الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الكتاب الحادي عشر] كتابُ الجنايات
هيَ جمعُ جنايةٍ، مصدرٌ مِنْ جنَى الذَّنْبَ يجنيهِ جنايةً، أي: جرَّه إليهِ. [وإنما جمع]
(1)
وإن [كان]
(2)
مصدرًا لاختلافِ أنواعِها، [لأنها]
(3)
قد تكونُ في النفسِ وفي الأطرافِ، عَمْدًا وخَطَأً.
أس
باب
حل دم المسلم
1/ 1087 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِم يَشهَدُ أَنْ لَا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلا بِإحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْس بالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدينِهِ الْمُفَارِق للْجَمَاعَةِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
. [صحيح]
(عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ، يشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأنِّي رسولُ اللَّهِ) هوَ تفسيرٌ لقولِه: مسلمٍ (إلَّا بإحدى ثلاثٍ: الثيِّبِ
(1)
في (ب): "وجمعت".
(2)
في (ب): "كانت".
(3)
في (ب): "فإنها".
(4)
البخاري رقم (6878)، ومسلم رقم (1676).
قلت: وأخرجه الطيالسي رقم (289)، وأحمد (1/ 444)، والدارمي (2/ 218)، وابن ماجه رقم (2534)، والبيهقي (8/ 19 و 194 و 252 و 213)، من طرق عن الأعمش، به. وأخرجه مسلم رقم (25/ 1676)، وأحمد (1/ 382، 428)، وأبو داود رقم (4352)، والترمذي رقم (1452)، والبيهقي (8/ 213 و 283 - 284)، والبغوي رقم (2517) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، به.
الزَّاني) أي المحصَنِ [يقتل بالرجم]
(1)
، (والنَّفسِ بالنَّفسِ، والتاركِ لدينهِ) أي المرتدِّ عنهُ (المفارقِ للجماعةِ. متفقٌ عليهِ).
فيه دليلٌ على أنهُ لا يُبَاحُ دمُ المسلمِ إلَّا بإتيانِه بإِحدَى الثلاثِ، والمرادُ منَ النَّفْسِ بالنفس القصاصُ بشروطِه، وسيأتي. والتاركُ لدينِه يعمُّ كلَّ مرتدٍّ عن الإسلامِ بأيِّ رِدَّةٍ كانَ فَيُقْتَلُ إنْ لمْ يرجعْ إلى الإسلامِ.
وقولُه: المفارقُ للجماعةِ، يتناولُ كلَّ خارجٍ عن الجماعةِ ببدعةٍ، أو بغي أوْ غيرهِما، كالخوارجِ
(2)
إذا قاتلُوا وأفسدُوا. وقدْ أوردَ على الحصْرِ أنهُ يجوزُ قتلُ الصائلِ، وليسَ منَ الثلاثةِ، وأُجِيْبَ بأنهُ داخل تحتَ قولِه المفارقُ للجماعةِ، وأنَّ المرادَ منْ هؤلاءِ مَنْ يجوزُ قتلُهم قصدًا، والصائلُ لا يُقْتَلُ قصدًا [إنما دفاعًا]
(3)
.
وفيهِ دليلٌ على أنهُ لا يُقْتَلُ الكافرُ الأصليُّ لطلبِ إيمانِه بلْ لدفعِ شرِّهِ، وقدْ بسطْنا القولَ في ذلكَ في حواشي "ضوء النَّهارِ"
(4)
، وقدْ يُقَالُ إنَّ الكافر الأصليَّ داخلٌ تحتَ التاركِ لدينهِ [المفارق للجماعة]
(5)
، لأنهُ تركَ فطرتَهُ التي فَطره اللَّهُ عليها كما عرفَ في محلِّهِ.
حُرمة دماء المسلمين
2/ 1088 - وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٍ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٌ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الاسْلامِ فَيُحَارِبُ الله وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ
(1)
في (ب): "بالرجم".
(2)
سمُّوا بهذا الاسم، لخروجهم على الإمام علي رضي الله عنه، ونزلوا بأرض يقال لها حَروراء فسمُّوا بالحرورية. وهم الذين يكفِّرون أصحاب الكبائر، ويقولون بأنهم مخلَّدون في النار. كما يقولون بالخروج على أئمة الجور، وأن الإمامة جائزة في غير قريش، وهم يكفرون عثمان وعليًا وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم. ويعظِّمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. "الملل والنحل" للشهرستاني (1/ 114 - 115)، ومقالات الإسلاميين (ص 86).
(3)
في (ب): "بل دفعًا".
(4)
(4/ 2589 وما بعدها
…
).
(5)
زيادة من (أ).
الأَرْضِ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
، والنَّسَائِيُّ
(2)
، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: لا يحل قتل مسلمٍ إلَّا بإِحْدَى ثلاثِ خصالٍ)[بيَّنَها بقولِهِ]
(4)
: (زانٍ محصَنٍ)[يأتي تفسيرُه]
(5)
، (فَيُرْجَمُ، ورجلٌ يقتل مسلِمًا متعمِّدًا)[قيَّدَ ما أطْلَقَ في الحديثِ الأوَّلِ]
(6)
(فَيُقْتَل، ورجلٌ يخرج منَ الإسلامِ فيحاربُ اللَّهَ ورسولَه فَيُقْتَل، أو يصْلَب، أو ينْفَى منَ الأرضِ. رواه أبو داودَ، والنسائيُّ، وصحَّحَه الحاكم)، الحديثُ أفادَ ما أفادَه الحديثُ الأولُ [الذي قبلَه]
(7)
.
وقولُه: فيحاربُ اللَّهَ ورسولَه، بعدَ قولِه: يخرجُ منَ الإسلام بيانٌ لحكمٍ خاصٍّ لخارجٍ عن الإسْلامِ خاصٍّ، وهوَ المحاربُ، ولهُ حكمٌ خاصٌّ هوَ ما ذكرَ منَ القتلِ أوِ الصلب أو النفيِ، فهوَ أخصُّ منَ الذي أفادَه الحديثُ الذي قبلَه: والنفيُ الحبسُ عندَ أَبي حنيفةَ، وعندَ الشافعيِّ النفيُ منْ بلدٍ لا يزالُ يُطْلَبُ، وهوَ هاربٌ فَزعٌ، وقيلَ يُنْفَى منْ بلدهِ فقطْ.
وظاهرُ الحديثِ والآيةِ أيضًا أن الإمامَ مخيَّرٌ بينَ هذهِ العقوباتِ في كلِّ محارِبٍ، مسلِمًا [كانَ]
(8)
أوْ كافرًا.
(1)
في "السنن" رقم (4353).
(2)
في "السنن"(7/ 91).
(3)
في "المستدرك"(4/ 367) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين.
والحديث صحيح، وله شاهد من حديث ابن مسعود.
أخرجه مسلم رقم (26/ 1676)، والنسائي (7/ 90 - 91)، وأحمد (6/ 181)، والبيهقي (8/ 194 - 195)، والدارقطني (3/ 82 و 82 - 83) من طرق عن عبد الرحمن بن مهدي به. وأخرجه مسلم رقم (25/ 1676)، وأبو داود رقم (4352)، والترمذي رقم (1402)، وأحمد (1/ 382 و 428)، والبيهقي (8/ 213 و 283 - 284)، والبغوي رقم (2517)، من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، به.
وأخرجه البخاري رقم (6878)، ومسلم رقم (1676)، وابن ماجه رقم (2534)، وأحمد (1/ 444)، والطيالسي رقم (289)، والدارمي (2/ 218)، والبيهقي (8/ 19)، من طرق عن الأعمش، به.
(4)
زيادة من (ب).
(5)
زيادة من (ب).
(6)
زيادة من (ب).
(7)
زيادة من (ب).
(8)
زيادة من (ب).
عظم شأن دم الإنسان
3/ 1089 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَينَ الناسِ يَومَ الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أول ما يُقْضَى بينَ الناسِ يومَ القيامةِ في الدماءِ. متفقٌ عليهِ).
فيهِ دليلٌ على عِظَمِ شَأنِ دمِ الإنسانِ، فإنهُ لا يقدَّمُ في القضاءِ إلَّا الأهمُّ، ولكنَّه يعارضُه حديثُ:"أولُ ما يحاسَبُ العبدُ عليهِ صلاتُه"، أخرجَه أصحابُ السُّنَنِ
(2)
منْ حديثِ أبي هريرةَ، ويجابُ بأنَّ حديثَ الدماءِ [مما]
(3)
يتعلَّقُ بحقوقِ المخلوقِ، وحديثُ الصلاةِ فيما يتعلَّقُ بعبادةِ الخالقِ، وبأنَّ ذلكَ في أوليةِ القضاءِ، والآخرَ في [أوليةِ]
(4)
الحسابِ كما يدلُّ لهُ ما أخرجَهُ النسائيُّ
(5)
منْ حديثِ ابن مسعودٍ بلفظِ: "أولُ ما يحاسب عليهِ العبدُ صلاتُه، وأولُ ما يُقْضَى بينَ الناسِ في الدماءِ".
وقدْ أخرجَ البخاريُّ منْ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه وغيرِهِ: "أنهُ رضي الله عنه أولُ مَنْ يجثُو بينَ يدي الرحمنِ للخصومةِ يومَ القيامةِ في قَتْلَى بدرٍ"، فبيَّنَ فيهِ أولَ قضيةٍ يُقْضَى فيها. وقدْ بيَّنَ الاختصامَ حديثُ أبي هريرةَ: "أولُ ما يُقْضَى بينَ الناسِ في
(1)
البخاري رقم (6864)، ومسلم رقم (1678).
(2)
أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (413)، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجه رقم (1425)، وأبو داود رقم (864)، وأحمد (5/ 72 و 377)، والحاكم (1/ 263)، وهو حديث صحيح بشواهده.
(3)
في (ب): "فيما".
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في "السنن"(7/ 83).
وأخرج الشطر الثاني منه البخاري رقم (6533) و (6864)، ومسلم رقم (1678)، وابن ماجه رقم (2615 و 2617)، والنسائي (7/ 83) و (7/ 83 - 84)، وأحمد رقم (3674، 4200 و 4213 و 4214) وغيرهم.
والخلاصة، فالشطر الأول صحيح بشواهده، والثاني صحيح أيضًا.
وانظر: "الصحيحة" للألباني رقم (1748).
الدماءِ". ويأتي كلُّ قتيلٍ قدْ حملَ رأسَهُ يقولُ: يا ربِّ سلْ هذا فيمَ قَتَلَني - الحديثَ"
(1)
.
وفي حديثِ ابن عباسٍ
(2)
يرفعُه: "يأتي المقتولُ معلِّقًا رأسَهُ بِإحْدَى يديْهِ ملبِّبًا قاتلَهُ بيدِه الأُخْرى، تشحطُ
(3)
أوداجُه دمًا حتَّى يَقِفَا بينَ يدي اللهِ تعالَى"، وهذا في القضاءِ في الدماءِ.
وفي القضاءِ في الأموالِ ما أخرجَهُ ابنُ ماجهْ
(4)
منْ حديثِ ابن عمرَ يرفعُه: "منْ ماتَ وعليهِ دينارٌ أوْ دِرْهَمٌ قَضَى منْ حسناتِهِ". وفي معناهُ عِدَّةُ أحاديثَ، وأنَّها إذا فنيتْ حسناتُه قبلَ أنْ يَقْضِيَ ما عليهِ طُرحَ عليهِ منْ سيِّئاتِ خَصْمِهِ، وأُلْقِيَ في النَّارِ. وقدِ استشكلَ ذلكَ بأنهُ كيفَ يُعْطَى الثوابَ وهوَ لا يتناهى في مقابلةِ العقابِ وهوَ يتناهى يعني على القولِ بخروجِ الموحِّدينِ مِنَ النارِ.
وأجابَ البيهقي بأنهُ يُعْطَى منْ حسناتِهِ ما يوازي عقوبةَ سيئاتِه منْ غيرِ المضاعفةِ التي يضاعِفُ اللَّهُ بها الحسناتِ، لأنَّ ذلكَ منْ محضِ الفضْلِ الذي
(1)
• أخرج الطبراني في "الأوسط" رقم (766) عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجيءُ المقتول آخذًا قاتلهُ، وأوداجُهُ تشخب دمًا عند ذي العزة، فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ فيقول: فيمَ قتلتهُ؟ قال: قتلتُهُ لتكون العزة لفلانِ، قيل: هي لله".
وأورده الهيثمي في "المجمع"(7/ 297) وقال: وفيه الفيض بن وثيق، وهو كذاب خبيث.
• وقد أخرج النسائي (7/ 84)، بإسناد رجاله رجال الصحيح نحوه عن ابن مسعود أيضًا.
(2)
وهو حديث حسن.
أخرجه الترمذي رقم (3029) وقال: حسن غريب. والنسائي (7/ 85 و 87)، والطبراني في "الأوسط" رقم (4217).
وأورده الهيثمي في "المجمع"(7/ 297)، وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح.
(3)
تشحَّط في دمه: تخبَّط فيه. والمراد تسيل دمًا لما جاء في رواية أخرى.
(4)
في "السنن" رقم (2414).
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 245 رقم 847 - 2414): "هذا إسناد فيه مقال، مطرَ الوراق مختلف فيه، ومحمد بن ثعلبة بن سواء قال فيه أبو حاتم: أدركته ولم أكتب عنه. ولم أر لغيره من الأئمة فيه كلامًا، وباقي رجال الإسناد ثقات" اهـ. وللحديث شواهد من حديث أبي هريرة وثوبان وأبي موسى
…
فهو صحيح لغيره، واللَّهُ أعلم.
يخصُّ اللَّهُ مَنْ يشاءُ منْ عبادِه، وهذَا فيمنْ مات غيرَ ناوٍ لقضاءِ دَيْنِهِ، وأمَا مَنْ ماتَ ينوي القضاءَ فإنَّ الله يقضي عنْهُ كما قدَّمْنَاهُ في شرح الحديث الثالث في أبوابِ السَّلْمِ
(1)
.
4/ 1090 - وَعَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(2)
، وَالأَرْبَعَة
(3)
، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ
(4)
، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ سَمُرَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ في سَمَاعِهِ مِنْهُ
(5)
، وَفي رِوَايَةِ أَبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ بِزِيَادَةِ:"وَمَنْ خَصى عَبْدَه خَصَينَاهُ"، وَصَحّحَ الْحَاكِمُ
(6)
هَذِه الزِّيَادَةَ. [ضعيف]
(وعنْ سمُرةَ رضي الله عنه: قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قتلَ عَبْدَه قتلْناهُ، ومنْ جدعَ عبدَه جدعناه. رواهُ أحمد، والأربعة، وحسَّنه الترمذيُّ، وهوَ منْ روايةِ الحسنِ [البصريِّ]
(7)
عنْ سمرةَ، وقدِ اختُلِفَ في سماعِه منهُ) علَى ثلاثةِ أقوالٍ [تقَّدمت]
(8)
. قالَ ابنُ معينٍ: لم يسمعِ الحسنُ منهُ شيئًا، وقيلَ: سمعَ منهُ حديثَ العقيقةِ، وأثبتَ ابنُ المديني سماعَ الحسن منْ سَمُرَةَ.
(وفي روايةِ أبي داودَ والنسائي: ومَنْ خَصَى عبدَه خصيْناهُ. وصحَّحَ الحاكمُ هذهِ الزيادةَ).
والحديثُ دليلٌ [أنه يقاد السيد]
(9)
بعبدِه في النَّفْسِ والأطرافِ؛ إذِ الجدعُ
(1)
رقم الحديث (3/ 809) من كتابنا هذا.
(2)
في "المسند"(5/ 10، 11، 12، 18، 19).
(3)
أبو داود رقم (4515 و 4516)، والترمذي رقم (1414)، والنسائي (8/ 21) وابن ماجه رقم (2663).
(4)
في "السنن"(4/ 26).
(5)
انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص 32 - 33).
(6)
في "المستدرك"(4/ 367)، وقال: هذا حديث على شرط البخاري ولم يخرجاه.
قلت: وأخرجه البغوي رقم (2533)، والدارمي (2/ 191).
والخلاصة: فهو حديث ضعيف، واللَّهُ أعلم.
(7)
زيادة من (ب).
(8)
زيادة من (أ).
(9)
في (ب): "أن السيد يقاد".
قطعُ الأنفِ، أوِ الأذُنِ، أوِ اليدِ، أو الشَّفَةِ كما في "القاموس"
(1)
. ويُقَاسُ عليهِ إذا كانَ القاتلُ غيرَ السيِّد [بطريقِ]
(2)
الأَوْلَى.
والمسألةُ فيها خلافٌ. ذهبَ النَّخَعِيُّ وغيرُه إلى أنهُ يُقْتَلُ الحرُّ بالعبدِ لحديث سَمُرَةَ هذا، وأيَّدَهُ عمومُ قولِه تعالَى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
(3)
. وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنهُ يُقْتَلُ بهِ لعموم الآيةِ، إلا إذا كان سيِّده، وكأنهُ يخصُّ السيِّدَ بحديثِ:"لا يقادُ مملوكٌ من مالِكِهِ، ولا ولدٌ مِنْ والدهِ"، أخرجَهُ البيهقيُّ
(4)
إلا أنهُ منْ روايةِ عمرَ بن عيسى يُذْكَرُ عن البخاريِّ
(5)
أنهُ مُنْكَرُ الحديثِ.
وأخرجَ البيهقيُّ
(6)
منْ حديثِ ابن عمرٍو في قصةِ زنباعٍ لما جبَّ عبدَهُ، وجدَعَ أَنْفَهُ، أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ:"مَنْ مثَّلَ بعبده وحرَّقَ بالنارِ، فهوَ حرٌّ، وهوَ مولَى اللَّهِ ورسولِه"، فأعتقَهُ صلى الله عليه وسلم ولم يقتصَّ منْ سيِّد، إلا أن فيهِ المثنَّى بنَ الصباحِ
(7)
ضعيفٌ، ورواهُ عن الحجاجِ بن أرطأةَ
(8)
منْ طريقٍ آخرَ ولا يُحْتَجُّ بهِ.
وفي البابِ أحاديثُ لا تقومُ بها حجةٌ، وذهبتِ الهادويةُ [والشافعية]
(9)
ومالكٌ وأحمدُ إلى أنهُ لا يُقَادُ الحرُّ بالعبدِ مطْلقًا مستدلِّينَ بما يفيدُه قولُه تعالَى:
(1)
"القاموس المحيط"(ص 914).
(2)
في (أ): "بطريقة".
(3)
سورة المائدة: رقم 45.
(4)
في "السنن الكبرى"(8/ 36) من حديث عمر، قلت: وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(5/ 1713)، وفي إسناده عمر بن عيسى الأسلمي وهو منكر الحديث كما قال البخاري.
(5)
في "التاريخ الكبير"(6/ 182).
(6)
في "السنن الكبرى"(8/ 36) وقال: المثنى بن الصباح ضعيف لا يحتج به، وقد روى عن الحجاج بن أرطأة عن عمرو مختصرًا ولا يحتج به. وروى عن سوار بن أبي حمزة عن عمرو وليس بالقوي. واللَّهُ أعلم.
في نهاية الأحاديث قال البيهقي (8/ 37): "أسانيد هذه الأحاديث ضعيفة لا تقوم بشيء منها الحجة إلا أن أكثر أهل العلم على أن لا يقتل الرجل بعبده، .. ".
(7)
قال الدارقطني: ضعيف. وقال النسائي: متروك الحديث.
انظر: "الضعفاء والمتروكين" للدارقطني رقم (533)، و"الضعفاء" للنسائي رقم (99)، و"المجروحين"(3/ 20).
(8)
قال الدارقطني: لا يحتج به، وقال البخاري: متروك الحديث لا نقر به.
انظر: "التاريخ الكبير"(2/ 378) و"المجروحين"(1/ 225) و"الميزان"(1/ 458) و"كتاب الجرح والتعديل"(3/ 154) و"لسان الميزان"(7/ 193).
(9)
في (ب): "الشافعي".
{الْحُرُّ بِالْحُرِّ}
(1)
، فإنَّ تعريفَ المبتدأ يفيدُ الحصْرَ وأنهُ لا يُقْتَلُ الحرُّ بغيرِ الحرِّ، ولأنهُ تعالَى قالَ في صدرِ الآية:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (1) وهوَ المساواةُ، وقوله:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (1) تفسيرٌ وتفصيلٌ لَهَا، وقولِهِ تعالَى في آيةِ المائدةِ:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
(2)
مُطْلَقٌ [مقيد بهذه]
(3)
الآيةُ وهذهِ صريحةٌ لهذهِ الأمَّةِ وتلكَ في أَهْلِ الكتابِ، وشريْعَتِهِم وإنْ كانتْ شريعةً لنا لكنَّه وقعَ في شريعتِنا التفسيرُ بالزيادةِ والنقصانِ كثيرًا، فيقربُ أن هذا التقييدَ منْ ذلكَ، وفيهِ مناسبةٌ إذْ فيهِ تخفيفٌ ورحمةٌ، وشريعةُ هذهِ الأمَّةِ أحق منْ شرائعِ مَنْ قبلنا، كأنه وضَعَ عنْهم الآصارَ التي كانتْ على مَنْ قَبْلَهمْ.
والقولُ بأنَّ آيةَ المائدةِ نسَخَتْ آيةَ البقرةِ لتأخُّرِها مردودٌ بأنهُ لا تنافيَ بينَ الآيتينِ، إذْ لا تعرضَ بينَ عامٍ وخاصٍّ ومطلقٍ ومقيَّدٍ حتَّى يُصَارَ إلى النَّسْخِ، ولأنَّ آيةَ المائدةِ متقدِّمةٌ حُكْمًا فإنَّها حكايةٌ لما حكمَ اللَّهُ تعالَى بهِ في التوراةِ وهي متقدّمةٌ نزولًا على القرآنِ. وأخرجَ ابنُ أبي شيبةَ
(4)
منْ حديثِ عمرِو بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدّهِ: "أن أبا بكرٍ وعمرَ كانا لا يقتلان الحرَّ بالعبدِ". وأخرجَ البيهقيُّ
(5)
منْ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه: "مِنَ السُّنةِ أنْ لا يُقْتَلَ حرٌّ بعبدٍ"، وفي إسنادهِ جابرٌ الجعفي
(6)
. ومثلُه عن ابن عباسٍ
(7)
رضي الله عنه وفيهِ ضعفٌ.
وأما حديثُ سَمُرَةَ فهوَ ضعيفٌ
(8)
أو منسوخٌ بما سردْناه منَ الأحاديثِ. هذا، وأما قَتْلُ العبدِ بالحرِّ فإجماعٌ
(9)
، وإذا تقرَّرَ أن الحرَّ لا يُقْتَلُ بالعبدِ فيلزمُ منْ قَتْلِهِ قيمتُه على خلافٍ فيها معروفٍ ولو بلغتْ ما بلغتْ، وإنْ جاوزتْ ديةَ
(1)
سورة البقرة: 178.
(2)
سورة المائدة: 45.
(3)
في (ب): "مقيدة مبينة".
(4)
في "المصنف"(9/ 305).
(5)
في "السنن الكبرى"(8/ 34).
(6)
وهو متروك. انظر: "المجروحين"(1/ 128)، و"الجرح والتعديل"(2/ 497)، و"المغني"(1/ 126)، و"الكاشف"(1/ 122).
(7)
أخرجه الدارقطني (3/ 133 رقم 158)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 35). وفي إسناده جويبر وغيره من "المتروكين".
(8)
فهو ضعيف كما تقدم في تخريج الحديث رقم (4/ 1090) من كتابنا هذا.
(9)
حكاه ابن المنذر في كتابه "الإجماع"(ص 144 - 145 رقم 653).
الحرِّ، وقد بيَّنَّاهُ في حواشي "ضوء النهار"
(1)
. وأما إذا قتلَ السيِّدُ عبدَه ففيهِ حديثُ عمرِو بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ: "أن رجلًا قتلَ عبدًا [له]
(2)
متعمِّدًا فجلدَهُ النبي صلى الله عليه وسلم مائةَ جَلْدةٍ ونفاهُ سنةً ومَحَا سَهْمَهُ منَ المسلمينَ ولم يُقِدْهُ بهِ، وأمرَ أنْ يُعْتِقَ رقبةً".
لا يُقتل الوالد بولده
5/ 1091 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بالْوَلَدِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(3)
، والتّرْمِذِي
(4)
، وَابْنُ مَاجَهْ
(5)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ
(6)
وَالْبَيْهَقيُّ
(7)
، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ
(8)
: إِنَّهُ مُضطَّرِبٌ. [حسن]
(وعنْ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: لا يقادُ الوالدُ بالولدِ. رواهُ أحمدُ والترمذيُّ وابن ماجهْ، وصحَّحَهُ ابن الجارودِ والبيهقي، وقالَ الترمذيُّ: إنه مضْطَّرِبٌ). قالَ الترمذيُّ (8): ورُوِيَ عنْ عمرِو بن شعيبٍ مرسلًا، وهذا حديثٌ فيهِ اضْطِّرابٌ والعملُ عليهِ عندَ أهلِ العلمِ، انتَهى.
وفي إسنادِهِ عندَه الحجاجُ بنُ أرطأةَ
(9)
، ووجْهُ الاضطرابِ أنهُ اختُلِفَ على عمرِو بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ فقيلَ: عنْ عمرَ وهيَ روايةُ الكتابِ، وقيلَ: عنْ
(1)
(4/ 2383 - 2384).
(2)
زيادة من (أ).
(3)
في "المسند"(1/ 49).
(4)
في "السنن" رقم (1400).
(5)
في "السنن" رقم (2662).
(6)
في "المنتقى" رقم (788).
(7)
في "السنن الكبرى"(8/ 82).
(8)
في "السنن"(4/ 18).
قلت: وأخرجه ابن أبي عاصم في الديات (ص 65)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(9/ 410)، والدارقطني (3/ 141).
والحجَّاج بن أرطأة مدلِّس، ولكن تابعه ابن لهيعة عند أحمد (1/ 22)، غير أن أبو حاتم قال: لم يسمع ابن لهيعة من عمرو بن شعيب شيئًا - كما في "المراسيل"(114).
ولكن تابعه المثنى بن الصباح عند ابن أبي عاصم (ص 65 - 66)، وتابعه أيضًا ابن عجلان عند الدارقطني وابن الجارود والبيهقي.
وخلاصة القول: أن الحديث حسن.
(9)
لا يحتج به، وقد تقدم الكلام عليه.
سُراقةَ، وقيلَ بلَا واسطةٍ [وفيها المثنَّى بنُ الصباحِ
(1)
وهوَ ضعيفٌ]
(2)
، قالَ الشافعيُّ: طُرُقُ هذَا الحديثِ كلُّها منقطعةٌ.
وقالَ عبدُ الحقِّ: هذهِ الأحاديثُ كلُّها معلولةٌ لا يصحُّ فيها شيءٌ. والحديثُ دليلٌ على أنهُ لا يُقْتَلُ الوالدُ بالولدِ، قالَ الشافعيُّ: حفظتُ عنْ عددٍ منْ أَهْلِ العلمِ لقيتُهم أنه لا يُقْتَلَ الوالدُ بالولدِ وبذلكَ أقولُ. وإلى هذَا ذهبَ الجماهيرُ منَ الصحابةِ وغيرُهم كالهادويةِ والحنفيةِ والشافعيةِ وأحمدَ وإسحاقَ مطلقًا للحديثِ
(3)
، قالُوا: لأنَّ الأبَ سببٌ لوجودِ الولدِ فلا يكونُ الولدُ سببًا لإِعْدَامِهِ.
وذهبَ البتيُّ إلى أنهُ يقادُ الوالدُ بالولدِ مطلقًا لعمومِ قولِه تعالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
(4)
وأُجِيْبَ بأنهُ مخصصٌ بالخبرِ وكأنهُ لم يصحَّ عندَه، وذهبَ مالكٌ (1) إلى أنهُ يقادُ بالولدِ إذا أَضْجَعَهُ وذبحهُ. قالَ: لأنَّ ذلكَ عمدٌ حقيقةً لا يحتملُ غيرَه، فإنَّ الظاهرَ في مثلِ استعمالِ الجارحِ في المقتَلِ هوَ قصدُ العمْدِ، والعمديةُ أمر خفيٌّ لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الأحوال.
وأما إذا كان على غير هذه الصِّفةِ فيما يحتملُ عدمَ إزهاقِ الروحِ بلْ قَصْدَ التأديبِ منَ الأبِ وإنْ كانَ في حقِّ غيرِه حكم فيهِ [بالعمدية]
(5)
، وإنَّما فُرِّقَ بينَ الأبِ وغيرِه لما للأبِ منَ الشفقةِ على ولدهِ وغلبةِ قصد التأديبِ عندَ فعلِه ما يغضبُ الأبَ، فَيُحْمَلُ على عدمِ قَصْدِ القتلِ، وهذا رأيٌ [من مالك]
(6)
. وإنْ ثبتَ بالنصِّ لم يقاومهُ شيءٌ، وقدْ قَضَى بهِ عمرُ في قصةِ المدلجي وألزمَ الأبَ الديةَ ولم يعطِه منْها شيئًا، وقالَ: ليسَ لقاتلٍ شيءٌ فلا يرثُ منَ الديةِ إجماعًا ولا مِنْ غيرِها عندَ الجمهورِ. والجدُّ والأمُّ كالأبِ عندَهم في سقوطِ القَوَدِ.
لم يخص النبي صلى الله عليه وسلم عليًا ولا غيره بشيء من الدين
6/ 1092 - وَعَنْ أَبي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَليٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ مِنَ
(1)
ضعيف وقد تقدم الكلام عليه.
(2)
زيادة من (ب).
(3)
انظر: "بداية المجتهد"(4/ 303) بتحقيقنا.
(4)
سورة المائدة: الآية 45.
(5)
في (ب): "بالعمد".
(6)
في (ب): "منه".
الْوَحْيِ غَيْرُ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلًا في الْقُرْآنِ، وَمَا في هذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا في هذِه الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: "الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(1)
. [صحيح]
- وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
(2)
وَأَبُو دَاوُدَ
(3)
وَالنَّسَائِيُّ
(4)
مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَالَ فِيهِ:"الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِماؤُهُمْ، وَيَسْعَ بِذِمّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ"، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ
(5)
. [صحيح بشواهده]
(وعنْ أبي جحيفةَ قالَ: قلتُ لعليٍّ رضي الله عنه هلْ عندَكم شيءٌ منَ الوحْي غيرُ القرآنِ؟ قالَ: لا والذي فلقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النسمةَ إلَّا فهمًا) استثناءٌ منْ لفظِ شيءٍ [مرفوعًا]
(6)
على البدليةِ (يعطيهِ اللَّهُ تعالَى رجلًا في القرآن، وما في هذهِ الصحيفةِ) أي الورقةِ المكتوبةِ (قلتُ: وما في هذهِ الصحيفةِ؟ قالَ العقل) أي الديةُ، وسُمِّيَتْ عَقْلًا لأنَّهم كانُوا يعقلونَ الإبلَ التي هيَ ديةٌ بفناءِ دارِ المقتولِ (وفكاكُ) بكسرِ الفاءِ وفتحِها (الأسيرِ، ولا يُقْتَلَ مسلمٌ بكافرٍ. رواهُ البخاريُّ وأخرجه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ منْ وَجْهٍ آخرَ عنْ عليٍّ رضي الله عنه وقالَ فيهِ: المؤمنونَ تتكافأ) أي تَتَسَاوَى في الديةِ والقصاصِ [دماؤهم]
(7)
(ويسعى بِذِمَّتِهِمْ أدناهمُ، وهمْ يَدٌ على مَنْ سوَاهُم، ولا يُقْتَل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذوْ عهدٍ في عهدهِ. وصحَّحَه الحاكمُ).
قال المصنفُ
(8)
: إنما سألَ أبو جحيفةَ عليًا رضي الله عنه عنْ ذلكَ لأنَّ جماعةً منَ
(1)
في "صحيحه" رقم (6915).
(2)
في "المسند"(1/ 119).
(3)
في "السنن" رقم (4530).
(4)
في "السنن"(8/ 19).
(5)
في "المستدرك"(2/ 141)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
قلت: وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 192)، والدارقطني (3/ 98 رقم 61)، والبيهقي (8/ 29)، وهو حديث صحيح بشواهده.
انظر: "الإرواء" للألباني (7/ 266 رقم 2209)، و"الروضة الندية"(2/ 645) بتحقيقنا.
(6)
في (ب): "مرفوعٌ".
(7)
زيادة من (أ).
(8)
في "فتح الباري"(1/ 204).
الشيعةِ كانُوا يزعمونَ أن لأَهْلِ البيتِ عليهم السلام لا سيِّما عليًا [اختصاصًا]
(1)
بشيءٍ منَ الوحْي لم يطَّلعْ عليهِ غيرُه، وقدْ سألَ عليًا رضي الله عنه عنْ هذهِ المسألةِ غيرُ أبي جحيفةَ [أيضًا]
(2)
. ثمَّ الظاهرُ أن المسؤولَ عنهُ هوَ ما يتعلَّقُ بالأحكامِ الشرعيةِ منَ الوحْي الشاملِ لكتابِ الله المعجزِ وسُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ اللَّهَ تعالَى سمَّاهَا وَحْيًا إذْ فسَّرَ قولَه تعالَى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}
(3)
بما هوَ أعمُّ منَ القرآنِ، ويدلُّ عليهِ قولُه:(وما في هذهِ الصحيفةِ)، فلا يلزمُ منهُ نفيُ ما نُسِبَ إلى عليٍّ عليه السلام منَ الجفْر وغيرِه
(4)
.
وقدْ يقالُ: إنَّ هذَا داخلٌ تحتَ قولِه: (أو فهم يعطيهِ اللهُ تعالَى رجلًا في القرآن)، فإنهُ كما نُسِبَ إلى كثيرٍ ممنْ فتحَ اللَّهُ عليهِ بأنواعِ العلومِ ونوَّرَ بصيرتَه أنهُ يستنبطُ ذلكَ منَ القرآن. [ومن لم يكن كذلك فهو حابط في ظلمات الجهل]
(5)
.
والحديثُ قدِ اشتملَ على مسائلَ:
الأولَى: العقلُ وهوَ الديةُ ويأتي تحقيقُها [في بابها]
(6)
.
والثانيةُ: فِكاكُ الأسيرِ أي حكمُ تخليصِ الأسيرِ منْ يدِ العدوِّ، وقدْ وردَ الترغيبُ في ذلكَ.
والثالثةُ: عدمُ قتلِ المسلمِ بالكافرِ قَوَدًا، وإلى هذَا ذهبَ الجماهيرُ وأنهُ لا يُقْتَلُ ذو عَهْدٍ في عَهْدِهِ. فَذُو العهدِ الرجلُ مِنْ أهلِ دارِ الحربِ يدخلُ علينا بأمانٍ، فإنَّ قَتْلَهُ [حرام]
(7)
علَى المسلمِ حتَّى يرجعَ إلى مَأمَنِهِ، فلوْ قَتَلَهُ مسلمٌ فقالتِ الحنفيةُ: يُقْتَلُ المسلمُ بالذِّميِّ إذا قتلَه بغيرِ استحقاقٍ ولا يُقْتَلُ بالمستَأمَنِ، واحتجُّوا بقولِه في الحديثِ:(ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ) فإنهُ معطوفٌ على قولهِ: مؤمنٌ، فلا بدَّ منْ تقييدٍ في الثاني كما في الطرفِ الأوَّلِ فيقدَّرُ ولا ذُو عهدٍ في
(1)
في (أ): "اختصاصٌ".
(2)
زيادة من (ب).
(3)
سورة النجم: الآية 3.
(4)
لعله يريد رحمه الله ما ينسبه الرافضة إلى آل البيت من التحدث عن الغيب، ومثل هذا لا يحل نسبته لعلي رضي الله عنه ولا لغيره من الموحِّدين، بعدما ثبت الدليل من القرآن والسنة أن الغيب لا يعلمه إلا الله. وأن الجفر هذا قول على الله بلا علم وهو من أمر الشيطان. وعفى الله عن الصنعاني في تلك القولة التي لا تليق بمثله، والكمال لله وحده.
(5)
زيادة من (أ).
(6)
زيادة من (أ).
(7)
في (ب): "محرم".
عهدِه بكافرٍ، ولا بدَّ منْ تقييدِ الكافرِ في المعطوفِ بلفظِ الحربيِّ لأنَّ الذميَّ يُقْتَلُ بالذميِّ ويقتلُ بالمسلمِ، وإذا كانَ التقييدُ لا بدَّ منهُ في المعطوفِ وهوَ مطابقٌ للمعطوفِ عليهِ فلا بدَّ منْ تقديرِ مثلِ ذلكَ في المعطوفِ عليهِ فيكونُ التقديرُ: ولا يُقْتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ حربيٍّ، ومفهومُ حربيٍّ أنهُ يقتلُ بالذمي بدليلِ مفهومِ المخالفَةِ، وإنْ كانتِ الحنفيةُ لا تعملُ بالمفهومِ فهمْ يقولونَ إنَّ الحديثَ يدلُّ على أنهُ لا يُقْتَلُ بالحربيِّ صريحًا، وأما قتلُه بالذميِّ فبعمومِ قولِه تعالَى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
(1)
، ولما أخرجَهُ البيهقي
(2)
منْ "أنهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مسلمًا بمعاهِدٍ وقالَ: أنا أكرمُ مَنْ وفَّى بِذِمَّتِه"، وهوَ حديثٌ مرسَلٌ منْ حديثِ عبدِ الرحمنِ بن البيلماني. وقدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، قالَ البيهقي
(3)
: وهوَ خطأٌ. وقالَ الدارقطنيُّ
(4)
: ابنُ البيلماني ضعيفٌ لا تقومُ بهِ حُجَّة إذا وصلَ الحديثَ فكيفَ بما يرسلُه؟
وقالَ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ: هذا حديث ليسَ بمُسْنَدٍ ولا يجعلُ مثلُه إمامًا تسفكُ بهِ دماءُ المسلمينَ. وذكرَ الشافعي في الأمِّ أنّ حديثَ ابن البيلماني كانَ في قصةِ المستأمَنِ الذي قَتَلَهُ عمرُو بنُ أميةَ الضمري، قالَ: فَعَلَى هذا لو ثبتَ لكانَ منسوخًا، لأنَّ حديثَ:"لا يُقْتَلُ مسلمٌ بكافرٍ" خطبَ بهِ النبي صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ كَمَا في روايةِ عمروِ بن شعيبٍ
(5)
، وقصةُ عمروِ بن أميةً متقدمةٌ قبلَ ذلكَ بزمانٍ.
(1)
سورة المائدة: الآية 45.
(2)
في "السنن الكبرى"(8/ 30)، وهو حديث ضعيف.
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 30). وقال: هذا خطأ من وجهين: (أحدهما) وصله بذكر ابن عمر فيه، وإنما هو عن ابن البيلماني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. (والآخر) روايته عن إبراهيم عن ربيعة.
وإنما يرويه إبراهيم عن ابن المنكدر، والحمل فيه على عمار بن مطر الرهاوي فقد كان يقلب الأسانيد وشرق الأحاديث حتى كثر ذلك في رواياته وسقط عن حدًا لاحتجاج به.
والخلاصة: فهو حديث ضعيف.
(4)
ذكر ذلك الذهبي في "الميزان"(2/ 551 رقم 4827).
(5)
أخرجه أحمد (2/ 191 - 192، 211)، وابن ماجه رقم (2659) و (2685)، والترمذي رقم (1413)، وقال: حديث حسن. وأبو داود رقم (4531) رقم (2751)، والبيهقي (8/ 29 - 30)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 172 - 173) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وهو حديث صحيح. انظر: "الإرواء" رقم (2208).
هذَا ما ذكرتْهُ الحنفيةُ منَ التقديرِ، فقدْ أُجيْبَ عنهُ بأنهُ لا يجبُ التقديرُ لأنَّ قولَه:(ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ)، كلامٌ تامُّ [لا]
(1)
يحتاجُ إلى إضمارٍ، لأنَّ الإضمارَ خلافُ الأصْلِ فلا يُصَارُ إليهِ إلَّا لضرورةٍ فيكون نَهْيًا عنْ قتلِ المعاهِدِ. وقولُهم: إنَّ قتلَ المعاهدِ معلومٌ وإلا لم يكنْ للعهدِ فائدةٌ فلا حاجةَ إلى الإخبارِ بهِ.
جوابُه: أنهُ محتاجٌ إلى ذلكَ، إذْ لا يُعْرَفُ إلَّا من طريق الشارعِ، وإلَّا فإنَّ ظاهرَ العموماتِ يقضي بجوازِ قَتْلِهِ، ولوْ سَلِمَ تقديرُ الكافرِ في الثاني فلا يسلمُ استلزامُ تخصِيصِ الأولِ بالحربيِّ، لأنَّ مقتضى العطفِ مُطْلَقُ الاشتراكِ [لا الاشتراك] منْ كلِّ وَجْهٍ.
ومعنَى قولِه: (ويسعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهم)، أنهُ إذا أمَّنَ المسلمُ حربيًا كانَ أمانُه أمانًا منْ جميعِ المسلمينَ ولوْ كانَ ذلكَ المسلمُ امرأةً كما في قصةِ أم هانئٍ
(2)
، ويُشْتَرَطُ [أن يكون]
(3)
المؤمن مُكَلَّفًا، فإنهُ يكونُ أمانًا منَ الجميعِ فلا يجوزُ نَكثُ ذلكَ. وقولُه:(وهمْ يدٌ على مَنْ سِوَاهم)، أي همْ مجتمعونَ على أعدائِهم، لا يحلُّ لهمُ التخاذلُ، بلْ يُعِيْنُ بعضُهم بعضًا على جميعِ مَنْ عادَاهُمْ منْ أهلِ المِلَلِ، كأنهُ جعلَ أيديَهُم يدًا واحدةً وفعلَهم فعلًا واحدًا.
القَوَد بمثل ما قتلَ به إلا إذا كان بفعل محرَّم
7/ 1093 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ جَارِيَةً وُجدَ رَأسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَألُوهَا: مَنْ صَنَعَ بِكِ هذَا؟ فُلَان، فُلَان، حَتى ذَكَرُوا يَهُودِيًا، فَأَوْمَتْ بِرَأسِهَا. فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرّ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. [صحيح]
(1)
في (ب): "فلا".
(2)
أخرجه البخاري رقم (357)، ومسلم رقم (336).
(3)
في (ب): "كون".
(4)
البخاري رقم (6879)، ومسلم رقم (1672).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4527)، و (4528)، والترمذي رقم (1394)، والنسائي (8/ 22).
(وعنْ أَنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه أن جاريةً وُجِدَ رأسُها قدْ رُضَّ بينَ حجريْنِ فسألُوها مَنْ صنعَ بكِ هذَا؟ فلانٌ، فلانٌ حتَّى ذكرُوا يهوديًا، فأومتْ برأسِها فأُخِذَ اليهوديُّ فَأَقَرَّ، فأمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُرَضَّ رأسُه بينَ حجريْنِ. متفقٌ عليهِ واللفظُ لمسلمٍ). الحديثُ دليلٌ علَى أنهُ يجبُ القصاصُ بالمثقلِ كالمحدَّدِ، وأنهُ يُقْتَلُ الرجلُ بالمرأةِ وأنهُ يقتلُ بما قَتَلَ بهِ، فهذِه ثلاثُ مسائلَ:
الأولَى: وجوبُ القصاصِ بالمثقلِ وإليهِ ذهبت الهادويةُ والشافعيُّ ومالكٌ ومحمدُ بنُ الحسنِ، عملًا بهذَا الحديثِ. والمعنَى المناسبُ ظاهرٌ قويٌّ وهوَ صيانةُ الدماءِ منَ الإِهْدارِ، ولأنَّ القتلَ بالمِثْقلِ كالقتلِ بالمُحَدَّدِ في إزهاقِ الروح. وذهبَ أبو حنيفةَ والشعبيُّ والنخعيُّ إلى أنه لا قصاصَ في القتل بالمثقلِ واحتجُّوا بما أخرجَهُ البيهقيُّ
(1)
منْ حديثِ النعمانِ بن بشيرٍ مرفُوعًا: "كلُّ شيءٍ خطأٌ إلَّا السيفَ، ولكلِّ خطأٍ أرشٌ"، وفي لفظٍ (1):"كلُّ شيءٍ سوَى الحديدةِ خَطَأٌ ولكل خطإ أرشٌ".
وأُجِيْبَ بأنَّ الحديثَ مدارُه على جابرٍ الجعْفيِّ
(2)
وقيسِ بن الربيعِ
(3)
ولا يُحْتَجُّ بِهمَا فَلَا يُقَاوِمُ حديثَ أنس هذَا، وجوابُ الحنفيةِ عنْ حديثِ أنسٍ بأنهُ حصلَ في الرضِّ الجرحُ، أوْ بأنّ اليهوديَّ كانَ عادتُه قتلَ الصبيانِ فهوَ منَ الساعينَ في الأرضِ فَسَادًا، تكلُّفٌ.
وأمَّا إذَا كانَ القتلُ بآلةٍ لا يقصدُ بمثلِها القتلُ غالبًا كالعصَا والمسوطِ واللطْمةِ ونحوِ ذلكَ، فعندَ الهادويةِ والليثِ ومالكٍ يجبُ فيها القَوَدُ؛ وقالَ الشافعيُّ وأبو حنيفةَ وجماهيرُ العلماءِ منَ الصحابةِ والتابعينَ ومَنْ بعدَهم لا قصاصَ فيهِ؛ وهوَ شِبْهُ العمدِ، وفيهِ الديةُ مائةٌ منَ الإبلِ مغلَّظةً فيها أربعون في بطونِها أولادُها؛ لما أخرجَهُ أحمدُ
(4)
وأهلُ السُّنَنِ إلَّا الترمذيَّ
(5)
منْ حديثِ
(1)
في "السنن الكبرى"(8/ 42).
وهو حديث ضعيف.
(2)
وهو متروك، انظر:"المجروحين"(1/ 128)، و"الجرح والتعديل"(2/ 497)، و"المغني"(1/ 126)، و"الكاشف"(1/ 122).
(3)
انظر ترجمته في: "الميزان"(3/ 393).
(4)
في "المسند"(16/ 51 رقم 130 - الفتح الرَّباني).
(5)
أبو داود رقم (4549)، وابن ماجه رقم (2627)، والنسائي (8/ 41). =
عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أَلَا وإنَّ في قَتْلِ الخطأ شبْهِ العمدِ ما كانَ بالسوطِ والعَصَا مائةٌ مِنَ الإبلِ فيها أربعونَ في بطونها أولادها".
قالَ ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ: في إسنادهِ اختلافٌ كثيرٌ ليس هذَا موضِعَ بَسْطِهِ، قلتُ: إذا صحَّ الحديثُ فقدِ اتَّضَحَ الوجْهُ، وإلَّا فالأصلُ عدمُ اعتبارِ الآلةِ في إزهاقِ الروحِ بلْ ما أزهقَ الروحَ أوجبَ القصاصَ.
المسألةُ الثانيةُ: قتلُ الرجلِ بالمرأةِ، وفيهِ خلافٌ. ذهبَ إلى قَتْلِهِ بها أكثرُ أهلِ العلمِ وحَكَى ابنُ المنذرِ الإجماعَ
(1)
على ذلكَ لهذا الحديثِ. وعنِ الحسنِ البصريِّ أنهُ لا يُقْتَلُ الرجلُ بالأنثَى، وكأنهُ [استدل]
(2)
بقولِه تعالَى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}
(3)
. وردَّ بأنهُ ثبتَ في كتابِ عمروِ بن حزمٍ
(4)
الذي تلقَّاه الناسُ بالقَبولِ
= قلت: وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 2/ 434)، والدارقطني (3/ 104 رقم 77)، وقد صحَّحه ابن حبان وابن القطان كما في "التلخيص"(4/ 15)، والألباني في "الإرواء" رقم (2197).
(1)
في كتابه "الإجماع"(ص 144 - 145 رقم 653).
(2)
في (ب): "يستدلُ".
(3)
سورة البقرة: الآية 178.
(4)
• أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 849 رقم 1)، والشافعي في "ترتيب المسند"، (2/ 108، 110 رقم 363، 369، 370، 372)، من حديث عمرو بن حزم.
وأخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم 92 ورجاله ثقات. رجال الشيخين غير محمد بن عمارة - وهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري الخرمي المدني - فإنه لم يخرجا له، ولا أحدهما. وهو صدوق. وثقه ابن معين وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 380). وقال أبو حاتم: صالح ابن إدريس: هو عبد اللَّهُ بن إدريس بن يؤيد الأودي الكوفي. وهو في "سنن الدارقطني"(1/ 121) من طريق ابن إدريس به.
• وأخرجه النسائي في "السنن"(8/ 57 - 58 رقم 4853)، وابن حبان في "الموارد" رقم (793)، والحاكم (1/ 395 - 397)، و (3/ 485)، والبيهقي (4/ 89 - 90)، موصولًا مطولًا من حديث الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده.
وفي هذا الحديث كلام طويل، وخلاصته:"أن الحديث طرقه كلها لا تخلو من ضعف، ولكنه ضعف يسير إذ ليس في شيء منها من اتُّهم بكذب، وإنما لعلة الإرسال أو سوء الحفظ، ومن المقرَّر في "علم المصطلح": أن الطرق يقوي بعضها بعضًا إذا لم يكن فيها متَّهم كما قرَّره النووي في تقريبه ثم السيوطي في شرحه، وعليه فالنفس تطمئن لصحة هذا الحديث
…
"، قاله المحدث الألباني في "إرواء الغليل" (1/ 160 - 162).
أنَّ الذَّكَرَ يُقْتَلُ بالأُنْثَى وهوَ أقْوَى منْ مفهومِ الآيةِ. وذهبتِ الهادويةُ إلى أن الرجلَ يقادُ بالمرأةِ [وتُوَفَّى]
(1)
ورثَتُه نصفَ دِيَتِه، قالُوا: لتفاوتهمَا في الدِّيةِ، ولأنهُ تعالَى قالَ:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
(2)
.
وَرُدَّ بأنَّ التفاوتَ في الدِّيةِ لا يوجبُ التفاوتَ في النفسِ، ولذَا يُقْتَلُ عبدٌ قيمتُه ألفٌ بعبدٍ قيمتُه عشرونَ. وقد وقعتِ المساواةُ في القصاصِ لأنَّ المرادَ المساواة في الجرح أنْ لا يزيدَ المقتصُّ على ما وقعَ فيهِ منَ الجرحِ.
المسألةُ الثالثةُ: أنْ يكونَ القوَدُ بمثلِ ما قَتَلَ بهِ، وإلى هذَا ذهبَ الجمهورُ وهوَ الذي يستفادُ منْ قولِه تعالَى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
(3)
، وقولِه:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
(4)
، وبما أخرجَه البيهقيُّ
(5)
[من]
(6)
حديثِ البراءِ عنهُ صلى الله عليه وسلم: "من غرَّضَ غرَّضْنا لهُ، ومَنْ حرَّقَ حرَّقناهُ، ومنْ غرَّق غرَّقْناهُ"، أي منِ اتخذهُ غرَضًا للسِّهام، وهذا يُقَيَّدُ بما إذا كانَ السببُ الذي قُتِلَ بهِ يجوزُ فعلُه، وأما إذا كانَ لا يجوزُ فعله كمنْ قُتِلَ بالسحرِ فإنهُ لا يُقْتَلُ بهِ لأنهُ محرَّمٌ وفيهِ خلافٌ، قالَ بعضُ الشافعيةِ: إذا قتلَ باللِّواطِ أوْ بإيجارِ الخمرِ إنهُ يُدَسُّ فيهِ خشبةٌ ويوجرُ الخلُّ، وقيلَ يسقطُ اعتبارُ المماثلةِ، وذهبت الهادويةُ والكوفيونَ وأبو حنيفةَ وأصحابُه إلى أنهُ لا يكونُ الاقتصاصُ إلَّا بالسَّيْفِ، واحتجُّوا بما أخرجَهُ البزَّارُ
(7)
وابنُ عديٍّ
(8)
منْ حديثِ أبي بكرةَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "لا قَوَدَ إلَّا بالسَّيفِ"، إلَّا أنهُ ضعيفٌ. قالَ ابنُ عديٍّ: طرقُه كلُّها ضعيفةٌ واحتجّوا بالنَّهْي عن المُثلةِ
(9)
(1)
في (ب): "يوفي".
(2)
سورة المائدة: الآية 45.
(3)
سورة النحل: الآية 126.
(4)
سورة البقرة: الآية 194.
(5)
في "السنن الكبرى"(8/ 43).
(6)
في (أ): "عن".
(7)
عزاه إلى البزار الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 291) وقال: فيه جابر الجعفي وهو ضعيف.
(8)
في "الكامل"(3/ 1102) من حديث أبي هريرة، في ترجمة سليمان بن أرقم وهو متروك كما قال النسائي، وكذلك البخاري.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف.
(9)
يشير المؤلف إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (3/ 1731) وغيره وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه
…
ولا تمثِّلوا
…
"، الحديث.
وبقولِه صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتُم فأحسنُوا القِتْلَةَ"
(1)
، وأُجِيْبَ بأنهُ مخصَّصٌ بما ذُكِرَ.
وفي قولِه: (فأقرَّ) دليلٌ على أنهُ يكفي الإقرارُ مرة واحدة إذ لا دليلَ على أنهُ كرَّرَ الإقرارَ.
لا غرامة على الفقير في الخطأ إذا كانت عاقلته فقراء
8/ 1094 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ غُلَامًا لأُناسٍ فُقَراءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لأَنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوْا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ
(2)
وَالثَّلَاثَةُ
(3)
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. [صحيح]
وعنْ (عمرانَ بن الحصينِ رضي الله عنه أن غُلامًا لأُناسٍ فقراءَ قطعَ أُذُنَ غلامٍ لأناسٍ أغنياءَ فَأَتَوْا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فلمْ يجعلْ لهم شيئًا. رواهُ أحمدُ والثلاثة بإسنادٍ صحيحٍ).
الحديثُ فيهِ دليلٌ علَى أنَّهُ لا غَرامةَ على الفقيرِ، إلَّا أنهُ قالَ البيهقي: إن كانَ المرادُ بالغلامِ المملوكَ فإجماعُ أهلِ العلمِ أن جنايةَ العبدِ في رقبتِه، فهوَ يدلُّ واللَّهُ أعلمُ أن جنايتَهُ كانَتْ خطأً وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما لمْ يجعلْ عليهِ شيئًا لأنهُ التزمَ أَرْشَ جنايتهِ فأعطاهُ منْ عندهِ مُتَبرِّعًا بذلكَ.
وقدْ حملَهُ الخطابي
(4)
على أن الجاني كانَ حُرًّا وكانتِ الجنايةُ خطأً وكانتْ عاقلتُه فقراءَ فلم يجعلْ عليهمْ شيئًا إما لِفَقْرِهِمْ وإما لأنَّهم لا يعقلونَ الجنايةَ الواقعةَ علَى العبدِ إنْ كانَ المُجْنَى عليهِ مملوكًا - كما قالَ البيهقيُّ -، وقدْ يكونُ الجاني غلامًا حُرًّا غيرَ بالغٍ وكانتْ جنايتُه عَمْدًا فلم يجعلْ أرشَها على عاقلتِه
(1)
وهو جزء من حديث شداد بن أوس أخرجه مسلم رقم (1955)، وأبو داود رقم (2815)، والترمذي رقم (1409)، والنسائي (7/ 227)، وابن ماجه رقم (1370)، وابن الجارود رقم (839) و (899)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2783)، وأحمد (4/ 123 و 124 و 125)، والطيالسي رقم (1119)، وعبد الرزاق رقم (8604)، والدارمي (2/ 82)، والبيهقي (9/ 280)، من طرق عن خالد الحذَّاء، به.
(2)
في "المسند"(16/ 60 رقم 158 - الفتح الربَّاني).
(3)
أبو داود رقم (4590)، والنسائي (8/ 26).
وقد صحَّح الحديث الألباني في "صحيح أبي داود".
(4)
في "معالم السنن"(4/ 712).
وكانَ فقيرًا فلم يجعلْ عليهِ في الحالِ، أوْ رآه على عاقلتِه فوجدَهم فقراءَ فلم [يجعل عليهم لفقرهم ولا عليه]
(1)
لكونِ جنايتِه في حكمِ الخطأِ [لكونِهم فقراءَ، واللَّهُ أعلمُ]
(2)
، انتَهى.
وقولُه: (ولم يجعلْ أرشَها على عاقلتِه) هذَا مذهبُ الشافعيِّ أن عَمْدَ الصغيرِ يكونُ في مالِه ولا تحملُه العاقلةُ. وقولُه: (أوْ رآهُ على عاقلتهِ) يعني معَ احتمالِ أنهُ خطأٌ - وهذا اتفاقٌ - أو معَ احتمالِ أنهُ عَمْدٌ كما ذهبَ إليهِ الهادويةُ وأبو حنيفةَ ومالكٌ [وبالجملة فلا بد من احتمال للحديث كما لا يخفى]
(3)
.
لا يُقتصُّ من الجراحات حتى يحصل البُرء من ذلك
9/ 1095 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ في رُكْبَتِه، فَجَاءَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَقَالَ:"حَتى تَبْرَأَ"، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرَجْتُ، فَقَالَ:"قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصْيتَني، فَأَبْعَدَكَ اللهُ، وَبَطَلَ عَرَجَكَ"، ثُمَّ نَهى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَنْ يُقْتَصّ مِنْ جُرْحٍ حَتى يَبْرَأَ صَاحِبهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(4)
وَالدَّارَقُطنيُّ
(5)
وَأُعِلَّ بِالإِرْسَالِ. [حسين لغيره]
(وعنْ عمرِو بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ أن رجلًا طعنَ رجلًا بقرنٍ في ركبتهِ فجاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: أقدْني، [قال]
(6)
حتَّى تبرأَ، ثمَّ جاءَ إليهِ فقالَ: أقدْني، فأقادَه، ثمَّ جاءَ إليهِ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ عَرَجْتُ، فقالَ: قدْ نهيتُكَ فعصيتني فأبعدكَ الله وبطلَ
(1)
في (ب): "يجعله عليه".
(2)
زيادة من (ب).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
في "المسند"(2/ 217) عن ابن إسحاق.
(5)
في "السنن"(3/ 88 رقم 24) عن ابن جريج.
قلت: ابن إسحاق وابن جريج كلاهما عن عمرو بن شعيب به، ورجاله ثقات، غير أن ابن إسحاق، وابن جريج مدلسان ولم يصرّحا بالتحديث، لكن للحديث شواهد يتقوَّى بها، فيكون الحديث حسن لغيره.
(6)
في (ب): "فقال".
عَرَجَكَ، ثمَّ نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُقْتَصَّ منْ جرحٍ حتَّى يبرأَ صاحبُه. رواهُ أحمدُ والدارقطنيُّ وأُعِلَّ بالإرسالِ) بناءً على أنَّ شعيبًا لم يدركْ جدَّه، وقدْ دفعَ بأنهُ ثبتَ لقاءُ شعيبٍ لجدِّهِ
(1)
.
وفي معناهُ أحاديثُ تزيدُه قوةً، وهوَ دليلٌ على أنهُ لا يقتصُّ منَ الجراحاتِ حتَّى يحصلَ البرءُ منْ ذلكَ [ولو من]
(2)
السرايةُ، قالَ الشافعيُّ: إنَّ الانتظارَ مندوبٌ بدليلِ تمكينِهِ صلى الله عليه وسلم منَ الاقتصاصِ قبلَ [البرء، وذهبت]
(3)
الهادويةُ وغيرُهم إلى أنهُ واجبٌ لأنَّ دفعَ المفاسِدِ واجبٌ، وإذنُهُ صلى الله عليه وسلم بالاقتصاصِ كانَ قبلَ عِلْمِهِ بما يَؤُولُ إليهِ منَ المفسدةِ.
دِيَةُ الجنين غُرَّة
10/ 1096 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا في بَطْنِهَا، فاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّ دِيَةَ جَنِينَها غُرّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ"، وَقَضى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ. فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّما هذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ"، مِنْ أجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
[صحيح]
(وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه[قالَ]
(5)
: اقتتلتِ امرأتانِ منْ هُذَيْلٍ فرمتْ إحدَاهُما
(1)
جد شعيب هو (عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي المشهور. وأبو شعيب هو (محمد) مات قبل أبيه (عبد اللهِ) فكفل عبد الله حفيده شعيبًا فثبت سماعه منه كما أفاده الذهبي في "ميزان الاعتدال".
(2)
في (ب): "وتؤمن"
(3)
في (ب): "الاندمال وذهب".
(4)
البخاري رقم (6910)، ومسلم رقم (1681). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4576 و 4577)، والترمذي رقم (1410)، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (8/ 47 - 48)، ومالك (2/ 855 رقم 5).
(5)
زيادة من (ب).
الأُخْرَى بحجرٍ فقتلَتْها وما في بَطْنِها، فاختصَمُوا إلي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ دِيَةَ جنينِها غُرَّةٌ) بضمِّ الغينِ المعجمةِ وتشديدِ الراءِ منوَّنٌ (عبدٌ أو وليدةٌ) هما بدلٌ منْ غُرَّةٍ، وأوْ للتقسيمِ لا للشكِّ (وقَضَى يِدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِهَا وورَّثَها ولدها ومَنْ معهُم).
في سننِ أبي داودَ
(1)
: ثمَّ أنَّ المرأةَ التي قَضَى عليها بالغرَّةِ توفِّيتْ فقضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ ميراثَها لبَنيهَا والعقلُ على عَصَبَتِها، ومثلُه في مسلمٍ
(2)
. فضميرُ ورَّثَها يعودُ إلَى القاتلةِ، وقيلَ: يعودُ إلى المقتولةِ، وذلكَ أنَّ عاقِلَتَها قالُوا: إنَّ ميراثَها لنا، فقالَ: لا، ميراثها لزوجِها وولدِها (فقالَ حَمَلُ) بفتحِ الحاءِ المهملةِ وفتحِ الميمِ (ابنُ النابغةِ) بالنونِ بعدَ الألفِ موحدةٌ فغينٌ معجمةٌ، وهوَ زوجُ المرأةِ القاتلةِ (الهذليُّ: يا رسولَ اللهِ كيفَ يُغرم مَنْ لا شربَ ولا أَكَلَ ولا نطقَ ولا استهلَّ)، الاستهلالُ رفعُ الصوتِ، يريدُ أنهُ لم يعلم حياتُه بصوتِ نُطْقٍ أبو بُكَاءٍ (فَمِثْلُ ذلكَ يُطَلُّ) بالمثناةِ التحتيةِ مضمومةٍ وتشديدِ اللامِ على أنهُ مضارعٌ مجهول مِنْ طلَّ، ومعناهُ: يُهْدَرُ ويُلْغَى ولا يضمنُ، ويُرْوَى بالموحَّدةِ وتخفيفِ اللامِ على أنهُ ماضٍ منَ البُطلانِ (فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنما هذَا منْ إخوانِ الكُهَّانِ - منْ أجلِ سَجْعِهِ الذي سَجَعَ -. متفقٌ عليهِ).
في الحديثِ مسائلُ:
الأُولى:
فيهِ دليلٌ على أنَّ الجنينَ إذا ماتَ بسببِ الجنايةِ وجبتْ فيه الغُرَّةُ مُطْلقًا سواءٌ انفصلَ عنْ أمِّهِ وخرجَ مَيِّتًا أو ماتَ في بَطْنِها، فأما إذا خرجَ حيًا ثمَّ ماتَ ففيهِ الديةُ كاملةً، ولكنَّهُ لا بدَّ أنْ يعلمَ أنهُ جنينٌ بأنْ تخرجَ منهُ يدٌ أو رِجْلٌ، وإلا فالأصلُ براءةُ الذِّمةِ وعدمُ وجوبِ الغُرَّةِ. وقدْ فَسَّرَ الغرةَ في الحديثِ بعبدٍ أو وليدةٍ وهيَ الأَمَةُ، وقالَ الشعبيُّ: الغرَّةُ خمسمائةِ درهمٍ، وعندَ أبي داودَ
(3)
والنسائيِّ
(4)
منْ
(1)
رقم (4577).
(2)
في صحيحه رقم (35/ 1681).
(3)
في "السنن" رقم (4578). قال أبو داود: كذا الحديث "خمسمائة شاة"، والصواب مائة شاة. قال أبو داود: هكذا قال عباس وهو وهم.
(4)
في "السنن"(8/ 47 رقم 4814). وقال أبو عبد الرحمن النسائي: هذا وهم ينبغي أن يكون أراد مائةً من الغُرِّ. وقد روىَ النهي عن الخَذْف عن عبد الله بن بريدة عن عبد اللهِ بن مغفل. وخلاصة القول: أنَّ الحديث ضعيف، واللهُ أعلم.
حديثِ بُرَيْدَةَ مائةُ شاةٍ، وقيلَ خمسٌ منَ الإبلِ إذْ هيَ الأصلُ في الدِّيَاتِ وهذا في جَنِيْنِ الحرَّةِ.
وأما جنينُ الأَمَةِ فقيلَ: يُخَصَّصُ بالقياسِ على دِيَتها، فَكَما أنَّ الواجبَ قيمتُها في ضمانِها فيكونُ الواجبُ في جنينِها الأرشُ منسوبًا إلى القيمةِ، وقياسُه على جنينِ الحرَّةِ فإنَّ اللازمَ فيهِ نصفُ عُشْرِ الدِّيةِ فيكونُ اللازمُ فيهِ نصفَ عُشْرِ قيمتِها.
[المسألة]
(1)
الثانية:
قولُه: وقَضى بِدَيةِ المرأةِ علَى عاقلتِها، يدلُّ على أنهُ لا يجبُ القصاصُ في مِثْلِ هذَا، وهوَ منْ أدلَّةِ مَنْ يثبتُ شِبْهَ العَمدِ وهوَ الحقُّ، فإنَّ ذلكَ القتلَ كانَ بحجرٍ صغيرٍ أو عُودٍ صغيرٍ لا يُقْصَدُ [بمثله]
(2)
القتلُ بحسبِ الأغلبِ فيجب فيهِ الديةُ على العاقلةِ ولا قصاصَ فيهِ، والحنفيةُ تجعلُه مِنْ أدلةِ عدمِ وجوبِ القصاصِ بالمِثْقَلِ.
الثالثةُ:
في قولِه: على عاقلتِها، دليلٌ على أنَّها تجبُ الدِّيةُ على العاقلةِ، والعاقلةُ همُ العصبةُ، وقدْ فُسِّرَتْ بِمَنْ عَدَا الولدِ وذوي الأرحامِ كما أخرجَهُ البيهقيُّ
(3)
منْ حديثِ أسامةَ بنِ عميرٍ. فقالَ أبُوهَا: إنَّما يعقلُها بَنُوها، فاخْتَصَمُوا إلى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ:"الديةُ على العَصَبَةِ وفي الجنينِ غُرَّةٌ".
ولهذا بوَّبَ البخاريُّ
(4)
(بابُ جنينِ المرأةِ وأنَّ العقلَ على الوالدِ وعَصَبةِ الوالدِ لا عَلَى الولدِ)، قالَ الشافعيُّ: ولا أعلمُ خِلَافًا في أنَّ العاقِلَةَ العصبةُ وهمُ القرابةُ منْ قِبَلِ الأبِ، وفُسِّرَ بالأقربِ فالأقربِ منْ عصبةِ الذَّكَرِ الحرِّ المكلَّفِ، وفي ذلكَ خلافٌ يأتي في القسَامَةِ.
وظاهرُ الحديثِ وجوبُ الدِّيةِ على العاقلةِ وبهِ قالَ الجمهورُ، وخالفَ جماعةٌ في وجوبِها عليهم فقالُوا: لا يعقلُ أحدٌ عنْ أحدٍ، مُسْتَدِلِّينَ بما عندَ أحمدَ
(5)
وأبي داودَ
(6)
والنسائيِّ
(7)
والحاكمِ
(8)
أنَّ رجلًا أَتَى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في (ب): "به".
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 108).
(4)
في "صحيحه" رقم الباب (26): (12/ 252).
(5)
في "المسند"(4/ 163) مختصرًا ومطولًا.
(6)
في "السنن" رقم (4208)، ورقم (4495).
(7)
في "السنن"(8/ 53).
(8)
في "المستدرك"(2/ 425)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. =
لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا؟ "، فقال: ابني، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لا تجني عليكَ ولا تجني عليهِ"، وعندَ أحمد
(1)
وأبي داودَ
(2)
والترمذيِّ
(3)
منْ حديثِ عمرِو بنِ الأحوصِ أنهُ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجني جانٍ إلَّا علَى نفسهِ، ولا يجني جانٍ علَى ولدِه"، وجُمِعَ بينَهما وبينَ وجوبِ الديةِ على العاقلةِ بأنَّ المرادَ بهِ الجزاءُ الأخرويُّ، أي لا يجني عليهِ جنايةً يُعاقَبُ بها في الآخرةِ، وعلى القولِ بأنَّ الوالدَ والولدَ ليسا منَ العاقلةِ كما قالَهُ الخطابيّ
(4)
، [فلا إشكال ولا يتم الحديث دليلًا]
(5)
.
الرابعة:
قولُه صلى الله عليه وسلم: إنَّما هوَ منْ إخوانِ [الكهنة]
(6)
، منْ أجلِ سَجْعِهِ الذي سجعه، يظهرُ أنَّ قولَه: منْ أجلِ سَجْعِه الذي سجعه، مدرجٌ فهمَه الراوي، ففيهِ دليلٌ على كراهةِ السجعِ. قال العلماءُ: إنَّما كَرِهَهُ منْ هذَا الشخصِ لوجهيْنِ، أحدِهِمَا: أنهُ عارضَ بهِ حكمَ الشرعِ [وأراد]
(7)
إبطالَه، الثاني: أنهُ [تكلف]
(8)
في مخاطبتهِ. وهذانِ الوجْهانِ منَ السجعِ مذمومانِ، فأما السجعُ الذي وردَ منهُ صلى الله عليه وسلم في بعضِ الأوقاتِ وهوَ كثيرٌ في الحديثِ فليسَ منْ هذَا لأنهُ لا يعارضُ حكمَ الشرعِ ولا يتكلَّفهُ فلَا نَهْيَ عنهُ.
الجنين غرة ذكرًا كان أم أنثى
11/ 1097 - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(9)
وَالنَّسَائيُّ
(10)
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَأَلَ: مَنْ شَهِدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الْجَنِينِ؟ قَال: فَقَامَ حَمَلُ بْنُ
= قلت: وأخرجه البغوي رقم (3657)، والدارمي (2/ 199)، وابن الجارود رقم (770)، وابن حبان رقم (1522 - موارد)، والبيهقي (8/ 27 و 345)، كلهم من حديث أبي رمثة. وهو حديث صحيح.
(1)
في "المسند"(3/ 498 - 499).
(2)
لم أعثر عليه.
(3)
في "السنن" رقم (3087)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2669) و (3055)، وهو حديث صحيح، انظر:"الإرواء" رقم (2303).
(4)
في "غريب الحديث" له.
(5)
في (ب): "فلا يتم الاستدلال".
(6)
في (ب): "الكهان".
(7)
في (ب): "ورام".
(8)
في (ب): "تكلفه".
(9)
في "السنن" رقم (4572).
(10)
في "السنن"(8/ 47 - 51 - 52).
النَّابِغَةِ، فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى - فَذَكَرَهُ مُخْتَصرًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
وَالْحَاكِمُ
(2)
. [صحيح]
(وأخرجَهُ أبو داودَ والنسائيُّ منْ حديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه أن عمرَ سألَ: مَنْ شهدَ قضاءَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الجنينِ؟ قالَ: فقامَ حملُ بن النابغةِ) المذكورُ في الحديثِ قَبْلَهُ (فقالَ: كنتُ بينَ امرأتينِ فضربتْ إحداهُما الأُخْرى فذكرَة مختصرًا، وصحَّحَهُ ابنُ حبَّانَ والحاكمُ)، وأخرجَهُ أبو داودَ
(3)
بلفظِ: "أنَّ عمرَ سألَ النَّاسَ عنْ إملاصِ المرأةِ، فقالَ المغيرة: شهدتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فيها بِغُرَّةِ عبدٍ أو أَمَةٍ، فقالَ: ائتني بمَنْ يشهدُ مَعَكَ، قالَ: فأتاهُ محمدُ بنُ مسلمة فشهدَ لهُ". ثمَّ قالَ أبو داودَ
(4)
: قالَ أبو عبيدٍ: إملاصُ المرأةِ إنَّما سُمِّيَ إملاصًا لأنَّ المرأةَ تُزْلِقُهُ قبلَ وقْتِ الولادةِ وكذلكَ كلُّ ما زلقَ منَ اليدِ وغيرِها فقدْ مَلَصَ، انتَهى.
ولا بدَّ منْ أنْ يعلمَ أنَّ الجنينَ قدْ تخلَّق وجَرَى فيهِ الروحُ ليتصفَ بأنها قَتَلَتْهُ الجنايةُ. والشافعيةُ فسَّروهُ بما ظهرَ فيهِ صورةُ الآدميِّ منْ يدٍ وأُصْبُعٍ وغيرِهِما وإن لم تظهرْ فيهِ الصورةُ وشهد أهلُ الخبرةِ بأنَّ ذلكَ أصلُ الآدميِّ فحكمهُ كذلكَ [إن]
(5)
كانتِ الصورةُ خفيةً، وإنْ شكَّ أهلُ الخبرةِ لم يجبْ فيهِ شيءٌ اتفاقًا. [وفي الحديث]
(6)
دليلٌ على أنَّ في الجنينِ غُرَّةً ذَكَرًا كانَ أو أُنثَى لإطلاقِ الحديثِ.
الاقتصاص في السن
12/ 1098 - وَعَنْ أَنسٍ أَنَّ الرُّبَيّعَ بِنْتَ النَّضْرِ - عَمَّتَهُ - كَسَرَتْ ثَنِيّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا الْعَفْوَ، فَأَبَوْا، فَعَرَضُوا الأَرْشَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
(1)
في "صحيحه" رقم (6021).
(2)
في "المستدرك"(3/ 575). قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 196 - 197)، وابن ماجه رقم (2641). وابن الجارود رقم (779)، والبيهقي (8/ 114). وهو حديث صحيح.
(3)
في "السنن" رقم (4570).
(4)
في "السنن"(4/ 698).
(5)
في (ب): "إذا".
(6)
في (ب): "وفيه".
