًا إلَّا في الحولَيْنِ. وقدْ تَقدَّمَ أنهُ الذي دلَّتْ عليهِ الآيةُ والقولُ بأنَّها إنَّما دلتْ على حكمِ الواجبِ منَ النفقةِ ونحوِها لا على مدةِ الرضاعِ تقدَّم دفْعُه. ويدلُّ لِهذَا الحكمِ:

9/ 1066 - وَعَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا رَضَاعَ

(1)

أخرج الدارقطني في "السنن"(4/ 173 - 174 رقم 9) وسعيد بن منصور في سننه رقم (974)، والبيهقي (7/ 442) عن ابن عباس موقوفًا. وقال البيهقي: هذا هو الصحيح موقوف.

وأخرج الدارقطني في "السنن"(4/ 174 رقم 10)، وابن عدي في "الكامل"(7/ 2562)، والبيهقي (7/ 462) مرفوعًا عن ابن عباس.

قال ابن عدي: وهذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عقبة مسندًا وغير الهيثم يوقفه على ابن عباس، والهيثم بن جميل يسكن أنطاكية، ويقال: هو البغدادي ويغلط الكثير على الثقات كما يغلط غيره، وأرجو أنه لا يتعمَّد الكذب" اهـ.

• قلتُ: وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" رقم (13903) عن ابن عباس قال: "لا رَضَاعَ بعدَ فطام" بسند صحيح.

• وأخرج مالك في "الموطأ"(2/ 603) عن ابن عمر أنه كان يقول: "لا رضاعة إلا لمن أَرْضَعَ في الصِّغَر، ولا رَضَاعَة لكبير" بسند صحيح.

(2)

انظر: "الكامل" لابن عدي (7/ 2562)، وسنن الدارقطني (4/ 174).

(3)

في سننه رقم (974) كما تقدم.

(4)

في "السنن الكبرى"(7/ 462).

(5)

في "السنن الكبرى"(7/ 462).

ص: 270

إلَّا ما أنشَزَ الْعَظمَ، وَأنبَتَ اللَّحْمَ"، أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ

(1)

. [ضعيف]

قولُه: (وعنِ ابن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا رضاعَ إلَّا ما أنشز) بشينٍ معجمةٍ فزاي، أي شدَّ وقَوَّى (العظمَ وأنبتَ اللحمَ. أخرجَهُ أبو داودَ)، فإنَّ ذلكَ إنَّما يكونُ لِمَنْ هوَ في سِنِّ الحولَيْنِ ينمُو باللبنِ ويقْوَى بِهِ عظمُه وينبتُ عليهِ لحمُه.

‌شهادة المرضعة وحدها تقبل في الرضاع

10/ 1067 - وَعَنْ عُقْبَةَ بن الْحَارِثِ أنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بنْتَ أبِي إِهَابَ، فَجَاءَتْ امْرَأةٌ فَقَالَتْ: لَقَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"كَيفَ وَقَدْ قِيلَ؟ "، فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ فَنكحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

. [صحيح]

‌ترجمة عقبة بن الحارث

(وعنْ عقبةَ بنَ الحارثِ)

(3)

هوَ أبو سروعةَ عقبةُ بنُ الحارثِ بن عامرٍ القرشيِّ النوفليِّ، أسلمَ يومَ الفتحِ يُعَدُّ في أهلِ مكةَ (أنهُ تزوَّجَ أمَّ يحيى بنتَ أبي إِهابٍ)

(1)

في "السنن" رقم (2059) و (2060).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 85 رقم 4114 - شاكر) وفي سنده أبو موسى الهلالي وأبوه وهما مجهولان. لكن أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 463 رقم 13895)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 461) من وجه آخر من حديث أبي حصين عن أبي عطية، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فذكره بمعناه.

وانظر: "الإرواء" رقم (2153)، و"التلخيص الحبير"(4/ 4 رقم 1653).

وخلاصة القول: أن الحديث ضعيف، واللَّهُ أعلم.

(2)

في صحيحه رقم (5104).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3603)، والترمذي رقم (1151)، والنسائي (6/ 109)، والبيهقي (7/ 463)، والدارمي (2/ 157، 158)، وأحمد (4/ 7)، والطيالسي في "المسند" رقم (1337) بألفاظ.

(3)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" رقم (3704)، و"الإصابة" رقم (5608)، و"الاستيعاب" رقم (1841)، و"الثقات"(3/ 279)، وتجريد "أسماء الصحابة"(1/ 383).

ص: 271

بكسرِ الهمزةِ (فجاءتِ امرأةٌ) قالَ المصنفُ

(1)

: لم أعرفِ اسْمَها (فقالت: قد أرضعتُكما فسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: كيفَ وقدْ قيلَ؟ ففارقَها عقبة فنكحتْ زوجًا غيرَه. أخرجَه البخاريُّ). الحديثُ دليلٌ على أن شهادةَ المرضعةِ وحدَها [تُقْبَلُ]

(2)

، وبوَّبَ على ذلكَ البخاريُّ، وإليهِ ذهبَ ابنُ عباسٍ وجماعةٌ منَ السلفِ وأحمدُ بنُ حنبل

(3)

. وقالَ أبو عبيدٍ: يجبُ على الرجلِ المفارقةُ، ولا يجبُ على الحاكمِ الحكمُ بذلكَ.

قالَ مالكٌ

(4)

: إنهُ لا يقبلُ في الرَّضاعِ إلا امرأتانِ. وذهبتِ الهادويةُ

(5)

والحنفيةُ إلى أنَّ الرضاعَ كغيرهِ لا بدَّ منْ شهادةِ رجليْنِ أو رجلٍ وامرأتينِ، ولا تكفي شهادةُ المرضعةِ لأنَّها تقرَّرَ فعلُها. قالَ الشافعيُّ:[تُقْبَلُ شهادةُ]

(6)

المرضعةِ معَ ثالثِ نسوةٍ بشرطِ أنْ لا تعرضَ بطلبِ أُجْرَةٍ، قالُوا: وهذا الحديثُ محمولٌ على الاستحبابِ والتحرُّزِ عنْ مظانِّ الاشتباهِ.

وأُجِيبَ بأنَّ هذَا خلافُ الظاهرِ سيَّما وقدْ تكررَ سؤالُه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أربعَ مراتٍ وأجابَهُ بقولِه: "كيفَ وقدْ قيلَ"؟ وفي بعضِ ألفاظِهِ "دَعْها". وفي روايةٍ الدارقطنيِّ

(7)

: "لا خيرَ لكَ فيها"، ولوْ كانَ منْ بابِ الاحتياطِ لأَمَرَه بالطلاقِ مع أنهُ في جميعِ الرواياتِ لم يذكرِ الطلاقَ فيكونُ هذا الحكمُ [مخصوصًا]

(8)

منْ عمومِ الشهادةِ المُعْتَبَرِ فيها العددُ. وقدِ اعتبرْ ذلكَ في عوراتِ النساءِ فقلتُم: يكفي شهادةِ امرأةٍ واحدةٍ، والعلةُ عندَهم فيهِ أنهُ قلَّما يَطَّلِعُ الرجالُ على ذلكَ فالضرورةُ داعيةٌ إلى اعتبارِه، فكذا هُنَا.

11/ 1068 - وَعَنْ زيَادٍ السّهْمِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أنْ تُسْتَرْضَعَ الْحَمْقَاء. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(9)

، وَهُوَ مُرْسَلٌ، ولَيْسَتْ لِزيَادٍ صُحْبَةٌ. [مرسل]

(1)

في "فتح الباري"(9/ 153).

(2)

في (أ): "يُقبل".

(3)

انظر: "المغني" لابن قدامة (11/ 340 - 342).

(4)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 71 - 72) بتحقيقنا.

(5)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 270).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

في "السنن"(4/ 177 رقم 19).

(8)

في (أ): "مخصوص".

(9)

في "المراسيل" رقم (207). =

ص: 272

(وعنْ زياد السَّهْميِّ قالَ: نَهَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ تسْتَرْضَعَ الحمقاءُ) خفيفةُ العقلِ (أخرجَه أبو داودَ وهوَ مرسلٌ وليسَ لزيادٍ صحبةٌ).

ووجْهُ النَّهْي أن للرِّضاعِ تأثيرًا في الطباعِ فيختارُ مَنْ لا حماقَةَ فيها ونحوَها.

* * *

= قلت: وأخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث"(1/ 297) من قول عمر، ولفظه:"إنَّ اللبن يُشَبَّهُ عليه".

قوله: يُشَبَّهُ، يريد: إن الطفل الرضيع ربما نزَع به الشَّبَه إلى الظِّئْر من أجل اللبن، يقول: فلا تسترضِعوا إلا من ترضون أخلاقه وعَفافه. وقد روى مثل هذا عن عمر بن عبد العزيز.

ص: 273

[الباب الخامس] باب النفقات

جَمْعُ نفقةٍ، والمرادُ بها الشيءُ الذي يبذُلُه الإنسانُ فيما يحتاجُه هو أو غيرُه منَ الطعامِ والشرابِ ونحوهما.

‌يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها إذا منعها النفقة

1/ 1069 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بنتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذَلِكَ مِنْ جُنَاح؟ فَقَالَ:"خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَمَا يَكْفِي بَنِيكِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(عنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: دخلتْ هندُ بنتُ عتبةَ)

(2)

بن ربيعةَ بن عبدِ شمسِ بن عبدِ منافٍ، أسلمتْ عامَ الفتحِ في مكةَ بعدَ إسلامِ زوْجِهَا، قُتِلَ أبوها عتبةُ وعمُّها شيبةُ وأخوها الوليدُ بنُ عتبةَ يومَ بدرٍ فَشُقَّ عليها ذلكَ، فلمَّا قُتِلَ حمزةُ [يوم

(1)

البخاري رقم (5364)، ومسلم رقم (1714).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3533)، والنسائي (8/ 246 - 247)، والدارمي (2/ 159)، والبيهقي (7/ 466)، وأحمد (6/ 39 و 50 و 206)، من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به.

(2)

انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (11860)، و"أسد الغابة" رقم (7350)، و"الاستيعاب" رقم (3568)، و"تجريد أسماء الصحابة"(2/ 310)، و"الثقات"(3/ 439).

ص: 274

أحد]

(1)

فرحتْ بذلكَ وعمدتْ إلى بطنِه فشقَّتْهُ وأخذتْ كَبِدَهُ فلاكتْهَا ثمَّ لفظتْها.

توفيتْ في المحرَّم سنةَ أربعَ عشْرَةَ، وقيلَ غيرُ ذلكَ، (امرأةُ أبي سفيانَ) أبو سفيانَ بنُ حربٍ

(2)

اسمُهُ صخرُ بنُ حربِ بن أميةَ بن عبدِ شمسٍ من رؤساءِ قريشٍ، أسلمَ عَامَ الفتحِ قبلَ إسلامِ زوجَتِه حينَ أخذتْهُ جندُ النبي صلى الله عليه وسلم في يومِ الفتحِ، وأجارَهُ العباسُ ثمَّ غَدَا بِهِ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأسْلَمَ. وكانتْ وفاتُه في خلافةِ عثمانَ سنةَ اثنتينِ وثلاثينَ (على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولُ اللَّهِ إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ) الشحُّ البخلُ معَ حرصٍ، فهوَ أخصُّ منَ البخلُ، والبخلُ يختصُّ بمنعِ المالِ، والشحُّ بكلِّ شيءٍ (لا يعطيني منَ النفقةِ ما يكفيني ويكفي بني إلَّا ما أخذتُ منْ مالِه بغيرِ عِلْمِهِ فهلْ عَلَيَّ في ذلكَ منْ جُناحٍ؟ فقالَ: خذي منْ مالِه بالمعروفِ ما يكفيكِ ويكفي بنيكِ. متفقٌ عليهِ).

‌ما يدل عليه الحديث

الحديثُ فيهِ دليلٌ على جوازِ ذِكْرِ الإنسانِ بما يكرهُ إذا كانَ على وجْهِ الاشتكاءِ [والاستفتاءِ]

(3)

، وهذَا أحدُ المواضعِ التي أجازُوا فيها الغيبةَ. ودلَّ على وجوبِ نفقةِ الزوجةِ والأولادِ علَى الزوجِ، وظاهرُه وإنْ كانَ الولدُ كبيرًا لعمومِ اللفظِ وعدمِ الاستفصال فإنْ أَتَى ما [يخصِّصُهُ]

(4)

منْ حديثِ آخرَ وإلَّا فالعمومُ قاضٍ بذلكَ. وفيهِ دليل على أن الواجبَ الكفايةُ منْ غيرِ تقديرٍ للنفقةِ، وإلى هذا ذهبَ جماهيرُ العلماءِ منْهمُ الهادي والشافعي، وعليه دلَّ قولُه تعالَى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(5)

وفي قول للشافعي: إنَّها مقدَّرةٌ بالأمداد فعلَى الموسِرِ كلَّ يومٍ مُدَّانِ، والمتوسطِ مُدٌّ ونصفٌ، والمعسِرُ مُدٌّ، وعنِ الهادي كلَّ يومٍ مُدَّانِ وفي كلِّ شهرٍ دِرْهَمَانِ للإدام، وعنْ أبي يَعْلَى الواجبُ رَطْلانِ منَ الخبزِ كلَّ يومٍ في حقِّ المعسِرِ والموسِرِ وإنَّما يختلفانِ في صفتهِ وجَوْدَتِهِ؛ لأنَّ الموسِرَ والمعسِرَ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (4066)، و"أسد الغابة" رقم (2486)، و"الاستيعاب" رقم (1211)، و"الجرح والتعديل"(4/ 426)، و"شذرات الذهب"(1/ 30، 37).

(3)

في (ب): "والفتيا".

(4)

في (أ): "يخصه".

(5)

سورة البقرة: الآية 223.

ص: 275

مستويانِ في قدْرِ المأكولِ وإنَّما يختلفانِ في الجوْدةِ وغيرِها. قال النوويُّ

(1)

: وهذَا الحديثُ حجةٌ على منِ اعتبرَ التقديرَ. قالَ المصنفُ

(2)

: تعقُّبًا لهُ ليسَ صَريْحًا في الردِّ عليهمْ ولكنَّ التقديرِ بما ذكرَ يحتاج إلى دليل فإنْ ثبتَ حملتِ الكفايةُ في ذلكَ الحديثِ على ذلكَ المقدارِ. وفي قولِها: إلا ما أخذتْ منْ مالهِ، دليلٌ على أن للأُمِّ ولايةً في الإنفاقِ على أولادها مع تَمَرُّدِ الأبِ، ودليل أن مَنْ تعَذَّرَ عليهِ استيفاءُ ما يجبُ، لهُ [أنْ]

(3)

يأخذَهُ، لأنهُ صلى الله عليه وسلم أقرَّها على الأخْذِ في ذلكَ ولم يذكرْ لها أنهُ حرامٌ، وقدْ سألَتْهُ هلْ عليها جُنَاحٌ؟ فأجابَ بالإباحةِ لها في المستقبلِ وأقرَّها على الأخْذِ في الماضي. وقدْ وردَ في بعضِ [ألفاظِ الحديثِ]

(4)

في البخاريِّ

(5)

: "لا حرجَ عَلَيْكَ أنْ تطعِمِيهُمْ بالمعروفِ". وقولُه: "خُذِي ما يكفيكِ وولدَكِ" يحتملُ أنَّهُ فُتيا منهُ صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أنهُ حكمٌ. وفيهِ دليل على الحكمِ على الغائبِ منْ دونِ نَصْبٍ عنهُ، وعليهِ بوَّبَ البخاريُّ

(6)

بابُ القضاءِ على الغائبِ وذكرَ هذا الحديثَ، لكنَّهُ قالَ النوويُّ

(7)

: شرطُ القضاءِ على الغائبِ أنْ يكونَ غائبًا عن البلدِ أو متعززًا لا يقدرُ عليهِ أو متعذرًا، ولم يكن أبو سفيانَ فيهِ شيءٌ من هذا بلْ كانَ حاضرًا في البَلدِ فلا يكونُ هذَا منَ القضاءِ على الغائب إلَّا أنهُ قدْ [أخرجه]

(8)

الحاكمُ في تفسيرِ [سورة]

(9)

الممتحنةِ في "المستدركِ"

(10)

أنهُ صلى الله عليه وسلم لما اشترطَ في البيعة على النساءِ ولا يسرقْنَ قالتْ هندٌ: لا أبايعكَ على السرقة إني أسرقُ من مال زَوْجِي، فكفَّ حتَّى أرسلَ إلى أبي سفيان يتحللُ لها منهُ فقالَ: أما الرطبُ فنعمْ وأما اليابسُ فلا، وهذا المذكورُ يدلُّ على أنهُ قَضَى على حاضرٍ إلا أنهُ خلافُ مما بوَّبَ لهُ البخاريُّ، [وكأنَّهُ لم يصح له زيادة الحاكم]

(11)

.

(1)

في "شرح صحيح مسلم"(12/ 7).

(2)

في "فتح الباري"(9/ 509).

(3)

في (أ): "كان له أن".

(4)

في (ب): "ألفاظه".

(5)

(2328 - البغا).

(6)

صحيحه (13/ 171 رقم الباب 28 - مع "الفتح").

(7)

في "شرح صحيح مسلم"(12/ 8).

(8)

في (ب): "أخرج".

(9)

زيادة من (أ).

(10)

(2/ 486) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(11)

زيادة من (أ).

ص: 276

والحاصلُ أن القِصَّةَ مترددةٌ بينَ كونِهِ فُتْيَا وبينَ كونِهِ حُكْمًا، وكونُه فُتْيَا أقربُ لأنهُ لم يطلبها ببينة ولا استحلفَها، وقدْ قيلَ إنهُ حكمَ بِعِلْمِهِ بِصِدْقِها فلم يطلبْ منْها بَيِّنَة ولا يمينًا فهوَ حجةٌ لمنْ يقولُ إنهُ يحكمُ الحاكمِ بعلمِهِ إلا أنهُ معَ الاحتمالِ لا ينهضُ دليلًا على معيَّنٍ منْ صورِ الاحتمالِ إنَّما يتمُّ بهِ الاستدلالُ على وجوبِ النفقةِ على الزَّوْجِ للزوجةِ وأولادِه، على أن لها الأخذَ منْ مالِه إنْ لم يقمْ بكفايتِها وهوَ الحكمُ الذي أرادَهُ المصنفُ منْ إيرادِ الحديثِ هذَا هُنَا في بابِ النفقاتِ.

‌الإنفاق على القريب المعسر

2/ 1070 - وَعَنْ طَارقٍ الْمُحَارِبِي رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ ويَقُولُ:"يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأ بمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَباكَ، وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ"، رَوَاهُ النَّسَائيُّ

(1)

وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(2)

وَالدَّارَقُطْنِي

(3)

. [صحيح]

‌ترجمة طارق المحاربي

(وعنْ طارقِ المحارِبي)

(4)

هوَ طارقُ بنُ عبدِ اللَّهِ المحاربي بضمِّ الميمِ وحاءٍ مهملةٍ، روى عنهُ جامعُ بنُ شدَّاد ورِبْعي، بكسرِ الراءِ وسكونِ الموحدةِ وكسرِ العينِ المهملةِ وتشديدِ المثناةِ التحتيةِ، ابن حِراشٍ، بكسرِ الحاءِ المهملةِ وتخفيفِ الراءِ والشينِ المعجمةِ، (قالَ: قدمْنا المدينةَ فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبرِ

(1)

في "السنن"(5/ 61).

(2)

في "صحيحه" رقم (3341).

(3)

في "السنن"(3/ 44 - 45).

قلت: وأخرجه الطبراني رقم (8175). وهو حديث صحيح.

وفي الباب: عن ثعلبة بن زهدم الحنظلي أخرجه الطيالسي في "المسند" رقم (1257)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 212)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 345). وعن رجل من بني يربوع أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 64).

(4)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (4246)، و"أسد الغابة" رقم (2595)، و"الاستيعاب" رقم (1275)، و"الثقات"(3/ 202)، و"تجريد أسماء الصحابة"(1/ 274)، و"الوافي بالوفيات"(16/ 380).

ص: 277

يخطبُ الناسَ ويقولُ: يدُ المعطي العُلْيا وابدأْ بمنْ تعولُ، أمكَ وأباكَ وأُخْتُكَ وأَخاك ثمَّ أدْناكَ أدناك. رواهُ النسائيُّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والدارقطنيُّ)، الحديثُ كالتفسيرِ لحديثِ: اليدِ العليا خيرٌ منَ اليدِ السُّفْلَى. وفسَّرَ في "النهايةِ"

(1)

: اليَدُ العُلْيَا بالمُعْطِيَةِ أو المنفِقَةِ، واليَدُ السُّفلَى بالمانِعَةِ أو السائلةِ. وقولُه:"ابدأ بمنْ تَعولُ" دليلٌ على وجوبِ الإنفاقِ على القريب. وقدْ فصَّلهُ بِذِكْرِ الأمِّ قبلَ الأبِ إلى آخرِ ما ذكرَهُ، فدلَّ هذَا الترتيبُ على أن الأمَّ أحقُّ منَ الأبِ بالبرّ. قالَ القاضي عياضٌ: وهوَ مذهبُ الجمهورِ ويدلُّ لهُ ما أخرجهُ البخاري

(2)

منْ حديثِ أبي هريرةَ، فذكرَ الأمَّ ثلاثَ مراتٍ ثمَّ ذكرَ الأبَ معطوفًا بثُمَّ فمنْ [لمْ]

(3)

يجد إلَّا كفايةً لأحَدِ أبويْهِ خصَّ [بهِ]

(4)

الأمَّ للأحاديثِ هذهِ. وقدْ نبَّهَ القرآنُ على زيادةِ حقِّ الأمِّ في قولِهِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}

(5)

.

وفي قولِهِ: وأختَكَ [وأخاكَ]

(6)

إلى آخرِهِ، دليلٌ على وجوبِ [الإنفاقِ للقريب]

(7)

المعسرِ فإنهُ تفصيل لقولِهِ: وابدأ بمنْ تعولُ، فجعلَ الأخَ من عيالِهِ، وإلى هذَا ذهبَ عمرُ وابنُ أبي لَيْلَى وأحمدُ والهادي ولكنَّهُ اشترطَ في "البحر"

(8)

أنْ يكونَ القريبُ وارِثًا بالنسبِ، مستدلًا بقولِه تعالَى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(9)

واللامُ للجنسِ، وعندَ الشافعيِّ أن النفقةَ تجبُ لفقيرٍ غيرِ مُكْتَسِب زمِنًا أو صَغيرًا أو مجنونًا لعجْزِه عنْ كفايةِ نفسهِ، قالُوا: فإنْ لمْ يكنْ فيهِ إحدَى هذِه الصفاتِ فأقوالٌ أحسنُها تجبُ لأنهُ يقبحُ أنْ يكلَّفَ التكسُّبَ مع اتساعِ مالِ قريبه. والثاني: المنعُ للقدرةِ على الكسبِ فإنهُ نازلٌ منزلةَ المالِ. والثالث: يجبُ نفقةُ الأصْلِ على الفرعِ دونَ العكسِ لأنهُ ليسَ منَ المصاحبةِ بالمعروفِ أنْ يُكَلَّفَ أصلُهُ التكسبَ معَ عُلُوِّ السنِّ، وعندَ الحنفيةِ يلزمُ التكسبُ لقريبٍ محرَّم فقيرٍ عاجزٍ عن الكسْبِ بقدرِ الإرثِ، هكذَا في كتبِ الفريقيْنِ.

(1)

ابن الأثير: (5/ 293).

(2)

في "صحيحه" رقم (5971).

قلت: وأخرجه مسلم رقم (2548) من حديث أبي هريرة.

(3)

في (ب): "لا".

(4)

في (ب): "بها".

(5)

سورة الأحقاف: الآية 15.

(6)

في (أ): "وأخيك".

(7)

في (أ): "إنفاق القريب".

(8)

(3/ 280).

(9)

سورة البقرة: الآية 233.

ص: 278

وفي "البحر"

(1)

نقلَ عنْهم [خلاف]

(2)

هذا، وهذ الأقوال لم يسفرْ فيها وجْهُ الاستدلالِ. وفي قولِه تعالَى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}

(3)

ما يشعرُ بأنَّ للقريب حقًّا على قريبِه والحقوقُ متفاوتةٌ فمعَ حاجتِهِ للنفقةِ تجبُ ومعَ عَدَمِها فحقه الإحسانُ بغيرها منَ البرِّ والإكرامِ. والحديثُ كالمبينِ لذوي القُرْبَى ودرجاتِهم فيجبُ الإنفاقُ للمعسرِ على الترتيبِ في الحديثِ ولم يذكُرْ فيهِ الولدَ والزوجةَ لأنَّهما قدْ عُلِمَا منْ دليلٍ آخرَ والتقييدُ بكونِه وارثًا محلُّ توقُّفٍ. واعلمْ أن للعلماءِ [خلافًا]

(4)

في سقوط نفقةِ الماضي، فقيلَ تسقطُ للزوجة والأقارب، وقيل لا يسقطان، وقيل تسقط نفقةُ القريب دونَ الزوجةِ. وعلَّلُوا هذا التفصيلَ بأنَّ نفقةَ القريبِ إنَّما شُرِعَتْ للمواساةِ لأَجلِ إحياءِ النفسِ وهذا قدِ انْتَفَى بالنظرِ إلى الماضي، وأما نفقةُ الزوجةِ فهيَ واجبةٌ لا لأجلِ المواساةِ ولذا تجبُ مع غِنَى الزوجةِ، ولإجماعِ الصحابةِ على عَدَمِ سقوطِها فإنْ تمَّ الإجماعُ فلا التفاتَ إلى [خلافِ]

(5)

منْ خالفَ بعدَه وقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم: "ولهنَّ عليكمْ رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروفِ"

(6)

فمهْمَا كانتْ زوجةً مطيعةً فهذَا الحقُّ الذي لها ثابتٌ.