فَأَبَوْا إلَّا الْقِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُكْسَرُ ثَنِيّةُ الرُّبَيِّعِ؟ لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ" فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
، واللَّفْظُ لِلْبُخَاريِّ. [صحيح]
(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه أنَّ الرُّبَيِّعَ) بضمِّ الراءِ والباءِ الموحدةِ المفتوحةِ فمثناةٍ تحتيةٍ مشدَّدةٍ مكسورةٍ، أختَ أنسٍ (بنتَ النضرِ عَمَّتَهُ) أي عمَة أنسِ بنِ مالكٍ وهي غيرُ الرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوِّذٍ، ووقعَ في سننِ البيهقيِّ بنتُ معوِّذٍ، قال المصنفُ:[وهو]
(2)
غلطٌ، (كَسَرتْ ثنيةَ جاريةٍ) أي شابَّةٍ منَ الأنصارِ كما في روايةٍ (فطلبُوا) أي قرابةُ الرُّبَيِّعَ (إليها) أي [إلى]
(3)
الجاريةِ (العفوَ فَأَبَوْا، فعرضُوا الأرْشَ فَأَبَوْا، فأتوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبَوْا إلَّا القصاصَ، فأمرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالقصاصِ، فقالَ أنس بنُ النَّضْرِ: يا رسولَ اللهِ أتُكْسَرُ ثنيةُ الربيِّعِ؟ لا، والذي بعثكَ بالحقِّ لا تُكْسَرُ ثنيتُها، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا أنسُ كتابُ اللهِ القصاصُ، فرضيَ القومُ فَعَفَوْا، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ منْ عبادِ اللهِ مَنْ لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ. متفقٌ عليهِ واللفظُ للبخاريِّ) فيهِ مسائلُ:
الأُوْلَى:
أنه دليل على وجوبِ الاقتصاصِ في السنِّ، فإنْ كانتْ بكمالِها فهوَ مأخوذٌ منْ قولِه تعالَى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}
(4)
وقدْ ثبتَ الإجماعُ
(5)
على قَلْعِ السنِّ بالسنِّ [بالعمد]
(6)
، وأما كسرُ السنِّ فقدْ دلَّ هذا الحديثُ على القصاصِ فيهِ أيضًا، قالَ العلماءُ: وذلكَ إذا عرفتَ المماثلةَ وأمكنَ ذلكَ منْ دونِ سرايةٍ إلى غيرِ الواجبِ. قالَ أبو داودَ: قلتُ لأحمدَ - يريدُ ابنَ حنبلٍ - كيفَ في السنِّ؟ قالَ:
(1)
البخاري رقم (2703)، ومسلم رقم (1675). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4595)، والنسائي (8/ 28)، وابن ماجه رقم (2649). والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 176 - 177)، وأحمد في "المسند"(3/ 128).
(2)
في (ب): "إنه".
(3)
زيادة من (ب).
(4)
سورة المائدة: الآية 45.
(5)
"موسوعة الإجماع"(2/ 849 - 850).
(6)
في (ب): "في العمد".
تُبردُ، أي يُبردُ منْ سنِّ الجاني بقدْرِ ما كُسِرَ منْ سنِّ المجني عليهِ، وقالَ بعضُهم: الحديثُ محمولٌ على القلْعِ وأنهُ أرادَ بقولِه كُسِرتْ قُلِعَتْ وهوَ بعيدٌ.
لا قصاص في العظم دون السن لعدم إمكان المماثلة
وأما العظمُ غيرُ السنِّ فقدْ قامَ الإجماعُ على أنهُ لا قصاصَ في العظْمِ الذي يخافُ منهُ ذهابُ النَّفْسِ، إذ لم تتأتَ فيهِ المماثلةُ بأنْ لا يوقفَ على قدرِ الذاهبِ. وقالَ الليثُ والشافعيُّ والحنفيةُ: لا قصاصَ في العظْمِ غيرِ السنِّ لأنَّ دونَ العظمِ حائلًا منْ جلدٍ ولحمٍ وعَصَبٍ فيتعذرُ معهُ المماثلةُ، فلوْ أمكنتْ لحكْمنَا بالقصاصِ، ولكنْ لا نَصِلُ إلى العظمِ حتَّى يناله ما دونَه مما لا يعرفُ قدرُه.
[المسألة]
(1)
الثانية:
قولُه: (أَتُكْسَرُ ثنيةُ الربيِّعِ) ظاهرُ الاستفهامِ الإنكارُ وقدْ تؤول بأنهُ لم يردْ به رد الحكمَ والمعارضةَ وإنَّما أرادَ أنْ يؤكِّدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم طلبَ الشفاعةِ منْهم وأكَّدَ طلبَهُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالقَسَمِ، وقيلَ: بلْ قالَه قبلَ أنْ يعلمَ أنَّ القصاصَ حَتْمٌ وظنَّ أنهُ يُخَيَّرُ بينَه وبينَ الديةِ أوِ العفوِ، ويرشدُ إليهِ قولُه في جوابهِ:(يا أنسُ كتابُ اللهِ القصاصُ)، وقيلَ: إنهُ لم يردِ الإنكارَ بلْ قالَه توقُّعًا ورجاءَ منْ فضلِ اللهِ أنْ يلهمَ الخصومَ الرضاءَ حتَّى يعفُوا أو يقبلُوا الأرشَ، وقدْ وقعَ الأمرُ على ما أرادَ. وفي إلهامِهِمُ العفوَ وفي تقريرِه صلى الله عليه وسلم على الحلفِ دليلٌ على أنهُ يجوزُ الحلفُ فيما يُظَنُّ وقوعَهُ.
المسألة الثالثة:
قولُه صلى الله عليه وسلم: (كتابُ اللهِ القصاصُ) المشهورُ فيه الرفعُ على أنهُ مبتدأٌ وخبرٌ، ويجوزُ النصبُ في الأولِ على المصدرِ وفعلُه محذوفٌ، أي كتبَ [الله ذلك كتابًا]
(2)
، وفي الثاني على أنهُ مفعولٌ للكتابِ أو الفعل المقدَّرِ، وَيحْتَمِلُ وجُوهًا أُخَرَ. قيلَ: أرادَ بالكتابِ الحكمَ، أي حكمَ اللهِ القصاصَ، وقيلَ: أشارَ إلى قولِه تعالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
(3)
، أوْ إلى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
(4)
، أوْ إلى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (3).
وفي قولِه صلى الله عليه وسلم: (إنَّ منْ عبادِ اللهِ مَنْ لوْ أقْسَمَ، إلى آخرِهِ) تعجُّبٌ منهُ صلى الله عليه وسلم
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في (ب): "كتاب الله".
(3)
سورة المائدة: الآية 45.
(4)
سورة النحل: الآية 126.
بوقوعِ مثلِ هذَا منْ حَلِفِ أنسٍ على نفي فعلِ الغيرِ وإصرارِ الغير على إيقاعِ ذلكَ الفعلِ. وكانَ قضيةُ ذلكَ العادةِ في أنْ يحنثَ في يمينِه، فألهمَ اللهُ تعالَى الغيرَ العفوَ فبرَّ قسمُ أنسٍ، وأنَّ هذَا الاتفاقَ واقعٌ إكرامًا منَ اللهِ تعالَى لأنسٍ ليبرَّ في يمينِه، وأنهُ منْ جملةِ عبادِ اللهِ الذينَ يعطيهمُ اللهُ جل جلاله أَرَبَهَمْ ويجيبُ دعاءَهم، وفيهِ جوازُ الثناءِ على مَنْ وقعَ له مثلُ ذلك عندَ أَمْنِ الفتنةِ عليهِ.
على من تكون الدية لمن لم يعرف قاتله
13/ 1099 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ في عِمِّيًّا أَوْ رِمِّيًّا بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ عَصًا، فَعَقْلُهُ عَقْلُ الْخَطَإِ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
، وَالنَّسَائِيِ
(2)
، وَابْنُ مَاجَهْ
(3)
بِإِسْنَاد قَوِيٍّ. [صحيح لغيره]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قُتِلَ في عِمِّيًّا) بكسرِ العينِ المهملةِ وتشديدِ الميمِ والياءِ المثناةِ منْ تحت بالقصرِ فِعِّيلى من العماءِ، وقولُه:(أو رِمِّيًا) بِزِنَتِه مصدرٌ يرادُ بهِ المبالغةُ (بحجرٍ أو سوطٍ أو عصًا فعليهِ عَقْلُ الخطأِ، ومَنْ قُتِلَ عَمْدًا فهوَ قَوَدٌ، ومَنْ حالَ دونَه فعليهِ لعنةُ اللهِ. أخرجَهُ أبو داودَ والنسائيُّ وابنُ ماجهْ بإسنادٍ قويٍّ).
قالَ في "النهايةِ"
(4)
في تفسيرِ اللفظيْنِ: المعنَى أنْ يوجدَ بينَهم قتيلٌ يُعَمَّى أمرُه ولا يتبينُ قاتلُه فحكمُه حكمُ قتيلِ الخطأِ تجبُ فيهِ الديةُ.
الحديثُ فيهِ مسألتانِ:
الأُولى:
أنهُ دليلٌ علَى أنَّ مَنْ لم يُعْرَفْ قاتلُه فإنَّها تجبُ فيهِ الديةُ وتكونُ على العَاقِلَةِ، وظاهِرُه منْ غيرِ أيمانِ قَسَامةٍ. وقد اختُلِفَ في ذلكَ، فقالتِ
(1)
في "السنن" رقم (4539).
(2)
في "السنن"(8/ 40).
(3)
في "السنن" رقم (2635)، وهو حديث صحيح لغيره.
(4)
لابن الأثير (3/ 305).
الهادويةُ: إنْ كانَ الحاضرونَ الذينَ وقعَ بينَهم القتلُ منحصرينَ لزمتِ القَسَامةُ وجَرَى فيها حُكْمُها منَ الأيمانِ والديةِ، وإنْ كانُوا غيرَ منحصرينَ لزمتِ الديةُ في بيتِ المالِ، قالَ الخطابيُّ
(1)
: اختُلِفَ هلْ تجبُ الديةُ في بيتِ المالِ أوْ لا، قالَ إسحاقُ بالوجوبِ وتوجيهُهُ منْ حيثُ المعنَى أنهُ مسلمٌ ماتَ بفعلِ قومٍ منَ المسلمينَ فوجبتْ دِيَتُهُ في بيتِ مالِ المسلمينَ، وذهبَ الحسنُ إلى أنَّ دِيَتَهُ تجبُ على جميعِ مَنْ حَضَر وذلكَ لأنهُ ماتَ بفعلِهمْ فلا يتعداهم إلى غيرِهِمْ.
وقالَ مالكٌ: إنهُ يُهْدَرُ لأنهُ إذا لم يوجدْ قاتلُه بِعَيْنِهِ استحالَ أنْ يُؤْخَذَ بهِ أحدٌ، وللشافعيِّ قولٌ إنهُ يقالُ لوليِّهِ: ادعُ عَلَى مَنْ شِئْتَ واحلفْ فإنْ حَلَفَ استحقَّ الديةَ، وإنْ نكلَ حلفَ المدَّعَى عليهِ على النفي وسقطتِ المطالبةُ وذلكَ لأنَّ الدَّمَ لا يجبُ إلَّا بالطلبِ، وإذا عرفتَ هذَا الاختلافَ وعدمَ المستَنَدِ القويِّ في أيّ هذِه الأقوالِ، وقدْ عرفتَ أنَّ سندَ الحديثِ قويٌّ كما قالَه المصنفُ، علمتَ أنَّ القولَ بهِ [أقوى]
(2)
الأقوالِ.
المسألةُ الثانيةُ:
في قولهِ: ومَنْ قُتِلَ عَمْدًا فهوَ قَوَدٌ، دليلٌ على أنَّ الذي يوجِبُهُ القتلُ عمدًا هوَ القَودُ عَيْنًا، وفي المسألةِ قولانِ:
الأولُ:
أنهُ يجبُ القَوَدُ عَيْنًا وإليهِ ذهبَ زيدُ بنُ عليٍّ وأبو حنيفةَ وجماعةٌ، ويدلُّ لهمْ قولُه تعالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}
(3)
، وحديثُ:(كتابُ اللهِ القصاصُ)، قالُوا: وأما الديةُ فلا تجبُ إلَّا إذا رضيَ الجاني ولا يُجْبَرُ الجاني على تسليمِها.
والقولُ الثاني:
للهادويةِ وأحمدَ ومالكٍ وغيرِهم، وقولِ للشافعيِّ أنهُ يجبُ بالقتلِ عَمْدًا أحدُ أمريْنِ: القصاصِ أوِ الديةِ، لقولِه صلى الله عليه وسلم:"منْ قُتِلَ لهُ قتيلٌ فهوَ بخيرِ النَّظَرَيْنِ: إما أنْ يقيَّدَ، وإما أن يَدِي"، أخرجَهُ أحمدُ
(4)
والشيخانِ
(5)
وغيرُهم.
وأُجِيْبَ عنهُ بأنَّ المرادَ منَ الحديثِ أنَّ وليَّ المقتولِ مخيَّرُ بشرطِ أنْ يرضَى
(1)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 676 - هامش السنن).
(2)
في (ب): "أولى".
(3)
سورة البقرة: الآية 178.
(4)
في "المسند"(2/ 238).
(5)
البخاري رقم (112)، ومسلم رقم (447/ 1355)، من حديث أبي هريرة.
الجاني أنْ يغرمَ الديةَ، قالُوا: وفي هذَا التأويلِ جمعٌ بينَ الدليلَيْنِ، قُلْنا: الاقتصارُ في الآيةِ وفي بَعْضِ الأحاديثِ على بعضِ ما يجبُ لا يدلُّ على أنهُ لا يجبُ غيرُه مما قامَ الدليلُ على وجوبِه.
وقدْ أخرجَ أحمدُ
(1)
وأبو داودَ
(2)
عنْ أبي شريحٍ الخزاعيِّ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ أصيبَ بدم خَبَلٍ - والخَبَلُ [الجرح]
(3)
- فهوَ بالخيارِ بينَ إحدى ثلاثٍ: إما أن يقتصَّ، أو يأخذَ العقلَ، أو يعفوَ، فإنْ أرادَ الرابعةَ فخذُوا على يديْهِ، فإنْ قَبِلَ من ذلكَ شيئًا ثمَّ عَدَا بعدَ ذلكَ فإنَّ لهُ النارَ".
عقوبة من أعان على القتل
14/ 1100 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الآخَرُ يُقْتلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذي أَمْسَكَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ مَوْصُولًا
(4)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَجَّحَ الْمُرْسَلَ
(5)
. [مرسل]
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: إذا أمسكَ الرجلُ الرجلَ وقتلَه الآخرُ يُقْتَل الذي قَتَلَ ويُحْبَسُ الذي أمسكَ. رواه الدارقطنيُّ موصولًا ومرسلًا، وصحَّحَهُ ابن القطَّانِ ورجالُه ثقاتٌ إلَّا أنَّ البيهقيَّ رجَّحَ المرسلَ).
قالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ في "الإرشاد": وهذا الإسنادُ على شرطِ مسلمٍ، قلتُ: إشارةً إلى إسنادِ الدارقطنيِّ فإنهُ رواهُ منْ حديثِ أبي داودُ الحفريِّ عنِ الثوريِّ عنْ إسماعيلَ بنِ أميةَ عنْ نافعٍ عنِ ابنِ عمرَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الحديثَ، ثمَّ قالَ
(1)
في "المسند"(4/ 31).
(2)
في "السنن" رقم (4496). قلت: أخرجه ابن ماجه رقم (2623)، وهو حديث ضعيف لضعف سفيان بن أبي العوجاء، وعنعنة محمد بن إسحاق، وقال الذهبي عن الحديث بأنه منكر.
(3)
في (ب): "الجراح".
(4)
في "السنن"(3/ 140)، رقم (176)، وذكر الآبادي في "التعليق المغني" (3/ 140) عن الدارقطني أنه قال: والإرسال أكثر.
(5)
في "السنن الكبرى"(8/ 50).
الحافظُ البيهقيُّ: ما رواهُ غيرُ أبي داودَ الحفريِّ عنِ الثَّوْريِّ وغيرِهِ عنْ إسماعيلَ بنِ أميةَ مرسلًا وهذَا هوَ الصحيحُ، [ثم قال ابن كثير: وهو كما قال]
(1)
.
الحديثُ دليلٌ علَى أنهُ ليسَ على المُمسكِ سوَى حَبْسِهِ ولم يذكرْ قَدْرَ مُدَّتِهِ فهيَ راجعةٌ إلى نظرِ الحاكمِ، وأنَّ القودَ أو الدِّيةَ على القاتلِ، وإلى هذَا ذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ والشافعيةُ للحديثِ ولقولِه تعالَى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
(2)
.
وذهبَ مالكٌ والنَّخَعيُّ وابنُ أبي لَيْلَى إلى أنَّهما يقتلانِ جَمِيْعًا إذْ هُما مشتركانِ في قتلهِ فإنهُ لولا الإمساكُ ما انقتل.
وأُجِيْبَ بأنَّ النصَّ منَع الإلحاقَ، فإنَّ حُكْمَ ذلكَ حكمُ الحافرِ للبئرِ والمردي إليها فإنَّ الضمانَ على المردي دونَ الحافرِ اتِّفاقًا، ولكنَّ الحديثَ الآتي دليلٌ للأولينَ
(3)
.
15/ 1101 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْبَيْلَمَانيِّ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ. وَقَالَ: "أَنَا أَوْلَى مَنْ وَفَى بِذِمّتِهِ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا مُرْسلًا
(4)
، وَوَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ
(5)
، وَإِسْنَادُ المَوْصُولِ وَاهٍ. [مرسل]
(وعنْ عبدِ الرحمنِ بنِ البيلمانيِّ)
(6)
بفتحِ الموحدةِ وسكونِ المثناةِ التحتيةِ
(1)
زيادة من (أ).
(2)
سورة البقرة: الآية 194.
(3)
انظر: "الروضة الندية"(2/ 649 - 652) بتحقيقنا.
(4)
في "المصنف"(10/ 101 رقم 18514)، ومن طريقه الدارقطني في "السنن"(3/ 135 رقم 166، 167)، والبيهقي (8/ 30) عن سفيان الثوري، عن ربيعة، به. وأخرجه الشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 105 رقم 350)، من طريق محمد بن الحسن. أنبأنا إبراهيم بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن البيلماني.
(5)
الدارقطني في "السنن"(3/ 134 - 135 رقم 165). وقال الدارقطني: "لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث، والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة، إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله، واللهُ أعلم". اهـ. وانظر: "فتح الباري"(12/ 262). والخلاصة: أن الحديث مرسل.
(6)
ضعَّفه الدارقطني، وليَّنه أبو حاتم - كما في "الميزان"(2/ 551 رقم 4827).
وفتحِ اللامِ، ضعَّفهُ جماعةٌ فلا يُحْتَجُّ بما انفردَ به إذا وصلَ، فكيفَ إذا أرسلَ؟ فكيفَ إذا خالفَ؟ وفيهِ إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ أبي لَيْلَى ضعيفٌ
(1)
، (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مسلمًا بمعاهَدٍ وقالَ: أنا أولى مَنْ وَفَى بِذِمَّتِهِ. أخرجَهُ عبدُ الرزاقِ هكَذا مرسلًا ووصلَه الدارقطنيُّ بذكرِ ابنِ عمرَ فيهِ وإسنادُ الموصولِ واهٍ)، تقدَّم الكلامُ في الحديثِ قريبًا.
16/ 1102 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قُتِلَ غُلَامٌ غيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
(2)
. [صحيح]
(وعنِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قُتِلَ غلامٌ غِيْلَةً) بكسرِ الغينِ المعجمةِ وسكونِ المثناةِ التحتيةِ، أي سرًّا، (فقالَ عمرُ رضي الله عنه: لو اشْتركَ فيهِ أهل صنعاءَ لقتلتُهم بهِ. أخرجَهُ البخاريُّ)، وأخرجَهُ ابنُ أبي شيبةَ
(3)
منْ وجْهٍ آخرَ عنْ نافعِ أنَّ عمرَ "قتلَ سبعةً منْ أهلِ صنعاءَ برجلٍ"، وأخرجَهُ في "الموطأ"
(4)
بسندٍ آخرَ منْ حديثِ ابنِ المسيِّبِ: "أنَّ عمرَ قتلَ خمسةً أو ستةً برجلٍ قتلُوه غيلةً وقالَ: لو تَمَالأَ عليهِ أهلُ صنعاءَ لقتلتُهم بهِ جميعًا".
وللحديثِ قصةٌ أخرجَها الطحاويُّ
(5)
والبيهقيُّ
(6)
عنِ ابنِ وهْبٍ قالَ: حدَّثني جريرُ بنُ حازمٍ أنَّ المغيرةَ بنَ حكيمٍ الصنعانيِّ حدَّثهُ عنْ أبيهِ: "أنَّ امرأةً بصنعاءَ غابَ عنْها زوجُها وتركَ في حجرِها ابنًا لهُ منْ غيرِها غُلامًا يُقَالُ لهُ أصيلٌ، فاتخذتِ المرأةُ بعدَ زوجِها خليلًا فقالتْ لهُ: إنَّ هذا الغلامَ يفضحُنا فاقتلْه، فأَبَى فامتنعتْ منهُ فطاوعَها، فاجتمعَ على قتلِ الغلامِ الرجلُ ورجلٌ آخرُ والمرأةُ وخادمُها فقتلُوه ثمَّ قطَّعوهُ أعضاءَ وجعلُوه في عَيْبَةٍ
(7)
وطرحُوه في رَكِيَّةٍ
(8)
في ناحيةِ القريةِ ليسَ فيها ماءٌ - وذكرَ القصةَ وفيها - فَأُخِذَ خليلُها فاعترفَ ثم اعترفَ
(1)
كذَّبه ابن معين، انظر:"الضعفاء والمتروكين للنسائي" رقم (5)، و"المجروحين"(1/ 105).
(2)
فى "صحيحه" رقم (6896).
(3)
في "المصنف"(9/ 347 رقم 7745).
(4)
2/ 239 رقم 1368 - مع المسوَّى". وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (4/ 353).
(5)
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 477 - 479 رقم 18079).
(6)
في "السنن الكبرى"(8/ 41).
(7)
عَيْبَة: بفتح المهملة وسكون المثناة من تحت، ثم موحدة مفتوحة، وعاء من أدم.
(8)
رَكِيَّة: بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد المثناة التحتية، البئر لم تطو.
الباقونَ، فكتبَ يَعْلَى - وهوَ يومئذٍ أميرٌ - بشأنِهم إلى عمرَ رضي الله عنه فكتبَ عمرَ بقتلِهم جميعًا وقالَ: واللهِ لو أنَّ أهلَ صنعاءَ اشتركُوا في قَتْلِه لقتلتُهم أجمعينَ".
وفي هذَا دليلٌ أنَّ رَأْيَ عمرَ رضي الله عنه أنهُ تقتلُ الجماعةُ بالواحدِ، وظاهرُه ولوْ لم يباشرْه كلُّ واحدٍ، ولِذَا قلْنا [سابقًا]
(1)
إنَّ فيهِ دليلًا لقولِ مالكِ والنخعيِّ، وقولُ عمرَ: لوْ تمالأَ - أي توافقَ - دليلٌ على ذلكَ.
وفي قَتْلِ الجماعةِ بالواحدِ مذاهبُ:
الأولُ:
هذَا، وإليهِ ذهبَ جماهيرُ فقهاءِ الأمصارِ وهوَ مرويٌّ عنْ عليٍّ رضي الله عنه وغيرِه. وقدْ أخرجَ البخاريُّ
(2)
"عنْ عليٍّ رضي الله عنه في رجليْنِ شَهِدَا على رجلٍ بالسَّرقةِ فَقَطَعَهُ عليٌّ رضي الله عنه ثمَّ أتياهُ بآخرَ فَقَالا: هذَا الذي سَرَقَ وأخطأْنا على الأوَّلِ فلم يجزْ شهادتَهما على الآخرِ وأغرمَهما ديةَ الأوَّلِ وقالَ: لو أعلمُ أَنَّكُما تعمَّدْتُما لقطعتُكما"، ولا فَرْقَ بينَ القصاص في النَّفْسِ والأطرافِ.
والثاني:
للناصرِ والشافعيِّ وجماعةٍ وروايةٍ عنْ مالكٍ أنهُ يختارُ الورثةُ واحِدًا منَ الجماعةِ، وفي روايةٍ عنْ مالكٍ يُقْرَعُ بينَهم فمنْ خرجتْ عليهِ القرعةُ قُتِلَ، ويلزمُ الباقونَ الحصةَ منَ الديةِ، وحجَّتُهم أنَّ الكفاءة مُعْتَبَرَةٌ ولا تُقْتَلُ الجماعةُ بالواحدِ كما لا يُقْتَلُ الحرُّ بالعبدِ، وأُجِيْبَ بأنَّهم لم يقتلُوا لصفةٍ زائدةٍ في المقتولِ بلْ لأنَّ كلَّ واحدٍ منْهم قاتلٌ.
والثالثُ:
لربيعةَ وداودَ أنهُ لا قصاصَ علَى الجماعةِ بل الديةَ رعايةً للمماثلةِ ولا وجْهَ لتخصيصِ بعضِهم.
[فهذه]
(3)
أقوالُ العلماءِ في المسألةِ، والظاهرُ قولُ داودَ لأنهُ تعالَى أوجبَ القصاصَ وهوَ المماثلةُ وقدِ انتفتْ هنا، ثمَّ موجبُ القصاصِ هوَ الجنايةُ التي
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في "صحيحه" تعليقًا (12/ 226). قلت: وأخرجه الدارقطني (3/ 182 رقم 294)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 41)، وعبد الرزاق في "المصنف"(10/ 88 رقم 18461)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(9/ 408 - 409).
(3)
في (ب): "هذه".
تُزْهِقُ الروح فإنْ زُهِقَتْ بمجموعِ فِعْلِهِمْ فكلُّ فردٍ ليسَ بقاتلٍ فكيفَ يُقْتَلُ عندَ الجمهورِ؟ وإنَّما يصحُّ على قولِ النَّخعي.
وإنْ كانَ كلُّ واحدٍ [قاتلًا]
(1)
بانفرادهِ لزمَ تواردُ المؤثراتِ على أثرٍ واحدٍ والجمهورُ يمنعونَهُ، علَى أنهُ لا سبيلَ إلى معرفةِ أنهُ ماتَ بفعلِهم جميعًا أوْ بفعلِ بعضهم، فإنْ فُرِضَ معرفتُنا بأنَّ كلَّ جنايةٍ قاتلةٌ بانفرادِها لم يلزمُ أنهُ ماتَ بكلِّ منْها، فلا عبرةَ بالأسبقِ كما قيلَ. وأما حُكْمُ عمرَ رضي الله عنه فَفِعْلُ صحابيٍّ لا [يقوم به حجة]
(2)
، ودَعْوَى أنهُ إجماعٌ غيرُ [مقبول]
(3)
، وإذا لم يجبْ قتلُ الجماعةِ بالواحدِ فإنَّها تلزمُهم ديةٌ واحدةٌ لأنَّها عوضٌ عنْ دمِ المقتولِ، وقيلَ [يلزم]
(4)
كلَّ واحدٍ، ونُسِبَ قائلُه إلى خلافِ الإجماعِ، هذَا ما قرَّرْنَاهُ هنا ثمَّ قوِيَ لنا قتلُ الجماعةِ بالواحدِ وحرَّرْنا دليلَه في حواشي "ضوء النهارِ"
(5)
وفي ذيلِنَا على الأبحاثِ المسدَّدةِ.
من قتل له قتيل فهو مخيَّر بين العقل والقود
17/ 1103 - وَعَنْ أَبي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتي هذِهِ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ أَوْ يَقْتُلُوا"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(6)
وَالنَّسَائِيُّ
(7)
. [صحيح]
- وَأَصْلُهُ في الصَّحِيحَيْنِ
(8)
مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ.
(وعنْ أبي شُريحٍ) بضمِّ الشينِ المعجمةِ وسكونِ المثناةِ فحاءٍ مهملةٍ (الخُزاعيِّ) بضمِّ الخاءِ المعجمةِ فزاي، بعدَ الألفِ عينٌ مهملةٌ، اسمهُ عمرُو بنُ خويلدٍ وقيلَ غيرُه، (قالَ: قالَ رسولُ اللهِ: فمنْ قُتِلَ لهُ قتيلٌ بعدَ مقالتي هذهِ فأهلُه
(1)
في (1): "قاتل".
(2)
في (ب): "تقوم به الحجة".
(3)
في (ب): "مقبولة".
(4)
في (ب): "تلزم".
(5)
(4/ 2342 - 2343).
(6)
في "السنن" رقم (4504).
(7)
لم أجده عند النسائي. قلت: والترمذي رقم (1406)، وهو حديث صحيح، انظر:"الإرواء" رقم (2220).
(8)
البخاري رقم (6880)، ومسلم رقم (1355).
بينَ خِيرَتَيْنِ) بالخاءِ المعجمة فراءٍ، تثنيةُ خِيْرةٍ، بيَّنَهما بقولِه:(إمَّا أنْ يأخُذوا العقلَ أو يقتلُوا. أخرجَهُ أبو داودَ والنسائيُّ وأصلُه في الصحيحينِ بمعناهُ منْ حديثِ أبي هريرةَ).
أصلُ الحديثِ أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم في أثناءِ كلامِهِ: "ثمَّ إنكمْ معشرَ خزاعةَ قتلتُم هذَا الرجلَ منْ هُذَيْلٍ وإني عاقلُه فمنْ قُتِلَ لهُ - الحديثَ". وتقدَّمَ حديثُ أبي شريحٍ فيهِ التخييرَ بينَ إحْدَى ثلاثٍ
(1)
ولا منافاةَ.
قالَ في "الهدي النبويِّ": إنَّ الواجبَ أحدُ الشيْئَيْنِ، إما القصاصُ أو الديةُ، والخِيَرةُ في ذلكَ إلى الوليِّ بينَ أربعةِ أشياءٍ: العفوُ مجانًا، أو العفوُ إلى الديةِ، أو القصاصُ، ولا خلافَ في تخييرهِ بينَ هذهِ الثلاثةِ، والرابعةُ المصالحةُ إلى أكثرَ منَ الديةِ فيهِ وجهانِ:
أحدُهما: أشهرُهما مذهبًا أي للحنابلة جوازُه.
والثاني: ليسَ له العفوُ على مالٍ إلَّا الديةَ أو دونَها، وهذا أرجحُ دليلًا، فإنِ اختارَ الديةَ سقطَ القَوَدُ ولم يملكْ طَلَبَهُ بعدُ، وهذا مذهبُ الشافعيِّ وإحْدَى الروايتينِ عنْ مالكٍ، وتقدَّم القولُ الثاني أنَّ موجِبَهُ القَوَدُ عينًا وليسَ لهُ العفوُ إلى الديةِ إلَّا برضَا الجاني وتقدَّم المختارُ.
* * *
(1)
تقدم تخريجه، وهو حديث ضعيف في أثناء شرح الحديث رقم (13/ 1099) من كتابنا هذا.
[الباب الأول] باب الديات
الدِّيَاتُ بتخفيفِ الياء المثناةِ التحتيةِ جمعُ دِيَةٍ، كعِدَاتٍ جمعُ عِدَةٍ. أصلُ ديةٍ وِدْيَةٌ بكسرِ الواوِ مصدرُ وَدَى القتيلُ يدِيْهِ إذا أعْطِيَ وليُّه دِيَتَهُ، حذفتْ فاءُ الكلمةِ وعُوِّضَتْ عنْها [تاءُ]
(1)
التأنيثِ كما في عِدَةٍ، وهيَ اسمٌ لأعمَّ مما فيهِ القصاصُ وما لا قصاصَ فيهِ.
1/ 1104 - عَنْ أَبي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:"أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ، إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَإِنَّ في النَّفْسِ الدِّيةَ مائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَفي الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفي اللِّسان الدِّيَةُ، وَفي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفي الْبَيْضَتين الدِّيَةُ، وَفي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفي العَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفي الرِّجْل الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيةِ، وَفي الْمَأَمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِبِلِ، وَفي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابع الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِل، وَفي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبلِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ في الْمَرَاسِيل
(2)
،
(1)
في (ب): "تاء".
(2)
رقم (92) ورجاله ثقات. رجال الشيخين، غير محمد بن عمارة - وهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري الخرمي المدني - فإنه لم يخرجا له ولا أحدهما. وهو صدوق. وثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في "الثقات"(5/ 380)، وقال أبو حاتم: صالح ابن إدريس: هو =
وَالنَّسَائيُّ
(1)
وَابْنُ خُزَيْمَةَ
(2)
وَابْنُ الْجَارُودِ
(3)
وَابْنِ حِبَّانَ
(4)
وَأَحْمَدُ، وَاخْتَلَفُوا في صِحّتِهِ. [صحيح]
(عنْ أبي بكرِ بن محمدِ بنِ عمرِو بنِ حزمٍ) بالحاءِ المهملةِ مفتوحةً وسكونِ الزاي، وهوَ تابعيٌّ وَليَ القضاءَ في المدينةِ لعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، اسمُه كنيتُه (عنْ أبيهِ عنْ جدِّه) عمرِو بنِ حزمٍ (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلى أهلِ اليمنِ فذكرَ الحديثَ) أولُه:"منْ محمدٍ النبيِّ إلى شرحبيلَ بنِ عبدِ كلالٍ ونعيمِ بنِ عبدِ كلالٍ والحرثِ بنِ عبدِ كلالٍ قِيَلَ ذي رعينٍ، أما بعدُ" إلى آخرِ ما هُنَا.
(وفيهِ أنَّ منِ اعتبطَ) بالعينِ المهملةِ بعدَها مثناةٌ فوقيةٌ ثمَّ موحَّدةٌ آخرَها طاءٌ مهملةٌ، أي مَنْ قَتَلَ قتيلًا بِلا جنايةٍ منهُ ولا جريرةٍ توجبُ قَتْلَهُ (مؤمنًا قتلًا عنْ بَيِّنَةٍ فإنهُ قَوَدٌ إلَّا أنْ يَرْضَى أولياءُ المقتولِ) فيهِ دليلٌ على أنَّهم مخيَّرونَ كما قرَّرْنَاهُ.
(وإنَّ في النفس الديةَ مائةٌ منَ الإِبِلِ) بدلٌ منَ الديةِ (وفي الأنفِ إذا أُوْعِبَ)[بضمِّ الهمزةِ وسكونِ الواوِ وكسرِ العينِ المهملة فموحدةٍ (جَدْعُهُ)]
(5)
أي قطعَ جميعُهُ (الديةُ، وفي اللسانِ الديةُ)[إذا قُطِعَ منْ أصلِهِ أو ما يمنعُ منهُ الكلامُ]
(6)
(وفي الشَّفتين الدِّيةُ، وفي الذَّكَرِ الديةُ) إذا قُطِعَ منْ أصْلِهِ، (وفي البيضتينِ الديةُ، وفي الصُّلْبِ الدِّيةُ، وفي العينينِ الديةُ، وفي الرِّجْلِ الواحدةِ نصفُ الديةِ) إذا قُطِعَتْ منْ مفصلِ الساقِ (وفي المأمومةِ) هي الجنايةُ التي بلغتْ أمَّ الرأسِ وهي الدماغُ أو الجلدةُ الرقيقةُ عليها (ثلثُ الدية، وفي الجائفة) قال في "القاموس"
(7)
: هي الطعنةُ
= عبد اللهِ بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي.
(1)
في "السنن"(8/ 57 - 58 رقم 4853) مختصرًا.
(2)
رقم (2269) مختصرًا.
(3)
في "المنتقى" رقم (784) مختصرًا.
(4)
كما في "الموارد" رقم (793). قلت: وأخرجه الحاكم (1/ 395 - 397)، ومن طريقه البيهقي (8/ 73). ولمعظم فقراته شواهد، انظر:"نصب الراية"(1/ 196 - 197)، و (2/ 340 - 341)، و"التلخيص الحبير"(4/ 17 - 18)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 259 - 261)، و (7/ 162 - 163)، (7/ 212 - 218)، و "شرح الموطأ" للزرقاني (5/ 136 - 137). والخلاصة: فهو حديث صحيح.
(5)
زيادة من (ب).
(6)
زيادة من (ب).
(7)
"القاموس المحيط"(ص 1031).
تبلغُ الجوفَ ومثلُه في غيره (ثلثُ الديةِ، وفي المنقِّلَةِ) اسمُ فاعلٍ منْ نقَّل - مشدَّدُ القافِ - وهيَ التي تخرجُ منْها صغارُ العظامِ وتنتقلُ منْ أماكِنها، وقيلَ التي تنقلُ العَظْمَ أي تَكْسِرُهُ (خمسَ عَشْرَةَ منَ الإبلِ، وفي كلِّ أُصْبُعٍ منْ أصابعِ اليدِ والرِّجْلِ عَشْرٌ منَ الإبلِ، وفي السِّنِّ خمسٌ مِنَ الإبلِ، وفي الموضحَةِ) اسمُ فاعلٍ منْ أوضحَ وهي التي توضِحُ العظْمَ وتَكْشِفُهُ (خمسٌ منَ الإِبِلِ، وإنَّ الرجلَ يقْتَلُ بالمرأةِ، وعلَى أهلِ الذهبِ ألفُ دينارٍ. أخرجَهُ أبو داودَ في "المراسيلِ" والنسائيُّ وابنُ خزيمةَ وابنُ الجارودِ وابنُ حِبَّانَ وأحمدُ واختلفوا في صِحَّتِهِ)، قالَ أبو داودَ في "المراسيل"
(1)
: قدْ أسندَ هذَا ولا يصحُّ والذي قالَ في إسنادِه سليمانُ بنُ داودَ وَهْمٌ إنَّما هوَ ابنُ أَرْقَمَ
(2)
.
قالَ أبو زرعةَ: عرضْتُه على أحمدَ فقالَ: سليمانُ بنُ داودَ هذا ليسَ بشيءٍ.
وقالَ ابنُ حبانَ
(3)
: سليمانُ بنُ داودَ اليمانيِّ ضعيفٌ، وسليمانُ بنُ داودَ الخولانيُّ ثقةٌ، وكلاهُما يرويانِ عنِ الزهريِّ، والذي يروي حديثَ الصدقاتِ هوَ الخولانيُّ، فَمَنْ ضعَّفهُ ظَنَّ أنَّ الراويَ هو اليمانيُّ.
وقالَ الشافعيُّ
(4)
: لم ينقلُوا هذا الحديثَ حتَّى ثبتَ عندَهم أنهُ كتابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ
(5)
: هذا كتابٌ مشهورٌ عند أهلِ السِّيرِ معروفٌ ما فيهِ عندَ أهلِ العلمِ معرفةٍ يستغنى شهرتُها عنِ الإسنادِ
(6)
، لأنهُ أشبهَ المتواترَ لتلقي الناسِ [له]
(7)
بالقَبولِ والمعرفةِ.
قالَ العقيليُّ
(8)
: حديثُ ثابتٍ محفوظ إلَّا أنَّا نَرَى أنهُ كتابٌ غيرُ مسموعٍ عمَّنْ فوقَ الزهريِّ.
(1)
(ص 213).
(2)
انظر: "الجوهر النقي" لابن التركماني (4/ 89)، و"ميزان الاعتدال"(2/ 201 - 202).
(3)
في كتابه "الثقات"(6/ 387).
(4)
في "الرسالة" 422 رقم 1163.
(5)
في "التمهيد"(17/ 338).
(6)
قلت: لا بد من الإسناد في كل أمر من أمور الدين وعليه الاعتماد. روى مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 87 - بشرح النووي)، عن عبد اللهِ بن المبارك قال: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".
(7)
في (ب): "إياه".
(8)
في "الضعفاء الكبير"(2/ 128).
وقالَ يعقوبُ بنُ سفيانَ: لا أعلمُ في الكتبِ المثقولةِ كتابًا أصحَّ منْ كتابِ عمرِو بنِ حزمٍ، فإنَّ الصحابة والتابعينَ يرجعونَ إليهِ ويدَعُونَ رأْيَهم.
قالَ ابنُ شهابٍ: قرأتُ في كتابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعمرِو بنِ حزمٍ حينَ بعثَهُ إلى نجرانَ وكانَ الكتابُ عندَ أبي بكرِ بنِ حزمٍ، وصحَّحَهُ الحاكمُ
(1)
وابنُ حِبَّانَ
(2)
والبيهقيُّ
(3)
، وقالَ أحمدُ: أرجُو أنْ يكونَ صحيحًا.
وقالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ في "الإرشادِ"
(4)
بعدَ نَقْلِهِ كلام أئمةِ الحديثِ فيهِ ما لفظُه: قلتُ: وعلَى كلِّ تقديرٍ فهذَا الكتابُ متدَاوَلٌ بينَ أئمةِ الإسلامِ قديمًا وحديثًا يعتمدونَ عليهِ ويفزعُونَ في مهماتِ هذا البابِ إليهِ، ثمَّ ذكرَ كلامَ يعقوبَ بنِ سفيانَ. إذا عرفتَ كلامَ العلماءِ هذا، عرفتَ [أن الحديث]
(5)
معمولٌ بهِ وأنهُ أَوْلَى منَ الرأْي المَحْضِ.
المسائل الفقهية التي اشتمل عليها الحديث
وقدِ اشتملَ على مسائلَ فقهيةٍ:
الأُولى:
فيمنَ قَتَلَ مؤمنًا اعتباطًا أي بلا جنايةٍ منهُ ولا جريرةٍ تُوْجِبُ قتلُه كما قدَّمْناهُ، وقالَ الخطابيُّ: اعتبطَ بقتلِه أي قتلَه ظُلْمًا لا عنْ قصاصٍ. وقدْ رُوِيَ الاغتباط بالغينِ المعجمةِ كما يفيدُه تفسيرُه في "سننِ أبي داودَ" فإنهُ قالَ: إنهُ سُئِلَ يَحْيَى بن يَحْيَى الغسانيِّ عنِ الاغتباطِ فقال: القاتلُ الذي يقتلُ في الفتنةِ فَيَرى أنهُ في هُدَى لا يستغفرُ اللهَ تعالَى منهُ. فهذَا يدلُّ أنهُ منَ الغبطةِ بالغينِ المعجمة الفرحُ والسرورُ وحسنُ الحالِ، فإذا كانَ المقتولُ مؤمنًا وفرحَ بقتلِه فإنهُ داخلٌ في هذا الوعيدِ. ودلَّ على أنهُ يجبُ القَوَدُ إلَّا أنْ يرضَى أولياءُ المقتولِ فإنَّهم يخيِّرون بينَه وبينَ الديةِ كما سلفَ.
[المسألة]
(6)
الثانيةُ:
دلَّ الحديث أنَّ قدْرَ الديةِ مائةٌ منَ الإبلِ، وفيهِ دليلٌ أيضًا علَى أنَّ الإبلَ هيَ الواجبةُ وأنَّ بقية الأصنافِ ليستْ بتقديرٍ شرعيٍّ بلْ هيَ
(1)
في "المستدرك"(1/ 397).
(2)
في "الموارد" رقم (793).
(3)
في "السنن الكبرى"(4/ 90).
(4)
(2/ 277).
(5)
في (ب): "أنه".
(6)
زيادة من (أ).
مصالحةٌ، وإلى هذا ذهبَ القاسمُ والشافعيُّ، وأما أسنانُها فسيأتي الحديث بعدَ هذَا، إلَّا أنَّ قولَه في هذا الحديثِ:(وعلى أهلِ الذهبِ ألفُ دينارٍ) ظاهرُه أنهُ أيضًا أصلٌ على أهلِ الذَّهبِ، والإبلُ أصلٌ على أهلِ الإبلِ، ويحتملُ أنَّ ذلكَ معَ عدمِ الإبلِ، وأنَّ قيمةَ المائةِ منْها ألفُ دينارٍ في ذلكَ العصرِ. ويدلُّ لهذا ما أخرجَه أبو داودَ
(1)
، والنسائيُّ
(2)
عنْ عمرِو بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ: "أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يقوِّمُ ديةَ الخطأِ على أهلِ القُرى أربعُمائةِ دينارٍ أو عدْلُها منَ الورِقِ، ويقوِّمُها علَى أثمانِ الإبلِ إذا غلتْ رفعَ منْ قيمتِها وإذا هاجتْ ورخصتْ نَقَّصَ منْ قيمتِها.
وبلغتْ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما بينَ أربعِمائةِ إلى ثمانمائةِ وعِدْلُها منَ الورِقِ ثمانيةُ آلافِ درهمٍ، قالَ: وقضَى على أهلِ البقرِ مائتي بقرةٍ ومنْ كانَ ديةُ عَقْلِهِ في الشاء بِأَلْفَي شاةٍ".
وأخرجَ أبو داودَ
(3)
عنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما أنَّ رجلًا منْ بني عديٍّ قُتِلَ فجعلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[دِيَتَهُ]
(4)
اثني عَشَرَ ألفًا ومثلُه عندَ الشافعيِّ
(5)
وعندَ الترمذيِّ
(6)
، وصرَّحَ بأنَّها اثنا عشرَ ألفِ درهمٍ وعندَ أهلِ العراقِ أنَّها مِنَ الورِقِ عشرةُ آلافِ درهمٍ، ومثلُه عنْ عمرَ
(7)
رضي الله عنه وذلكَ بتقويمِ الدينارِ بعشرةِ دراهمَ واتفقُوا على تقويمِ المثقالِ بها في الزكاةِ.
وأخرجَ أبو داودَ
(8)
عنْ عطاءٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَضَى في الديةِ على أَهْلِ الإبلِ مائةً منَ الإبلِ، وعلى أهلِ البقَرِ مائتيْ بقرةٍ، وعلَى أهلِ الشَّاءِ ألفيْ شاةٍ،
(1)
في "السنن" رقم (4564).
(2)
في "السنن"(8/ 42 - 43 رقم 4801).
(3)
في "السنن" رقم (4546).
(4)
زيادة من (جـ).
(5)
في "الأم"(6/ 113)، مرسلًا.
(6)
في "السنن" رقم (1388)، موصولًا. وأخرجه الترمذي مرسلًا رقم (1389)، والنسائي مرفوعًا (8/ 44)، وابن ماجه مرفوعًا رقم (2629). وهو حديث ضعيف، انظر:"الإرواء"(7/ 304 رقم 2245).
(7)
أخرجه الشافعي في "الأم"(6/ 113)، عنه مرسلًا.
(8)
في "السنن" رقم (4543) مرسلًا. ورقم (4544) منقطعًا. لأنهُ لم يذكر فيه من حديثه عن عطاء فهي رواية عن مجهول. والخلاصة: أنَّ الحديث ضعيف، انظر:"الإرواء" رقم (2244).
وعلى أهلِ الحُللِ مائتي حُلَّةٍ، وعلَى أهلِ القمحِ شيئًا لم يحفظْه محمدُ ابنُ إسحاقَ".
وهذا يدلُّ على تسهيلِ الأمرِ وأنهُ ليسَ يجبُ على مَنْ لزمتْه الديةُ إلَّا منَ النوعِ الذي يجدُه ويعتادُ التعاملَ بهِ في ناحيتِه، وللعلماءِ هُنا أقاويلُ مختلفةٌ، وما دلَّتْ عليهِ الأحاديثُ أولى بالاتباعِ، وهذهِ التقديراتُ الشرعيةُ كما عرفتَ. وقدِ استبدلَ النَّاسُ عُرْفًا في الدِّياتِ وهوَ تقديرُها بسبعمائةِ قرشٍ. ثمَّ إنَّهم يجمعونَ عرُوضًا يقطعُ فيها بزيادةٍ كثيرةٍ في أثمانِها فتكونُ الديةُ حقيقةً نصفَ الديةِ الشرعية، ولا أعرفُ لهذا وجْهًا شرعيًا فإنهُ أمرٌ صارَ مأنوسًا، ومَنْ لهُ الديةُ لا يعذرُ عنْ قبولِ ذلكَ حتَّى أنهُ صارَ منَ الأمثالِ:"قطعُ ديةٍ"، إذا قطعَ شيءٌ بثمنٍ لا يبلغُه.
المسألةُ الثالثةُ:
قولُه: (وفي الأنفِ إذا أُوْعِبَ جدعُه)، أي استؤصلَ، وهوَ أنْ يقطعَ منَ العظمِ المنحدِرِ منْ مَجْمَعِ الحاجبينِ، فإنَّ فيها الديةَ، وهذَا حكمٌ مُجْمَعٌ عليهِ.
واعلم أنَّ الأنفَ مُرَكَّبٌ منْ أربعةِ أشياءَ: منْ قصبةٍ ومارنٍ وأرنبةٍ ورَوْثةٍ. فالقصبةُ هيَ العظْمُ المنحدرُ منْ مَجْمَعِ الحاجبينِ، والمارنُ هوَ الغضروفُ الذي يجمعُ المنخريْنِ، والرَّوْثةُ بالراءِ وبالمثلثةِ طرفُ الأنفِ. وفي "القاموسِ"
(1)
: المارنُ الأنفُ أو طرفُه أوْ ما لانَ منهُ. واختُلِفَ إذا جَنَى على أحد هذهِ، فقيلَ: تلزمُ حكومةٌ عندَ الهادي، وذهبَ الناصرُ والفقهاءُ إلى أنَّ في المارِنِ ديةً لما رواهُ الشافعيُّ
(2)
عنْ طاوسَ قالَ: عندَنا في كتابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "في الأنفِ إذا قُطِعَ مارِنُه مائةٌ منَ الإبلِ"، قالَ الشافعيُّ: وهذَا أَبْيَنُ منْ حديثِ آلِ حزمٍ، وفي الرَّوْثةِ نصفُ دِية لما أخرجَهُ البيهقيُّ
(3)
منْ حديثِ عمرِو بنِ [شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ قالَ]
(4)
: "قَضَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا قُطِعَتْ ثُنْدُوةُ الأنفِ بنصفِ العقلِ خمسونَ منَ الإبلِ أوْ عَدْلُها منَ الورِقِ أوِ الذهبِ"، قالَ في "النهايةِ"
(5)
: الثُّنْدُوةُ هنَا روثةُ الأنفِ، وهيَ طرفُه [ومقَدَّمُه]
(6)
.
(1)
"القاموس المحيط"(ص 1592).
(2)
في "الأم"(6/ 127).
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 88).
(4)
في (ب): "شعيب".
(5)
لابن الأثير: (1/ 223).
(6)
في (أ): "ومتقدمه".
المسألةُ الرابعةُ:
قولُه: (وفي اللِّسانِ الديةُ)، أي إذا قُطِعَ منْ أصْلِهِ كما هوَ ظاهرُ الإطلاقِ وهذَا مُجْمَعٌ عليهِ، وهذا إذا قُطِعَ منهُ ما يمنعُ الكلامَ، وأما إذا قُطِعَ ما يبطلُ به بعضَ الحروفِ فحِصَّتُه معتبرةٌ بعَدَدِ الحروفِ، وقيلَ بحروفِ اللسانِ فقطْ وهيَ ثمانيةَ عَشَرَ حَرْفًا، لا حروفَ الحلقِ وهي ستةٌ، ولا حروفَ الشَّفةِ وهيَ أربعةٌ، والأولُ أَوْلَى لأنَّ النُّطْقَ لا يتأتَّى إلَّا باللسانِ.
المسألةُ الخامسةُ:
قولُه: (وفي الشفتينِ الديةُ)، واحدتها شَفةٌ بفتحِ الشينِ وتكسرُ كما في "القاموس"
(1)
. وحدُّ الشفتينِ منْ تحتِ المنْخَرَيْنِ إلى مُنَتَهَى الشِّدْقَيْنِ في عرضِ الوجْهِ، وفي طولِه منْ أَعْلَى الذَّقْنِ إلى أسفلِ الخدَّيْنِ، وهوَ مُجْمَعٌ عليهِ. واخْتُلِفَ إذا قُطِعَ إحداهُمَا فذهبَ الجمهورُ إلى أنَّ في كلِّ واحدةٍ نصفُ الديةِ على سواء، ورُوِيَ عنْ زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّ في العُلْيَا ثلثًا وفي السُّفْلَى ثلثينِ، إذْ منافعُها أكثرُ لحفظِها للطعامِ والشرابِ.
السادسةُ:
قولُه: (وفي الذَّكَرِ الدِّيةُ)، هذَا إذا قُطِعَ منْ أصْلِهِ وهوَ مُجْمَعٌ عليهِ، فإنْ قَطَعَ الحشفَةَ ففيها الديةُ عندَ مالكٍ وبعضِ الشافعيةِ، واختارَه المهديُّ لمذهب الهادوية. وظاهرُ الحديثِ أنهُ لا فرقَ بينَ العِنِّيْنِ وغيرِه والكبيرِ والصغيرِ، وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ، وعند الأَكثرِ أنَّ في ذَكَرِ الخصيِّ والعِنِّيْنِ الحكومة.
[المسألةُ]
(2)
السابعةُ:
قولُه: (وفي البيضتينِ الديةُ)، وهوَ حُكْمٌ مُجْمَعٌ عليهِ وفي كلِّ واحدةٍ نصفُ الديةِ. وفي "البحر"
(3)
عنْ عليٍّ رضي الله عنه وابنِ المسيِّبِ رضي الله عنه أنَّ في البيضةِ اليُسْرَى ثلثي الديةِ لأنَّ الولدَ يكونُ منْها، وفي اليمنَى ثلثُ الديةِ.
المسألة الثامنةُ:
أنَّ في الصُّلْبِ الديةَ وهوَ إجماعٌ. والصُّلبُ بالضمِ والتحريك عَظْمٌ منْ لدن الكاهلِ إلى العَجْب، بفتحِ العينِ المهملةِ وسكونِ الجيمِ، أصلُ الذنَبِ، كالصَّالبة، قالَ تعالَى:{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}
(4)
، فإنْ ذهبَ المنيُّ معَ الكسْرِ فَدِيَتَانِ.
التاسعةُ:
أفادَ أنَّ في العينيْنِ الديةَ وهوَ مجمعٌ عليهِ
(5)
، وفي إحدَاهما
(1)
"القاموس المحيط"(ص 1611).
(2)
زيادة من (أ).
(3)
في "البحر الزخار"(4/ 283).
(4)
سورة الطارق: الآية 7.
(5)
"الإجماع" لابن المنذر (ص 148 رقم 681).
نصفُ الديةِ وهذَا في العينِ الصحيحةِ. واختُلِفَ في الأعورِ إذا ذهبتْ عينُه بالجناية فذهبَ الهادي والحنفية والشافعية إلى أنهُ يجبُ فيها نصفُ الديةِ إذْ لم يفصِّلِ الدليلُ، وهوَ هذَا الحديثُ، وقياسًا على مَنْ له يدٌ واحدةٌ فإنهُ ليسَ لهُ إلَّا نصفَ الديةِ وهو مجمعٌ عليهِ. وذهبَ جماعةٌ منَ الصحابةِ ومالكٌ وأحمدُ إلى أنَّ الواجبَ فيها ديةٌ كاملةٌ لأنَّها في معنَى العينَيْنِ. واختلفُوا إذا جَنَى على عينٍ واحدةٍ، فالجمهورُ على ثبوتِ القَوَدِ لقولِه تعالَى:{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
(1)
وعنْ أحمدَ أنهُ لا قَوَدَ فيها.
العاشرةُ:
قولُه: (وفي الرِّجْلِ الواحدةِ نصفُ الديةِ)، وحدُّ الرِّجْلِ [الذي تجبُ]
(2)
فيها الديةُ منْ مَفْصِلِ الساقِ، فإنْ قطعَ منَ الركبةِ لزمَ الديةَ وحكومةً في الزائدِ. واعلمْ أنهُ ذكرَ البيهقيُّ
(3)
عنِ الزُّهْريِّ أنهُ قرأَ في كتابِ عمروِ بنِ حزمٍ: وفي الأُذُنِ خمسونَ منَ الإبلِ، قالَ: ورُوِّينَا
(4)
عنْ عليٍّ وعمرَ أَنَّهما قَضَيَا بذلكَ. وَرَوى البيهقيُّ
(5)
منْ حديثِ معاذِ أنهُ قالَ: وفي السَّمْعِ مائةٌ منَ الإبلِ وفي العَقْلِ مائةٌ منَ الإبلِ، وقالَ البيهقيُّ: إسنادُه ليسَ بقويٍّ. قالَ ابنُ كثيرٍ: لأنهُ منْ روايةِ رِشْدينَ بنِ سَعْدٍ المصريِّ وهوَ ضعيفٌ
(6)
، قالَ زيدُ بنُ أسلمَ: مضتِ السُّنةُ أنَّ في العقْلِ إذا ذهبَ الديةَ، رواهُ البيهقيُّ
(7)
.
الحاديةَ عَشْرةَ:
[الحديث]
(8)
أنَّ في المأمومةِ
(9)
والجائفةِ
(10)
وتقدَّم تفسيرُهما
(1)
سورة المائدة: الآية 45.
(2)
زيادة من (ب).
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 58)، و"معرفة السنن والآثار" رقم (16117).
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 85)، و"المصنف" لعبد الرزاق (9/ 324)، وانظر:"المحلَّى" لابن حزم (10/ 448).
(5)
في "السنن الكبرى"(8/ 85، 86)، و"معرفة السنن والآثار" رقم (16122). وقال البيهقي: إسناده غير قوي.
(6)
قال النسائي: رشدين بن سعد مصري. متروك الحديث. وقال البخاري: عن الأوزاعي، في أحاديثه مناكير. وقال أبو زرعة: ضعيف. انظر: "المجروحين"(1/ 303)، و"الجرح والتعديل"(3/ 513)، و"الميزان"(2/ 49).
(7)
في "السنن الكبرى"(8/ 90).
(8)
في (ب): "أنه دلَّ على".
(9)
المأمومة: وهي التي تبلغ أم رأس الدماغ.
(10)
الجائفة: وهي التي تخرق حتَّى تصل إلى الصفاق.
في كلِّ واحدةٍ [ثلثُ الديةِ]
(1)
، قالَ الشافعيُّ: لا أعلمُ خِلَافًا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: في الجائفةِ ثلثُ الديةِ، ذكرَهُ ابنُ كثيرٍ في "الإرشادِ". وقالَ في "نهاية المجتهدِ"
(2)
: اتفقُوا علَى أنَّ الجائفةَ منْ جراحِ الجسدِ لا منْ جراحِ الرأسِ وأنهُ لا يقادُ منْها وأنَّ فيها ثلثَ الديةِ وأنَّها جائفةٌ متَى وقعتْ في الظَّهْرِ والبْطَنِ. واختلفُوا إذا وقعتْ في غيرِ ذلكَ منَ الأعضاءِ فنفذتْ إلى تجويفِه، فحكَى مالكٌ عنْ سعيدِ بنِ المسيِّبِ أنَّ في كلِّ جراحةٍ نافذةٍ إلى تجويفِ عُضْوٍ منَ الأعضاءِ أيِّ عُضوٍ كانَ ثلثُ دِيَةِ ذلكَ العضوِ، واختارَهُ مالكٌ، وأما سعيدٌ فإنهُ قاسَ ذلكَ على الجائفةِ نحوِ ما رُوِيَ عنْ عمرَ رضي الله عنه في موضِحَةِ الجسدِ.
المسألة الثانيةَ عشْرةَ:
في المنقِّلةِ خمسَ عَشْرَةَ منَ الإبلِ وتقدَّم تفسيرُها.
الثالثةَ عشْرةَ:
أفادَ أنَّ في كلِّ أصْبُعٍ عشر منَ الإبلِ سواءٌ كانتْ منَ اليدينِ أو الرِّجْلَيْنِ فإنَّ فيها عَشْرًا، وهوَ رأيُ الجمهورِ. وفي حديثِ عمروِ بنِ شعيبٍ مرفوعًا بلفظِ:"والأصابعُ سواءٌ"، أخرجَهُ أحمدُ
(3)
، وأبو داودَ
(4)
. وقدْ كانَ لعمَرَ في ذلكَ [رأيٌ]
(5)
آخرُ ثمَّ رجعَ إلى الحديثِ لما رُوِيَ لهُ.
الرابعةَ عَشْرةَ:
أنهُ يجبُ في كلِّ سِنٍّ خمسٌ منَ الإبلِ وعليهِ الجمهورُ، وفيهِ خلافٌ ليسَ لهُ دليلٌ يقاوِمُ الحديثَ.
الخامسةَ عَشْرةَ:
أنهُ يلزمُ في الموضِحَةِ خمسٌ منَ الإبلِ وإليهِ ذهبَ الهادويةُ والفريقانِ، وفيهِ خلافٌ، وليسَ لهُ ما يقاوِمُ النصَّ.
فائدةٌ: رَوَى البيهقيُّ
(6)
عنْ زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّ في الهاشِمَةِ عَشْرًا منَ الإبلِ، وحكاهُ البيهقيُّ عنْ عددٍ منْ أهلِ العلمِ. ورَوَى عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ أنَّ عمرَ بنَ
(1)
زيادة من (ب).
(2)
في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(4/ 343) بتحقيقنا.
(3)
في "المسند"(2/ 207).
(4)
في "السنن" رقم (4562). قلت: وأخرجه النسائي (8/ 57) بإسناد حسن.
(5)
زيادة مش (جـ).
(6)
في "السنن الكبرى"(8/ 82). قلت: وأخرجه الدارقطني (3/ 201 رقم 357)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (17348).
الخطابِ رضي الله عنه "قَضَى في رجلٍ ضُرِبَ فذهبَ سمعُه وبصرُه وعقلُه ونِكاحُه بأربعِ دياتٍ"، رواهُ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ. ورَوَى النسائيُّ
(1)
منْ حديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَضَى في العينِ العوراءِ السادَّةِ لمكانِها إذا طُمِسَتْ بثُلُثِ ديتها، وفي اليد الشلَّاء إذا قُطعت بثلث ديتها، وفي السِّنِّ السوداء إذا نُزِعَت بِثُلُثِ دِيتَها"، ذكرَه ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ، وأما قولُه:(وإنَّ الرجلَ يُقْتَلَ بالمرأةِ)، فتقدَّمَ الكلامُ فيهِ.
اعتبار أسنان الإبل في الدية
2/ 1105 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دِيَةُ الْخَطَإِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُون، وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
(2)
، وَأَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ
(3)
بلَفْظِ: "وَعِشْرُونَ بنِي مَخَاضٍ" بَدَلَ لَبُونٍ. وَإِسْنَادُ الأَوَّلِ أَقْوَى. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ
(4)
مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنَ الْمَرْفُوع. [ضعيف]
(وعنْ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ديةُ الخطأِ أخماسًا) أي تُؤْخَذُ أو
(1)
في "السنن"(8/ 55 رقم 4840). وقال الألباني في "الإرواء"(7/ 328): "وهذا إسناد حسن إن كان العلاء حدَّث به قبل الاختلاط فإنه صدوق فقيه، وقد اختلط، كما في التقريب" اهـ. قلت: والغالب واللهُ أعلم حدَّث بعد الاختلاط، فالحديث ضعيف، والله أعلم.
(2)
في "السنن"(3/ 172 رقم 262). قلت: وضعَّفها الدارقطني من وجوه عديدة وقوَّى رواية أبي عبيدة برقم (263) وقال: هذا إسناد حسن ورواته ثقات.
(3)
أبو داود رقم (4545)، والترمذي رقم (1386)، والنسائي (8/ 43)، وابن ماجه رقم (2631)، وفي سنده حجاج بن أرطأة ضعيف. وخشف بن مالك الطائي مجهول. وقال الترمذي: حديث ابن مسعود لا نعرفه مرفوعًا إلَّا من هذا الوجه، وقد رُوي عن عبد اللهِ موقوفًا. وهو حديث ضعيف، انظر:"التلخيص الحبير"(4/ 21 - 22).
(4)
في "المصنف"(9/ 134).
تجبُ. بيَّنه قوله: (عشرونَ حِقَّةً وعشرونَ جَذَعَةً وعشرونَ بناتِ مخاضٍ وعشرونَ بناتِ لبونٍ وعشرونَ بني لبونٍ. أخرجَهُ الدارقطنيُّ، وأخرجَه الأربعةُ بلفظِ: وعشرونَ بني مخاضٍ بدلَ بني لبونٍ وإسنادُ الأَوَّلِ أَقْوَى) أي منْ إسنادِ، الأربعةِ فإنَّ فيهِ خِشْفَ بنَ مالكٍ الطائي، قالَ الدارقطنيُّ
(1)
: [إنهُ رجلٌ]
(2)
مجهولٌ، وفيهِ الحجَّاجُ بنُ أرطأةَ
(3)
.
واعلمْ أنهُ اعترضَ البيهقيُّ
(4)
علَى الدارقطنيِّ وقالَ: إنَّ جعْلَه لبني اللبونِ غلطٌ منهُ، ثمَّ قالَ البيهقيُّ: والصحيحُ أنهُ موقوفٌ على ابنِ مسعودٍ والصحيحُ عنْ عبدِ اللهِ أنهُ جعلَ أحدَ أخماسِها بني المخاضِ لا كما توهَّم شيخُنا الدارقطنيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى.
والحديثُ دليلٌ على أنَّ ديةَ الخطأِ تُؤْخَذُ أخماسًا كما ذكرَ وإليه ذهبَ الشافعيُّ ومالكٌ وجماعةٌ منَ العلماءِ، وإلى أنَّ الخامسَ بنو لبونٍ وعنْ أبي حنيفةَ أنهُ بنو مخاضٍ كما في روايةِ الأربعةِ، وذهبَ الهادي وآخرونَ إلى أنَّها تُؤخَذُ أرباعًا بإسقاطِ بني اللبونِ، واستدلَّ لهُ بحديثٍ لم يثبتْه الحفَّاظُ، وذهبُوا إلى أنَّها أرباعٌ مطْلقًا. وذهبَ الشافعيُّ ومالكٌ إلى أنَّ الديةَ تختلفُ باعتبارِ العمْدِ وشبهِ العمْدِ والخطأِ، فقالُوا: إنَّها في العمدِ وشبهِ العمدِ تكونُ أثلاثًا كما في الخطأِ، وأما التغليظُ في الديةِ فإنهُ ثبتَ عنْ عمرَ وعثمانَ رضي الله عنهما فيمنْ قُتِلَ في الحرمِ بديةٍ وثلثٍ تغليظًا، وثبتَ عنْ جماعةٍ القولُ بذلكَ ويأتي الكلامُ فيهِ.
(وأخرجَهُ) أي حديثَ ابنِ مسعودٍ (ابنُ أبي شيبةَ منْ وجْهٍ آخرَ موقُوفًا) علَى ابنِ مسعودٍ (وهوَ أصحُّ منَ المرفوعِ).
3/ 1106 - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(5)
وَالتِّرْمِذِيُّ
(6)
مِنْ طَرِيق عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
(1)
في "السنن" -كما في "تهذيب التهذيب"(3/ 122 رقم 271). وتبعه البغوي في "المصابيح"، وقال الأزدي: ليس بذاك. وقال في "التقريب"(1/ 223 رقم 122): وثقه النسائي. وأورده ابن حبان في "الثقات"(4/ 214)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 226).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
وهو ضعيف تقدَّم مرارًا.
(4)
في "السنن الكبرى"(8/ 75).
(5)
لم أجده في "سنن أبي داود"، واللهُ أعلم.
(6)
في "السنن" رقم (1387) وقال: حديث حسن غريب. =
عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما رَفَعَهُ: "الدِّيَةُ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاُثونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، في بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا". [حسن]
(وأخرجَهُ أبو داودَ والترمذيُّ منْ طريقِ عمرِو بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ رَفَعَهُ) إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلفظ: (الديةُ ثلاثونَ جَذَعَةً وثلاثونَ حِقَّةً وأربعونَ خِلفَةً في بطونِها أولادُها)، وتقدَّم تفسيرُ هذهِ الأسنانِ في الزكاةِ.
الثلاثة العتاة أزيد من غيرهم في العتو
4/ 1107 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مَنْ قَتَلَ في حَرَم اللهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ لِذَحْلِ الجَاهِلِيّةِ". أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ في حَدِيثٍ صَحَّحَهُ
(1)
. [إسناده حسن]
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: إنَّ أَعْتَى) بفتحِ الهمزةِ وسكونِ العينِ المهملةِ فمثناةٍ فوقيةٍ فألفٍ مقصورةٍ، اسمُ تفضيلٍ منِ العتُوِّ وهوَ التجبُّرُ، (الناسِ علَى اللهِ ثلاثةٌ: مَنْ قَتَلَ في حرمِ اللهِ تعالَى، أوْ قَتَلَ غيرَ قاتلِهِ، أَو قَتَلَ لِذَحْلِ) بفتحِ الذالِ المعجمةِ وسكونِ الحاءِ المهملةِ الثأرُ وطلبُ المكافأةِ بجنايةٍ جُنِيَتْ عليهِ منْ قَتْلٍ أوْ غيرِه (الجاهليةِ. أخرجَهُ ابنُ حِبَّانَ في حديثٍ صحَّحَهُ).
الحديثُ دليلٌ علَى أنَّ هؤلاءِ الثلاثةَ أَزْيَدُ في العُتُوِّ على غيرِهم منَ العتاةِ:
الأولُ: مَنْ قَتَلَ في الحرمِ فمعصيةُ قَتْلِهِ تزيدُ على مَعْصِيَةِ مَنْ قَتَلَ في غيرِ الحرمِ، وظاهرُه العمومُ لحرمِ مكةَ والمدينةَ، ولكنَّ الحديثَ وردَ في غزاةِ الفتحِ
= قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2626)، والبيهقي (8/ 53)، وأحمد (2/ 183، 217)، من طريقين عن عمرو بن شعيب به. وهو حديث حسن للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(1)
في "الإحسان" رقم (5996) بسند حسن مطولًا. وقوله: "إن أعتى النَّاس
…
"، أخرجه أحمد (2/ 187) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
• والذَّحل: طلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو جرح ونحو ذلك.
والذَّحل: العداوة أيضًا. قاله ابن الأثير في "النهاية"(2/ 155).
في رجلٍ قَتَلَ بالمزدلفةِ إلَّا أنَّ السببَ لا [يخصص]
(1)
بهِ إلَّا أنْ يُقَالَ الإضافةُ عهديةٌ والمعهودُ حرمُ مكةَ.
وقدْ ذهبَ الشافعيُّ إلى التغليظِ [بالديةِ]
(2)
على مَنْ وقعَ منهُ قَتْلُ الخطأِ في الحرمِ أو قَتل محرِمًا منَ النسبِ أو قَتَلَ في الأشهرِ الحرُمِ، قالَ: لأنَّ الصحابةَ غلَّظُوا في هذهِ [الأمورِ]
(3)
. وأخرجَ السديُّ عنْ مُرَّةَ عنِ ابنِ مسعودٍ قالَ: "ما مِنْ رجلٍ يهمُّ بسيئةٍ فتكتبُ عليهِ إلَّا أنَّ رجلًا لَوْ هَمَّ بعدنٍ أنْ يقتلَ رجلًا بالبيتِ الحرامِ إلَّا أذاقَه اللهُ تعالَى منْ عذابٍ أليمٍ"
(4)
، وقدْ رَفَعَهُ في روايةٍ.
قلتُ: وهذا مبنيٌّ علَى أنَّ الظرفَ في قولِه تعالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
(5)
متعلِّقٌ بغيرِ الإرادةِ بلْ بالإلحادِ وإنْ كانتِ الإرادةُ في غيرِه والآيةُ محتمَلَةٌ. ووردَ في التغليظِ في الديةُ حديثُ عمروِ بنِ شعيبٍ مرفُوعًا بلفظِ: "عَقْلُ شِبْهِ العمْدِ مغلَّظٌ مِثْلُ قَتْلِ العمْدِ ولا يقتلُ صاحبُه، وذلكَ أنْ ينزوَ الشيطانُ بينَ الناسِ فتكونُ دماءٌ في غيرِ ضَغِينَةٍ ولا حَمْلِ سلاحٍ"، رواهُ أحمدُ
(6)
وأبو داودَ
(7)
.
الثاني: مَنْ قتلَ غيرَ قاتلِه، أي منْ كانَ لهُ دمٌ عندَ شخصٍ فيقتلُ رجلًا آخرَ غيرَ مَنْ عندَه لهُ الدمُ سواءٌ كانَ له مشاركةٌ في القتلِ أوْ لا.
الثالثُ: قولُه: (أو قَتَلَ لِذَحْلِ الجاهليةِ)، تقدَّم تفسيرُ الذَّحْلِ وهوَ العداوةُ [أيضًا، و]
(8)
قدْ فسَّرَ الحديثَ حديثُ أبي شريحٍ الخزاعيِّ أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أعتى الناسِ مَنْ قَتَلَ غيرَ قاتِلِه، أوْ طُلِبَ بدمٍ في الجاهليةِ منْ أهلِ الإسلامِ، أوْ بصَّرَ عينيه ما لم تبصرْ"، أخرجَهُ البيهقيُّ
(9)
.
(1)
في (ب): "يخصُّ".
(2)
في (ب): "في الدية".
(3)
في (ب): "الأحوال".
(4)
أخرجه الثوري في تفسيره عن السديِّ عن مُرَّة عن ابن مسعود بسند صحيح كما في "فتح الباري"(12/ 210).
(5)
سورة الحج: الآية 25.
(6)
كما في "الفتح الرباني"(16/ 52 رقم 134).
(7)
في "السنن" رقم (4565)، وهو حديث حسن.
(8)
زيادة من (ب).
(9)
في "السنن الكبرى"(8/ 26).
كيف تغلظ الدية
5/ 1108 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا إِنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ وَشبْهِ الْعَمْدِ -مَا كَانَ بالسَّوْطِ وَالْعَصَا- مِائَةٌ مِنَ الإِبل، مِنْهَا أَرْبَعُونَ في بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
وَالنَّسَائِيُّ
(2)
وَابْنُ مَاجَهْ
(3)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(4)
. [صحيح]
(وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: ألا إنَّ دِيةَ الخطأِ وشِبْهِ العمْدِ) ما كانَ بالسَّوطِ والعَصَا (مائةٌ منَ الإِبلِ، منْها أربعونَ في بُطُونِها أولادُها. أخرجَهُ أبو داودَ والنسائيُّ وابنُ ماجهْ، وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ).
قالَ ابنُ القطانِ
(5)
: هوَ صحيحٌ ولا يضرُّه الاختلافُ. وتقدَّم الكلام في الحديثِ، وإنَّما ذكرهُ المصنفُ لأنهُ تفسير للحديثِ الذي سلفَ منْ حديثِ عمرِو بن شُعَيْبٍ وفيهِ تغليظُ [العقلِ في]
(6)
الخطأِ، ولم يُبَيِّنْهُ هنالكَ فبيَّنَهُ هُنَا.
مقدار دية الأعضاء
6/ 1109 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هَذِهِ وَهذِهِ سَوَاءٌ، يعني الْخِنْصَرَ وَالإبْهَامَ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(7)
. وَلأَبي دَاوُدَ
(8)
والتِّرْمِذِيِّ
(9)
: "الأَصَابعِ
(1)
في "السنن" رقم (4547)، ورقم (4548).
(2)
في "السنن"(8/ 41).
(3)
في "السنن" رقم 2627).
(4)
في "صحيحه" رقم (6011). قلت: وأخرجه الدارقطني (3/ 104 - 105)، والبيهقي (8/ 45)، وهو حديث صحيح. انظر:"التلخيص الحبير"(4/ 15)، و"الإرواء" رقم (2197).
(5)
ذكره ابن حجر في "التلخيص"(4/ 15).
(6)
في (ب): "عقل".
(7)
في "صحيحه" رقم (6895). قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1392)، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود رقم (4558)، وابن ماجه رقم (2652)، والنسائي (8/ 56 - 57 رقم 4848).
(8)
في "السنن" رقم (4559).