وأخرجَ الشافعي

(7)

بإسنادٍ جيِّدٍ عنْ عمرَ رضي الله عنه: "أنهُ كتبَ إلى أُمراءِ الأجنادِ في رجالٍ غابُوا عنْ نسائِهم فأمرَهمُ أن يأمروهُم بأنْ ينفقُوا أوْ يطلِّقوا، فإنْ طلَّقوا بعثُوا

(1)

(3/ 280).

(2)

في (ب): "ما يخالف".

(3)

سورة الإسراء: الآية 26.

(4)

في (أ): "خلاف".

(5)

زيادة من (ب).

(6)

وهو جزء من حديث جابر أخرجه مسلم رقم (1218).

(7)

في "بدائع المنن"(2/ 327 - 328 رقم 1722).

وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": (6/ 325): "

وإليه ذهب جمهور العلماء كما حكاه في "فتح الباري"، وحكاه صاحب "البحر" عن الإمام علي رضي الله عنه وعمر وأبي هريرة، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وحماد، وربيعة، ومالك، وأحمد بن حنبل، والشافعي، والإمام يحيى.

"وحكى صاحب "الفتح" عن الكوفيين أنه يلزم المرأة الصبر وتتعلق النفقة بذمة الزوج. وحكاه في "البحر" عن عطاء والزهري والثوري والقاسمية، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحد قولي الشافعي" اهـ. وانظر ما قال ابن القيم في "زاد المعاد"(5/ 546 - 551) في حكم المسألة.

ص: 279

بنفقةِ ما حَبَسُوا"، وصحَّحَهُ الحافظُ أبو حاتمٍ الرازيِّ

(1)

. ذكرَهُ ابنُ كثيرٍ في الإرشاد.

‌حق المملوك طعامه وكسوته

3/ 1071 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكُسْوَتُهُ، ولا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ"، رَوَاهُ مِسْلِمٌ

(2)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: للمملوكِ) والمملوكةِ على السيِّدِ (طعامُه وكسوتُه ولا يُكَلَّفُ منَ العملِ إلا ما يطيقُ. رواهُ مسلمٌ). الحديثُ دليلٌ على ما هوَ مجمَعٌ عليهِ منْ وجوبِ نفقةِ المملوكِ وكسوتِه، وظاهرُه مُطْلَقُ الطعامِ والكُسوةِ فلا يَجِبَانِ منْ عينِ ما يأكلُه السَّيدُ ويلبسُهُ، وحديثُ مسلمٍ بالأمرِ بإطْعَامِهِم مما يَطْعَمُ وكسوتِهم مما يلْبَسُ محمولٌ على الندْبِ. ولولا ما قيلَ منَ الإجماعِ علَى هذا لاحتملَ أن هذا يقيِّدُ مطلقَ حديثِ الكتابِ، ودلَّ على أنهُ لا يكلفُه السَّيدُ منَ الأعمالِ إلا ما يطيقُه، وهذا مجمعٌ عليهِ أيضًا.

‌وجوب النفقة والكسوة للزوجة

4/ 1072 - وَعَنْ حَكِيم بْنِ مُعَاوِيةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أبيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ:"أنْ تُطْعِمُهَا إذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيتَ" الحَدِيثُ، وَتَقَدَّمَ في عِشْرَةِ النسَاءِ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ حكيمِ بن مُعاويةَ القشيريِّ عنْ أبيهِ)[معاويةَ بنَ حَيْدَةَ]

(4)

(قالَ: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ ما حقُّ زوجةِ أحدِنا عليهِ قالَ: أنْ تطعمَها إذا طَعِمْتَ، وتكسُوها إذا اكتسيتَ. الحديثَ، وتقدَّمَ في عشرةِ النساءِ) بتمامِهِ ونسبَهُ إلى أحمدَ وأبي داودَ والنسائيَّ وابنِ ماجهْ وأنهُ علَّقَ البخاريُّ بعضَه وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكمُ وتقدَّمَ الكلامُ عليهِ.

(1)

قال ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 406) رقم (1217): "قال أبي: نحن نأخذ بهذا في نفقة ما مضى" اهـ.

(2)

في صحيحه رقم (1662).

(3)

تقدم تخريجه من كتابنا هذا برقم (6/ 959)، وهو حديث صحيح.

(4)

زيادة من (ب).

ص: 280

5/ 1073 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: في حَدِيثِ الْحَجِّ بطُولِهِ، قَالَ في ذِكْرِ النِّسَاءِ:"وَلَهُنَّ عَلَيكُمْ رِزْقُهُن وَكِسْوَتُهُن بِالمَعْرُوفِ" أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ جابرٍ في حديثِ الحجِّ بطولِهِ قالَ في ذِكْرِ النساء: ولهنَّ عليكمْ رزْقُهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف. أخرجَه مسلمٌ) وهوَ دليل على وجوبِ النفقة والكسوةِ للزوجةِ كما دلتْ لهُ الآيةُ وهوَ مُجْمَعٌ عليهِ. وقدْ تقدَّم تحقيقُه وقولُه بالمعروفِ إعلامٌ بأنهُ لا يجبُ إلا ما تُعُورِفَ منْ إنفاقِ كل على قدْرِ حالِه كما قالَ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}

(2)

، ثمَّ الواجبُ لها طعامٌ مصنوعٌ لأنه الذي يصدقُ عليهِ أنهُ نفقةٌ ولا تجبُ القيمةِ إلَّا برِضَا مَنْ يجبُ عليهِ الإنفاقُ. وقدْ طوَّلَ ذلكَ ابنُ القيِّم

(3)

واختارهُ وهوَ الحقُّ فإنهُ قالَ ما لفظُه: وأما فرضُ الدراهمِ فلا أصْلَ لهُ في كتابِ اللَّهِ تعالَى ولا سنةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[ولا روي]

(4)

عنْ أحدِ منَ الصحابةِ ألبَتةَ ولا التابعينَ ولا تابعيهِمْ ولا نصَّ عليهِ أحدٌ منَ الأئمةِ الأربعةِ ولا غيرِهم منْ أئمةِ الإسلامِ واللَّهُ تعالَى أوجبَ نفقةَ الأقاربِ والزوجاتِ والرقيقِ بالمعروفِ، وليسَ منَ المعروفِ فرضُ الدراهمِ بلِ المعروفُ الذي نصَّ عليهِ الشرعُ أنْ يكسُوَهم مما يَلْبَسُ ويُطْعِمُهم مما يأكلُ، ولَيْسَتِ الدراهمُ منَ الواجبِ ولا عوضِه ولا صحَّ الاعتياضُ عمَّا لم يستقرَّ ولم يُمْلَكْ فإنَّ نفقةَ الأقاربِ والزوجاتِ إنَّما تجبُ يومًا [فيومًا]

(5)

ولوْ كانتْ مستقرةً لم تصحُّ المعارضةُ عنْها بغيرِ رِضا الزوجِ والقريبِ، فإنَّ الدراهمَ تُجْعَلُ عِوَضًا عن الواجبِ الأصليِّ وهوَ إما البرُّ عندَ الشافعيِّ أو المُقتاتُ عندَ الجمهورِ، فكيفَ يجبرُ على المعاوضةِ على ذلكَ بدراهمَ منْ غيرِ رِضَا ولا إجبارِ الشرعِ لهُ على ذلكَ، هذا مخالفٌ لقواعدِ الشرعِ ونصوصِ الأئمةِ ومصالحِ العبادِ. ولكنْ إنْ اتفقَ المنفِقُ والمنفَقُ عليهِ جازَ باتفاقِهِمَا. على أن في اعتياضِ الزوجةِ عن النفقةِ الواجبةِ لها نزاع معروف في مذهبِ الشافعي وغيرهِ.

(1)

في "صحيحه" رقم (1218).

(2)

سورة الطلاق: الآية 7.

(3)

في "الهدي النبوي"(5/ 490 - 502).

(4)

في (ب): "ولا".

(5)

في (ب): "فيوم".

ص: 281

‌وجوب النفقة على الإنسان لمن يقوته

6/ 1074 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بِالمرءِ إثمًا أن يُضَيِّعَ مَن يَقوتُ"، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ

(1)

. [صحيح]

وهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ

(2)

بلَفْظِ: "أن يَحبِسَ عمَّنْ يَملِكُ قُوتَهُ". [صحيح]

(وعنْ عبدِ اللَّهِ بن عمرَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرءِ إثْمًا أنْ يضيِّعَ مَنْ يقوتُ. رواهُ النسائيُّ. وهوَ عندَ مسلمٍ بلفظِ: أنْ يحبسَ عمن يملكُ قوتَهُ). الحديثُ دليل على وجوبِ النفقةِ على الإنسانِ لمنْ يقوتُهُ فإنهُ لا يكونُ آثِمًا إلا على تَرْكه [ما]

(3)

يجبُ عليهِ. وقدْ بُولِغَ هُنا في إثْمِهِ بأنْ جَعَلَ ذلكَ الإثمَ كافيًا في هلاكِهِ عنْ كلِّ إثْمٍ سواهُ. والذينَ يقوتُهم ويملكُ قوتَهم همُ الذينَ يجبُ عليهِ إنفاقهم وهمْ أهلُه وأولادُه وعبيدُه على ما سلَفَ تفصيلُه. ولفظُ مسلمٍ خاصٌّ بقوتِ المماليكِ ولفظُ النسائيِّ عامٌّ.

‌نفقة المتوفى عنها زوجها

7/ 1075 - وَعَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ - في الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا - قَالَ: "لَا نَفَقَةَ لَهَا". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ

(4)

، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لكِنْ قَالَ: الْمَحْفُوظُ وَقْفُهُ. [موقوف]

- وثَبَتَ نَفْيُّ النَّفَقَةِ في حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(5)

. [صحيح]

(1)

في "عشرة النساء" رقم (295).

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 160 و 194)، والحاكم (1/ 451)، وأبو نعيم (7/ 135) من طرق عن سفيان الثوري، به.

وأخرجه الطيالسي رقم (2281)، والحميدي رقم (599)، وأحمد (2/ 193 و 195)، والنسائي في "عشرة النساء" رقم (293)، والحاكم (4/ 500)، والبيهقي (7/ 467)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (1411) و (1412) و (1413)، والبغوي في شرح السنة" (2404) من طرق عن أبي إسحاق، به.

وهو حديث صحيح، والله أعلم.

(2)

في "صحيحه" رقم (996).

(3)

في (ب): "لما".

(4)

في "السنن الكبرى"(7/ 430) رجاله ثقات لكن قال البيهقي: المحفوظ وقفه.

(5)

في صحيحه رقم (1480).

ص: 282

(وعنْ جابرٍ يرفعُه في الحاملِ المتوفَّى عنْها زوجُها قالَ: لا نفقةَ لها. أخرجَهُ البيهقيُّ ورجالُه ثِقَاتٌ لكنْ قالَ: المحفوظُ وقْفُهُ. وثبتَ نَفْيُ النفقةِ في حديثِ فاطمةَ بنتِ قيسٍ كما تقدَّمَ. رواهُ مسلمٌ). وتقدَّمَ أنهُ في حقِّ المطلَّقةِ بائِنًا وأنهُ لا نفقةَ لها وتقدَّمَ الكلامُ فيهِ، والكلامُ هُنَا في نفقة المتوفَّى عنْها [زوجُها] وهذ المسئلةُ فيها خلافٌ. ذهبَ جماعةٌ منَ العلماءِ إلى أنَّها لا تجبُ النفقةُ للمتوفَّى عنْها سواءٌ كانتْ حاملًا أو حائلًا، أما الأُولى فَلِهَذَا النصِّ، وأما الثانيةُ فبطريقِ الأولَى. وإلى هذَا ذهبتِ الشافعيةُ والحنفيةُ والمؤيِّدُ لِهذَا الحديثِ، ولأنَّ الأصلَ براءةُ الذِّمَّةِ ووجوبُ التربُّصِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا لا يوجبُ النفقةَ. وذهبَ آخرونَ منْهم الهادي إلى وجوبِ النفقةِ لها مستدلِّينَ بقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ

(1)

}] (2).

قالُوا: ونسخُ المدةِ منَ الآيةِ لا يوجبُ نسخَ النفقةِ، ولأنَّها محبوسةٌ بِسَبَبِهِ فتجبُ نفقتُها. وأُجِيْبَ بأنَّها كانتْ تجبُ النفقةُ بالوصيةِ كما دلَّ لها قولُه تعالَى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}

(2)

، فنسخت الوصية بالمتاع إما بقولِه تعالَى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}

(3)

، وإما بآيةِ المواريثِ

(4)

، وإما بقولِ صلى الله عليه وسلم:"لا وصيةَ لوارثٍ"

(5)

.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

سورة البقرة: الآية 240.

(3)

سورة البقرة: الآية 234.

(4)

سورة النساء: الآيتان 11، 12.

(5)

وهو حديث صحيح. ورد من حديث "عمرو بن خارجة" و"أبي أمامة" و"ابن عباس" و"عبد الله بن عمرو" و "جابر" و"علي" و"أنس".

• أما حديث عمرو بن خارجة فقد أخرجه أحمد (4/ 186، 187)، وابن ماجه رقم (2712)، والنسائي (6/ 247)، والترمذي رقم (2121)، والدارقطني (4/ 152 رقم 10)، والبيهقي (6/ 264)، والطيالسي رقم (1217)، والدارمي (2/ 419). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قلت: في سنده شهر بن حوشب ضعيف لسوء حفظه إلا أن الحديث الصحيح بشواهده.