(9)
في "السنن" رقم (1391) ولفظه: "دية الأصابع اليدين والرجلين سواء عشرٌ من الإبل لكلِّ أصبعٍ"، وقال: حديث ابن عباس حسن صحيح غريب. =
سَوَاءٌ؛ وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ: الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ". وَلابنْ حِبَّانَ
(1)
: "دِيَةُ أَصَابعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْن سَوَاءٌ، عَشَرَةٌ مِنَ الإِبلِ لكُلِّ إِصْبَعٍ". [صحيح]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: هذهِ وهذهِ سواءٌ، يعني الخنصرَ والإبهامَ. رواهُ البخاريُّ. ولأبي داودَ والترمذيِّ)[أي منْ حديثِ]
(2)
عن ابنِ عباسٍ [أيضًا]
(3)
: (الأصابعِ سواءٌ) هذَا أعمُّ منَ الأَوَّلَ (والأسنانُ سواءٌ) زادَهُ بيانًا بقولِه: (الثنيَّةُ والضَّرسُ سواءٌ) فلا يقالُ الديةُ على قَدْرِ النَّفْعِ والضِّرسُ أنفعُ في المضْغِ (ولابنِ حِبَّانَ) أي منْ حديثِ ابنِ عباسٍ: (ديةُ أصابعِ اليدينِ والرِّجْلَيْنِ سواءٌ عَشَرَةٌ منَ الإِبلِ لكلَّ أُصْبُعٍ)، [تقدم]
(4)
الكلامَ في هذا مُسْتَوْفَى.
ضمان المتطبب لما أَتلفه
7/ 1110 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عنْ جَدِّهِ رضي الله عنه رَفَعَهُ قَالَ: "مَنْ تَطَيَّبَ -وَلم بَكُنْ بالطِّبِّ مَعْرُوفًا - فَأَصَابَ نَفْسًا فَمَا دُونَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
(5)
وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(6)
، وَهُوَ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ
(7)
وَالنَّسَائِيِّ
(8)
وَغَيْرِهِمَا
(9)
، إِلَّا أَنَّ منْ أَرْسَلَهُ أَقْوَى مِمَّنْ وصلَهُ. [حسن]
(وعنْ عمرِو بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ رفعَهُ قالَ: مَنْ تَطَبَّبَ)، أيْ تكلَّفَ الطبَّ ولم يكنْ طبيبًا كما يدلُّ لهُ صيغةُ تَفَعَّلَ (ولمْ يكنْ بالطبِّ مَعْروفًا فأصابَ نَفْسًا فما دونَها فهوَ ضَامِنٌ. أخرجَهُ الدارقطنيُّ وصحَّحَهُ الحاكمُ وهوَ عندَ أبي داودَ والنسائيِّ وغيرِهما إلَّا أنَّ مَنْ أَرْسَلَهُ أَقْوَى ممنْ وَصَلَهُ).
= قلت: وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى" رقم (783)، والبيهقي (8/ 90).
(1)
في "الإحسان" رقم (6014) بسند جيد. والخلاصة: فهو حديث صحيح، واللهُ أعلم.
(2)
زيادة من (أ).
(3)
زيادة من (ب).
(4)
في (ب): "قدمنا".
(5)
في "السنن"(3/ 196 رقم 336).
(6)
في "المستدرك"(4/ 212) وأقرَّه الذهبي.
(7)
في "السنن" رقم (4586).
(8)
في "السنن" رقم (8/ 52 رقم 4830).
(9)
وابن ماجه في "السنن" رقم (3466). قلت: وله شاهد مرسل عند أبي داود رقم (4587) بسند حسن، وهو به حديث حسن إن شاء الله.
الحديثُ دليلٌ على تضمينِ المتطبِّبِ [بما]
(1)
أتلفَهُ منْ نَفْسٍ فما دونَها سواءٌ أصابَ بالسِّرايةِ أو بالمباشرةِ، وسواءٌ كانَ عَمْدًا أو خَطَأً، وقدِ ادَّعَى على هذا الإجماعَ، قال في "نهايةِ المجتهدِ"
(2)
: إذا أَعَنْتَ المتطببَ كان عليهِ الضربُ والسجنُ والديةُ في مالهِ، وقيلَ على العاقلةِ. اعلمْ أنَّ المتطببَ هوَ مَنْ ليسَ لهُ خبرةٌ بالعلاجِ وليسَ لهُ شيخٌ معروفٌ، والطبيبُ الحاذِقُ هوَ مَنْ لهُ شيخٌ معروفٌ وَثِقَ منْ نَفْسِهِ بجودةِ الصَّنْعَةِ وَإِحْكَامِ المعرفةِ.
قالَ ابنُ القِّيم
(3)
في "الهدي النبويِّ": إنَّ الطبيبَ الحاذِقَ هوَ الذي يُرَاعِي في علاجهِ عشرينَ أَمرًا وَسَرَدَهَا هنالكَ.
قالَ: والطبيبُ الجاهلُ إذا تعاطَى عِلْمَ الطبِّ أو علَّمَهُ ولم يتقدمْ لهُ بهِ معرفةٌ فقدْ هَجَمَ بجهلِه على إتلافِ الأنفسِ، وأقدمَ بالتهوُّرِ على ما لا يعلمُه، فيكونُ قدْ غرَّرَ بالعليلِ فيلزمُه الضمانُ. وهذا إجماعٌ منْ أهلِ العلمِ.
قالَ الخطابيُّ
(4)
: لا أعلمُ خِلَافًا في أنَّ المعالِجَ إذا تعدَّى فَتَلِفَ المريضُ كانَ ضامِنًا، والمتعاطي علمًا أو عملًا لا يعرفُه متعدٍّ، فإذا تولَّدَ منْ فعلهِ التلفُ ضمنَ الديةَ وسقطَ عنهُ القودُ لأنهُ لا يستبدُّ بذلكَ دونَ إذْنِ المريضِ، وجنايةُ الطبيبِ على قولِ عامةِ أهلِ العلمِ على عاقلتِه اهـ.
وأما إعناتُ الطبيبِ الحاذقِ فإنْ كانَ بالسِّرايةِ لم يضمنِ اتفاقًا لأنَّها سرايةُ فعلِ مأذونِ فيهِ منْ جهةِ الشرعِ ومنْ جهةِ المعالِجِ، وهكذَا سرايةُ كلِّ مأذونٍ فيهِ لم يتعدَّ الفاعلُ في سببهِ كسرايةِ الحدِّ وسرايةِ القصاصِ عندَ الجمهورِ خلافًا لأبي حنيفةَ رضي الله عنه فإنهُ أوجبَ الضمانَ بها. وفرَّقَ الشافعيُّ بينَ الفعلِ المقدَّرِ شَرْعًا كالحدِّ وغيرِ المقدَّرِ كالتعزيرِ، فلا يضمنُ في المقدَّرِ ويضمنُ في غيرِ المقدَّرِ لأنهُ راجعٌ إلى الاجتهادِ، فهوَ في مظنةِ العدوانِ. وإنْ كانَ الإعناتُ بالمباشرةِ فهوَ مضمونٌ عليهِ إنْ كانَ عَمْدًا، وإنْ كانَ خطأً فعلَى العاقلةِ.
(1)
في (ب): "ما".
(2)
(3/ 442) بتحقيقنا.
(3)
(4/ 142 - 145) و (4/ 139).
(4)
في "معالم السنن" (40/ 710 - هامش السنن".
8/ 1111 - وَعَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي الْمَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(1)
، وَالأَرْبَعَةُ
(2)
، وَزَادَ أَحْمَدُ:"وَالأَصَابعُ سَوَاة، كُلُّهُنَّ عَشْرٌ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ"، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(3)
وَابْنُ الْجَارُودِ
(4)
. [حسن]
(وعنهُ) أي عنْ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ (أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: في المواضحِ) جمعُ موضحةٍ (خمسٌ خمسٌ منَ الإبلِ. رواه أحمد والأربعةُ. وزادَ أحمدُ: والأصابعُ سواءٌ كلُّهنَّ عشرٌ عشرٌ مِنَ الإبلِ. وصحَّحَهُ ابنُ خزيمةَ وابنُ الجارودِ)، وهوَ [موافق لما]
(5)
تقدَّمَ في حديثِ كتابِ عمرِو بنِ حزمٍ.
وموضحةُ الوجهِ والرأسِ سواءٌ بالإجماعِ إذْ هُما كالعضوِ الواحدِ.
دية أهل الذمة نصف دية المسلم
9/ 1112 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ أَهْلِ الذِّمّةِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمينَ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ
(6)
وَالأَرْبَعَةُ
(7)
. وَلَفْظُ أَبي دَاوُدَ
(8)
: "دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ"، وَلِلنَّسَائِيُّ
(9)
: "عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا"، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(10)
. [حسن]
(1)
في "المسند"(2/ 189).
(2)
أبو داود رقم (4566)، والنسائي (8/ 57)، والترمذي (1390)، وابن ماجه رقم (2655). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3)
لعله في الأجزاء المفقودة من صحيح ابن خزيمة.
(4)
في "المنتقى" رقم (785). قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 194)، وابن أبي عاصم في الديات (ص 71)، والبيهقي (8/ 81)، والبغوي (10/ 195). والخلاصة: أنَّ الحديث حسن، وقد حسَّنه الألباني في "الإرواء" رقم (2285).
(5)
في (ب): "يوافق ما".
(6)
في "المسند"(2/ 180) و (2/ 183)، و (2/ 224).
(7)
أبو داود رقم (4583)، والترمذي رقم (1413)، والنسائي (8/ 44 - 45)، وابن ماجه رقم (2644)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
(8)
رقم (4583).
(9)
رقم (4805).
(10)
لعله في الأجزاء المفقودة من صحيح ابن خزيمة. =
(وعنة) أي عنْ عمرِو بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّه (قالَ: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: عقلُ أهل الذمةِ نصفُ عقلِ المسلمينَ. رواهُ أحمدُ والأربعةُ، ولفظُ أبي داودَ: ديةُ المعاهدِ نصفُ ديةِ الحرِّ. وللنسائيِّ: عقلُ المرأةِ مثلُ عَقْلِ الرجلِ حتَّى يبلغَ الثلثَ منْ دِيَتَها. وصحَّحَهُ ابنُ خزيمةَ)، لكنَّه قالَ ابنُ كثيرٍ إنهُ منْ روايةِ إسماعيلَ بنِ عيَّاشٍ وهوَ إذا رَوَى عنْ غيرِ الشاميينَ لا يُحْتَجُّ بهِ عندَ جمهورِ الأئمةِ وهذَا منهُ.
قلتُ: تعنَّتُوا في إسماعيلَ بنِ عياشٍ إذا رَوَى عنْ غيرِ الشاميينَ وقَبولُه في الشاميينَ، والذي يُرَجَّحُ عندَ الظنِّ قبولُه مُطْلَقًا لثقتِه وضَبْطِه، وكأنهُ لذلكَ صحَّحَ ابنُ خزيمةَ هذهِ الروايةَ وهيَ عنْ إسماعيلَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، وابنُ جريجٍ ليسَ بشاميٍّ.
واعلمْ أنهُ اشتملَ الحديثُ على مسألتينِ.
الأُوْلَى: في دِيَةِ أهلِ الذمةِ وهاهُنا للعلماءِ ثلاثةُ أقوالٍ:
الأولُ: أنَّها نصفُ ديةِ المسلمِ كما أفادهُ الحديثُ.
قالَ الخطابيُّ في "معالِمِ السُّننِ"
(1)
: ليسَ في ديةِ أهلِ الكتابِ شيءٌ أَبْيَنُ مِنْ هذَا وإليهِ ذهبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وعروةُ بنُ الزبيرِ، وهوَ قولُ مالكٍ، وابنِ شِبْرَمةَ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، غيرَ أنَّ أحمدَ قالَ: إذا كانَ القتلُ خطأً، فإنْ كانَ عَمْدًا لم يُقَدْ بهِ وتُضَاعَفْ عليهِ اثني عشَرَ ألفًا.
وقالَ أصحابُ الرأي وسفيانُ الثوريُّ: ديتُه ديةُ المسلمِ وهوَ قولُ الشعبيِّ والنخعيِّ ويُرْوَى ذلكَ عنْ عمرَ وابنِ مسعودٍ.
= قلت: وقال الزيلعي في "نصب الراية": (4/ 364 - 365): "وبسند أبي داود ومتنه رواه أحمد، وابن راهويه، والبزار في مسانيدهم. ولفظ ابن راهويه، قال: "دية الكافر، والمعاهد نصف دية الحر المسلم".
• وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (7582)، وأورده الهيثمي في "المجمع"(6/ 299)، وقال: وفيه جماعة لم أعرفهم. قلت: رجال الإسناد كلهم معروفون، غير أن النضر بن عبد اللهِ الأزدي، أبو غالب. مجهول وأشعث بن سوار الكندي ضعيف. والخلاصة: أنَّ الحديث حسن، وقد حسَّنه الألباني في "الإرواء" رقم (2251).
(1)
(4/ 707) - "هامش السنن".
وقالَ الشافعيُّ وإسحاقُ بنُ راهَويْهِ: ديتُه الثلثُ منْ ديةِ المسلمِ"، انتهى. فعرفتَ أنَّ دليلَ القولِ الأولِ حديثُ [الباب]
(1)
.
واستدلَّ "للقولِ الثاني" وهوَ قولُ الحنفيةِ وإليه ذهبَ الهادويةُ بقولِه تعالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}
(2)
، قالُوا: فَذَكَرَ الديةَ والظاهرُ فيها الإكمالُ، وبما أخرجَهُ البيهقيُّ
(3)
عنِ ابنِ جريجٍ عنِ الزُّهْرِيّ قالَ: كانتْ ديةُ اليهوديِّ والنصرانيِّ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَ ديةِ المسلمينَ. الحديثَ". وأُجِيْبَ بأنَّ الديةَ مجملةٌ وحديثُ الزُّهْريِّ مرسلٌ، ومراسيلُ الزهريِّ قبيحةٌ وذَكَرُوا آثارًا كلُّها ضعيفةٌ الإسنادِ.
ودليلُ "القولِ الثالثِ" هوَ مفهومُ قولهِ في حديثِ عمرِو بنِ حزمٍ
(4)
: "وفي النَّفْسِ المؤمنةِ مائةٌ منَ الإبِلِ"، فإنهُ دلَّ على أنَّ غيرَ المؤمنةِ بخلافِها، وكأنهُ جعلَ بيانَ هذَا المفهومَ ما أخرجَهُ الشافعيُّ
(5)
نفسُه عنِ ابنِ المسيِّبِ أنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ رضي الله عنه "قَضَى في ديةِ اليهوديِّ والنصرانيِّ بأربعةِ آلافٍ، وفي ديةِ المجوسيِّ بثمانمائةٍ"، ومثلُه
(6)
عنْ عثمانَ رضي الله عنه، فجعلَ قضاءَ عمرَ رضي الله عنه مبيّنًا للقدْر الذي أَجْملَهُ مفهومَ الصفةِ، ولا يخْفَى أنَّ دليلَ القولِ الأوَّلِ أَقْوَى لا سيِّما وقدْ صحَّحَ الحديثَ إمامانِ منْ أئمةِ السُّنةِ.
دية المرأة وأرش جراحها على النصف من الرجل
المسألةُ الثانيةُ: ما أفادَه قولُه: (وللنسائيِّ) أي منْ حديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ (عقلُ المرأةِ مثلُ عَقْلِ الرجلِ حتَّى يبلغَ الثلثَ منْ ديتِها).
هوَ دليلٌ على أنَّ أَرْشَ جراحاتِ المرأةِ يكونُ كأرشِ جراحاتِ الرَّجلِ إلى
(1)
في (ب): "الكتاب".
(2)
سورة النساء: الآية 92.
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 102) مرسلًا عن الزهري ومراسيله قبيحة.
(4)
تقدم تخريجه برقم (1/ 1104)، من كتابنا هذا.
(5)
في "بدائع المنن"(2/ 183 رقم 1472)، وأخرجه الدارقطني (3/ 130 رقم 153)، والبيهقي (8/ 101).
(6)
في "بدائع المنن"(2/ 183 رقم 1473).
الثُّلثِ، وما زادَ عليهِ كانَ جراحتُها مخالفةً لجراحاتِه، والمخالفةُ بأنْ يلزمَ فيها نصفُ ما يلزمُ في الرجلِ وذلكَ لأنَّ ديةَ المرأةِ علَى النصفِ منْ ديةِ الرجلِ لقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ معاذٍ
(1)
: "ديةُ المرأةِ على النصفِ منْ ديةِ الرجلِ"، وهوَ إجماعٌ فيقاسُ عليه ما دلَّ عليه مفهومُ المخالفةِ منْ أرشِ جراحةِ المرأةِ على الديةِ الكاملةِ، وإلى هذَا ذهبَ الجمهورُ منَ الفقهاءِ وهوَ قولُ عمرَ وجماعةٍ منَ الصحابةِ.
وذهبَ عليٌّ رضي الله عنه والهادويةُ والحنفيةُ والشافعيةُ إلى أنَّ دِيَةَ المرأةِ وجراحاتِها على النِّصْفِ مِنْ ديةِ الرَّجُلِ. وأخرجَ البيهقيُّ
(2)
عنْ عليٍّ أنهُ كانَ يقولُ: "جراحاتُ النساءِ على النصفِ مِنْ ديةِ الرجلِ فيما قلَّ وكَثُرَ". ولا يخْفَى أنهُ قدْ صحَّحَ ابنُ خزيمةَ
(3)
حديثَ: "إنَّ عَقْلَ المرأةِ كَعقْلِ الرجلِ حتَّى يبلغَ الثُّلُثَ"، فالعملُ بهِ متعيِّنٌ والظنُّ بهِ أَقْوى، وبهِ قالَ فقهاءُ المدينةِ السبعةِ وجمهورُ أهلِ المدينةِ، وهوَ مذهبُ مالكٍ وأحمدَ ونقلَه أبو محمدٍ المقدسيِّ عنْ عمرَ وابنِه [عبد اللهِ]
(4)
قالَ: ولا نعلمُ لهما مخالفًا منَ الصحابةِ إلَّا عنْ عليٍّ رضي الله عنه، ولا نعلمُ ثبوتَه عنهُ. قالَ ابنُ كثيرٍ: قلتُ هوَ ثابتٌ عن علي عليه السلام، وفي المسألةِ أقوالٌ أخرُ بلا دليلٍ ناهضٍ.
إذا وقعت الجراح بحجر ونحوه من غير قصد فهي شبه عمد
10/ 1113 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ
(1)
في "السنن الكبرى"(8/ 95) وقال: وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت مثله.
(2)
في "السنن الكبرى"(8/ 95 - 96).
(3)
بل هو حديث ضعيف. أخرجه النسائي (8/ 44 - 45)، والدارقطني (3/ 91 رقم 38)، من حديث إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، وهذا منها، وابن جريج وهو ثقة فقيه فاضل، ولكنه يدلس ويرسل، وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب" (6/ 359): وقال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل - البخاري - لم يسمع ابن جريج من عمرو بن شعيب. وضعَّف الحديث أيضًا الألباني في "الإرواء"(7/ 308 - 309 رقم 2254).
(4)
زيادة من (أ).
مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتلُ صَاحِبُهُ، وَذَلكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ فَتَكُونُ دِمَاءٌ بَينَ النَّاسِ في غَيْرِ ضَغِينَةٍ وَلَا حَمْلِ سلَاح"، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَّفَهُ
(1)
. [حسن]
(وعنهُ) أي عمرِو بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ (قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَقْلُ شِبْهِ العمْدِ مغلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ العمْدِ)، بَيَّنَهُ في حديثِ أبي داودَ بلفظِ:"مائةٌ منَ الإبلِ منْها أربعونَ في بطونِها أولادُها"، وتقدَّم
(2)
.
(ولا يُقْتَلُ صاحبُه) وبيَّنَ شِبْهَ العمدِ بقولِه: (وذلكَ أنْ ينزوَ) النَّزْوُ بفتحِ النونِ فزايٍ فواوٍ، أي يثبُ (الشيطانُ فتكونُ دماءٌ بينَ الناسِ في غيرِ ضغينة ولا حَمْلِ سلاحٍ. أخرجَهُ الدارقطنيُّ وضعَّفهُ)، وأخرجَهُ البيهقيُّ
(3)
بإسناد لم يضعِّفْهُ.
والحديثُ دليلٌ أنهُ إذا وقعَ الجراحُ منْ غيرِ قَصْدٍ إليهِ ولم يكنْ بسلاحٍ بلْ بحجرٍ أو عَصَا أو نحوِهما فإنهُ لا قَوَدَ فيهِ وأنهُ شِبْهُ العمدِ فيلزمُ فيهِ الديةُ مغلَّظةً كما تقدَّم في ديةِ العمدِ. وقدْ تقدَّمَ أنَّ الديةَ في العمْدِ وشِبْهِ العمْدِ تكونُ أثْلاثًا عندَ الشافعيِّ ومالكٍ، وأنَّها أرباعٌ عندَ الهادويةِ، وتقدَّم ذلكَ. وأما أنَّها تكونُ أخماسًا كما أفادَه حديثُ ابنِ مسعودٍ الماضي في الخطأِ
(4)
فتقدَّم أنهُ قالَ بهِ أصحابُ الرأْي وغيرُهم. وفيهِ دليلٌ علَى إثْباتِ شِبْهِ العمْدِ وقدَّمْنَا أنهُ الحقُّ.
11/ 1114 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَتَهُ اثْنَي عَشَرَ أَلْفًا. رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ
(5)
وَرَجّحَ
(1)
في "السنن"(3/ 95 رقم 53). قلت: وأخرحه أبو داود رقم (4565). وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وثَّقه أحمد، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ليس بالقوي. انظر: "ميزان الاعتدال"(3/ 543). وقال الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 332): "قال في "التنقيح": محمد بن راشد يعرف بالمكحول، وثقه أحمد، وابن معين، والنسائي وغيرهم. وقال ابن عدي: إذا حدث عن ثقة فحديثه مستقيم" اهـ، وهذا داخل في الأول. وخلاصة القول: أنَّ الحديث حسن، واللهُ أعلم.
(2)
برقم (5/ 1108) من كتابنا هذا.
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 70).
(4)
برقم (2/ 1105) من كتابنا هذا.
(5)
أبو داود رقم (4546)، والترمذي رقم (1388)، وابن ماجه رقم (2629)، والنسائي (8/ 44 رقم 4803) و (4804).
النَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ
(1)
. [مرسل]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: قَتَلَ رجلٌ رجلًا علَي عَهْدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فجعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ ألفًا) بَيَّنَ البيهقيُّ
(2)
أنَّ المرادَ دِرْهمًا (رواه الأربعةُ ورجَّحَ النسائيُّ وأبو حاتمٍ إرسالَه).
وقدْ أخرجَ البيهقيُّ عنْ عليٍّ رضي الله عنه وعائشةَ وأبي هريرةَ
(3)
وعمرَ بنِ الخطابِ
(4)
رضي الله عنهم مثلَ هذا. وإنَّما رجَّحَ النسائي وأبو حاتمٍ إرسالَه لما قالَه البيهقيُّ
(5)
إنَّ محمدَ بنَ ميمونٍ راويهِ عنْ سفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ عنْ عمرِو بنِ دينارٍ عنْ عكرمةَ عنِ ابنِ عباسٍ إنَّما قالَ لنا فيهِ عنِ ابنِ عباسٍ مرةً واحدةً وأكثرُ ما كانَ يقولُ عنْ عكرمةَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، انتَهى.
قلتُ: وزيادةُ العدْلِ مقبولةٌ، وكونُه قالَها مرةً واحدةً كافٍ في الرفعِ فإنهُ لو اقتصَرَ عليها لحكمَ برفعِ الحديثِ، فإرسالُه مرارًا لا يقدَحُ في رفْعِهِ مرةً واحدةً. وإلى هذَا ذهبَ أكثرُ [أهل العلم، وذهبت]
(6)
الهادويةُ وأهلُ العراقِ أنَّها عَشْرةُ آلافِ درهمٍ، واستدلَّ لهُ في "البحرِ"
(7)
بقولِه: لقولِ عليٍّ عليه السلام وهوَ توقيفٌ، انتَهى. إلَّا أنهُ لم يطَّرِدْ له هذَا المعنَى فيما ينقلُه عنْ عليٍّ رضي الله عنه بلْ تارةً يقولُ مثلَ هذَا وتارةً يقولُ: إنَّ قولَ عليٍّ اجتهادٌ رضي الله عنه ولا يلزمُنا، ودَعْوى التوقيفِ غيرُ [صحيح]
(8)
إذْ مثلُ هذا فيهِ للاجتهادِ مَسْرحٌ.
لا يطالب أحد بجناية غيره
12/ 1115 - وَعَنْ أَبي رِمْثَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعِي ابْنِي فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ "، فَقُلْتُ: ابْنِىِ وَأَشْهَدُ بِهِ. فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ".
(1)
قال ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 463)، قال أبي: المرسل أصح.
(2)
في "السنن الكبرى"(8/ 78).
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 79) عن علي وأبي هريرة وعائشة.
(4)
في "السنن الكبرى"(8/ 79 - 80) عن عمر بن الخطاب.
(5)
في "السنن الكبرى"(8/ 79).
(6)
زيادة من (أ).
(7)
(5/ 272).
(8)
في (ب): "صحيحه".
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
(1)
وَأَبُو دَاوُدَ
(2)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ أبي رِمْثَةَ)
(4)
بكسرِ الراءِ وسكونِ الميمِ وبالمثلثةِ، اسمُه رفاعةُ بنُ يثربيٍّ بفتحِ المثناةِ التحتيةِ وسكونِ المثلثةِ فراءٍ فموحدةٍ فياءِ النسبةِ. قَدِمَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعدادُه في أهلِ الكوفةِ.
(قالَ: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومعي ابني فقالَ: مَنْ هذَا؟ فقلتُ: ابني وأشهدُ بهِ، قالَ: أما إنهُ لا يجني عليكَ ولا تجني عليهِ. رواهُ النسائيُّ وأبو داودَ وصحَّحَهُ ابنُ خزيمةَ وابنُ الجارودِ)، وأخرجَهُ أحمد
(5)
وأبو داودَ
(6)
والترمذيُّ
(7)
وابنُ ماجهْ
(8)
منْ حديثِ عمرِو بنِ الأحوصِ أنهُ شهدَ حَجَّةَ الوداعِ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "لا يجني جانٍ إلَّا علَى نفسِه، ولا يجني جانٍ علَى ولدِه"، وفي البابِ رواياتٌ أخرُ تعضِّدُهُ.
والجنايةُ الذَّنْبُ أو ما يفعلُه الإنسانُ مما يوجبُ عليهِ العقابَ أوِ القصاصِ. وفيهِ دلالةٌ على أنهُ لا يُطَالبُ أحدٌ بجنايةِ غيرِه سواءٌ كانَ قريبًا كالأبِ والولدِ وغيرِهما أوْ أجنبيًا، فالجاني يُطْلَبُ وحدَه بجنايتهِ ولا يطالبُ بجنايتِه غيرُه، قالَ اللهُ تعالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(9)
.
فإنْ قلتَ: قدَ أمرَ الشارعُ بِتَحَمُّلِ العاقلةِ الديةَ في جنايةِ الخطأِ والقسامةِ.
قلتُ: هذا مخصَّصٌ منَ الحكْمِ العامِّ، وقيلَ إنَّ ذلكَ ليسَ منْ تَحمُّلِ الجنايةِ بلْ مِنْ بابِ التعاضدِ والتناصرِ فيما بينَ المسلمينَ.
(1)
في "السنن"(8/ 53).
(2)
في "السنن" رقم (4207، 4465).
(3)
في "المنتقى" رقم (770). قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 119)، وأحمد (2/ 226، 228)، و (4/ 163)، والحميدي رقم (866)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(3/ 281)، والدولابي في "الكنى"(1/ 29)، والبيهقي (8/ 27، 345)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 181 - 182)، وابن حبان رقم (1522 - موارد) وغيرهم، وهو حديث صحيح، وقد تقدم عند شرح الحديث رقم (10/ 1096)، من كتابنا هذا.
(4)
انظر ترجمته في: "أسد الغابة" رقم (1701) و"الإصابة" رقم (2689)، و"الاستيعاب" رقم (787).
(5)
في "المسند"(3/ 498 - 499).
(6)
لم أعثر عليه.
(7)
في "السنن" رقم (3087)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(8)
في "السنن" رقم (2669) و (3055). وهو حديث صحيح، انظر:"الإرواء" رقم (2303).
(9)
سورة الأنعام: الآية 164.
[الباب الثاني] باب دعوى الدم والقَسامة
القَسامةُ بفتحِ القافِ وتخفيفِ المهملةِ، مصدرُ أقسمَ قَسمًا وقَسَامةً. وهيَ الأَيْمانُ تُقسمُ علَى أولياءِ القتيلِ إذا ادَّعَوُا الدَّمَ، أو على المدَّعَى عليهمُ الدَّمَ.
وخصَّ القسمُ على الدَّمِ بالقسامةِ، قالَ إمامُ الحرميْنِ: القسامةُ عندَ أهلِ اللغةِ اسمٌ للقومِ الذينَ يقسمون، وعندَ الفقهاءِ اسمٌ للأَيْمانِ، وفي "القاموسِ"
(1)
: القسامةُ الجماعةُ يقسمونَ على الشيءِ ويأخذونَهُ أو يشهدونَ، وفي الضياءِ: القسامةُ الأيمانُ تُقَسَمُ على خمسينَ رجلًا منْ أهلِ البلدِ أوِ القريةِ التي يوجدُ فيها القتيلُ لا يُعْلَمُ قاتلُه ولا يدَّعي أولياؤُه قَتْلَهُ على أحدٍ بِعَيْنِه.
لا تثبت دعوى القسامة من دون ما تستند عليه من اللَّوث ونحوه
1/ 1116 - عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ بنَ مَسْعُودٍ، خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ. فَأُتيَ مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ في عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ. قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ سَهْلٍ. فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرْ كَبِّرْ"، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ" فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ في ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا
(1)
في "القاموس المحيط"(ص 1483).
قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَهْلٍ:"أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ:"فَيَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ "، قَالُوا: لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ. قَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي منْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(عنْ سهلِ بنِ أبي حَثْمةَ) بفتحِ المهملةِ وسكونِ المثلثةِ، واسمُ أبي حثمةَ عبدُ اللهِ بن ساعدةَ بنُ عامرَ أوسيٌّ أنصاريٌّ (عنْ رجالٍ منْ كُبرَاءِ قومِهِ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ سهلَ ومُحَيِّصَة) بضمِّ الميمِ فحاءٍ مهملةٍ فمثناةٍ تحتيةٍ مشددةٍ، فصادٍ مهملةٍ (ابن مسعودٍ خَرَجَا إلى خيبرَ مِنْ جَهْدٍ) بضمِّ الجيمِ وفتحِها المشقَّةِ هُنَا (أصابَهُم، فأُتي مُحيِّصَةَ) مغيَّرُ الصيغةِ (فأخبرَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ سهلِ قد قُتِلَ وطُرِحَ) مغيَّرانِ أيضًا (في عَيْنٍ، فأَتَى) أي محيصةُ (يهودَ) اسمَ جِنْسٍ يُجْمَعُ على يهدانَ (فقالَ: أنتُم واللهِ قتلتمُوه قالُوا: واللهِ ما قتلْناهُ فأقبلَ هوَ وأَخوهُ حويِّصةُ) بضمِّ المهملةِ وفتح الواوِ فمثناةٍ تحتيةٍ فصادٍ مهملةٍ مشدَّدَةٍ (وعبدُ الرحمنِ بنُ سهلٍ فذهبَ محيِّصةُ ليتكلَّمَ) وكانَ أصغرَ منْ حويِّصةَ، وفي روايةٍ فبدأَ عبدُ الرحمنِ يتكلَّمُ وكانَ أصغرَ القومِ (فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كبِّرْ كبِّرْ) بلفظِ الأمرِ فيهمَا الثاني تأكيدٌ للأَوَّلِ، (يريدُ السنَّ) مُدْرَجٌ تفسيرٌ لقولِه كَبِّرْ أي يتكلَّمُ مَنْ كانَ أكبرُ سِنًا (فتكلَّمَ حويِّصةُ ثمَّ تكلَّمَ محيِّصةُ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إمَّا أنْ يدُوا) أي اليهودُ (صاحِبَكم) أي عبدَ اللهِ بنَ سهلٍ: (وإمَّا أنْ يأْذنُوا بحربٍ، فكتبَ) أي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إليهم في ذلكَ) أي فيما ذُكِرَ مِنْ أَنَّهم قتلُوا عبدَ اللهِ (فكتبُوا) أي اليهودُ (إنا واللهِ ما قتلْناهُ، فقالَ) أي النبيُّ صلى الله عليه وسلم (لحويِّصةَ ومحيِّصةَ وعبدِ الرحمنِ بنِ سهلٍ: أتحلفونَ وتستحقُّونَ دمَ صاحبِكم؟ قالُوا: لا) وفي روايةٍ [لمسلم
(2)
]
(3)
قالُوا: لم نحضرْ ولم نشهدْ. وفي بعضِ ألفاظِ البخاريِّ
(4)
أنهُ قالَ لهم: تأتونَ بالبينةِ، قالُوا: ما لنا بَيِّنَةٌ، فقالَ:
(1)
البخاري رقم (6898)، ومسلم رقم (1669). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4520)، والترمذي رقم (1422)، والنسائي (8/ 5، 6، 7)، وابن ماجه رقم (2677).
(2)
في (ب): "عند مسلم".
(3)
في "صحيحه" رقم (3/ 1669).
(4)
في "صحيحه" رقم (6898).
أتحلفُونَ؟ (قالَ: فتحلفُ لكمْ يهودُ؟ قالُوا: ليسُوا مسلمينَ)، وفي لفظٍ قالُوا: لا نرضَى بأيمانِ اليهودِ. وفي لفظٍ
(1)
: كيفَ نأخذُ بأيمانِ [قومٍ]
(2)
كُفَّارٍ؟ (فَوَدَاهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ عندِهِ فبعثَ إليهمْ مائةً ناقةٍ، قالَ سهلٌ: فلقدْ ركضتْني منْها ناقةٌ حمراءُ. متفقٌ عليهِ).
اعلمْ أنَّ هذا الحديثَ أصلٌ كبيرٌ في ثُبُوتِ القَسَامةِ عندَ القائلينَ بها وهم [الجمهور
(3)
]
(4)
، فإنَّهم أثبتُوها وبيَّنُوا أحكامَها؛ ونتكلَّمُ علَى مسائلَ:
الأُولَى:
أنَّها لا تثبتُ القسامةُ بمجرَّدِ دَعوى القتلِ على المدَّعَى عليهمْ منْ دونِ شُبهةٍ إجْماعًا. وقدْ رُوِيَ عنِ الأوزاعيِّ وداودَ ثبوتُها منْ غيرِ شُبْهَةٍ ولا دليلَ لهمَا، وإنما اختلفَ العلماءُ في الشبهةِ التي [تثبتُ]
(5)
بها [دعوى]
(6)
القسامةُ، فمنْهم مَن جعلَ الشُّبهةَ اللَّوْثَ وهوَ كما في "النهايةِ"
(7)
أنْ يشهدَ شاهدٌ واحدٌ علَى إقرارِ المقتولِ قبلَ أنْ يموتَ أنَّ فلانًا قَتَلَني، أو يَشْهَدَ شاهدانِ على عداوةٍ بينَهما أو تهديدٍ منهُ لهُ أو نحوِ ذلكَ، وهو منَ اللَّوثِ التلطُّخُ. ومنْهم مَنْ لم يشترطْ كالهادويةِ والحنفيةِ فإنَّهم قالُوا: وجودُ الميتِ وبهِ أثرُ القتلِ في محلٍّ يختصُّ بمحصورِيْنَ تثبتُ بهِ القسامةُ عندَهم، إذا لم يدَّع المدعِّي على غيرِهِم قالُوا: لأنَّ الأحاديثَ وردتْ في مِثْلِ هذهِ الحالة، وَرُدَّ بأَنَّ حديثَ البابِ أصحُّ ما وردَ، وفيهِ دليلٌ على اللَّوْثِ، وحقيقتُه شبهةٌ يغلبُ الظنُّ الحكمَ بها كما فصَّلَهُ في "النهاية"
(8)
، وهي هُنَا العداوةُ، فلذا ذهبَ مالكٌ والشافعيُّ إلى أنهُ لا يثبتُ بَهذَا قَسَامةٌ إلَّا إذا كانَ بينَ المقتولِ والمدَّعَى عليهمْ عداوةٌ كما كانَ في قصةِ خيبرَ، قالُوا: فإنهُ قد يَقْتُلُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ ويلقيهِ في محلِّ طائفةٍ لِيُنْسبَ إليهمْ. وقدْ عدُّوا منْ صورِ اللَّوْثِ قولُ المقتولِ قبلَ وفاتهِ: قَتَلَنِي فلانٌ.
قالَ مالكٌ: إنهُ يقبلُ قولُه، وإنْ لم يكنْ بهِ أثرٌ يقولُ جَرَحَني ويذكرُ العمدَ،
(1)
للبخاري في "صحيحه" رقم (3173).
(2)
زيادة من (أ).
(3)
في (ب): "الجماهير".
(4)
انظر: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(4/ 359) بتحقيقنا.
(5)
في (أ): "يثبت".
(6)
زيادة من (ب).
(7)
وهي: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، لابن رشد (4/ 367 - 369).
(8)
وهي: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، لابن رشد (4/ 367 - 369).
وادَّعى مالكٌ أنهُ مما أجمعَ عليهِ الأئمةُ قديمًا وحديثًا، [وتعقبه]
(1)
ابنُ العربي بأنهُ لم [يقل به]
(2)
منْ فقهاءِ الأمصارِ غيرُه وتبعَهُ عليهِ الليثُ. واحتجَّ مالكٌ بقصةِ بقرةِ بني إسرائيلَ فإنهُ أُحْيِيَ الرجلُ وأَخْبَرَ بقاتلِه
(3)
وأُجِيْبَ بأنَّ ذلكَ معجزةٌ لِنَبيِّ وتصديقُها قطعيٌّ.
قلتُ: ولأنهُ أحياهُ اللهُ تعالى بعدَ موتِه [فعيَّنَ]
(4)
قاتلَه فإذا أَحْيَا اللهُ مقتولًا بعدَ مَوْتِه وعيَّنَ قاتلَه قلْنا بهِ ولا يكونُ ذلكَ أبدًا. واحتجَّ أصحابُه بأنَّ القاتلَ يطلبُ غفلةَ الناسِ فلوْ لم يُقْبَلْ خبرُ المجروحِ أدَّى ذلكَ إلى [بطلانِ]
(5)
الدماءِ غالبًا ولأنَّها حالةٌ يتحرَّى فيها المجروحُ الصدقَ ويتجنبُ الكذبَ والمعاصي ويتحرَّى التَّقْوَى والبرَّ فوجبَ قَبولُ قولِه، ولا يخْفَى ضعفُ هذهِ الاستدلالاتِ. وقدْ عدُّوا صورَ اللَّوْثِ مبسوطةً في كُتُبِهِمْ.
المسألةُ الثانيةُ:
أنهُ بعدَ ثبوتِ ما ذكرَ مِنَ القتلِ وكلٌّ على أصْلِه تثبتُ دَعْوَى أولياءِ القتيلِ القسامةَ، فتثبتُ أحكامُه ومنها القصاصُ عندَ كمالِ شروطِها لقولِه في الحديثِ:"تستحقونَ قتيلَكم أو صاحبَكم بأيمانِ خمسينَ منْكمْ علَى رجلٍ منْهم فيدفعُ بِذِمَّتِه".
وقولُه: (دمَ صاحبِكم) في لفظِ مسلمٍ
(6)
: يُقْسِمُ خمسونَ منكمْ على رجلٍ منهم فيدفع بِذِمّتِهِ، وإنْ كانَ قولُه: "إما أنَّ يدُوا صاحبكم [الحديث]
(7)
" يشعرُ بعدمِ القصاصِ، إلَّا أنَّ هذا التصريحَ في روايةِ مسلمٍ أَقْوى في القولِ بالقصاصِ وهذَا مذهبُ أهلِ المدينةِ، فإنْ كانتِ الدَّعْوى على واحدٍ معيَّنٍ ثبتَ القَوَدُ عليهِ وإن كانتْ على جماعةٍ حلفُوا وثبتتْ عليهمُ الديةُ عندَ الشافعيةِ، وفي قولٍ يجبُ عليهمُ القصاصُ والأولُ هو الصحيحُ عنهُ، فإنْ كانَ الوارثُ واحِدًا حلفَ خمسينَ يمينًا فإنَّ الأيمانَ لازمةٌ للورثةِ ذُكُورًا كانُوا أوْ إِنَاثًا عمْدًا كانَ [القتل]
(8)
أو خَطأً، هذا مذهبُ الشافعيِّ.
(1)
في (ب): "وردَه".
(2)
في (ب): "يقله".
(3)
أما ما احتجت به المالكية من قصة بقرة بني إسرائيل فضعيف لأن التصديق هنالك أسند إلى الفعل الخارق للعادة.
(4)
في (أ): "يعين".
(5)
في (ب): "إبطال".
(6)
في "صحيحه" رقم (2/ 1669).
(7)
زيادة من (ب).
(8)
زيادة من (أ).
ومنْها: أنه يبدأَ بأيمانِ المدعينَ في القسامةِ بخلافِ غيرِهِا منَ الدَّعَاوَى كما في هذهِ الروايةِ، ويدلُّ لهُ حديثُ أبي هريرةَ
(1)
: "البيِّنَةُ على المدعِّي واليمينُ على المدَّعَى عليهِ إلَّا في القسامةِ" وفي إسنادهِ لِيْنٌ، إلَّا أنهُ قدْ أخرجَهُ البيهقيُّ
(2)
منْ حديثِ عمروِ بنِ شعيبٍ ولم يتكلمْ فيهِ، قالُوا: ولأنَّ جنبةَ المدعِّي إذا قويتْ بشهادةٍ أو شُبْهَةٍ صارت اليمين له، وهنا الشبهة قوية فصارَ المدَّعِي في القسامةِ مشابهًا للمدَّعَى عليهِ المتأيدِ بالبراءةِ الأصليةِ.
وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ وآخرونَ إلى أنهُ يحلفُ المدَّعَى عليهِ ولا يمينَ على المدعينَ، فيحلفُ خمسونَ رجلًا مِنْ أهلِ القريةِ ما قتلْناهُ ولا علمْنَا، قاتلَه، وإلى هذا جنحَ البخاريُّ، وذلكَ لأنَّ الرواياتِ اختلفتْ في ذلكَ في قصةِ الأنصارِ ويهودِ خيبرَ، فيردُّ المختلفُ إلى المتفَّقِ عليهِ منْ أنَّ اليمينَ على المدَّعَى عليهِ، فإنْ حلفُوا فهلْ تلزمُهم الديةُ أم لا؟
ذهبتِ الهادويةُ إلى أنَّها [تلزم]
(3)
الديةُ بعدَ الأيمانِ وذهبَ آخرونَ إلى أنَّهم إذا حلفُوا خمسينَ يمينًا برِئُوا ولا ديةَ عليهمْ، [ويدل له]
(4)
قصةُ أبي طالبٍ الآتيةُ
(5)
. واستدلَّ الهادوية ومَنْ معَهُم في إيجابِ الديةِ بأحاديثَ لا تقومُ بها حجَّةٌ لعدمِ صحةِ رفْعِها عندَ أئمةِ هذا الشأنِ.
وقولُه: (فَوَدَاهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ عندهِ)، وفي لفظٍ:(أنهُ وداهُ منْ إبلِ الصدقةِ) فقيلَ المرادُ أنهُ اقترضَها منْها وأنهُ لما تحمَّلَها صلى الله عليه وسلم للإصلاحِ بينَ الطائفتينِ كانَ حُكْمُهَا حكمَ القضاءِ عنِ الغارمِ لما غَرِمَهُ لإصلاحِ ذاتِ البيْنِ ولم يأخذْها صلى الله عليه وسلم لنفسهِ فإنَّ الصدقةَ لا تحلُّ لهُ، ولكنْ [أجرى]
(6)
إعطاءَ الديةِ منها مَجْرَى إعطائِها من الغرمِ لإصلاحِ ذاتِ البينِ، وأما مَنْ قالَ إنهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى ذلكَ منْ سهمِ الغارمينَ فلا يصحُّ فإنَّ غارِمَ أهلِ الذمةِ لا يُعْطَى منَ الزكاةِ كذَا قيلَ.
(1)
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(6/ 2312)، والدارقطني (4/ 217 - 218 رقم 51)، وفي سنده مسلم بن خالد فيه مقال.
(2)
في "السنن الكبرى"(10/ 256). والمثنى بن الصباح ضعيف.
(3)
في (ب): "تلزمهم".
(4)
في (ب): "وعليه تدل".
(5)
في أول شرح الحديث رقم (2/ 1117) من كتابنا هذا.
(6)
في (ب): "جرى".
قلتُ: وفيهِ نظرٌ، فإنَّ اليهودَ لم تلزمْهُم الديةُ لأنهُ لم يحلفِ المدعونَ كما عرفتَ، فما ودَاهُ صلى الله عليه وسلم إلَّا تبرُّعًا منهُ لِئَلَّا يهدرَ دمُهُ. وأمَّا روايةُ النسائيِّ أنهُ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَها على اليهودِ وأعانَهم ببعضِها، فقالَ ابنُ القيِّم
(1)
: إنَّ هذا ليسَ بمحفوظٍ، فإنَّ الديةَ لا تلزمُ المدَّعى عليهمْ بمجردِ دَعوى القتيلِ بلْ لا بدَّ منْ إقرارٍ أو بيِّنةٍ أوْ أيمانِ المدَّعينَ، ولم يوجدْ هُنَا شيءٌ منْ ذلكَ. وقدْ عرضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على المدَّعينَ أنْ يحلفُوا فأَبَوْا فكيفَ يُلْزِمُ اليهودَ [الدية]
(2)
بمجرَّدِ الدَّعْوَى، انتَهى.
قلتُ: ويظهرُ لي أنهُ ليسَ في هذَا الحديثِ حكمٌ منهُ صلى الله عليه وسلم بالقسامةِ أصْلًا كما أفادَه الحديثُ وإنَّما دلَّ الحديثُ، على حكايةِ [الواقع فقط]
(3)
وذكرَ لهمْ صلى الله عليه وسلم قصةَ الحكْمِ على التقديريْنِ، فمن ثَمَّةَ كتبَ إلى اليهود بعدَ أنْ دارَ بينَهم الكلامُ المذكورُ وسيأتي تحقيقُه. وقولُه:(فكتَبَوُا واللهِ ما قتلْناه) فيهِ دليلٌ على الاكتفاءِ بالمكاتبةِ وبخبرِ الواحدِ معَ إمكانِ المشافهةِ.
فائدةٌ: اختارَ مالكٌ إجراءَ هذهِ الدَّعوى في الأموالِ فأجازَ شهادةَ المسلوبينَ على السالِبيْنَ وإنْ كانُوا مدَّعِيْنَ قالَ: لأنَّ قاطِعَ الطريقِ إنَّما يفعلُ ذلك معَ الغفْلَةِ والانفرادِ عنِ الناسِ، انتَهى.
ولا يخْفَى أنهُ لا يتمُّ هذا إلَّا بعدَ ثبوتِ أنهُ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بالقسامةِ، وعرَّفْناكَ هُنَا عدمَ نهوضِ ذلكَ وسنزيدُه بيانًا عنْ قريبٍ. وإذا ثبتَ [هذا فقياس]
(4)
مالكٍ مصادِمٌ لنصِّ: "البينةُ على المدعِّي واليمينُ على المنكرِ"، إلَّا أنْ يكونَ مذهبُه جوازَ تخصيصِ عموم النصِّ بالقياسِ، وللعلماءِ كلامٌ في حُجِّيةِ العامِّ بعدَ تخصيصِهِ.
2/ 1117 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنصَارِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ ناسٍ مِنَ الأَنْصَارِ في قَتِيلٍ ادّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(5)
. [صحيح]
(وعنْ رجلٍ منَ الأنصارِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقرَّ القسامةَ على ما كانتْ عليهِ في
(1)
في "زاد المعاد"(5/ 13).
(2)
في (ب): "بالدية".
(3)
في (ب): "للواقع لا غير".
(4)
في (ب): "فهذا قياس من".
(5)
في "صحيحه" رقم (1670).
الجاهليةِ وقضَى بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ ناسٍ منَ الأنصارِ في قتيلٍ ادَّعوه علَى يهود. رواهُ مسلمٌ).
قولُه: على ما كانتْ عليهِ في الجاهليةِ، هو إشارة إلى ما أخرجَهُ البخاريُّ
(1)
في قصةِ الهاشميِّ في الجاهليةِ وفيها: "أنَّ أبا طالبٍ قالَ للقاتلِ: اخترْ مِنَّا إحدَى ثلاثٍ: إنْ شِئتَ أنْ تؤدِّيَ مائةً منَ الإبلِ فإنكَ قتلتَ صاحبنَا خطأً، وإنْ شئتَ حلفَ خمسونَ منْ قومِكَ أنكَ لم تقتلْه، وإنْ أَبَيْتَ قتلْناكَ بهِ"، وفيهِ دليلٌ على ثبوتِ القتلِ بالقَسَامةِ.
واعلمْ أنا قدْ أشرْنا إلى أنهُ لم يثبتِ القسامةَ إلَّا الجماهيرُ كما قرَّرْناهُ عنْهم، وذهبَ سالمُ بنُ عبدِ اللهِ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وأبو قلابةَ وابنُ عليةَ والناصرُ إلى عدمِ [شرعية القسامة]
(2)
لمخالفتِها الأصولَ المقررة شرْعًا، فإنَّ الأصْلَ أنَّ البيِّنةَ على المدَّعي واليمينُ على المدَّعَى عليهِ، وبأنَّ الأَيْمانَ لا تأثيرَ لها في إثباتِ الدماءِ، وبأنَّ الشرعَ وردَ بأنهُ لا يجوزُ الحِلفُ إلَّا علَى ما عُلِمَ قطْعًا أو شُوهَدَ حِسًا وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يحكمْ بها وإنَّما كانتْ حُكْمًا جاهليًا فتلطَّفَ صلى الله عليه وسلم بهم ليريَهم كيفَ لا يجري الحكمُ بها على أصولِ الإسلامِ.
وبيانُ أنهُ لم يحكمْ بها أنَّهم لما قالُوا لهُ: وكيفَ نحلفُ ولم نحضرْ ولم نشاهدْ، لمْ يبيِّنْ لهمْ أنَّ هذا الحلِفَ في القسامة منْ شأنِه ذلكَ وأنهُ حُكْمُ اللهِ وشرعُه، بلْ عدلَ إلى قولِه: تحلف لكمْ يهودُ، فقالُوا: ليسوا بمسلمينَ، فلم يوجبْ صلى الله عليه وسلم عليهمْ ويبيِّنْ لهمْ أنْ ليسَ لكمْ إلَّا اليمينُ منَ المدَّعَى عليهمْ مُطْلقًا مسلمينَ كانُوا أو غيرَهم، بلْ عدلَ إلَى إعطاءِ الديةِ منْ عندِه صلى الله عليه وسلم، ولو كانَ الحكمُ ثابتًا بها لبيَّن وجْهَهُ لهمْ، بل تقريرُه صلى الله عليه وسلم لهمْ على أنهُ لا حَلِفَ إلَّا على شيءٍ مشاهَدٍ مَرْئِيٍّ دليلٌ على أنه لا حَلِفَ في القسامةِ، ولأنهُ لمْ يطلبْ صلى الله عليه وسلم اليهودَ للإجابةِ عنْ خصومِهم في دعواهُم فالقصةُ مناديةٌ بأنَّها لم تخرجْ مَخْرَجَ الحكمِ الشرعيِّ إذْ لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ، فهذَا أقْوى دليلٍ بأنَّها ليستْ
(1)
في "صحيحه" رقم (3845). قلت: وأخرجه النسائي (8/ 2 - 4) رقم (4706).
(2)
في (ب): "شرعيتها".
حُكْمًا شَرْعيًا وإنما تلَطَّفَ صلى الله عليه وسلم في بيانِ أنَّها ليستْ حكمًا شرعيًا بهذا التدريجِ النادي بعدم ثبوتِها شَرْعًا، وأقرَّهم صلى الله عليه وسلم بأنَّهم [لم يحلفوا على ما لم يعلموا ولا يشاهدوا]
(1)
ولا حضروهُ ولم يبيِّنْ لهمْ بحرفٍ واحدٍ أنَّ أيمانَ القسامةِ منْ شأْنِها أنْ تكونَ على ما لم يعلمُ. وبهذا تعرفُ بطلانَ القولِ أنَّ في القصةِ دليلًا على الحكمِ على الغائبِ إذْ لا حُكْمَ فيها أصلًا، وبطلانُ الجوابِ عنْ كونِها مخالِفةً للأصولِ بأنَّها مخصصةٌ منَ الأصولِ، لأنَّ القَسَامَةَ [شرعت]
(2)
سُنَّةٌ مستقلَّةٌ بنفسِها منفردةٌ مخصَّصةٌ للأصولِ كسائرِ المخصَّصاتِ للحاجةِ إلَى شرعيَّتها حياطةً لحفظِ الدماءِ وردْعِ المعتدينَ، ووجْهُ بطلانِه أنهُ فرعُ ثبوتِ الحكم بها عنِ الشارعِ، فلو ثبتَ الحكمُ بها لكانَ هذا جوابًا حَسَنًا، [ولكن لم يثبت الحكم بها كما عرَّفناك]
(3)
.
وأما ما في حديثِ مسلمٍ أنهُ صلى الله عليه وسلم: "أقرَّ القسامةَ على ما كانتْ عليهِ في الجاهليةِ وقضى بها بينَ [النَّاس]
(4)
منَ الأنصارِ في قتيلٍ ادَّعوهُ على اليهودِ"، فهو إخبارٌ عن القصةِ التي في حديثِ سهلِ بنِ أبي حَثْمَةَ، وقدْ عرفْتَ أنهُ صلى الله عليه وسلم لم يقضِ بها فيهِ كما [عرَّفناك]
(5)
.
وقدْ عرفتَ منْ حديثِ أبي طالبِ أنَّها كانتْ في الجاهليةِ على أنْ يؤدِّيَ الديةَ القاتلُ لا العاقلةُ كما قالَ أبو طالبِ: إما أنْ تؤدِّي مائةٌ مِنَ الإِبلِ، فإنهُ ظاهرٌ أنَّها منْ مالِه لا منْ عاقلتِه، أو يحلِفَ خمسونَ منْ قومِكَ، أو تُقْتَلَ. وهُنَا في قصةِ خيبرَ لم يقعْ شيءٌ منْ ذلكَ فإنَّ المدَّعَى عليهمْ لم يحلِفُوا ولمْ يسلِّمُوا ديةً ولم يَطْلُبْ منْهم الحلِفَ.
وليسَ هذا قدْحًا في روايةِ الرَّاوِي منَ الصحابةِ بلْ في استنباطِه، لأنهُ قدْ أفادَ حديثُه أنهُ استنبطَ قضاءَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالقسامةِ منْ قصةِ أهلِ خيبرَ وليسَ في تلكَ القصةِ قضاءٌ، وعدمُ صحةِ الاستنباطِ جائزٌ على الصحابيِّ وغيرِهِ اتفاقًا، وإنَّما روايتُه للحديثِ بلفْظِهِ أوْ بمعناهُ هيَ التي يتعيَّنُ قبولُها.
(1)
في (ب): "لا يحلفون على ما لا يعلمونه ولا شاهدوه".
(2)
زيادة من (أ).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
في (ب): "ناس".
(5)
في (ب): "قررناه".
وأما قولُ أبي الزنادِ: "قلْنا بالقسامةِ والصحابةُ متوافرونَ إني لأَرَى أنَّهم ألفُ رجلٍ فما اختلفَ منهمُ اثنانِ"، فإنهُ قالَ في "فتحِ الباري"
(1)
: إنَّما نقل أبو الزِّنادِ عنْ خارجةَ بنِ زيدِ بنِ ثابتٍ كما أخرجَهُ سعيدُ بنُ منصورٍ والبيهقيُّ في روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي الزِّنادِ عنْ أبيهِ، وإلا فَأَبُو الزِّنادِ لا يُثْبِتُ أنهُ رأَى عشرةً منَ الصحابةِ فَضْلًا عنْ ألفٍ، انتَهى.
قلتُ: لا يخْفَى أنهُ تقريرٌ لما رواهُ أبو الزنادِ لثبوتِ ما رواهُ عنْ خارجةَ بنِ زيدٍ الفقيهِ الثِّقةِ، وإنَّما دلَّسَ أبو الزنادِ بقولِه [قتلْنا]
(2)
وكأنهُ يريدُ [قتلَ]
(3)
معشرَ المسلمينَ وإنْ لم يحضرْهم، ثمَّ لا يخْفَى أنَّ غايتَه بعدَ ثبوتِه عنْ خارجةَ فعلُ جماعةٍ منَ الصحابةِ وليسَ بإجماعٍ حتَّى يكونَ حُجَّةً، ولا شكَّ في ثبوتِ فعلِ عمرَ بالقسامةِ وإن اختلفَ عنهُ في القتلِ بها، إنما نِزَاعُنا في ثبوتِ حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فإنهُ لم يَثبتْ
(4)
.
* * *
(1)
(12/ 235).
(2)
في (أ): "قبلناه".
(3)
في (أ): "قبل".
(4)
انظر: "نيل الأوطار"(7/ 34 - 40) للشوكاني في شرعية القسامة، فقد أشبع الكلام فيها، فقارن بين ما هنا وما هنالك.
[الباب الثالث] باب قتال أهل البغي
البغيُ مصدرُ بَغَى عليهِ، بفتحِ الغينِ المعجمةِ، بَغْيًا بفتحِ الموحدةِ وسكونِ المعجمةِ، عَلَا وظَلَم وعدلَ عنِ الحقِّ، ولهُ معانٍ كثيرةٌ. وذكرَ الشارحُ
(1)
رحمه الله معناهُ الاصطلاحيِّ هُنَا وساقَهُ على اصطلاحِ الهادويةِ. وقدْ أبنَّا ما فيهِ في حواشي "ضوء النهارِ"
(2)
، ولم نذكرْه هنا لعدم انطباقِ الأحاديثِ عليهِ.
من حمل السلاح على المسلمين فليس منهم
1/ 1118 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
. [صحيح]
(عنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حملَ علينا السلاحَ فليس مِنَّا. متفقٌ عليهِ)، أي مَنْ [حمل]
(4)
لقتالِ المسلمينَ بغيرِ حقٍّ، كنَّى بحملِه عنِ المقاتلةِ إذِ القتلُ لازمٌ لحملِ [السلاح]
(5)
في الأغلبِ، ويحتملُ أنهُ لا كنايةَ فيهِ، وأنَّ المرادَ حملُه حقيقةً لإرادةِ القتالِ، ويدلُّ [عليهِ]
(6)
قولُه: علينا. وقولُه: (فليسَ
(1)
وهو المغربي في "البدر التمام".
(2)
(4/ 255 - 2556).
(3)
البخاري رقم (6874)، ومسلم رقم (161/ 98). قلت: وأخرجه النسائي (7/ 117 - 118 رقم 4100)، وابن ماجه رقم (2576)، والبيهقي (8/ 20)، والطيالسي رقم (1828)، وأحمد (2/ 3، 16، 53، 142، 150)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(2/ 132 - (133).
(4)
في (ب): "حملُه".
(5)
في (ب): "السيف".
(6)
في (ب): "له".
مِنَّا) تقدَّم تفسيره بأنَّ المرادَ ليسَ علَى طريقتِنا وهدْينَا، فإنَّ طريقتَهُ صلى الله عليه وسلم نصرُ المسلمِ والقتالُ دونَه لا ترويعُه وإخافتُه [وقتالُه]
(1)
وهذا في غير المستحلِّ، فإنِ استحلَّ القتالَ للمسلمِ بغيرِ حقٍّ فإنهُ يكفرُ باستحلالِه المحرَّمِ القطعيِّ.
والحديثُ دليلٌ على تحريمِ قتالِ المسلمِ والتشديدِ فيهِ، وأما قتالُ البغاةِ منْ أهلِ الإسلامِ فإنهُ خارجٌ منْ عمومِ هذا الحديثِ بدليلٍ خاصٍّ.
حكم من فارق الجماعة
2/ 1119 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيّةُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(2)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ خرجَ عنِ الطاعةِ وفارقَ الجماعةَ ومات، فميتتُه) بكسرِ الميمِ مصدرٌ نوعيٌّ (جاهليةٌ. أخرجَهُ مسلمٌ).
قولُه: عن الطاعةِ، أي طاعةِ الخليفةِ الذي وقعَ الاجتماعُ عليهِ، وكأنَّ المرادَ خليفةُ أيِّ قطرٍ منَ الأقطارِ، إذْ لم يجمع النَّاسُ على خليفةٍ في جميعِ البلادِ الإسلاميةِ منْ أثناءِ الدولةِ العباسيةِ، بلِ استقلَّ أهلُ كلِّ إقليمٍ بقائمٍ بأمورِهم، إذ لوْ حُمِلَ الحديثُ على خليفةٍ اجتمعَ أهل الإسلامِ عليه لَقَلَّتْ فائدتهُ.
وقولُه: (فارقَ الجماعةَ)، أي خرجَ عنِ الجماعةِ الذينَ اتفقُوا على طاعةِ إمامٍ انتظمَ بهِ شملُهم، واجتمعتْ بهِ كلمتُهم، وحاطَهم عنْ عدوِّهم.
وقولُه: (فميتتة جاهليةٌ)، أي منسوبةٌ إلى أهلِ الجهلِ، والمرادُ بهِ مَنْ ماتَ علَى الكفْرِ قبلَ الإسلامِ، وهوَ تشبيهٌ لِميْتَةِ مَنْ فارقَ الجماعةَ بمنْ ماتَ على الكفرِ بجامعِ أنَّ الكلَّ لم يكنْ تحتَ حكمِ إمامٍ، فإنَّ الخارجَ عنِ الطاعةِ كأهلِ الجاهليةِ لا إمامَ لهُ.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ إذا فارقَ أحدٌ الجماعةَ ولمْ يخرجْ عليهمْ ولا قاتلَهم أنَّا لا نقاتلُه لنردَّه إلى الجماعةِ ويذعنَ للإمامِ بالطاعةِ، بلْ نخلِّيهِ وشأنَه لأنهُ لم يأمرْ صلى الله عليه وسلم بقتالِه، بل [أخبرنا]
(3)
عنْ حالِ موتهِ وأنهُ كأهلِ الجاهليةِ، ولا
(1)
زيادة من (ب).
(2)
في "صحيحه" رقم (1848).
(3)
في (ب): "أخبر".
يخرجْ بذلكَ عنِ الإسلامِ، ويدلُّ لهُ ما ثبتَ منْ قولِ عليٍّ كرم اللهُ وجهه للخوارجِ:"كونُوا حيثُ شئتُم وبينَنا وبينَكم أنْ لا تسفِكُوا دمًا حرامًا، ولا تقطعُوا سبيلًا، ولا تظلِمُوا أحدًا، فإنْ فعلتُم نفذتُ إليكمْ بالحربِ". وهذَا ثابتٌ عنهُ بألفاظٍ مختلفةٍ. أخرجَهُ أحمدُ
(1)
والطبرانيُّ
(2)
والحاكمُ
(3)
منْ طريقِ عبدِ اللهِ بنِ شدَّادٍ، وقال عبدُ اللهِ بن شداد: فواللهِ ما قتلَهم حتَّى قطعُوا السبيلَ وسفكُوا الدمَ الحرامَ. فدلَّ على أنَّ مجرَّدَ الخلافِ على الإمامِ لا يُجِب قتالَ مَنْ خالفَهُ.
تحقيق الكلام في حديث تقتل عمارًا الفئة الباغية
3/ 1120 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَقْتُلُ عَمّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(4)
. [صحيح].
(وعنْ أمِّ سلمةَ رضي الله عنها: قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تقتل عمارًا الفئةُ الباغيةُ. رواهُ مسلمٌ)، تمامُه في مسلمٍ:"يدعوهُم إلى الجنةِ ويدعُونَهُ إلى النارِ". قالَ ابنُ عبدِ
(5)
البرِّ: تواترتِ الأخبارُ بهذَا
(6)
وهوَ مِنْ أصحِّ الأحاديث، قالَ ابنُ دحيةَ: لا مطعنَ
(1)
و
(2)
لم أعثر عليه عند أحمد والطبراني. بل أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 235 - 237) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
(3)
في "المستدرك"(2/ 152 - 154)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه إلَّا ذكر ذي الثدية، فقد أخرجه مسلم بأسانيد كثيرة. ووافقه الذهبي.
(4)
في "صحيحه" رقم (2916).
(5)
ذكر ذلك ابن حجر في "التلخيص"(4/ 43).
(6)
حديث أم سلمة، وأبي الهذيل، وأبي هريرة، وعبد اللهِ بن عمرو، وعمرو بن العاص، وعمرو بن حزم، ومعاوية، وأنس، وأبي سعيد الخدري.
• أما حديث أم سلمة فقد أخرجه أحمد (6/ 289) و (6/ 300) و (6/ 311) و (6/ 315) ومسلم رقم (2916)، والطيالسي في "المسند" رقم (2570)، وأبو يعلى في "المسند" رقم (44/ 1645)، ورقم (112/ 6990) من طرق
…
• وأما حديث أبي الهذيل فقد أخرجه أبو يعلى رقم (1426/ 4181)، بسند منقطع وذكره ابن حجر في "المطالب العالية"(4/ 304 رقم 4477) وعزاه إلى مسدد، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 242): رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو يعلى، وإسناد أبي يعلى منقطع، وفي إسناد الطبراني أحمد بن عمر العلَّاف الرازي ولم أعرفه".
• وأما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه أبو يعلى رقم (684/ 6524)، بسند ضعيف.=
في صِحَّتهِ، ولو كانَ غيرَ صحيحٍ لردَّه معاويةُ، وإنَّما قالَ معاويةُ: قتلَه مَنْ جاءَ بهِ، ولوْ كانَ فيهِ شكٌّ لأنكره وردَّه حتَّى أجابَ عمرُو بنُ العاص على معاويةَ قالَ: فرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قتلَ حمزةَ؟
وأما ما نقلَهُ المصنفُ [ابن حجر]
(1)
في "التلخيص"
(2)
: وتَبعَهُ الشارحُ في نقلِه منْ أنهُ نقلَ ابنُ الجوزيِّ عنْ [الخلال]
(3)
في "العِلَلِ" أنهُ حُكِيَ عنْ أحمدَ [بن
= وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 296)، وقال رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
قلت: عبد اللهِ بن جعفر المديني ليس من رجال الصحيح وإنما روى له الترمذي وابن ماجه وهو ضعيف.
وأخرج المرفوع منه الترمذي رقم (3802) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث العلاء بن عبد الرحمن.
• وأما حديث عبد اللهِ بن عمرو فقد أخرجه أبو يعلى رقم (16/ 7351) بإسناد حسن، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 297) مختصرًا. وقال:"رواه الطبراني ورجاله ثقات".
• وأما حديث عمرو بن العاص فقد أخرجه أبو يعلى رقم (7/ 7342)، وأحمد (4/ 197)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 242) وقال:"رواه أحمد وفيه راوٍ لم يُسم وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى باختصار" اهـ.
• وأما حديث عمرو بن العاص وعمرو بن حزم فقد أخرجه أبو يعلى رقم (2/ 7175)، ورقم (11/ 7346)، بسند صحيح.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" رقم (20427)، وأحمد (4/ 199)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 551).
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 241 - 242)، وقال:"رواه أحمد وهو ثقة"، ولعل الصواب:"رواه أحمد ورجاله ثقات".
• أما حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أخرجه أبو يعلى رقم (11/ 7364) بسند ضعيف. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 296) وقال: "رواه أبو يعلى، والطبراني، وابنة هشام والراوي عنها لم أعرفهما، وبقية رجالهما رجال الصحيح".
• وأما حديث أنس فقد أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 315)، وقال الخطيب: كذا قال عن الحسن، عن أنس، والمحفوظ عن الحسن عن أمه، عن أم سلمة". وانظر:"حلية الأولياء"(7/ 197 - 198).
• وأما حديث أبي سعيد الخدري فقد أخرجه أحمد (3/ 5، 22، 28، 91)، والطيالسي رقم (2569) والبخاري رقم (447) ومسلم رقم (2915).
(1)
زيادة من (أ).
(2)
"التلخيص الحبير"(4/ 43 رقم 1735).
(3)
في (أ) و (ب): "خلاد" والصواب: "الخلال" كما في التلخيص (4/ 43).
حنبل]
(1)
أنهُ قالَ: رُوِيَ هذا الحديثُ منْ ثمانيةٍ وعشرينَ طريقًا ليسَ فيها طريقٌ صحيحٌ. وحُكِيَ أيضًا عنْ أحمدَ وابنِ معين وابنِ أبي خيثمةَ أنَّهم قالُوا: لم يصحَّ. فقدْ أجابَ السيِّدُ محمدُ بنُ إبراهيمَ الوزيرُ
(2)
رحمه الله عنْ هذا بقولِه: الاسترواحُ إلى ذِكْرِ هذا الخلافِ الساقطِ [بالمرة والمطَّرح بالأصالة]
(3)
منْ غيرِ بيانٍ لبطْلانِهِ منْ مثلِ ابنِ حجرٍ عصبيةً شنيعةً [ومسقطة قبيحة]
(4)
، فأما ابنُ الجوزيِّ فلمْ يعرفْ هذا الشأنَ [ولا هو من أهل فرسان هذا الميدان]
(5)
، وقدْ ذكرَ الذهبيُّ في ترجمتِه في "التذكرةِ"
(6)
كثرةَ خَطَئِهِ في مصنفاتِه، فهوَ أجهلُ وأحقرُ منْ أنْ ينتهضَ لمعارضةِ أئمةِ الحديثِ وفرسانِه وحفَّاظِه كابنِ عبدِ البرِّ والبخاريِّ ومسلمٍ والحميديِّ.
وقدْ رواهُ كاملًا أبو داودَ والترمذيُّ والذهبيُّ والحاكمُ وابنُ خزيمةَ والقرطبيُّ والإسماعيليُّ والبرقانيُّ وأمثالُهم، وقدْ ذكرَ جملةٌ منْهم تواترَه، وصِحَّتَهُ وجماعةٌ منهم إجماعَ أهلِ السنةِ وأهلِ الفقهِ وأهلِ العلمِ على تواتره، وذكَرَهُ القرطبيُّ في آخرِ تَذْكِرَتهِ
(7)
، والحاكمُ في "علوم الحديثِ"
(8)
لهُ، وحكاهُ عنِ ابنِ خزيمةَ المعروفِ بإمامِ الأئمةِ ولم يحكِ أحدٌ عنْهم خِلافًا في ذلكَ.
وأما الذهبيُّ فإنَّهُ حقَّقَ صِحَّةَ دَعْواهُ بما أوردَهُ منَ الطُّرقِ الصحيحةِ الجمَّةِ. والمنعُ منَ [صحتهِ]
(9)
بمجرَّدِ العصبيةِ منْ غيرِ حُجَّةٍ صنع مَنْ لا علمَ لهُ بلْ منْ لا عقلَ له ولا حياءَ له، انتَهى. [كلام السيد محمد بن إبراهيم]
(10)
.
قلتُ: ولا يخْفَى أنَّ ابنَ الجوزي نقلَ عنْ أحمدَ عدمَ صِحَّتِه، وليسَ هوَ قدحٌ في صحتهِ حتَّى يُقَالَ إنهُ أحقرُ منْ أنْ ينتهضَ لمعارضةِ أئمةِ الحديثِ وفرسانِه
(1)
زيادة من (أ).
(2)
ولد على المشهور الصحيح في رجب سنة (775 هـ) بهجرة الظَهْرَاوين من شَظَب، ونشأ فيها، وحفظ القرآن، وكذلك حفظ متون كتب الطلب من نحو وصرف ومعانٍ وبيان وفقه وأصول، ورحل إلى صعدة، ثم إلى صنعاء .. وتوفي سنة (840 هـ). وانظر ترجمته في:"مقدمة كتابه العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم".
(3)
زيادة من (أ).
(4)
زيادة من (أ).
(5)
زيادة من (أ).
(6)
أي "تذكرة الحفاظ"(4/ 1347).
(7)
رقم (1788) بتحقيقي.
(8)
(ص 84).
(9)
في (ب): "الصحة".
(10)
زيادة من (أ).
[وحفَّاظهِ]
(1)
، فالأَوْلَى في الجوابِ عنْ نقلِ ابنِ الجوزيِّ ما قالَه السيِّدُ محمدٌ [أيضًا]
(2)
، إنهُ قدْ رَوَى يعقوبُ بنُ شيبةَ الإمامُ الثقةُ الحافظُ عنْ أحمدَ بنِ حنبلٍ أنهُ قالَ فيهِ: إنهُ حديثٌ صحيحٌ سَمِعَهُ عنهُ يعقوبُ وقدْ سُئِلَ عنهُ. ذكرهُ الذهبيُّ في ترجمةِ عمارِ في "النبلاءِ"
(3)
، ويؤيدُه أنهُ رواهُ أحمدُ عنْ جماعةٍ [كثيرةٍ]
(4)
منَ الصحابةِ وكانَ يَرَى الضَّربَ عن [رواية الضعفاء]
(5)
والمنكراتِ.
وهذَا يدلُّ على بُطْلانِ ما حكاهُ ابنُ الجوزيِّ، وإلَّا فغايتُه أنهُ قدْ تعرضَ عنْ أحمدَ القولانِ فيطرحُ، وفي تصحيحِ غيرِه ما يغني عنهُ كما لا يخْفَى. وأما الحكايةِ عنِ ابنِ مَعِيْنٍ وابنِ أبي خيثمةَ فإنهُ رَوَاها المصنفُ بصيغةِ التمريضِ ولم ينسبْها إلى راوٍ فيتكلَّمُ عليها.
والحديثُ دليلٌ على أنَّ الفئةَ الباغية معاويةُ ومَنْ في حِزْبهِ، والفئةُ المحقَّةُ عليٌّ كرم اللهُ وجهه ومَنْ في صُحْبَتِهِ، وقدْ نَقَلَ الإجماعَ منْ أهلِ السنةِ بهذا القولِ جماعةٌ مِنْ أئمتِهِمْ كالعامريِّ وغيرِه وأوضحْناه في "الروضةِ النديَّةِ"
(6)
.
قتال البغاه والأحكام المتعلقة به
4/ 1121 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَدْرِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيفَ حُكْمُ اللهِ فِيمَنْ بَغى مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ؟ "، قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلَا يُقْسَمُ فَيؤُهَا". رَوَاهُ الْبَزَّارُ
(7)
وَالْحَاكِمُ
(8)
، وَصَحَّحَهُ فَوَهِمَ، لأَنَّ في إِسْنَادِهِ كَوْثَرَ بْنَ حَكِيمٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ
(9)
. [ضعيف]
(1)
زيادة من (ب).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
أي "سير أعلام النبلاء"(1/ 406 - 428).
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في (ب): "روايات الضعاف".