• وأما حديث أبي أمامة فقد أخرجه أحمد (5/ 267)، وأبو داود رقم (2870)، وابن ماجه رقم (2713)، والترمذي رقم (2120)، والطيالسي رقم (1127)، والبيهقي (6/ 264)، والدولابي في "الكنى"(1/ 64)، وسعيد بن منصور (1/ 125 رقم 427). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قلت: في سنده إسماعيل بن عياش وهو قوي إذا روى عن الشاميين، وهذا الحديث من روايته عنهم لأنه رواه عن (شرحبيل بن مسلم) وهو شامي ثقة، وقد حسنه الحافظ في =

ص: 283

وأما قولُه تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(1)

فإنَّها واردةِ في المطلَّقاتِ فلا [يتناول]

(2)

المتوفَّى عنْها. وفي سُنَنِ أبي داود

(3)

منْ حديثِ ابن عباسٍ أنَّها نُسِخَتْ آيةُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ}

(4)

بآيةِ [المواريث]

(5)

بما فرضَ اللَّهُ لهنَّ منَ الرُّبُعِ والثُّمنُ، ونُسِخَ أجلُ الحوْلِ بأنْ جُعِلَ أجلُها أربعةَ أشهرٍ وعشْرًا، وأما ذِكْرُ المصنفِ حديثَ فاطمةَ بنتِ قيسٍ هنا فكأنهُ يريدُ أن البائنَ والمتوفَّى عنْها حُكمُهُما واحدٌ بجامعِ البينونَةِ والحلِّ للغيرِ.

‌دليل على وجوب الإنفاق على الزوجة والمملوك والولد

8/ 1076 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

= "التلخيص"(3/ 92) أيضًا.

• أما حديث ابن عباس فقد أخرجه الدارقطني (4/ 97 رقم 98) وقال ابن حجر: رجاله ثقات. ولفظه: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة".

• وأما حديث عبد الله بن عمرو فقد أخرجه الدارقطني (4/ 98 رقم 93) وابن عدي في "الكامل"(2/ 817) وقال الحافظ في "التلخيص"(3/ 92): إسناده واه.

• وأما حديث جابر فقد أخرجه الدارقطني (4/ 97 رقم 90)، وفي سنده ضعف.

• وأما حديث علي فقد أخرجه الدارقطني (4/ 97 رقم 91)، وفي سنده ضعف.

• وأما حديث أنس فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2714)، والدارقطني (4/ 70 رقم 8)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 264 - 265)، وهو حديث صحيح.

وخلاصة القول: أن الحديث صحيح، والله أعلم.

(1)

سورة الطلاق: الآية 6.

(2)

في (ب): "نتناول".

(3)

• وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 281) من طريق ابن سيرين عن ابن عباس.

وهذا إسناد رجاله ثقات غير أنه منقطع، ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس.

• وأخرجه الجصاص في "أحكام القرآن"(1/ 414) من طريقين: عن حجاج عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس. الثاني: عن عثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس.

قلت: إسناد الطريقين ضعيف جدًّا، عطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس. وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني. وكذلك متابعة عثمان بن عطاء لابن جريج ضعيفة لا تصلح للمتابعة.

والخلاصة: أن الحديث ضعيف.

(4)

سورة البقرة: الآية 240.

(5)

في (ب): "الميراث".

ص: 284

"اليَدُ الْعُلْيَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى وَيبْدَأُ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَطْعِمْنِي أوْ طَلِّقْنِي"، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي

(1)

، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. [صحيح بطرقه]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اليدُ العُلْيَا خيرٌ منَ اليدِ السُّفلَى) تقدَّمَ تفسيرُهما (ويبدأ) أي بالبرّ والإحسانِ (أحدُكم بمنْ يعُولُ، تقولُ المرأة أطْعَمْني أو طلِّقْني. رواهُ الدارقطنيُّ وإسنادُه حسنٌ) أخرجَهُ منْ طريقِ عاصمٍ عنْ أبي صالحٍ عنْ أبي هريرةَ إلَّا أن في حِفْظِ عاصمٍ شيئًا. وأخرجَهُ البخاريُّ

(2)

موقُوفًا على أبي هريرة. وفي روايةِ الإسماعيليِّ قالُوا: يا أبا هريرة شيءٌ تقولُهُ عنْ رَأيِكَ أوْ عنْ قولِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: هذَا منْ كِيْسي إشارةً إلى أنهُ من استنباطِهِ، هكَذَا قالَهُ الناظرونَ في الأحاديثِ، والذي يظهرُ بلْ ويتعيَّنُ أن أبا هريرةَ قالَ لهمْ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ قالُوا هذا شيءٌ تقولُه عنْ رَأيِكَ أوْ عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أجابَ بقولِه: مِنْ كيسي جوابَ المتهكمِ بهمْ لا مخبرًا أنهُ لمْ يكنْ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكيفَ يصح حَمْلُ قولِه منْ كيسِ أبي هريرةَ على أنهُ أرادَ بهِ الحقيقةَ وقدْ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فينسبُ استنباطُه إلى قولِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهلْ هذَا إلا كذبٌ منهُ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وحاشا أبا هريرةَ منْ ذلكَ فهوَ منْ رُوَاةِ حديثِ:"مَنْ كَذَبَ عَليَّ متعمِّدًا فَليتبوأُ مقعدَهُ منَ النارِ"

(3)

، فالقرائنُ واضحةٌ

(1)

في "السنن"(3/ 297 رقم 191) بلفظ: "المرأة تقول: أطعمني أو طلقني، ويقول عبده: أطعمني واستعملني، ويقول ولده: إلى من تكلنا". وتعقبه الحافظ في "الفتح"(9/ 501) بقوله: "لا حجَّة فيه، لأن في حفظ عاصم شيئًا" اهـ.

• وأخرجه البيهقي (7/ 470)، وابن حبان رقم (3363 - الإحسان) من طريق إسحاق بن منصور، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح عن أبي هريرة.

• وأخرجه أحمد (2/ 476، 524)، والبخاري رقم (5355)، والبيهقي (7/ 466 و 471) من طرق عن الأعمش عن أبي صالح، به.

• وأخرجه أحمد (2/ 278، 402)، والبخاري رقم (1426) و (5356)، والنسائي (5/ 69)، والبيهقي (4/ 180)، من طرق عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

(2)

في "صحيحه" رقم (1428).

(3)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(1/ 10 رقم 3/ 3)، من حديث أبي هريرة.

والحديث متواتر ورد عن (78) صحابي، انظر:"قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" للسيوطي (ص 23 - 27).

ص: 285

[أن]

(1)

لم يردْ أبو هريرةَ إلَّا التهكُّمَ بالسائلِ، ولذَا قُلْنَا إنهُ يتعينُ أن هذَا مرادُه. والذي أَتَى بهِ المصنفُ من الرواية بعضُ حديثه، على أنهُ فسَّر قوله: مِنْ كيسِ أبي هريرة، أي منْ حِفْظ، وعبَّرَ عنهُ بالكيسِ إشارةً إلى ما في صحيح البخاريِّ

(2)

وغيرِهِ منْ أنهُ بسطَ ثوبَهُ أو نَمِرَةً كانتْ عليهِ فأملاهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حديثًا كثيرًا ثمَّ لفَّهُ فلم ينسَ منهُ شيئًا، كأنهُ يقولُ ذلكَ الثوبُ صارَ كيْسًا، وأشرْنا لكَ إلى أنهُ لم يأتِ المصنفُ بحديثِ أبي هريرةَ تامًّا وتمامُه في البخاريِّ:"ويقولُ العبدُ أطْعِمْنِي واستعْمِلْني"، وفي روايةِ الإسماعيليِّ:"ويقولُ خادمكُ أطعمني وإلَّا بِعْني، ويقولُ الابنُ: إلى مَنْ تَدَعُني؟ "، والكلّ دليلٌ على وجوب الإنفاقِ على مَنْ ذُكِرَ منَ الزوجةِ والمملوكِ والولدِ، وقدْ تقدَّم ذلكَ ودلَّ [عليهِ]

(3)

أنهُ يجبُ نفقةُ العبدِ وإلَّا بيعُه، وإيجابُ نفقةِ الولدِ على أبيهِ وإن كان كبيرًا. قالَ ابنُ المنذرِ: اختُلِفَ في نفقةِ مَنْ بلغَ منَ الأولادِ ولا مالَ لهُ ولا كسْبَ، فأوجبَ طائفةٌ النفقةَ لجميعِ الأولادِ أطفالًا كانُوا أو بالغينَ، إناثًا أو [ذكورًا]

(4)

إذا لم يكنْ لهمْ أموالٌ يستغنونَ بها عن الآباءِ. وذهبَ الجمهورُ إلى أن الواجبَ الإنفاقُ عليهم إلى أن يبلغَ الذَّكرُ وتتزوَّجَ الأنْثَى، ثمَّ لا نفقةَ على الأبِ إلَّا إذا كانُوا زُمْنَى، فإنْ كانتْ لهمْ أموالٌ فلا وجُوبَ على الأبِ. واستُدِلَّ على أن [الزوجة]

(5)

إذا أعسرَ زوجُها بنفقتِها طُلِبَ الفراقُ، ويدلُّ له قولُه:

‌إيجاب مفارقة الزوجة إذا لم يقدر الزوج على الإنفاق

9/ 1077 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ - فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى أهْلِهِ - قَالَ: "يُفَرَّقُ بَينَهُمَا". أخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ

(6)

عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبي الزَّنَّادِ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ. وَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيٌّ. [مرسل قوي]

(1)

في (ب): "أنَّه".

(2)

في "صحيحه" رقم (119).

(3)

في (ب): "على".

(4)

في (ب): "ذكرانًا".

(5)

في (ب): "للزوجة".

(6)

وأخرجه الشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 65 رقم 212)، وقال الشافعي رضي الله عنه: والذي يَشبهُ قولُ سعيد بن المسيب سنة أن يكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والخلاصة: أن الحديث مرسل قوي.

ص: 286

(وعنْ سعيدِ بن المسيبِ رضي الله عنه فِي الرَّجلِ لا يجدُ ما ينفق على أهلِه قالَ: يفرَّق بينَهما. أخرجَه سعيدُ بن منصورٍ عنْ سفيانَ عنْ أبي الزنادِ عنه رضي الله عنه قالَ: قلت لسعيدِ بن المسيَّبِ: سنةٌ؟ قالَ: سنَّةٌ. وهذا مرسَلٌ قويٌّ)، ومراسيلُ سعيدٍ معمولٌ بها لما عُرِفَ أنهُ لا يُرْسِلُ إلَّا عنْ [عدل]

(1)

. قالَ الشافعيُّ: والذي يُشْبِهُ أنْ يكونَ قولُ سعيدٍ سنَّةَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وأما قولُ ابنُ حزمٍ

(2)

: لعلَّه أراد سنَّةَ عمرَ فإنَّهُ خلافُ الظاهرِ، وكيفَ يقول له [القائل]

(3)

سنةٌ ويريدُ سؤالَه عنْ سُنَّة عمرَ رضي الله عنه هذا مما لا ينبغي حملُ الكلامِ عليه، وهلْ سألَ السائلُ إلَّا عنْ سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وإنَّما قالَ جماعة إنهُ إذا قالَ الراوي منَ السنَّةِ فإنهُ يُحْتَمَلُ أنْ يريدَ سُنَّةَ الخلفاءِ إذا قال من السنة كذا، وأما بعدَ سؤالِ الراوي فَلَا يريدُ السائلُ إلَّا سنَّةَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا يجبُ المجيبُ إلا عنْها لا عنْ سنةِ غيرِه، لأنهُ إنَّما [يسأل]

(4)

عما هوَ حُجَّةٌ وهوَ سنَّتُهُ صلى الله عليه وسلم. وقدْ أخرجَ الدارقطني

(5)

والبيهقي

(6)

منْ حديثِ أبي هريرةُ مرفُوعًا بلفظِ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "في الرجلِ لا يجدُ ما ينفقُ على امْرأَتِهِ قالَ: يُفَرَّقُ بينَهما". وأما دعوى المصنِّفِ أنهُ وَهِمَ الدارقطنيُّ فيهِ، وتبعَهُ البيهقي على الوهْم فهوَ غيرُ صحيح، وقدْ حقَّقْنَاهُ في "حواشي ضوءِ النهارِ"

(7)

، وسيأتي كتابُ عمرَ إلى أَمراءِ الأجنادِ

(8)

في أنَّهم يأخذونَ على مَنْ عندَهم مِنَ الأجنادِ أنْ يُنْفقُوا أو يطلِّقُوا. وقدِ اختلفَ العلماءُ في هذا الحكمِ وهو فسخُ الزوجيَّةِ عندَ إعسارِ الزوج على أقوالٍ:

الأول: ثبوتُ الفسخِ وهوَ مذهبُ عليٍّ وعمرَ وأبي هريرةَ وجماعةٍ منَ التابعينَ ومنَ الفقهاءِ مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ

(9)

، وقال بهِ أهلُ الظاهر

(10)

مستدلِّينَ بما ذُكِرَ وبحديثِ: "لا ضَررَ ولا ضِرارَ"

(11)

، وتقدَّمَ تخْريجُهُ وبأنَّ النفقةَ في مقابلِ

(1)

في (ب): "ثقة".