(6)
واسمها: "الروضة الندية في شرح التحفة العلوية"(ص 85) والكتاب فيه أحاديث صحيحة وحسنة وضعيفة وموضوعة، فتنبَّه.
(7)
(2/ 359 - كشف الأستار). وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 243)، وقال:"رواه البزار والطبراني في "الأوسط" وفيه كوثر بن حكيم، وهو ضعيف متروك".
(8)
في "المستدرك"(2/ 155).
(9)
قاله الذهبي في "المختصر"(2/ 155).
- وَصَحَّ عَنْ عَليٍّ مِنْ طُرُقٍ نَحوُهُ مَوْقُوفًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ
(1)
وَالْحَاكِمُ
(2)
. [ضعيف]
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هلْ تدري يا ابنَ أمِّ عَبْدٍ) هوَ عبد اللهِ بنُ مسعودٍ لأنهُ المعروفُ بذلكَ وكأنهُ رواهُ عنهُ ابنُ عمرَ رضي الله عنهما أو سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يحدِّثُه (كيفَ حُكمُ اللهِ فيمَنْ بَغَى منْ هذهِ الأمةِ؟ قالَ: اللهُ ورسولُه أعلمْ، قالَ: لا يُجْهَزُ علي جريحِها) أي لا يتمّمُ قتل مَنْ كانَ جريحًا منَ البغاةِ (ولا يُقْتَلُ أسيرُها ولا يُطْلَبُ هاربُها ولا يقسمُ فَيْئُها. رواهُ البزَّارُ والحاكمُ وصحَّحَهُ فوهِمَ لأنَّ في إسنادهِ كوثرَ) بفتحِ الكافِ وسكونِ الواوِ ومثلثةٍ مفتوحةٍ فراءٍ (ابنَ حكيمٍ، وهوَ متروكٌ، وصحَّ عنْ عليٍّ رضي الله عنه نحوُه منْ طرقٍ نحوه موقوفًا. أخرجَه ابنُ أبي شيبةَ والحاكمُ)، في "الميزان"
(3)
كوثرُ بنُ حكيمٍ عنْ عطاءٍ ومكحولٍ وهوَ كوفيٌّ نزلَ حلبَ، قالَ ابنُ معينٍ: ليسَ بشيءٍ، قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ: أحاديثُه بواطيلُ، انتَهى.
قالَ ابنُ عديٍّ
(4)
: هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ. وأما الروايةُ عنْ عليٍّ عليه السلام فَرَوَاها البيهقيُّ
(5)
وغيرُه.
وفي الحديثِ مسائلُ:
الأولى:
جوازُ قتالِ البغاةِ وهوَ إجماعٌ لقولهِ تعالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}
(6)
.
قلتُ: والآيةُ دالُّةٌ على الوجوبِ وبهِ قالتِ الهادويةُ، ولكنْ شَرَطُوا ظنَّ الغلبةِ. وعندَ جماعةٍ منَ العلماء أنَّ قتالَهم أفضلُ منْ قتالِ الكفارِ، قالُوا: لِمَا يلحقُ المسلمينَ منَ الضررِ منْهم.
واعلمْ أنهُ يتعيَّنُ أَوَّلًا قبلَ قتالِهمْ دعاؤُهم إلى الرجوعِ عنِ البغي وتكريرُ الدعاءِ كما فعلَ علي عليه السلام في الخوارجِ فإنَّهم لما فارقُوه أرسلَ إليهمُ ابنَ عباسٍ
(1)
في "المصنف"(2/ 424).
(2)
في "المستدرك"(2/ 155). والخلاصة: أن الحديث ضعيف، قاله البيهقي (8/ 182)، وقال ابن عدي في "الكامل" (6/ 2098):"هذا الحديث غير محفوظ".
(3)
(3/ 416).
(4)
في "الكامل"(6/ 2098).
(5)
في "السنن الكبرى"(8/ 181).
(6)
سورة الحجرات: الآية 9.
فناظرَهُم فرجعَ منْهم أربعةُ [آلاف]
(1)
وكانُوا ثمانيةَ آلافٍ [فبقي]
(2)
أربعةٌ أَبَوْا أنْ يرجعُوا وأصرُّوا على فراقِه فأرسلَ إليهمْ: "كونُوا حيثُ شِئْتُم وبينَنَا وبينَكم أنْ لا تسفكُوا دمًا حَرَامًا، ولا تقطعوا سبيلًا، ولا تَظْلِمُوا أَحَدًا"، فقتلُوا عبدَ اللهِ بنَ خبابٍ صاحبَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ بقَرُوا بطنَ [سُرِّيته]
(3)
وهيَ حُبْلَى وأخرجُوا ما في بَطْنِها، فبلغَ عليًا كرَّمَ اللهُ وجْهَهُ فكتبَ إليهمْ أقيدُونا بقاتلِ عبدِ اللهِ بنِ خَبَّابٍ فقالُوا: كلُّنا قتلَه، فَأَذِنَ حينئذٍ في قِتَالِهمْ، وهيَ رواياتٌ ثابتةٌ ساقَها المصنفُ في [الفتح]
(4)
.
المسالةُ الثانيةُ:
أنهُ لا يجهزُ على جريحِهَا، وهوَ مِنْ أَجْهَزَ علَى الجريحِ، وجَهَزَ أيْ بتت قتلَه [وأسرعَهُ]
(5)
وتمَّمَ عليهِ، ودليلُه قولُه: ولا يجهزُ على جريْحِها.
وأخرجَ البيهقيُّ
(6)
أنَّ عليًا عليه السلام قالَ لأصحابهِ يوم الجملِ: "إذا ظهرتُم على القومِ فلا تطلبُوا مُدْبِرًا ولا تُجْهِزُوا على جريحٍ وانظُروا ما حضرتْ بهِ الحربُ منْ آلتِه فاقبضُوه وما سِوَى ذلكَ فهوَ لِوَرَثَتِهِ". قالَ البيهقيُّ (6): هذَا منقطعٌ والصحيحُ أنهُ لم يأخذْ شيئًا ولم يسلبْ قتيلًا.
ودلَّ الحديث أيضًا على أنه لا يقتلُ أسيرُ البغاةِ، قالوا: وهذا خاصٌ بالبغاة لأنَّ قتالَهم إنَّما هوَ لِدَفْعِهِمْ عنِ المحاربةِ.
ودلَّ الحديثُ أيضًا على أنهُ لا يطلبُ هاربُها، وظاهرُه ولوْ كانَ متحيِّزًا إلى فئةٍ، وإلى هذَا ذهبَ الشافعيُّ قالَ: لأنَّ القصْدَ دفْعَهُم في تلكَ الحالِ وقدْ وقعَ. وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ إلى أنَّ الهاربَ إلى فئةٍ يُقْتَلُ إذْ لا يُؤْمَنُ عَوْدُهُ، والحديثُ يردُّ هذا القولَ وكَذَا ما تقدَّمَ منْ كلامِ عليٍّ عليه السلام.
المسالةُ الثالثةُ:
قولُه: (ولا يُقْسَمُ فيئُها) أي لا يُغْنَمُ فيقسمُ، دالٌّ على أنَّ أموالَ البغاةِ لا تغنمُ وإنْ أجْلَبُوا بها إلى دارِ الحربِ، وإلى هذا ذهبتِ الشافعيةُ
(1)
في (أ): "ألف".
(2)
في (ب): "وبقي".
(3)
في (أ): "سرية".
(4)
في (ب): "فتح الباري".
(5)
زيادة من (ب).
(6)
في "السنن الكبرى"(8/ 181)، وهو منقطع.
والحنفيةُ وأيَّدَ هذَا بقولِه صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلَّا بطيبةٍ منْ نفسهِ"
(1)
، وقدْ صحَّحَ البيهقي أنَّ عليًا عليه السلام لم يأخذْ سَلْبًا. فأخرجَهُ
(2)
عنِ الدَّرَاوَرْدِي عنْ جعفرِ بنِ محمدٍ عن أبيه أن عليًا عليه السلام كان لا يأخذ سلبًا. وأخرج
(3)
أيضًا عنْ أبي بكرٍ بنِ أبي شيبةَ عنْ جعفرِ بن محمدٍ عنْ أبيهِ أنَّ عليًا عليه السلام يومَ البصرةِ لم يأخذْ منْ متاعِهم شَيْئًا.
وأخرجَ
(4)
عنْ أبي أمامةَ قالَ: شهدتُ يومَ صِفِّينَ، وكانُوا لا يُجْهِزُونَ على جريحٍ ولا يقتلونَ مُولِّيًا ولا يسلبونَ قتيلًا. وذهبتِ الهادويةُ إلى أنهُ يُغْنَمُ ما أجلبُوا به منْ مالٍ وآلةِ حَرْبٍ ويخمسُ لقولِ عليٍّ عليه السلام: لكمُ المعسكرُ وما حَوَى، وأُجِيْبَ بأنَّ الحديثَ مصرِّحٌ بأنَّها لا تغنَمُ وبأنَّ ما ذكرْنَاهُ عنْ عليٍّ عليه السلام مما يوافقُ الحديثَ أكثرَ وأقْوى طريقًا.
المسالةُ الرابعةُ:
يُؤخَذُ منْ [إطلاقِ]
(5)
قولِه: (ولا يُجْهَزُ على جرِيْحها) أنهُ لا يضمنُ البغاةُ ما أتلفُوه في القتالِ منَ الدماءِ والأموالِ، وإليهِ ذهبَ الإمامُ يحيى والحنفيةُ، واستدلَّ أيضًا بقولِه تعالَى:{حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ}
(6)
ولم يذكرْ ضمانًا، وبما أخرجَهُ البيهقيُّ
(7)
عنِ ابنِ شهابٍ قالَ: هاجتِ الفتنةُ الأُولى فأدركتِ - أي الفتنةُ - رجالًا ذوي عدد منْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ممنْ شهدَ معَهُ بدْراً، وبَلَغَنَا أنَّهم كانُوا يرونَ أنْ يهدرَ أمرُ الفتنةِ ولا يقامَ فيها على رجلٍ قاتلٍ في تأويلِ القرآنِ قصاصٌ فيمنْ قتلَ ولا حدَّ [فيمن]
(8)
سبا امرأةٍ سُبِيَتْ، ولا يُرَى عليها حدٌّ، ولا بينَها وبينَ زَوْجِها ملاعنةٌ ولا يَرَى أنْ يقذفَها أحدٌ إلَا جُلِدَ الحدَّ، وَيرَى أنْ تردَّ إلى زَوْجِها الأولِ بعدَ أن تعتدَّ فتنقضي عدَّتُها منْ زوجِها الآخرِ، ويَرَى أنْ يرثَها زوجُها الأولُ.
قلتُ: وهذا وإنْ لم يكنْ إجماعًا فإنهُ مقوِّ للبراءةِ الأصليةِ، إذِ الأصلُ أنَّ أموالَ المسلمينَ ودماءَهم معصومةٌ. وذهبَ الشافعيُّ وحُكِيَ عنِ الهادويةِ إلى أنهُ
(1)
تقدَّم تخريج الحديث مرارًا.
(2)
في "السنن الكبرى"(8/ 181).
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 181).
(4)
في "السنن الكبرى"(8/ 182).
(5)
زيادة من (ب).
(6)
سورة الحجرات: الآية 9.
(7)
في "السنن الكبرى"(8/ 174 - 175).
(8)
في (ب): "في".
يُقْتَصُّ ممنْ قتلَ مِنَ البغاةِ واستدَلُّوا [بعمومِ]
(1)
الآياتِ والأحاديثِ نحو: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}
(2)
، وحديثِ:"منِ اعتبطَ مسلمًا بقتلٍ عنْ بيِّنة فهوَ قَوَدٌ"
(3)
، وأجيبَ بأنَّها عموماتٌ خُصَّتْ بما ذُكِرَ منْ أدلةٍ أَهْلِ القولِ الأَوَّلِ.
من خرج علَى من اجتمعت عليه الكلمة حلَّ دمه
5/ 1122 - وَعَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُم جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُم فَاقْتُلُوهُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(4)
. [صحيح]
(وعنْ عَرْفَجَةَ) بضمِّ العينِ المهملةِ وسكونِ الراءِ وضمِّ الفاءِ وجيمٍ (ابنِ شريحٍ) بالشينِ المعجمةِ مصغَّرُ شَرْحٍ، وقيلَ بالمهملةِ، ([قال]: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: منْ أَتَاكُم وأمْرُكُم جميعٌ يريدُ أنْ يفرِّقَ جماعتكم فاقْتُلوه. أخرجَهُ مسلم).
ورواهُ مسلمٌ
(5)
بلفظِ: "سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ستكونُ هِنَاتٌ وهِنَاتٌ فمنْ أرادَ أنْ يفرِّقَ أمرَ هذِه الأمةِ وهيَ جميعٌ فاضرِبُوه بالسيفِ كائِنًا مَنْ كانَ"، وفي لفظٍ
(6)
: "فاقتلُوه"، وفي لفظٍ
(7)
: "مَنْ أَتَاكُم وأَمرُكُم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يريدُ أنْ يشقَّ عَصَاكُم أو يفرِّقَ جماعتَكُم فاقتلُوه".
وأخرجَ الشيخانِ
(8)
واللفظُ للبخاريِّ منْ حديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: "منْ رأَى مِنْ أميرِهِ شيئًا يكرهُه فيلصبرْ عليهِ فإنهُ مَنْ فارقَ الجماعةَ شِبْرًا فماتَ ماتَ
(1)
في (أ): "بعمومات".
(2)
سورة الإسراء: الآية 33.
(3)
أخرجه الشافعي في "بدائع المتن"(2/ 157 رقم 1433).
(4)
في صحيحه رقم (60/ 1852). قلت: وأخرجه البيهقي (8/ 169).
(5)
في "صحيحه" رقم (59/ 1852). قلت: وأخرجه أحمد (4/ 261)، وأبو داود رقم (4762)، والبيهقي (8/ 168).
(6)
أخرجه مسلم في "صحيحه" (3/ 1479 رقم (
…
) 1852).
(7)
أخرجه مسلم رقم (60/ 1852).
(8)
البخاري رقم (7143)، ومسلم (55/ 1849).
مِيْتَةً جاهليةً"، وفي لفظٍ
(1)
: "مَنْ خرجَ عنِ السلطانِ شبرًا ماتَ ميتةً جاهليةً". دلَّتْ هذهِ الألفاظُ على أنَّ مَنْ خرجَ علَى إمامٍ قدِ [أجمعت]
(2)
عليهِ كلمةُ المسلمينَ - والمرادُ أهلُ قُطْرٍ كما قلْناهُ - فإنهُ قدِ استحقَّ القتلَ لإدخالِه الضَّرَرَ على العبادِ، وظاهرُه سواءٌ كانَ جائرًا أو عادلًا.
وقدْ جاءَ في أحاديث تقييدِ ذلكَ بما أقامُوا الصلاةَ
(3)
، وفي لفظٍ
(4)
: "ما لمْ تَرَوْا كفرًا بُواحًا"، وقدْ حقَّقْنَا هذهِ المباحثَ في "منحةِ الغفارِ حاشيةِ ضوءِ النهارِ"
(5)
تحقيقاً تُضْرَبُ إليهِ آباطُ الإبلِ، والحمدُ للهِ المنعمِ المتفضِّلِ.
* * *
(1)
أخرجه مسلم رقم (56/ 1849).
(2)
في (ب): "اجتمعت".
(3)
يشير المؤلف رحمه الله إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (66/ 1855) عن عوف بن مالك الأشجعي يقول: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "خيارُ أئمتِكُم الذينَ تحِبُّوِنَهم ويُحبُّونكم، وتصلُّون عليهم ويُصلُّون عليكم، وشرارُ أئمتِكُمُ الذين تبغضونَهُم ويبغضونكَمْ، وتلعنونَهُم ويلعنونكُم"، قالوا: قلنا: يا رسولَ اللهِ أفلا ننابِذُهم عندَ ذلِكَ؟ قال: "لا ما أقامُوا فيكم الصلاةَ، لا ما أقامُوا فيكم الصلاة
…
"، الحديث.
(4)
أخرجه البخاري رقم (7055 و 7056)، ومسلم رقم (42/ 1709)، من حديث عبادة بن الصامت.
(5)
(4/ 2487 - 2488).
[الباب الرابع] باب قتال الجاني، وقتل المرتَدِّ
من قاتل دون ماله فقُتل فهو شهيد
1/ 1123 - عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
(1)
. [صحيح]
(1)
حديث عبد اللهِ بن عمر بن الخطاب أورده ابن الأثير في "جامع الأصول"(2/ 742 رقم 1244). قال محققه الشيخ عبد القادر الأرنؤوط: هكذا في الأصل بياض بعد قوله: أخرجه. وفي المطبوع: أخرجه رزين. وقال المباركفوري في "تحفة الأحوذي"(4/ 679) قال: "وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه فأخرجه البيهقي" اهـ. قلت: وفي الباب عن سعيد بن زيد، وعن جابر بن عبد الله، وعن عبد اللهِ بن عمرو، وعن عبد اللهِ بن مسعود، وعن بريدة الأسلمي، وعن أبي هريرة، وعن ثابت مولى عمر بن عبد الرحمن.
• أما حديث سعيد بن زيد فقد أخرجه ابن حبان في "الإحسان" رقم (3194)، وأحمد (1/ 187)، والحميدي رقم (83)، والنسائي (7/ 115 و 115 - 116)، وابن ماجه رقم (2580)، والبيهقي (3/ 266)، وأبو يعلى رقم (2/ 949)، ورقم (6/ 953)، من طرق عن سفيان عن الزُّهري، عن طلحة بن عبد اللهِ بن عوف، به. وأخرجه أحمد (1/ 189)، وأبو يعلى رقم (3/ 950)، من طريق محمد بن إسحاق، حدثني الزهري، به. وأخرجه أحمد (1/ 190)، والترمذي رقم (1421)، والطيالسي رقم (233)، وأبو داود رقم (4772)، والبيهقي (3/ 266)، و (8/ 335)، من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن طلحة، به.
• وأما حديث جابر بن عبد اللهِ فقد أخرجه أبي يعلى رقم (296/ 2061)، وأورده الهيثمي في "المجمع"(6/ 244)، وقال: رواه أبو يعلى، وفيه هارون بن حيان الرقي، =
(عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: من قُتِلَ دونَ مالِه فهوَ شهيدٌ. رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ والترمذيُّ وصحَّحَهُ)، وأخرجَهُ البخاريُّ
(1)
منْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ. وأخرجَهُ أصحابُ السُّنَنِ وابنُ حِبَّانَ والحاكمُ منْ حديثِ سعيدٍ بنِ زيدٍ
(2)
. وفي الحديثِ دليلٌ على جوازِ المقاتلةِ لمنْ قَصَدَ أخذَ مالِ غيرِه بغيرِ حقٍّ قليلًا كانَ أو كثيرًا، وهذا قولُ الجماهيرِ. وقالَ بعضُ المالكيةِ: لا يجوزُ القتالُ على أَخْذِ القليلِ منَ المالِ.
قالَ القرطبيُّ: سببُ الخلافِ في ذلكَ هلْ القتالُ لدفعِ المنكرِ فلا [يفرق]
(3)
الحالُ بينَ القليلِ والكثيرِ، أوْ مِنْ بابِ دَفْعِ الضَّرَرِ فيختلفُ الحالُ في ذلكَ؟ وحَكَى أبنُ المنذرِ عنِ الشافعيِّ رضي الله عنه أنَّ مَنْ أريدَ مالُه أو نفسهُ أو حريْمُهُ ولم يكن الدفعُ إلا بالقتلِ فلهُ ذلك وليسَ عليهِ قَوَدٌ ولا دِيَةٌ ولا كفارةٌ لكنْ ليسَ لهُ أنْ يقصدَ القتلَ منْ غيرِ تفصيلٍ.
قالَ ابن المنذرِ: والذي عليهِ أهلُ العلمِ أنَّ للرجلِ أنْ يدفعَ عما ذُكِرَ إذا أُرِيْدَ ظلمًا بغيرِ تفصيل، إلَّا أنَّ كلَّ مَنْ يُحْفَظُ عنهُ [العلم]
(4)
منْ علماءِ الحديثِ كالمجمعينَ على استثناءِ السلطانِ للآثارِ الواردةِ بالأمرِ بالصبرِ على جَوْرِه وتركِ
= قيل: كان يضع الحديث" اهـ.
قلت: لكن يشهد له حديث سعيد بن زيد المتقدم وغيره.
• وأما حديث عبد اللهِ بن عمرو فقد أخرجه البخاري رقم (2480)، وأبو داود رقم (4771)، والنسائي (7/ 114 - 115)، والترمذي رقم (1419)، ورقم (1420) وابن ماجه رقم (2581)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 353).
• وأما حديث عبد اللهِ بن مسعود فقد أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(5/ 23).
• وأما حديث بريدة الأسلمي فقد أخرجه النسائي (7/ 116)، وفي سنده مؤمل بن إسماعيل البصري أبو عبد الرحمن، وهو سيء الحفظ، ولكن للحديث شواهد كما تقدم فهو بها حسن.
• وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه مسلم في صحيحه رقم (225/ 140)، والنسائي (7/ 114).
• وأما حديث ثابت مولى عمر بن عبد الرحمن فقد أخرجه مسلم رقم (226/ 141).
(1)
في صحيحه رقم (2480) وقد تقدم تخريجه كاملًا في التعليقة السابقة.
(2)
تقدم تخريجه في التعليقة المتقدمة.
(3)
في (ب): "يقترف".
(4)
زيادة من (أ).
القيامِ عليهِ، وفرَّقَ الأوزاعيُّ بينَ الحالِ التي للناسِ فيها جماعةٌ وإمامٌ فحملَ الحديثَ علَيْها، وأما في [حالة]
(1)
الفرقةِ والخلافِ فيستسلم ولا يقاتلْ أحدًا.
قلتُ: ويؤيدُ ما قالَه ابنُ المنذرِ عنْ أهلِ العلمِ ما أخرجَهُ مسلمٌ
(2)
منْ حديثِ أبي هريرةِ مرفُوعًا بلفظِ: "أرأيتَ إنْ جاءَ رجلٌ يريدُ أخذَ مالي؟ قالَ: لا تُعْطِهِ، قالَ: أرأيتَ إنْ قاتلَني؟ قالَ: قاتلْه، قالَ: أرأيتَ إنْ قَتَلَني؟ قالَ: فأنتَ شهيدٌ، قالَ: أرأيتَ إن قتلْتُه؟ قالَ: فهوَ في النارِ"، وظاهرُ الحديثِ إطلاقُ الأحوالِ.
قلتُ: هذا في جوازِ قتالِ مَنْ يأخذُ المالَ، فهلْ يجوزُ [ذلك]
(3)
أي لمنْ يرادُ أخذَ مالِه ظُلْمًا الاستسلامُ وتركُ المنعِ بالقتالِ، الظاهرُ جوازُه. ويدلُّ له حديثُ:"فكنْ عبدَ اللهِ المقتولِ"
(4)
، فإنهُ دالٌّ على جوازِ الاستسلامِ في النفسِ والمالِ بالأَوْلَى، فيحملُ قولُه هُنَا ولا تعطِه على أنهُ نَهْيٌ لغيرِ التحريمِ.
الجناية التي تقع لدفع الضرر
2/ 1124 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنه قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى بْنُ أُمَيّةَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتهُ، فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"يَعَضُّ أَحَدُكُم أخاه كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ؟ لَا دِيَةَ لَهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. [صحيح]
(وعنْ عمرانَ بنِ حصينٍ قالَ: قاتلَ يعلى بنُ أميةَ رجلًا فعضَّ أحدُهما صاحبَه فانتزعَ يدَه منْ فمهِ فنزعَ ثنيَّتَهُ فاختصَما إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يعضُّ أحدُكم) بفتحِ حرفِ المضارعةِ والعينِ المهملةِ ماضيْه عَضِضَ بكسرِ الضادِ الأُولَى يعضَضُ
(1)
في (ب): "حال".
(2)
في "صحيحه" رقم (225/ 140).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
أخرجه أحمد (5/ 292)، من حديث خالد بن عرفطة بسند ضعيف.
(5)
البخاري رقم (6892)، ومسلم رقم (1673). قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1416)، والنسائي (8/ 28 - 29).
بفتحِها في المضارعِ فأدغمتْ ونقلتْ حركتُها إلى ما [قبله]
(1)
(أخاهُ كما يعضُّ الفحلُ) أي الذكرُ منَ الإبلِ (لا ديةَ لهُ. متفقٌ عليهِ واللفظُ لمسلمٍ).
اختُلِفَ في العاضِّ والمعضوضِ منْهما، فقالَ الحافظُ
(2)
: الصحيحُ المعروفُ أنَّ المعضوضَ أجيرُ يَعْلى لا يَعْلى، قيلَ فيتعيَّنُ أنْ يكونَ يَعْلى هوَ العاضُّ.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ هذهِ الجنايةَ التي وقعتْ لأَجْلِ الدفعِ عنِ الضررِ تهدرُ ولا ديةَ على الجاني وإلى هذا ذهبَ الجمهورُ، قالُوا: لا يلزمُه شيءٌ لأنهُ في حكمِ الصائلِ واحتجُّوا أيضًا بالإجماعِ على أنَّ مَنْ شهرَ على آخر سلاحًا ليقتلَه فدفعَ عنْ نفسِه فَقَتَلَ الشاهرَ أنهُ لا شيءَ عليهِ، قالُوا: ولو جرحَهُ المعضوضُ في محلٍّ آخرَ منْ بَدَنِه لم يلزمْه شيءٌ.
وشرطُ الإهدارِ أنْ يتألَّمَ المعضوضُ وأن لا يمكنَه تخليصُ يدهِ بغيرِ ذلكَ منْ ضربِ شدقهِ أو فكِّ لِحْيَيْهِ ليرسلَهما، ومهْما أمكنَ التخلصُ [بغير]
(3)
ذلكَ فعدلَ عنهُ إلى الأثقلِ لم يهدرْ، وللشافعيةِ وجْهٌ أنهُ يهدرُ علَى الإطلاقِ، ودليلُ شرطِ الإِهْدَارِ بما ذُكِرَ مأخوذٌ منَ القواعدِ الكليةِ في الشرعِ، وإلَّا فلا يفيدُه الحديثُ، فإنْ كانَ العضُّ في موضعٍ آخرَ منَ البدَنِ جَرَى فيهِ هذا الحكمُ قياسًا.
عقاب من اطَّلع على أحد بغير إذنه
3/ 1125 - وَعَن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
. [صحيح]
(1)
في (ب): "قبلها".
(2)
انظر: "فتح الباري"(12/ 220).
(3)
في (ب): "بدون".
(4)
البخاري رقم (6888)، ومسلم رقم (2158). قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (1068)، وعبد الرزاق رقم (19433). وابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 768)، وأحمد (2/ 266 و 414 و 527)، وأبو داود رقم (5172)، والنسائي (8/ 61)، وغيرهم.
وَفي لَفْظٍ
(1)
لأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ:"بِلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قَصَاصَ". [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: لوْ أنَّ امرأً اطَّلعَ عليكَ بغيرِ إذنٍ فحذفْتَه بحصاةٍ ففقأتْ عينَه لم يكنْ عليكَ جُنَاحٌ، متفقٌ عليه). دلَّ الحديثُ على تحريم الاطلاعِ على الغيرِ بغيرِ إِذْنِه، وعلى أنَّ مَنِ اطَّلَع قاصِدًا للنظرِ إلى محلِّ غيرِه مما لا يجوزُ الدخولُ إليهِ إلَا بإذنِ مالكِه فإنهُ يجوزُ للمطَّلعِ عليهِ دفعُه بما ذُكِرَ وإنْ فقأَ عينَه فإنهُ لا ضمانَ عليهِ.
(وفي لفظٍ لأحمدَ والنسائيِّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ: فلا ديةَ لهُ ولا قصاصَ)، وأما إذا كانَ مأذُونًا بالنظرِ فالجناحُ غيرُ مرفوعٍ على مَنْ جَنَى على الناظرِ، وكَذَا لو كانَ المنظورُ إليهِ في محلٍّ لا يحتاجُ إلى [إذن]
(2)
ولوْ نظرَ منه ما لا يحلُّ النظرُ إليهِ لأنَّ التقصيرَ منَ المنظورِ إليهِ وإلى هذا ذهبَ الشافعيُّ وغيره، والخلافُ فيهِ للمالكيةِ، قالَ يَحْيَى بنُ يعمرِ منَ المالكيةِ: لعلَّ مالِكًا لم يبلغْه الخبرُ، [فقال]
(3)
ابنُ دقيقِ العيدِ: تصرَّفَ الفقهاءُ في هذا الحكم بأنواعٍ منَ التصرفاتِ منْها أنهُ يفرَّقُ بينَ أنْ يكونَ هذا الناظرُ واقِفًا في الشارعِ أَوْ في خالصِ مُلْكِ المنظورِ إليهِ أو في سكةٍ منشدَّةِ الأسفلِ اختلفُوا فيهِ والأشهرُ أن لا فَرْقَ، ولا يجوزُ مدُّ العينِ إلى حرمِ الناسِ بحالٍ، وفي وجْهٍ للشافعيةِ أنها لا تُفْقَأُ إلَّا عينُ مَنْ وقفَ في مُلْكِ المنظورِ إليهِ والحديثُ مطلَقٌ.
ومنْها: أنهُ هلْ يجوزُ رَمْيُ الناظرِ قبلَ الإنذارِ، والنَّهْي فيهِ وجهانِ للشافعيةِ: أحدُهما: لا، والثاني: نعمْ.
قلتُ: وهوَ الذي يدلُّ لهُ الحديثُ ويؤيدُه دلالة الحديثِ الآخرِ: "أنهُ صلى الله عليه وسلم جعلَ يختل المطَّلِعَ عليهِ لِيَطْعَنَهُ"
(4)
، والختلُ فسَّرهُ في
(1)
وهو حديث صحيح، أخرجه النسائي في "السنن"(8/ 61)، وابن حبان في صحيحه رقم (6004)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (790)، والبيهقي (8/ 3338)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 405)، والدارقطني (3/ 99)، وابن أبي عاصم في "الديات"(ص 84).
(2)
في (ب): "الإذن".
(3)
في (ب): "وقال".
(4)
أخرجه البخاري رقم (6900)، ومسلم رقم (42/ 2157)، وأبو داود رقم (5171)، من حديث أنس.
"النهاية"
(1)
بقولِه: [يراودُه]
(2)
ويطلبُه منْ حيثُ لا يشعرُ.
وفي الحديثِ دليلٌ أنهُ إنَّما يُبَاحُ لهُ قصدُ العَيْنِ بشيءٍ خفيفِ كالمِدْرَى والبندقةِ والحصاةِ لقولِه: فحذفْتَهُ.
قالَ الفقهاءُ: فأمَّا لو رَمَاهُ بالنشَّابِ أو بحجرٍ فقتلَه فهذَا [قتيلٌ]
(3)
يتعلقُ بهِ القصاصُ أو الدِّيةُ. ومما تصرَّفَ فيهِ الفقهاءُ أنَّ هذا الناظرَ إذا كانَ لهُ مَحْرَمٌ في الدارِ أوْ زوجةٌ أو متاعٌ لم يجزْ قصدُ عَيْنِهِ لأنَّ لهُ في النظرِ شبهةً، وقيلَ: لا يكْفي إذا كانَ لهُ في الدارِ مَحْرَمٌ، بلْ إنَّما يمتنعُ قصدُ عَيْنِهِ إذا لم يكنْ في الدارِ إلَّا محارمُه.
ومنْها: إذا لم يكنْ في الدارِ إلَّا صاحبُها فلهُ الرميُ إذا كانَ مكشوفَ العورةِ ولا ضمانَ، وإلَّا فوجهانِ أظهرُهما لا يجوزُ رَمْيُه.
ومنْها: أنَّ الحريْمَ إذا كُنَّ في الدارِ مستتراتٍ أوْ في بيتٍ، ففي وجْهٍ لا يجوزُ قصدُ عَيْنِهِ لأنهُ لا يطَّلِعُ علَى شيءٍ، وقالَ بعضُ الفقهاءِ: الأظهرُ الجوازُ لإطلاقِ [الخبر]
(4)
وأنهُ لا تنضبطُ أوقاتُ السِّتْرِ والتكشفِ، والاحتياطُ حَسْمُ البابِ.
ومنْها: أنَّ ذلكَ إنَّما يكونُ إذا لم يقصِّرْ صاحبُ الدارِ، فإنْ كانَ بابُه مفتوحًا أوْ ثَمَّ كوةٌ واسعةٌ أو ثَلْمَةٌ مفتوحةٌ فينظرُ فانْ كانَ مجتازًا لم يجزْ قصدُه، وإنْ كانَ وقَفَ وتعمَّدَ فقيلَ: لا يجوزُ قصدُه لتفريطِ صاحبِ الدارِ بفتحِ البابِ وتوسيعِ الكوَّةِ، وقيلَ: يجوزُ لتعديهِ بالنظرِ، وأُجْرِيَ هذا الخلافُ فيما إذا نظرَ منْ سطحِ بيتِه أو نظرَ المؤذِّنُ منَ المِئْذَنَةِ، لكنَّ الأظهرَ [هنا]
(5)
عندهم جوازُ الرمي لأنهُ لا تقصيرَ منْ صاحبِ الدارِ.
ثمَّ قالَ: واعلمْ أنَّ ما كانَ منْ هذهِ التصرفاتِ الفقهيةِ داخلًا تحتَ إطلاقِ الأخبار فهوَ مأخوذٌ منْها، وما لا فبعضُه مأخوذٌ مِنْ فَهْمِ المعنَى المقصودِ بالحديثِ، وبعضُه مأخوذٌ [بالقياس]
(6)
وهوَ قليلٌ فيما ذُكِرَ، انتَهى كلامُه.
(1)
في "غريب الحديث"، لابن الأثير (2/ 10).
(2)
في "النهاية": "يُداورهُ".
(3)
زيادة من (ب).
(4)
في (ب): "الأخبار".
(5)
في (ب): "ههنا".
(6)
في (ب): "من القياس".
واعلمْ أنهُ يُؤْخَذُ منْ الحديثِ هذا صحةُ قولِ الفقهاءِ إنَّها تُهْدَمُ الصوامعُ المحْدَثَةُ المعورةُ وكَذَا تعليةُ الملكِ إذا كانتْ معورةً، وهوَ مَحْكِيٌّ عنِ القاسمِ الرسيِّ وهوَ رأيُ عمرَ، فإنهُ أخرجَ عنهُ ابنُ عبدِ الحكمِ في "فتوح مصرَ" عنْ يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ قالَ: أولُ مَنْ بَنَى غُرْفَةً بمصرَ خارجةُ بنُ حذافةَ، فبلغَ ذلكَ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه فكتبَ إلى عمرِو بنِ العاصِ:"سلامٌ عليكَ، أما بعدُ فإنهُ بلغني أنَّ خارجةَ بنَ حذافةَ بنَى غرفةً ولقدْ أرادَ أن يطَّلِعَ على عوراتِ جيرانِه فإذا أتاكَ كتابي هذَا فاهدمْها إنْ شاءَ اللهُ تعالَى والسلامُ".
ضمان ما أتلفته الماشية على أهلها
4/ 1126 - وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ حِفْظَ الحَوَائِطِ بالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ باللَّيْلِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(1)
وَالأَرْبَعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ
(2)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(3)
، وَفي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ. [صحيح]
(وعنِ البراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه قالَ: قضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ حِفْظَ الحوائِطِ بالنهارِ
(1)
في "المسند"(4/ 295).
(2)
أبو داود رقم (3570)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(2/ 14)، وابن ماجه رقم (2332).
(3)
رقم (1168 - موارد). قلت: وأخرجه الشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 107 رقم 359)، والحاكم (2/ 47 - 48)، ومالك في "الموطأ"(2/ 747 - 748 رقم 37). جميعهم - ما عدا ابن حبان - عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن البراء، فذكره. قال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد، على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي، فإن معمرًا قال: عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن أبيه"، ووافقه الذهبي. قلت: ورواية معمر أخرجها أبو داود رقم (3569)، وابن حبان رقم (1168 - موارد)، والدارقطني (3/ 154 رقم 216)، وأحمد (5/ 465)، والبيهقي (8/ 342)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن حرام بن سعد بن محيصة، عن أبيه، عن البراء. ورواية الأوزاعي ومن معه أثبت من رواية معمر. والخلاصة: أنَّ الحديث صحيح، انظر:"الصحيحة" للألباني رقم (238).
علي أَهْلِها، وأنَّ حِفْظَ الماشيةِ بالليلِ علي أَهْلِها، وأنَّ على أهلِ الماشيةِ ما أصابتْ ماشيتُهم بالليل. رواهُ أحمدُ والأربعةُ إلا الترمذيَّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وفي إسنادِه اختلافٌ) ومدارُه على الزُّهريِّ، وقد اختُلِفَ عليهِ، فإنهُ رُويَ منْ طرقٍ كلُّها عنِ الزهريِّ عنْ حرامٍ عنِ البراءِ، وحرامٌ لم يسمعْ منَ البراءِ قالَه عبدُ الحقِّ تَبَعًا لابنِ حزمٍ
(1)
.
وأخرجَه البيهقيُّ
(2)
منْ طُرقٍ وفيها الاختلافُ إلَّا أنهُ قالَ الشافعيُّ رحمه الله: أخذْنا بهِ لثبوتِه واتصالِه ومعرفةِ رجالِه. قالَ البيهقيُّ
(3)
: ورُوّينَاه عنِ الشعبيِّ عنْ شُرَيْحٍ أنهُ كانَ يضمنُ ما أفسدت الغَنَمُ بالليلِ ولا يضمنُ ما أفسدت بالنهارِ ويتأولُ هذهِ الآيةِ: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}
(4)
، وكانَ يقولُ: النَّفْشُ بالليلِ.
وَرُوِيَ مرةً عنْ مسروقٍ إذْ نفشتْ فيهِ غنمُ القومِ قالَ: كانَ كَرْمًا فدخلتْ فيهِ ليلًا فما تركتْ فيهِ [خُضَرًا، فدلَّ]
(5)
الحديثُ أنهُ لا يضمنُ مالكُ البهيمةِ ما جنتْه في النهارِ لأنهُ يعتادُ إرسالَها بالنهارِ ويضمنُ ما جنتْه بالليلِ لأنهُ يعتادُ حفظَها بالليلِ وإلى هذا ذهبتِ الهادويةُ ومالكٌ والشافعيُّ، ودليلُهم الحديثُ والآيةُ.
وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنهُ لا ضمانَ على أهلِ الماشيةِ مطلقًا وحجَّتُه حديثُ: "العجماءِ جَرحَها جبارٌ" أخرجَهُ أحمدُ
(6)
والشيخانِ
(7)
منْ حديثِ أبي هريرةَ،
(1)
وقال ابن حبان في "الثقات"(4/ 185): "حرام بن سعد، يروي قصة ناقة البراء ولم يسمع من البراء، وقيل: إنه يروي عن أبيه عن البراء".
(2)
في "السنن الكبرى"(8/ 341) و (8/ 342) و (8/ 341 - 342).
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 342).
(4)
سورة الأنبياء: الآية 78.
(5)
في (أ): "حضري فدل".
(6)
في "المسند"(2/ 239، 254، 274، 285، 415، 475، 495، 501).
(7)
البخاري رقم (1499)، رقم (6912)، ومسلم رقم (1710). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3085)، والنسائي (5/ 45)، والترمذي رقم (642)، والحميدي رقم (1079)، والبيهقي (4/ 155)، والطيالسي رقم (2305)، من طريق سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأحمدَ
(1)
والنسائيِّ
(2)
وابنِ ماجهْ
(3)
عنْ عمرَ وابنِ عوفٍ وفيهِ زيادةٌ ولكنَّهُ قالَ الطحاويُّ: مذهبُ أبي حنيفةَ أنهُ لا ضمانَ إذا أرسلَها معَ حافظٍ، وأما إذا أرسلَها منْ دونِ حافظٍ فإنهُ يضمنُ، وكذَا المالكيةُ يقيِّدون ذلكَ بما إذا سرحتِ الدوابُّ في مسارحِها المعتادةِ للرَّعْي، وأما إذا كانتْ في أرضٍ مزروعةٍ لا مسرحَ فيها فإنَّهم يضمنونَ ليلًا أوْ نهارًا.
وفي المسألةِ أقوالٌ أُخَرُ لا تناسبُ هذا النصَّ ولا دليلَ لها [تقاومه، فالعمل بما أفادته الآية والنص متعين الحديث]
(4)
.
هل يستتاب المرتد أم لا
5/ 1127 - وَعَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه في رَجُلٍ أَسْلَمَ ثمّ تَهَوَّدَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَأُمِرَ بِهِ فَقُتِلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
. وفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ
(6)
: وَكَانَ قَدِ اسْتُتِيبَ قَبْلَ ذلِكَ. [صحيح]
(وعنْ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه في رجلٍ أَسْلَمَ ثمَّ تهوَّدَ: لا أجلسُ حتَّى يُقْتَلَ قضاءُ اللهِ
(1)
لم يخرجه أحمد في مسنده، وليس لعمرو بن عوف في مسند الشاميين (4/ 137)، سوى حديثين، وفي مسند ابن عباس (1/ 306)، سوى حديث واحد، انظر:"ترتيب أسماء الصحابة لابن عساكر"(ص 86).
(2)
لم يخرجه النسائي، وقد عزاه لابن ماجه فقط المزي في "تحفة الأشراف"(8/ 168).
(3)
في "السنن" رقم (2674). وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 349 رقم 944/ 2674): "هذا إسناد ضعيف، كثير بن عبد اللهِ كذبه الشافعي وأبو داود، وضعفه أحمد وابن معين، وقال ابن عبد البر: مجمع على ضعفه. قلت: وهذا الحديث رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده هكذا بالإسناد والمتن وزاد في آخره: "وفي الركاز الخمس". وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة اهـ. والخلاصة أن الحديث حسن بما قبله، واللهُ أعلم.
(4)
زيادة من (أ).
(5)
البخاري رقم (6923)، ومسلم رقم (1733).
(6)
في "السنن" رقم (4355).
ورسولِه)، [جاز]
(1)
في قضاءٍ رفْعُه على أنهُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، ونصْبُه على أنهُ مصدرٌ حُذِفَ فعلُه، وهُوَ [يريد]
(2)
حديثَ: "مَنْ بدَّلَ دينَه فاقتلُوه"، سيأتي مَنْ [أخرجه
(3)
]
(4)
، (فَأمِرَ بهِ فَقُتِلَ. متفقٌ عليهِ. وفي روايةِ لأبي داودَ كانَ قدِ استُتِيْبَ قبلَ ذلكَ).
الحديثُ دليلٌ علَى أنهُ يجبُ قتلُ المرتدِّ وهوَ إجماعٌ، وإنَّما وقعَ الخلافُ هلْ تجبُ استتابتُه قبلَ قَتْلِهِ أَوْ لا؟ ذهبَ الجمهورُ إلى وجوبِ الاستتابةِ لما [ورد]
(5)
في رواية أبي داودَ
(6)
هذهِ، ولهُ في روايةٍ أُخرى فدعاهُ أبو موسَى عشرينَ ليلةً أوْ قَرِيبًا منْها وجاءَ معاذٌ فدعاهُ فأَبَى فضرَبَ عنقَه. وذهبَ الحسنُ وطاوسُ وأهلُ الظاهرِ وآخرونَ إلى عدمِ وجوبِ استتابةِ المرتدِ وأنهُ يُقْتَلُ في الحالِ مستدلِّينَ بقولِه صلى الله عليه وسلم:"منْ بدَّلَ دِيْنَهُ فاقتلُوه"
(7)
، يعني والفاءُ تفيد التعقيبَ كما لا يخْفَى، ولأنَّ حكمَ المرتدِّ حكمُ الحربيِّ الذي بلغتْهُ الدعوةُ فإنهُ يُقَاتَلُ مِنْ دونِ أنْ يُدْعَى، قالُوا: وإنما شُرِعَتِ الدعوةُ لمنْ خرجَ عنِ الإسلامِ لا عنْ بصيرةٍ، وأما مَنْ خرجَ عنْ بصيرةٍ فلا.
وعنِ ابنِ عباسٍ وعطاءٍ إنْ كانَ أصلُه مُسْلِمًا لم يُسْتَتَبْ وإلَّا اسْتُتِيْبَ، نَقَلَه عنْهما الطحاويُّ. ثمَّ للقائلينَ بالاستتابةِ خلافٌ آخَرُ وهوَ أنهُ هلْ يكفي مرةً أو لا بدَّ منْ ثلاثٍ في مجلسٍ، أوْ في يومٍ أوْ في ثلاثةِ أيامٍ؟ ويُرْوَى عنْ عليٍّ يستتابُ شَهْرًا.
6/ 1128 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(8)
. [صحيح]
(1)
في (ب): "جوَّز".
(2)
فى (ب): "يشير إلى".
(3)
في الحديث الآتي رقم (6/ 1126) من كتابنا هذا.
(4)
في (ب): "خرَّجه".
(5)
زيادة من (أ).
(6)
في "السنن" رقم (4356).
(7)
في الحديث الآتي رقم (6/ 1128) من كتابنا هذا.
(8)
في "صحيحه" رقم (6922). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4351)، والترمذي رقم (1458)، وابن ماجه رقم (2535)، والنسائي (7/ 104)، وأحمد (1/ 217، 282)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (18706)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(10/ 139 رقم 9041).
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ بدَّلَ دِيْنَهُ فاقتلُوه. رواهُ البخاريُّ).
الحديثُ دليلٌ على وجوبِ قَتْلِ مَنْ بدَّلَ دينَه كما تقدَّم وهوَ عامٌّ للرجلِ والمرأةِ، والأَوَّلُ إجماعٌ وفي الثاني خلافٌ. ذهبَ الجمهورُ إلى أنَّها تُقْتَلُ المرأةُ المرتدَّةُ لأنَّ كلمةَ "مِنْ" هُنَا تعمُّ الذَّكَرَ والأُنْثَى
(1)
، ولأنهُ أخرجَ ابنُ المنذرِ عنِ ابنِ عباسٍ راوي الحديثِ أنهُ قالَ:"تُقْتَلُ المرأةُ المرتدَّةُ"، ولمَا أخْرَجَهُ هوَ والدارقطنيُّ:"أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه قَتَلَ امرأةً مرتدَّةً في خلافتِه والصحابةُ متوافرونَ ولم ينكرْ عليهِ أحدٌ"
(2)
وهوَ حديثٌ حسنٌ. وأخرجَ أيضًا
(3)
حديثًا مرفُوعًا في قَتْلِ المرأةِ ولكنَّه حديثٌ ضعيفٌ، وقدْ وقعَ في حديثِ معاذٍ
(4)
حينَ بعثَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمنِ أنهُ قالَ لهُ: "أيُّما رجلٍ ارتدَّ عنِ الإسلامِ فادْعُه فإنْ عادَ وإلا فاضربْ عُنُقَهُ، وأيُّما امرأةٍ ارتدَّتْ عن الإسلامِ فادعُها فإنْ عادتْ وإلا فاضربْ عُنُقَها"، وإسنادُه حَسَنٌ وهوَ نصٌّ في محلِّ النِّزاعِ.
وذهبَ الحنفيةُ إلى أنَّها لا تقتلُ المرأةُ إذا ارتدتْ، قالُوا لأنهُ قدْ وردَ عنْهُ صلى الله عليه وسلم
(1)
انظر: "المغني" لابن قدامة (12/ 264 وما بعدها).
(2)
وخلاصة مذهب أبي بكر الصديق أن عقوبة الردة القتل بعد الاستتابة إذا كان المرتد فردًا سواء كان رجلًا أو امرأة. وقد ثبت أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، قتل نسوة ارتددن عن الإسلام - كما في "سنن البيهقي"(8/ 204)، وقتل امرأة يقال لها أم قرفة في الردة - كما في "سنن البيهقي"(8/ 204). وأما إذا كان المرتدون جماعة ولهم منعة فإنهم يُستتابون فإن لم يتوبوا يقاتلون فيقتل الرجال ويُسبى النساء والأولاد، كذلك فعل أبو بكر بأهل الردة - كما في مصنف عبد الرزاق (10/ 176 رقم 18728)، و"السنن للبيهقي"(8/ 201) - فقد استرق نساء بني حنيفة وذراريهم - من جملة من استرق - وأعطى عليًا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية - كما في "المغني" لابن قدامة (12/ 264 - 265) و"الطبقات" لابن سعد (5/ 91).
(3)
الدارقطني في "السنن"(3/ 119 رقم 125)، عن جابر وفي سنده ضعف شديد، وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(4/ 1530)، وقال فيه عبد اللهِ بن أذينة منكر الحديث. وانظر:"فتح الباري"(12/ 272).
(4)
أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد"(6/ 263)، وقال الهيثمي:"وفيه راو لم يسم، قال: مكحول عن ابن أبي طلحة اليعمري، وبقية رجاله ثقات" اهـ.
وقال ابن حجر في "فتح الباري"(12/ 272): عقبة: "وسنده حسن".
النهيُ عنْ قتلِ النساءِ لما رأَى امرأةً مقتولةً وقالَ: ما كانتْ هذهِ لِتُقَاتِلَ. رواهُ أحمدُ
(1)
.
وأجابَ الجمهورُ بأنَّ النَّهْيَ إنَّما هوَ عنْ قتلِ [المرأةِ]
(2)
الكافرةِ الأصْلِيَّةِ كما وقعَ في سياقِ قصةِ النَّهْي فيكونُ النَّهْيُ مخصُوصًا بما فُهِمَ منَ العلَّةِ وهوَ لما كانتْ لا تقاتلُ، فالنَّهْيُ عنْ قَتْلِهَا إنَّما هوَ لِتَرْكِهَا المقاتلةَ فكانَ ذلكَ في دينِ الكفارِ الأصليينَ المتحزبينَ للقتالِ وبقيَ عمومُ قولِه مَنْ بدَّلَ دينَه [فاقتلوه]
(3)
سالمًا عنِ المعارضِ وأيَّدَتْهُ الأدلةُ التي سلَفتْ.
واعلمْ أنَّ ظاهرَ الحديثِ إطلاقُ التبديلِ فيشملُ [من كان نصرانيًا ثم تهوَّد والعكس وكذا غيره]
(4)
منَ الأديانِ الكفريةِ، وإلى هذَا ذهبتِ الشافعيةُ، وسواءٌ كانَ مِنَ الأديانِ التي تقرَّرت بالجزيةِ أمْ لا لإطلاقِ هذَا اللفظِ، وخالفتِ الحنفيةُ في ذلكَ وقالُوا: ليسَ المرادُ إلَّا تبديلَ الكفرِ بعدَ الإسلامِ، قالُوا: وإطلاقُ الحديثِ متروكٌ اتفاقًا في حقِّ الكافرِ إذا أسلمَ معَ تناولِ الإطلاقِ وبأنَّ الكفرَ ملةٌ واحدةٌ، فالمرادُ مَنْ بدَّلَ دينَ الإسلامِ بدينٍ آخرَ، فإنهُ قدْ أخرجَ الطبرانيُّ
(5)
منْ حديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا: "مَنْ خالَفَ دينَه دينَ الإسلامِ فاضربُوا عنقه"، فصرَّحَ بدينِ الإسلامِ.
حكم من سب النبيَ صلى الله عليه وسلم
-
7/ 1129 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ أَعْمى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلَا تَنْتَهِي، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَخَذَ الْمِعْوَلَ،
(1)
في "المسند"(3/ 488). قلت: وأخرجه الحاكم (2/ 122) عن أبي الزناد
…
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قلت: والحديث صحيح لأن المرقع بن صيفي لم يرو له الشيخان شيئًا وهو ثقة.
(2)
زيادة من (أ).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
في (ب): "من تنصَّر بعد أن كان يهوديًا وغير ذلك".
(5)
أخرجه الطبراني - كما في "مجمع الزوائد"(6/ 263)، وقال الهيثمي:"وفيه الحكم بن أبان وهو ضعيف".
فَجَعَلَهُ في بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"أَلَا اشْهَدُوا فَإِنَّ دَمَهَا هَدَرٌ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ أعْمى كانتْ لهُ أمُّ ولدٍ تشتمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وتقعُ فيهِ فينْهاها فلا تنتهي فلمَّا كانَ ذاتَ ليلةٍ أخذَ المِعْوَلَ) بكسرِ الميمِ وعينٍ مهملةٍ وفتحِ الواو [الحديدة ينقر بها الجبال]
(2)
(فجعلَه في بطْنِها واتَّكأَ عليهِ فقتلَها فبلغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: ألا اشْهَدُوا أن دَمها هَدَرٌ. رواهُ أبو داودَ ورواتُه ثِقَاتٌ).
الحديثُ دليلٌ على أنهُ يُقْتَلُ منْ سبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويُهْدَرُ دمُه، [فإنْ] كانَ مُسْلِمًا كان سبُّه لهُ صلى الله عليه وسلم رِدَّةً فيقتلُ، قالَ ابنُ بطَّالٍ من غيرِ استتابةٍ. ونقلَ ابنُ المنذرِ عن الأوزاعيِّ والليثِ أنهُ يستتابُ، وإنْ كانَ منْ أهلِ العهدِ فإنهُ يقتلُ إلَّا أنْ يُسْلِمُ.
ونقلَ ابنُ المنذرِ عنِ الليثِ والأوزاعيِّ والشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ أنهُ يُقْتَلُ أيضًا من غيرِ استتابةٍ، وعنِ الحنفيةِ أنهُ يُعَزَّرُ المعاهِدُ ولا يُقْتَلُ، واحتجَّ الطحاويُّ بأنهُ صلى الله عليه وسلم لم يقتلِ اليهودَ الذينَ قالُوا السَّامُ عليكَ
(3)
ولوْ كانَ هذا مِنْ مسلمٍ لكانَ رِدَّةً ولأنَّ ما همْ عليهِ منَ الكفرِ أشدُّ منَ السبِّ.
قلتُ: يؤيدُه أنَّ كفرَهم بهِ صلى الله عليه وسلم معناهُ أنهُ كذابٌ وأيُّ سبٍّ أفحشُ منْ هذَا وقدْ أُقرُّوا عليهِ، إلا أنْ يُقَالَ: إنَّ هذا النصَّ في حديثِ الأَمةِ يقاسُ عليهِ أهلُ الذِّمةِ. وأما القولُ بأنَّ دماءَهمْ إنما حُقِنَتْ بالعهدِ وليسَ في العهدِ أنَّهم لا يسبُّونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فمنْ سبَّهُ منْهم انتقضَ عهدُه فيصيرُ كافرًا بلا عهدٍ فَيُهْدَرُ دمُه، فقدْ يُجَابُ عنهُ أنَّ عهدَهم تضمَّنَ إقرارَهم على تكذيبِهم لهُ صلى الله عليه وسلم وهوَ أعظمُ سبٍّ إلَّا أنْ يقالَ يُخَصُّ منْ بينِ غيرِهِ منَ السبِّ، واللهُ أعلمُ.
(1)
في "السنن" رقم (4361). قلت: وأخرجه النسائي (7/ 107 - 108)، وهو حديث صحيح.
(2)
زيادة من (أ).
(3)
يشير المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (5206)، والترمذي رقم (1603) وقال: حديث حسن صحيح. من حديث ابن عمر أنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن اليهودَ إذا سلَّمَ عليكم أحدُهم فإنما يقول: السَّامُ عليكم، فقولوا: وعليكم"، وهو حديث صحيح.
بسم الله الرحمن الرحيم
[الكتاب الثاني عشر] كتاب الحدود
الحدودُ جَمْعُ حدٍّ، [والحدُّ أصْلُه]
(1)
ما يُحْجَزُ بين [الشيئين]
(2)
فَيَمْنَعُ اختلاطَهما، سُمِّيَتْ هذهِ العقوباتُ حدودًا لكونِها تمنعُ عنِ المعاودةِ، ويُطْلَقُ الحدُّ على التقديرِ.
وهذهِ الحدودُ مقدَّرةٌ منَ الشارع، ويُطْلَقُ الحدُّ على نفسِ المعاصي نحوَ قوله تعالَى:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}
(3)
وعلى فعلٍ فيهِ شيءٌ مقدَّرٌ نحوَ قولِه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
(4)
.
[الباب الأول] باب حد الزاني
حدُّ الزاني غير المحصَن
1/ 1130 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَزيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْشُدُكَ اللهَ إِلا قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَقالَ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ وَأْذَنْ لي، فَقَالَ:"قُلْ"، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا،
(1)
في (أ): "وأصل الحد".
(2)
في (ب): "شيئين".
(3)
سورة البقرة: الآية 187.
(4)
سورة الطلاق: الآية 1.
فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْني الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُوني أَنَّ عَلَى ابْني جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِينَّ بَينَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةِ وَتَغْرِيبُ عَامِ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
، وَهذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. [صحيح]
(عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه وزيدِ بنِ خالدٍ الجهنيِّ أنَّ رجلًا منَ الأَعْرَابِ أَتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ اللهِ أَنْشُدُكَ) قالَ في "الفتح"
(2)
: ضمَّنَ أنشدكَ أذكركَ فحذفَ الباءَ أي أذكِّرُكَ اللهَ رافعًا نشدتي أي صوتي، وهوَ بفتحِ أوله ونون ساكنةٍ وضمِّ الشِّينِ المعجمةِ أي أسألُك (اللهَ إلَّا قضيتَ لي بكتابِ اللهِ تعالَي) استثناءٌ مفرَّغٌ إذِ المعنَى لا أنشدكَ إلَّا القضاءَ بكتاب اللهِ (فقالَ الآخَرُ وهوَ أفقهُ منهُ) كأنَّ الراوي يعرفُ أنهُ أفقهُ أوْ منْ كونهِ سألَ أهَلَ الفقهِ (نعمْ فاقضْ بينَنا بكتابِ اللهِ وائذنْ لي فقالَ: قلْ، فقال: إنَّ ابْني كانَ عَسِيْفًا) بالعينِ المهملةِ والسينِ المهملةِ فمثناةٍ تحتيةٍ ففاءٍ بزنة أجير ومعناه، (على هذَا: فَزَنَى بامرأتِه. وإني أُخْبرتُ أنَّ على ابْني الرَّجْمَ فافتديتُ منهُ بمائةِ شاةٍ ووليدةٍ، فسألتُ أهلَ العلمِ فأخبروني أنَّ على ابْني جلدَ مائةٍ وتغريبَ عامٍ وأنَّ على امرأةِ هذَا الرَّجْمَ، فقالَ رسولُ اللهِ: والذي نفسي بيدِه لأقضينَّ بينَكُما بكتابِ اللهِ: الوليدةُ والغنمُ رد عليك) أي مردود عليك،
(1)
أخرجه البخاري رقم (2695) و (2696) و (6827) و (6828) و (7193) و (7194) و (7278) و (7279)، ومسلم رقم (25/ 1697/ 1698). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4445)، والنسائي (8/ 240، 241)، والترمذي رقم (1433)، وابن ماجه رقم (2549)، والدارمي (2/ 177)، وأحمد (4/ 115 - 116)، والحميدي رقم (811)، والطيالسي رقم (953) و (2514)، وابن حبان في صحيحه (6/ 305 رقم 4420)، والطحاوي في "المشكل"(1/ 21 - 22)، والبيهقي (8/ 212، 213، 222)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 274 - 275) من طريق الزهري عن عبيد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشِبْل.
(2)
"فتح الباري"(12/ 138).
ومعناه يجب ردها لأن الحدود لا تقبل الفداء (وعلى ابنِكَ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عامٍ) كأنهُ صلى الله عليه وسلم قدْ علمَ أنهُ غيرُ محصَنٍ وقدْ كانَ اعترفَ بالزِّنَى (واغدُ يا أُنَيْسُ) تصغيرُ أَنَسٍ
(1)
رجلٌ منَ الصحابةِ لا ذِكْرَ لهُ إلَّا في هذا الحديثِ [وهو عبد أنس بن مالك]
(2)
(إلى امرأةِ هذَا فإنِ اعترفتْ فارجُمْها. متفقٌ عليهِ وهذا اللفظُ لمسلمٍ).
الحديثُ دليلٌ على وجوبِ الحدِّ على الزاني غيرِ المحصَنِ مائةِ جلدةٍ وعليهِ دلَّ القرآنُ، وأنهُ يجبُ عليهِ تغريبُ عامٍ وهوَ زيادةٌ على ما دلَّ عليهِ القرآنُ، ودليلٌ علَى أنهُ يجبُ الرَّجْمُ على الزَّاني المحصَنِ وعلَى أنهُ [يكتفي]
(3)
في الاعترافِ بالزِّنَى مرةً واحدةً كغيرِه منْ سائرِ الأحكامِ، وإلى هذَا ذهبَ الحسنُ ومالكٌ والشافعيُّ وداودُ وآخرونَ
(4)
وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ والحنابلةُ وآخرونَ
(5)
إلى أنهُ يُعْتَبَرُ في الإقرارِ بالزِّنَى أربعُ مراتٍ مستدلِّينَ بما يأْتي منْ قصةِ ماعِز ويأتي الجوابُ عنهُ في [شرحه]
(6)
.
وأمْرُهُ صلى الله عليه وسلم أُنَيْسًا بِرَجْمِها بعدَ اعترافِها دليلٌ لِمَنْ قالَ بجوازِ حُكْمِ الحاكمِ في الحدودِ ونحوِها بما أقرَّ بهِ الخصمُ عندَه وهوَ أحدُ قولَيْ الشافعيِّ وبهِ قالَ أبو ثورٍ كما نقلَه [القاضي]
(7)
عياضٌ.
وقالَ الجمهورُ: لا يصحُّ ذلكَ، قالُوا: وقصةُ أُنَيْسٍ [يتطرقها]
(8)
احتمالُ الأَعذَارِ وأنَّ قولَه فارجمْها بعدَ إعلامي أوْ أنهُ فوَّضَ الأمرَ إليهِ، والمعنَى فإذا اعترفتْ بحضرةِ مَنْ يثبتُ ذلكَ بقولهم حَكَمْتَ.
قلتُ: ولا يخْفَى أنَّ هذهِ تكلَّفاتٌ، واعلمْ أنهُ صلى الله عليه وسلم لم يبعثْ إلى المرأةِ لأَجْلِ
(1)
هو أنيس بن الضحاك الأسلمي، وغلط من زعم أنه أنس بن مالك، صغَّره النبي صلى الله عليه وسلم عند خطابه.
(2)
زيادة من (أ).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
انظر: "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (ص 385)، و"مغني المحتاج"(4/ 150)، و"موسوعة فقه الحسن البصري"(1/ 157)، و"الإمام داود الظاهري"(ص 669).
(5)
انظر: "المغني"(10/ 160 مسألة رقم 7172)، و"الاعتصام" للقاسم بن محمد (5/ 71) و"شرح فتح القدير" لابن الهمام (5/ 53).
(6)
في (ب): "شرح حديثه".
(7)
زيادة من (ب).
(8)
في (ب): "يطرقها".
إثباتِ الحدِّ عليْها فإنهُ صلى الله عليه وسلم قدْ أمرَ باستتارِ مَنْ أَتَى بفاحشةٍ وبالسترِ عليهِ ونَهَى عنِ التجسسِ، وإنَّما [بعثَ إليها]
(1)
لأنَّها لما قُذِفَتِ المرأةُ بالزنى بعثَ إليها صلى الله عليه وسلم لتنكرَ [أو تطالب]
(2)
بحدِّ القذفِ أوْ تقرَّ بالزِّنى فيسقطَ عنهُ، فكانَ منْها الإقرارُ فأوجبتْ على نفسِها الحدَّ. ويؤيدُ ما أخرجَهُ أبو داودَ
(3)
والنسائي
(4)
عنِ ابنِ عباسٍ: "أنَّ رجلًا [أقرَّ أنهُ]
(5)
زَنَى بامرأةٍ فجلدَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مائةً ثمَّ سألَ المرأةَ فقالتْ: كذبَ، فجلدَه جَلْدَ الفِرْيَةِ ثمانينَ". وقدْ سكتَ عليهِ أبو داودَ وصحَّحَهُ الحاكمُ
(6)
واستنكرَهُ النسائيُّ.
تغريب الزاني
2/ 1131 - وَعَنْ عُبَادَةُ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُدُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَة وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبِ بالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(7)
. [صحيح]
(وعنْ عبادةَ بنِ الصامتِ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: خُذُوا عنِّي خذُوا عنِّي فقد جعلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جلدُ مائةٍ ونَفْيُ سَنَةٍ، والثيِّبُ بالثَّيبِ جلدُ مائةٍ والرَّجْمُ. رواهُ مسلمٌ)، إشارةٌ إلى قولِه تعالى:{أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}
(8)
، بَيَّنَ [فيه] أنهُ قدْ جعلَ اللهُ تعالَى لهنَّ السبيلَ بما ذكرَهُ [منَ الحكْمِ]
(9)
.
(1)
في (ب): "ذلك".
(2)
في (ب): "فتطالب".
(3)
في السنن رقم (4467).
(4)
في "السنن الكبرى"(4/ 324 رقم 7348)، و"أطراف المزي" (4/ 464 رقم 5664) وقال: منكر.
(5)
زيادة من (ب).
(6)
في "المستدرك"(4/ 370)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي بقوله: ضعيف. والخلاصة أن حديث ابن عباس منكر.
(7)
في "صحيحه" رقم (12/ 1690). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4415)، والترمذي رقم (1434)، وابن ماجه رقم (2250)، وأحمد (5/ 313)، والدارمي (2/ 181)، والطيالسي رقم (584)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 221 - 224)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 134).
(8)
سورة النساء: الآية 15.
(9)
زيادة من (أ).
وفي الحديثِ [فيه] مسألتانِ:
الأُولَى:
حكمُ البِكْرِ إذا زَنَى، والمرادُ بالبكرِ عندَ الفقهاءِ الحرُّ البالغُ الذي لم يجامعْ في نكاحٍ صحيحٍ. وقولُه (بالبِكْرِ) هذا خرجَ مَخْرَجَ الغالبِ لا أنهُ يرادُ بهِ مفهومَهُ فإنهُ يجبُ علَى البِكْرِ الجلدُ سواءٌ كانَ معَ بِكْرٍ أو ثَيِّبٍ كما في قصةِ العسيفِ. وقولُه:(ونَفْيُ سنةٍ) فيهِ دليلٌ على وجوبِ التغريبِ للزاني البِكْرِ عامًا وأنهُ منْ تمامِ الحدِّ، وإليهِ ذهبَ الخلفاءُ الأربعةُ ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ
(1)
وغيرُهُم وادَّعَى فيهِ الإجماعَ.
وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ
(2)
إلَى أنهُ لا يجبُ التغريبُ، واستدلَّ الحنفيةُ بأنهُ لم يذكرْ في آيةِ النُّورِ، فالتغريبُ زيادةٌ علَى النصِّ وهوَ ثابتٌ بخبرِ الواحدِ فلا يُعْمَلُ بهِ فلا يكونُ ناسِخًا.
وجوابُه أنَّ الحديثَ مشهورٌ لكثرةِ طُرقِهِ وَكثرةِ مَنْ عَمِلَ بهِ منَ الصحابةِ، وقدْ عملتِ الحنفيةُ بِمِثْلِهِ بلْ بدونِهِ كنقضِ الوضوءِ منَ القهقهةِ
(3)
وجوازِ الوضوءِ بالنبيذِ
(4)
وغيرِ ذلكَ مما هوَ زيادةٌ على ما في القرآنِ وهذا مِنْهُ.
وقالَ أبنُ المنذرِ: أقسمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قصةِ العسيفِ أنهُ يقضي بكتابِ اللهِ ثمَّ قالَ: "إنَّ عليهِ جلدَ مائةٍ وتغريبَ عامٍ"، وهوَ المبيِّنُ لكتابِ اللهِ. وخطبَ بذلكَ عمرُ على رؤوسِ المنابرِ
(5)
وكأنَّ الطحاويَّ لما رَأَى ضَعْفَ جوابِ الحنفيةِ هذا أجابَ عنْهم بأنَّ حديثَ التغريبِ منسوخٌ بحديثِ: "إذا زَنَتْ أمةُ أحدِكم فليجلدْها ثمَّ قالَ في الثالثةَ فليبعْها"
(6)
والبيعُ يفوِّتُ التغريبَ، قالَ: وإذا سقطَ عنِ
(1)
"قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (384)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 147)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 129 - 130، رقم 7143).
(2)
"الاعتصام" للقاسم بن محمد (5/ 57 - 58)، و "شرح فتح القدير" لابن الهمام (5/ 17).
(3)
لم تثبت أحاديث نقض الوضوء من القهقهة.
(4)
تقدم ذكره في باب الطهارة.
(5)
انظر: "موسوعة فقه عمر لقلعه جي"(481).
(6)
البخاري (2153، 2154) و (2232) و (2555 - 2556) و (رقم 6837 - 6838)، ومسلم (1703). والترمذي (1440)، وقال: حديث حسن صحيح. وأبو داود (4469)، و (4470) =
الأَمَةِ سقطَ عنِ الحرَّةِ لأنَّها في معْنَاهَا، قالَ: ويتأكَّدُ بحديثِ: لا تسافرِ المرأةُ إلَّا معَ ذي مَحْرَمٍ
(1)
. قالَ: وإذا انتفَى عنِ النساءِ انتَفَى عنِ الرجالِ، انتَهى
(2)
. وفيهِ ضَعْفٌ لأنهُ مبنيٌّ على أنَّ العامَّ إذا خُصَّ لمْ يبقَ دليلًا، وهوَ ضعيفٌ كما عُرِفَ في الأصولِ.
ثمَّ نقولُ: الأَمَةُ خُصِّصَتْ منْ حُكْمِ التغريبِ، وكانَ الحديثُ عامًا في [حكم الذكر]
(3)
والأُنْثَى والأَمَةِ والعبدِ، فخصِّصت منهُ الأَمَةُ وبقيَ ما عدَاها داخلًا تحتَ الحكْمِ. واستدلَّ الهادويةُ بما ذكرهُ المهدي في "البحرِ"
(4)
منْ قولِه.
قلتُ: التغريبُ عقوبةٌ لا حدَّ، لقولِ عليٍّ
(5)
: "جلدُ مائةٍ وحبسُ سَنَةٍ"، ولنفي عمرَ في الخَمرِ
(6)
ولم ينكرْ، ثمَّ قالَ: لا أنفي بعدَها أحدًا والحدودُ لا تسقطُ، انتَهى؛ ولا يخْفَى ضعفُ ما قالَهُ.
أمَّا كلامُ عليٍّ رضي الله عنه فإنهُ مؤيِّدٌ لما قالَه الجماهيرُ، فإنهُ جعلَ الحبْسَ عوضًا عنِ التغريبِ فهوَ نوعٌ منهُ، وأما نفيُ عمرَ في الخمرِ فاجتهادٌ منهُ وزيادةً في العقوبةِ، ثمَّ ظهرَ لهُ أنه لا ينفيَ أحدًا باجتهادِه، والنفيُ بالزنى بالنصِّ ويُرْوَى عنْ عليٍّ عليه السلام.
وقالَ مالكٌ والأوزاعيُّ
(7)
إنَّ المرأةَ لا تُغَرَّبُ، قالُوا: لأنَّها عورةٌ وفي نَفْيهَا تضييعٌ لها وتعريضٌ للفتنةِ، ولِهذَا نُهِيَتْ [أن تسافرَ]
(8)
معَ غيرِ مَحْرَمٍ، ولا يخْفَى أنهُ لا يردُّ ما ذكروه لأنهُ قدْ شرطَ مَنْ قالَ بالتغريبِ أنْ [تكون]
(9)
معَ مَحْرَمِهَا
= و (4471) وابن ماجه (2565).
من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما.
(1)
أخرجه البخاري (1087) و (1086)، ومسلم (413 - 1338)، وأبو داود (1727) من حديث ابن عمر.
(2)
"شرح معاني الآثار" للطحاوي (3/ 137).
(3)
في (ب): "حكمة للذكر".
(4)
"البحر الزخار" للمهدي (5/ 147).
(5)
انظر: "موسوعة فقه علي" لقلعه جي (321 - 323).
(6)
انظر: "موسوعة فقه عمر" لقلعه جي (105 - 106).
(7)
"قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (384).
(8)
في (ب): "عن السفر".
(9)
في (أ): "يكون".
وتكون أُجْرَتُه منْها إذْ وجبتْ بجنايتِها، وقيلَ في بيتِ المالِ كَأُجْرَةِ الجلَّادِ. وأما الرق فإنهُ ذهبَ مالكٌ وأحمدُ وغيرُهما
(1)
إلى [أن]
(2)
لا يُنْفَى قالُوا: لأنَّ نَفْيَهُ عقوبةٌ لمالكِه لمنعهِ نفعَه مُدَّةَ [تغريبه]
(3)
وقواعدُ الشرعِ قاضيةٌ أنهُ لا يُعَاقَبَ إلا الجاني ومِنْ ثم سقطَ فرضُ الجهادِ والحجِّ على المملوكِ.
وقالَ الثوريُّ وداودُ
(4)
: يُنْفَى لعمومِ أدلةِ التغريبِ وبقوله تعالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(5)
وينصفُ في حقِّ المملوكِ لعمومِ الآيةِ.
وأما مسافةُ التغريبِ فقالُوا أقلُّها مسافةُ القصرِ لتحصلَ الغربةُ. وغرَّبَ عمرُ منَ المدينةِ إلى الشامِ
(6)
، وغرَّبَ عثمانُ إلى مصرَ
(7)
. ومَنْ كانَ غريبًا لا وطنَ لهُ غُرِّبَ إلى غيرِ البلدِ التي واقعَ فيها المعَصيةَ.
المسالةُ الثانيةُ:
في قولِه: "والثيِّبُ بالثيِّبِ"، المرادُ بالثيِّبِ مَنْ قدْ وَطِئَ في نكاحٍ صحيحٍ وهوَ حرٌّ بالغٌ عاقلٌ، والمرأةُ مثلُهُ. وهذا الحكمُ يستوي فيهِ المسلمُ والكافرُ، والحكمُ هوَ ما دلَّ لهُ قولُه جلدُ مائةٍ والرجمُ فإنهُ أفادَ أنهُ يجمعُ للثيِّبِ بينَ الجلدِ والرجمِ وهوَ قولُ عليٍّ عليه السلام كما أخرجَهُ البخاريُّ
(8)
: "أنهُ جلدَ شراحةَ يومَ الخميسِ ورجمَها يومَ الجمعةِ وقالَ: جلدتُها بكتابِ اللهِ، ورجمتُها بسنةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ".
قالَ الشعبيُّ
(9)
: قيلَ لعليٍّ عليه السلام جمعتَ بينَ حدَّيْنِ، فأجابَ بما ذكرَ.
(1)
"قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (384)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 138 رقم 7150).
(2)
في (ب): "أنه".
(3)
في (ب): "غربته".
(4)
"موسوعة فقه الثوري" لقلعه جي (478 - 479)، و"الإمام داود الظاهري" عارف أبو عيد (669).
(5)
سورة النساء: الآية 25.
(6)
"موسوعة فقه عمر" لقلعه جي (480).
(7)
"موسوعة فقه عثمان" لقلعه جي (165).
(8)
بنحوه في "صحيحه": عن علي رضي الله عنه حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال: قد رجمتها بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فتح الباري"(12/ 6812)، و"سنن الدارقطني"(3/ 123 - 124 رقم 136 و 137 و 138 و 139)، والنسائي من "السنن الكبرى"(4/ 269 - 270 رقم 7140/ 1 و 7141/ 2).
(9)
"سنن الدارقطني"(3/ 122 - 123 رقم 135).
قالَ الحازميُّ
(1)
: وذهبَ إلى هذا أحمدُ وإسحاقُ وداودُ وابنُ المنذرِ وهوَ مذهبُ الهادويةِ
(2)
وذهبَ غيرُهمُ إلى أنهُ لا يُجْمَعُ بينَ الجلدِ والرَّجْمِ، قالُوا: وحديثُ عبادةَ منسوخٌ بقصةِ ماعزٍ والغامدية والجهنية واليهوديين، فإنهُ صلى الله عليه وسلم رجمهُم ولم يُرْوَ أنهُ جلَدَهُم. قالَ الشافعيُّ
(3)
: فدلتِ السُّنَّةُ على أنَّ الجلدَ ثابتٌ على البِكْرِ ساقِطٌ عنِ الثيِّبِ، قالُوا: وحديثُ عبادةَ مقدَّمٌ.
وأُجِيْبَ بأنهُ ليسَ في قصةِ ماعزٍ ومنْ ذكرَ معهُ على تقديرِ تأخُّرِها تصريحٌ بسقوطِ الجلْدِ عنِ المرجومِ لاحتمالِ أنْ يكونَ تركَ روايتِه لوضوحِه ولكونِه الأصلَ. واحتجَّ الشافعيُّ بنظيرِ هذَا حينَ عُورِضَ في إيجابِ العمرةِ
(4)
بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ مَنْ سأَلُه أنْ يحجَّ عنْ أبيهِ ولم يذكرِ العمرةَ، فأجابَ بأنَّ السكوتَ عنْ ذلكَ لا يدلُّ على سقوطِه، إلَّا أنهُ قدْ يُقَالُ إنَّ جَلْدَ مَنْ ذكرَ مِنَ الخمسةِ الذينَ رجمَهُم النبي صلى الله عليه وسلم لو وقعَ معَ كثرةِ مَنْ يحضرُ عذابَهما منْ طوائفِ المؤمنينَ لبعد أنهُ لا يرويْهِ أحدٌ ممنْ حضرَ، فعدمُ [إثباتِه]
(5)
في روايةٍ منَ الرواياتِ معَ تنوُّعِها واختلاف ألفاظِها دليلٌ أنهُ لم يقعِ الجلدُ فيقْوَى معهُ الظنُّ بعدمِ [وقوعه]
(6)
.
وفِعلُ عليٍّ عليه السلام ظاهرٌ أنهُ اجتهادٌ منهُ لقولِه جلدتُها بكتابِ اللهِ ورجمتُها بسنةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فإنهُ ظاهرٌ أنهُ عَمِلَ [برأيه في الجمع]
(7)
بينَ الدليليْنِ فلا يتمُّ القولُ بأنهُ توقيفٌ، وإن كان في قوله بسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشعر بأنهُ توقيفٌ.
قلتُ: ولا يخْفَى قوةُ دلالةِ حديثِ عبادةَ علَى إثباتِ جلدِ الثيِّبِ ثمَّ رجْمِه، ولا يخْفَى ظهورُ أنهُ صلى الله عليه وسلم لمْ يجلدْ مَنْ رَجمَهُ، فأنا أتوقَّفُ في الحكمِ حتَّى يفتحَ اللهُ وهوَ خيرُ الفاتحينَ. وكنتُ قدْ جزمْتُ في "منحةِ الغفَّارِ"
(8)
بقوةِ القولِ بالجمعِ بينَ الجلدِ والرَّجْمِ ثمَّ حصلَ لي التوقفُ هاهنا.
(1)
في "الاعتبار" للحازمي (473).
(2)
"الاعتصام" للقاسم بن محمد (5/ 61 - 62).
(3)
"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 146).
(4)
"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 460).
(5)
في (أ): "إتيانه".
(6)
في (ب): "وجوبه".
(7)
في (ب): "باجتهاده بالجمع".
(8)
وهي حاشية الأمير الصنعاني على "ضوء النهار
…
" المسمَّاة: "منحة الغفار على ضوء النهار" (4/ 2258).
الإقرار المعتبر في الزنى
3/ 1132 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: أَتى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ في الْمَسْجدِ فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِني زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحّى تِلْقَاءَ وَجْههِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِني زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ، فَلَمَّا شَهدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"أَبِكَ جُنُونٌ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا بهِ فَارْجُمُوهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: أَتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجلٌ وهو في المسجد فناداهُ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إني زنيتُ، فأعرضَ عنهُ فتنحَّى تلقاءَ وجْهِهِ) أي انتقلَ منْ الناحيةِ التي كانَ فيها إلى الناحيةِ التي يَسْتَقْبِلُ بها وجْهَهُ (فقالَ: يا رسولَ اللهِ إني زنيتُ، فأعرضَ عنهُ حتَّى ثنَّى ذلكَ عليهِ أربعَ مراتٍ، فلمَّا شهدَ على نفسه أربعَ شهاداتٍ دعاهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: أَبِكَ جنونٌ؟ قالَ: لا، قالَ: فهلْ أَحْصَنْتَ) بفتحِ الهمزةِ فحاءٍ مهملةٍ فصادٍ مهملةٍ أي تزوَّجْتَ (قالَ: نعمْ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اذهبُوا بهِ فارجمُوه. متفقٌ عليهِ).
الحديثُ [اشتملَ على]
(2)
مسائلَ:
الأُولى:
أنهُ وقعَ منهُ إقرارٌ أربعَ مراتٍ، [واختلف]
(3)
العلماءُ هلْ يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ الإقرارِ بالزِّنَى أربعًا أم لا؟ ذهبَ مَنْ [قدَّمناه وهو]
(4)
الحسنُ ومالكٌ والشافعيُّ وداودُ وآخرونَ
(5)
إلى عدمِ اشتراطِ التكرارِ مستدلِّينَ بأنَّ الأصْلَ عدمُ
(1)
البخاري (6815) و (6825)، ومسلم (16/ 1691). قلت: وأخرجه النسائي في "سننه الكبرى"(7177/ 4)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 289 رقم 2585)، وأحمد (2/ 453)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 213 - 214).
(2)
في (1): "فيه".
(3)
في (ب): "فاختلف".
(4)
في (ب): "قدمنا ذكره وهم".
(5)
انظر: "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (385)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 150)، و"موسوعة فقه الحسن البصري" لقلعه جي (1/ 157)، و"الإمام داود الظاهري" عارف أبو عيد (669).
اشتراطهِ في سائرِ الأقاريرِ كالقتلِ والسرقةِ، وبأنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لأُنَيْسٍ:"فإنِ اعترفتْ فارجمْها"
(1)
، ولم يذكرْ تكرارَ الاعترافِ، ولو كانَ شَرْطًا معتَبَرًا لَذَكَرهُ صلى الله عليه وسلم لأنهُ في مقامِ البيانِ ولا يؤخِّرُ عنْ وقتِ الحاجةِ.
وذهبَ الجماهيرُ إلى [اشتراط التكرار بالإقرار]
(2)
بالزِّنَى أربعَ مراتٍ مستدلينَ بحديثِ ماعزٍ
(3)
هذَا. وأُجِيْبَ عليهم بأنَّ حديثَ ماعزٍ اضطربتْ الرواياتُ في عددِ الإقراراتِ، فجاءَ هنا أربعُ مراتٍ ومثلُه في حديثِ جابرٍ بنِ سَمُرَةَ عندَ مسلمٍ
(4)
ووقعَ في [طريقه]
(5)
أُخْرَى عندَ مسلمٍ أيضًا مرتينِ أوْ ثلاثًا
(6)
، ووقعَ في حديثٍ عندَه أيضًا من طريقٍ أُخْرَى فاعترفَ بالزِّنَى ثلاثَ مراتٍ.
وقولُه صلى الله عليه وسلم في بعضِ الرواياتِ: "قدْ شهدتَ على نفسِكَ أربعَ مراتٍ"، حكايةٌ لما وقعَ منهُ. فالمفهومُ غيرُ معتبرَ، وما كانَ ذلكَ إلَّا زيادةً في الاستثباتِ والتبيُّنِ، ولِذلكَ سألَ صلى الله عليه وسلم هلْ به جنونٌ، وأَمَرَ مَنْ يشمُّ رائحتَه أو هو شارب خمر وجعلَ يستفسرُه عنِ الزِّنى كما سيأتي بألفاظٍ عديدةٍ، كلُّ ذلكَ لأَجْلِ الشبهةِ التي عرضتْ في أمرِه، ولأنَّها قالتِ الجُهَنِيَّةُ
(7)
: أتريدُ أنْ تردَّني كما ردَدْتَ ماعِزًا؟ فَعُلِمَ أنَّ الترديدَ ليسَ بشرطٍ في الإقرارِ.
وبعدُ فلوْ سلَّمْنَا أنهُ لا اضطرابَ وأنهُ أقرَّ أربعَ مراتٍ فهذَا فعلٌ منهُ منْ غيرِ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم ولا طَلَبِه لتكرارِ إقرارهِ بلْ فعلَه منْ تلقاءِ نفسهِ وتقريرُهُ عليهِ دليلٌ على جوازِه لا شرْطِيَّتِهِ. واستدلَّ الجمهورُ
(8)
بالقياسِ علَى أنهُ قدِ اعتُبِرَ في الشهادةِ على الزِّنى أربعةٌ وَرُدَّ بأنهُ استدلالٌ واضحُ البُطْلانِ لأنهُ قدِ اعتُبِرَ في المالِ عدلانِ والإقرارُ بهِ يكفي مرةً واحدةً اتفاقًا.
المسألةُ الثانيةُ:
دلَّتْ ألفاظُ الحديثِ على أنهُ يجبُ على الإمام الاستفصالُ عنِ الأمورِ التي يجبُ معَها الحدُّ، فإنهُ رُوِيَ في هذَا الحديثِ ألفاظٌ كثيرةٌ دالةٌ [عليها]
(9)
.
(1)
انظر تخريج حديث (1/ 1130) المتقدم.
(2)
في (ب): "أنه يشترط في الإقرار".
(3)
أخرجه البخاري في "صحيحه"(6824)، ومسلم (19/ 1693)، من حديث ابن عباس، وانظر الحديث رقم (3/ 1132) المتقدم.
(4)
مسلم (18/ 1692).
(5)
في (ب): "طريق".
(6)
مسلم: (17/ 1692) و (20/ 1694).
(7)
مسلم (24/ 1696)، والترمذي (1435)، وأبو داود (4440)، والنسائي (1957).
(8)
"الدراري المضيئة" للشوكاني (2/ 350) بتحقيقنا.
(9)
في (ب): "عليه".
ففي حديثِ بريدةَ
(1)
أنهُ قالَ له: "أشربْتَ خمرًا؟ قالَ: لا، وأنهُ قامَ رجلٌ يسْتنكِهُهُ فلمْ يجدْ فيهِ ريحًا"، وفي حديثِ ابنِ عباسٍ (2):"لعلكَ قَبَّلْتَ أو غمزْتَ"، وفي روايةٍ:"هل ضاجعْتَها؟ " قالَ: نعمْ، قالَ: فهلْ باشرْتَها؟ قالَ نعمْ قالَ: هلْ جامعْتَها؟ قالَ: نعمْ، وفي حديثِ أبنِ عباسٍ:"أَنِكْتَها؟ " لا يُكَنِّي. رواهُ [البخاريُّ]
(2)
.
وفي حديثِ أبي هريرةَ
(3)
: "أَنِكْتَها؟، قالَ: نعمْ، قالَ: دخلَ ذلكَ منكَ في ذلكَ منْها، قالَ: نعمْ، قالَ: كما يغيبُ المِرْوَدُ في المِكْحَلَةِ والرشاءُ في البئرِ، قالَ: نعمْ، قالَ: تَدْرِي ما الزِّنَى: قالَ: نعمْ، أتيتُ مِنْها حَرَامًا ما يأتي الرجلُ من امرأتِه حلَالًا. قالَ: فما تريدُ بِهذَا القولِ؟ قالَ: تطهِّرُني، فأمرَ بهِ فرُجِمَ".
فدلَّ جميعُ ما ذُكِرَ على أنهُ يجبُ الاستفصَالُ والتبيُّنُ، وأنهُ يُنْدَبُ تلقينُ ما يسقطُ الحدَّ، وأنَّ الإقرارَ لا بدَّ فيهِ منَ اللفظِ الصريحِ الذي لا يحتملُ غيرَ المواقعةِ. وقدْ رُوِيَ عنْ جماعةٍ منَ الصحابةِ تلقينُ المقِرِّ كما أخرجَهُ مالكٌ
(4)
عنْ أبي الدرداءِ، وعنْ عليٍّ عليه السلام في قصةِ شراحةَ فإنهُ قالَ لها عليٌّ عليه السلام: أسْتُكْرِهْتِ؟ قالتْ: لا، قالَ: فلعلَّ رجلًا أتاكِ في [المنام]
(5)
؟ الحديث.
وعندَ المالكيةِ أنهُ لا يلقَّنُ من اشتهرَ بانتهاكِ الحُرماتِ.
وفي قولِه: "أشربتَ خَمْرًا"، دليلٌ علَى أنهُ لا يصحُّ إقرارُ السكرانِ وفيهِ خلافٌ.
وفيها دليلٌ على أنهُ يُحْفَرُ للرجلِ عندَ رجْمِهِ لأنَّ في حديثِ بريدةَ عندَ
(1)
مسلم (22/ 1695)، وأبي داود (4433).
(2)
البخاري (6824). وما بين الحاصرتين زيادة من (ب).
(3)
أخرجه أبو داود (4428)، والنسائي (7165/ 2) وهو حديث ضعيف. انظر:"الإرواء" للألباني رقم (2354).
(4)
"السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 220). وقال الحافظ في "الفتح"(12/ 119): وذكر الحافظ ابن عبد البر أنه في تفسير سنيد بن داود من طريق أخرى إلى الشعبي قال:
…
فذكر الحديث. وانظر تحقيقنا "لبداية المجتهد" ابن رشد (4/ 387).
(5)
في (ب): "نومك".
مسلمٍ
(1)
: فَحُفِرَ له حفيرةٌ، [وفي الحديثِ]
(2)
عندَ البخاريِّ
(3)
: "أنَّها لما أذلقتْه
(4)
الحجارةُ هربَ فأدركْناهُ بالحرَّةِ
(5)
فرجمْناه"، زادَ في روايةٍ: "حتَّى ماتَ".
وأخرجَ أبو داودَ
(6)
أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم[يعني]
(7)
حين أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ: "هلَّا رَدَدْتُموهُ إليَّ"، وفي روايةٍ:"تركتمُوه لعلَّه يتوبُ فيتوبُ اللهُ عليهِ". وأَخَذَ منْ هَذَا الهادويةُ والشافعيُّ وأحمدُ
(8)
أنهُ يصحُّ رجوعُ المقِرِّ عنِ الإقرارِ فإذا هربَ [يُتْرَكُ]
(9)
لعلَّه يرجعُ، وفي قولِه صلى الله عليه وسلم:"لعلَّه يتوبُ" إشكالٌ لأنهُ ما جاءَ إلا تائِبًا يطلبُ تطهيرَه منَ الذنبِ.
وقدْ أخرجَ أبو داودَ
(10)
أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم في قصةِ ماعز: "والذي نفس محمد بيدِه إنهُ الآنَ لفي أنهارِ الجنةِ ينغمسُ فيها".
ولعلَّه يُجابُ بأنَّ المرادَ لعلَّه يرجعُ عنْ إقرارِهِ ويتوبُ بينَه وبينَ اللهِ تعالَى فيغفرُ لهُ، أوِ المرادُ يتوبُ [عن]
(11)
إكذابِه نفسَه.
واعلمْ أنَّ قولَهُ صلى الله عليه وسلم: فأَمرَ بهِ، [وارجموه]
(12)
، يدلُّ أنهُ صلى الله عليه وسلم لم يحضَرِ الرَّجْمَ وأنهُ لا يجبُ أنْ يكونَ أولَ مَنْ يرجمُ الإمامُ فيمنْ ثبتَ عليهِ الحدَّ بالإقرارِ، وإلى هذا ذهبَ الشافعيُّ والهادي
(13)
، والأَوْلَى حَمْلُ ذلكَ على النّدْبِ، وعليهِ يحملُ ما أخرجه البيهقيُّ
(14)
عنْ عليٍّ عليه السلام أنهُ قالَ: "أيُّما امرأةٍ بَغَى عليها ولدُها أوْ كانَ اعترافٌ فالإمامُ أولُ مَنْ يرجُمُ، فإنْ ثبتَ بالبيّنةِ فأول من يرجُمُ [الشهود]
(15)
".
(1)
مسلم (23/ 1695).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
البخاري (29/ 6826).
(4)
أذلقته: بلغت من الجهد حتَّى قلق.
(5)
الحرَّة: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سوداء كثيرة.
(6)
أبو داود (4419) وهو حديث صحيح دون قوله: "لعله أن يتوب فيتوب الله عليه".
(7)
زيادة من (ب).
(8)
"الاعتصام" للقاسم بن علي (5/ 71)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 167 رقم 7183)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 150).
(9)
في (ب): "ترك".
(10)
أبو داود (24/ 4428)، وهو حديث ضعيف، انظر:"الإرواء" رقم (2354).
(11)
في (أ): "على".
(12)
في (ب): "فارجموه".
(13)
"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 151)، و"التاج المذهب" للصنعاني (4/ 210).
(14)
في "السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 220).
(15)
زيادة من (أ).
التثبت وتلقين المسقط للحد
4/ 1133 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعزُ بنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ؟ "، قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(1)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: لما أَتَى ماعزُ بنُ مالكٍ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: لعلَّكَ قبَّلْتَ أو غمزْتَ) بفتحِ الغينِ المعجمةِ والميمِ فزايٍ، في "النهايةِ" أنهُ فَسَّرَ الغمْزَ في بعضِ الأحاديث بالإشارةِ كالرمزِ بالعينِ والحاجبِ. ولعلَّ المرادَ هُنَا الجسُّ باليدِ لأنهُ وردَ في بعضِ الرواياتِ أوْ لمسْتَ عِوَضًا عنهُ، (أوْ نظرتَ قالَ: لا يا رسولَ اللهِ. رواهُ البخاريُّ). والمرادُ استفهامُه هلْ هوَ أطلقَ لفظَ الزِّنَى على أيِّ هذهِ مجازًا وأن ذلكَ كما جاءَ في: "العينُ تَزْني وزِنَاهَا النظرُ"
(2)
.
والحديثُ دليلٌ على التثبُّتِ وتلقينِ المسقطِ للحدِّ، وأنهُ لا بدَّ منَ التَّصريحِ [بالزنى]
(3)
باللفظِ الصريحِ الذي لا يحتملُ غيرَ ذلكَ.
الكلام على آية الرجم
5/ 1134 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمّدًا بالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجدُ الرّجْمَ في كِتَابِ اللهِ، فَيُضِلُّوا بتَرْكِ فَريضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ في كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الاعْتِرَافُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
. [صحيح]
(1)
في "صحيحه"(6824). قلت: وأخرجه أبو داود (4467)، وأحمد (1/ 270)، والدارقطني (3/ 122 رقم 133)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11/ 338 رقم 11936).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 329).
(3)
في (ب): "بالزنى".
(4)
البخاري (6830)، ومسلم (15/ 1691). =
(وعنْ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه أنهُ خطَبَ فقالَ: إنَّ اللهَ بعثَ محمَّدًا بالحقِّ وأنزلَ عليهِ الكتابَ فكانَ فيما أَنزلَ عليهِ آيةَ الرجمِ قرأْناها ووعيْناها وعقلْناهَا، فرجمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورجمْنا بعدَه، فأخشَى إنْ طالَ بالناسِ زمانٌ أنْ يقولَ قائلٌ ما نجدُ الرَّجْمَ في كتابِ اللهِ فيضلُّوا بتركِ فريضةٍ أَنْزَلَها اللهُ، وإنَّ الرجمَ حقٌّ في كتابِ اللهِ علَى مَنْ زنَى إذا أُحْصِنَ منَ الرجالِ والنساءِ إذا قامتِ البيِّنةُ أوْ كانَ الحَبَلُ) بفتحِ الحاء المهملةِ [والباء]
(1)
الموحَّدَةِ (أوِ الاعترافُ. متفقٌ عليهِ).
زادَ الإسماعيليُّ
(2)
بعدَ قولِه: أو الاعترافُ، وقدْ قرأناها:"الشيخُ والشيخةُ فارجموهُما البتَّةَ". وبيَّنَ في روايةٍ عندَ النسائيِّ
(3)
محلَّها في السورةِ وأنَّها كانتْ في سورةِ الأحزابِ. [وكذلكَ أخرجَ هذهِ الزيادةَ في هذا الحديثِ الموطأُ عنْ يحيى بنِ سعيدٍ عنِ ابنِ المسيِّبِ]
(4)
، وفي روايةٍ زيادةُ:"إذا زَنَيا فارجمُوهُما البتةَ نكالًا منَ اللهِ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ"، وفي روايةٍ:"لولا أنْ يقولَ النَّاسُ زادَ عمرُ في كتابِ اللهِ لكتبتُها بيدي".
وهذا القسمُ منْ نسخِ التلاوةِ معَ بقاءِ الحكمِ، وقدْ عدَّه الأصوليونَ قسمًا مِنْ أقسامِ النسخِ.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّها إذا وُجِدَتِ المرأةُ الخاليةُ منَ الزوجِ والسيِّدِ حُبْلَى ولم تذكرْ شبهةً أنهُ يثبتُ الحدُّ بالحَبَلِ، وهوَ مذهبُ عمرَ
(5)
وإليهِ ذهبَ مالكٌ وأصحابُه
(6)
.
وقالتِ الهادويةُ والشافعيُّ وأبو حنيفةَ
(7)
: إنهُ لا يثبتُ الحدُّ إلا ببيِّنَةٍ أوِ
= قلت: وأخرجه أبو داود (4418)، والترمذي (1432)، والدارمي (2/ 179)، وابن ماجه (2553).
(1)
زيادة من (ب).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 143).
(3)
"السنن الكبرى" للنسائي (4/ 7156)، وقال النسائي: لا أعلم أن أحدًا ذكر في هذا الحديث الشيخ والشيخة فارجموهما البتة غير سفيان وينبغي أنه وهم، والله أعلم.
(4)
زيادة من (أ).
(5)
"موسوعة فقه عمر" لقلعه جي (479).
(6)
"قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (386).
(7)
"البحر الزخار" للمهدي (5/ 145)، و"شرح فتح القدير" لابن الهمام (5/ 4)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 149 - 150).
اعترافٍ لأنَّ الحدودَ تسقطُ بالشبهاتِ. واستدلَّ الأوَّلونَ بأنهُ قالَه عمرُ على المنبرِ ولمْ ينْكَرْ عليهِ فينزلُ منزلةَ الإجماعِ.
قلتُ: لا يخْفَى أنَّ الدليلَ هوَ الإجماعُ لا ما ينزلُ منزلتَهُ.
حدُّ الأَمة إذا زنت
6/ 1135 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيّنَ زنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: إذ زنتْ أَمَةُ أحدِكم فتبيَّنَ زناها فليجْلدِها الحدَّ ولا يثرِّبْ [عليها])
(2)
بمثناةٍ تحتيةٍ فمثلَّثةٍ فراءٍ فموحَّدةٍ، التعنيفُ لفظًا ومعنَىً (ثمَّ إذا زنتْ فلْيجْلِدْها الحدَّ ولا يثرِّبْ عَلَيْهَا، ثمَّ إذا زنتِ الثالثةَ فتبيَّنَ زنَاهَا فليبعْها ولو بحبلٍ منْ شَعرٍ. متفقٌ عليهِ (وهذا لفظُ مسلمٍ)، فيهِ مسائلُ:
الأُولى:
دلَّ قولُه: "فتبيَّنَ زِنَاها"، أنهُ إذا علمَ السيِّدُ بِزنَى أَمَتِهِ جَلَدَها وإنْ لم تقمْ شهادةٌ، وذهبَ إليهِ بعضُ العلماءِ، وقيلَ: المرادُ إذا تبيَّنَ زِنَاهَا بما يتبيَّنُ بهِ في حقِّ الحرَّةِ وهوَ الشهادةُ أوِ الإقرارُ، والشهادةُ تُقَامُ عندَ الحاكمِ عندَ الأكثرِ، وقالَ بعضُ الشافعيةِ: تُقَامُ عندَ السيِّدِ.
وفي قولِه: "فليجلِدْها"، دليلٌ علَى أنَّ ولايةَ جلدِ الأَمَةِ إلى سيِّدِها وإليه ذهبَ الشافعيُّ
(3)
، وعندَ الهادويةِ
(4)
أنَّ ذلكَ إذا لم يكنْ في الزمانِ إمامٌ وإلَّا فالحدودُ إليهِ، والأولُ أَقْوَى، والمرادُ بالجلدِ الحدُّ المعروفُ في قولِه تعالَى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(5)
.
(1)
مسلم (30/ 1703)، والبخاري (6839). قلت: وأخرجه الدارقطني (238)، وأحمد (2/ 249)، والبيهقي (8/ 244)، والنسائي في "السنن الكبرى"(4/ 300)، رقم (7245/ 7).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 152).
(4)
"البحر الزخار" للمهدي (5/ 159).
(5)
سورة النساء: الآية 25.
المسألةُ الثانيةُ:
قولُه: "ولا يثرِّبْ عَلَيْهَا"، وَرَدَ في لفظِ النسائيِّ
(1)
: ولا يعنِّفْها، وهوَ بمعنَى ما هُنَا، وهوَ نَهْيٌ عنِ الجمعِ لها بينَ العقوبةِ بالتعنيفِ والجلدِ، ومَنْ قالَ: المرادُ أنهُ لا يقنعُ بالتعنيفِ دونَ الجلدِ، فقدْ أبعدَ.
قالَ ابنُ بطالٍ
(2)
: يؤخذُ منهُ أنَّ كلَّ مَنْ أُقِيْمَ عليهِ الحدُّ لا يعزَّرُ بالتعنيفِ واللَّومِ، وإنما يليقُ ذلكَ بمنْ صدرَ منهُ قبلَ أنْ يُرْفَعَ إلى الإمامِ للتحذيرِ والتخويفِ، فإذا رُفِعَ وأقيمَ عليهِ الحدُّ كفاهُ. ويؤيدُ هذا نهيُه صلى الله عليه وسلم عنْ سبِّ الذي أقيمَ عليهِ [حدُّ الخمرِ]
(3)
وقالَ: "لا تكونُوا عَوْنًا للشيطانِ على أخيْكم"
(4)
.
وفي قولِه: "ثمَّ إذا زنتْ" إلى آخرِهِ، دليلٌ على أنَّ الزَّاني إذا تكررَ منهُ الزِّنى بعدَ إقامةِ الحدِّ عليهِ تكررَ عليهِ الحدُّ، وأما إذا زَنَى مِرَارًا منْ دونِ تَخَلُّلِ إقامةِ الحدِّ لم يجبْ عليهِ إلا حدٌّ واحدٌ، ويُؤْخَذُ منْ ظاهرِ قولِه:"فليبعْها"، أنهُ لا يقيم عليها الحدُّ.
قالَ المصنفُ في "الفتح"
(5)
: الأرجحُ أنهُ يجلدُها قبلَ البيعِ ثمَّ يبيعُها، والسكوتُ عنهُ للعلمِ بأنَّ الحدَّ لا يُتْرَكُ ولا يقومُ البيعُ مقامَهُ.
المسألةُ الثالثةُ:
ظاهرُ الأمرِ وجوبُ بيعِ السيِّدِ للأَمَةِ، وأنَّ إمساكَ مَنْ تكرَّرتْ منهُ الفاحشةُ محرَّمٌ وهذَا قولُ داودُ وأصحابهِ
(6)
، وذهبَ الجمهورُ
(7)
إلى أنهُ مستحبٌّ لا واجبٌ.
وقالَ ابنُ بطالٍ
(8)
: حملَ الفقهاءُ الأمرَ بالبيعِ على الحضِّ على مباعدةِ مَنْ تكرَّرَ منهُ الزِّنَى لِئَلَّا يُظَنَّ بالسيِّدِ الرِّضَا بذلكَ فيكون ديُّوثًا، وقدْ ثبتَ الوعيدُ على منِ اتصفَ بالدِّياثةِ.
وفيهِ دليلٌ على أنهُ لا يجبُ فراقُ الزانيةِ، لأنَّ لفظَ أَمَةِ أَحدِكم عامٌّ لمنْ
(1)
في "النسائي": لا يعتقها. "السنن الكبرى"(4/ 300 رقم 7246/ 8).
(2)
"فتح الباري" ابن حجر (12/ 166).
(3)
في (أ): "الحد للخمر".
(4)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري (6781).
(5)
"فتح الباري" لابن حجر (12/ 164).
(6)
"المحلَّى" ابن حزم (11/ 167).
(7)
"المجموع" لأبي زكريا النووي (20/ 38).
(8)
"المجموع" لأبي زكريا النووي (20/ 38).
يطؤُها مالكُها ومَنْ لا يطؤُها، ولم يجعلِ الشارعُ مجرَّدَ الزِّنَى موجِبًا للفراقِ، إذْ لوْ كانَ موجبًا لهُ لوجبَ فراقُها في أولِ مرةٍ، بلْ لم يوجبَهُ إِلَّا في الثالثةِ على القولِ بوجوب فراقِها بالبيعِ كما قالَهُ داودُ وأتباعُه
(1)
. وهذا الإيجابُ لا لمجردِ الزِّنَى بلْ لتكرُّره لِئَلا يظنُّ بالسيِّدِ الرِّضَا بذلكَ فيتصفُ بالصفةِ القبيحةِ، ويجري هذا الحكمُ في الزوجةِ أنهُ لا يجبُ طلاقُها وفراقها لأَجْلِ الزِّنَى بلْ إنَّ تكرَّرَ منْها وجبَ لما عرفتَ. قالُوا: وإنَّما أمرَ بَبْيعِها في الثالثةِ لِمَا ذكرْنا قريبًا ولما في ذلكَ منَ الوسيلةِ إلى تكثيرِ أولادِ الزِّنى. قالَ وحملَه بعضُهم علَى الوجوب ولا سلفَ لهُ منَ الأمةِ فلا [نشتغل]
(2)
بهِ وقدْ ثبتَ النَّهْيُ عنْ إضاعةِ المالِ فكيفَ يجبُ بيعُ ما لَهُ قيمةٌ خطيرةٌ بالحقيرِ، انتَهى.
قلتُ: ولا يخْفَى أنَّ الظاهرَ معَ مَنْ قالَ بالوجوبِ ولم يأتِ القائلُ بالاستحبابِ بدليلٍ على عدمِ الإيجابِ. وقولُه: وقدْ ثبتَ النَّهْيُ عنْ إضاعةِ المالِ، قلْنا: وثبثَ هُنَا مخصِّصٌ لِذلِكَ النَّهْي وهوَ هذَا الأمرُ، وقدْ وقعَ الإجماعُ
(3)
على جوازِ بيعِ الشيءِ الثمينِ بالشيءِ الحقيرِ إذا كانَ البائعُ عالمًا بهِ [وكذا]
(4)
إذا كانَ جاهلًا عندَ الجمهورِ
(5)
.
وقولُه: ولما في ذلكَ منَ الوسيلةِ إلى تكثيرِ أولادِ الزِّنَى، فقالَ ليسَ في الأمرِ ببيعِها قطعٌ لذلكَ إذ لا ينقطعُ إلَّا بِتَرْكِهَا، وليسَ في بيعِها ما يصيِّرُها تاركةً لهُ، وقدْ قيلَ في وجْهِ الحكمِ في الأمرِ ببيعِها معَ أنهُ ليسَ منْ موانعِ الزِّنَى إنهُ جوازُ أنْ يستغني عندَ المشتري وتعلمَ بأنَّ إخراجَها منْ مُلْكِ السِّيدِ الأوَّلِ بسببِ الزِّنَى فتتركُه خشيةً منْ تنقُّلِهَا عندَ [المالك]
(6)
، أوْ لأنهُ قدْ يعفُّها بالتسرِّي بها أو بتزويجها.
المسألةُ الرابعةُ:
هلْ يجبُ على البائعِ أنْ يعرِّفَ المشتريَ بسببِ بَيْعِها لِئَلَّا
(1)
"المجموع" أبو زكريا (20/ 38).
(2)
في (ب): "يشتغل".
(3)
"موسوعة الإجماع" أبو جيب (1/ 191 رقم 127).
(4)
في (ب): "وكذلك".
(5)
انظر: "المحلَّى"(9/ 74 - 81 رقم 1590).
(6)
في (ب): "الملاك".
يدخلَ تحتَ قولِه: "مَنْ غشَّنَا فليسَ مِنَّا"
(1)
، فإنَّ الزِّنَى عيبٌ ولِذَا أمرَ بالحطِّ منَ القيمةِ، يحتملُ أن لا يجبُ عليهِ ذلكَ، لأنَّ الشارعَ قدْ أمرَهُ ببيعهَا ولمْ يأمرْه ببيانِ عَيْبِها. ثمَّ هذا العيبُ ليسَ معلومًا ثبوتُه في الاستقبالِ فقدْ يتوبُ الفاجرُ ويفجُرُ البارُّ، وكونُه قَدْ وقعَ منْها وأُقِيْمَ عليها الحدُّ قدْ صيَّرهُ كغيرِ الواقعِ، ولهَذَا نَهَى عنِ التعنيفِ لها، وبيانُ عيبها قدْ يكونُ منَ التعنيفِ. وأما أنه يندبُ لهُ ذِكْرُ سببِ بيعِها فلعلَّه يندبُ ويدخلُ تحتَ عمومِ المناصحةِ.
المسألة الخامسةُ:
في إطلاقِ الحديثِ دليلٌ على إقامةِ الحدِّ على الأَمَةِ مطْلقًا سواءٌ قد أحصنتْ أَوْ لا، وفي قولِه تعالَى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(2)
، دليلٌ علَى شرطيةِ الإحصانِ، ولكنْ يحتملُ أنهُ شرطٌ للتنصيفِ في جَلْدِ المحصنةِ منَ الإماءِ وأنَّ عليها نصفَ الجلْدِ لا [نصف]
(3)
الرجم إذْ لا يتنصفُ، فيكونُ فائدةُ التقييدِ في الآيةِ.
وصرَّحَ بتفصيلِ الإطلاقِ قولُ عليٍّ عليه السلام في خُطْبَتِهِ: "يا أيُّها النَّاسُ أقيمُوا على أَرِقَّائِكم الحدَّ مَن أُحْصِنَ [منهم]
(4)
ومَنْ لم يُحْصَنْ"
(5)
، رواهُ ابنُ عُيَيْنَةَ ويحيى بنُ سعيدٍ عنِ ابن شهابٍ كما قالَ مالكٌ وهذا مذهبُ الجمهورِ
(6)
. وذهبَ جماعةٌ منَ العلماءِ إلى أنهُ لا يحدُّ منَ العبيدِ إلَّا مَنْ أُحْصِنَ وهوَ مذهبُ ابنِ عباسٍ
(7)
ولكنَّه يؤيدُ كلامَ الجمهورِ إطلاقُ الحديثِ الآتي.
من يقيم الحد على المماليك
7/ 1136 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى
(1)
أخرجه أبو داود (3452)، والترمذي (1315)، وابن ماجه (2224)، ومسلم (164/ 101)، من حديث أبي هريرة.
(2)
سورة النساء: الآية 25.
(3)
زيادة من (أ).
(4)
في (ب): "منهنَّ".
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 138 رقم 7150)، و"موسوعة فقه علي" لقلعه جي (323).
(6)
"المجموع" لأبي زكريا النووي (20/ 16).
(7)
"المغني" لابن قدامة (10/ 138 رقم 7150)، و"الروضة الندية" القنوجي (2/ 593) بتحقيقنا.
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ في مُسْلِمٍ مَوْقُوفٌ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ عليٍّ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أقيمُوا الحدودَ علَى ما ملكتْ أيمانُكم. رواهُ أبو داودَ وهوَ في مسلمٍ موقوفٌ) على عليٍّ رضي الله عنه. وأخرجَهُ البيهقيُّ
(2)
مرفُوعًا، وقدْ غفلَ الحاكمُ
(3)
فظنَّ أنهُ لم يذكرْه أحدُ الشيخينِ واستدركَهُ عليهِمَا.
قلتُ: يمكنُ أنهُ استدركَهُ لكونِ مسلمٍ لمْ يرفعْه وقدْ ثبتَ عندَ الحاكمِ رفْعُهُ.
والحديثُ دلَّ علَى ما دلَّ عليهِ الحديثُ الأولُ منْ إقامة الملَّاكِ الحدَّ على المماليكِ، إلَّا أنَّ هذا يعمُّ ذكورَهمِ وإناثَهم فهوَ أعمُّ منَ الأوَّلِ. ودلَّ على إقامةِ الحدِّ عليهمْ مطلقًا أُحْصِنُوا [أم لا]
(4)
، وعلَى أنَّ إقامَته إلى المالكِ ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثَى.
واختُلِفَ في الأَمَةِ المزوَّجَةِ، فالجمهورُ
(5)
يقولون: إنَّ حدَّها إلى سيِّدِها، وقالَ مالكٌ
(6)
: حدُّها إلى الإمامِ إلَّا أنْ يكونَ زوجُها عَبْدًا لمالِكِهَا فَأَمْرُهَا إلى السيِّدِ، وظاهرُه أنهُ لا يُشْتَرَطُ في السيِّد [شرطُ]
(7)
صلاحيةٍ ولا غيرِها. قالَ ابنُ حزمٍ
(8)
: يقيمُه السيِّدُ إلَّا أنْ يكونَ كافِرًا، قالَ لأنَّهم لا يقرُّونَ إلَّا بالصَّغارِ وفي تسليطهِ على إقامةِ الحدِّ على مماليكِه منافاةٌ لذلكَ.
ثمَّ ظاهرُ الحديثِ أنَّ إلى السيد إقامةَ حدِّ السرقةِ والشُّرْبِ، وقدْ خالفَ في ذلكَ جماعةٌ بلا دليلٍ ناهضٍ. وقدْ أخرجَ عبدُ الرزاقِ عنْ معمَّرٍ عنْ أيوبَ عنْ
(1)
مسلم (34/ 1705)، وكذلك في "الوقوف" لابن حجر (90 رقم 107)، وأبي داود (4473)، والترمذي (1441)، قلت: وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. و"السنن الكبرى" للنسائي (4/ 299 رقم 29/ 7239). وهو حديث صحيح.
(2)
في "السنن الكبرى"(8/ 229).
(3)
في "المستدرك"(4/ 369)، قلت: قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(4)
في (ب): "أو لا".
(5)
انظر: "المجموع" لأبي زكريا النووي (20/ 38)، و"الروضة الندية" القنوجي (2/ 594) بتحقيقنا.
(6)
"قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (386).
(7)
زيادة من (ب).
(8)
"المحلَّى" ابن حزم (11/ 168).
نافعٍ: "أنَّ ابنَ عمرَ قطعَ يدَ غلامٍ لهُ سرقَ، وجَلَدَ عبدًا لهُ زَنَى، منْ غيرِ أنْ يرفعَهما إلى الوالي"
(1)
. وأخرجَ مالكٌ في "الموطأ"
(2)
بسندِه: "أن عبْدًا لبني عبدِ اللهِ بنِ أبي بكرٍ سرقَ واعترفَ [بالسرقةِ]
(3)
، فأَمَرَتْ عائشةُ به فَقُطِعَتْ يدُهُ". وأخرجَ الشافعيُّ وعبدُ الرزاقِ بسندِهِما إلى الحسينِ بنِ محمدِ بنِ عليٍّ:"أنَّ فاطمةَ رضي الله عنها بنتَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حدَّتْ جاريةً لها زنتْ"
(4)
. ورواهُ ابنُ وهبٍ عنِ أبنِ جُرَيْجٍ عنِ عمرِو بنِ دينارٍ: "أنَّ فاطمةَ بنتَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانتْ تجلدُ وليدتَها خمسينَ إذا زنتْ"
(5)
.
وذهبتِ الهادويةُ
(6)
إلى أنهُ لا يقيمُ عليهِ الحدَّ إلا الإمامُ، إلَّا أنْ لا يوجدَ إمامٌ أقامهُ السيِّدُ.
وذهبتِ الحنفيةُ
(7)
إلى أنهُ لا يقيمُ عليه الحد مطلقًا إلا الإمامُ أو مَنْ أَذِنَ لهُ.
وقدِ استدلَّ الطحاويُّ
(8)
بما أخرجَهُ منْ طريقِ مسلمِ بنِ يسارٍ قالَ: كانَ أبو عبدِ اللهِ رجلٌ منَ الصحابةِ يقولُ: الزكاةُ والحدودُ والفيءُ والجمعةُ إلى السلطانِ. قالَ الطحاويُّ: ولا نعلمُ [أحدًا]
(9)
مخالِفًا منَ الصحابةِ، وقدْ تعقَّبَهُ ابنُ حزمٍ
(10)
فقالَ: بلْ خالفَه اثْنَا عشرَ نَفْسًا منَ الصحابةِ. وقدْ سمعتَ ما رُوِيَ عنِ الصحابةِ وكفَى بهِ ردًّا على الطحاوي، ومنْ ذلكَ ما أخرجَهُ البيهقيُّ
(11)
عنْ عمرِو بنِ مُرَّةَ وفيهِ عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى قالَ: أدركتُ بَقَايا الأنصارِ وهمْ يضربونَ
(1)
"السنن الكبرى" البيهقي (8/ 268)، و (8/ 245) وانظر:"موسوعة فقه عبد الله بن عمر" لقلعه جي (406 - 407).
(2)
(2/ 832 - 833 رقم 25).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
أخرجه الشافعي في "الأم"(6/ 146)، وعبد الرزاق في "المصنف"(7/ 394 رقم 13602)، والبيهقي (8/ 245).
(5)
أخرجه البيهقي (8/ 245).
(6)
"البحر الزخار" للمهدي (5/ 159).
(7)
"شرح فتح القدير" ابن الهمام (5/ 21).
(8)
انظر: "المجموع" لأبي زكريا النووي (20/ 39).
(9)
في (ب): "له".
(10)
"المحلَّى" لابن حزم (11/ 165 - 166).
(11)
في "السنن الكبرى"(8/ 245).
الوليدةَ منْ ولائِدِهم في مجالسهِم إذا زنتْ، قالَ الشافعيُّ
(1)
: كانَ ابنُ مسعودٍ يأمرُ بهِ وأبو برزةَ يحدُّ وليدتَهُ.
متى تُحد الحامل؟
8/ 1137 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبيَ صلى الله عليه وسلم وَهيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَّهَا. فَقَالَ:"أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بهَا" فَفَعَلَ. فَأَمَرَ بهَا فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمّ أَمَرَ بهَا فَرُجمَتْ، ثُمّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بنَفْسِهَا للهِ تَعَالَى؟ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
. [صحيح]
(وعنِ عمرانَ بنِ حصينٍ أنَّ امرأةً منْ جُهَيْنَةَ) هي المعروفةُ بالغامديةِ
(3)
(أتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهيَ حُبْلَى منَ الزِّنَى فقالتْ: يا نبيَّ اللهِ أصبتُ حدّاً فأقمْهُ عليَّ، فدعا نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وليَّها فقالَ: أحسنْ إليها فإذا وضعتْ فائْتِني بها، ففعلَ، فَأَمَر بها، فَشُكَّتْ) مبنيٌّ للمجهولِ أي شُدَّتْ ووردَ في روايةٍ (عليْها ثيابُها ثمَّ أمرَ بها فرُجِمَتْ ثمَّ صلَّى عليْها، فقالَ عمرَ: تصلي عليْها يا رسولَ اللهِ وقدْ زنتْ؟ فقالَ: لقدْ تابتْ توبةً لو قُسِّمَتْ بينَ سبعينَ منْ أهلِ المدينةِ لوسعتْهم، وهلْ وجدْتَ أفضلَ مِنْ أنْ جادتْ بِنَفْسِها للهِ تعالى. رواهُ مسلمٌ).
(1)
في "الأم"(6/ 146).
(2)
مسلم (24/ 1696). قلت: وأخرجه أبو داود (4440، و 4441)، والترمذي (1435)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
والنسائي (1957)، والطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 197 - 198 رقم 475 و 476 و 477 و 478 و 479)، وعبد الرزاق في "المصنف"(7/ 325 - 326 رقم 13348)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 225).
(3)
أخرج حديث رجم الغامدية مسلم في "صحيحه"(23/ 1695)، من حديث عبد اللهِ بن بريدة عن أبيه. وانظر:"الدراري المضيئة" الشوكاني (2/ 347) بتحقيقنا.
ظاهرُ قولِه: "فإذا وضعتْ فائتني بها ففعلَ"، أنهُ وقعَ الرَّجْمُ عَقيبَ الوضْعِ، إلَّا أنهُ ثبتَ في روايةٍ أُخْرَى لمسلم
(1)
أنَّها رُجِمَتْ بعدَ أن فَطَمَتْ ولدَها وأتتْ بهِ وفي يدهِ كِسْرةُ خُبْزٍ. ففي روايةِ الكتابِ طيٌّ واختصارٌ.
قالَ النوويُّ
(2)
بعدَ ذِكْرِ الروايَتَينِ: وهُمَا في صحيحِ مسلمٍ ظاهرُهما الاختلافُ، فإنَّ الثانيةَ صريحةٌ في أنَّ رجْمَها كانَ بعدَ فطامِهِ وأكلِهِ الخبزَ، والأُوْلَى [أن]
(3)
رجمَها عقيبَ الولادةِ، فيجبُ تأوبلُ الأُوْلَى وحمْلُها على وفْقِ الثانيةِ، فيكونُ قولُه في الروايةِ الأُوْلَى:"قامَ رجلٌ منَ الأنصارِ فقالَ - إلى - رضاعِهِ"، إنَّما قالَه بعدَ الفطامِ. وأرادَ برضاعِهِ كفالتَه وتربيتَه، وسمَّاهُ رضَاعًا مجازًا. انتَهى [باختصارٍ]
(4)
.
والحديثُ دليلٌ على وجوبِ الرَّجْمِ وتقدَّمَ الكلامُ فيهِ، وأما شدُّ ثيابها عليها فِلأَجْلِ أنْ لا تُكْشَفَ عندَ اضطرابِها منْ مسِّ الحجارةِ. واتفقَ العلماءُ
(5)
أنَّ المرأةَ تُرْجَمُ قاعدةً والرجلُ قائمًا، إلَّا عندَ مالكٍ
(6)
فقالَ: قاعِدًا، وقيلَ: يتخيَّرُ الإمامُ بينَهما.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّهُ صلى الله عليه وسلم صلَّى على المرأةِ بنفسِه إنْ صحَّتِ الروايةُ، فصلَّى [للبناء]
(7)
للمعلومِ، إلَّا أنهُ قالَ الطبراني
(8)
: إنَّها بضمِّ الضادِ وكسرِ اللامِ، قالَ: وكذَا هوَ في روايةِ ابنِ أبي شيبةَ وأبي داودَ. وفي روايةٍ لأبي داودَ
(9)
: فأمرَهُم أنْ يصلُّوا، ولكنَّ أكثرَ الرواةِ لمسلمٍ بفتحِ الصادِ وفتحِ اللامِ. وظاهرُ قولِ عمرَ: تصلي عليْها، أنهُ صلى الله عليه وسلم باشرَ الصلاةَ بنفسِه، فيؤيد روايةَ الأكثرِ لمسلم. والقولُ بأنَّ المرادَ منْ صلَّى ويُصلِّي أي تأمروا وأنهُ أُسْنِدَ إليهِ صلى الله عليه وسلم[لأنه]
(10)
الآمرَ خلافُ
(1)
سبق في تعليق رقم (1).
(2)
"شرح النووي"(11/ 202).
(3)
في (ب): "أنه".
(4)
زيادة من (ب).
(5)
انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته" لوهبة الزحيلي (1/ 61).
(6)
"بداية المجتهد" لابن رشد (4/ 382) بتحقيقنا.
(7)
في (ب): "بالبناء".
(8)
في "المعجم الكبير"(18/ 197 - 198 رقم 475 و 476 و 477 و 478 و 479)، وقد تقدم.
(9)
في "السنن"(4440).
(10)
في (ب): "لكونه".
الظاهرِ، فإنَّ الأصلَ الحقيقةُ، وعلَى كلِّ تقديرٍ فقد صلَّى صلى الله عليه وسلم عليْها أوْ أمرَ بالصلاةِ، فالقولُ بكراهةِ الصلاةِ على المرجومِ يصادمُ النصَّ إلَّا أنْ تُخَصَّ الكراهةُ بمنْ رُجِمَ بغيرِ الإقرارِ لجوازِ أنهُ لم يتبْ، فهذَا يتنزَّل على الخلافِ في الصلاةِ على الفسَّاقِ. [والجمهور
(1)
]
(2)
أنهُ يُصَلَّى عليهمْ ولا دليلَ معَ المانعِ عنِ الصلاةِ عليهمْ.
وفي الحديثِ دليلٌ علَى أنَّ التوبةَ لا تُسْقِطُ الحدَّ، وهوَ أصحُّ القولَيْنِ عندَ الشافعيةِ والجمهورِ
(3)
. والخلافُ في حدِّ المحارِبِ إذا تابَ قبلَ القدْرَةِ عليهِ فإنهُ يسقطُ بالتوبةِ عندَ الجمهورِ
(4)
لقولِه تعالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}
(5)
.
إقامة الحدِّ على الكافر إذا زنى
9/ 1138 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: رَجَمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، وَرجُلًا مِنَ الْيَهُودِ، وَامْرَأَةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(6)
. [صحيح]
- وَقِصّةُ الْيَهُودِيّيْن في الصَّحِيحَيْن مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَر
(7)
. [صحيح]
(وعنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قالَ: رَجَم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا منْ أَسْلَمَ) يريدُ ماعزَ بنَ مالكٍ
(8)
(ورجلًا منَ اليهودِ وامرأةً) يريدُ الجُهَنيَّةَ
(9)
(رواهُ مسلمُ. وقصهُ اليهوديينِ في الصحيحينِ منْ حديثِ ابنِ عمرَ)، أما حديثُ ماعزٍ والجهنيةِ فتقدَّما.
(1)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 40) بتحقيقنا، و"الفقه الإسلامي وأدلته" للزحيلي (6/ 64).
(2)
في (ب): "فالجمهور".
(3)
"منهاج الطالبين" لأبي زكريا النووي (4/ 151)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (4/ 386) بتحقيقنا.
(4)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (4/ 422) بتحقيقنا.
(5)
سورة المائدة: الآية 34.
(6)
فى "صحيحه"(28/ 1701).
(7)
البخاري رقم (37/ 6841)، ومسلم (26/ 1699).
(8)
تقدم تخريج الحديث رقم (3/ 1132).
(9)
انظر الحديث رقم (8/ 1137)، المتقدِّم من كتابنا هذا.
وفي الحديثِ دليلٌ على إقامةِ الحدِّ على الكافر الذميِّ إذا زَنَى وهو قولُ الجمهورِ
(1)
. وذهبت المالكيةُ
(2)
ومعظمُ الحنفيةُ
(3)
إلى اشتراطِ الإسلامِ وأنهُ شرطٌ للإحصانِ الموجب للرجمِ، ونقلَ ابنُ عبدِ البرِّ
(4)
الاتفاقَ عليهِ وَرُدَّ قولُه بأنَّ الشافعيَّ وأحمد
(5)
لا يشترطانِ ذلكَ، ودليلُهمَا وقوعُ التصريحِ بأنَّ اليهوديينِ اللَّذينِ زَنَيَا كانَا قدْ أُحْصِنَا. وقدْ أجابَ منِ اشترط الإسلام عنِ هذا الحديثِ بأنهُ صلى الله عليه وسلم إنَّما [رجَمَهُمَا]
(6)
بحكمِ التوراةِ وليسَ منْ حُكْمِ الإسلامِ في شيءٍ، وإنَّما هوَ منْ بابِ تنفيذِ الحكمِ عليْهِمَا بما في كتابِهِمَا، فإنَّ في التوراةِ الرَّجْمَ علَى المحصَنِ وعلى غيرِهِ.
قالَ ابنُ العربيِّ
(7)
: إنَّما رجَمَهُما لإقامةِ الحجَّةِ عليْهِمَا بما لا يراهُ في شَرْعِهِ معَ قولِه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}
(8)
، ومِنْ [ثَمَّ]
(9)
استدعى شهودهم لتقومَ الحجَّةُ عليهم منْهم، وردَّه الخطابيُّ
(10)
بأنَّ اللهَ تعالَى قالَ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} (8) وإنَّما جاءَهُ القومُ سائلينَ الحكمَ عندَه كما دلتْ عليهِ الروايةُ فنَّبَههُم علَى ما كتمُوه منْ حكمِ التوراةِ ولا جائزَ أنْ يكونَ حكمُ الإسلامِ عندَه مخالِفًا لذلكَ لأنهُ لا يجوزُ الحكمُ بالمنسوخِ، فدلَّ على أنهُ إنَّما حكمَ بالناسخِ، انتَهى. قلْتُ: ولا يخْفَى احتمالُ القصةِ للأمريْنِ:
والقولُ الأولُ: مبنيٌّ علَى عدَمِ صِحَّةِ شهادةِ أهلِ الذِّمَّةِ بعضِهم على بعضٍ. والثاني: مبنيٌّ علَى جوازِه وفيهِ خلافٌ معروفٌ. وقدْ دلَّتِ القصةُ على صحةِ نكاح أهلِ الكتابِ، لأنَّ ثبوتَ الإحصانِ فرعُ ثبوتِ صِحَّتِهِ وأنَّ الكفارَ مخاطبونَ بفروعِ [الشريعةِ]
(11)
كَذَا قيلَ.
(1)
انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته" وهبة الزحيلي (6/ 42 - 43).
(2)
"بداية المجتهد" لابن رشد (4/ 378)، بتحقيقنا.
(3)
"شرح فتح القدير" لابن الهمام (5/ 24).
(4)
"التمهيد" لابن عبد البر (9/ 84 - 85).
(5)
"منهاج الطالبين" لأبي زكريا النووي (4/ 146 - 147)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 125 رقم 7137).
(6)
في (أ): "رجمها".
(7)
في "شرح صحيح الترمذي"(6/ 217).
(8)
سورة المائدة: الآية 49.
(9)
في (ب): "ثمة".
(10)
"معالم السنن" للخطابي (6/ 260 رقم 4281).
(11)
في (ب): "الشرائع".
قلتُ: أما الخطابُ بفروع [الشريعةِ]
(1)
ففيهِ نظرٌ لتوقفِه على أنهُ حَكمَ صلى الله عليه وسلم بشرْعِهِ لا بما في التوراةِ على أحَد الاحتمالَيْنِ.
إقامة حدِّ الزنى على الضعيف
10/ 1139 - وَعَنْ سَعِيدِ بْن سَعْدِ بْن عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: كَانَ بين أَبْيَاتِنَا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ، فَخَبَثَ بأَمَةٍ مِنْ إِمَائِهمْ، فَذَكَرَ ذلِكَ سَعْدٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"اضْرِبُوهُ حَدَّهُ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ:"خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ ثُمّ اضْرِبُوهُ بهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً"، فَفَعَلُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
(2)
، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِن اخْتُلِفَ في وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ. [صحيح]
(وعنْ سعيدِ بنِ سعدِ بنِ عبادةَ) هوَ أنصاريٌّ قالَ الواقديُّ: صحبتُه صحيحةٌ، كانَ واليًا لعليِّ بنِ أبي طالبٍ على اليمنِ (قالَ: كانَ بينَ أبياتِنا) جَمْعُ بَيْتٍ (رُوَيْجِلٌ) تصغيرُ رجلٍ (ضعيفٌ فَخَبَثَ) بالخاءِ المعجمةِ فموحدةِ فمثلثةٍ، أي فَجَرَ (بأَمَةٍ منْ إمائِهم فذكرَ ذلكَ سعد لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: اضربوه حدَّه، فقالُوا: يا رسولَ اللهِ إنهُ أضعفُ منْ ذلكَ، قالَ: خذُوا عِثْكالًا) [بكسرِ العينِ فمثلثةِ]
(3)
بِزِنَةِ قِرْطَاسٍ وهوَ العِذْقُ (فيهِ مائةُ شِمراخٍ) بالشينِ المعجمةِ أوَّلَهُ وراءٍ آخرَه خاءٌ معجمةٌ بِزَنَةِ عِثْكَالٍ وهوَ غصنٌ دقيقٌ في أعلى العثكالِ (ثمَّ اضربوة بهِ ضربةً واحدةً ففعلُوا. رواهُ أحمدُ [والنسائيُّ]
(4)
وابنُ ماجْه وإسنادُه حسنٌ لكنِ اختلفُوا في وصْلهِ وإرسالِه)، قالَ البيهقيُّ
(5)
: المحفوظُ عَنْ أبي أمامةَ، أي ابنِ سهلِ بنِ حنيفٍ
(1)
في (ب): "الشرائع".
(2)
أخرجه أحمد (16/ 99 رقم 253 - الفتح الرباني)، والنسائي في "السنن الكبرى"(4/ 313 رقم 7309/ 1)، وابن ماجه (2574)، وغيرهم. وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 230): هذا هو المحفوظ عن أبي أمامة مرسلًا. قلت: بل هو حديث صحيح، والله أعلم. انظر تخريجنا "للروضة الندية"(2/ 587 - 588).
(3)
زيادة من (ب).
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في "السنن الكبرى"(8/ 230).
مرسلًا، وأخرجَهُ أحمدُ وابنُ ماجْه
(1)
منْ حديثِ أبى أمامةَ عنْ سعيدِ بنِ سعدِ بنِ عبادةَ موصلًا.
وقد أَسْلَفْنا لكَ غيرَ مرةٍ أنَّ هذا ليسَ بِعِلَّةٍ قادِحةٍ بلْ روايتُه موصولةٌ زيادةً منْ ثقةٍ مقبولةً.
والمرادُ بالعِثْكَالِ الغصنُ الكبيرُ الذي يكونُ عليهِ أغصانٌ صغارٌ وهو للنخلِ كالعنقودِ للعنبِ وكلُّ واحدٍ منْ تلكَ الأغصانِ يُسَمَّى شِمْراخًا.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ منْ كانَ ضعيفًا لمرضٍ ونحوِه ولا يُطيقُ إقامةَ الحدِّ عليهِ بالسياط أُقِيْمَ عليهِ بما يحتملُه مجمُوعًا دُفعةً واحدةً منْ غيرِ تكرارٍ للضربِ مثلَ العثكولِ ونحوِه، وإلى هذا ذهبَ الجماهيرُ
(2)
قالُوا: ولا بدَّ أنْ يباشرَ المحدودَ جميعُ الشماريخِ ليقعَ المقصودُ منَ الحدِّ، وقيلَ يجزئُ وإنْ لم يباشرْ جميعُه وهوَ الحقُّ، فإنهُ لم يخلقِ اللهُ تعالَى العثاكيلَ مصفوفةً كلُّ واحدٍ إلى جَنْبِ الآخرِ عِرَضًا منتشرةً إلى تمامِ مائةٍ فقط، ومعَ عدمِ الانتشارِ يمتنعُ مباشرةُ كلِّ واحد منْها، فإنْ كانَ المريضُ يُرْجَى زوالُ مرضِهِ أو خِيْفَ عليهِ شدةُ حرٍّ أو بَرْدٍ أُخِّرَ الحدُّ عليهِ إلى زوالِ ما يُخَافُ.
حكم اللواط
11/ 1140 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ والْمَفْعُولَ بهِ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوا الْبَهيمَةَ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ اخْتِلافًا
(3)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ وجدتُموهُ يعملُ عملَ قومِ لوطٍ
(1)
انظر تخريج الحديث رقم (10/ 1139) المتقدم.
(2)
انظر: "المجموع" للنووي (20/ 42).
(3)
أخرجه أحمد (1/ 300)، وأبو داود (4462)، وابن ماجه (2561)، والترمذي (1456)، والنسائي في "السنن الكبرى"(4/ 322 رقم 36/ 2159)، والبيهقي (8/ 232)، والحاكم (4/ 355)، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني أنَّ الحديث صحيح، وانظر:"الإرواء" رقم (2350).
فاقتلُوا الفاعلَ والمفعولَ بهِ، ومَنْ وجدتمُوهُ وقعَ علَى بهيمةٍ فاقتلُوه واقتلُوا البهيمةَ.
رواهُ أحمدُ والأربعةُ ورجالُه موثَّقُونَ إلا أنَّ فيهِ اختلافًا). ظاهرُه أنَّ الاختلافَ في الحديثِ جميعِه لا في قولِه ومَنْ وجدتموهُ إلخ فقطْ، وذلكَ أنَّ الحديثَ قدْ رُوِيَ عنِ ابنِ عباسٍ مفرَّقًا وهوَ مختلفٌ في ثبوتِ كلِّ واحدٍ منَ الأمريْنِ.
أما الحكمُ الأولُ:
فإنهُ قدْ أخرجَ البيهقيُّ
(1)
منْ حديثِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ ومجاهدٍ عن ابنِ عباسٍ: "في البكرِ يوجَدُ علَى اللوطيةِ قالَ: يُرْجَمُ". وأخرجَ عنهُ
(2)
أنهُ قالَ: يُنْظَرُ أَعْلَى بناءٍ في القريةِ فيُرْمَى بهِ مُنَكَّسًا ثمَّ يُتْبَعُ الحجارةَ.
وأما [الحكم]
(3)
الثاني:
فإنهُ أخرجَ [البيهقي
(4)
أيضًا]
(5)
عنْ عاصمِ بنِ بهدلةَ عنْ أبي رزين عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه أنهُ سُئِلَ عنِ الذي يأتي البهيمةَ قالَ: لا حدَّ عليهِ، فهذَا الاختلافُ عنهُ دلَّ على أنهُ ليسَ عندَ ابن عباس سُنَّةٌ فيهما عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإنَّما تَكَلَّمَ باجتهادِه، [كذا قيلَ في بيانِ وجْهِ قولِ المصنفِ: إنَّ فيهِ اخْتلافًا]
(6)
.
والحديثُ فيهِ مسألتانِ:
الأُولى:
فيمنْ عمِلَ عَمَل قومِ لوطٍ، ولَا ريبَ أنهُ ارتكبَ كبيرةً وفي حُكْمِها أقوالٌ [أربعة]
(7)
:
الأوَّلُ:
أنهُ يُحَدُّ حدَّ الزَّاني قياسًا عليهِ بجامعِ إيلاجِ محرَّمٍ في فرجٍ محرَّمٍ وهذَا قولُ الهادويةِ
(8)
وجماعةٍ منَ السلفِ والخلفِ، وإليهِ رجعَ الشافعيُّ
(9)
. واعتذرُوا عنِ الحديثِ بأنَّ فيهِ مقَالًا فلا ينتهضُ على إباحةِ دمِ المسلمِ، إلَّا أنَّهُ لا يخْفَى أنَّ هذهِ الأوصافَ التي جمعُوها وجعلوها عِلَّةً لإلحاقِ اللواطِ بالزِّنَى لا دليلَ علَى عِلِّيتِها.
والثاني:
يُقْتَلُ الفاعلُ والمفعولُ بهِ محصنَيْن كانَا أوْ غيرَ محصنَيْنِ للحديثِ
(1)
و
(2)
في "السنن الكبرى"(8/ 232).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
"السنن الكبرى" البيهقي (8/ 232).
(5)
زيادة من (أ).
(6)
زيادة من (ب).
(7)
زيادة من (أ).
(8)
"البحر الزخار" للمهدي (5/ 145 - 146).
(9)
"مغني المحتاج"(4/ 144).
المذكورِ، وهوَ للناصرِ
(1)
وقديمِ قولَيْ الشافعي
(2)
وكانَ طريقةُ الفقهاءِ أن يقولُوا في القتل فُعِلَ ولم يُنْكَرْ فكانَ إجماعَا سِيَّما معَ تكرره منْ أبي بكرٍ وعليٍّ وغيرِهِما
(3)
، وتعجَّبَ في "المنار"
(4)
منْ قِلَّةِ الذاهبِ إلى هذا معَ وضوحِ دليلهِ لفْظًا وبلوغِه إلى حدٍّ يُعْمَلُ بهِ سَنَدًا.
الثالثُ:
أنهُ يُحْرَقُ بالنارِ، فأخرَجَ البيهقيُّ
(5)
أنهُ اجتمعَ رأيُ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على تحريقِ الفاعلِ والمفعولِ بهِ، وفيهِ قصةٌ وفي إسنادِه إرسالٌ.
قالَ الحافظُ المنذريُّ
(6)
: حرَّقَ اللوطيةَ بالنارِ أربعةٌ منَ الخلفاءِ: أبو بكرٍ [الصدِّيقُ]
(7)
، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، وعبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ، وهشام بنُ عبدِ الملكِ.
والرابعُ:
أنهُ يُرْمَى بهِ منْ أَعْلَى بناءٍ في القريةِ مُنكَّسًا ثمَّ يُتْبَعُ الحجارةَ. رواهُ البيهقيُّ
(8)
عنْ عليٍّ عليه السلام وتقدَّمَ عنِ ابنِ عباسٍ
(9)
رضي الله عنهما.
المسألةُ الثانيةُ:
فيمنْ أَتَى بهيمةً، دلَّ الحديثُ على تحريمِ ذلكَ وأنَّ حدَّ مَنْ يأتيْها قَتْلُهُ، وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ
(10)
في [آخرِ قولَيْهِ]
(11)
وقالَ: إنْ صحَّ الحديثُ قلتُ بهِ - ورُوِيَ عنِ القاسم - وذهبَ الشافعيُّ
(12)
في [القديم]
(13)
أنهُ يوجب حدُّ الزِّنَى قياسًا على الزَّاني. وذهبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ والمؤيَّدُ والناصرُ وغيرُهم
(14)
إلى أنهُ يُعَزَّرَ فقطْ إذْ ليسَ بِزِنَى، والحديثُ قدْ تُكلِّم فيهِ بما عرفْتَ ودلَّ علَى وجوبِ قَتْلِ البهيمةِ مأكولهً كانتْ أوْ لا، وإلَى ذلكَ ذهبَ عليٌّ رضي الله عنه[والشافعي
(15)
في قول]
(16)
.
(1)
"الاعتصام"(5/ 76).
(2)
"المجموع"(20/ 27).
(3)
"موسوعة فقه أبي بكر الصديق" قلعه جي (212)، و"موسوعة فقه علي" له أيضًا (546 - 547).
(4)
"المنار في المختار" المقبلي (2/ 380 رقم 6/ 146 س 4).
(5)
"السنن الكبرى" البيهقي (8/ 232).
(6)
"الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري (3/ 289)، وانظر:"الإشراف" لابن المنذر (2/ 36 رقم 29/ 1112).
(7)
زيادة من (ب).
(8)
"السنن الكبرى" البيهقي (8/ 232).
(9)
"السنن الكبرى" البيهقي (8/ 232).
(10)
"المجموع" للنووي (20/ 27).
(11)
في (أ): "قولٍ له".
(12)
"المجموع" للنووي (20/ 27).
(13)
في (ب): "قولٍ له".
(14)
"المغني"(10/ 157 رقم 7168)، و"الاعتصام"(5/ 76).
(15)
"المجموع"(20/ 31).
(16)
في (ب): "وقولٌ للشافعي".
وقيلَ لابنِ عباسِ
(1)
: ما شأْنُ البهيمةِ؟ قالَ: ما سمعتُ منْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ذلكَ شيئًا، ولكنْ [أراه]
(2)
أنهُ كَرِهَ أنْ يُؤْكَلَ منْ لحمِها أو يُنْتَفَعُ بها بعدَ ذلكَ العملِ، ويُرْوَى أنهُ قالَ في الجوابِ: إنَّها تُرَى فيقالُ هذهِ التي فُعِلَ بها ما فُعِلَ. وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ
(3)
إلى أنهُ يُكْرَهُ أكلُها، فظاهرُه أنهُ لا يجبُ قتلُها.
قالَ الخطابيُّ
(4)
: الحديثُ هذا مُعَارَضٌ بِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عنْ قتلِ الحيوانِ إلَّا لمأْكَلِه، قالَ [الإمام]
(5)
المهدي
(6)
: فيحتملُ أنهُ أرادَ عقوبَته بِقَتْلِها إنْ كانتْ لهُ وهيَ مأكولةٌ جَمْعًا بينَ الأدلَّةِ.
الحديث رد على من زعم نسخ التغريب
12/ 1141 - وَعَنْ ابْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ وَغَرَّبَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرجَالُهُ ثِقَاتٌ، إلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ في وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ
(7)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضربَ وغرَّبَ، وأنَّ أبا بكرٍ ضَرَبَ وغرَّبَ، [وأنَّ عمرَ ضربَ وغرَّبَ]
(8)
. رواهُ الترمذيُّ ورجالُه ثقاتٌ إلَّا أنهُ اختُلِفَ في رفْعهِ ووقْفِهِ). وأخرجَ البيهقيُّ
(9)
أنَّ عليًا عليه السلام جلدَ ونفَى منَ البصرةِ إلى الكوفةِ ومنَ الكوفةِ إلى البصرةِ وتقدَّم تحقيقُ ذلكَ في التغريبِ وكأنهُ ساقهُ المصنفُ ردًّا على مَنْ زَعَمَ نسخَ التغريبِ.
(1)
رواه البيهقي (8/ 233).
(2)
في (ب): "أرى".
(3)
"البحر الزخار"(5/ 146)، و"شرح فتح القدير"(5/ 45).
(4)
"معالم السنن على حاشية مختصر سنن أبي داود" الخطابي (6/ 275).
(5)
زيادة من (أ).
(6)
"البحر الزخار" المهدي (5/ 146).
(7)
أخرجه الترمذي (1438)، والبيهقي (8/ 223) من طرق عن عبد اللهَ بن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر به. قال الترمذي: حديث غريب رواه غير واحد عن عبد الله بن إدريس فرفعوه، وروى بعضهم عن عبد اللهِ بن إدريس هذا الحديث عن عبيد اللهِ عن نافع من أن أبا بكر ضرب وغرَّب، وأن عمر ضرب وغرَّب. والحديث صحيح الإسناد لأن عبد اللهِ بن إدريس الأزدي ثقة محتج به في الصحيحين، وقد رواه عنه الجماعة مرفوعًا وموقوفًا، ومن رواه عنه موقوفًا لم يخالف رواية الجماعة، فإن في رواية الجماعة زيادة والزيادة مقبولة لا سيما إذا كانت من الجماعة.
(8)
زيادة من (ب).
(9)
في "السنن الكبرى"(8/ 223).
تخنُّث الرجال وترجُّل النساء
13/ 1142 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُخَنَّثِينَ من الرِّجَال، وَالْمُتَرَجِّلَات مِنَ النِّسَاءِ. وَقَالَ:"أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكِمْ"، رَوَاهُ الْبُخَاريُّ
(1)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المخنَّثينَ) جَمْعُ مخنَّثِ بالخاءِ المعجمةِ فنونٍ فمثلثةٍ، اسمُ مفعولٍ أو اسمُ فاعلٍ رُوِيَ بهِمَا (منَ الرجالِ والمترجِّلاتِ منَ النساء، وقالَ: أخرجُوهُم منْ بيوتِكم. رواهُ البخاريُّ).
اللعنُ منهُ صلى الله عليه وسلم على مرتكبِ المعصيةِ [دليل]
(2)
على كِبَرِهَا، وهوَ يَحْتَمِلُ الإخبارَ والإنشاءَ كما قدَّمْنا. والمخنَّثُ منَ الرِّجالِ المرادُ بهِ منْ تشبَّهَ بالنساءِ في حركاتِهِ وكلامِهِ وغيرِ ذلكَ منَ الأُمورِ المختصَّةِ بالنساءِ، والمرادُ مَنْ تخلَّق بذلكَ لا مَنْ كانَ منْ خِلْقَتِهِ وجِبِلَّتهِ، والمرادُ بالمترجِّلَاتِ منَ النساءِ المتشبهاتُ بالرجالِ، هكَذَا وردَ تفسيرُه في حديثٍ آخرَ أخرجَهُ أبو داودَ
(3)
، وهذا دليل على تحريمِ [التشبه]
(4)
بالنساءِ وبالعكسِ.
وقيلَ لا دلالةَ [في اللعن]
(5)
على التحريم لأنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يأذنُ للمتخنثين بالدخولِ علَى النساءِ، وإنَّما نَفَى مَنْ سمعَ منهُ وصفَ المرأةِ بما لا يفطنُ لهُ إلَّا مَن كانَ لهُ إِرْبةٌ، فهوَ لأجلِ تتبعِ أوصافِ الأجنبيةِ.
قلتُ: يحتملُ أنَّ مَنْ أَذِنَ لهُ كانَ ذلكَ صفةً لهُ خِلْقَةً لا تخلُّقًا، هذَا وقالَ ابنُ التِّينِ
(6)
: أما منِ انتَهى في التشبُّهِ بالنساءِ منَ الرجالِ إلَى أنْ يُؤْتَى في دُبُرِهِ، وبالرجالِ منَ النساءِ إلى أنْ يَتَعاطَى السحقَ، فإنَّ لهذيْن الوصفين منَ اللَّوْمِ والعقوبةِ أشدَّ ممنْ لم يصلْ إلى ذلكَ.
(1)
البخاري (6834) و (5885)، وأبو داود (4930)، (4097)، والترمذي (2785)، وأحمد (1/ 225 - 226 و 227 و 237 و 254 و 339 و 365).
(2)
في (ب): "دال".
(3)
في "السنن"(4098)، عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلَ يلبسُ لِبسةَ المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل"، وهو حديث صحيح.
(4)
في (ب)"تشبَّهِ الرجالِ".
(5)
في (ب): "للعن".
(6)
انظر: "فتح الباري"(10/ 333).
قلتُ: أما مَنْ يُؤْتَى منَ الرجالِ في دُبُرِهِ فهوَ الذي سلفَ حُكْمُه قريْبًا.
درءُ الحدود بالشبهات
14/ 1143 - وَعَنْ أَبى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا"، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بإِسْنَادٍ ضعِيفٍ
(1)
. [ضعيف]
- وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها بلَفْظِ: "ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَن الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا
(2)
. [ضعيف]
- وَرَوَاهُ الْبَيْهَقيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ بلَفْظِ: ادْرَءُوأ الْحُدُودَ بالشُّبُهَاتِ
(3)
. [ضعيف]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ادفعُوا الحدودَ ما وجدتُم لها مَدْفعًا. أخرجَهُ ابنُ ماجهْ وسنده ضعيفٍ. وأخرجَهُ الترمذيُّ والحاكمُ منْ حديثٍ عائشةَ بلقظِ: ادرؤُا الحدودَ عنِ المسلمينَ ما استطعتُم. وهوَ ضعيفٌ أيضًا، ورواهُ البيهقيُّ عنْ عليٍّ عليه السلام منْ قولِه بلفظِ: ادرؤُوا الحدودَ بالشُّبهاتِ).