(2)

في "المحلَّى"(10/ 95).

(3)

في (ب): "السائل".

(4)

في (ب): "سأل".

(5)

في "السنن"(3/ 297 رقم 194).

(6)

في "السنن الكبرى"(5/ 66).

(7)

(3/ 1085 - 1087).

(8)

سيأتي تخريجه رقم (10/ 1078) من كتابنا هذا.

(9)

انظر: "المغني"(11/ 361).

(10)

في "المحلَّى"(10/ 95) لابن حزم الظاهري اختيار عدم الفسخ.

(11)

تقدم تخريجه أثناء شرح الحديث رقم (14/ 1052) من كتابنا هذا.

ص: 287

الاستمتاعِ، بدليلِ أن الناشِزَ لا نفقةَ لها عندَ الجمهورِ فإذا لم تجبِ النفقةُ سقطَ الاستمتاعُ فوجبَ الخيارُ للزوجةِ، وبأنَّهم أوْجَبُوا على السيِّدِ بيعَ مملوكِهِ إذا عَجزَ عنْ إنفاقِهِ فإيجابُ فِرَاقِ الزوجةِ أَوْلَى؛ لأنَّ كَسْبَها ليسَ مستَحقًا للزوجِ كاستحقاقِ السيِّد لكسبِ عبدِهِ، وبأنهُ قدْ نقلَ ابنُ المنذرِ إجماعَ العلماءِ على الفسخِ بالعِنَّةِ. والضررُ الواقعُ منَ العجزِ عن النفقةِ أعظمُ منَ الضررِ الواقعِ بكونِ الزوجِ عَنّينًا، ولأنه تعالى قالَ:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ}

(1)

وقالَ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(2)

، وأيُّ إمساكٍ بمعروفٍ وأيُّ ضررٍ أشدُّ منْ تركِها بغيرِ نفقةٍ.

والثاني: ما ذهبَ إليهِ الهادويةُ والحنفيةُ وهوَ قولٌ للشافعيّ أنهُ لا فَسْخَ بالإعسارِ عن النفقةِ

(3)

مستدلّينَ بقولِه تعالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}

(4)

، قالُوا: وإذا لم [يكلف]

(5)

اللَّهُ [الزوج]

(6)

النفقةَ في هذا الحالِ فقدْ تركَ ما لا يجبُ عليهِ ولم يأثمُ بتركِهِ فلا يكونُ سببًا للتفريقِ بينَه وبينَ سَكَنِهِ، وبأنهُ قد ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ

(7)

: "إنهُ صلى الله عليه وسلم لما طلبَ أزواجُه منهُ النفقةَ قامَ أبو بكرٍ وعمرُ إلى عائشةَ وحفصةَ فَوَجئا أعناقَهما وكلاهما يقولُ: تسألين رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما ليسَ عندَه - الحديثَ". قالُوا: فهذَا أبو بكرٍ وعمرُ يضربانِ ابنتيْهِما بحضرتِهِ صلى الله عليه وسلم لما سأَلَتَاهُ النفقةَ التي لا يجدُها، فلوْ كانَ الفسخُ لَهُمَا وهما طالبتانِ للحقّ لم يقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الشيخيْنِ على ما فَعَلَا ولَبَيَّنَ أن لهما أنْ تطالبا معَ الإعسارِ حتَّى تثبتَ على تقديرِ ذلكَ المطالبةُ بالفسخ، ولأنهُ كانَ في الصحابةِ المعسرُ بلا ريبٍ ولم يخبرِ النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا منْهم بأنَّ للزوجةِ الفسخَ ولا فسخَ أحد. قالُوا: ولأنَّها لو مرضتِ الزوجةُ وطالَ مرضُها حتَّى تعذَّرَ على الزوجِ جِمَاعُها لوجبتْ نفقتُها ولم يمكَّنْ منَ الفسخِ وكذلكَ الزوجُ. فدلَّ أن الإنفاقَ ليسَ في مقابلةِ الاستمتاعِ كما قلتُم، وأما حديثُ أبي هريرةَ فقدْ بيَّنَ أنه

(1)

سورة الطلاق: الآية 6.

(2)

سورة البقرة: الآية 229.

(3)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 276 - 277).

(4)

سورة الطلاق: الآية 7.

(5)

في (ب): "يكلفه".

(6)

زيادة من (أ).

(7)

رقم (29/ 1478) من حديث جابر بن عبد الله.

ص: 288

منْ كِيسِهِ وحديثُه الآخرُ لعلَّه مثلُه وحديثُ سعيدٍ مرسَلٌ. وأُجِيبَ بأنَّ الآيةَ إنَّما دلَّتْ على سقوطِ الوجوبِ على الزوجِ وبهِ نقولُ. وأما الفسخُ فهوَ حقٌّ للمرأةِ تُطَالِبُ بهِ وبأنَّ قصةَ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم وضَرْبَ أبي بكرٍ وعمرَ إلى آخرِ ما ذكرتُمْ هي كالآيةِ دلَّتْ على عدمِ الوجوبِ عليهِ صلى الله عليه وسلم وليسَ فِيهِ أنهنَّ سَأَلْنَ الطلاقَ أوِ الفسْخِ، ومعلومٌ أنهنَّ لا يسمحْنَ بِفِرَاقِهِ فإنَّ اللَّهَ تعالَى قدْ خَيَّرَهُنَّ فاخترنَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والدار الآخرةَ فلا دليلَ في القصةِ، وأما إقرارُه لأبي بكرٍ وعمرَ على ضرْبِهمَا فَلمَا عُلِمَ منْ أن للآباءِ تأديبَ الأبناءِ إذا أَتَوْا ما لا ينبغي، ومعلومٌ أنهُ صلى الله عليه وسلم لا يفرِّطُ فيما يجبُ عليهِ منَ الإنفاقِ فلعلَّهُنَّ طَلَبْنَ زيادةً على [الواجب]

(1)

فتخرجُ القصةُ عنْ محلِّ النزاعِ بالكليةِ، وأما المعسرونَ منَ الصحابةِ فلمْ يُعْلَمْ أن امرأةً طَلَبَتِ الفسخَ أوِ الطلاقِ لإعسارِ الزوجِ بالنفقةِ ومنْعَها عنْ ذلكَ حتَّى تكونَ حُجَّةً بلْ كانَ نساءُ الصحابةِ كرجالهم يَصْبِرْنَ علَى ضَنْكِ العيشِ وتعسُّرِهِ كما قالَ مالكٌ: إنَّ نساءَ الصحابةِ كُنَّ يُرِدْنَ الآخرةَ وما عندَ اللَّهُ تعالَى ولم يكنْ مرادُهنَّ الدنيا ولم يكنَّ يبالينَ بعسرِ أَزْوَاجِهنَّ، وأما نساءُ اليومِ فإنَّما يتزوَّجْنَ رجاءَ الدنيا منَ الأزواجِ والكسوةِ والنفقةِ. وأما حديثُ ابن المسيّب فقدْ عرفتَ أنهُ منْ مراسيلِهِ وأئمةُ العلمِ يَختارُونَ العملَ بها كما سلف

(2)

[وهو]

(3)

موافقٌ لحديثِ أبي هريرةَ المرفوعِ الذي عاضدَه مرسلُ سعيدٍ، ولوْ فُرِضَ سقوطُ حديثِ أبي هريرةَ لكان فيما ذكرنَا غُنْيَةٌ عنْهُ.

والقولُ الثالثُ: أنهُ يُحْبَسُ الزوجُ إذا أَعْسَرَ بالنفقةِ حتَّى يجدَ ما ينفقُ وهوَ قولُ العنبريِّ

(4)

. وقالتِ الهادويةُ: يُحْبَسُ للتكسُّبِ، والقولانِ مشكلانِ لأنَّ الواجب إنما هوَ الغَدَاءُ في وقْتِهِ والعشاءُ في وقْتِهِ فهوَ واجبٌ في وقْتِهِ، فالحبْسُ إنْ كانَ في خلالِ وجوبِ الواجب فهوَ مانعٌ [منهُ]

(5)

فيعودُ على الغرضِ المرادِ بالنقضِ، وإنْ كانَ قبلَه فلا وجوبَ، فكيفَ يُحْبَسُ لغيرِ واجبٍ؟ وإنْ كانَ بعدَه

(1)

في (ب): "ذلك".

(2)

خلافًا لابن حزم في "المحلَّى"(10/ 95 - 97).

(3)

في (ب): "فهو".

(4)

هو: أبو الهزيل، زفر بن الهزيل بن قيس العنبري، صاحب أبي حنيفة. وكان حافظًا، ثقة، توفي سنة (158) هـ. الجواهر المضية (2/ 207 - 209).

(5)

في (ب): "عنه".

ص: 289

صارَ كالدَّيْنِ، ولا يُحْبَسُ لهُ معَ ظهورِ الإعسارِ اتفاقًا. وفي هذهِ المسألةِ قالَ محمدُ بنُ داودَ لامرأةٍ سألتْه عنْ إعْسارِ زوجِها فقالَ: ذهبَ ناسٌ إلى أنهُ يكلَّفُ السعيَ والاكتسابَ، وذهبَ قومٌ إلى أنها تُؤمَرُ المرأةُ بالصَّبْرِ والاحتسابِ، فلم تفهمْ منهُ الجوابَ فأعادتِ السؤالَ وهوَ يجيبُها ثمَّ قالَ: يا هذهِ قدْ أجبتُكِ ولستُ قاضيًا فأقضي، ولا سُلْطَانًا فأمضي، ولا زَوْجًا فأُرْضِي. وظاهرُ كلامِه، الوقفُ [في هذهِ المسألةِ]

(1)

فيكونُ قولًا رابعًا.

القولُ الخامسُ: أن الزوجةَ إذا كانتْ موسِرَةً وزوجُها معسرٌ كُلِّفَت الإنفاقَ على زوجِها ولا ترجعُ عليهِ إذا أيسرَ لقولِهِ تعالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(2)

، وهوَ قولُ [أبي محمدِ]

(3)

ابن حزمٍ

(4)

. وَرُدَّ بأن الآيةَ سياقها في نفقةِ المولودِ الصغيرِ ولعلَّهُ لا يرى التخصيصَ بالسياقِ.

القولُ السادسُ: لابنِ القيِّم

(5)

وهوَ أن المرأةَ إذا تزوَّجته عالمةً بإعسارهِ أوْ كانَ موسِرًا ثمَّ أصابتْه جائحةٌ فإنهُ لا فسخَ لها وإلا كانَ لها الفسخُ. وكأنهُ جعلَ عِلْمَها رِضَا [بإعساره]

(6)

ولكنْ حيثُ كانَ موسِرًا عندَ تزوجِهِ ثم أعسرَ للجائحةِ لا يظهرُ وجْهُ عدمِ ثبوتِ الفسخِ لها. إذا عرفتَ هذهِ الأقوالَ عرفتَ أن أَقْواها دليلًا وأكثرَها قائلًا هوَ القولُ الأولُ. وقدِ اختلَفَ القائلونَ بالفسخِ في تأجيلهِ بالنفقةِ، فقالَ مالكٌ: يُؤَجَّلُ شهرًا، وقالَ الشافعيُّ: ثلاثةَ أيامٍ، وقالَ حمادُ: سنةً، وقيلَ: شَهْرًا أوْ شَهْرَيْنِ.

قلت: ولا دَلِيلَ على التعيينِ بلْ ما يحصلُ بهِ التضررُ الذي يُعْلَمُ، ومَنْ قالَ: إنهُ يجبُ عليهِ التطليقُ قالَ: ترافِعُهُ الزوجةُ إلى الحاكمِ لينفقَ أو يطلِّقَ، وعلى القولِ بأنهُ فسخٌ ترافعُهُ إلى الحاكمِ ليثبتَ الإعسارَ ثمَّ تفْسَخُ هيَ، وقيلَ ترافعُه إلى الحاكمِ فيجبره على الطلاقِ أو يفسخَ عليهِ أو يأذنَ لها في الفسخِ؛ فإنْ فسخَ أو أذِنَ في الفسْخِ فهو فسخٌ لا طلاقٌ ولا رجعةَ له، وإنْ أيسرَ في العدَّةِ فإنْ طلَّقَ كانَ طلاقه رجعيًا له فيهِ الرجعةُ، واللَّهُ أعلم.

(1)

زيادة من (ب).

(2)

سورة البقرة: الآية 233.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في "المحلى"(10/ 92).

(5)

في "زاد المعاد"(5/ 521).

(6)

في (ب): "بعسرته".