وذكَرهُ المصنفُ في "التلخيصِ"
(4)
عنْ عليٍّ عليه السلام مرفُوعًا وتمامُه: "ولا ينبغي
(1)
في "السنن"(2545)، قلت: وأخرجه أبو يعلى في مسنده كما في "نصب الراية" للزيلعي (4/ 309). وهو حديث ضعيف. ضعفه الألباني في "الإرواء"(8/ 26 رقم 2356).
(2)
في "السنن"(1424)، والحاكم (4/ 384 - 385).
قلت: وأخرجه الدارقطني (3/ 84 رقم 8)، والبيهقي (8/ 238)، والخطيب في "التاريخ"(5/ 231 ترجمة 2856)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (9/ 569 - 570 رقم 8551) وفي سنده: يزيد بن زيادة الدمشقي. وهو متروك. كما قال الحافظ فى "التقريب"(2/ 364 رقم 253).
والحديث ضعيف، انظر:"التلخيص الحبير"(4/ 56 رقم 1755).
(3)
البيهقي (8/ 238)، وفي سنده: المختار بن نافع منكر الحديث. وأخرجه الدارقطني (3/ 84 رقم 8)، والبيهقي (8/ 238) من طريق آخر، وفي سنده أبي مطر مجهول.
(4)
(4/ 56 رقم 1755).
للإمامِ أن يعطِّلَ الحدودَ"، قالَ: وفيهِ المختارُ بنُ نافعٍ مُنْكَرُ الحديثِ، قالَه البخاريُّ
(1)
، إلا أنهُ ساقَ المصنفُ في "التلخيصِ"
(2)
عِدَّة رواياتٍ موقوفةٍ صحَّحَ بعضَها وهيَ تعاضدُ المرفوعَ، وتدلُّ أنَّ لهُ أصْلًا في الجملةِ.
وفيهِ دليلٌ على أنهُ يدفعُ الحدَّ بالشبهةِ التي يجوزُ وقوعُها كدعْوى الإكراهِ، أوْ أنَّها أُتِيَتِ المرأةُ وهيَ نائمةٌ فَيُقْبَلُ قولُها ويُدْفَعُ عنها الحدُّ ولا تكلَّفُ البيِّنةَ على [ما ادَّعاه]
(3)
.
من ألمَّ بمعصية عليه أن يستتر
15/ 1144 - وَعَنْ ابْن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوا هذِهِ الْقَاذُورَاتِ الَّتي نَهى اللهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بهَا فَلْيَسْتَتِرْ بسَتْر اللهِ تَعَالَى، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى"، رَوَاهُ الْحَاكِمُ
(4)
، وَهُوَ في الْمُوَطَّإِ مِنْ مَرَاسِيلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
(5)
. [ضعيف]
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اجتنبُوا هذهِ القاذوراتِ) جمعُ قاذورةٍ، والمرادُ بها الفعلُ القبيحُ والقولُ السيءُ مما نَهَى اللهُ تعالَى عنهُ (التي نَهَى اللهُ تعالَى عنْها، فمنْ ألمَّ بها فليستترْ بسترِ اللهِ وليتبْ إلى اللهِ، فإنهُ منْ يُبدي لنا صفحتَهُ نُقِمْ عليهِ كتابَ اللهِ عز وجل. رواهُ الحاكمُ) وقالَ على شرطِهمَا، (وهوَ في الموطإِ منْ مراسيلِ زيدِ بن أسلمَ)
قالَ ابنُ عبدِ البرِّ
(6)
: لا أعلمُ هذا الحديثَ أُسْنِدَ بوجهٍ منَ الوجُوهِ، ومرادُه
(1)
في "التاريخ الصغير"(2/ 87).
(2)
(4/ 56 رقم 1755).
(3)
في (ب): "ما زعمته".
(4)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 244 و 383) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. قلت: وصحَّح الدارقطني في "العلل" إرساله. وأخرجه البيهقي (8/ 330) من حديث ابن عمر، وانظر:"تخريج أحاديث إحياء علوم الدين" رقم (2714).
(5)
(2/ 825 رقم 12) وقال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث أسند بوجه من الوجوه. قلت: مراد ابن عبد البر بذلك حديث مالك. أما حديث الحاكم فهو مسند كما تقدم آنفًا.
(6)
في "التمهيد"(5/ 321).
بذلكَ حديثُ مالكٍ، وأما حديثُ الحاكمُ فهوَ مسندٌ معَ أنهُ قالَ إمامُ الحرمينِ في "النهايةِ": إنهُ صحيحٌ متفقٌ على صِحَّتِه.
قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وهذا مما يتعجبُ منهُ العارفُ بالحديثِ، ولهُ أشباهٌ [لذلك]
(1)
كثيرةٌ أوقَعُه فيها اطِّراحُه صناعةَ الحديثِ التي يَفتَقِرُ إليها كلُّ فقيهٍ وعالمٍ.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ يجبُ على مَنْ أَلمَّ بمعصيةٍ أنْ يستترَ، ولا يفضحُ نفسَهُ بالإقرارِ ويبادرُ إلى التوبةِ، فإنْ أبدَى صفحَتهُ للإمامِ - والمرادُ بها هُنَا حقيقةُ أمرِه - وجبَ على الإمامِ إقامةُ الحدِّ.
وقدْ أخرجَ أبو داودَ
(2)
مرفُوعًا: "تعافُوا الحدودَ فيما بينَكم، فما بلغني منْ حدِّ فقَدْ وجبَ".
* * *
(1)
زيادة من (ب).
(2)
في "السنن"(4376)، من حديث ابن عمرو بن العاص.
قلت: وأخرجه النسائي (8/ 70 رقم 4885 و 4886)، وصحَّحه الحاكم (4/ 383) وأقرَّه الذهبي. وذكره ابن حجر في "فتح الباري"(12/ 87)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 330)، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أحمد (1/ 419، 438)، والحاكم (4/ 382 - 383) وسنده ضعيف.
والخلاصة: أنَّ الحديث صحيح، واللهُ أعلم.
[الباب الثاني] باب حد القدف
القذْفُ لغةً: الرميُ بالشيءِ، [وهو شرعًا]
(1)
: الرميُ بوطءٍ [محرَّم]
(2)
يُوجِبُ الحدَّ على المقذوفِ.
ثبوت حد القذف
1/ 1145 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَة فَضُرِبُوا الْحَدَّ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ
(3)
. [حسن]
(عنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: لما نَزَلَ عذْري قامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علَى المنبرِ فذكرَ ذلكَ وتَلَا القرآنَ) منْ قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}
(4)
إلى آخرِ ثماني عَشْرَةَ آيةً على إحْدَى الرواياتِ في العددِ، (فلمَّا نزلَ أمرَ برجلَيْنِ) هُمَا حسَّانُ ومسطِّحٌ (وامرأةٍ) هي حمنةُ بنتُ جحشٍ (فضُربُوا الحدَّ. أخرجَهُ أحمدُ والأربعةِ وأشارَ إليهِ البخاريُّ).
(1)
في (ب): "الشرع".
(2)
زيادة من (أ).
(3)
أخرجه أحمد (16/ 109 رقم 281 - الفتح الرباني).
وأبو داود (4474)، وابن ماجه (2567)، والترمذي (3180)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 325 رقم 7351/ 1)، وأشار إليه البخاري في صحيحه (12/ 181 - باب رمي المحصنات - (44). وهو حديث حسن.
(4)
سورة النور: الآية 11.
في الحديثِ ثبوتُ حدِّ القذفِ وهوَ ثابتٌ لقولِه تعالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}
(1)
الآيةَ.
وظاهرُه أنهُ لم يثبتِ القذفُ لعائشةَ إلَّا مِنَ الثلاثةِ المذكورينَ، وقد ثبتَ أنَّ الذي تولَّى كِبْرَهُ عبدُ اللهِ بنُ أُبيِّ بنِ سلولٍ ولكنه لم يثبتْ أنهُ جلَدَهُ صلى الله عليه وسلم حدَّ القذْفِ.
وقدْ ذكرَ ذلكَ ابنُ القيّمِ
(2)
وعدَّ أعذارًا في تركهِ صلى الله عليه وسلم[لحدِّهِ]
(3)
، ولكنهُ قدْ أخرجَ الحاكمُ في الإكليلِ أنهُ صلى الله عليه وسلم حدَّه منْ جملةِ القَذَفَةِ. وأما قولُ الماورديِّ أنهُ صلى الله عليه وسلم لم يجلدْ أحدًا منَ القَذَفَةِ لعائشةَ، وعلَّلَهُ بأنَّ الحدَّ إنَّما يثبتُ بِبَيِّنَةٍ أوْ إقرارٍ، فقدْ ردَّ قولُه بأنهُ ثبتَ ما يوجبُه بنصِّ القرآنِ، وحدُّ القاذفِ يثبتُ بعدمِ ثبوتِ ما قذفوا بهِ ولا يحتاجُ في إثباتِه إلى بَيِّنَةٍ.
قلتُ: ولا يخْفَى أنَّ القرآنَ لم يعينْ أحدًا من القَذَفَةِ وكأنَّهُ يريدُ ما ثبتَ في تفسيرِ الآياتِ، فإنهُ ثبتَ أنَّ الذي تولَّى كِبْرَهُ عبدُ اللهِ بنُ أبي [ابن سلولٍ]
(4)
وأنَّ مُسَطِّحًا منَ القَذَفةِ وهوَ المرادُ بنزولِ قولِه تعالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى}
(5)
الآيةَ.
2/ 1146 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَوّلُ لِعَانٍ كَانَ في الإسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ بنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ"، الحديثُ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعلَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ
(6)
. [صحيح]
(1)
سورة النور: الآية 4.
(2)
في "زاد المعاد"(3/ 264).
(3)
في (أ): "لجلده".
(4)
زيادة من (ب).
(5)
سورة النور: الآية 22.
(6)
أخرجه أبو يعلى في "المسند"(5/ 207 - 208 رقم 69/ 2824)، بإسناد صحيح، وأخرجه ابن كثير في تفسيره (3/ 278) من طريق أبي يعلى هذه.
وأخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (1496)، والنسائي (6/ 171)، والبيهقي (7/ 406)، من طريقين عن عبد الأعلى، كلاهما حدثنا هشام، به.
وأخرجه - مختصرًا - أحمد (3/ 142)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 102). من طريقين عن وهب بن جرير.
وأخرجه النسائي (6/ 172 - 173) من طريق عمران بن يزيد. =
وهو في البخاري نحوه مِن حديثٍ ابن عباسٍ رضي الله عنهما
(1)
. [صحيح]
(وعنْ أنسِ بنِ مالكٍ: قالَ: أوَّلُ لِعَانٍ كانَ في الإسلامِ أنَّ شَرِيْكَ بنَ سحماءَ قذفَهُ هلالُ بنُ أميةَ بامرأتِه، فقال لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: البيِّنَةُ وإلَّا فحدٌّ في ظَهْرِكَ. الحديثُ أخرجَهُ أبو يَعْلَى ورجالُه ثِقَاتٌ وهو في البخاريِّ نحوَهُ منْ حديثٍ ابنِ عباسٍ).
قولُه: أولُ لِعَانٍ، قدِ اختلفتِ الرواياتُ في سببِ نزولِ آيةِ اللِّعانِ
(2)
، ففي روايةٍ أنسٍ هذهِ أَنَّها نزلتْ في قِصَّةِ هلال، وفي أُخْرَى أنَّها نزلتْ في قصةِ عُوَيْمِرٍ العجلانيِّ
(3)
. ولا ريبَ أنَّ أوَّلَ لعانٍ كانَ بِنُزُولِها لبيانِ الحكمِ وجُمِعَ بينَهما بأنَّها نزلتْ في شأنِ هلالٍ وصادفَ مجيءُ عويمرٍ العجلانيِّ، وقيلَ غيرُ ذلكَ.
والحديثُ دليلٌ على أنَّ الزوجَ إذا عجزَ عنِ البيّنةِ علَى ما ادَّعاهُ [على]
(4)
ذلكَ الأمرِ وجبَ عليهِ الحدُّ إلَّا أنهُ نُسِخَ وجوبُ الحدِّ عليهِ بالملاعنةِ، وهذا منِ نَسْخِ السُّنةِ بالقرآنِ وإنْ كانتْ آيةُ جلدِ القذفِ وهيَ قولُه تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}
(5)
الآيةُ سابقةٌ نزولًا على آيةِ اللِّعانِ، فآيةُ اللِّعانِ إمَّا ناسخةٌ على تقديرِ تراخي النزولِ عندَ مَنْ يشترطُه لقذفِ الزَّوْجِ، أو مخصصةٌ إنْ لم يتراخَ النزولُ، أوْ يكون آيةُ اللعانِ قرينةٌ على أنهُ أُرِيدَ بالعمومِ في قولِه تعالَى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (5) الخصوصُ وهوَ منْ عدَا القاذفِ لزوجتِه منْ بابِ استعمالِ العامِّ في الخاصِّ بخصوصِه، كذا قيلَ.
والتحقيقُ أنَّ الأزواجَ القاذفينَ لأزواجِهم باقونَ في عمومِ الآيةِ، وإنَّما جعلَ اللهُ تعالَى شهادةَ الزَّوْج أربعَ شهاداتٍ باللهِ قائمةً مقامَ الأربعةِ الشهداءِ،
= وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار" (3/ 101) من طريق محمد بن كثير، كلاهما حدثنا مخلد بن الحسين بهذا الإسناد.
(1)
أخرجه البخاري في "صحيحه"(4747).
قلت: وأخرجه أبو داود (2254)، والترمذي (3179)، وابن ماجه (2067)، والدارقطني (3/ 277 - 278 رقم 122)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 393 - 394)، والبغوي في "شرح السنة" (9/ 259 - 260 رقم 2370) وقال: هذا حديث صحيح.
(2)
سورة النور: الآية 6.
(3)
أخرجه البخاري (4745).
(4)
في (ب): "من".
(5)
سورة النور: الآية 4.
ولِذَا سمَى الله تعالى أيْمانَهُ شهادةً فقالَ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ}
(1)
فإذا نكلَ عنِ الأَيْمانِ وجبَ جلْدُه جَلْدَ القذفِ، كما أنهُ إذا رمَى أجنبيٌّ أجنبيةً ولم يأتِ بأربعةِ شهداءَ جُلِدَ للقذفِ، فالأزواجُ باقونَ في عمومِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}
(2)
داخلونَ في حُكْمهِ، ولِذَا قالَ صلى الله عليه وسلم:"البينةُ وإلَّا فحدٌّ في ظَهْرِكَ".
وإنَّما أنزلَ اللهُ آيةَ اللِّعانِ لإفادةِ أنهُ إذا فقدَ الزوجُ البيِّنةَ وهمْ الأربعةُ الشهداءِ فقدْ جعلَ اللهُ تعالَى عِوضَهم الأربعَ الأيمانِ، وزادَ الخامسةَ للتأكيدِ والتشديدِ، وجلْدُ الزوجِ بالنكولِ قولُ الجمهورِ
(3)
، فكأنهُ قيلَ في الآيةِ [الأُولَى]
(4)
ثمَّ لم يأتُوا بأربعةِ شهداءَ ولم يحلفُوا إنْ كانُوا أزواجًا لمنْ رمَوْا، وغايتُه أنَّها قيَّدتِ الآيةُ الثانيةُ بعضَ أفرادِ عمومِ الأُولَى بقيدٍ زائدٍ عِوَضًا عنِ القيدِ الأولِ إذا فُقِدَ الأولُ، واللهُ أعلمُ.
3/ 1147 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِر بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ في الْقَذْفِ إلَّا أَرْبَعِينَ. رَوَاهُ مَالِكٌ
(5)
وَالثَّوْرِيُّ في جَامِعِهِ. [مرسل]
ترجمة عبد الله بن عامر
(وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ)
(6)
هوَ أبو عمرانَ
(7)
عبدُ اللهِ بنُ عامرٍ
(1)
سورة النور: الآية 4.
(2)
سورة النور: الآية 6.
(3)
انظر: "بداية المجتهد"(3/ 224) بتحقيقنا، و"الفقه الإسلامي وأدلته" للزحيلي (7/ 577).
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في "الموطأ"(2/ 828 رقم 17). و"الموطأ" برواية أبي مصعب (1778). قلت: وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 438 رقم 13794).
(6)
هو عبد اللهِ بن عامر بن ربيعة العنزي أبو محمد المدني حليف بني عدي، ولد في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة بضع وثمانين. وقال ابن معين: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذي في "الصحابة" - (364) -: رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام صغير - روى عنه حرفًا وإنما روايته عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ["تهذيب التهذيب" (5/ 237 - 238 رقم 466). وتسمية أصحاب رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم للترمذي].
(7)
أما أبو عمران فهو عبد اللهِ بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي المقري الدمشقي، ولد سنة (21 هـ)، ومات سنة (118 هـ)، وكان قليل الحديث. =
القارئُ الشاميُّ، كانَ عالمًا ثقةً حافِظًا لما رواهُ، في الطبقةِ الثانيةِ منَ التابعينَ، أحدُ القراءِ السبعةِ. رَوى عنْ واثلةَ بنِ الأسقعِ وغيرِه، وقرأَ القرآنَ على المغيرةِ بنِ شهابٍ المخزوميِّ عنْ عثمانَ بنِ عفَّانَ، وُلِدَ سنةَ إحْدَى وعشرينَ منَ الهجرةِ وماتَ سنةَ ثماني عشرةَ ومائةٍ.
(قالَ: لقدْ أدركتُ أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ ومَنْ بعدَهم فلمْ أرَهُم يضربونَ المملوكَ) ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثَى (في القذفِ إلَّا أربعينَ. رواهُ مالكٌ والثوري في جامِعِهِ).
دَلَّ على أنَّ رأيَ من ذكرَ تنصيفَ حدِّ القذفِ على المملوكِ، ولا يخْفَى أنَّ النصَّ وردَ في تنصيفِ حدِّ الزِّنَى في الإماءِ لقوله تعالَى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(1)
فكأنَّهم قاسُوا عليهِ حدَّ القذفِ في الأَمَةِ إنْ كانتْ قاذفةً، وخصَّصُوا بالقياسِ عمومَ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}
(2)
، ثمَّ قاسُوا العبدَ على الأَمَةِ في تنصيفِ الحدِّ في الزِّنَى والقذفِ بجامعِ الملْكِ [وهو]
(3)
علَى رأْي مَنْ يقولُ بعدمِ دخولِ المماليكِ في العموماتِ لا تخصيصَ، إلَّا أنهُ مذهبٌ مردودٌ في الأصولِ، وهذَا مذهبُ الجماهيرِ
(4)
منْ علماءِ الأمصارِ.
وذهبَ ابنُ مسعودٍ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ
(5)
إلى أنهُ لا ينصَّف حد القذف على العبد لعموم الآية، وكأنهم لا يرون العمل بالقياس كما رأْيُ الظاهريةِ
(6)
.
والتحقيقُ أنَّ القياسَ غيرُ تامٍّ هُنَا لأنَّهم جعلُوا العِلَّةَ في إلحاقِ العبدِ بالأَمَةِ المُلْكَ، ولا دليلَ على أنهُ العلَّةُ إلَّا ما يدَّعونَهُ منَ السَّبرِ والتقسيمِ، والحقُّ أنهُ ليسَ منْ مسالكِ العلَّةِ، وأيُّ مانعٍ منْ كونِ الأنوثةِ جزءَ العلَّة لنقصِ حدُّ الأَمَةِ لأنَّ الإمَاءَ يُمْتَهَنَّ ويُغْلَبْنَ، ولِذَا قالَ اللهُ تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ
= [تهذيب التهذيب" (5/ 240 - 241 رقم 470)].
قلت: وبذلك يتضح وهم الأمير الصنعاني رحمه الله في ترجمة "عبد اللهِ بن عامر"، فظنه أبا عمران هذا. ولكنه أبو محمد المدني الذي قدَّمنا ترجمته آنفًا.
(1)
سورة النساء: الآية 25.
(2)
سورة النور: الآية 4.
(3)
في (ب): "و".
(4)
"المجموع"(20/ 53).
(5)
"المجموع"(20/ 53)، وانظر:"موسوعة فقه عبد الله بن مسعود" قلعه جي (415).
(6)
"المحلَّى" ابن حزم (11/ 339 رقم 2205).
غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
، أي لهنَّ، ولم يأتِ مثلُ ذلكَ في الذكورِ إذْ لا يغلَبُونَ على أنفسِهمْ، وحينئذٍ نقولُ إنهُ لا يُلْحَقُ العبدُ بالأَمَةِ في تنصيفِ حدِّ الزِّنَى ولا القذفِ وكذلكَ الأَمَةُ لا يُنَصَّفُ لها حدُّ القذفِ بلْ تحد له كالحرة ثمانينَ جلدةً، ودَعْوى الإجماعِ علَى تنصيفِه في حدِّ الزِّنى غيرُ صحيحةٍ لخلافِ داودَ [وغيره
(2)
]
(3)
، وأما في القذفِ فقدْ سمعتَ الخلافَ منهُ ومنْ غيرِهِ.
لا يُحد المالك إذا قذف مملوكه
4/ 1148 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كمَا قَالَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قذفَ مملوكَهُ يُقَامُ عليهِ الحدُّ يومَ القيامةِ إلَّا أنْ يكونَ كما قالَ. متفقٌ عليهِ). فيهِ دليلٌ علَى أنهُ لا يُحَدُّ المالكُ في الدُّنيا إذا قذفَ مملوكَه وإنْ كانَ داخلًا تحت عمومِ آيةِ القذفِ
(5)
بناءً على أنهُ لم يردْ بالإحصانِ الحريةَ ولا التزوُّجَ، وهو لفظٌ مشتركٌ يطلَقُ على الحرِّ والمحصَنِ والمسلمِ لأنهُ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أنهُ يحدُّ لِقذْفِه [مملوكَه]
(6)
يومَ القيامةِ، ولو وجبَ حدُّه في الدنيا لم يجَبْ عليه الحد يومَ القيامةِ، إذْ قدْ وردَ أنَّ هذهِ الحدودَ كفاراتٌ لِمَنْ أقيمتْ عليهِ وهذا إجماعٌ.
وأما إذا قذفَ العبدُ غيرَ مالكِه فإنهُ [أيضًا]
(7)
أجمعَ العلماءُ
(8)
علَى أنهُ لا يحدُّ قاذفُه إلَّا أمُّ الولدِ ففيها خلافٌ، فذهبَ الهادويةُ والشافعيةُ وأبو حنيفةَ
(9)
(1)
سورة النور: الآية 33.
(2)
"الإمام داود الظاهري وأثره"، عارف أبو عيد (669).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
البخاري (6858)، ومسلم (1660)، وأبي داود (5165)، والترمذي (1947) وقال: حسن صحيح، وأحمد (2/ 431 و 500). و"السنن الكبرى"، النسائي (4/ 325 رقم 7352/ 1) وقال: هذا حديث جيد.
(5)
سورة النور: الآية 4.
(6)
زيادة من (ب).
(7)
زيادة من (ب).
(8)
"المجموع"(20/ 54).
(9)
"الاعتصام"(5/ 91)، و"المجموع"(20/ 55)، و"شرح فتح القدير" ابن الهمام (5/ 103).
[إلى]
(1)
أنهُ لا حدَّ أيضًا على قاذفِها لأنَّها أيضًا مملوكةٌ قبلَ موتِ سيِّدِهَا، وذهبَ مالكٌ والظاهريةُ
(2)
إلى أنهُ يحدُّ وصحَّ ذلكَ عنِ ابنِ عمرَ
(3)
.
* * *
(1)
في (أ): "إلا".
(2)
"المدونة"(6/ 229)، و"المحلَّى"(11/ 272).
(3)
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(4/ 325 رقم 7353/ 2).
[الباب الثالث] باب حد السرقة
نصاب حدِّ السرقة
1/ 1149 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلَّا في رُبع دِينَار فَصَاعِدًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
(1)
. [صحيح]
(عنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا تقْطَعُ يدُ السارقِ إلَّا في رُبعِ دينارٍ فصاعِدًا) نُصِبَ على الحالِ ويستعملُ بالفاءِ وبثمَّ ولا يُأْتى بالواوِ، وقيلَ معناهُ ولو زادَ لم يكنْ إلَّا صاعِدًا فهوَ حالٌ مؤكِّدةٌ (متفقٌ عليهِ، واللفظ لمسلم)، ولفظُ البخاريِّ:[تُقْطَعُ]
(2)
يدُ السارقِ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِدًا، وفي روايةٍ لأحمدَ، أي عنْ عائشةَ وهوَ:
2/ 1150 - وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ:، تُقْطَعُ يَدُ السّارِقِ في رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا"، وَفي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ: "اقْطَعُوا في رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيما هُوَ أَدْنَى مِنْ ذلِكَ"
(3)
. [صحيح]
(اقطَعُوا في رُبْعِ دينارٍ ولا تقطعُوا فيما هوَ أَدْنَى منْ ذلكَ)، إيجابُ حدِّ السرقةِ
(1)
البخاري (6789)، ومسلم (1/ 1684). قلت: وأخرجه النسائي (8/ 80 رقم 4929 و 4930)، وابن ماجه (2585).
(2)
في (أ): "يقطع".
(3)
البخاري (6789)، وأبو داود (4384)، والترمذي (1445)، وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد (6/ 36 و 80 و 163 و 252)، و"الموطأ"(2/ 832 رقم 24).
ثابتٌ بالقرآنِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
(1)
الآيةَ، ولم يذكرْ في القرآنِ نصابُ ما يقطعُ فيهِ، فاختلفَ العلماءُ في مسائلَ:
الأُولَى: هلْ يُشْتَرَطُ النصابُ أَوْ لا؟ ذهبَ الجمهورُ
(2)
إلى اشتراطِه مستدلِّينَ بهذِه الأحاديثِ الثابتةِ، وذهبَ الحسنُ والظاهريةُ والخوارجُ
(3)
إلى أنهُ لا يشترطُ بلْ يُقْطَعُ في القليلِ والكثيرِ لإطلاقِ الآيةِ، ولمَا أخرجَهُ البخاريُّ منْ حديثِ أبي هريرةَ أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم:"لعنَ اللهُ السارقَ يسرقُ البيضةَ فتقطعُ يدُه، وَيَسْرِقُ الحبلَ فَتُقْطَعُ يدُه"
(4)
.
وأُجِيْبَ بأنَّ الآيةَ مطلقةٌ في جنسِ المسروقِ وقَدْرِهِ والحديثُ بيانٌ لها، وبأنَّ المرادَ منْ حديثِ البيضةِ غيرُ القطعِ بِسَرِقَتِها بلْ الإخْبَارُ بتحقيرِ شأنِ السارقِ وخسارةِ ما ربحَه منَ السرقةِ وهوَ أنهُ إذا تعاطَى هذهِ الأشياءَ الحقيرةَ وصارَ ذلكَ خُلُقًا لهُ جَرَّأَهُ علَى سرقةِ ما هوَ أكثرُ منْ ذلكَ مما يبلغُ قدرُه ما يقطعُ بهِ، فليحذرْ هذا القليلَ قبلَ أنْ تملكَه العادةُ فيتعاطَى سرقةَ ما هوَ أكثرُ منْ ذلكَ، ذكرَ هذا الخطابيُّ
(5)
وسبقَه ابنُ قتيبةَ
(6)
إليهِ، ونظيرُه حديثُ: "مَنْ بَنَى للهِ مسجِدًا ولو كَمفْحَصِ
(7)
قطاةٍ"
(8)
، وحديثُ: "تصدَّقي ولو بظلِفِ
(9)
محرقٍ"
(10)
.
ومنَ المعلومِ أنَّ مِفْحَصَ القطاةِ لا يصحُّ تسبيلُه ولا التصدقُ بالظلفِ المحرقِ لعدمِ الانتفاعِ بهمَا، فما قصدَ صلى الله عليه وسلم إلَّا المبالغةَ في الترهيبِ من السرقة.
الثانيةُ: اختلفَ الجمهور
(11)
في قَدْرِ النصابِ بعدَ اشتراطِهم لهُ على أقوالٍ بلغتْ إلى عشرينَ قولًا، والذي قامَ الدليلُ عليهِ منْها قولانِ:
(1)
سورة المائدة: الآية 38.
(2)
"بداية المجتهد" ابن رشد (4/ 401).
(3)
"موسوعة فقه الحسن" قلعه جي (2/ 527)، و"المحلَّى" ابن حزم (11/ 351)، و"بداية المجتهد"(4/ 401).
(4)
البخاري (6783)، ومسلم (7/ 1687)، وأحمد (2/ 253)، والنسائي (8/ 65)، وابن ماجه (2583)، و"البيهقي"(8/ 253).
(5)
و
(6)
انظر: "فتح الباري"(12/ 82 رقم 6783).
(7)
محلها ومبيضها الذي خصصته وكشفته، "مختار الصحاح"(ص 206).
(8)
انظر: "فتح الباري"(12/ 83)، وأحمد (1/ 241)، والبيهقي (2/ 437).
(9)
الظَّلْفُ للبقر والغنم كالحافر للفرس والبغل، "مختار الصحاح"(ص 170).
(10)
انظره في: "فتح الباري"(12/ 83).
(11)
"بداية المجتهد"(4/ 401) بتحقيقنا.
الأولُ: أنَّ النصابَ الذي تُقْطَعُ بهِ ربعُ دينارٍ منَ الذهبِ وثلاثةُ دراهمَ منَ الفضةِ، وهذَا مذهبُ فقهاءِ الحجازِ والشافعيُّ وغيرِهم
(1)
مستدلِّينَ بحديثِ عائشةَ المذكورِ
(2)
، فإنهُ بيانٌ لإطلاقِ الآيةِ. وقدْ أخرجَهُ الشيخانِ كما سمعتَ وهوَ نصٌّ في رُبعِ الدينارِ، قالُوا: والثلاثةُ الدراهمِ قيمتُها ربعُ دينارٍ، ولما يأتي مِنْ أنهُ صلى الله عليه وسلم قطعَ في مجنٍّ قيمتُه ثلاثةُ دراهمَ قالَ الشافعيُّ
(3)
: إنَّ الثلاثةَ الدراهمِ إذا لم تكنْ قيمتُها ربعَ دينارٍ لم توجب القَطْعَ. واحْتُجَّ لهُ أيضًا بما أخرجَه ابنُ المنذرِ
(4)
أنَهُ أُتِيَ عثمانُ بسارقٍ سرقَ أُتْرُجَّةَ قُوِّمَتْ بثلاثةِ دراهمَ منْ حسابِ الدينارِ باثْني عشرَ فقطعَ. وأخرجَ أيضًا
(5)
أنَّ عليًا عليه السلام قطعَ في ربعِ دينارٍ كانتْ قيمتُه [درهميْنِ]
(6)
ونِصْفًا.
وقالَ الشافعيُّ
(7)
: ربعُ الدينارِ موافقٌ الثلاثةَ الدراهمِ، وذلكَ أنَّ الصَّرْفَ علَى عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اثنا عشرَ دِرْهمًا بدينارٍ، وكانَ كذلكَ بعدَهُ، ولِهَذَا قُوِّمَتِ الديةُ اثني عشرَ ألفًا منَ الورِقِ وألفَ دينارٍ منَ الذهبِ.
القولُ الثاني: للهادويةِ وأكثرِ فقهاءِ العراقِ
(8)
أنهُ لا يوجبُ القطعَ إلَّا سرقةُ عشَرَةِ دراهمَ، ولا يجبُ في أقلَّ مِنْ ذلكَ. واستدلُّوا لذلكَ بما أخرجَه البيهقيُّ والطحاويُّ منْ طريقِ محمدِ بنِ إسحاقَ منْ حديثِ ابنِ عباسٍ
(9)
أنهُ كانَ ثمنُ المِجَنِّ علَى عَهْدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشَرةَ دراهمَ.
(1)
"بداية المجتهد"(4/ 401 - 402) بتحقيقنا.
(2)
انظر تخريج الحديث رقم (1/ 1149) من كتابنا هذا.
(3)
"المجموع"(20/ 81).
(4)
"فتح الباري"(12/ 107).
(5)
"فتح الباري"(12/ 107).
(6)
في (أ): "درهمان".
(7)
"المجموع"(20/ 81).
(8)
"البحر الزخار"(5/ 175)، و"بداية المجتهد"(4/ 402) بتحقيقنا.
(9)
أخرجه أبو داود (4387)، والنسائي (8/ 83)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 163)، والدارقطني (3/ 192 رقم 323)، والحاكم (4/ 378)، والبيهقي (8/ 257). وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وقلت: فيه عنعنة محمد بن إسحاق، ولكن للحديث شواهد بمعناه. منها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال:"كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم".
أخرجه النسائي (8/ 84)، وفيه أيضًا عنعنة ابن إسحاق، ولكن له شواهد بمعناه.
ورَوَى أيضًا محمدُ بنُ إسحاقَ منْ حديثِ عمروِ بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّه مِثْلَه
(1)
، قالُوا: وقدْ ثبتَ في الصحيحينِ منْ حديثِ ابنِ عمرَ
(2)
: "أنهُ صلى الله عليه وسلم قطعَ في مجنٍّ"، وإنْ كانَ فيهمَا أنَّ قيمتَه ثلاثةُ دراهمَ، لكنَّ هذهِ الروايةَ قدْ عارضتْ روايةَ الصحيحينِ والواجبُ الاحتياطُ فيما يُسْتَبَاحُ بهِ العضوُ المحرَّمُ قطْعُه إلَّا بحقِّه، فيجبُ الأخذُ بالمتيقَّنِ وهوَ الأكثرُ، قالَ ابنُ العربي
(3)
: ذهبَ سفيانُ الثوريُّ معَ جلالتِه في الحديثِ إلى أنَّ القطْعَ لا يكونُ إلَّا في عشرةِ دراهمَ، وذلكَ أنَّ اليدَ محرَّمةٌ بالإجماعِ فلا تستباحُ إلَّا بما أجمعَ عليهِ، والعشرةُ متفقٌ على القطعِ بها عندَ الجميعِ فيتمسكُ بها ما لم يقعِ الاتفاقُ على دونِ ذلكَ.
قلتُ: قدِ استُفيدَ منْ هذهِ الرواياتِ الاضطرابُ في قَدْرِ قيمةِ المجنِّ منْ ثلاثةِ دراهمَ أو عَشْرةٍ أوْ غيرِ ذلكَ مما وردَ في قدْرِ قيمتِه، وروايةُ رُبْعِ دينارِ في حديثِ عائشةَ
(4)
صريحةٌ في المقدارِ فلا يقدِمُ عليها ما فيهِ اضطرابٌ، على أنَّ الراجحَ أنَّ قيمةَ المجنِّ ثلاثةُ دراهمَ لما يأتي منْ حديثِ ابنِ عمرَ
(5)
المتفقِ عليهِ وباقي الأحاديثِ المخالفةِ لا تقاومُه سَنَداً. وأما الاحتياطُ بعدَ ثبوتِ الدليلِ فهوَ في اتباعِ الدليلِ لا فيما عدَاهُ، علَى أنَّ روايةَ التقديرِ لقِيْمَةِ المجنِّ بالعشرةِ جاءتْ منْ طريقِ ابنِ إسحاقَ
(6)
ومنْ طريقِ عمروِ بنْ شُعَيْبٍ
(7)
وفيهمَا كلامٌ معروفٌ، وإنْ كُنَّا لا نَرى القدْحَ في ابنِ إسحاقَ بما ذكرُوْهُ كما قرَّرْنَاهُ في مواضعَ أُخَرَ.
المسألةُ الثالثةُ: اختلفَ القائلونَ بشرطيةِ النِّصابِ فيما يقدَّرُ بهِ غيرُ الذهبِ والفضةِ، فقالَ مالكٌ
(8)
في المشهورِ: يَقوَّمُ بالدراهمِ لا بُربْعِ الدينارِ، يعني إذا
(1)
أخرجه النسائي (8/ 84). وقد تقدم في التعليقة السابقة.
(2)
أخرجه البخاري (6795)، ومسلم (6/ 1686)، وأبو داود (4385)، والنسائي (8/ 76)، والترمذي (1446)، ومالك في "الموطأ"(2/ 831 رقم 21) وغيرهم.
(3)
"عارضة الأحوذي" ابن العربي (6/ 226).
(4)
انظر تخريج الحديث رقم (1/ 1149) من كتابنا هذا.
(5)
سيأتي تخريجه في الحديث رقم (3/ 1151) من كتابنا هذا.
(6)
تقدم تخريجه في التعليقة رقم (1).
(7)
تقدم تخريجه في التعليقة رقم (2).
(8)
"بداية المجتهد"(4/ 402) بتحقيقنا.
اختلفَ صرفُهما مثلُ أنْ يكونَ رُبْعَ دينارٍ صرفَ درهمينِ مثلًا. وقالَ الشافعيُّ
(1)
: الأصلُ في تقويمِ الأشياءِ هوَ الذهبُ لأنهُ [أصل الجواهر]
(2)
في الأرضِ كلِّها، قالَ الخطابيُّ
(3)
: ولِذلكَ فإنَّ الصِّكاكَ القديمةَ كانَ يُكْتَبُ فيها عشرةُ دراهمَ وزنُ سبعةِ مثاقيلَ، فعُرِفَت الدراهمُ بالدنانيرِ وحُصِرتْ بها حتَّى قالَ الشافعيُّ
(4)
: إنَّ الثلاثةَ الدراهمِ إذا لم تكن قيمتُها رُبْعَ دينارٍ لم توجبِ القطعَ كما قدَّمنا.
وقالَ بقولِ الشافعي في التقويمِ أبو ثورٍ والأوزاعيُّ وداودُ
(5)
، وقالَ أحمدُ
(6)
بقولِ مالكٍ
(7)
في التقويمِ بالدراهمِ، وهذانِ القولانِ في قدْرِ النصابِ تفرُّعًا عنِ الدليلِ كما عرفتَ. وفي البابِ أقوالٌ كما قدَّمنَا لم ينهضْ لها دليلٌ فلا حاجةَ إلى شغلِ الأوراقِ [بها]
(8)
والأوقاتِ [بالقالِ والقيلِ]
(9)
.
3/ 1151 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(10)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قطعَ في ثمن مجنٍّ قيمتُه ثلاثةُ دراهمَ. متفقٌ عليهِ). المِجَنُّ بكسرِ الميمِ وبالجيمِ: الترسُ، مِفْعَلٌ منَ الاجتنانِ وهوَ الاستتارُ والاختفاءُ، كُسِرَتْ ميمُه لأنهُ آلةٌ في الاستتارِ قالَ:
وكانَ مِجنِّي دونَ مَنْ كنتُ أتَّقِي
…
ثلاثَ شخوصٍ كاعِبانِ [ومعصيرِ]
(11)
وقد عرفتَ مما مضى أنَّ الثلاثةَ الدراهمِ ربْعُ دينارٍ، ويدلُّ لهُ قولُه: وفي روايةٍ لأحمدَ
(12)
: "ولا تقطعُوا فيما هوَ أَدْنَى منْ ذلكَ" بعدَ أنْ ذكرَ القطعَ في ربْعِ
(1)
"المجموع"(20/ 81).
(2)
في (ب)"الأصل في جواهر".
(3)
"معالم السنن" الخطابي (6/ 220).
(4)
"المجموع"(20/ 81).
(5)
"فقه الإمام أبي ثور" سعدي أبو جيب (728 - 729)، و"بداية المجتهد"(4/ 402) بتحقيقنا.
(6)
"المغني"(10/ 238).
(7)
"بداية المجتهد"(4/ 402) بتحقيقنا.
(8)
زيادة من (أ).
(9)
زيادة من (ب).
(10)
البخاري (6795)، ومسلم (6/ 1686). قلت: وأخرجه أبو داود (4385)، والنسائي (8/ 76)، ومالك (2/ 831 رقم 21)، والترمذي (1446).
(11)
في (ب): "معصَر".
(12)
أحمد (6/ 36 و 80 و 163 و 252)، وانظر تخريج الحديث رقم (2/ 1150) من كتابنا هذا.
دينار، ثمَّ أخبرَ الراوي هُنَا أنهُ صلى الله عليه وسلم قطعَ في ثلاثةِ دراهمَ، ما ذاكَ إلَّا [أنَّها]
(1)
ربْعُ دينارٍ إلَّا لنا في قولِه: "ولا تقطعُوا فيما هوَ أدنَى منْ ذلكَ"، وقولُه هُنَا:"قيمتُه" هذا هوَ المعتَبَرُ، أعني القيمةَ. ووردَ في بعضِ ألفاظِ هذا الحديثِ عند الشيخَيْنِ
(2)
بلفظِ: "ثمنهُ ثلاثةُ دراهمَ"، قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ
(3)
: المعتَبَرُ القيمةُ، وما وردَ في بعضِ الرواياتِ مِنْ ذِكْرِ الثَّمنِ فكأنهُ لتساوْيهِمَا عندَ الناسِ في ذلكَ الوقتِ أوْ في عُرْفِ الراوي أوْ باعتبارِ الغلَبَةِ، وإلَّا فلوِ اختلفتِ القيمةُ والثمنُ الذي شَرَاهُ بهِ مالِكُه لم [تعتبر]
(4)
إلا القيمةُ.
4/ 1152 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا
(5)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لعنَ الله السارقَ يسرقُ البيضةَ فَتُقْطَعُ يدُه، ويسرقُ الحبلَ فتقطعُ يدُه. متفقٌ عليهِ).
تقدَّم أنهُ منْ أدلَّةِ الظاهريةِ
(6)
، ولكنه مُؤَوَّلٌ بما ذكرَ قريبًا، والموجبُ تأويلهِ ما عرفْتَهُ منْ قولِه في المتَّفَقِ عليهِ:"لا تُقْطَعُ يدُ السارقِ إلَّا في ربْعِ دينارٍ"
(7)
، وقولِه فيما أخرجَهُ أحمدُ
(8)
: "ولا تقطعُوا فيما هوَ أدنَى منْ ذلكَ، فتعيَّنَ تأويلُه بما ذكرنَاهُ.
وأما تأويلُ الأعمشِ
(9)
لهُ بأنهُ أُرِيْدَ بالبيضةِ بيضةُ الحديدِ وبالحبْلِ حبلُ السفنِ، فغيرُ صحيحٍ، لأنَّ الحديثَ ظاهرٌ في التهجينِ علَى السارقِ لتفويتِه العظيمِ بالحقيرِ. قيلَ: فالوجْهُ في تأويلِه أنَّ قولَه: فتقطعُ، خَبَرٌ، لا أمرٌ ولا فِعْلٌ، وذلكَ
(1)
في (ب): "لأنها".
(2)
البخاري (6795)، ومسلم (6/ 1686).
(3)
"فتح الباري"(12/ 105).
(4)
في (ب): "يعتبر".
(5)
البخاري (6783)، ومسلم (7/ 1687). قلت: وأخرجه أحمد (2/ 253)، والنسائي (8/ 65)، وابن ماجه (2583)، والبيهقي (8/ 253).
(6)
"المحلى"(11/ 351).
(7)
انظر تخريج الحديث رقم (1/ 1149).
(8)
انظر تخريج الحديث رقم (2/ 1150).
(9)
"فتح الباري"(12/ 82).
ليسَ بدليلٍ [على القطع]
(1)
لجوازِ أن يريدَ صلى الله عليه وسلم أنهُ يقطعُه مَنْ لا يراعي النصابَ أو بشهادةٍ على النصابِ، ولا يصحُّ إلا دونَه أو نحوَ ذلكَ.
الشفاعة في الحدود
5/ 1153 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ "، ثُمّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَ سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ" مُتُّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفظُ لِمُسْلِم، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا
(2)
. [صحيح]
(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:) مخاطِبًا لأسامةَ (أتشفعُ في حدٍّ منْ حدودِ اللهِ، ثمَّ قامَ فاختطبَ فقالَ: أيُّها النَّاسُ إنَّما أهلكَ الذينَ منْ قبلِكُم أنَّهم كانُوا إذا سرقَ فيهمُ الشريفُ تركُوه، وإذا سرقَ فيهمُ الضعيفُ أقامُوا عليهِ الحدَّ. متفقٌ عليهِ واللفظُ لمسلمٍ، ولهُ)[أي لمسلمٍ]
(3)
(منْ وجْهٍ آخرَ عنْ عائشةَ: كانتِ امرأةٌ تستعيرُ المتاعَ وتجحدُه فأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يدِها).
الخطابُ في قولِه: أتشفعُ، لأسامةَ بنِ زيدٍ كما يدلُّ لهُ ما في البخاري
(4)
: "أنَّ قريشًا أهمَّتْهم المرأةُ المخزوميةُ التي سرقتْ، قالُوا: منْ يكلِّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومَنْ يجترئُ عليهِ إلَّا أسامةُ حِبُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكلَّمَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال له: أتشفعُ، الحديثَ". وهذا استفهامُ إنكارٍ وكأنهُ قدْ سبقَ علمُ أسامةَ بأنهُ لا شفاعةَ في حدٍّ.
وفي الحديثِ مسألتانِ:
(1)
زيادة من (أ).
(2)
أخرجه البخاري (12/ 6788)، ومسلم (8/ 1688)، و (10/ 1688)، وأبي داود (4373)، والترمذي (1430)، والنسائي (8/ 73 - 74)، وأحمد (6/ 162)، وابن ماجه (2547)، والبيهقي (8/ 253)، وعبد الرزاق في "المصنف"(10/ 201)، رقم (18830)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 170).
(3)
زيادة من (ب).
(4)
البخاري (6788).
الأُولى: النَّهْيُ عنِ الشفاعةِ في الحدودِ. وترجمَ البخاريُّ كراهة الشفاعةِ في الحدِّ إذا رُفِعَ إلى السلطانِ، وقدْ دلَّ لما قيَّدَهُ منْ أنَّ الكراهةَ بعدَ الرفعِ ما في بعضِ رواياتِ هذَا الحديثِ، فإنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لأسامةَ لما تشفَّعَ:"لا تشفعْ في حدٍّ فإنَّ الحدودَ إذا انتهتْ إليَّ فليستْ بمتروكةٍ"
(1)
. وأخرجَ أبو داودَ
(2)
منْ حديثِ عمروِ بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ يرفعُه: "تعافُّوا الحدودَ فيما بينَكم، فما بلغني منْ حدٍّ فقدْ وجبَ"، وصحَّحَهُ الحاكمُ
(3)
. وأخرجَ أبو داودَ والحاكمُ وصحَّحَهُ منْ حديثِ ابنِ عمرَ
(4)
قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "منْ حالتْ شفاعتُه دونَ حدٍّ منْ حدودِ اللهِ فقدْ ضادَّ اللهَ في أمْرِه". وأخرجَهُ ابنُ أبي شيبةَ
(5)
منْ وجْهٍ أصحَّ عنِ ابنِ عمرَ موقُوفًا، وفي الطبرانيِّ
(6)
منْ حديثِ أبي هريرة مرفُوعًا بلفظِ: "فقدْ ضادَّ اللهَ في مُلْكِهِ".
وأخرجَ الدارقطنيُّ
(7)
منْ حديثِ الزبيرِ موصولًا بلفظِ: "اشفعُوا ما لم يصلْ إلى الوالي، فإذا وصلَ إلى الوالي فعفَا فلا عفَا اللهُ عنهُ". وأخرجَ الطبرانيُّ
(8)
عنْ عروةَ بنِ الزبيرِ قالَ: "لقي الزبيرُ سارقًا فشفعَ فيهِ، فقيلَ: حتَّى يبلغَ الإمامَ، فقالَ: إذا بلغَ الإمامَ فلعنَ اللهُ الشافعَ والمشفِّعَ"، قيلَ: وهذا الموقوفُ هوَ المعتمدُ. [وتأتي]
(9)
قصةُ الذي سرقَ رداءَ صفوانَ ورفعَه إليه صلى الله عليه وسلم ثمَّ أرادَ
(1)
انظره في "فتح الباري"(12/ 87)، وقال: هو في مرسل حبيب بن أبي ثابت.
(2)
في السنن (4376)، والنسائي (8/ 70 رقم 4886)، والدارقطني (3/ 113 رقم 104).
(3)
في "المستدرك"(4/ 383)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قلت: وهو حديث صحيح.
(4)
في "المستدرك"(4/ 383، وأبو داود (3597)، وأحمد (5385 و 5544) شاكر. وهو حديث صحيح.
(5)
في "المصنف" 9/ 465 - 466 رقم 8128)، والبيهقي (8/ 332).
(6)
"المعجم الكبير" الطبراني (12/ 270 - 271 رقم 13084) و (12/ 388 رقم 13435) عن ابن عمر.
(7)
في "السنن"(3/ 205 رقم 365) وفي "المصنف" لابن أبي شيبة (9/ 464 - 465 رقم 8124)، والبيهقي في "السنن"(8/ 333).
(8)
"الروض الداني"(1/ 111 رقم 158)، والدارقطني (3/ 205 رقم 264)، و"الموطأ"(2/ 835 رقم 29).
(9)
في (أ): "ويأتي".
[صفوان]
(1)
أنْ لا يقطعَه فقالَ صلى الله عليه وسلم: "هلَّا قَبْلَ أنْ تأتِيني بهِ"
(2)
؟ يأتي منْ أخرجَهُ.
وهذهِ الأحاديثُ متعاضدةٌ على تحريمِ الشفاعةِ بعدَ البلوغِ إلى الإمام وأنهُ يجبُ على الإمام إقامةُ الحدِّ، وادَّعى ابنُ عبدِ البرِّ
(3)
الإجماعَ على ذلكَ ومثلُه في "البحر"
(4)
، ونقلَ الخطابيُّ
(5)
عنْ مالكٍ أنهُ فرَّقَ بينَ مَنْ عُرِفَ بأذيةِ الناسِ وغيرِه فقالَ: لا يشفعُ في الأولِ مطْلقًا وفي الثاني تحسنُ الشفاعةُ قبلَ الرفعِ، وفي حديثٍ عنْ عائشةَ:"أقيلُوا ذوي الهيئاتِ زلَّاتهم إلَّا في الحدودِ"
(6)
، ما يدلُّ على جوازِ الشفاعةِ في التعزيراتِ لا في الحدودِ، ونقلَ ابنُ عبدِ البرِّ
(7)
الاتفاقَ على ذلكَ.
المسألةُ الثانيةُ: في قولهِ: "كانتِ امرأةٌ تستعيرُ المتاعَ وتجحدُه"، وأخرجَهُ النسائي
(8)
بلفظٍ: استعارتِ امرأةٌ على ألسنةِ ناسٍ يُعرفونَ وهي لا تُعرفُ، فباعتْه وأخذتْ ثمَنهُ. [وأخرجَهُ]
(9)
عبدُ الرزاقِ
(10)
بسندٍ صحيحٍ إلى أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ أنَّ امرأةً جاءتْ فقالتْ: "إنَّ فلانةَ تستعيرُ حُلِيًّا فأعارتْها إياه فمكثتْ لا تراهُ فجاءتْ إلى التي [استعارتها تسألها]
(11)
فقالتْ: ما [استعرت منها]
(12)
شيْئًا، فرجعتْ إلى الأُخْرى فأنكرتْ، فجاءتْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فدعَاها فسألَها فقالتْ: والذي بعثكَ بالحقِّ ما استعرتُ منْها شيْئًا، فقالَ: اذهبُوا إلى بَيْتِها تجدُوه تحتَ فِرَاشِها فأتوهُ وأخذُوه فأمرَ بها فَقُطِعَتُ.
(1)
زيادة من (ب).
(2)
أخرجه النسائي (8/ 69)، وابن الجارود رقم (828)، والشافعي (2/ 84 رقم 287)، وأحمد (3/ 401)، وأبو داود (4394)، وابن ماجه (2595)، والحاكم (4/ 380)، والبيهقي (8/ 265) من طرق. وهو حديث صحيح. صححه الألباني في "الإرواء"(رقم 2317).
(3)
"التمهيد" ابن عبد البر (11/ 224).
(4)
"البحر الزخار"(5/ 185 - 186).
(5)
"معالم السنن" الخطابي (6/ 213).
(6)
أبو داود (4375)، وأحمد (6/ 181)، والدارقطني (3/ 207 رقم 370)، والبيهقي (8/ 334)، وهو حديث صحيح.
(7)
في "التمهيد"(11/ 224).
(8)
في "السنن"(8/ 73 رقم 4898).
(9)
في (أ): "وأخرج".
(10)
في "المصنف"(10/ 202 - 203 رقم 18832).
(11)
في (ب): "استعارت لها فسألتها".
(12)
في (ب): "ما استعرتك شيئًا".
والحديثُ دليلٌ علَى أنهُ يجبُ القطعُ على جاحد العاريةِ، وهوَ مذهبُ أحمدَ وإسحاقَ والظاهريةِ
(1)
، ووجْهُ دلالةِ الحديثِ علَى ذلكَ واضحةٌ، فإنهُ صلى الله عليه وسلم رتَّبَ القطْعَ علَى جَحْدِ العاريةِ.
وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ
(2)
: إنهُ لا يثبتُ الحكمُ المرتَّبُ على الجحُودِ حتَّى يتبيَّنَ ترجيحُ روايةِ مَنْ رَوَى أنَّها كانتْ جاحدَةً على روايةِ مَنْ رَوَى أنَّها كانتْ سارقةً، وذهبَ الجماهيرُ
(3)
أنهُ لا يجبُ القطعُ في جحْدِ العاريةِ.
قالُوا: لأنَّ الآيةَ في السارقِ، والجاحدُ لا يُسَمَّى سارِقًا. وردَّ هذَا ابنُ القيِّم
(4)
وقالَ: إنَّ الجحْدَ داخلٌ في اسمِ السرقةِ.
قلتُ: أما دخولُ الجاحدِ تحتَ لفظِ السارقِ لغةً فلا تساعدُ عليهِ اللغةُ، وأما الدليلُ فثبوتُ قَطْعِ الجاحدِ بهذَا الحديثِ.
قالَ الجمهورُ
(5)
: وحديثُ المخزوميةِ قدْ وردَ بلفظِ أنَّها سرقتْ منْ طريقِ عائشةَ وجابرٍ وعروةَ بنِ الزبيرِ ومسعودِ بنِ الأسودِ، أخرجَهُ البخاريُّ ومسلم والبيهقي وغيرُهُمْ
(6)
مصرِّحًا بذكرِ السرقةِ، قالُوا: فقدْ تقرَّرَ أنَّها سرقتْ، وروايةُ جَحْدِ العاريةِ لا تدلُّ علَى أنَّ القطْعَ كانَ لها، بلْ إنَّما ذكرَ جَحْدَها العاريةَ [لأنه]
(7)
قدْ صارَ خُلُقًا لها معرُوفًا، فَعُرِفَتِ المرأةُ بهِ، والقطعُ كانَ للسرقةِ، وهذَا خلاصةُ ما أجابَ بهِ الخطابيُّ
(8)
ولا يخْفَى تكلُّفُه، ثمَّ هوَ مبنيٌّ على أنَّ المعبَّرَ عنهُ امرأةٌ واحدةٌ، وليسَ في الحديثِ ما يدلُّ على ذلكَ، لكنْ في عبارةِ المصنفِ
(9)
ما يُشعِرُ بذلكَ، فإنهُ جعلَ الذي ذكرهُ ثانيًا روايةً وهوَ يقتضي منْ حيثُ الإشعارُ العاديُّ
(1)
"المغني"(10/ 236)، و"المحلَّى"(11/ 362).
(2)
"فتح الباري"(12/ 92).
(3)
"المغني"(10/ 236).
(4)
"فتح الباري"(12/ 92).
(5)
"بداية المجتهد"(4/ 400) بتحقيقنا.
(6)
تقدَّم تخريجه قريبًا، انظر الحديث رقم (5/ 1151)، و"بداية المجتهد"(4/ 400) بتحقيقنا.
(7)
في (أ): "لأنها".
(8)
انظر: "معالم السنن" الخطابي (6/ 209 - 212 رقم 4208).
(9)
انظر نص الحديث رقم (5/ 1153).
أنَّهما حديثٌ واحدٌ، أشارَ إليهِ ابنُ دقيقِ العيدِ
(1)
في "شرح العُمْدَةِ"، والمصنفُ هُنَا صنَعَ ما صنَعَهُ صاحبُ العمدَةِ في سياقِ الحديثِ ثمَّ قالَ الجمهورُ
(2)
: ويؤيدُ ما ذهبنَا إليهِ الحديثُ الآتي:
عقاب الخائن والمختلِس والمنتهِب
6/ 1154 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ، قَطْعٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبّانَ
(3)
. [صحيح]
وهوَ قولُه: (وعنْ جابرٍ رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ ولا منتهبٍ ولا مختلِس قَطْعٌ. رواهُ أحمدُ والأربعةُ وصحَّحَهُ الترمذيُّ وابنُ حِبَّانَ)، قالُوا: وجاحدُ العاريةِ خائِنٌ ولا يخْفَى أنَّ هذَا عامٌّ لكلِّ خائنٍ ولكنَّه [مخصوص]
(4)
بجاحدِ العاريةِ، ويكون القطعُ فيمَنْ جحدَ العاريةَ لا غيرِه منَ الخونةِ.
وقدْ ذهبَ بعضُ العلماءِ
(5)
إلى أنهُ يُخَصُّ القطعُ بمَنِ استعارَ على لسانِ غيرِهِ
(1)
"فتح الباري"(12/ 92).
(2)
انظر: "الدراري المضيئة"(2/ 370) بتحقيقنا.
(3)
أحمد (3/ 380)، والدارمي (2/ 175)، وأبو داود (4391، و 4392 و 4393)، والترمذي (1448)، والنسائي (8/ 88 و 89)، وابن ماجه (2591)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 171)، والبيهقي (8/ 279)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(11/ 153)، وابن حبان (ص 360 رقم 1502 - الموارد).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في "جامع الأصول"(3/ 570): "وفيه تدليس أبي الزبير قال الشوكاني في "نيل الأوطار": "وقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وصرَّح بسماع أبي الزبير من جابر وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند ابن ماجه (2592)، بإسناد صحيح بنحو حديث الباب، وعن أنس عند ابن ماجه أيضًا والطبراني في "الأوسط" - كما في "التلخيص"(4/ 66) - وعن ابن عباس عند ابن الجوزي في "العلل" وضعَّفه. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، ولا سيما بعد تصحيح الترمذي وابن حبان لحديث الباب" اهـ. قلت: والخلاصة أن الحديث صحيح.
(4)
في "ب" مخصص.
(5)
انظر: "بداية المجتهد"(4/ 399) بتحقيقنا، و"المحلَّى"(11/ 358)، و"المغني"(10/ 236).
مخادِعًا للمستعَارِ منهُ ثمَّ تصرَّفَ في العاريةِ وأنكرَها لمَّا طُولِبَ بها، قالَ: فإنَّ هذا لا يُقْطَعُ بمجرَّدِ الخيانةِ بَلْ لمشاركةِ السارقِ في أخذِ المالِ خِفْيَةً.
والحديثُ فيهِ كلامٌ كثيرٌ للعلماءِ [الحديثِ]
(1)
وقد صحَّحَهُ مَنْ سمعتَ، وهذا [دل]
(2)
على أنَّ الخائنَ لا قطعَ عليهِ.
والمرادُ (بالخائنِ) الذي يضمرُ ما لا يظهرهُ في نفسِه، والخائنُ هنا هوَ الذي يأخذُ المالَ خِفْيةً منْ مالكِهِ معَ إظهارهِ لهُ النصيحةَ والحِفْظَ. والخائنُ أعمُّ، فإنَّها قدْ تكونُ الخيانةُ في غيرِ المالِ ومنهُ خائنةُ الأعينِ وهيَ مسارقَةُ [النظر]
(3)
بِطَرْفِهِ ما لا يحلُّ لهُ [النظر إليه]
(4)
.
(والمنتهِبُ) المغيرُ، منَ النهبةِ وهي الغارةُ والسلبُ، وكأنَّ المرادَ هنَا ما كانَ على جهةِ الغلَبةِ والقهرِ. (والمختلِس) السالبُ، من اختلَسهُ إذا سلَبهُ.
واعلمْ أنَّ العلماءَ اختلفُوا في شرطيةِ أنْ تكونَ السرقةُ في حِرْزٍ، فذهبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ وإسحاقُ وهوَ قولٌ للناصرِ والخوارجُ
(5)
إلى أنهُ لا يشترطُ لعدمِ ورودِ الدليلِ باشتراطهِ منَ السنَّةِ لإطلاقِ الآيةِ، وذهبَ غيرُهم
(6)
إلى اشتراطهِ مستدلِّينَ بهذَا الحديثِ، إذْ مفهومُه لزومُ القطعِ فيما أُخِذَ بغيرِ ما ذُكِرَ وهوَ ما كانَ عنْ خفيةٍ، وأُجِيْبَ بأنَّ هذا مفهومٌ ولا تثبُتُ بهِ قاعدةٌ يقيدُ بها القرآنُ، ويؤيدُ عدمَ إعتبارِه أنهُ صلى الله عليه وسلم قطعَ يدَ مَنْ أخذَ رداءَ صفوانَ
(7)
منْ تحتِ رأسِه منَ المسجدِ الحرامِ وبأنهُ صلى الله عليه وسلم قطعَ يدَ المخزوميةِ
(8)
، وإنَّما كانتْ تجحدُ ما تستعيرُه.
وقالَ ابنُ بطَّالٍ
(9)
: الحِرْزُ مأخوذٌ في مفهومِ السرقةِ لغةً، فإنْ صحَّ فلا بدَّ منَ التوفيقِ بينَه وبينَ ما ذُكِرَ مما لا يدلُّ على اعتبار الحرزِ، فالمسألةُ كما تَرى والأصلُ عدمُ الشرطِ، وأنا أستخيرُ اللهَ تعالى وأتوقفُ حتَّى يفتحَ اللهُ.
(1)
زيادة من (ب).
(2)
في (ب): "دال".
(3)
في (ب): "الناظر".
(4)
في (ب): "نظره".
(5)
"المغني"(10/ 246 رقم 7257)، "بداية المجتهد"(4/ 405)، و"الدراري المضيئة"(2/ 364).
(6)
"بداية المجتهد"(4/ 404) بتحقيقنا.
(7)
أخرج الحديث النسائي (8/ 68 رقم 4878 و 4879، و 4880)، وتقدم تخريجه قريبًا.
(8)
تقدم تخريجه قريبًا، وانظر:"بداية المجتهد"(4/ 400) بتحقيقنا.
(9)
"فتح الباري"(12/ 98).
سرقة الثمر والكثر
7/ 1155 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَديج رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كثَرٍ"، رَوَاهُ الْمَذْكُورُونَ، وَصَحّحَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ رافعِ بنِ خديجٍ رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: لا قطعَ في ثمرٍ) - في النهاية: الثمر هو الرطب ما دام على رأس النخلة فإذا قطع فهو الرطب، قال: ويقع على كل الثمار - (ولا كَثَرٍ) بفتحِ الكافِ وفتحِ المثلثةِ: جُمَّارُ النخلِ وهوَ شحمُه الذي في وسطِ النخلةِ كما في "النهايةِ"، (رواهُ المذكورونَ) وهمْ أحمدُ والأربعةُ (وصحَّحَه أيضًا الترمذيُّ وابن حِبَّانَ) كما صحَّحَا ما قبلَه.
قالَ الطحاويُّ
(2)
: الحديثُ تلقَّتْهُ الأُمَّةُ بالقَبُولِ. والثمرُ المرادُ بهِ ما كانَ معلَّقاً في النخلِ قبلَ أنْ يُجَذَّ ويُحْرَزَ، وعلى هذَا تأوَّلَهُ الشافعيُّ وقالَ
(3)
: وحوائطُ المدينةِ ليستْ بحرزٍ وأكثرُها تُدْخَلُ منْ جوانِبها. والثمرُ اسمٌ جامعٌ للرطبِ واليابسِ منَ الرطبِ والعنبِ وغيرِهما كما في "البدرِ المنير"
(4)
.
وأما الكَثَرُ فوقَعَ تفسيرُه في روايةٍ النسائيِّ
(5)
بالجُمَّارِ، والجُمَّارُ بالجيمِ آخرَه راءٌ بِزِنَةِ رُمَّانٍ، وهوَ شحْمُ النخلِ الذي في وسطِ النخلةِ كما في "النهاية"
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد (3/ 463، 464) و (4/ 140، 143)، و (5/ 140 و 141)، وأبو داود (4388)، والنسائي (8/ 86، 87)، وابن ماجه (2594)، والترمذي (1449)، وابن حبان في "الموارد" رقم (1505)، ومالك (2/ 839 رقم 32)، والدارمي (2/ 174)، والبيهقي (8/ 262)، والبيهقي في "بيان خطأ من أخطأ على الشافعي"(ص 273)، والطبراني في "الكبير"(4/ 260 - 262 رقم 4339 - 4352)، والخطيب في "التاريخ"(13/ 391)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 317 - 318)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 172)، وهو حديث صحيح صحَّحه الألباني في "الإرواء" رقم (2414).
(2)
"شرح معاني الآثار" الطحاوي (3/ 172 - 173)، وانظر:"مختصر البدر المنير"، ابن الملقن (249 رقم 1893).
(3)
"الأم" الشافعي (6/ 144).
(4)
"مختصر البدر المنير" لابن الملقن (249 رقم 1893).
(5)
النسائي (8/ 87 - 88 رقم 4967).
(6)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" ابن الأثير (1/ 294).
والحديثُ فيهِ دليلٌ على أنهُ لا يجب القطع في سرقة الثَّمرِ والكثَرِ، وظاهرُه سواءٌ كانَ على ظهرِ المنبتِ لهُ أوْ قدْ جُذَّ، وإلى هذَا ذهبَ أبو حنيفةَ.
قالَ في "نهاية المجتهدِ"
(1)
: قالَ أبو حنيفةَ
(2)
: لا قطعَ في طعامٍ ولا فيما أصلُهُ مباحٌ كالصيدِ والحطبِ والحشيشِ، وعمدتُه في [منع]
(3)
القطع في الطعامِ الرطبِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا قطعِ في ثمرٍ ولا كَثَرٍ"، وعندَ الجمهورِ
(4)
[أنهُ]
(5)
يقطعُ في كلِّ [محرَزٍ]
(6)
سواءٌ كان على أصْلهِ باقيًا أو قدْ جُذَّ، وسواء كان أصلُه مباحًا كالحشيشِ ونحوِه أوْ لَا، قالُوا: لعمومِ الآيةِ والأحاديثِ الواردةِ في اشتراطِ النصابِ.
وأما حديثُ: (لا قطعَ في ثمرٍ ولا كَثَرَ) فقالَ الشافعيُّ
(7)
: إنهُ أخرج على ما كانَ عليهِ عادةُ أهلِ المدينةِ منْ عدمِ إحرازِ حوائطِها فتركَ القطعَ لعدمِ الحرزِ، فإذا أُحْرِزَتِ الحوائطُ كانتْ كغيرِهَا.
اعتراف السارق
8/ 1156 - وَعَنْ أَبي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أُتيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلصِّ قَدْ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ"؟ قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، فَأَمَرَ بهِ، فَقُطِعَ. وَجيءَ بِهِ، فَقَالَ:"اسْتَغْفِر اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ"، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمّ تُبْ عَلَيْهِ - ثَلَاثًا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائيُّ، ورِجَالُهُ ثِقَاتٌ
(8)
. [ضعيف]
(1)
"بداية المجتهد"(4/ 407) بتحقيقنا.
(2)
انظر: "شرح معاني الآثار"(3/ 173).
(3)
في (ب): "يجوز".
(4)
"بداية المجتهد"(4/ 407) بتحقيقنا.
(5)
في (أ): "أن".
(6)
في (أ): "محروز".
(7)
"الأم"(6/ 144)، والطحاوي (3/ 172).
(8)
أبو داود (4380)، وأحمد (5/ 293)، والنسائي (8/ 67 رقم 4877). قلت: وأخرجه ابن ماجه (2597)، والدارمي (2/ 173)، والبيهقي (8/ 276)، وهو حديث ضعيف ضعَّفه الألباني في "الإرواء" رقم (2426).
(وعنْ أبي أميةَ المخزوميِّ رضي الله عنه) لا يُعْرَفُ لهُ اسمٌ، عِدادُه في أهلِ الحجازِ، ورَوَى عنهُ أبو المنذرِ مولَى أبي ذرٍّ هذَا الحديثَ (قالَ: أُتيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلِصٍّ قدِ اعترفَ اعترافًا ولم يوجَدْ معَة متاعٌ، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ما إخالكَ) بكسر الهمزة فخاء معجمة، أي أظنك (سرقتَ، قالَ: بلى، فأعادَ عليهِ مرتيْنِ أوْ ثلاثًا فأَمرَ بهِ فقُطِعَ، وجيءَ بهِ فقالَ: استغفرِ اللهِ وتبْ إليهِ، فقالَ: أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليهِ، فقالَ: اللهمَّ تبْ عليهِ، ثلاثًا. أخرجَه أبو داودَ واللفظُ لهُ، وأحمد والنسائيُّ ورجالُه ثِقَاتٌ).
قالَ الخطابيُّ
(1)
: في إسنادِه مقالٌ، والحديثُ إذا رواهُ مجهولٌ لم يكنْ حجَّةً [ولم]
(2)
يجبِ الحكمُ بهِ. قالَ عبدُ الحق: أبو المنذرِ المذكورُ في إسنادهِ لم [يروه]
(3)
عنهُ إلَّا إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ
(4)
.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ ينبغي للإمامِ تلقينُ السارقِ الإنكارَ. وقدْ رُوِيَ أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لسارقٍ: "أسرقْتَ؟ قلْ: لا"
(5)
، قال الرافعيُّ
(6)
: لم يصحِّحُوا هذا الحديثَ، قالَ الغزاليُّ
(7)
: قولُه: قلْ لا، لم يصحِّحْه الأئمةُ. ورَوَى البيهقيُّ
(8)
موقُوفًا على أبي الدرداءِ أنهُ أتيَ بجاريةٍ سرقتْ فقالَ لها: أسرقتِ؟ قولي: لا، فقالتْ: لا، فخلَّى سبيلَها، ورَوَى عبدُ الرزاقِ
(9)
عنْ عمرَ أنهُ أُتيَ برجل سرقَ فسألَه: أسرقتَ؟ قلْ: لا، فقالَ: لا، فتركَه. وساقَ رواياتٍ عنِ الصحابةِ دالةٍ على التلقينِ.
واختُلِفَ في إقرارِ السارقِ، فذهبتِ الهادويةُ وأحمدُ وإسحاقُ
(10)
إلى أنهُ لا
(1)
"معالم السنن" الخطابي (6/ 217 رقم 4215).
(2)
في (أ): "ولا".
(3)
في (ب): "لم يرو".
(4)
انظر في: "معالم السنن"(6/ 218).
(5)
لم أره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر، إلا أن في مصنف عبد الرزاق (10/ 224 رقم 18919 و 18920) عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا. وسمَّى أبا بكر وعمر. وانظر: "التلخيص الحبير"(4/ 67).
(6)
و
(7)
"التلخيص الحبير" ابن حجر (4/ 67).
(8)
في "السنن الكبرى"(8/ 276).
(9)
"المصنف"(10/ 224 رقم 18920).
(10)
"البحر الزخار"(5/ 182)، و"المغني"(10/ 288 رقم 7313).
بدَّ في ثبوتِ السرقةِ بالإقرارِ منْ إقرارِه مرتينِ، وكأنَّ هذَا [الحديث]
(1)
دليلُهم، ولا دلالةَ فيهِ لأنهُ خرجَ مَخْرَجَ الاستثباتِ وتلقينُ المسقطِ، ولأنهُ تردَّدَ الراوي هلْ مرتيْنِ أو [ثلاث]
(2)
، وكانَ طريقُ الاحتياطِ لهمْ أنْ يشرطوا الإقرارَ ثلاثًا ولم يقولُوا بهِ. وذهبَ الفريقانِ وغيرُهم
(3)
إلى أنهُ يكفي الإقرارُ مرة واحدةً كسائرِ الأقاريرِ، ولأنَّها قدْ وردتْ عِدَّةُ رواياتٍ لم يُذْكرْ فيها اشتراطُ عددِ الإقرارِ.
حسم القطع
9/ 1157 - وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فَسَاقَهُ بمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهِ:"اذْهَبُوا بهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ". وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بإِسْنَادِهِ
(4)
. [ضعيف]
(وأخرجَهُ) أي حديثَ أبي أميةَ (الحاكمُ منْ حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه فساقَهُ بمعناهُ وقالَ فيهِ: اذهبُوا بهِ فاقطعُوه ثمَّ احسِمُوهُ) بالمهملتينِ (وأخرجَهُ البزارُ أيضًا) منْ حديثِ أبي هريرةَ (وقالَ: لا بأسَ بإسنادِهِ). الحديثُ دليل على وجوب حسمٍ ما قُطِعَ، والحسمُ الكيُّ بالنارِ، أي يكونُ محلَّ القطْعِ لينقطعَ الدمُ، لأنَّ منافِذ الدمِ تنسدُّ وإذا تُرِكَ فربَّما استرسلَ الدمَ فيؤدي إلى التلفِ.
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في (ب): "ثلاثًا".
(3)
انظر: "الروضة الندية"(2/ 651) بتحقيقنا، و"الدراري المضيئة"(2/ 366) بتحقيقنا.
(4)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 381)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. وسكت عليه الذهبي والبزار (2/ 220 رقم 1560) - كشف. والدارقطني (3/ 102 رقم 71) وقال: وقد رواه الثوري عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. اهـ. وقال الزيلعي في "نصب الراية": كذلك رواه أبو داود في "المراسيل" - رقم (244) - عن الثوري به مرسلًا. ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" - رقم (18923) - أخبرنا ابن جريج، والثوري به مرسلًا، ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث" - (2/ 258) - حدثنا إسماعيل بن جعفر عن يزيد بن خصيفة به أيضًا مرسلًا. قال: ولم يسمع بالحسم في قطع السارق عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الحديث. ورواه إبراهيم الحربي في كتابه "غريب الحديث". وقال: الحسم أن يكوى لينقطع الدم. وكذلك قال أبو عبيد، وقال ابن القطان في "كتابه": ويزيد بن خصيفة هو منسوب إلى جده، فإنه يزيد بن عبد الله بن خصيفة. وهو ثقة بلا خلاف" اهـ. وانظر:"إرواء الغليل" رقم (2431)، والخلاصة: أن الحديث ضعيف، والله أعلم.
وفي الحديثِ دلالةٌ على أنهُ يأمرُ بالقطعِ والحسمِ الإمامُ وأجرةُ القاطعِ والحاسمِ منْ بيتِ المالِ، وقيمةُ الدواءِ الذي يحسمُ بهِ منهُ لأنَّ ذلكَ واجبٌ على غيرِه.