ص: 290

10/ 1078 - وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أمَرَاءِ الأجْنَادِ في رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهمْ: أنْ يَأخُذُوهُمْ بِأنْ يُنْفِقُوا أوْ يُطَلِّقُوا. فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا، أخْرَجَهُ الشَّافِعي

(1)

ثُمَّ الْبَيْهَقيُّ

(2)

بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. [إسناده حسن]

(وعنْ عمرَ رضي الله عنه أنه كَتَبَ إلى أفراءِ الأجنادِ في رجالٍ غابوا عنْ نسائِهم أنْ يأخذوهم بأنْ ينفقُوا أو يطلِّقوا، فإنْ طلَّقوا بعثُوا بنفقةِ ما حبسُوا. أخرجَهُ الشافعيُّ ثمَّ البيهقي بإسنادٍ حسنٍ). تقدَّم تحقيقُ وجْهِ هذا الرأي منْ عمرَ وأنهُ دليل على أنها عندَه لا تسقطُ النفقةُ بالمطلِ في حقِّ الزوجةِ، وعلى أنهُ يجبُ أحدُ الأمريْنِ على الأزواجِ: إما الإنفاقُ أوِ الطلاق.

‌الترغيبُ في الإنفاق وعدم الادخار

11/ 1079 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ:"أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ"، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ"، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ علَى أهْلِكَ"، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ"، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أَنْتَ أَعْلَمُ". أَخْرَجَهُ الشَّافِعي

(3)

وَأَبُو دَاوُدَ

(4)

، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائيُّ

(5)

وَالْحَاكِمُ

(6)

بِتَقْدِيمِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَلَدِ. [حسن]

(1)

في "ترتيب المسند"(2/ 65).

(2)

في "السنن الكبرى"(7/ 469).

قلت: وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(7/ 93، 94). وابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 214) وهو حسن الإسناد.

(3)

في "ترتيب المسند"(2/ 63 - 64).

(4)

في "السنن" رقم (1691).

(5)

في "السنن"(5/ 62).

(6)

في "المستدرك"(1/ 415). وصحَّحه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 251 و 471)، والبيهقي (7/ 466)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (1685) و (1686)، والحميدي رقم (1176)، وابن حبان رقم (828 - موارد). وغيرهم.

والخلاصة: أن الحديث حسن، والله أعلم.

ص: 291

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنهُ جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ اللهِ عندي دينارٌ، قالَ: أنفقْهُ على نفسِكَ، قالَ: عندي آخَرُ، قالَ: أنفقْهُ على ولدِكَ، قالَ: عندي آخَرُ، قالَ: أنفقْهُ على أهلِكَ، قالَ: عندي آخَرُ، قالَ: أنفقْهُ على خادِمكَ، قَالَ: عندي آخرُ، قال: أنتَ أعلمُ. أخرجَهُ الشافعيُّ واللفظُ لهُ، وأبو داودُ، [وأخرجَه]

(1)

النسائيُّ والحاكمُ بتقديمِ الزوجةِ على الولدِ).

وفي صحيح مسلمٍ

(2)

منْ روايةِ جابرٍ بتقديمِ الزوجةِ على الولدِ منْ غيرِ تردُّدٍ، وقالَ المصنفُ: قالَ ابنُ حزمٍ

(3)

: اختلفَ على يحيى القطانِ الثوري، فقدَّمَ يحيى الزوجةَ على الولدِ، وقدَّمَ سفيانُ الولدَ على الزوجةِ، فينبغي أنْ لا يقدّمَ أحدُهما علَى الآخرِ بلْ يكونانِ سواءً لأنهُ قدْ صحَّ أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا تكلَّمَ تكلّمَ ثلاثًا، فيحتملُ أنْ يكونَ في إعادتِه إياه قدَّمَ الولدَ مرةً ومرةً قدَّمَ الزوجةَ فصارا سواءً.

قلتُ: هذا حملٌ بعيدٌ، فليسَ تكريرُه صلى الله عليه وسلم لما يقولُه ثلاثًا بمطَّرِدٍ بلْ عدمُ التكريرِ [هو الغالب]

(4)

، وإنَّما يكرِّرُ إذا لم يُفهمْ عنهُ، ومثلُ هذا الحديثِ جوابُ سؤالٍ لا يجري فيهِ [التكرار]

(5)

لعدمِ الحاجةِ إليهِ لِفَهْم السائلِ للجوابِ، ثمَّ روايةُ جابرٍ التي لا تردُّدَ فيها تقوي روايةَ تقديمِ الأهلِ. والحديثُ قدْ تقدَّم وفيهِ حث على إنفاقِ الإنسانِ ما عندَه وأنهُ لا يدخرُ لأنهُ قالَ لهُ في الآخرِ بعدَ كفايتِه وكفايةِ مَنْ يجبُ عليهِ: أنتَ أعلمُ، ولمْ يقل ادَّخِرْ لحاجتِكَ، وإنْ كانتْ هذهِ العبارةُ تحتملُ ذلكَ.

‌حق الأم في البر مقدَّم على الأب

12/ 1080 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ:"أُمَّكَ"، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمَّكَ"، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمَّكَ"، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أباكَ ثُمَّ الأقْرَبَ فَالأَقْرَبَ". أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(6)

وَالتِّرْمِذِيُّ

(7)

، وَحَسَّنَهُ. [حسن]

(1)

زيادة من (ب).

(2)

رقم (997) من حديث جابر.

(3)

في "المحلَّى"(10/ 105).

(4)

في (ب): "غالب".

(5)

في (ب): "التكرير".

(6)

في "السنن" رقم (5139).

(7)

في "السنن" رقم (1897) وقال: هذا حديث حسن. =

ص: 292

(وعنْ بَهْزِ) بفتحِ الموحدةِ وسكونِ الهاءِ فزايٍ (ابن حكيمٍ عنْ أبيهِ) حكيمٍ (عنْ جدِّهِ) معاويةَ بن حَيْدَةَ القُشيريُّ

(1)

[صحابيٌّ]

(2)

تقدَّمَ ضبطُه.

(قالَ: قلتُ يا رسولُ اللَّهِ مَنْ أبرُّ؟ قالَ: أمَّكَ، قلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قالَ: أمَّكَ، قلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قَالَ: أمَّكَ، قلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قالَ: أباكَ ثمَّ الأقربَ فالأقربَ. أخرجَهُ أبو داودَ والترمذيُّ وحسَّنَهُ).

وأخرجَهُ الحاكمُ

(3)

، وتقدَّمَ الكلامُ عليهِ وأنه يقتضي تقديمَ الأمِّ بالبرِّ، و [أنها أحق]

(4)

به [من]

(5)

الأبِ.

* * *

= قلت: وأخرجه أحمد (5/ 2، 3، 4، 5)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (3) والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 179) و (8/ 2)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (3417).

وهو حديث حسن.

(1)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (8083)، و"أسد الغابة" رقم (4982)، و"الاستيعاب" رقم (2463).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في "المستدرك"(4/ 150) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه على شرطهما في حكيم بن معاوية عن جده عن أبيه

وقال الذهبي: صحيح.

(4)

في (ب): "أحقيتها".

(5)

في (ب): "على".

ص: 293

[الباب السادس] باب الحِضانة

بكسرِ الحاءِ المهملةِ، مصدرٌ منْ حضنَ الصبيَّ حَضْنًا وحضانة جعلَه في حِضْنِهِ، أوْ ربَّاهُ فاحتضنَهُ. والحِضْنُ بِكسرِ الحاءِ هُوَ ما دونَ الإبْطِ إلى الكَشْح أو الصَّدْرِ أو العَضُدانِ وما بينَهما، وجانِبُ الشيءِ وناحيتُهُ كما في "القاموسِ"

(1)

، [وهو]

(2)

في الشرعِ: حفظُ مَنْ لا يستقلُّ بأمرِه وتربيتِهِ ووقايتِه عما يُهْلِكُهُ أو يضرُّهُ.

‌الأم أحق بحضانة ولدها

1/ 1081 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أن امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنِي كَانَ بَطْنِي لَهُ وعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنتِ أَحَقُّ بِهِ، مَا لَمْ تَنْكِحِي"، رَوَاهُ أَحْمَدَ

(3)

وَأبُو دَاوُدَ

(4)

، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم

(5)

. [حسن]

(وعنْ عبدِ الله بن عمرو) بفتحِ المهملةِ ووقعَ في بعضِ النسخ بضمِّها وهوَ غَلَطٌ (أن امرأة قالتْ: يا رسولَ اللهِ إن ابني هذا كانتْ بطني لهُ وعاء) بكسرِ الواوِ والمدِّ وقدْ يُضَمُّ، ويقالُ: الإعاءُ الظَّرْفُ كما في "القاموس"

(6)

، (وثديي لهُ سِقاء)

(1)

"المحيط"(ص 1536).

(2)

في (ب): "و".

(3)

في "المسند"(2/ 182).

(4)

في "السنن" رقم (2276).

(5)

في "المستدرك"(2/ 207)، وصحَّحه ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 4 - 5).

والخلاصة: فهو حديث حسن للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(6)

في "القاموس المحيط"(ص 1731).

ص: 294

ككساءٍ، جلدُ السخلةِ إذا أجذع يكونُ للماءِ واللبنِ كما [في "القاموس"

(1)

]

(2)

، (وحِجْرِي) بحاءِ مهملَةٍ [مثلثةٍ]

(3)

فجيمٍ فراءٍ حضنُ الإنسانِ (لهُ حِواءً) بحاءٍ مهملةٍ بزنةِ كساءٍ أيضًا اسمُ المكانِ الذي يحوي الشيءَ أي يضمُّه ويجمعُه (وإن أباهُ طلَّقني وأرادَ أنْ ينزعَه مني، فقالَ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنتِ أحقُّ بهِ ما لمْ تَنْكِحِي. رواهُ أحمد وأبو داودَ وصحَّحَة الحاكم).

الحديثُ دليلٌ على أن الأمَّ أحق بحضانةِ ولدِها إذا أرادَ الأبُ انتزاعَه منْها، وقدْ ذكرتْ هذهِ المرأةُ صفاتٍ [اقتضت اختصاصها]

(4)

بها تقتضي استحقاقَها وأولويَّتَها بحضانةِ ولدِها، وأقرَّها صلى الله عليه وسلم وحكم لها على ذلك. ففيهِ تنبيه على المعنَى المقْتَضِي للحكمِ وأنَّ العللَ والمعاني معتبرة في إثباتِ الأحكامِ مستقرَّةٌ في الفِطَرة السليمةِ. والحكمُ الذي دلَّ عليهِ الحديثُ لا خلافَ فيهِ وقَضَى بهِ أبو بكرٍ ثمَّ عمرُ، وقالَ ابنُ عباسٍ:"ريحُها وفراشُها وحرُّها خيرٌ لهُ منكَ حتَّى يشبَّ ويختارَ لنفسِه"، أخرجَه عبدُ الرزاقِ في قصةٍ

(5)

. ودل الحديثُ على أن الأمَّ إذا نَكَحَتْ سقطَ حقُّها منَ الحضانةِ وإليهِ ذهبَ الجماهيرُ. قالَ ابنُ المنذرِ

(6)

: أجمعَ على هذا كلُّ مَنْ أحفظُ عنهُ [منْ أهلِ]

(7)

العلم، وذهبَ الحسنُ وابنُ حزمٍ

(8)

إلى عدمِ سقوطِ الحضانةِ بالنكاحِ. واستدلَّ بأنَّ أنسَ بنَ مالكٍ كانَ عندَ والدتِه وهيَ مزوَّجةٌ. وكذَا أمُّ سلمةَ تزوجتْ [بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم]

(9)

وبقيَ ولدُها في كَفَالَتِها. وكذَا ابنهُ حمزةَ قَضَى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالَتِها وهيَ مزوَّجةٌ، قَالَ: وحديثُ ابن عمرٍو المذكورُ فيهِ مقالٌ فإنهُ صحيفةٌ، يريدُ لأنهُ قدْ قيلَ إنَّ حديثَ عمرِو بن [شعيب]

(10)

عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ صحيفةٌ. وأُجِيبَ عنهُ بأنَّ حديثَ عمرِو بن [شُعَيْبٍ](10) قَبِلَهُ الأئمةُ وعملُوا بهِ؛ البخاري وأحمدُ وابنُ المديني وإسحاقُ بنُ راهويْهِ وأمثالُهم فلا يُلْتَفَتُ إلى القدْحِ فيهِ، وأما ما احْتُجَّ بهِ فإنهُ لا يتم دليلًا إلَّا معَ طَلَبٍ مَنْ تنتقلُ إليهِ الحضانةُ

(1)

في "القاموس المحيط"(ص 1671).

(2)

في (ب): "فيه أيضًا".

(3)

في (ب): "مثله".

(4)

في (ب): "اختصت".

(5)

في "المصنف"(7/ 154 رقم 12601).

(6)

في كتابه "الإجماع"(ص 99) رقم (392 و 393).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

انظر: "المحلَّى"(10/ 325 - 329).

(9)

زيادة من (جـ).

(10)

في (أ): "سعيد" وهو خطأ.

ص: 295

ومنازعتِه، وأما معَ عدمِ طلبه فلا نزاعَ في أن للأُمّ المزوَّجَةِ أنْ تقومَ بولدِها، ولم يذكرْ في القصصِ المذكورةِ أنهُ حصلَ نزاعٌ في ذلكَ فلا دليلَ فيما ذكرَهُ على مدَّعاه.

‌الصبي بعد استغنائه بنفسِهِ يخيَّر بين الأم والأب

2/ 1082 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أن امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أبي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:"يَا غُلامُ، هَذَا أَبوكَ وَهِذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيمَا شِئْتَ" فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أحْمَدُ

(1)

والأَرْبَعَةُ

(2)

، وَصَحَّحَهُ التّرْمِذِيُّ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن امرأة قالتْ: يا رسولَ اللهِ إنَّ زوجي يريدُ أنْ يذهبَ بابني وقد نفعني وسقاني منْ بئرِ أبي عِنبةَ) بكسرِ العينِ المهملةِ واحدةُ حبَّاتِ العنبِ، فجاءَ زوجُها فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلامُ هذا أبوكَ وهذِه أمُّكَ فخذْ بيدِ أيِّهِمَا شِئْتَ، فأخذَ بيدِ أمِّهِ فانطلقتْ بهِ. رواهُ أحمدُ والأربعةُ وصحَّحَهُ الترمذيُّ وصحَّحه ابنُ القطَّانِ. والحديثُ دليلٌ على أن الصبيَّ بعدَ استغنائِه بنفسِه يُخَيَّرُ بينَ الأمِّ والأبِ، واختلفَ العلماءُ في ذلكَ فذهبَ جماعةٌ قليلةٌ إلى أنهُ يُخَيَّرُ الصبي عملًا بهذَا الحديثِ وهوَ قولُ إسحاقَ بن راهويْهِ، وحدُّ التخييرِ منَ السبْع السنينَ. وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ إلى عدمِ التخييرِ وقالُوا: الأمُّ أَوْلَى بِهِ إلى أَن يستغنيَ

(1)

في "المسند"(13/ 73 رقم 7346) شاكر.

(2)

أبو داود رقم (2277)، والترمذي رقم (1357)، والنسائي (6/ 185 رقم 3496)، وابن ماجه رقم (2351).

(3)

في "السنن"(3/ 639).

قلت: وأخرجه الطحاوي في "المشكل"(4/ 176) و (4/ 177)، البيهقي (8/ 3) والحاكم في "المستدرك"(4/ 97)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وأخرجه الحميدي في "المسند" رقم (1083)، والدارمي (2/ 170)، وعبد الرزاق رقم (12611) و (12612)، والشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 62)، وسعيد بن منصور رقم (2275) وابن حبان في "الموارد" رقم (1200). وابن أبي شيبة (5/ 237)، من طرق وبألفاظ متقاربة.

وهو حديث صحيح، واللَّهُ أعلم. انظر:"نصب الراية"(3/ 269) و"التلخيص الحبير"(4/ 12) و"الإرواء" رقم (2192).

ص: 296

بنفسِه، فإذا استغْنَى بنفسِه فالأبُ أوْلَى بالذَّكَرِ والأمُّ أَوْلَى بالأُنْثَى، ووافقَهُمْ مالكٌ في عدمِ التخييرِ لكنَّهُ قالَ: إنَّ الأمَّ أحقُّ بالولدِ ذَكَرًا أوْ أُنْثَى، قيلَ حتَّى يبلغَ. وفي المسألةِ تفاصيلُ بِلَا دليلٍ، واستدلَّ نفاةُ التخييرِ بعموم حديثِ: "أنتِ [أولى]

(1)

بهِ ما لم تنكحي"

(2)

، قالُوا: ولوْ كانَ الاختيارُ إلى [الصبي]

(3)

ما كانتْ أحقَّ بهِ.

وأُجِيبَ: بأنهُ إنْ كانَ عامًا في الأزمنةِ أوْ مُطْلَقًا فيها فحديثُ التخييرِ [يخصه]

(4)

أو يقيِّدُه وهذا جَمْعٌ [حسن]

(5)

بينَ الدليلينِ، فإنْ لم يخترِ الصبيَّ أحدُ أبويْه فقيلَ يكونُ للأمِّ بلا قُرْعَةٍ لأنَّ الحضانةَ حق لها وإنما ينتقل عنْها باختيارِه فإذا لم يخيَّرْ بقيَ على الأصْلِ، وقيلَ: وهوَ الأقْوى دليلًا [وأقوم قيلًا]

(6)

إنهُ يُقْرَعُ بينَهما إذْ قدْ جاءَ في القرعةِ حديثُ أبي هريرةَ بلفظِ: فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اسْتَهمَا، فقالَ الرجلُ: مَنْ يحولُ بيني وبينَ ولدي؟ فقالَ صلى الله عليه وسلم: اخترْ أيَّهما شئتَ فاختارَ أمَّهُ فذهبتْ بهِ"، أخرجَهُ البيهقي

(7)

. وظاهرُه تقديمُ القرعةِ على الاختيارِ لكنْ قدَّمَ الاختيارَ عليها [لاتفاق ألفاظ الحديث عليه و]

(8)

لعملِ الخلفاءِ الراشدينَ، إلَّا أنهُ قالَ في "الهدي النبويِّ"

(9)

إنَّ التخييرَ والقرعةَ لا يكونانِ إلَّا إذا حصلتْ بهِ مصلحةُ الولدِ، فلوْ كانتِ الأمُّ أصونَ منَ الأبِ وأغيرَ منهُ قُدِّمَتْ عليهِ ولا التفاتَ إلى قرعةٍ ولا اختيارِ الصبيِّ في هذهِ الحالةِ فإنهُ ضعيفُ العقلِ يُؤثِرُ البطالةَ واللعبَ، فإذا اختارَ مَنْ يساعدُه على ذلكَ فلا التفاتَ إلى اختيارِه وكان عندَ مَنْ هوَ أنفعُ له وخير له، ولا تحتملُ الشريعةُ غيرَ هذا، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"مُرُوهُمْ بالصلاةِ لسبعٍ، واضربُوهم على تَرْكِها لعشرٍ، وفرِقُوا بينَهم في المضاجعِ"

(10)

،

(1)

في (ب): "أحق".

(2)

تقدم تخريجه رقم (1/ 1081) من كتابنا هذا.

(3)

في (ب): "الصغير".

(4)

في (ب): "يخصصه".

(5)

زيادة من (أ).

(6)

زيادة من (أ).

(7)

في "السنن الكبرى"(8/ 3) رجاله ثقات لكن فيه انقطاع بين أبي ميمونة وأبي هريرة، وانظر تخريج الحديث رقم (2/ 1082) من كتابنا هذا.

(8)

زيادة من (أ).

(9)

5/ 474 - 475).

(10)

تقدم تخريجه، وهو حديث حسن.

أخرجه أبو داود رقم (494)، والترمذي رقم (407)، من حديث سبرة مرفوعًا بسند صحيح.

وأخرجه أبو داود رقم (495) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، بسند حسن.

ص: 297

واللهُ تعالَى يقولُ: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}

(1)

فإذا كانتِ الأمُّ تتركُه في المكتبِ أو تعلِّمُهُ القرآنَ والصبي يؤثِرُ اللعبَ ومعاشرةَ أقرانِه وأبوهُ يمكنُهُ منْ ذلكَ [فهي]

(2)

أحق بهِ ولا تخييرَ ولا قرعةَ، وكذلكَ العكسُ، انتهَى وهو كلام حسنٌ.

‌القول في حضانةِ الكافرة والفاسقة

3/ 1083 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ رضي الله عنه أنَّهُ أَسْلَمَ، وأَبَتِ امْرَأَتُهُ أنْ تُسْلِمَ. فأقْعَدَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الأُمَّ نَاحيَةً، والأبَ ناحِيَةً، وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَ "اللَّهُمَّ اهْدِهِ"، فَقَالَ إِلَى أَبِيهِ فَأَخَذَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(3)

وَالنَّسَائِيُّ

(4)

وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(5)

. [صحيح]

(وعنْ رافعِ بن سنان رضي الله عنه أنه أسْلَمَ وأبتِ امرأتُه أنْ تسْلِمَ، فأقعدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمَّ في ناحية والأبَ في ناحيةٍ وأقعد الصبيَّ بينَهما، فمالَ إلى أمِّهِ، فقالَ: اللَّهمَّ اهدِه، فمالَ إلى أبيهِ فأخذَه. أخرجَه أبو داودَ والنسائيُّ وصحَّحَهُ الحاكمُ) إلا أنهُ قالَ ابنُ المنذرِ: لا يثبتُه أهلُ النقلِ وفي إسنادِه مَقَالٌ

(6)

وذلكَ لأنهُ مِنْ روايةِ عبدِ الحميدِ بن جعفرِ بن رافعٍ

(7)

ضعَّفَهُ الثوريُّ ويحيى بنُ معينٍ. واختُلِفَ في هذا الصبيِّ، فقيلَ

(1)

سورة التحريم، الآية 6.

(2)

في (ب): "فإنها".

(3)

في "السنن" رقم (2244) بسند حسن.

(4)

في "السنن"(6/ 185 رقم 3495).

(5)

في "المستدرك"(2/ 206 - 207) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2352)، والدارقطني (4/ 43 رقم 126 و 127)، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 11): أخرجه أحمد والنسائى وأبو داود وابن ماجه والحاكم، والدارقطني، من حديث رافع بن سنان، وفي سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة، ورجح ابن القطان رواية عبد الحميد، وقال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال" اهـ.

• وقد صححه المحدث الألباني في "صحيح أبي داود وابن ماجه والنسائي".

(6)

ذكر ذلك ابن حجر في "التلخيص"(4/ 11).

(7)

انظر: "الضعفاء والمتروكين" لابن الجوزي رقم (1823).

وقال أحمد: ليس به بأس، وقال يحيى بن معين: ثقة، وقال ابن حجر: صدوق رمي بالقدر وربما وهم.

ص: 298

إنهُ أُنثَى، وقيلَ: ذكرٌ، والحديثُ ليسَ فيهِ تخييرُ الصبيِّ إذْ الظاهرُ أنهُ لم يبلغْ سنَّ التخييرِ فإنهُ إنَّما أقعدَهُ صلى الله عليه وسلم بينَهما ودَعَا أنْ يهديَهُ اللَّهُ فاختارَ أباهُ لأجْلِ الدعوةِ النبويةِ، فليسَ منْ أدلةِ التخيير.

وفي الحديث دليل على ثبوتِ حقّ الحضانةِ للأمِّ الكافرةِ وإنْ كانَ الولدُ مُسْلِمًا، إذْ لوْ لم يكنْ لها حق لم يقعدْه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَهما. وإلى هذا ذهبَ أهلُ الرأي والثوريُّ. وذهبَ الجمهورُ إلى أنَّهُ لا حقَّ لها معَ كُفْرِهَا، قالُوا: لأنَّ الحاضنَ يكونُ حريصًا على تربيةِ الطفلِ على دِيْنِهِ؛ ولأنَّ الله تعالَى قطعَ الموالاةَ بينَ الكافرينَ والمسلمينَ وجعلَ المؤمنينَ بعضُهم أَوْلَى ببعضٍ وقالَ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}

(1)

، والحضانةُ ولايةٌ لا بدَّ فيها من مراعاةِ مصلحةِ المولَّى عليه كما عرفتَ قريبًا. وحديثِ رافعِ قدْ عرفتَ عدمَ انتهاضهِ، وعلى القولِ بصِحَّتِهِ فهو منسوخٌ بالآياتِ القرآنيةِ هذهِ، وكيفَ تثبتُ الحضانةُ للأمِّ الكافرةِ مَثَلًا وقدِ اشترطَ الجمهورُ وهمُ الهادويةُ وأصحابُ أحمدَ والشافعيُّ عدالةَ الحاضنةِ وأنهُ لا حقَّ للفاسقةِ فيها وإنْ كانَ شَرْطًا في غايةٍ منَ البعْدِ، ولوْ كانَ شَرْطًا في الحاضنةِ لضاعَ أطفالُ العالمِ، ومعلومٌ أنهُ لم يزلْ منذُ بعثَ اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم إلى أن تقومَ الساعةُ أطفالُ الفساقِ بينَهم يُرَبُّونَهم لا يتعرضُ لهم أحدٌ منْ أهلِ الدنيا معَ أنَّهم الأكثرونَ، ولا يُعْلَمُ أنهُ انتُزِعَ طفلٌ منْ أبويْهِ أوْ أحدِهما لِفِسْقِهِ، فهذَا الشرطُ باطلٌ لعدمِ العاملِ بهِ. نعَمْ يُشْتَرَطُ كونُ الحاضِنِ عاقلًا بالغًا فلا حضانةَ لمجنون ولا معتوهٍ ولا طفلٍ، إذْ هؤلاءِ يحتاجونَ من يحضنُهم ويكفيهم، وأما اشتراطُ حريةِ الحاضنِ فقال بهِ الهادويةُ [وأصحابُ]

(2)

الأئمةِ الثلاثةِ وقالُوا: لأنَّ المملوكَ لا ولايةَ لهُ على نفسهِ فلا يتولَّى غيرَه والحضانةُ ولايةٌ. وقالَ مالكٌ في حُرٍّ لهُ ولدٌ منْ أمة إنَّ الأمَّ أحقُّ بهِ ما لم تُبَعْ فتنتقلْ فيكونُ الأبُ أحقَّ بها، واستدلَّ بعمومِ حديثِ:"لا تُوَلَّهُ والِدَةٌ عَنْ وَلَدِها"، وحديثِ:"مَنْ فَرَّقَ بينَ والدةٍ وولدِها فرَّقَ اللَّهُ بينَهُ وبينَ أحِبَّتِهِ يومَ القيامةَ"، أخرجَ الأولَ البيهقيُّ

(3)

منْ حديثِ أبي بكْرٍ وحسَّنَهُ

(1)

سورة النساء: الآية 141.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في "السنن الكبرى"(8/ 5).