فائدةٌ: منَ السنَّةِ أنْ تُعلَّقَ يدُ السارقِ في عُنُقِهِ لما أخرجَهُ البيهقيُّ
(1)
بسندهِ منْ حديثٍ فضالةَ بنِ عبيدٍ: "أنهُ سُئِلَ: أرأيتَ تعليقَ يدِ السارقِ في عنقهِ منَ السنَّةِ! قالَ: نعمْ رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قطعَ سارِقًا ثم أمرَ بيدِه فَعُلِّقتْ في عنقهِ". وأخرجَ بسندهِ أنَّ عليًا
(2)
عليه السلام قطعَ سارِقًا فمرَّ بهِ ويدُه معلَّقةٌ في عنقهِ، وأخرجَ عنهُ أيضًا
(3)
أنهُ أقرَّ عندَه سارقٌ مرتيْنِ فقطعَ يدَهُ وعلَّقَها في عنقهِ، قالَ الراوي: فكأني أنظرُ إلى يدِه تَضْربُ صدْرَهُ.
لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد
10/ 1158 - وَعَنْ عَبْدِ الرّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَغْرَمُ السارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَبَيّنَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ
(4)
. [ضعيف]
(1)
و
(2)
و
(3)
في "السنن الكبرى"(8/ 275).
(4)
أخرجه النسائي في "السنن"(8/ 92 - 93 رقم 4984) وقال: هذا مرسل. وليس بثابت. وأخرجه الدارقطني (3/ 182 رقم 296) وقال: المسور بن إبراهيم لم يدرك عبد الرحمن بن عوف، فإن صحَّ إسناده فهو مرسل، قال: وسعد بن إبراهيم: مجهول، وقال ابن القطان: وصدق فيما قال.
ورواه البزار في "مسنده"(3/ 267 رقم 1059) بلفظ: "لا يضمن السارق سرقته بعد إقامة الحد". وقال: وهدا الحديث مرسلًا عن عبد الرحمن، لأن المسور بن إبراهيم لم يلق عبد الرحمن.
وذكره ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 452 رقم 1357): ونقل عن أبيه بأنه قال: هذا حديث منكر ومسور لم يلق عبد الرحمن هو مرسل أيضًا.
ورواه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 322) وقال: لم يروه عن سعد إلا يونس. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 277) وقال: فهذا حديث مختلف فيه عن المفضل فروى عنه كذا، وروى عنه عن يونس عن الزهري عن سعد، وروى عنه عن يونس عن سعد بن إبراهيم عن أخيه المسور
…
إلخ.
وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (3/ 375 - 376)، و"معرفة السنن والآثار" (12/ 423 =
(وعنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: لا يُغْرَمُ السارقُ إذا أُقِيمَ عليهِ الحدُّ. رواهُ النسائيُّ وبيَّنَ أنهُ منقطعٌ، وقالَ أبو حاتمٍ: هوَ مُنْكَرٌ)، رواهُ النسائيُّ منْ حديثِ المسورِ بنِ إبراهيمَ عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ والمسورُ لم يدركْ جدَّه عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ. قالَ النسائيُّ
(1)
: هذا مرسلٌ وليسَ بثابتٍ، وكذَا أخرجَهُ البيهقيُّ
(2)
وذكرَ له علةً أخْرَى.
وفي الحديثِ دليلٌ علَى أنَّ العينَ المسروقةَ إذا تلفتْ في يدِ السارقِ لم يغرمْها بعدَ أنْ وجبَ عليهِ القطعُ سواءٌ أتلفَها قبلَ القطعِ أو بعدَهُ، وإلى هذا ذهبت الهادويةُ ورواهُ أبو يوسفَ عنْ أبي حنيفةَ
(3)
. وفي "شرح الكنز"
(4)
علَى مذهبهِ تعليلُ ذلكَ بأنَّ اجتماعَ حقَّيْنِ في حقٍّ واحدٍ مخالِفٌ للأصولِ، فصارَ القطعُ [عوضًا]
(5)
منَ الغُرمِ ولِذلكَ إذا ثنَّى [السرقة فيما]
(6)
قُطِعَ بهِ لم يُقْطَعْ.
وذهبَ الشافعيُّ وأحمدُ وآخرونَ وروايةٌ عنْ أبي حنيفةَ
(7)
إلى أنهُ يُغْرَمُ لقولِه صلى الله عليه وسلم: "على اليدِ ما أخذتْ حتَى تؤدِّيَهُ"
(8)
، وحديثُ عبدِ الرحمنِ هذَا لا تقومُ بهِ حُجَّةٌ معَ ما قيلَ فيهِ، ولقولهِ تعالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
(9)
،
= رقم 17237)، و"العلل" للدارقطني (4/ 294 س 575). وخلاصة القول: أن الحديث ضعيف، والله أعلم.
(1)
"السنن"(8/ 93).
(2)
"السنن الكبرى"(8/ 277).
(3)
"البحر الزخار"(5/ 184)، و"المغني"(10/ 274 رقم 7293).
(4)
انظره في: "كشف الحقائق شرح كنز الدقائق" للشيخ عبد الحكيم الأفغاني (1/ 302 - 303).
(5)
في (ب): "بدلاً".
(6)
في (ب): "سرقة".
(7)
"مغني المحتاج"(4/ 177)، و"المغني"(10/ 274 رقم 7293)، و"بداية المجتهد"(4/ 410 - 411) بتحقيقنا.
(8)
أبو داود (90/ 3561)، والترمذي (39/ 1266)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (15/ 2400)، والنسائي (3/ 411 رقم 5783/ 3)، وأحمد (5/ 8 و 13)، والحاكم (2/ 47)، كلهم من حديث الحسن عن سمرة، والحسن مختلف في سماعه من سمرة، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط البخاري، وقال الألباني في "الإرواء" (5/ 349): هو صحيح وعلى شرط البخاري لو أن الحسن صرَّح بالتحديث عن سمرة. فخلاصة القول: أن الحديث ضعيف. وقد ضعَّفه الألباني. وانظر: "التلخيص الحبير"(3/ 53).
(9)
سورة البقرة: الآية 188.
"ولا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلَّا بطيبةٍ منْ نفسهِ"
(1)
، ولأنهُ اجتمعَ في السرقةِ حقَّانِ حقٌّ للهِ تعالَى وحقٌّ للآدميِّ فاقتضَى كلُّ [واحد]
(2)
موجِبَه، ولأنهُ قام الإجماعُ أنهُ إذا كانَ [المال]
(3)
موجُودًا بِعَيْنِهِ أُخِذَ منهُ فيكونُ إذا لم يوجْد في ضمانهِ قياسًا علَى سائرِ الأموالِ الواجبةِ.
وقولُه: اجتماعُ الحقَّيْنِ مخالِفٌ للأصولِ، دعْوى غيرُ صحيحةٍ، لأن الحقَّيْنِ مختلفانِ، فالقطِع لحكمة الزجرِ، والتغريمُ [تفويت]
(4)
حقِّ الآدميِّ كما في الغصْبِ، ولا يَخْفى قوةُ هذا القولِ.
اشتراط الحرز
11/ 1159 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَن التَّمْرِ الْمُعَلَّق، فَقَالَ: "مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيءٍ مِنْهُ
(1)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(3/ 26 رقم 91)، وفيه الحارث بن محمد الفهري مجهول. قاله الحافظ في "التلخيص"(3/ 46). وأخرجه أيضًا (3/ 25 رقم 88) وفيه داود بن الزبرقان وهو متروك الحديث. وأخرجه أيضًا (3/ 25 رقم 87) عن ابن عباس. وأحمد في "المسند" - مطولًا - (5/ 72 - 73).
• وأورده الهيثمي في "المجمع"(3/ 265 - 266) وقال: "رواه أحمد، وأبو حرة الرقاشي، وثَّقه أبو داود وضعَّفه ابن معين، وفيه علي بن زيد وفيه كلام" اهـ. وفي "السنن" للدارقطني (3/ 26 رقم 92) وفيه علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف قاله الحافظ ابن حجر في "التلخيص"(3/ 46)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 100) من طريق ابن وهب: عبد الرحمن بن سعد، وقال البيهقي: عبد الرحمن هو ابن سعد بن مالك، وسعد بن مالك: هو أبو سعيد الخدري، ورواه أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان فقال عبد الرحمن بن سعيد وهذه الرواية وصلها البيهقي (9/ 358)، ثم ذكر أن ابن وهب قال: عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حميد.
• وأخرجه ابن حبان في "الإحسان"(13/ 316 رقم 5978)، وانظر تخريجنا في:"الروضة الندية"(2/ 317).
(2)
زيادة من (أ).
(3)
زيادة من. (أ).
(4)
في (ب): "لتفويت".
بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ
(1)
. [حسن]
(وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ سُئِلَ عنِ الثمرِ المعلَّقِ فقالَ: من أصاب بِفِيْهِ منْ ذي حاجةٍ غير متَّخِذٍ خُبْنَةً) بضمِّ الخاءِ المعجمةِ وسكونِ الموحدةِ فنونٍ، وهو معطفُ الإزارِ وطرفُ الثوبِ (فلا شيءَ عليهِ، ومَنْ خرجَ بشيءٍ منهُ فعليهِ الغرامةُ والعقوبةُ، ومَنْ خرجَ بشيءٍ منهُ بعدَ أنْ يؤويَهُ الجرينُ) هوَ موضعُ التمرِ الذي يُجَفَّفُ فيهِ (فبلغَ ثمنَ المجنِّ فعليهِ القطعُ. أخرجَهُ أبو داودَ والنسائيُّ وصحَّحَه الحاكمُ).
قالَ المنذريُّ
(2)
: والمرادُ بالتمرِ المعلَّقِ ما كانَ معلَّقًا في النخلِ قبلَ أنْ يُجَذَّ وُيجْرَنَ، والثمرُ اسمٌ جامعٌ للرطْبِ واليابسِ منَ التمرِ والعنبِ وغيرِهِما.
وفي الحديثِ مسائلُ:
الأُولَى: أنهُ إذا أخذَ المحتاجُ بفيهِ لسدِّ فاقتِهِ فإنهُ مباحٌ لهُ.
الثانيةُ: أنهُ يحرمُ عليه الخروجُ بشيءٍ منهُ، فإنْ خرجَ بشيءٍ منهُ فلا يخلُو أنْ يكونَ قبلَ أنْ يُجَذَّ ويؤويهِ الجرينُ أو بعدَه. إن كانَ قبلَ الجذِّ فعليهِ الغرامةُ والعقوبةُ، وإنْ كانَ بعدَ القطعِ وإيواءِ الجرينِ فعليه القطعُ معَ بلوغِ المأخوذِ النصابَ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"فبلغَ ثمنَ المجنِّ"، وهذا مبني على أنَّ الجرينَ حِرْزٌ كما هوَ الغالبُ، إذْ لا قَطْعَ إلَّا منْ حِرزٍ كما يأتي.
(1)
وهو حديث حسن.
أخرجه أبو داود رقم (1710) و (4390)، والنسائي (8/ 85)، والترمذي رقم (1289)، وابن ماجه رقم (2596)، والدارقطني (4/ 236)، والحاكم (4/ 381)، وأحمد (2/ 180، 203، 207)، والبيهقي (8/ 278) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده.
قال الترمذي: حديث حسن.
وقال الحاكم: هذه سنة تفرد بها عمرو بن شعيب بن محمد، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة، فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر"، ووافقه الذهبي.
انظر: "الإرواء"(8/ 69 - 72 رقم 2413).
(2)
"معالم السنن"(6/ 221 - 222).
الثالثةُ: أنهُ أجملَ في الحديثِ الغرامةَ والعقوبةَ، ولكنَّه أخرجَ البيهقيُّ
(1)
تفسيرَها بأنَّها غرامةُ مِثْلَيْهِ وبأنَّ العقوبةَ جلداتٌ نكالًا.
وقدِ استُدِلَّ بحديثِ البيهقيِّ هذَا
(2)
على جوازِ العقوبةِ بالمالِ فإنَّ غرامة مِثْلَيْهِ منَ العقوبةِ بالمالِ، وقدْ أجازَهُ الشافعيُّ في القديمِ ثمَّ رجعَ عنهُ وقالَ: لا تُضَاعَفُ الغرامةُ على أحدٍ في شيءٍ إنَّما العقوبةُ في الأبدانِ لا في الأموالِ، وقالَ: هذَا منسوخٌ والناسخُ لهُ قضاءُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أهلِ الماشيةِ بالليلِ ما أتلفتْ فهوَ ضامنٌ أي مضمونٌ على أَهْلِها، قالَ: وإنَّما يضمنُونَهُ بالقيمةِ. وقدْ قدَّمنا الكلامَ في ذلكَ في حديثِ بهزٍ في الزكاةِ.
الرابعةُ: أُخِذَ منهُ اشتراطُ الحرزِ في وجوبِ القطعِ لقولِه صلى الله عليه وسلم: (بعدَ أن يؤويَهُ الجرينُ)، وقولُه في الحديثِ الآخَرِ: "لا قطْع في ثمرٍ [ولا كثر]
(3)
ولا في حريسة الجبلِ، فإذا آواهُ الجرينُ أوِ المِراحُ فالقطعُ فيما بلغَ ثَمَنَ المِجَنِّ"، أخرجَهُ النسائيُّ
(4)
.
قالُوا: والإحرازُ مأخوذٌ في مفهومِ السرقةِ، فإنَّ السرقةَ والاستراقَ هوَ المجيءُ مُستَتِرًا في خفيةٍ لأَخْذِ مالِ غيرِه منْ حِرْزٍ كما في "القاموس" وغيرِه. فالحرزُ مأخوذٌ في مفهومِ السرقةِ لغةً ولِذَا لا يُقَالُ لِمَنْ خانَ أمانَتهُ سارقٌ، وهذا مذهبُ الجمهورِ
(5)
.
وذهبتِ الظاهريةُ وآخرونَ
(6)
إلى عدمِ اشتراطهِ عملًا بإطلاقِ الآيةِ الكريمةِ
(7)
إلَّا أنهُ لا يخْفَى أنهُ إذا كانَ الحرزُ مأخوذًا في مفهومِ السرقةِ فلا إطلاقَ في الآيةِ.
واعلمْ أنَّ حريسةَ الجبلِ بالحاءِ المهملةِ مفتوحةً فراءٍ فمثناةٍ تحتيةٍ فسينٍ مهملةٍ، والجبلُ بالجيمِ فموحدةٍ قيلَ هيَ المحروسةُ، أي ليسَ فيما يحرسُ بالجبلِ إذا سُرقَ قَطْعٌ لأنهُ ليسَ بموضعِ حرزٍ، وقيلَ حريسةُ الجبلِ الشاةُ التي يدركُها الليلُ
(1)
"السنن الكبرى"(8/ 278).
(2)
"السنن الكبرى"(8/ 278).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
"السنن"(8/ 84 - 85 رقم 4957).
(5)
"بداية المجتهد"(4/ 404 - 405) بتحقيقنا.
(6)
"المحلَّى"(11/ 323 - 324)، و"بداية المجتهد"(4/ 405) بتحقيقنا.
(7)
سورة المائدة: الآية 38.
قبلَ أنْ تصِلَ إلى مأْوَاها. والمراحُ الذي تأوي إليه الماشيةُ ليلًا، كذا في "جامعِ الأصولِ"
(1)
، وهذَا الأخيرُ أقربُ بمرادِ الحديثِ، واللهُ أعلمُ.
12/ 1160 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ - لَمّا أَمَرَ بقَطْعِ الَّذِي سَرَقَ ردَاءَهُ فَشَفَعَ فِيهِ - "هَلَّا كَانَ ذلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأَتِيَنِي بهِ؟ ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالْحَاكِمُ
(2)
. [صحيح]
(وعنْ صفوانَ بنِ أميةَ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ له لما أمرَ بقطعِ الذي سرقَ رداءَه فشفعَ فيهِ: "هلَّا كانَ ذلكَ قبلَ أنْ تأتيني بهِ". أخرجَه أحمدُ والأربعةَ وصحَّحَهُ ابنُ الجارودِ والحاكمُ)، الحديثُ أخرجُوه منْ طُرُقٍ منْها عنْ طاوسٍ عنْ صفوانَ ورجَّحَها ابنُ عبدِ البرِّ
(3)
وقالَ: إنَّ سماعَ طاوسٍ منْ صفوانَ ممكنٌ لأنهُ أدركَ عثمانَ وقالَ: أدركتُ سبعينَ شيخًا منْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وللحديثِ قصةٌ. أخرجَ البيهقيُّ
(4)
عنْ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ قالَ: "بينَما صفوانُ بنُ أميةَ مضّطَجِعٌ بالبطحاءِ إذْ جاءَ إنسانٌ فأخذَ بردةً منْ تحتِ رأْسِهِ فأتَى بهِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأمرَ بقطعِه فقالَ: إني أعفُو وأتجاوزُ، فقالَ: فهلَّا قبلَ أنْ تأتيَنِي بهِ"، ولهُ ألفاظٌ في بعضِها:"أنهُ كانَ في المسجدِ الحرامِ"
(5)
، وفي أُخْرَى:"في مسجدِ المدينةِ نائمًا"
(6)
.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّها تُقْطَعُ يدُ السارقِ فيما كانَ مالكُه حافِظًا لهُ وإنْ لم يكنْ مُغْلقًا عليهِ في مكان.
(1)
"جامع الأصول" ابن الأثير (3/ 567).
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(6/ 466)، وأبو داود (4394)، وابن ماجه (2595)، والنسائي (8/ 69)، والبيهقي (8/ 265)، وابن الجارود رقم (828)، ومالك في "الموطأ"(2/ 834 رقم 28)، والشافعي في "بدائع المنن"(2/ 205 رقم 1509)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 380) وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي. قلت: وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.
انظر: "الإرواء"(7/ 345 - 349).
(3)
"التمهيد"(11/ 219).
(4)
"السنن الكبرى"(8/ 265).
(5)
انظر: "السنن الكبرى" النسائي (4/ 329 رقم 8/ 7367).
(6)
انظر: "سنن النسائي"(8/ 70 رقم 5/ 4884)، "الأم" الشافعي (6/ 141).
قالَ الشافعيُّ
(1)
: رداءُ صفوانَ كانَ مُحْرَزًا باضِّطِجَاعهِ عليهِ. وإلى هذَا ذهبَ الشافعيُّ والحنفيةُ والمالكيةُ
(2)
، قالَ في "نهايةِ المجتهد"
(3)
: وإذا توسَّدَ النائمُ شيئًا فتوسُّدُه حرْزٌ له على ما جاءَ في رداءِ صفوانَ، قالَ في "الكنز"
(4)
للحنفيةِ: ومَنْ سرقَ منَ المسجدِ متاعًا وربُّه [ومالكه]
(5)
عندَه يُقْطَعُ؛ لأنه وإنْ كانَ غيرَ مُحْرَزٍ بالحائِطِ لأنَّ المسجدَ ما بني لإحرازِ الأموالِ فلمْ يكنِ المالُ مُحْرَزًا بالمكانِ، انتَهى.
وتقدَّمَ الخلافُ في الحرزِ واختلَفَ القَائلونَ بشرْطِيَّتِهِ، فقالَ الشافعي ومالكٌ والإمامُ يَحْيى
(6)
: إنَّ لكلِّ مالٍ حِرْزًا يخصُّه، فَحِرْزُ الماشيةِ ليسَ حرزُ الذهبِ والفضةِ.
وقالَ الهادويةُ والحنفيةُ
(7)
: ما أُحْرِزَ فيهِ مالٌ فهوَ حِرْز لغيرِه، إذِ الْحِرزُ ما وُضِعَ لمنعِ الداخلِ والخارجِ ألَّا يخرجَ، وما كانَ ليسَ كذلكَ فليسَ بحرزٍ لا لغةً ولا شَرْعًا، وكذلكَ قالُوا: المسجدُ والكعبةُ حرزانِ لآلاتِهِمَا ولكسوتِهِمَا.
واختلفَوا في القبرِ هلْ هوَ حرزٌ للكفنِ فيقطعُ آخذُه أو ليسَ بحرزٍ؟ فَذَهَبَ إلى أنَّ النباشَ سارقٌ جماعةٌ منَ السلفِ والهادي والشافعيُّ ومالكٌ
(8)
وقالُوا: يُقْطَعُ؛ لأنَّهُ أَخَذَ المالَ خُفْيَةً منْ حرزٍ لهُ، وقدْ رُوِيَ عنْ عليٍّ عليه السلام وعائشةَ
(9)
وقالَ الثوريُّ وأبو حنيفةَ
(10)
: لا يقطعُ النباشَ لأنَّ القبرَ ليسَ بحرزٍ.
(1)
"الأم"(6/ 160).
(2)
"الأم"(6/ 160)، و"بداية المجتهد"(4/ 406)، و"كشف الحقائق"(1/ 298).
(3)
"بداية المجتهد"(4/ 406) بتحقيقنا.
(4)
"كشف الحقائق"(1/ 298).
(5)
زيادة من (أ).
(6)
"مغني المحتاج"(4/ 164 - 169)، و"بداية المجتهد"(4/ 406)، و"البحر الزخار"(5/ 179).
(7)
"البحر الزخار"(5/ 179)، و"شرح فتح القدير"(5/ 144 - 145).
(8)
"بداية المجتهد"(4/ 406)، بتحقيقنا، و"المجموع"(20/ 85)، و"البحر الزخار"(5/ 173).
(9)
ذكره في "البحر الزخار": "حدُّ النبَّاش حد السارق وهو أعظمها جرمًا"، أما حديث عائشة، فذكره في "التلخيص الحبير" (4/ 70):"سارق موتانا كسارق أحيائنا"، ونسبه إلى الدارقطني من حديث عمرة عنها - وانظر:"البحر الزخار"(5/ 173).
(10)
"شرح فتح القدير"(5/ 137)، و"موسوعة فقه سفيان الثوري" قلعه جي (499).
وفي "المنارِ"
(1)
: هذهِ المسألةُ فيها صعوبةٌ لأنَّ حرمةَ الميتِ كحرمةِ الحيِّ، لكنَّ حرمةَ يدِ السارقِ كذلكَ الأصلُ مَنْعُها، ولم يدخلِ النباشُ تحتَ السارقِ لغةً والقياسُ الشرعيُّ غيرُ واضحٍ، وإذا توقَّفْنَا امتنعَ القطعُ، انتَهى.
واختُلِفَ في السارقِ منْ بيتِ المالِ، فذهبتِ الهادويةُ والشافعيُّ وأبو حنيفةَ
(2)
إلى أنهُ لا يُقْطَعُ مَنْ سرقَ منْ بيتِ المالِ [ومروي]
(3)
عنْ عمرَ
(4)
، وذهبَ مالكٌ
(5)
إلى أنهُ يقطعُ، واتفقُوا على أنهُ لا يقطعُ مَنْ سرقَ منَ الغنيمةِ والخُمسِ وإنْ لم يكنْ منْ أَهْلِها قالُوا: لأنهُ قدْ يشاركُ فيها بالرضخِ أوْ منَ الخُمسِ.
قتل من تكرَّرت سرقته
13/ 1161 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: جِيءَ بِسَارق إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اقْتُلُوهُ"، فَقَالُوا: إِنَّما سَرَقَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"اقْطَعُوهُ" فَقُطِعَ، ثُمّ جِيءَ بهِ الثَّانِيَةَ فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ"، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمّ جِيءَ بهِ الثَّالِثَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بهِ الرّابعَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ جِيءَ بهِ الْخَامِسَةَ فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَاسْتَنْكَرَهُ
(6)
. [حسن]
(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: جيء بسارقِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: اقتلُوه، فقالُوا: يا رسول اللهِ إنَّما سرق، فقالَ: اقطعوهُ، فَقُطِعَ، ثمَّ جيءَ بهِ الثانيةَ فقالَ: اقتلُوه، فذَكَرَ مثلَهُ، ثمَّ جيءِ بهِ الثالثةَ فذكرَ مثلَهُ، ثمَّ جيءَ بهِ الرابعةَ كذلكَ، ثمَّ جيءَ بهِ الخامسةَ فقالَ: اقتلُوه. أخرجَه أبو داودَ والنسائيُّ)، تمامُه عندَهُما: قال جابرٌ: فانطلقْنَا بهِ
(1)
"للمقبلي"(2/ 393 - 394 رقم 6/ 173 س 11).
(2)
"الاعتصام"(5/ 118)، و"مغني المحتاج"(4/ 163)، و"شرح فتح القدير"(5/ 138 - 139).
(3)
في (ب): "ورُوي".
(4)
"التلخيص الحبير"(4/ 69 رقم 65/ 1784) ونسبة إلى ابن أبي شيبة.
(5)
"بداية المجتهد"(4/ 409).
(6)
أخرجه أبو داود (4410)، والنسائي (8/ 90)، والبيهقي (8/ 272)، وقال النسائي:"وهذا حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث. والله تعالى أعلم".
ومع ذلك حسَّنه الألباني في صحيح أبي داود وصحيح النسائي.
فقتلْناهُ ثمَّ اجتررْناهُ فألقيناهُ في بِئْرٍ ورميْنَا عليهِ الحجارةَ (واستنكرَهُ) أي النسائيُّ فإنهُ قالَ: الحديثُ منكَرٌ ومصعبُ بنُ ثابتٍ ليسَ بقويٍّ في الحديثِ، قيلَ: لكنْ يشهدُ لهُ الحديثُ الآتي:
14/ 1162 - وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْن حَاطِبٍ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ الشَّافِعيُّ أَنَّ الْقَتْلَ في الْخَامِسَةِ مَنْسُوخٌ
(1)
. [منكر].
وهو قولُه: (وأخرجَ) أي النسائيُّ
(2)
(منْ حديثٍ الحارثِ بنِ حاطبٍ نحوَهُ)، وأخرجَ حديثَ الحارثِ الحاكمُ
(3)
. وأخرجَ [أبو نعيم]
(4)
في "الحليةِ"
(5)
عنْ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ الجهنيِّ.
قالَ ابنُ عبدِ البرِّ
(6)
: حديثُ القتل منكرٌ لا أصْلَ لهُ (وذكرَ الشافعيُّ أنَّ القتلَ في الخامسةِ منسوخٌ) وزادَ ابنُ عبدِ البرِّ في كلامِ الشافعيِّ: لا خلافَ فيهِ بينَ أهلِ العلمِ، وفي النجمِ الوهَّاجِ: أنَّ ناسخَهُ حديثُ: "لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلَّا بإِحْدى ثلاثٍ"
(7)
تقدَّمَ. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: وهذَا يدلُّ على أنَّ حكايةَ أبي مُصْعَبِ عَنْ عثمانَ وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ أنهُ يُقْتَلُ لا أصْلَ لهُ، وجاءَ في روايةِ النسائيِّ
(8)
: "بعدَ قطعِ قوائمِهِ الأربعِ ثمَّ سرقَ الخامسةَ في عهدِ أبي بكرٍ رضي الله عنه فقالَ أبو بكرٍ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعلمَ بهذَا حينَ قالَ اقتلُوه، ثمَّ دفعَهُ إلى فِتْيَةٍ منْ قريشٍ فقالَ: اقتلُوه، فقتلُوه".
قالَ النسائيُّ
(9)
: لا أعلمُ في هذا البابِ حديثًا صحيحًا.
والحديثُ دليلٌ على قتْلِ السارقِ في الخامسةِ وأنَّ قوائِمَهُ الأربعَ تُقْطَعُ في
(1)
أخرجه النسائي (8/ 89 - 90 رقم 4977)، و"المستدرك" (4/ 382) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي (8/ 272 - 273).
(2)
رقم (4977) كما تقدم.
(3)
(4/ 382) كما تقدم.
(4)
في (ب): "لأبي نعيم".
(5)
"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 6 رقم 91).
(6)
"فتح الباري"(12/ 100).
(7)
أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (25/ 1676).
(8)
"السنن"(8/ 89 - 90 رقم 14/ 4977).
(9)
"السنن الكبرى"(4/ 349 رقم 25/ 7471).
الأربعِ المراتِ، والواجبُ قطعُ اليمينِ في السرقةِ الأُولى إجماعًا، وقراءةُ ابنِ مسعودٍ (1) مبيِّنةٌ لإجمالِ الآيةِ، فإنهُ قرأَ: فاقطَعُوا أيمانَهما، وفي الثانيةِ الرِّجلُ اليسرى عندَ الأكثرِ لفعلِ الصحابةِ
(1)
وعندَ طاوسٍ
(2)
اليدُ اليسرى لِقُرْبِها منَ اليمنَى، وفي الثالثةِ يدُهُ اليُسرى، وفي الرابعةِ رجلُه [اليسرى]
(3)
.
وهذَا عندَ الشافعيِّ ومالكٍ
(4)
لما أخرجَهُ الدارقطنيُّ
(5)
منْ حديثٍ أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في السارقِ: "إنْ سرقَ فاقطعُوا يدَه، ثمَّ إنْ سرقَ فاقطعُوا رِجْلَه، ثمَّ إنْ سرقَ فاقطعُوا يدَه، ثمَّ إنْ سرقَ فاقطعُوا رِجْلَه"، وفي إسنادِهِ الواقديُّ. وأخرجَهُ الشافعيُّ
(6)
منْ وَجْهٍ آخرَ عنْ أبي هريرةَ مرفُوعًا، وأخرجَ الطبرانيُّ والدارقطنيُّ
(7)
نحوَه عنْ عصمةَ بنِ مالكٍ وإسنادُه ضعيفٌ.
وخالفتِ الهادويةُ والحنفيةُ
(8)
فقالُوا: يُحْبَسُ في الثالثةِ لما رواهُ البيهقيُّ
(9)
منْ حديثِ عليٍّ عليه السلام أنهُ قالَ بعدَ أنْ قطعَ رِجْلَه وأُتِيَ بهِ في الثالثةِ: "بأيِّ شيءٍ يتمسَّح وبأي شيء يأكلُ" لَمَّا قيلَ لهُ تقطعُ يدَه اليُسرى، ثمَّ قالَ:"أقطعُ رجلَه؟ على أيِّ شيءٍ يمشي؟ إني لأَسْتَحِي منَ اللهِ، ثمَّ ضربَهُ وخلدَ في السجنِ". وأجابَ الأولونَ بأنَّ هذَا رأيٌ لا [يقاوِمُ]
(10)
النصوصَ، وإنْ كانَ المنصوصُ فيهِ ضعيفٌ فقدْ عاضدتَهْ الرواياتُ الأُخَرْ.
وأما محلُّ القطعِ فيكونُ منْ مفصلِ الكفِّ إذْ هوَ أقلُّ ما يُسَمَّى يَدًا، ولِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجَه الدارقطنيُّ
(11)
منْ حديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ: "أُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"فتح الباري"(12/ 99).
(2)
انظر: "البحر الزخار"(5/ 187).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
"المجموع"(20/ 103)، و"بداية المجتهد"(4/ 411) بتحقيقنا.
(5)
"السنن"(3/ 181 رقم 292).
(6)
"الأم"(6/ 162، وانظر: "البيهقي" (8/ 273).
(7)
"المعجم الكبير" الطبراني (17/ 182 رقم 483)، والدارقطني (3/ 180 - 181 رقم 289) من طريق جابر بن عبد اللهِ، وانظر:"الإرواء"(8/ 88)، أما من طريق عصمة بن مالك فقد عزاه إليهما صاحب "التلخيص"(4/ 68).
(8)
"البحر الزخار"(5/ 188)، "وشرح فتح القدير"(5/ 154).
(9)
"السنن الكبرى"(8/ 275).
(10)
في (أ): "لا يقابل".
(11)
في "السنن"(3/ 204 - 205 رقم 363) وضعَّفه ابن القطان في "كتابه" فقال العرزمي: =
بسارقٍ فقطعَ يدَهُ منْ مفصلِ الكفِّ" وفي إسنادِه مجهولٌ. وأخرجَ ابنُ أبي شيبةَ
(1)
منْ مُرْسَلِ رجاءِ بنِ حَيْوَةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قطعَ منَ المفصَلِ، وأخرجَهُ أبو الشيخِ
(2)
منْ وجْهٍ آخرِ عنْ رجاءِ عنْ عديٍّ رفعَهُ وعنْ جابرٍ رفعَه أخرج سعيدُ بنُ منصورٍ
(3)
عنْ عمرَ.
وقالتِ الإماميةُ
(4)
: ويُرْوَى عنْ عليٍّ عليه السلام أنهُ يقطعُ منْ أصولِ الأصابعِ إذْ هوَ أقلُّ ما يُسَمَّى يَدًا. وَرُدَّ ذلكَ بأنهُ لا يُقَالُ لِمَنْ قُطِعَتْ أصابِعُهُ مقطوعُ اليدِ لا لغةً ولا عُرْفًا، وإنَّما يقالُ مقطوعُ الأصابعِ. وقدِ اختلفَت الروايةُ عنْ عليٍّ
(5)
عليه السلام فَرُوِيَ أنهُ كانَ يقطعُ منْ يدِ السارقِ الخُنْصُرَ والبُنْصُرَ والوسْطَى، وقالَ الزهريُّ والخوارجُ
(6)
: إنهُ يقطعُ منَ الإبْطِ إذْ هوَ اليدُ [الحقيقية]
(7)
، والأقْوى الأولُ لدليلهِ المأثورِ. وأما محلُّ قطعِ الرِّجْلِ فتُقْطَعُ منْ مفصلِ القدمِ. ورُوِيَ عنْ عليٍّ
(8)
عليه السلام أنهُ كانَ يقطعُ الرِّجْلَ منَ الكعبِ. ورُوِيَ عنهُ وهوَ للإماميةِ
(9)
أنهُ منْ معتقدِ الشراكِ.
خاتمةٌ: أخرجَ [أحمدُ]
(10)
وأبو داودَ
(11)
عنْ عطاءٍ عنْ عائشةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لها - وقدْ دَعَتْ علَى سارق سرق لها مِلْحَفَةً -: لا تسبخي عنهُ بدعائِكِ عليهِ"، ومعناهُ لا تُخفِّفي [عليه]
(12)
الإثمَ الذي يستحقُّه بالسرقةِ، وهذا يدلُّ على أنَّ الظالمَ يخفَّفُ عنهُ بدعاءِ المظلومِ عليهِ.
ورَوَى أحمدُ
(13)
في "كتاب الزهدِ" عنْ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ أنهُ قالَ: بلغني
= متروك، وأبو نعيم عبد الرحمن بن هانئ النخعي لا يتابع على ما له من حديث. وانظر:"نصب الراية"(3/ 370).
(1)
في "المصنف"(10/ 29 - 30 رقم 8648). وهو مرسل جيد رجاله كلهم ثقات.
(2)
عزاه ابن حجر في: "فتح الباري" (12/ 99 إلى أبي الشيخ في "كتاب حد السرقة".
(3)
انظره في "فتح الباري"(12/ 99).
(4)
"البحر الزخار"(5/ 187).
(5)
انظر: "موسوعة فقه علي" قلعه جي (335 - 336).
(6)
"البحر الزخار"(5/ 187).
(7)
في (ب): "حقيقةً".
(8)
"موسوعة فقه علي"(336).
(9)
"البحر الزخار"(5/ 188).
(10)
زيادة من (أ).
(11)
"السنن"(358/ 1497).
(12)
في (ب): "عنه".
(13)
لم أعثر عليه في "كتاب الزهد" عن عمر بن عبد العزيز.
أنَّ الرجلَ ليظلمَ مظلمةً فلا يزالُ المظلومُ يشتمُ الظالمَ [وينتقصُه]
(1)
حتَّى يستوفيَ حقَّه ويكونُ للظالمِ الفضلُ عليهِ.
وفي الترمذيِّ
(2)
عنْ عائشةَ أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ دَعَا على مَنْ ظلمَهُ فقدِ انتصَر"، فإنْ قيلَ:[فقد]
(3)
مدحَ اللهُ المنتصرَ مِنَ البغي ومدحَ العافي عنِ الجرمِ، قالَ ابنُ العربيِّ: فالجوابُ على أنَّ الأولَ محمولٌ على ما إذَا كانَ الباغي وَقِحًا ذا جُرْأَةٍ وفُجُورٍ، والثاني: على مَنْ وقعَ منهُ ذلكَ نادِرًا [فتُقَالُ]
(4)
عثرتُه بالعفوِ عنهُ.
وقالَ الواحديُّ: إنْ كانَ الانتصارُ لأجلِ الدِّيْنِ فهوَ محمودٌ، وإنْ كانَ لأجلِ النَّفْسِ فهوَ مباحٌ لا محمود عليه.
واختلفَ العلماءُ في التحليلِ منَ الظلامة على ثلاثةِ أقوالٍ: كانَ ابنُ المسيِّبِ لا يحلِّلُ أحدًا منْ عِرْضٍ ولا مالٍ، وكانَ سليمانُ بنُ يسارٍ وابنُ سيرينَ يحلِّلانِ منْهما، ورأَى مالكٌ التحليلَ منَ العِرْضِ دونَ المالِ.
* * *
(1)
في (أ): "وينقصه".
(2)
في "السنن"(3552) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي حمزة، وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي حمزة، وهو ميمون الأعور.
(3)
في (ب): "قد".
(4)
في (أ): "فيقال".
[الباب الرابع] باب حد الشارب، وبيان المسكر
1/ 1163 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بجَرِيدَتَيْن نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمن بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بهِ عُمَرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ برجلٍ قدْ شربَ الخمرَ فجلدهُ بجريدتَيْنِ نحوَ أربعينَ قالَ) أنسٌ (وفعلَه أبو بكرٍ، فلمَّا كانَ عمرُ استشارَ النَّاسَ فقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ: [أخفُّ الحدودِ ثمانونَ فأمرَ بهِ عمرُ. متفقٌ عليهِ)]
(2)
.
الخمرُ مصدرُ خَمِرَ - كضربَ ونصرَ - خمْرًا، يسمَّى بهِ الشرابُ المعتصَرُ منَ العِنَبِ إذا غَلَى وقذَفَ بالزَّبَدِ وهيَ مؤنثةٌ وتُذَكَّرُ. ويقالُ: خمرةٌ.
وفي الحديثِ مسائلُ:
الأُولى: أنَّ الخمرَ [يُطلق]
(3)
على ما ذُكِرَ حقيقةً إجماعًا، ويُطْلَقُ على ما هوَ أعمُّ منْ ذلكَ، وهوَ ما أسكرَ منَ العصيرِ أو منَ النبيذِ أوْ غيرِ ذلكَ. وإنَّما اختلفَ العلماءُ هلْ هذَا الإطلاقُ حقيقةً أَوْ لا؟ قالَ صاحبُ "القاموسِ"
(4)
:
(1)
البخاري رقم (6773)، ومسلم رقم (1706).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4479)، والترمذي رقم (1443) وقال: حديث حسن صحيح.
(2)
زيادة من (أ).
(3)
في (ب): "تطلق".
(4)
الفيروزآبادي (495).
العمومُ أصحُّ لأنَّها حُرِّمتْ وما بالمدينةِ خمرُ عنبٍ، ما كانَ إلَّا البسرُ والتمرُ، انتَهى. وكأنهُ يريدُ أنَّ العمومَ حقيقةٌ. وسُمِّيَتْ خمرًا، قيلَ: لأنَّها تخمرُ العقلَ أي تسترُهُ فيكونُ بمعنَى اسمِ الفاعلِ أي الساتر للعقلِ، وقيلَ: لأنَّها تُغَطَّى حتَّى تشتدَّ، يقالُ: خَمَّرهُ أي غطَّاه فيكونُ بمعنَى اسمِ المفعولِ، وقيلَ: لأنَّها تخالطُ العقلَ، مِنْ خامرَهُ إذا خالطَه، ومنهُ: هَنِيْئًا مَرِيْئًا غيرَ داءٍ مخامِرٍ، أي مخالِطٍ. وقيلَ: لأنَّها تُتْرَكُ حتَّى تُدْرَكَ، ومنهُ اختَمر العجينُ أي بلَغَ إدراكَهُ، وقيلَ: إنها مأخوذةٌ منَ الكلِّ لاجتماعِ المعاني هذهِ فيهَا.
قالَ ابنُ عبدِ البرِّ
(1)
: الأوجهُ كلَّها موجودةٌ في الخمرِ لأنَّها تُرِكَتْ حتَّى أدركَتْ وسَكَنتْ، فإذا شُرِبَتْ خالطتِ العقلَ حتَّى تغلبَ عليهِ وتغطيهِ.
قلتُ: فالخمرُ تُطْلَقُ على عصيرِ العِنَبِ المشتدِّ حقيقةً إجماعًا، وفي "النجمِ الوهَّاجِ": الخمرُ بالإجماعِ المسكرُ منْ عصيرِ العنبِ وإن لم يقذفْ بالزَّبَدِ. واشترطَ أبو حنيفةَ
(2)
أنْ يقذِفَ وحينئذٍ لا يكونُ مُجْمَعًا عليهِ. واختلفَ أصحابُنا في وقوعِ الخمرِ على الأنبذةِ حقيقة، فقالَ المزنيُّ وجماعةٌ بذلكَ لأنَّ الاشتراكَ في الصفةِ يقتضي الاشتراكَ في الاسمِ، وهوَ قياسٌ في اللغةِ وهوَ جائِزٌ عندَ الأكثرِ، وهوَ ظاهرُ الأحاديثِ، ونسبَ الرافعيُّ
(3)
إلى الأَكثريْنَ أنهُ لا يقعُ علَيْها إلَّا مَجَازًا.
قلتُ: وبه جزمَ ابنُ سَيْدَهْ في المحكمِ
(4)
وجزمَ بهِ صاحبُ "الهدايةِ"
(5)
منَ الحنفيةِ حيثُ قالَ: الخمرُ عندَنا ما اعتُصرَ منْ ماءِ العنبِ إذا اشتدَّ، وهوَ المعروفُ عندَ أهلِ اللغةِ وأهلِ العلمِ. وَرَدَّ ذلكَ الخطابيِّ
(6)
[حيث]
(7)
قالَ: زعمَ قومٌ أنَّ العربَ لا تعرفُ الخمرَ إلَّا منَ العنبِ، فيقَالُ لهمْ: إنَّ الصحابةَ الذينَ سمُّوا غيرَ المتَّخَذِ منَ العنبِ خمرًا عربٌ فصحاءُ، فلوْ لمْ يكنِ هذا الاسمُ صحيحًا لما أطلقُوهُ.
(1)
"التمهيد"(1/ 244).
(2)
"شرح فتح القدير"(5/ 80).
(3)
انظر: "فتح الباري"(10/ 49).
(4)
"فتح الباري"(10/ 49).
(5)
انظر: "فتح الباري"(10/ 47 - 48)، و"الهداية" المرغيناني (4/ 108).
(6)
"فتح الباري"(10/ 48).
(7)
في (ب): "و".
قالَ القرطبيُّ
(1)
: الأحاديثُ الواردةُ عنْ أنسٍ وغيرِه على صِحَّتِها وكثرتِها تبطلُ مذهبَ الكوفيينَ القائلينَ بأنَّ الخمرَ لا تكونُ إلا منَ العنب، وما كانَ منْ غيرِه لا يُسمَّى خمرًا ولا يتناولُه اسمُ الخمرِ، وهوَ قولٌ مخالِف للغةِ العربِ وللسنَّةِ الصحيحةِ ولفَهمِ الصحابةِ، لأنَّهم لما نزلَ تحريمُ الخمرِ فهمُوا منَ الأمرِ [باجتنابها]
(2)
تحريمَ كلِّ مسكرٍ ولم يفرِّقُوا بينَ ما يُتَّخَذُ منَ العنبِ وبينَ ما يتخذُ منْ غيرِه، بلْ سوَّوْا بينَهما وحرَّمُوا ما كانَ منْ عصيرِ غيرِ العنبِ وهمْ أهلُ اللسانِ وبِلُغَتِهِم نزلَ القرآنُ، فلو كانَ عندَهم فيهِ تردُّدٌ لتوقَّفُوا عنِ الإراقةِ حتَّى يستفصلُوا ويتحقَّقُوا التحريمَ، ويأتي حديثُ عمرَ:"أنهُ نزلَ تحريمُ الخمرِ وهي منْ خمسةٍ"
(3)
الحديثَ، وعمرُ منْ أهلِ اللغةِ، وإنْ كانَ يُحْتَمَلُ أنهُ أرادَ بيانَ ما تعلَّقَ بهِ التحريمُ لا أنهُ المسمَّى في اللغةِ لأنهُ بصددِ بيانِ الأحكامِ الشرعيةِ، ولعلَّ ذلكَ صارَ اسمًا شرعياً لهذا النوعِ فيكونُ حقيقةً شرعيةً، ويدلُّ لهُ حديثُ مسلمٍ عن ابنِ عمرَ
(4)
أنَّ النبيَّ (4) صلى الله عليه وسلم قالَ: "كلُّ مسكرٍ خمرٌ وكلُّ خمرٍ حرامٌ".
قالَ الخطابيُّ: إنَّ الآيةَ لما نزلتْ في تحريمِ الخمرِ وكانَ مسمَّاها مجهولًا للمخاطَبيْنَ، بَيَّنَ أنَّ مسمَّاها هوَ ما أسكرَ فيكونُ مثلَ لفظِ الصلاةِ والزكاةِ وغيرِهما منَ الحقائقِ الشرعيةِ. انتَهى.
قلتُ: هذا يخالفُ ما سلفَ عنهُ قريبًا، ولا يخْفَى ضعفُ هذا الكلامِ، فإنَّ الخمرَ كانتْ منْ أشهرِ أشْرِبَةِ العربِ واسمُها أشهر منْ كلِّ شيءٍ عندَهم وليستْ كالصلاةِ والزكاةِ، وأشعارُهم فيها لا تُحْصَى، فكأنهُ يريدُ أنهُ ما كانَ تعميمُ الاسمِ بلفظِ الخمرِ لكلِّ مُسْكِرٍ مَعْرُوفًا عندَهم فعرَّفَهُم بهِ الشرعُ، فإنَّهم كانُوا يسمُّونَ بعضَ المسكر بغيرِ لفظِ الخمرِ كالأمزارِ يضيفونَها إلى ما يُتَّخَذُ منهُ منْ ذرةٍ وشعيرٍ ونحوِهِما، ولا يطلقونَ عليهِ لفظَ الخمرِ [في]
(5)
الشرع بتعميمِ الاسمِ لكلِّ مسكرٍ.
(1)
"فتح الباري"(10/ 49)، وانظر:"الجامع لأحكام القرآن" القرطبي (10/ 128 - 133).
(2)
في (ب): "باجتناب الخمر".
(3)
أخرجه البخاري رقم (5581) و (5588)، والنسائي (8/ 295 رقم 5587 و 5579 و 5580)، وابن أبي شيبة (7/ 463)، وعبد الرزاق في "المصنف"(9/ 234 رقم 17051).
(4)
سيأتي تخريجه رقم (8/ 1170) من كتابنا هذا.
(5)
في (ب): "فجاء".
فيتحصل مما ذكرَ جميعًا أنَّ الخمرَ حقيقةٌ لغويةٌ في عصيرِ العنبِ المشتدِّ الذي يقذفُ بالزبدِ وفي غيرِه مما يسكرُ، حقيقةٌ شرعيةٌ أو قياسٌ في اللغةِ أوْ مجازٌ، فقدْ حصلَ المقصودُ منْ تحريمِ ما أسكرَ منْ ماءِ العنبِ أوْ غيرِه إمَّا بنقلِ اللفظِ إلى الحقيقةِ الشرعيةِ أو بغيرِه. وقدْ علمتَ أنهُ أطلقَ عمرُ وغيرُه منَ الصحابةِ
(1)
الخمرَ على كلِّ ما أسكرَ، وهمْ أهلُ اللسانِ والأصلُ الحقيقةُ وقد أحسنَ صاحبُ "القاموس"
(2)
بقولِه والعمومُ أصحُّ.
وأما الدَّعاوَى التي تقدَّمتْ علَى اللغةِ كما قالَه ابنُ سَيْدَهْ
(3)
وشارحُ "الكنزِ"
(4)
فما أظنُّها إلَّا بعدَ تقرُّرِ هذهِ المذاهبِ، [فكلٌ]
(5)
تكلَّمَ على ما يعتقدُه ونزلَ في قلبهِ منْ مذهبِه ثمَّ جعلَه لأهلِ اللغةِ.
المسألةُ الثانيةُ: وقولُه: (فجلدَ بجريدتيْنِ نحوَ أربعينَ) فيهِ دليلٌ على ثبوتِ الحدِّ على شاربِ الخمرِ، وادعَّى فيهِ الإجماعَ ونُوزِعَ في دعْواهُ لأنهُ قدْ نقلَ عنْ طائفةٍ منْ أهلِ العلمِ أنهُ لا يجبُ فيهِ إلَّا التعزيرُ لأنهُ صلى الله عليه وسلم لم ينصَّ على حدٍّ معيَّنٍ وإنَّما ثبتَ عنهُ الضربُ المطْلَقُ.
وفيهِ دليلٌ علَى أنهُ يكونُ الجلدُ بالجريدِ وهوَ سَعَفُ النخلِ. وقد اختلفَ العلماءُ هلْ يتعيَّنُ الجلْدُ بالجريدِ علَى ثلاثةِ أقوالٍ، أقربُها جوازُ الجلدِ بالعودِ غيرِ الجريدِ، ويجوزُ الاقتصارُ على الضربِ باليديْنِ والنعالِ. قالَ في "شرح مسلمٍ"
(6)
: أجمعُوا علَى الاكتفاءِ بالجريدِ والنعالِ وأطرافِ الثيابِ، ثمَّ قالَ: والأصحُّ جوازُه بالسوطِ.
وقالَ المصنفُ: توسَّطَ بعضُ المتأخرينَ فعيَّنَ السوطَ للمتمردينَ، وأطرافَ الثيابِ والنعالَ للضعفاءِ ومَنْ عدَاهم بحسبِ ما يليقُ بهِمْ، وقدْ عيَّن قولُه في الحديثِ (نحوَ أربعينَ)، ما أخرجَهُ البيهقيُّ وأحمدُ بلفظِ
(7)
: "فأمرَ قريبًا منْ
(1)
"فتح الباري"(10/ 48).
(2)
"القاموس المحيط"(495).
(3)
"فتح الباري"(10/ 47 - 48).
(4)
"كشف الحقائق"(2/ 245 - 246).
(5)
زيادة من (أ).
(6)
"صحيح مسلم شرح النووي"(11/ 218).
(7)
"السنن الكبرى"(8/ 319).
عشريْنَ رجُلًا فجلَدَهُ كلُّ واحدٍ جلدتيْنِ بالجريدِ والنعالَ". قالَ المصنفُ: وهذا يجمعُ ما اختلِفَ فيهِ على تشعُّبِه وأنَّ جملةَ الضرب كانتْ أربعينَ لا أنهُ جلدهُ بجريدتيْنِ أربعينَ.
المسألةُ الثالثةُ: قولُه: (فلمَّا كانَ عمرُ استشار النَّاس - إلى آخرِه) سببُ استشارتهِ ما أخرجَهُ أبو داودَ والنسائيُّ
(1)
: "أنَّ خالدَ بنَ الوليدِ كتبَ إلى عمرَ: إنَّ النَّاسَ قدِ انهمَكُوا في الخمرِ وتحاقَروا العقوبةَ، قالَ: وعندَه المهاجرونَ والأنصارُ فسألهم فأجمعُوا علَى أنْ يُضْرَبَ ثمانينَ".
وأخرجَ مالكٌ في "الموطأ"
(2)
عنْ ثورِ بنِ يزيدَ: "أنَّ عمرَ استشارَ في الخمْرِ فقالَ لهُ عليُّ (ابنُ أبي طالبٍ) عليه السلام: نَرَى أنْ تَجلِدَهُ ثمانينَ، فإنهُ إذا شربَ سَكِرَ، وإذَا سكرَ هذَى، وإذا هَذَى افترَى، فَجَلَدَ عمرُ في الخمرِ ثمانينَ".
وهذا حديثُ معضَلٌ، ولِهذَا الأثرِ طُرُقٌ عنْ عليٍّ وقدْ أنكرهُ ابنُ حزمٍ كما سلفَ، وفي معناهُ نكارةٌ لأنهُ قالَ: وإذا هذَى افتَرى، والهاذي لا يُعَدُّ قولُه فريةً لأنهُ لا عَمْدَ لهُ، ولا فِرْيَةَ إلا عنْ عمدٍ.
وقدْ أخرجَ عبدُ الرزاقِ
(3)
قالَ: جاءتِ الأخبارُ متواترةً عنْ عليٍّ عليه السلام أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يسنَّ في الخمرِ شيئًا، ولا يخْفَى أنَّ الحديثَ الآتي يؤيِّدُهُ.
مقدارُ حدِّ الشارب
2/ 1164 - وَلِمُسْلِم عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه في قِصّةِ الْوَلِيدِ بْنُ عُقْبَةَ: جَلَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ عُمَرَ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهذَا
(1)
"مختصر السنن"(6/ 291 رقم 4324) عن عبد الله بن أزهر: قال أبو داود: أدخل عقيل بن خالد بين الزهري وبين ابن الأزهر في هذا الحديث: عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر عن أبيه.
(2)
"الموطأ"(2/ 842 رقم 42/ 2)، و"فتح الباري"(12/ 69)، وعبد الرزاق (7/ 378 رقم 13542).
(3)
"المصنف"(7/ 378 رقم 13543).
أَحَبُّ إِلَيَّ. وَفي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا
(1)
. [صحيح]
(ولمسلمٍ عنْ عليٍّ في قصةِ الوليدِ بنِ عقبةَ) حقَّقْنَاها في "منحةِ الغفارِ حاشية ضوءِ النهارِ" وفيها أنَّ عثمانَ أمرَ عليًّا بجلدِ الوليدِ بنِ عقبةَ في الخمرِ، فقالَ لعبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ: اجْلِدْهُ، فجلَدَهُ، فلمَّا بلغَ أربعينَ قالَ: أَمْسِكْ (جلدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أربعينَ، وجلدَ أبو بكرٍ أربعينَ، وجلدَ عمرُ ثمانينَ، وكلٌّ سُنَّةٍ، وهذا أحبُّ إليَّ) يعارضه وهو يريدُ أنهُ أحبُّ [إليه]
(2)
معَ جُرْأَةِ الشاربينَ لا أنهُ أحبُّ إليهِ مُطْلَقًا، فلا يُرَدُّ أنهُ كيفَ يجعلُ فعلَ عمرَ أحبَّ إليهِ منْ فعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ ظاهرَ الإشارةِ إلى فعلِ عمرَ وهوَ الثمانونَ، ولكنَّه يقالُ إنَّ ظاهرَ قولِه أمسكْ بعدَ الأربعينَ دالٌّ على أنهُ لم يفعلِ [إلا]
(3)
الأحبَّ إليهِ.
وأُجِيْبَ عنهُ بأنَّ في صحيحِ البخاريِّ
(4)
منْ روايةِ عبدِ اللهِ بنِ عديِّ بنِ الخيارِ: "أنَّ عليًا جلدَ الوليدَ ثمانينَ"، والقصةُ واحدةٌ، والذي في البخاريِّ أرجحُ، وكأنهُ بعدَ أنْ قالَ وهذا أحبُّ إليَّ أمرَ عبدِ اللهِ بتمامِ الثمانينَ، وهذهِ أَوْلَى منَ الجوابِ الآخَرِ وهوَ أنهُ جلدهُ بسوطٍ له رأسانِ فضرَبَهُ أَربعينَ فكانتِ الجملةُ ثمانينَ، فإنَّ هذَا ضعيفٌ لعدمِ مناسبةِ سياقهِ لهُ.
والرواياتُ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنهُ جلدَ في الخمرِ أربعينَ كثيرةٌ إلَّا أنَّ في ألفاظِها نحوَ أربعينَ وفي بعضِها بالنعالِ، فكأنهُ فهمَ الصحابةُ أنَّ ذلكَ يتقدَّرُ بنحو [أربعينَ جلدةً]
(5)
.
واختلفَ العلماءُ في ذلكَ فذهبتِ الهادويةُ وأبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ وأحدُ قولَيْ الشافعيِّ
(6)
أنهُ يجبُ الحدُّ علَى السكرانِ ثمانينَ جلدةً، قالُوا: لقيامِ الإجماعِ عليهِ في عهدِ عمرَ
(7)
فإنَهُ لم ينكرْ عليهِ أحدٌ. وذهبَ الشافعيُّ في المشهورِ عنهُ
(1)
أخرجه مسلم (38/ 1707)، وأبي داود (4480).
(2)
في (أ): "إليَّ".
(3)
زيادة من (أ).
(4)
البخاري (7/ 3696).
(5)
في (أ): "الأربعين جلدة".
(6)
"البحر الزخار"(5/ 196)، و"شرح فتح القدير"(5/ 83)، و"بداية المجتهد"(4/ 394)، و"المغني"(10/ 325 رقم 7341)، و"مغني المحتاج"(4/ 189).
(7)
"موسوعة فقه عمر بن الخطاب"(103).
وداودُ
(1)
أنهُ [أربعونَ]
(2)
لأنهُ الذي رُوِيَ عنهُ صلى الله عليه وسلم فعلُه، ولأنهُ الذي استقرَّ عليهِ الأمرُ في خلافةِ أبي بكرٍ
(3)
رضي الله عنه، ومَنْ تَتَبَّعَ ما في الرواياتِ واختلافِها علمَ أنَّ الأحْوطَ [الأربعونَ]
(4)
ولا يُزَادُ عليها.
وفي هذَا الحديثِ: "أنَّ رجلًا شهدَ عليه أي على الوليدِ أنهُ رآهُ يتقيأُ الخمرَ، فقالَ عثمانُ: إنهُ لم يتقيأْها حتَّى شربَها"، في مسلم
(5)
: "أنهُ شهدَ عليهِ رجلانِ أحدُهما حمرانُ أنهُ شربَ الخمرَ، وشهدَ عليهِ آخَرُ أنهُ رآهُ يتقيؤُها
…
الحديث".
قالَ النوويُّ في "شرح مسلمٍ"
(6)
: هذَا دليلٌ لمالكٍ وموافقيْهِ في أنَّ منْ تَقَيَّأَ الخمرَ يُحَدُّ حدَّ شاربِ الخمرِ، ومذهبُنا أنهُ لا يُحَدُّ بمجردِ ذلكَ لاحتمالِ أنهُ شربَها جاهلًا كونَها خمرًا أوْ مكرَهًا عليها وغيرَ ذلكَ منَ الأعذارِ المسقِطةِ للحدودِ، ودليلُ مالكٍ قويٌّ لأنَّ الصحابةَ اتفقُوا على جلدِ الوليدِ بنِ عقبةَ المذكورِ فى هذا الحديثِ اهـ.
قلتُ: بمثلِ ما قالَهُ مالكٌ قالته الهادويةُ
(7)
، ثمَّ لا يخْفَى أنَّ اقتصارَ المصنفِ على الشاهدِ [على القيء] وحدَه تقصيرٌ لإيهامِهِ أنهُ جُلِدَ الوليدُ بشهادةِ واحدٍ على القيء [وليس كذلك كما عرفنا، لا بما ذكره مسلم من الرواية فلا يتم الدليل على أن الشهادة على القيء كافية في ثبوت الحد إلا أن يقوم دليل غير ما هنا]
(8)
.
قتل من شرب الخمر أربع مرات
3/ 1165 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ في شَارب الْخَمْر:
(1)
"مغني المحتاج"(4/ 189)، و"المحلَّى"(11/ 365).
(2)
في (أ): "أربعين".
(3)
"موسوعة فقه أبي بكر الصديق" قلعه جي (109).
(4)
في (أ): "أربعين".
(5)
"صحيح مسلم"(38/ 1707).
(6)
"صحيح مسلم بشرح النووي"(11/ 219).
(7)
"البحر الزخار"(5/ 194).
(8)
زيادة من (أ).
"إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الرَّابعَةَ فَاضْرِبوا عُنُقَهُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ صَريحًا عَن الزُّهْريِّ
(1)
. [إسناده حسن]
(وعنْ معاويةَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ في شاربِ الخمرِ إذا شربَ فاجلِدُوهُ، ثم إذا شربَ فاجلدُوه، ثمَّ إذا شربَ الثالثةَ فاجلدُوه، ثمَّ إذا شربَ الرابعةَ فاضرِبُوا عُنُقَهُ. أخرجَهُ أحمد - وهذا لفظُه -[وأخرجه]
(2)
الأربعةُ).
اختلفتِ الرواياتُ في قتلِه، هلْ يُقْتَلُ [إن]
(3)
شربَ الرابعةَ أوْ [إنْ شربَ]
(4)
الخامسةَ؟
فأخرجَ أبو داودَ منْ روايةٍ أبانَ [العطار]
(5)
(6)
وذكرَ الجلدَ ثلاثَ مراتٍ بعدَ
(1)
"المسند"(4/ 96)، والترمذي (1444)، وأبو داود (4482) و (4485) عن الزهري، وابن ماجه (2573).
قلت: وأخرجه النسائي من طريق جابر في "السنن الكبرى"، انظر:"تحفة الأشراف"(2/ 1373 رقم 3073) والبزار (2/ 221 رقم 1562) وقال: كان ذلك ناسخًا لقتله ولا نعلم أحدًا حدَّث به إلا ابن إسحاق، وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 161)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 373) وسكت عنه لأنه أخرجه شاهدًا لما قبله. والبيهقي (8/ 314)، وانظر تحقيق المسند للمحدث أحمد شاكر (9/ 53، 54) ثم قال: وأسانيد حديث جابر كلها صحيحة وساقه من عدة طرق عن جابر، وكذلك انظر:"نصب الراية"(3/ 347) للزيلعي. وعبد الرزاق في مصنفه (9/ 246 رقم 17084)، والشافعي في "الأم"(6/ 155) و (6/ 195) وحديث الزهري عن قبيصة كلهم أخرجوه عن سفيان بن عيينة، وقبيصة ولد زمن النبي ولم يسمع منه والزهري لم يسمع من قبيصة أيضًا، وذكر الزيلعي أن قبيصة من ولد الصحابة، له رؤية، وفي صحبته خلاف. وفي "الجوهر النقي"(8/ 313 - 314) ذكر ابن التركماني أنه مرسل منقطع. وفي تحقيق المسند (9/ 61، 62) قال أحمد محمد شاكر: هو حديث ضعيف حكمه حكم غيره من المراسيل. وانظر تخريجنا له في: "الروضة الندية"(2/ 613، 614).
(2)
في (ب): "و".
(3)
في (أ): "بعد".
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في (ب): "القصَّار"، والصواب ما في (أ)، انظر:"تهذيب التهذيب"(1/ 56، 57) ط: الرسالة.
(6)
"السنن"(رقم/ 4482).
الأُولى ثمَّ قال: "فإنْ شربُوا فاقتلُوهم"، وأخرجَ منْ حديثِ ابنِ عمرَ
(1)
منْ روايةِ نافعٍ عنهُ أنهُ قالَ: وأحسبُه قالَ في الخامسةِ: "فإنْ شَرِبَها فاقتلُوه".
وإلى قتلِه ذهبَ الظاهريةُ واستمرَّ عليهِ ابنُ حزمٍ
(2)
واحتجَّ لهُ وادَّعى عدمَ الإجماعِ علَى نَسْخِهِ والجمهورُ
(3)
على أنهُ منسوخٌ ولم يذكُروا له ناسِخًا صريحًا إلَّا ما يأتي منْ روايةِ أبي داودَ عنِ الزهريِّ
(4)
أنهُ صلى الله عليه وسلم تركَ القتلَ في الرابعةِ وقدْ يُقَالُ القولُ أقْوى منَ التركِ فلعلَّه صلى الله عليه وسلم تركهُ لِعُذْرٍ، واللهُ أعلم.
(وذكرَ الترمذيُّ ما يدلُّ علَى أنهُ منسوخٌ وأخرجَ ذلكَ أبو داودَ صريحًا عنِ الزهريِّ)، يريدُ ما أخرجَهُ منْ روايةِ الزُّهْرِيِّ عنْ قُبَيْصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شربَ الخمرَ فاجلِدُوهُ - إلى أنْ قالَ: ثمَّ إذا شربَ في الرابعةِ فاقتلُوه. قالَ: فَأُتِيَ برجُلٍ قدْ شربَ فجلدَه، ثمَّ أُتيَ بهِ قدْ شربَ فجلدَهُ ثمَّ أُتِيَ بهِ قدْ شربَ فجلَدَهُ، ثمَّ أُتِيَ بهِ الرابعةَ فجلدَه فَرُفِعَ القتلُ عنِ الناسِ فكانتْ رخصةً"
(5)
، قالَ الشافعيُّ
(6)
: هذا (يريدُ نسخَ القتلِ) مما لا [خلاف]
(7)
فيهِ بينَ أهلِ العلمِ، ومثلَه قالَ الترمذي
(8)
.
لا يحل ضرب الوجه
4/ 1166 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(9)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذا ضربَ أحدُكم فليتقِ الوجهَ. متفقٌ عليهِ).
(1)
"السنن"(رقم/4483) وقال: وكذا في حديث أبي غطيف.
(2)
"المحلى"(11/ 370).
(3)
"الروضة الندية"(2/ 614) بتحقيقنا.
(4)
"السنن"(رقم/ 4485).
(5)
انظر هامش رقم (6).
(6)
"الأم"(6/ 155، 156).
(7)
في (ب): "اختلاف".
(8)
في "السنن"(4/ 49).
(9)
البخاري (2559) وفيه إذا قاتل، ومسلم (112/ 2612)، وأبي داود (4493)، وأحمد (2/ 313، 327، 347، 449، 463، 519).
الحديثُ دليلٌ على أنهُ لا يحلُّ ضربُ الوجهِ في حدٍّ ولا غيرِه، وكذلكَ لا يُضْرَبُ المحدودُ في المراقِ والمذاكيرِ، لما أخرجَهُ ابنُ أبي شيبةَ
(1)
عنْ عليٍّ عليه السلام أنهُ قالَ للجلَّادِ: "اضربْ في أعضائِه، وأعطِ كلَّ عُضْوٍ حقَّه، واتقِ وجْهَهُ ومذاكيرَهُ"، وأخرجَهُ عبدُ الرزاقِ وسعيدُ بنُ منصورٍ والبيهقيُّ
(2)
منْ طُرُقٍ عنْ عليٍّ عليه السلام.
وإنَّما نَهَى عنِ المذاكيرِ والمراقِ؛ لأنهُ لا يُؤْمَنُ عليهِ معَ ضرْبِها، [واختُلِفَ]
(3)
في ضَرْبهِ في الرأسِ فذهبَ جماعةٌ منَ العلماءِ إلى أنهُ لا يُضْرَبُ فيهِ إذْ هوَ غيرُ مأمونٍ
(4)
. وذهبتِ الهادويةُ وغيرُهم
(5)
إلى جوازِ ضَرْبهِ فيهِ، قالُوا: لقولِ عليٍّ عليه السلام
(6)
للجلادِ "اضربِ الرأسَ"، ولقولِ أبي بكرٍ
(7)
رضي الله عنه: "اضربِ الرأسَ فإنَّ الشيطانَ فيهِ"، أخرجَهُ ابنُ أبي شيبةَ وفيهِ ضعفٌ وانقطاعٌ. وذهبَ مالكٌ
(8)
إلى أنهُ لا يُضْرَبُ إلَّا في رَأْسِهِ.
فائدةٌ: في الحديثِ أنهُ صلى الله عليه وسلم
(9)
أمرَ أنْ يُحْثَى عليهِ الترابُ ويبكتَ، فلمَّا ولَّى شرعَ القومُ يسبُّونه ويدعونَ عليهِ ويقولُ القائلُ: اللهمَّ العنْهُ، فقالَ صلى الله عليه وسلم:"لا تقولُوا هذَا ولكنْ قولُوا: اللهمَّ اغفرْ لهُ، اللهمَّ ارحمْهُ". وأوجبَ المازريّ التبكيتَ والتثريبَ.
وأمَّا صفةُ سوطِ الضربِ فأخرجَ مالكٌ في "الموطأِ" عنْ زيدِ بنِ أسلمَ مرسلًا: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرادَ أنْ يجلدَ رجلًا فأُتِيَ بسوطٍ خَلِقٍ، فقالَ: فوقَ هذَا،
(1)
"الكتاب المصنف"(10/ 48 رقم 8724).
(2)
"السنن الكبرى" البيهقي (8/ 327)، و"التلخيص الحبير"(4/ 78).
(3)
في (أ): "واختَلفوا".
(4)
"بداية المجتهد"(4/ 382).
(5)
"البحر الزخار"(5/ 155).
(6)
قال صاحب "البحر الزخار": لم أقف عليه (5/ 155).
(7)
"التلخيص الحبير"(4/ 78)، وابن أبي شيبة (10/ 151 رقم 9082)، و"نصب الراية" (3/ 324) عن وكيع عن المسعودي وقال: والمسعودي ضعيف.
(8)
قال مالك: يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه، "بداية المجتهد"(4/ 382) بتحقيقنا.
(9)
أخرجه أبو داود (4478). وهو حديث صحيح.
فَأُتِيَ بسوطٍ جديدٍ فقالَ: دونَ هذَا"، فيكونُ بينَ الجديدِ والخلِقِ. وذكرَ الرافعيُّ عنْ عليٍّ
(1)
عليه السلام: "سوطُ الحدِّ بينَ سوطينِ، وضَرْبُه بينَ ضَرْبَيْنِ"، قالَ ابنُ الصلاحِ: والسوطُ هوَ المتَّخَذُ منْ سُيُورٍ تُلْوَى وتُلَفُّ.
عدم إقامة الحد في المسجد
5/ 1167 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تُقَامُ الْحُدُودُ في الْمَسَاجِدِ"، رَوَاهُ الترْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ
(2)
. [حسن لغيره]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا تُقَامُ الحدودُ في المساجدِ. رواهُ الترمذيُّ والحاكمُ). وأخرجَهُ ابنُ ماجهْ
(3)
، وفي إسنادِه إسماعيلُ بنُ مسلمٍ المكيِّ ضعيفٌ منْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وأخرجَهُ أبو داودَ والحاكمُ وإبنُ السَّكَنِ والدارقطنيُّ والبيهقيُّ منْ حديثٍ حكيمِ بنِ حزامٍ
(4)
، ولا بأسَ بإسنادِه. ولهُ طُرُقٌ أُخَرُ والكلُّ متعاضِدَةٌ وقدْ عمِلَ بهِ الصحابةِ، فَأخرجَ ابنُ أبي شيبةَ
(5)
عنْ طارقِ بنِ شهابٍ قالَ: "أُتِيَ عمرُ بنُ الخطابِ برجلٍ في حدٍّ، فقالَ: أخرجَاهُ منَ المسجدِ ثمَّ اضرِبَاهُ"، وأسندَهُ على شرطِ الشيخينِ.
وأخرجَ
(6)
عنْ عليٍّ عليه السلام: "أنَّ رجلًا جاءَ إليهِ فسارَّهُ، فقالَ: يا قنبرُ أخرِجْهُ منَ المسجدِ فأقمْ عليهِ الحدَّ"، وفي [إسناده]
(7)
مقالٌ. وإلى عدمِ جوازِ إقامةِ الحدِّ في المسجَدِ ذهبَ أحمدُ وإسحاقُ والكوفيونَ
(8)
لما ذُكِرَ منَ الدليلِ.
(1)
"التلخيص الحبير"(4/ 78). وقال الحافظ لم أره عنه هكذا.
(2)
أخرجه الترمذي رقم (1401) وفي إسناده: إسماعيل بن مسلم المكي، قال أحمد: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وأورد له الذهبي هذا الحديث في "الميزان" (1/ 348) وقال: من مناكيره، وأخرجه الحاكم (4/ 369) وله طرق أخرى فهو حديث حسن لغيره.
(3)
"السنن"(2599).
(4)
أخرجه أبو داود في "السنن"(2490)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 369)، والدارقطني (3/ 86 رقم 14)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 328)، وابن أبي شيبة (10/ 42 رقم 8696)، وهو حديث حسن لغيره.
(5)
"المصنف"(10/ 42 رقم 8695).
(6)
"المصنف"(10/ 42 رقم 8694).
(7)
في (ب): "سنده".
(8)
"المغني": (10/ 335 رقم 7359).
وذهبَ ابنُ أبي لَيْلَى (والشعبيُّ)
(1)
إلى جوازِهِ ولم يذكرْ لهُ دليلًا، وكأنَّه حَمَلَ النَّهْيَ على التنزيهِ.
قالَ ابنُ بطَّالٍ: وقولُ مَنْ نزَّهَ المسجدَ أَوْلَى - يريدُ قولَ الأوَّلَيْنِ.
تسمية النبيذ خمرًا
6/ 1168 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَحْريمَ الْخَمْر وَمَا بالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إلَّا مِنْ تَمْرٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(2)
. [صحيح]
(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه قالَ: لقد أنزلَ اللهُ تعالَى تحريمَ الخمْرِ، وما بالمدينةِ شرابٌ يُشْرَبُ إلَّا منْ تمرٍ. أخرجَهُ مسلمٌ)، فيهِ دليلٌ على ما سلفَ منْ تسميةِ نبيذِ التمرِ خمرًا عندَ نُزُولِ آيةِ التحريمِ.
الخمر منَ خمسة أصناف
7/ 1169 - وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِير. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ عمرَ رضي الله عنه قالَ: نزلَ تحريمُ الخمرِ وهيَ منْ خمسةٍ: منَ العنبِ والتمرِ والعسلِ والحنطةِ والشعيرِ، والخمرُ ما خامرَ العقلَ. متفقٌ عليهِ)، وأخرجَهُ الثلاثةُ أيضًا. لا يُقَالُ إنهُ مُعَارَضٌ بحديثِ أنسٍ
(4)
لأنَّ حديثَ أنسٍ إخبارٌ عمَّا كانَ منَ الشرابِ في المدينةِ، وكلامُ عمرَ ليسَ فيهِ تقييدٌ بالمدينةِ وإنَّما هوَ إخبارٌ عمَّا يشربُهُ النَّاسُ مطْلقًا، وقولُه:"والخمرُ ما خامرَ العقلَ"، إشارةٌ إلى وجْهِ التسميةِ، وظاهرُه
(1)
"المحلَّى": (11/ 124 رقم 2165).
(2)
البخاري (5584)، ومسلم (1982)، وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن جابر (4/ 141) وقال: صحيح على شرط الشيخين، والنسائي أيضًا عن جابر (8/ 288 رقم 5546).
(3)
البخاري رقم (5581)، ومسلم رقم (3032). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3669)، والترمذي رقم (1874)، والنسائي (8/ 295).
(4)
انظر: تخريج الحديث رقم (1168).