ص: 299

السيوطي

(1)

، وأخرجَ الثاني أحمدُ

(2)

والترمذيُّ

(3)

والحاكمُ

(4)

منْ حديثِ أبي أيوبَ وصحَّحَهُ الحاكمِ قالَ: ومنافعُها وإنْ كانتْ مملوكةً للسيِّدِ فحقُّ الحضانةِ مُسْتَثْنَى وإنْ استغرقَ وَقْتًا منْ ذلكَ كالأوقاتِ التي تُسْتَثْنَى للمملوكِ في حاجةِ نفسِهِ وعبادةِ ربِّهِ.

‌الخالة كالأم في الحضانة

4/ 1084 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى في ابْنَةِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهِ، وَقَالَ:"الْخَالَةُ بِمَنْزَلَةِ الأُمِّ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ

(5)

. [صحيح]

- وَأَخْرَجَهُ أحْمَدُ

(6)

مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ: وَالْجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا وَأَنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ. [صحيح]

(وعنِ البراءِ بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى في ابنةِ حمزةَ لخالتِها وقالَ:

(1)

في "الجامع الصغير" رقم (9872).

وقال المناوي في "فيض القدير"(6/ 423): قال الحافظ ابن حجر سنده ضعيف، ورواه أبو عبيدة في "غريب الحديث"(3/ 65) مرسلًا من مراسيل الزهري ورواية ضعيفة. وقال الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (6294) ضعيف.

• قوله: لا تُوَلَّهُ والدة عن ولدها. فالتوليه أن يفرق بينهما في البيع. وكل أنثى فارقت ولدها فهي واله

(2)

في "المسند"(5/ 413).

(3)

في "السنن"(3/ 580 رقم 1283) وقال: حديث حسن غريب.

(4)

في "المستدرك"(2/ 55) وصحَّحه على شرط مسلم.

قلت: وأخرجه الدارقطني (3/ 67 رقم 256)، والطبراني في "الكبير"(4/ 182 رقم 4080)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 280) رقم (456)، والدارمي (2/ 227 - 228) وهو حديث صحيح. وكذلك صخحه الشيخ حمدي السلفي في "مسند الشهاب".

(5)

في صحيحه رقم (2699).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1904)، والبيهقي (8/ 5 - 6).

(6)

في "المسند"(1/ 98 - 99) و (1/ 115).

قلت: وأخرجه إسحاق بن راهويه - كما في "نصب الراية"(3/ 267)، والبيهقي (8/ 6)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 173 - 174)، وأبو داود رقم (2280)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 140)، والحاكم (3/ 120)، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. انظر: "الإرواء" للمحدث الألباني (7/ 246 - 248).

ص: 300

الخالةُ بمنزلةِ الأمِّ. أخرجَهُ البخاريُّ، وأخرجه أحمدُ منْ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه قالَ: والجاريةُ

عندَ خالتِها فإنَّ الخالةَ والدةٌ). والحديثُ دليلٌ على ثبوتِ الحضانةِ للخالةِ وأنَّها كالأم، ومقتضاهُ أن الخالةَ أَوْلَى منَ الأبِ ومِنْ أم الأمِّ، ولكن خصَّ ذلكَ الإجماعُ وظاهرُه أن حضانةَ [الخالة]

(1)

المزوَّجةِ أَوْلَى منَ الرجالِ، فإنَّ عصبة المذكورةِ [رجال]

(2)

موجودونَ [طالبوا بالحضانة]

(3)

كما دلتْ لهُ القصةُ، واختصامُ عليٍّ رضي الله عنه وجعفرٍ وزيدِ بن حارثةَ وقد سبقتْ وأنهُ قَضَى بِهَا للخالةِ وقالَ:"الخالةُ بمنزلةِ الأمِّ"

(4)

. وقدْ وردتْ رواية في القصةِ أنهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى بها لجعفرٍ فاستشكلَ القضاءُ بها لجعفرٍ فإنهُ ليسَ محْرمًا، وهوَ وعليٌّ رضي الله عنهما سواءٌ في القرابةِ لها.

وجوابُه أنهُ صلى الله عليه وسلم قَضى بها لزوجةِ جعفرٍ وهيَ خالتُها فإنَّها كانتْ تحتَ جعفرٍ لكنْ لَمَّا كانَ المنازعُ جعفرَ إذ قالَ في محل الخصومةِ: بنتُ عمِّي وخالتُها تحتي أي زوجتي قَضَى بِهَا لِجَعفرٍ لما كانَ هوَ الطالب ظاهرًا وقالَ: الخالةُ بمنزلةِ الأمِّ إبانةً بأنَّ القضاءَ للخالةِ، فمعنَى قولِه: قَضى بها لجعفرٍ قضَى بِها لزوجةِ جعفرٍ وإنَّما أوقَعَ القضاءَ عليهِ لأنهُ الطالبُ ولا إشْكالَ في هذَا. إلَّا أنهُ استشكلَ ثانيًا بأنَّ الخالةَ مزوَّجة ولا حق لها في الحضانةِ لحديثِ: "أنتِ أحقُّ بهِ ما لم تَنْكِحِي"

(5)

. والجوابُ عنهُ أن الحقَّ في المزوَّجةِ للزوجِ وإنَّما [سقطت]

(6)

حضانتُها لأنَّها تشتغلُ بالقيامِ بحقه وَخِدْمتِهِ فإذَا رَضيَ الزوجُ بأنَّها تحْضنُ مَنْ لها حق في حضانتِه وأحبَّ بقاءَ الطفلِ في حجرِه لم يسقطْ حقُّ المرأةِ منَ الحضانةِ. وهذهِ القصةُ دليلُ [هذا]

(7)

الحكم، وهذا مذهبُ الحسنِ والإمامِ يحيى وابنِ حزمٍ وابن جريرٍ؛ ولأنَّ النكاحَ للمرأةِ إنّما يُسْقِطُ حضانةَ الأمِّ وحْدَها حيثُ كانَ المنازعُ لها الأبُ، وأما غيرُها فلا يُسْقِطُ حقَّها منَ الحضانةِ بالتزويج أو الأمِّ والمنازعُ لها غيرُ الأبِ، يؤيِّدُه ما عرفَ من أن المرأةَ المطلَّقةَ يشتدُّ بغضُها للزوجِ المطلِّقِ ومَنْ يتعلَّقُ به، فقد يبلغ بها الشأنُ إلى إهمالِ ولده مِنْهُ قصدًا لإغاظتِه، وتبالغُ في

(1)

في (ب): "المرأة".

(2)

في (ب): "من الرجال".

(3)

في (ب): "طالبون للحضانة".

(4)

تقدم تخريجه في حديث الباب.

(5)

تقدم تخريجه رقم (1/ 1081) من كتابنا هذا.

(6)

في (ب): "فقط".

(7)

زيادة من (أ).

ص: 301

التحبُّبِ عندَ الزوجِ الثاني بتوفيرِ حقِّه، وبهذا يجتمعُ شملُ الأحاديثِ. والقولُ بأنهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى بها لجعفرَ وأنهُ دالٌّ على أن للعصبة [حقًّا]

(1)

في الحضانةِ بعيدٌ، [لأن جعفر]

(2)

وعليًا رضي الله عنهما سواءٌ في ذلكَ؛ ولأنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم: الخالةُ أم، صريحٌ أن ذلكَ علةُ القضاءِ أن الأمَّ لا [ينازع في حقها و]

(3)

حضانةِ ولدِها فلا حقَّ لغيرها.

‌يجب مناولة الخادم مما يقدِّمه من الطعام

5/ 1085 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَينِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِي. [صحيح]

(وعنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتَى أحدَكمْ) مفعولٌ مقدَّمٌ (خادِمُه) فاعلٌ (بطعامِه، فإنْ لم يُجْلِسْهُ معه فلْيناولْه لقمةً أو لقمتَيْنِ. متفقٌ عليهِ واللفط للبخاريِّ). الخادمُ يُطْلَقُ على الذَّكَرِ والأنْثَى أعمُّ منْ أنْ يكونَ مملوكًا أوْ حُرًا، والمراد إذا كان الخادم حرًا، فإن كان أنثى والمخدوم ذكر فلا بد أن يكون محرمًا وكذا في صورة العكس، وظاهرُ الأمرِ الإيجابُ، وأنهُ يناولُه منَ الطعامِ ما ذكرَ مخيرًا. وفيهِ بيانُ الحديثِ الذي فيهِ الأمرُ بأنْ يُطْعمَهُ مما يطعمُ ليسَ المرادُ بهِ مؤاكلتَهُ ولا أن يُشْبِعَهُ منْ عينِ ما يأكلُ، بلْ يشركُه فيهِ بأدْنَى شيءٍ منْ لقمةٍ أوْ لُقْمَتَيْنِ. قالَ ابْنُ المنذِرِ عنْ جميعِ أهلِ العلمِ: إن الواجبَ إطعامُ الخادمِ منْ غالبِ القوتِ الذي يأكلُ منهُ مثلَه في تلكَ البلدةِ، وكذلكَ الإدامُ والكسوةُ، وأنَّ للسيِّدِ أنْ يستأثرَ بالنفيسِ منْ ذلكَ وإنْ كانَ الأفضلُ المشاركةَ، وتمامُ الحديثِ:"فإنهُ وَليَ حرَّهُ وعلاجُه"، فدلَّ على أن ذلكَ يتعلَّقُ بالخادمِ الذي لهُ عنايةٌ في تحصيلِ الطعامِ، فيندرجُ في ذلكَ الحاملُ للطعامِ لوجودِ المعنى فيهِ وهوَ تعلُّقُ نفسِه بهِ.

‌هل يحرم قتل الهرة

6/ 1086 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ،

(1)

في (أ): "حق".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (ب): "تنازع".

(4)

البخاري رقم (5460)، ومسلم رقم (1663).

ص: 302

سَجَنَتهَا حَتى مَاتَت، فَدَخَلَت النَّارَ فِيهَا، لَا هيَ أطعَمَتهَا وَسَقَتْهَا إذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرْضِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: عُذِّبتِ امرأةٌ). قالَ المصنفُ

(2)

: لم أقفْ على اسمِها، وفي روايةِ: أنَّها حميريةٌ، وفي روايةٍ: منْ بني إسرائيلَ، (في هرَّةٍ) هي أُنْثَى السِّنَّوْرِ، والهرُّ الذَّكَرُ، (سجنتْها حتَّى ماتتْ فدخلتِ النارَ فيها، لا هيَ أطعمتْها وسقتْها إذْ هي حبستْها، ولا هيَ تركتْها تأكلُ منْ خَشَاشِ الأرضِ) بفتح الخاءِ المعجمةِ ويجوزُ ضمُّها وكسرُها وشِيْنَيْنِ معجمتينِ بينَهما ألفٌ، والمرادُ هوامُّ الأرضِ (متفقٌ عليهِ).

والحديثُ دليلٌ على تحريمِ قَتْلِ الهرةِ لأنهُ لا عذابَ إلَّا عَلَى فعلِ محرَّمٍ، ويحتملُ أن المرأةَ كافرةٌ فعذِّبتْ بِكُفْرِهَا وزيدتْ عذابًا بسببِ ذلكَ. وقالَ النوويُّ

(3)

: إنَّها كانتْ مسلمةً وإنَّما دخلتِ النارَ بهذهِ المعصيةِ. وقالَ أبو نعيمٍ في تاريخِ أصبهانَ: كانتْ كافرةً. ورواهُ البيهقي في البعثِ والنشورِ عنْ عائشةَ فاستحقتِ العذابَ بِكُفْرِها أو بِظُلْمِها. وقالَ الدميريُّ في "شرح المنهاج": الأصحُّ أن الهِرَّةَ يجوزُ قتلُها حالَ عُدُوِّها دونَ هذهِ الحالة، وجوَّزَ القاضي قَتْلَها في حالِ سُكُونِها إلحاقًا لها بالخمسِ الفواسقِ. وفي الحديثِ دليلٌ على جوازِ اتخاذِ الهرةِ ورَبْطِها إذا لم يهملْ [طعامها وشرابها]

(4)

. قلتُ: ويدلُّ علَى أنَّهُ لا يجبُ إطعامُ الهرةِ بلِ الواجبِ تخليتُها تبطشُ على نفسِها.

* * *

تم بحمد الله المجلد السادس من

"سُبل السلام الموصلة إلى بلوغ المَرام"

ولله الحمد والمنة

ويليه المجلد السابع

وأوله: [الكتاب الحادي عشر]

كتاب الجنايات

(1)

البخاري رقم (2365)، وطرفاه رقم (3318) و (3482)، ومسلم رقم (2242).

قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 330 - 331)، وأحمد (2/ 159 و 188).

(2)

في "فتح الباري"(6/ 357).

(3)

في "شرح مسلم"(14/ 240).

(4)

في (ب): "إطعامُها".

ص: 303