أنَّ كلَّ ما خالطَ العقلَ أو غطَّاهُ يُسمَّى خمرًا لغةً، سواءٌ كانَ مما ذُكِرَ أو غيرِه، ويدلُّ لهُ أيضًا الحديثُ الآتي:
كل مسكر حرام
8/ 1170 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: كلُّ مسكرٍ خمرٌ وكلُّ مسكرٍ حرامٌ. أخرجَهُ مسلمٌ)، فإنهُ دالٌّ على أنَّ كلَّ مسكرٍ يسمَّى خمراً. وفي قولِه:"وكلُّ مسكرٍ حرامٌ" دليلٌ علَى تحريمِ كلِّ مسكرٍ، وهوَ عامٌّ لكلِّ ما كانَ منْ عصيرٍ أوْ نبيذٍ، وإنَّما اختلَفَ العلماءُ بالمرادِ بالمسْكِر هلْ يرادُ تحريمُ القدْرِ المسْكِرِ أوْ تحريمُ تناولِهِ مطْلَقًا وإنْ قلَّ ولم يسْكِرْ إذا كانَ في ذلكَ الجنسِ صلاحيةُ الإسكارِ؟ ذهبَ إلى تحريمِ القليلِ والكثيرِ مما أسكرَ جنسُه الجمهورُ منَ الصحابةِ وغيرُهم وأحمدُ وإسحاقُ والشافعيُّ ومالكٌ والهادويةُ
(2)
جميعًا، مستدلِّينَ بهذا الحديثِ وحديثِ جابرٍ
(3)
الآتي بعد هذا، وبما أخرجَهُ أبو داودَ
(4)
منْ حديثٍ عائشةَ: "كلُّ مسكِرٍ حرامٌ، وما أسكرَ منهُ الفرقُ فَمِلءُ الكفِّ حرامٌ"، وبما أخرجَهُ ابنُ حبَّانَ
(5)
والطحاويُّ
(6)
منْ حديثِ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أنْهَاكُمْ عنْ قليلِ ما
(1)
مسلم (2003)، قلت: وأخرجه أبو داود (3679)، والترمذي (1861) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (8/ 297 رقم 5586)، وأحمد (2/ 16)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12/ 312 رقم 13213) و (12/ 332 رقم (13268)، وابن ماجه (9/ 3390)، وابن حجر في "التلخيص الحبير"(4/ 73 رقم 1785).
(2)
"بداية المجتهد"(4/ 394) بتحقيقنا، و"المغني"(10/ 323 رقم 7338)، و"المجموع"(20/ 112)، و"البحر الزخار"(5/ 192).
(3)
سيأتي تخريجه للحديث رقم (1171).
(4)
"السنن"(3687)، وانظر تخريجنا له في "الروضة الندية"(2/ 436، 437).
(5)
"الإحسان"(12/ 192 رقم 5370)، قلت: وأخرجه النسائي (8/ 301 رقم 5609)، والدارقطني (4/ 251 رقم 31)، وابن الجارود (3/ 154، 155 رقم 862)، والدارمي (2/ 113)، والطحاوي (4/ 216)، والبيهقي (8/ 296) من طرق عن الضحاك بن عثمان.
(6)
في المخطوطة: البخاري، والمثبت الطحاوي (4/ 216).
أسكرَ كثيرُه"، وفي معناهُ رواياتٌ كثيرةٌ لا تخلُو عنْ مقالٍ في أسانيدِها لكنَّها تعتضِدُ بما سمعتَ، قالَ أبو مظفَّرٍ السمعانيِّ: الأخبارُ في ذلكَ كثيرةٌ لا مساغَ لأحدٍ في العدولِ عنْها، وذهبَ الكوفيونَ وأبو حنيفةَ وأصحابُه وأكثرُ علماءِ البصرةِ
(1)
إلى أنهُ يحلُّ دونَ المسكرِ منْ غيرِ عصيرِ العنبِ والرطبِ.
وتحقيقُ مذهبِ الحنفيةِ قدْ بسطَهُ في "شرحِ الكنز"
(2)
حيثُ قالَ: إنَّ أبا حنيفةَ قالَ: الخمرُ هوَ النِّيءُ منْ ماءِ العنبِ إذا غُلِيَ واشتدَّ وقذَفَ بالزبَدِ حُرِّمَ قليلها وكثيرها، وقال: إن الغليان من آية الشدَّة وكمالهُ بقذف الزَّبد وبسكونِه، إذْ بهِ يتميزُ الصافي منَ الكدِرِ، وأحكامُ الشرعِ قطعيةٌ فتُنَاطُ بالنهايةِ كالحدودِ وإكفارِ المستحِلِّ وحُرمةِ البيعِ والنجاسةِ.
وعندَ صاحِبَيْهِ إذا اشتدَّ صارَ خمرًا ولا يشتَرَطُ القذفُ بالزبدِ لأنَّ الاسمَ يثبتُ بهِ والمعنَى المقتضي للتحريمِ وهوَ المؤثرُ في الفسادِ وإيقاع العداوةِ، وأما الطِلاءُ بكسرِ الطاءِ فهو العصيرُ منَ العنبِ إنْ طُبِخَ حتَّى يذهبَ أَقلُّ منْ ثُلُثَيْهِ، والسَّكَرُ بفتحتينِ وهوَ النيءُ منْ ماءِ الرطبِ ونقيعِ الزبيبِ، وهوَ النِّيءُ منْ ماءِ الزبيبِ، والكل حرامٌ إن غَلَى واشتدَّ، وحرمتُها دونَ الخمرِ، والحلالُ منْها أربعةٌ: نبيذُ التمرِ والزبيبِ إنْ طُبِخَ أدنَى طَبْخٍ وإنِ اشتدَّ إن شربَ ما لا يسكرُ بِلَا لَهْوٍ وطربٍ، والخليطانِ وهوَ أنْ يُخْلَطَ ماءُ التمرِ وماءُ الزبيبِ، ونبيذُ العسلِ والتينِ والبرِّ والشعيرِ والذرةِ، طُبِخَ أوْ لَا، والمثلثُ العنبيُّ. انتَهى كلامُه ببعضِ تصرُّفٍ فيهِ.
فهذهِ الأنواعُ هي التي لم يقل بحرمتها استدلَّ بأنَّها لا تدخلُ تحتَ مُسَمَّى الخمرِ فلا يشملُها أدلةُ تحريمِ الخمرِ، وتأول حديثُ ابنِ عمرَ
(3)
هذا بما قالَه الطحاويُّ
(4)
حيثُ قالَ في تأويلِ الحديثِ: قالَ بعضُهم، المرادُ بهِ ما يقعُ للسكر عندَه، قالَ: ويؤيدُه أنَّ القاتلَ لا يُسَمَّى قاتِلًا حتَّى يَقْتُلَ، قالَ: ويدلُّ لهُ حديثُ ابنِ عباسٍ يرفعُه: "حُرِّمَتِ الخمرُ قليلُها وكثيرُها والسكرُ منْ كلِّ شرابٍ". أخرجَهُ
(1)
"المغني"(10/ 323)، و"كشف الحقائق"(2/ 246).
(2)
"كشف الحقائق"(2/ 246).
(3)
تقدم تخريجه قريبًا بالحديث رقم (1170).
(4)
الطحاوي (4/ 214).
النسائيُّ
(1)
ورِجالُه ثِقَاتٌ إلَّا أنهُ اختُلِفَ في وصْلِهِ وانقطاعِهِ، وفي رفْعِهِ ووقْفِهِ، علَى أنهُ على تقديرِ صِحَّتِهِ فقدْ قالَ أحمدُ وغيرُه: إنَّ الراجحَ أنَّ الروايةَ فيهِ المُسْكِرُ بضمِّ الميمِ وسكونِ السينِ لا السُّكْرُ بضمِّ السينِ أو [بفتحتين]
(2)
، وعلى تقديرِ ثبوتهِ فهوَ حديثُ فردٍ لا يقاوِمُ ما عرفْتَ منَ الأحاديثِ التي ذكرنَاها، وقدْ سردَ لهم في الشرحِ أدلةً منْ آثارٍ وأحاديثَ لا يخلُو شيءٌ منْها عنْ قادحٍ فلا ينتهض على المدَّعَى. ثمَّ لفظُ الخمرِ قدْ سمعتَ أنَّ الحقَّ فيهِ لغةً عمومُه لكلِّ مُسْكِرٍ كما قالَه مجدُ الدِّينِ
(3)
، فقدْ تناولَ ما ذكرَ دليلَ التحريمِ.
وقدْ أخرجَ البخاريُّ
(4)
عنِ ابنِ عباسٍ لما سألَه أبو جويريةَ عنِ الباذِق - بالباءِ الموحدةِ والذالِ المعجمة المفتوحةِ وقيلَ المكسورةُ، وهوَ فارسيٌّ معرَّبٌ أصلُه باذهْ - وهوَ الطلاءُ، فقالَ ابن عباسٍ:"سبقَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم الباذِقَ، ما أسكرَ فهوَ حرامٌ، الشرابُ الحلالُ الطيِّبُ، ليسَ بعدَ الحلالِ الطيبِ إلا الحرامُ الخبيثُ".
وأخرجَ البيهقيُّ
(5)
عنِ ابنِ عباسٍ أنهُ أتاهُ قومٌ يسألونَ عنِ الطلاءِ، فقالَ ابنُ عباسٍ: وما طلاؤُكم [هذا]
(6)
؟ إذا سألتموني فبيِّنوا لي الذي [سألتموني]
(7)
عنهُ، فقالُوا: هوَ العنبُ [يُعْصَرُ]
(8)
ثمَّ [يُطْبَخُ]
(9)
ثمَّ [يُجْعَلُ]
(10)
في الدِّنانِ، قالَ: وما الدنانُ؟ قالُوا: دنانٌ مقيَّرةً
(11)
، قالَ: مزفتةٌ؟ قالُوا: نعمْ، قالَ: أيسكر؟ قالُوا: إذا كثر منه أسكر، قالَ: فكلُّ مسكرٍ حرامٌ.
وأخرجَ عنهُ
(12)
أيضًا أنهُ قالَ في الطلي: إنَّ النارَ لا تُحِلُّ شيْئًا ولا تحرِّمهُ، وأخرجَ أيضًا عنْ عائشةَ
(13)
في سؤالِ أبي مسلمٍ الخولانيِّ لها قالَ: يا أمَّ
(1)
"السنن الكبرى"(4/ 180 رقم 6780).
(2)
في (أ): "بفتحها".
(3)
الفيروزآبادي (495).
(4)
البخاري (5598) قلت: وأخرجه البيهقي (8/ 294).
(5)
"السنن الكبرى"(8/ 294).
(6)
في (أ): "هذه".
(7)
في (ب): "تسألوني".
(8)
في (أ): "تعصر".
(9)
في (أ): "تطبخ".
(10)
في (أ): "تجعل".
(11)
المقيَّرة: المطلية بالقار، شيء أسود تُطلى به السفن والإبل، أو هو الزفت، قاله في "القاموس"، فهو القطران على التفسير الأول. "من المطبوعة".
(12)
البيهقي (8/ 294).
(13)
"السنن الكبرى"(8/ 294، 295).
المؤمنينَ إنَّهم يشربُونَ شرابًا لهم يعني - أهلَ الشامِ - يُقَالُ لهُ الطلاءُ، قالتْ: صدقَ اللهُ وبلَّغَ حِبِّي
(1)
، سمعتُ حِبِّي (1) رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"إنَّ أُناسًا مِنْ أُمَّتي يشربُونَ الخمرَ يسمُّونَها بغيرِ اسمِها". وأخرجَ
(2)
مثلَه عنْ أبي مالكٍ الأشعريِّ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "ليشربَنَّ أناسٌ منْ أمتي الخمرَ يسمُّونَها بغيرِ اسمِها وتُضْرَبُ علَى رُؤوسِهِمُ المعازفُ، يخسفُ اللهُ بهمُ الأرضَ ويجعلُ منهمْ قِرَدَةً وخنازيرَ".
وأخرجَ
(3)
عنْ عمرَ أنهُ قالَ: "إني وجدتُ منْ فلانٍ ريحَ شرابٍ فزعمَ أنهُ يشربُ الطلاءَ وإني سائلٌ عما يشربُ فإنْ كانَ يسكرُ جلدتُه، فجلدَه الحدَّ تامًا". وأخرجَ (3) عنْ أبي عبيدٍ أنهُ قالَ: جاءتْ في الأشربةِ آثارٌ كثيرةٌ مختلفةٌ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ وكلٌّ لهُ تفسيرُ:
فأولُها: الخمرُ وهيَ ما غلَى منْ عصيرِ العنبِ، فهذهِ مما لا اختلافَ في [تحريمِها]
(4)
منَ المسلمينَ، إنَّما الاختلافُ في غيرِها، (ومنْها): السَّكَرُ - يعني بفتحتين -، وهوَ نقيعُ التمرِ الذي لم تمسَّهُ النارُ، وفيهِ يُرْوَى عنِ ابنِ مسعودٍ
(5)
أنهُ قالَ: السَّكَرُ خمرٌ.
(ومنْها): البَتْعُ، بكسرِ الباءِ الموحدةِ والمثناةِ أي الفوقيةِ الساكنةِ والمهملةِ وهوَ نبيذُ العسلِ، (ومنْها): الجِعةُ
(6)
بكسرِ الجيمِ وهيَ نبيذُ الشعيرِ، (ومنْها): المِزْرُ
(7)
. وهوَ منَ الذُّرَةِ جاءَ تفسير هذهِ الأربعةِ عنِ ابنِ عمرَ (8) رضي الله عنه، وزادَ ابنُ المنذر (8) في الروايةِ عنهُ قالَ: والخمرُ منَ العنبِ والسَّكَرُ منَ التمرِ.
(ومنْها): السُّكْرُكَةُ، يعني بضمِّ السينِ المهملةِ وسكونِ الكافِ وضمِّ الراءِ فكافٍ مفتوحةٍ، جاء عنْ أبي موسَى
(8)
أنَّها منَ الذرةِ، (ومنْها): الفضيخُ، يعني
(1)
الحِبُّ بكسر الحاء: الحبيب "المطبوعة".
(2)
"السنن الكبرى"(8/ 295). قلت: حديث صحيح كما في "الصحيحة" للألباني (1/ 136، 139 رقم 90).
(3)
"السنن الكبرى"(8/ 295).
(4)
في (أ): "تحريمهُ".
(5)
البيهقي (8/ 295).
(6)
الجعة بكسر الجيم وفتح العين المهملة الخفيفة كما في "اللسان""من المطبوعة".
(7)
المِزر بكسر الميم وسكون الزاي كما في "اللسان" و"مختار الصحاح".
(8)
البيهقي (8/ 295).
بالفاءِ والضادِ المعجمةِ والخاءِ المعجمةِ، ما افتضخَ منَ البُسْرِ منْ غيرِ أنْ تمسَّه نارٌ، وسمَّاهُ ابنُ عمرَ (1) الفضوخُ، قالَ أبو عبيدٍ (1): فإنْ كانَ معَ البسرِ تمرٌ فهوَ الذي يُسَمَّى الخليطينِ، قالَ أبو عبيدٍ
(1)
: بعضُ العربِ [يسمي]
(2)
الخمرَ بِعَيْنِها [الطلي]
(3)
، (قالَ) عبيدُ بنُ الأبرصِ
(4)
:
هي الخمرُ تُكْنَى [الطلي]
(5)
…
كما الذئبُ يُكْنَى أبا جعدةِ
قالَ: وكذلكَ الخمرُ تسمَّى الباذقَ.
إذا عرفتَ فهذهِ آثارٌ تؤيدُ العملَ بالعمومِ، ومعَ التعارضِ فالترجيحُ للمحرِّمِ على المبيحِ، ومنْ أدلةِ الجمهورِ الحديثُ الآتي:
ما أسكر كثيره فقليله حرام
9/ 1171 - وَعَنْ جَابرٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَسْكَرَ كثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(6)
. [صحيح]
(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: ما أسكرَ كثيرُه فقليلةُ حرامٌ. أخرجَهُ أحمدُ والأربعةُ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ)، وأخرجَهُ الترمذيُّ
(7)
وحسَّنهُ ورجالُه ثِقَاتٌ.
وأخرجَ النسائيُّ والدارقطنىُّ وابنُ حِبَّانَ
(8)
منْ طَريقِ عامرِ بنِ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ عنْ أبيهِ بلفظِ: "نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ قليلِ ما أسكرَ كثيرُه"، وفي البابِ عنْ
(1)
البيهقي (8/ 295).
(2)
في (ب): "تسمى".
(3)
في (ب): "الطلاء".
(4)
البيهقي (8/ 295).
(5)
في (ب): الطلاء.
(6)
أخرجه أحمد (3/ 343)، وأبو داود رقم (3681)، والترمذي رقم (1865) وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجه رقم (3393)، وابن حبان رقم (5382) قلت: وأخرجه ابن الجارود رقم (860)، والبيهقي (8/ 296)، والطحاوي (4/ 217) وقال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 73 رقم 1787): ورجاله ثقات. قلت: وهو حديت صحيح.
(7)
في الترمذي رقم (1865) كما تقدم.
(8)
أخرجه النسائي في "السنن"(8/ 301 رقم 5609)، والدارقطني (4/ 251 رقم 31)، وابن حبان رقم (5370). قلت: وأخرجه ابن الجارود رقم (862)، والطحاوي (4/ 216)، والبيهقي (8/ 296)، والدارمي (2/ 113).
عليٍّ عليه السلام
(1)
وعائشةَ
(2)
رضي الله عنها وعنْ خواتٍ
(3)
وعنْ سعيدِ
(4)
وعنِ ابنِ عمرَ
(5)
وزيدِ بنِ ثابتٍ
(6)
كلُّها مخرَّجةٌ في كتبِ الحديثِ، والكلُّ تقومُ به الحجةُ، وتقدَّمَ تحقيقُه.
فائدةٌ: ويحرمُ ما أسكرَ مِنْ أيِّ شيءٍ وإنْ لم يكنْ مشرُوبًا كالحشيشةِ، قالَ المصنفُ: مَنْ قالَ إنها لا تسكرُ وإنما تُخدِّرُ فهيَ مكابرةٌ، فإنَّها تُحدثُ ما تُحدثُ الخمرَ منَ الطربِ والنشاة، قالَ: وإذا سُلِّمَ عدمُ الإسكارِ فهيَ مُفَتِّرَةٌ، وقدْ أخرجَ أبو داودَ
(7)
أنهُ: "نَهَى رسولُ اللهِ عنْ كلِّ مسكرٍ ومفتِّرٍ".
قالَ الخطابيُّ
(8)
: المفتِّرُ كلُّ شرابٍ يورِثُ الثبور والخَوَرَ في الأعضاءِ، وحَكَى العراقيُّ [وشيخ الإسلام]
(9)
ابنُ تيميةَ
(10)
الإجماعَ على تحريمِ الحشيشةِ وأنَّ مَنِ استحلَّها كفرَ، قالَ ابنُ تيميةَ
(11)
: إنَّ الحشيشةَ أولُ ما ظهرتْ في آخرِ المائةِ السادسةِ منَ الهجرةِ حينَ ظهرتْ دولةُ التتارِ، وهيَ منْ أعظمِ المنكراتِ
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 250 رقم 21)، والبيهقي (8/ 296) من وجهين ضعيفين.
(2)
أخرجه أبو داود رقم (3687)، والترمذي رقم (1866)، والدولابي في "الكنى"(2/ 27)، وابن الجارود رقم (861)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 216)، والدارقطني (4/ 250 رقم 22)، والبيهقي (8/ 296) من طرق عنها بألفاظ، وهو حديث صحيح.
(3)
أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد"(5/ 57)، والحاكم (3/ 413)، والدارقطني (4/ 254 رقم 44) وسكت عليه الحاكم والذهبي، وضعَّفه العقيلي.
(4)
فلينظر من أخرجه.
(5)
أخرجه أحمد (2/ 91)، وابن ماجه رقم (3392)، والبزار (3/ 350 رقم 2915 - كشف)، والبيهقي (8/ 296) من أوجه عنه، وهو حديث صحيح.
(6)
أخرجه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" - كما في "مجمع الزوائد"(5/ 57) بسند ضعيف.
(7)
في "السنن" رقم (3686) وقال المنذري (5/ 269): شهر بن حوشب وثقه الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وتكلم فيه غير واحد، والترمذي: يصحِّح حديثه. والخلاصة: أن الحديث ضعيف، واللهُ أعلم.
(8)
في "معالم السنن"(5/ 269) هامش المختصر.
(9)
زيادة من (أ).
(10)
"مجموع فتاوى ابن تيمية"(34/ 210، 214).
(11)
"مجموع فتاوى ابن تيمية"(34/ 205).
وهيَ شرٌّ منَ الخمرِ منْ بعضِ الوجوهِ، لأنَّها تورِثُ نشاة ولذةً وطَرَبًا كالخمرِ ويصعبُ الطعامُ عليها أعظمَ منَ الخمرِ، وقدْ أخطأَ (القائلُ):
حرَّمُوها منْ غيرِ عقلٍ ونقلٍ
…
وحرامٌ تحريمُ غيرِ الحرامِ
وأمَّا البنجُ فإنهُ حرامٌ.
قالَ ابنُ تيميةَ
(1)
: إنَّ الحدَّ في الحشيشةِ واجبٌ، قالَ ابنُ البَيطارِ: إنَّ الحشيشةَ وتُسَمَّى القنبُ توجدُ في مصرَ مسكرةٌ جِدًا إذا تناولَ الإنسانُ منْها قَدْرَ دِرْهَمٍ أوْ درهميْنِ، وقبائحُ خصالِها كثيرةٌ، وعدَّ منْها بعضُ العلماءِ مائةً وعشرينَ مضرةً دينيةً ودنيويةً، وقبائحُ خصالِها موجودةٌ في الأفيونِ وفيهِ زيادةُ مضارٍّ، قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ في الجوزةِ إنَّها مسكرةٌ، ونقلَه عنهُ متأخِّرُو علماءِ الفريقينِ
(2)
واعتمدُوهُ.
جواز شرب النبيذ إذا اشتد
10/ 1172 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لَهُ الزَّبيبُ في السِّقَاءِ، فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذَا كَانَ مَسَاءُ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَاقَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(3)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لهُ الزبيبُ في السِّقَاءِ فيشربُه يومَه والغدَ وبعدَ الغدِ، فإذَا كانَ مساءُ الثالثةِ شربَه وسقاهُ، فإنْ فضلَ) بفتحِ الضادِ وكسرِهَا (شيءٌ أهْراقَهُ. أخرجَه مسلمٌ)، هذهِ الروايةُ إحدَى رواياتِ مسلمٍ ولهُ ألفاظٌ [أُخَرُ]
(4)
قريبةٌ منْ هذهِ في المعنَى.
وفيهِ دليلٌ على جوازِ الانتباذِ ولا كلامَ في جوازِه، وقدْ احتجَّ مَنْ يقولُ بجوازِ شُرْبِ النبيذِ إذا اشتَدَّ بقولِه في روايةٍ أُخْرَى: "سقاهُ الخادمَ أوْ أمرَ
(1)
"مجموع فتاوى ابن تيمية"(34/ 206).
(2)
أي الشافعية والمالكية، لأن ابن دقيق العيد فقيه المذهبين.
(3)
مسلم (79، 81، 82/ 2004)، قلت: وأخرجه أحمد (1/ 232، 233، 240)، وأبو داود (3713)، والنسائي (8/ 333)، وابن ماجه (3399)، والبيهقي (8/ 300).
(4)
في (أ): "كثيرة".
بصبِّهِ"
(1)
، فإنَّ سَقْيَهُ الخادمَ دليلٌ على جوازِ شربهِ وإنَّما تركَهُ صلى الله عليه وسلم تَنَزُّهًا عنهُ، وأُجِيْبَ بأنهُ لا دليلَ علَى أنهُ بلغَ حدَّ الإسكارِ وإنَّما بدا فيهِ بعضُ تَغَيُّرٍ في طَعْمِهِ منْ حموضةٍ أوْ نحوِها فسقاهُ الخادمَ مبادرةً لخشيةِ الفسادِ، ويحتملُ أنْ تكونَ أوْ للتنويعِ كأنهُ قالَ سقاهُ الخادمَ أوْ أمرَ بهِ فَأُهْرِيْقَ، أي إنْ كانَ بدَا في طعمهِ بعضُ تغيرٍ ولم يشتدَّ سقاهُ الخادمَ وإنِ اشتدَّ أمرَ بإهراقِه، وبهذَا جزمَ النوويُّ
(2)
في [تفسير]
(3)
معنَى الحديثِ.
التداوي بالخمر حرام
11/ 1173 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ"، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(4)
. [حسن]
(وعنْ أمِّ سلمةَ رضي الله عنها عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: إنَّ اللهَ لم يجعلْ شِفَاءَكُم فيما حرَّمَ عليكمْ. أخرجَه البيهقيُّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ)، وأخرجَهُ أحمدُ
(5)
وذكرَهُ البخاريُّ
(6)
تعليقًا عنِ ابنِ مسعودٍ، ويأتي ما أخرجَهُ مسلمٌ
(7)
عنْ وائلِ بنِ حجرٍ.
والحديثُ دليلٌ علَى أنهُ يحرُمُ التداوي بالخمرِ؛ لأنهُ إذا لم يكنْ فيهِ شفاءٌ فتحريمُ شُرْبِها باقٍ لا يرفعُه تجويزُ أنهُ يُدْفَعُ بها الضررُ عنِ النفسِ. وإلى هذا ذهبَ الشافعيُّ
(8)
، وقالتِ الهادويةُ (9) إلا إذا غصَّ بلقمةٍ ولم يجدْ ما يسوِّغُها بهِ إلا الخمرَ جازَ. وادَّعى في "البحرِ"
(9)
الإجماعَ على هذَا وفيهِ خلافٌ.
(1)
مسلم (79، 80/ 2004).
(2)
"شرح النووي"(13/ 174).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 5)، وابن حبان في صحيحه (4/ 233 رقم 1391)، قلت: وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(23/ 326، 327 رقم 749)، وأحمد في "كتاب الأشربة"(63 رقم 159)، والحاكم (4/ 218) من طريق الأعمش عن شقيق. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 86) وقال: رواه أبو يعلى والبزار. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق، وللحديث شواهد فهو حديث حسن، واللهُ أعلم.
(5)
"كتاب الأشربة"(63/ 159).
(6)
البخاري (10/ 78 باب رقم 15).
(7)
يأتي تخريجه في الحديث رقم (12/ 1174) من كتابنا هذا.
(8)
انظر: "فتح الباري"(10/ 80).
(9)
"البحر الزخار"(4/ 351).
وقالَ أبو حنيفةَ
(1)
: يجوزُ التداوي بها كما يجوزُ شربُ البولِ والدمِ وسائرِ النجاساتِ للتداوي، قلْنا: القياسُ باطلٌ، فإنَّ المقيسَ عليهِ محرَّمٌ بالنصِّ المذكورِ لعمومِه لكلِّ محرَّمٍ. فائدةٌ: في "النجمِ الوهاج" قالَ الشيخُ: كلُّ ما يقولُ الأطباءُ منَ المنافعِ في الخمرِ وشُرْبِها كانَ عندَ شهادةِ القرآنِ
(2)
أنَّ فيها منافعَ للناسِ قبلُ، وأما بعدَ نزولِ آيةِ المائدةِ
(3)
فإنَّ اللهَ تعالَى الخالقَ [لكلِّ شيءٍ]
(4)
سلبَها المنافعَ جُمْلَةً، فليسَ فيها شيءٌ منَ المنافعِ، وبهذَا [تسقطُ]
(5)
مسألةُ التداوي بالخمرِ. والذي قالَه منقولٌ عنِ الربيعِ والضحاكِ، وفيهِ حديثٌ أسندهُ الثعلبيُّ وغيرُه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"إنَّ اللهَ تعالَى لما حرَّمَ الخمرَ سلَبها المنافعَ"
(6)
.
12/ 1174 - وَعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَميِّ أنَّ طَارقَ بْنَ سُوَيْدٍ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَن الْخَمْرِ يَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا
(7)
. [صحيح]
(وعنْ وائلٍ) هوَ ابنُ حُجرٍ بضمِّ الحاءِ وسكونِ الجيمِ (الحضرميِّ أنَّ طارقَ بنَ سويدٍ سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عنِ الخمرِ يصنعُها [للتداوي]
(8)
فقالَ: إنَّها ليستْ بدواءٍ ولكنَّها داءٌ. أخرجَهُ مسلمٌ وأبو داودَ وغيرُهما).
أفادَ الحكمُ الذي دلَّ عليهِ الحديثُ الأولُ وهوَ تحريمُ التداوي بالخمرِ وزيادةُ الأخبارِ بأنَّها داءٌ، وقدْ عُلِمَ منْ حالِ مَنْ يستعملُها أنهُ يتولَّدُ عنْ شُرْبها أدواءٌ كثيرةٌ، وكيفَ لا يكونُ ذلكَ بعدَ [الإخبار من]
(9)
الشارعِ أنَّها داءٌ، فقبَّحَ اللهُ وُصَّافَها مِنَ الشعراءِ الخلعاءِ ووصَّافَ شُرْبِهَا وتشويقَ الناسِ إلى شربِها والعكوفَ عليها، كأنَّهم يضادونَ اللهَ تعالَى ورسولَه فيما حرَّمهُ، ولا شكَّ أنَهم يقولونَ تلكَ الأشعارَ بلسانٍ شيطانيٍّ يدعونَ إلى ما حرَّمهُ اللهُ ورسولُه.
(1)
كذا قال، وفي المبسوط (24/ 21) قال: ويكره للرجل أن يداوي بها جرحًا في بدنه أو يداوي بها دابته. وقال في (24/ 25): أما الاستشفاء بعين الخمر فقد بيَّنا أنه لا يحل عندنا.
(2)
سورة البقرة: الآية 219.
(3)
سورة المائدة: الآية 91.
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في (أ): "سقط".
(6)
فلينظر من أخرجه.
(7)
مسلم (12/ 1984)، وأبو داود (3873)، قلت: وأخرجه الترمذي (2046) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (3500)، وأحمد (4/ 311، 317) و (5/ 292، 293).
(8)
في (ب): "للدواء".
(9)
في (ب): "إخبار".
[الباب الخامس] باب التعزير وحكم الصائل
التعزيرُ هو مصدرُ عزرَ منَ العَزْرِ، وهوَ الردُّ والمنعُ، وهوَ في الشرعِ: تأديبٌ على ذَنبٍ لا حدَّ فيهِ، وهوَ مخالِفٌ للحدودِ منْ ثلاثةِ أوجهٍ:
الأولُ: أنهُ يختلفُ باختلافِ الناسِ، فتعزيرُ ذوي الهيئاتِ أخفُّ ويستوونَ في الحدودِ معَ الناسِ.
والثاني: أنَّها تجوزُ فيهِ الشفاعةُ دونَ الحدودِ.
والثالثُ: أن التالفَ بهِ مضمونٌ خلافًا لأبي حنيفةَ [والهادوية]
(1)
ومالكٍ، وقدْ فرَّقَ قومٌ بينَ التعزيرِ والتأديبِ ولا يتمُّ لهم الفرقُ، ويسمَّى تعزيرًا [لدفعه]
(2)
وردِّهِ عنْ فعلِ القبائحِ، ويكونُ بالقولِ والفعلِ على حسبِ ما يقتضيهِ حالُ الفاعلِ، وقولُه:(وحكمُ الصائل)، الصائل اسمُ فاعلٍ منْ صالَ يصولُ على قَرْنِهِ، إذا سَطا عليهِ واستطالَ.
الفرق بين الحدود والتعزيرات
1/ 1175 - عَنْ أَبي بُرْدَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
. [صحيح]
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في (ب): "الدافعة".
(3)
أخرجه البخاري (6848)، ومسلم (40/ 1708)، وأبو داود (4491)، والترمذي (1463)، وابن ماجه (2601)، وأحمد (3/ 466) و (4/ 45)، والبيهقي (8/ 328) و (10/ 142)، والدارمي (2/ 176)، والدارقطني (3/ 207، 208 رقم 371).
(عنْ أبي بردةَ الأنصاريِّ رضي الله عنه أنهُ سمعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: لا يُجْلَدُ) رُوِيَ مبنيًا للمعلومِ ومبنيًا للمجهولِ ومجزومًا على النَّهي، ومرفوعًا على النفي، قوله:(عَشَرَةَ أسواطٍ إلَّا في حدٍّ منْ حدودِ اللهِ تعالَى. متفقٌ عليهِ)، وفي روايةٍ عشرَ جلداتٍ
(1)
، وفي روايةٍ:"لا عقوبةَ فوقَ عشرِ ضرباتٍ"
(2)
.
والمرادُ بحدودِ اللهِ ما عيَّنَ الشارعُ [فيها]
(3)
عدَدًا منَ الضربِ أوْ عقوبةً مخصوصةً كالقطعِ والرَّجْمِ، وهذانِ داخلانِ في عمومِ حدودِ اللهِ، خارجانِ عما فيهِ السياقُ، إذِ السياقُ في الضربِ.
اتفقَ العلماءُ على حدِّ الزِّنى والسرقةِ وشربِ الخمرِ وحدِّ المحاربِ وحدِّ القذْفِ بالزِّنى والقتلِ في الرِدَّةِ والقصاصِ في النفسِ، واختلفُوا في القصاصِ في الأطرافِ هلْ يُسَمَّى حدًا أمْ لا؟ كما اختلفُوا في عقوبةِ جَحْدِ العاريَّةِ واللواطِ وإتْيانِ البهيمةِ، وتحميلِ المرأةِ الفحلَ منَ البهائمِ عليها والسحاقِ، وأكلِ الدَّمِ والميْتَةِ ولحمِ الخنْزِيرِ لغيرِ ضرورةٍ، والسحرِ والقذفِ بشربِ الخمرِ وتركِ الصلاة تكاسُلًا والأكلِ في رمضانَ، والتعريض بالزنى، هلْ يُسَمَّى حدًا أوْ لا؟
فمنْ قالَ يُسَمَّى حدًا أجازَ الزيادةَ في التعزيرِ عليْها على العشرةِ الأسواطِ، ومَنْ قالَ لا يُسَمَّى لم يُجِزْهُ، إلا أنهُ قدِ اختُلِفَ في العملِ بحديثِ البابِ، فذهبَ إلى الأخذِ بهِ الليثُ وأحمدَ وإسحاقُ وجماعةٌ منَ الشافعيةِ
(4)
. وذهبَ مالكٌ والشافعيُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وآخرونَ
(5)
إلى جوازِ الزيادةِ في التعزيرِ على العشرةِ ولكنْ لا يبلغُ أدنَى الحدودِ. وذهبَ القاسمُ والهادي
(6)
إلى أنهُ يكونُ التعزيرُ في كلِّ حدٍّ دونَ حدِّ جِنْسِهِ لما يأتي منْ فعلِ عليٍّ عليه السلام.
(1)
البخاري (6848)، وأبو داود (4491)، والترمذي (1463)، وابن ماجه (2601)، وأحمد (3/ 466) و (4/ 45)، والبيهقي (10/ 142).
(2)
كذا في المطبوعة، والصحيح عشر أسواط كما في مسلم (40/ 1708)، والدارمي (2/ 176)، والدارقطني (3/ 207، 208 رقم 371).
(3)
في (ب): "فيه".
(4)
انظر: "المغني"(10/ 342 رقم 7374)، و"المحلَّى"(11/ 402).
(5)
انظر: "المغني"(10/ 342)، و"المحلَّى"(11/ 401 رقم 2305).
(6)
"البحر الزخار"(5/ 211).
قلتُ: ولا دليلَ لهمْ إلَّا أفعال بعضِ الصحابةِ كما رُوِيَ أنَّ عليًا
(1)
عليه السلام جلَدَ مَنْ وُجِدَ معَ امرأةٍ منْ غيرِ زِنَى مائةَ سوطٍ إلَّا سوطيْنِ، وأنَّ عمرَ
(2)
رضي الله عنه ضربَ منْ نقشَ علَى خاتَمِهِ مائةَ سوطٍ، وكذَا رُوِيَ عنِ ابنِ مسعودٍ
(3)
، ولا يَخْفَى أنَّ فعلَ بعضِ الصحابةِ ليسَ بدليلٍ ولا يُقَاوِمُ النصَّ الصحيحَ.
وما نُقِلَ عنْ عمرَ لا يتمُّ لهم دليلًا ولعلَّه لم يبلغِ الحديثُ مَنْ فعلَ ذلكَ منَ الصحابة، كما أنهُ قالَ صاحبُ التقريبِ معتذِرًا لو بلغَ الخبرُ الشافعيَّ لقالَ بهِ لأنهُ قالَ: إذا صحَّ الحديثُ فهوَ مذهبي. ومثلُه قالَ الداودي
(4)
معتذِرًا لمالكٍ: لمْ يبلغْ مالِكًا هذا الحديثُ فرأَى العقوبةَ بقدرِ الذَّنْبِ، ولو بلغَهُ ما عدلَ عنهُ فيجبُ علَى منْ بلَغَهُ أنْ يأخذَ بهِ.
إقالة ذوي الهيئات ومن هم
2/ 1176 - وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهمْ، إِلَّا الْحُدُودَ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَالْبَيْهَقيُّ
(5)
. [صحيح]
(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: أهيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عثراتِهِمْ إلَّا الحدودَ. رواهُ [أحمدُ]
(6)
وأبو داودَ والنسائيُّ [والبيهقيُّ])
(7)
، وللحديثِ طُرُقٌ كثيرةٌ لا تخلُو عنْ مقالٍ. والإقالةُ هيَ موافقةُ البائع على نقضِ البيعِ، وأقيلُوا هُنَا مأخوذٌ منها، والمرادُ هنا موافقةُ [ذوي الهيئات]
(8)
على تركِ المؤاخذةِ لهُ أوْ تخفيفِها، وفسَّرَ الشافعيُّ ذوي الهيئاتِ بالذينَ لا يُعْرَفُونَ بالشرِّ فيزلُّ أحدُهم الزلةَ، والعثراتُ جمعُ عثرةٍ والمرادُ [هنَا]
(9)
الزلَّةُ، وحكَى الماورديُّ
(10)
في ذلكَ وجْهَيْنِ:
(1)
"موسوعة فقه علي"(153، 155).
(2)
"موسوعة فقه عمر"(220).
(3)
"موسوعة فقه عبد الله بن مسعود"(143).
(4)
انظر: "فتح الباري"(12/ 179).
(5)
أخرجه أحمد (6/ 186)، وأبو داود رقم (4375)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(12/ 413)، والبيهقي (8/ 267، 334). وهو حديث صحيح.
(6)
زيادة من (ب).
(7)
زيادة من (ب).
(8)
في (ب): "ذي الهيئة".
(9)
زيادة من (ب).
(10)
في كتابه "الحاوي الكبير"(17/ 351).
أحدُهما: أنَّهم أصحابُ الصغائر دونَ [أهل]
(1)
الكبائرِ.
والثاني: مَنْ إذا أذنبَ تابَ.
وفي عثراتِهِم وجهانِ:
أحدُهما: الصغائرُ، والثاني: أولُ معصيةٍ يزلُّ فيها مطيعٌ.
واعلمْ أنَّ الخطابَ في أقيلُوا للأَئِمَةِ لأنَّهم الذينَ إليهم التعزيرُ لعمومِ ولايتهم فيجبُ عليهمُ الاجتهادُ في اختيارِ الأصلحِ لاختلافِ ذلكَ باختلافِ مراتبِ الناسِ وباختلافِ المعاصي، وليسَ لهُ أنْ يفوِّضَه إلى مستحقِّهِ ولا إلى غيرهِ، وليسَ التعزيرُ لغيرِ الإمامِ إلَّا لِثلاثةٍ، الأبُ فإنَّ لهُ تعزيرَ ولدِه الصغيرِ للتعليمِ والزجرِ عنْ سيِّءِ الأخلاقِ، والظاهرُ أنَّ [للأم في زمن كون الصبي في كفالتها]
(2)
لها ذلكَ، وللأمرِ بالصلاةِ والضربِ عليها، وليسَ للأبِ تعزيرُ البالغِ وإنْ كانَ سفيهًا.
والثاني: السيدُ يعزِّرُ رقيقَه في حقٍّ نفسهِ وفي حقِّ اللهِ تعالَى على الأصحَّ.
والثالثُ: الزوجُ لهُ تعزيرُ زوجتِه في أمرٍ النشوزِ كما [صرَّحَ]
(3)
بهِ القرآنُ [العظيم]
(4)
، وهلْ لهُ ضربُها على تركِ الصلاةِ ونحوِها؟ الظاهرُ أنَّ لهُ ذلكَ إنْ لم يكفِ فيها الزجرُ لأنهُ منْ بابِ إنكارِ المنكرِ، والزوجُ منْ جملةِ مَنْ يُكَلَّفُ بالإنكارِ باليدِ أو اللسانِ أو الجَنانِ، والمرادُ هنا الأولانِ.
ليس في الخمرِ حدٌّ محدود من رسول الله صلى الله عليه وسلم
-
3/ 1177 - وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا كُنْتُ لأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ فَأَجِدَ في نَفْسِي، إلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
(5)
. [صحيح] (وعنْ عليٍّ رضي الله عنه قالَ: ما كنتُ لأقيمَ على أحدٍ حدًا فيموتُ فأجدَ في نفسي إلَّا
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في (ب): "لأم في مسألة زمن الصبا في كفالته".
(3)
في (أ): "نطق".
(4)
زيادة من (أ).
(5)
في صحيحه رقم (6778). قلت: وأخرجه مسلم رقم (1707).
شاربَ الخمرِ فإنهُ لو ماتَ وَدَيْتُه) بتخفيفِ الدالِ المهملةِ وسكونِ المثناةِ التحتيةِ، أي غرِمتُ ديتَهُ [من بيت المال]
(1)
، (أخرجَهُ البخاريُّ).
فيهِ دليلٌ على أنَّ الخمرَ لم يكنْ فيهِ حدٌّ محدودٌ منْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فهوَ منْ بابِ التعزيراتِ، فإنْ ماتَ ضمنَه الإمامُ، وكذَا كلُّ معزَّرٍ يموتُ بالتعزيرِ يضمنُه الإمامُ، وإلى هذا ذهبَ الجمهورُ.
وذهب الهادويةُ
(2)
إلى أنهُ لا شيءَ فيمنْ ماتَ بحدٍّ أو تعزيرٍ قياسًا منْهم للتعزيرِ على الحدِّ بجامعِ أنَّ الشارعَ قدْ أذنَ فيهما، قالُوا: وقولُ عليٍّ عليه السلام هذا إنَّما هوَ للاحتياطِ، وتقدَّمَ الجوابُ بأنهُ إذا أعنتَ في التعزيرِ دلَّ على أنهُ غيرُ مأذونٍ فيهِ منْ أصلِهِ بخلافِ الإعناتِ في الحدِّ فإنهُ لا يُضْمَنُ لأنهُ مأذونٌ في أصلهِ، فإنْ أعنتَ فإنهُ للخطأِ في صفتِه وكأنَّهم يريدونَ أنهُ لم يكنْ مأذونًا في غيرِ ما أَذنَ بهِ بخصوصِهِ كالضربِ مثلًا، وإلَّا فهوَ مأذونٌ في مطلقِ التعزيرِ.
وتأويلُهم لقولِ عليٍّ عليه السلام ساقطٌ، فإنهُ صريحٌ في أنَّ ذلكَ واجبٌ لا مِنْ بابِ الاحتياطِ، ولأنَّ في تمامِ حديثِه:"لأنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يسنَّهُ"، وأما قولُه:"جلَدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أربعينَ - إلى قولِهِ - وكلٌّ سنَّةٌ"
(3)
تقدَّمَ، فلعلَّهُ يريدُ أنهُ جلدَ جلْدًا غيرَ مقدَّرٍ ولا تقرَّرتْ صفتُه بالجريدِ والنعالِ والأيدي، ولِذَا قالَ أنسٌ نحوَ أربعينَ.
قالَ النوويُّ في "شرحِ مسلمٍ"
(4)
ما معناهُ: وأما مَنْ ماتَ في حدٍّ منَ الحدودِ غيرِ الشربِ فقدْ أجمعَ العلماءُ على أنهُ إذَا جلدهُ الإمامُ أو جلَّادُه فماتَ فإنهُ لا دِيةَ ولا كفارةَ على الإمامِ ولا على جلَّادِهِ ولا [على]
(5)
بيتِ المالِ، وأما مَنْ ماتَ بالتعزيرِ فمذهبُنا وجوبُ الضمانِ للديةِ والكفارةِ، [ثم]
(6)
ذكرَ تفاصيلَ في ذلكَ مذهبيةً.
(1)
زيادة من (أ).
(2)
انظر: "البحر الزخار"(5/ 195).
(3)
تقدم تخريجه رقم (2/ 1164) من كتابنا هذا.
(4)
في "شرح مسلم"(11/ 221).
(5)
زيادة من (أ).
(6)
زيادة من (أ).
وجوب الدفاع عن العرض والمال
4/ 1178 - وَعَنْ سَعِيدٍ بْن زيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ انظر: صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهيدٌ"، رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
. [صحيح]
في قتال الصائل - (وعنْ سعيدٍ بنِ زيدٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قُتِلَ دونَ مالهِ فهوَ شهيدٌ. رواهُ الأربعةُ وصحَّحَه التِّرمذيُّ). في الحديثِ دليلٌ على جوازِ الدفاعِ عنِ المالِ وهوَ قولُ الجمهورِ وشذَّ مَنْ أوجَبَهُ، فإذا قُتِلَ فهوَ شهيدٌ كما صرَّحَ بهِ هذَا الحديثُ وحديثُ مسلمٍ عنْ أبي هريرةَ:"أنهُ جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ يا رسولَ اللهِ: أرأيتَ إنْ جاءَ رجلٌ يريدُ أَخْذَ مالي؟ قالَ: فلا تعطِهِ، قالَ: فإنْ قاتلَني؟ قالَ: فاقتلْهُ، قالَ: أرأيتَ إن قتلَني؟ قالَ: فأنتَ شهيدٌ، قالَ: أرأيتَ إنْ قتلْتُهُ؟ قالَ: فهوَ في النارِ"، قالُوا: فإنْ قتلَه فلا ضمان عليهِ لعدمِ التعدي منهُ، والحديثُ عامٌّ لقليلِ المالِ وكثيرِه.
وقدْ أخرجَ أبو داودَ وصحَّحَهُ الترمذيُّ عنهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دونَ دينِه فهوَ شهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دونَ دمِه فهوَ شهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دونَ مالِه فهوَ شهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دونَ أهلِه فهوَ شهيدٌ"، وفي الصحيحينِ ذكرَ المالَ فقطْ.
ووجْهُ الدلالةِ أنهُ لما جعلَهُ صلى الله عليه وسلم شهيدًا دلَّ على أنَّ لهُ القتلَ والقتالَ. قالَ في "النجمِ الوهَّاجِ": ومحلُّ ذلكَ إذا لم يجدْ ملجأ كحصنٍ ونحوِه أو استطاع الهربَ وجبَ عليهِ.
قلتُ: ولا أدري ما وجْهُ وجوبِ الهربِ عليهِ، قالُوا: ولا يجبُ الدفعُ عنِ المالِ بلْ يجوزُ لهُ أنْ يتظلَّمَ، إلَّا أنهُ قدْ تقدَّمَ أنَّ علماءَ الحديثِ كالمجمعينَ على استثناءِ السلطانِ للآثارِ الواردةِ بالأمرِ بالصبرِ على جَوْرِهِ فلا يجوزُ دفاعُه عنْ أخذِ المالِ ويجبُ الدفعُ عنِ البِضْعِ لأنهُ لا سبيلَ إلى إباحتِه.
قالُوا: وكذلكَ يجبُ [الدفع عن]
(2)
النفسِ إنْ قَصَدَها كافرٌ لا إذا قصدَها
(1)
أخرجه أبو داود رقم (4772)، والنسائي (7/ 116)، وابن ماجه رقم (2580)، والترمذي رقم (1421) وقال: هدا حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح، وقد تقدم.
(2)
في (ب): "على".
مسلمٌ فلا يجبُ [لما تقدَّمَ قريبًا في شرحِ الحديثِ الأولِ]
(1)
، وصحَّ [حديث]
(2)
أنَّ عثمانَ رضي الله عنه منعَ عبيدَهُ أنْ يدفعُوا عنهُ وكانُوا أربعَ مائةٍ وقالَ: مَنْ ألقَى سلاحَه فهوَ حرٌّ، قالُوا: وخالفَ المضطرَ فإنَّ في القتلِ شهادةً بخلافِ تركِ الأكلِ، وهلْ تركُ الدفاعِ عنْ قتلِ النفسِ مباحٌ أوْ مندوبٌ؟ فيهِ خلافٌ.
ما الذي ينبغي سلوكه في الفتنة
5/ 1179 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ أَبي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَكُونُ فِتَنٌ، فكُنْ فِيهَا عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ الْقَاتِلَ" أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَالدَّارَقُطْنيُّ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ
(3)
نَحْوَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ. [حسن لغيره]
[في قتالِ الصائلِ الذي ذكرَه في الترجمةِ]
(4)
(وعنْ عبدِ اللهِ بنِ خبابٍ) بفتحِ الخاءِ المعجمةِ فموحَّدةِ مشددةٍ فألفٍ فموحدةٍ، وهوَ خبابُ بنُ الأرتِّ صحابيُّ تقدَّمتْ ترجمتُه في الصلاة في الجزء الأول (سمعتُ أبي يقولُ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: تكونُ فِتَنٌ فكنْ فيها عبدَ اللهِ المقتولَ ولا تكنِ القاتلَ. أخرجَهُ ابنُ أبي خيثمةَ) بالخاءِ المعجمةِ مفتوحةً فمثناةٍ تحتيةٍ ساكنةٍ فمثلثةٍ (والدارقطنيُّ. وأخرجَ أحمدُ نحوَه عنْ خالدِ بنِ عُرفطةَ)
(5)
بضمِّ العينِ المهملةِ وسكونِ الراءِ وضمِّ الفاءِ وبالطاءِ
(1)
زيادة من (ب).
(2)
زيادة من (أ).
(3)
في "المسند"(5/ 292).
قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(15/ 36 - 37)، والحاكم (4/ 517) وقال: تفرد به علي بن زيد القرشي عن أبي عثمان النهدي ولم يحتجَّا بعلي وسكت عليه الذهبي. وأورده الهيثمي في "المجمع"(7/ 302) وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني وفيه علي بن زيد، وفيه ضعف، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات" اهـ. انظر: "التلخيص الحبير"(4/ 84) وللحديث شواهد فهو بها حسن إن شاء الله.
(4)
زيادة من (ب).
(5)
انظر: ترجمته في "الثقات"(3/ 104)، و"تجريد أسماء الصحابة"(1/ 152)، و"تقريب التهذيب"(1/ 216)، و"التاريخ الكبير" (3/ 138):، و"أسد الغابة" رقم (1378)، و"الاستيعاب" رقم (636)، و"الجرح والتعديل"(3/ 337)، و"الإصابة" رقم (2187).
المهملةِ، وخالدٌ صحابيٌّ عِدَادُه في أهلِ الكوفةِ، رَوَى عنهُ أبو عثمانَ النهديُّ وعبدُ اللهِ بنُ يسارٍ ومسلمٌ مولاهُ، ولَّاهُ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ القتالَ يومَ القادسيةِ وماتَ بالكوفةِ سنةَ ستينَ.
والحديثُ قدْ أُخرجَ منْ طُرُقٍ كثيرةٍ وفيها كلُّها راوٍ لم يُسَمَّ، وهوَ رجلٌ منْ عبدِ القيسِ كانَ معَ الخوارجِ ثمَّ فارقَهم.
وسببُ الحديثِ أنهُ قالَ ذلكَ الرجلُ إنَّ الخوارجَ دخلُوا قريةً فخرجَ عبدُ اللهِ بنُ خبابٍ صاحبُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذُعْرًا يجرُّ رداءَه فقالَ: واللهِ رعبتُموني، قال ذلك مرتيْنِ، قالُوا: أنتَ عبدُ اللهِ بنُ خبابٍ صاحب رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نعمْ، قالُوا: هلْ سمعتَ منْ أبيكَ شيئًا تُحدِّثُنا بهِ، قالَ: سمعتُه يحدِّثُ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أنهُ ذكرَ فتنةً القاعدُ فيها خيرٌ منَ القائمِ، والقائمُ فيها خيرٌ منَ الماشي، والماشي فيها خيرٌ منَ الساعي، فإنْ أدركَكَ ذلكَ فكنْ عبدَ اللهِ المقتولَ"
(1)
، قالُوا: أنتَ سمعتَ هذَا منْ أبيكَ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نعمْ، فقدَّموهُ علَى ضفةِ النهرِ فضربُوا عنقَه وبَقَرُوا أمَّ ولدِه عما في بَطْنِها.
والحديثُ قدْ أخرجَهُ أحمدُ والطبرانيُّ وابنُ قانعٍ منْ غيرِ طريقِ المجهولِ إلَّا أنَّ فيهِ عليَّ بنَ زيدِ بنِ جدعانَ
(2)
وفيهِ مقالٌ، ولفظُه عنْ خالدِ بنِ عُرفُطَةَ: "ستكونُ فِتْنَةٌ بعدي وأحداثٌ [واختلافٌ]
(3)
، فإنِ استطعتَ أنْ تكونَ عبدَ اللهِ المقتولَ لا القاتلَ فافعلْ"
(4)
. وأخرجَ أحمدُ
(5)
والترمذيُّ
(6)
منْ حديثٍ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ رضي الله عنه قالَ: "فإنْ دخلَ علي بيتي وبسطَ يدَه ليقتلَني"؟ قالَ: "كنْ كابنِ آدمَ".
(1)
أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني - كما في "مجمع الزوائد"(7/ 302 - 303) وقال: "ولم أعرف الرجل الذي من عبد القيس، وبقية رجاله رجال الصحيح" اهـ.
(2)
وهو ضعيف، انظر:"التقريب"(2/ 37).
(3)
زيادة من (ب).
(4)
تقدم تخريجه رقم (5/ 1179) من كتابنا هذا.
(5)
في "المسند" رقم (1609 - شاكرًا) وصحَّحه. وأخرجه مختصرًا من طريق عبد الرحمن بن حسين عن سعد به برقم (1446 - شاكر)، وأخرجه أبو داود في "السنن" رقم (4257) من الطريق المختصرة إلا أنه قال: حسين بن عبد الرحمن الأشجعي.
(6)
في "السنن" رقم (2195) وقال: هذا حديث حسن.
وأخرجَ أحمدُ
(1)
[عن]
(2)
ابنِ عمرَ بلفظِ: "ما يمنعُ أحدَكم إذا جاءَ أحدٌ يريدُ قَتْلَهُ أنْ يكونَ مِثلَ ابني آدمَ القاتلُ في النارِ والمقتولُ في الجنةِ".
وأخرجَ أحمدُ
(3)
وأبو داودَ
(4)
وابنُ حبانَ
(5)
منْ حديثٍ أبي موسَى أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ في الفتنةِ: "كَسِّرُوا فيها قِسِيَّكم وأوتارَكمِ واضْرِبُوا سيوفَكم بالحجارةِ، فإنْ دُخِلَ على أحدِكم بيتَه فليكنْ كخيرِ ابنَيْ آدمَ"، وصحَّحَهُ القشيريُّ في الاقتراحِ على شرطِ الشيخينِ.
والحديثُ [وما في معناه من الأحاديث التي سقناها دالة]
(6)
علَى تركِ القتالِ عندَ ظهورِ الفتنِ والتحذيرِ منَ الدخولِ فيها، قالَ القرطبيُّ: اختلفَ السلفُ في ذلكَ، فذهبَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ ومحمدُ بنُ مسلمةَ وغيرُهم إلى أنهُ يجبُ الكفُّ عنِ المقاتلةِ، فمنْهم مَنْ قالَ: إنهُ يجبُ عليهِ أنْ يلزمَ بيتَه، وقالتْ طائفةٌ: يجبُ عليهِ التحولُ منْ بلدِ الفتنةِ أصلًا، ومنْهم مَنْ قالَ: يتركُ المقاتلةَ وهوَ قولُ الجمهورِ وشذَّ مَنْ أوجَبَهُ حتَّى لو أرادَ أحدُهم قتلَه لم [يدفعْهُ]
(7)
عنْ نفسهِ، ومنْهم مَنْ قالَ: يدافعُ عنْ نفسهِ وعنْ أهلِه وعنْ مالِهِ وهوَ معذورٌ [سواء]
(8)
قَتَلَ أو قُتِلَ
(9)
[وهو الحق]
(10)
.
وذهبَ جمهورُ الصحابةِ والتابعينَ إلى وجوبِ نصرِ الحقِّ وقتالِ الباغينَ وحملُوا هذهِ الأحاديثَ علَى مَنْ ضَعُفَ عنِ القتالِ أو قصرَ نظرُه عنْ معرفةِ الحقِّ، وقالَ بعضُهم بالتفصيلِ، وهوَ أنهُ إذا كانَ القتالُ بينَ طائفتينِ لا إمامَ لهمْ فالقتالُ حينئذٍ ممنوعٌ، وتنزَّلُ الأحاديثُ على هذَا وهو قولُ الأوزاعيِّ.
(1)
في "المسند"(2/ 100).
(2)
في (ب): "من حديث".
(3)
في "المسند"(4/ 416 و (4/ 408).
(4)
في "السنن" رقم (4259) و (4262).
(5)
رقم (5962 - الإحسان).
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2204)، وابن ماجه رقم (3961)، وابن أبي شيبة في "المصنف (15/ 12)، والحاكم (4/ 440) وصححه. وهو حديث صحيح.
(6)
زيادة من (أ).
(7)
في (أ): "يدفع".
(8)
في (ب): "إن".
(9)
وهو الأقوى قال الله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41].
(10)
زيادة من (أ).
وقالَ الطبريُّ: إنكارُ المنكرِ واجبٌ على مَنْ يقدرُ عليهِ، فمنْ أعانَ المحقَّ أصابَ، ومَنْ أعانَ المبطلَ أخطأَ، وإنْ أشكلَ الأمرُ فهيَ الحالةُ التي وردَ النَّهيُ عنِ القتالِ فيها، وقيلَ: إنَّ النهيَ إنَّما هوَ في آخرِ الزمانِ حيثُ تكونُ المقاتلةُ [لغيرِ الدين]
(1)
.
وفيهِ دليلٌ علَى أنهُ لا يجبُ الدفاعُ عنِ النفسِ، وقولُه: إنِ استطعتَ، يدلُّ على أنَّها لا تحرمُ المدافعةُ وأنَّ النَّهْيَ للتنزيهِ لا للتحريمِ.
* * *
(1)
في (ب): "لطلب الملك".
[الكتاب الثالث عشر] كتابُ الجهَادِ
الجهادُ مصدرُ جاهدتُ جهادًا، أي بلغتُ المشقةَ، هذا معناهُ لغةً، و [شرعًا]
(1)
: بذلُ الجهدِ في قتالِ الكفارِ أو البغاةِ.
وجوب العزم على الجهاد
1/ 1180 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفسَهُ بهِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ مِنْ نِفَاقِ"، رَوَاهُ مُسْلمٌ
(2)
. [صحيح]
(عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ ماتَ ولم يغزُ ولم يحدِّثْ نفسَهُ بهِ) - أي بالغزو (ماتَ على شعبةٍ منْ نفاقٍ. رواهُ مسلمٌ).
فيهِ دليلٌ على وجوبِ العزمِ على الجهادِ، وألحقُوا بهِ فعلَ كلِّ واجبٍ، قالُوا: فإنْ كانَ منَ الواجباتِ المطلقةِ كالجهادِ وجبَ العزمُ على فِعْلِهِ عندَ إمكانِه، وإنْ كانَ منَ الواجباتَ المؤقتةِ وجبَ العزمُ على فعلهِ عندَ دخولِ وقتهِ، وإلى هذَا ذهبَ جماعةٌ منْ أئمةِ الأصولِ
(3)
. وفي المسألةِ خلافٌ معروفٌ، ولا يخْفَى أنَّ
(1)
في (ب): "وفي الشرع".
(2)
في صحيحه (3/ 1517 رقم 1910).
قلت: وأخرجه أبو داود (3/ 22 رقم 2502). والنسائي (6/ 8 رقم 3097)، وأحمد في "مسنده"(3/ 374)، والحاكم في مستدركه (2/ 79)، وذكره البغوي "شرح السنة"(10/ 375).
(3)
انظر: مذكرة في أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص 14). "أصول الفقه الإسلامي" للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 49).
المرادَ منَ الحديثِ هُنَا أنَّ مَنْ لم يغزُ بالفعلِ ولمْ يحدِّثْ نفسَه بالغزوِ ماتَ على خصلةٍ منْ خصالِ النفاقِ.
فقولُه: ولمْ يحدِّثْ نفسَه لا يدلُّ على العزمِ الذي معناهُ عقدُ النيةِ على الفعلِ بلْ معناهُ هُنَا لم يخطرْ ببالِه حينًا من الأحيان أنْ يغزوَ ولا حدَّثَ بهِ نفسَه ولو ساعةً منْ عُمُرِهِ، فلو حدَّثَها بهِ وأخطرَ الخروجَ للغزوِ ببالهِ حينًا منَ الأحيانِ خرجَ عن الاتصافِ بخصلةٍ منْ خصالِ النفاقِ، وهوَ نظيرُ قولِه صلى الله عليه وسلم:"ثمَّ صلَّى ركعتينِ لا يحدِّثُ فيهمَا نفسَه"
(1)
، أي لم يخطرْ ببالِه شيءٌ منَ الأمورِ، وحديثُ النفسِ غيرُ العزمِ وعقدِ النيةِ.
ودلَّ على أنَّ مَنْ حدَّثَ نفسَه بفعلِ طاعةٍ ثمَّ ماتَ قبلَ فِعْلِها أنهُ لا يتوجَّهُ عليهِ عقوبةُ مَنْ لمْ يحدِّثْ نَفسَه بها أصلًا.
وجوب الجهاد بالنفس
2/ 1181 - وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَاهِدُوا الْمُشْرِكينَ بأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ
(2)
. [صحيح]
(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: جاهِدُوا المشركينَ بأموالِكُم وأنفسِكم وألسنتِكم. رواهُ أحمدُ والنسائيُّ وصحَّحَهُ الحاكمُ).
(1)
وهو جزء من حديث أخرجه البخاري (1/ 259 رقم 159)(وأطرافه - 160، 164، 1934، 6433)، ومسلم (1/ 204 - 205 رقم 226).
(2)
رواه أحمد في مسنده (3/ 251) بسند صحيح.
- وفي رواية لأحمد في مسنده (3/ 153) بسند صحيح "عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بألسنتكم وأنفسكم وأموالكم وأيديكم"). - ورواه النسائي (6/ 7) (عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم"). - وقال الحاكم في "المستدرك" (2/ 81) "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
قلت: والإسناد فيه حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، ومسلم إنما احتج به عند ثابت، عن أنس، فيما نقله الذهبي عن الحاكم في الميزان (3/ 595). وخلاصة القول: أنه حديث صحيح.
الحديثُ دليلٌ على وجوبِ الجهادِ بالنفسِ وهوَ بالخروجِ والمباشرة للكفارِ، وبالمالِ وهوَ بَذْلُه لما يقومُ بهِ منَ النفقةِ في الجهادِ والسلاح ونحوهِ، وهذا هو [المراد]
(1)
منْ عِدَّةِ آياتٍ في القرآنِ: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}
(2)
.
والجهادُ باللسانِ بإقامةِ الحجةِ عليهمْ ودعائِهم إلى اللهِ تعالَى، وبالأصواتِ عندَ اللقاءِ والزجرِ ونحوِه منْ كلِّ ما فيه نكايةٌ للعدوِّ كما قال تعالى:{وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}
(3)
، وقالَ صلى الله عليه وسلم لحسانَ:"إنَّ هجْوَ الكفارِ أشدُّ عليهمْ منْ وقعِ النبلِ".
3/ 1182 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ:"نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، هُوَ الْحَجُّ والْعُمْرَةُ"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
(4)
، وَأَصْلُهُ في الْبُخَارِيِّ
(5)
. [صحيح]
(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالَتْ: قلتُ يا رسولَ اللهِ علَى النساءِ جهادٌ؟) هوَ خَبَرٌ في معنَى الاستفهامِ، وفي روايةٍ: أَعَلَى النساءِ؟ (قالَ: نعمْ جهادٌ لا قتالَ فيهِ الحجُّ والعمرةُ. رواهُ ابنُ ماجهْ وأصلُه في البخاريِّ) بلفظِ: "قالتْ عائشةُ: استأذنتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الجهادِ فقالَ: جهادكنَّ الحجُّ"، وفي لفظٍ لهُ آخرَ:"سأله نساؤه فقالَ: نعمْ الجهادُ الحجُّ"، وأخرجَ النسائيُّ عنْ أبي هريرةَ: جهادُ الكبيرِ - أي العاجزِ - والمرأةِ والضعيفِ الحجُّ
(6)
.
دلَّ ما ذكرَ [من الروايات]
(7)
علَى أنهُ لا يجبُ الجهادُ على المرأةِ، وعلَى أنّ الثوابَ الذي يقومُ مقامَ ثوابِ جهادِ الرجالِ حجُّ المرأةِ وعمرتُها، ذلكَ لأنَّ النساءَ مأموراتٌ بالسترِ والسكونِ، والجهادُ ينافي ذلكَ، إذْ فيهِ مخالطةُ الأقرانِ والمبارزةُ ورفعُ الأصواتِ، وأما جوازُ الجهادِ لهنَّ فلا دليلَ في الحديثِ على عدمِ
(1)
في (ب): "المفاد".
(2)
سورة التوبة: الآية 41.
(3)
سورة التوبة: الآية 120.
(4)
في "السنن"(2901) وفي صدر الحديث. زيادة: "عليهن".
(5)
في صحيحه (2875). وانظر: "الإرواء": (981).
(6)
في "السنن"(5/ 113 - 114 رقم 2626).
(7)
زيادة من (أ).
الجوازِ، وقدْ أردفَ البخاريُّ هذَا البابَ ببابِ خروجِ النساءِ للغزوِ وقتالهِنَّ وغيرِ ذلكَ
(1)
.
وأخرجَ مسلمٌ منْ حديثِ أنسٍ: "أنَّ أمَّ سليمٍ اتخذتْ خِنْجَرًا يومَ حُنَيْنٍ وقالتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: اتخذتُه إنْ دنا منِّي أحدٌ منَ المشركينَ بقرتُ بَطْنَهُ"
(2)
، فهوَ يدلُّ على جوازِ القتالِ وإنْ كانَ فيهِ ما يدلُّ على أنَّها لا تقاتلُ إلَّا مُدَافَعَةً، وليسَ فيها أنَّها تقصدُ العدوَّ إلى صفِّهِ وطلبِ مبارزتِه، وفي البخاريِّ ما يدلُّ على أنَّ جهادَهُنَّ إذا حَضَرْنَ مواقفَ الجهادِ سقيُ الماءِ، ومداواةُ الجرحى ومناولةُ السِّهامِ
(3)
.
بر الوالدين أفضل من الجهَاد
4/ 1183 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنها قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُ في الْجِهَادِ. فَقَالَ: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
. [صحيح]
(وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عمر رضي الله عنهما قالَ: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذنُ في الجهادِ فقالَ: أحيٌّ والدَاكَ؟ قالَ: نعمْ، قالَ: ففيهمَا فجاهدْ. متفقٌ عليهِ). سمَّى إتعابَ النفسِ في القيامِ بمصالحِ الأبويْنِ [وإرغام النفس]
(5)
في طلبِ ما يرضيْهمَا وبذلَ المال في قضاءِ حوائِجهماجهادًا منْ بابِ المشاكَلَةِ لما أستأذَنَهُ في الجهادِ منْ بابِ قولِه تعالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}
(6)
، ويحتملُ أنْ يكونَ مجازًا بعلاقةِ الضديةِ لأنَّ الجهادَ فيهِ إنزالُ الضررِ بالأعداءِ فاسْتُعْمِلَ في إنزالِ النفعِ بالوالديْنِ.
(1)
في صحيحه (6/ 78 رقم الباب رقم 65).
(2)
في صحيحه (12/ 187 - 188). شرح النووي و (3/ 1442 - 1443 رقم 1809).
(3)
في صحيحه (6/ 79 - 80 رقم 2881 - 2882 - 2883).
(4)
البخاري رقم (3004، ومسلم رقم (2549).
قلت: وأخرجه أحمد (2/ 188) و (2/ 193، 197، 221)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 25)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2638)، والنسائي (6/ 10) والترمذي (1671)، والحميدي رقم (585) من طرق.
(5)
في (ب): "إرغامها".
(6)
سورة الشورى: الآية 40.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ يسقطُ فرضُ الجهادِ معَ وجودِ الأبويْنِ أو أحدِهما لما أخرجَهُ أحمدُ
(1)
والنسائيُّ
(2)
منْ طريقِ معاويةَ بنِ جاهمةَ أنَّ أباهُ جاهمةَ جاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ اللهِ أردتُ الغزوَ وجئتُ لأستشيركَ، فقالَ:"هلْ لكَ منْ أمِّ؟ " قالَ: نعمْ، قالَ:"الزمْها". وظاهرُه سواءٌ كانَ الجهادُ فرضَ عينٍ أوْ فرضَ كفايةٍ، وسواءٌ تضررَ الأبوانِ بخروجِه أَوْ لا.
وذهبَ الجماهيرُ منَ العلماءِ إلى أنهُ يحرمُ الجهادُ على الولدِ إذا منعهُ الأبوانِ أو أحدُهما بشرطِ أنْ يكونا مسلميْنِ، لأنَّ برَّهُما فرضُ عينٍ والجهادُ فرضُ كفايةٍ، فإذا تعيَّنَ الجهادُ فلا يشترط إذنهما، (فإن قيلَ): برُّ الوالدينِ فرضُ عينٍ والجهادُ عندَ تعيينِه فرضُ عينٍ فَهُمَا مستويانِ فما وجْهُ تقديمِ الجهادِ؟
قلتُ: لأنَّ مصلحتَهُ أعمُّ، إذْ هيَ لحفظِ الدينِ والدفاعِ عنِ المسلمينَ فمصلحتُه عامةٌ مقدَّمةٌ على غيرِها، وهوَ يقدَّمُ على مصلحةِ حفظِ البدنِ. وفيهِ دلالةٌ على عِظَمِ برِّ الوالدينِ فإنهُ أفضلُ منَ الجهادِ، وأنَّ المستشارَ يشيرُ بالنصيحةِ المحضةِ، وأنهُ ينبغي لهُ أنْ يستفصلَ من يستشير ليدله على ما هوَ الأفضلُ.
5/ 1184 - وَلأَحْمَدَ
(3)
وَأَبي دَاوُدَ
(4)
مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ نحوُهُ، وَزَادَ:"ارْجِع فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا". [حسن]
(ولأحمدَ وأبي داودَ منْ حديثٍ أبي سعيدٍ نحوُهُ) في الدلالةِ على أنهُ لا يجبُ عليهِ الجهادُ ووالداهُ في الحياةِ إلَّا بإذنِهمَا كما دلَّ لهُ قولُه: (وزادَ) أي أبو سعيدٍ
(1)
في "المسند"(3/ 429).
(2)
في "السنن"(6/ 11 رقم 3104) بسند حسن.
قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 26)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 138) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات.
(3)
في "المسند"(3/ 75، 76)، وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 137 - 138) وقال: إسناد حسن. قلت: فيه درَّاج أبي السمح ضعيف.
(4)
في "السنن" رقم (2530).
قلت: وأخرجه الحاكم (2/ 103، 104)، والبيهقي (9/ 26) وصحَّحه الحاكم. ولكن الذهبي تعقبه فقال: درَّاج واه. ولكن للحديث شواهد منها حديث عبد اللهِ بن عمرو المتقدم وغيره، فهو بها حسن.
في روايةٍ: (ارجعْ فاستأْذنْهما فإنْ أَذِنا لكَ) بالخروجِ للجهادِ (وإلا فبرَّهُما) بعدمِ الخروجِ للجهادِ وطاعتِهما.
وجوب الهجره من ديار المشركين
6/ 1185 - وَعَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كلِّ مُسْلِم يُقِيمُ بَينَ الْمُشْرِكينَ". رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَجّحَ الْبُخَارِيُّ إِرْسَالَهُ
(1)
. [صحيح بشواهده]
(وعنْ جريرِ البجلي رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: أنا بريءٌ منْ كلِّ مسلمٍ يقيمُ بينَ المشركينَ: رواهُ الثلاثةُ وإسنادُه صحيحٌ ورجَّحَ البخاريُّ إرسالَهُ)، وكذلك رجّحَ أبو حاتمٍ وأبو داودَ والترمذيُّ والدارقطنيُّ إرسالَهُ إلى قيسِ بنِ حازمٍ. ورواهُ الطبرانيُّ موصُولًا
(2)
.
والحديثُ دليلٌ على وجوبِ الهجرةِ منْ ديارِ المشركينَ منْ غيرِ مكةَ وهوَ مذهبُ الجمهورِ لحديثِ جريرٍ، ولما أخرجَهُ النسائيُّ
(3)
منْ طريقِ بهزِ بنِ حكيمٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ مرفُوعًا [بلفظ]
(4)
: "لا يقبلُ اللهُ منْ مشركٍ عملًا بعدَ ما أسلمَ
(1)
أخرجه أبو داود رقم (2645)، والترمذي رقم (1604)، والنسائي (5/ 36) مرسلًا. وقال الترمذي: "وأكثرُ أصحاب إسماعيل عن قيس بن أبي حازمٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعث سريةً ولم يذكروا فيه عن جَرير، ورواه حمَّادُ بن سلمة، عن الحجاج بن أرطأةَ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيسٍ، عن جرير مثل حديثٍ أبي معاوية قال: وسمعتُ محمدًا - أي البخاري - يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل
…
" اهـ. لكن يشهد له ما أخرجه النسائي (5/ 82 - 83)، وأحمد (5/ 4 - 5)، وابن ماجه رقم (2536) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملًا أو يفارق المشركين إلى المسلمين". وسنده حسن. وأخرج أحمد (4/ 160) من حديث جرير بن عبد اللهِ أنهُ حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه ألا يشرك باللهِ شيئًا، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، وينصح المسلم، ويفارق المشرك" وسنده صحيح. والخلاصة: أن الحديث صحيح بشواهده، واللهُ أعلم.
(2)
عزاه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 253)، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(3)
في "السنن"(5/ 82 - 83) وسنده حسن كما تقدم قبل تعليقة.
(4)
زيادة من (أ).
أوْ يفارقُ المشركينَ"، ولعمومِ قولِه تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}
(1)
الآيةَ، وذهبَ الأقلُّ إلى أنَّها لا تجبُ الهجرةُ وأنَّ الأحاديثَ والآيةَ منسوخةٌ للحديثِ الآتي وهوَ قولُه:
7/ 1186 - وَعَنْ ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا هجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ. متفقٌ عليهِ). قالُوا: فإنهُ عامٌّ ناسخٌ لوجودِ الهجرةِ الدالِّ عليهِ ما سبقَ، وبأنهُ صلى الله عليه وسلم لم يأمرْ مَنْ أسلمَ منَ العربِ بالمهاجرةِ إليهِ ولمْ ينكرْ عليهمْ مقامَهم ببلدِهمْ، ولأنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا بعثَ سريةً قالَ لأميرِهمْ:"إذا لقيتَ عدوَّكَ منَ المشركينَ فادْعُهم إلى ثلاثِ خلالٍ فأيتُهُنَّ أجابوكَ فاقبلْ منْهم وكُفَّ عنْهم، ثمَّ ادْعُهُمْ إلى التحولِ عنْ دارِهِم إلى دارِ المهاجرينَ، وأعلمْهُم أنَّهم إنْ فعلُوا ذلكَ أنَّ لهمْ ما للمهاجرينَ وعليهمْ ما على المهاجرينَ، فإنْ أَبَوْا واختارُوا دارَهم فأعلمْهُم أنَّهم يكونونَ كأعرابِ المسلمينَ يجري عليهمْ حكمُ اللهِ تعالَى الذي يجري على المؤمنينَ"، الحديثُ [سيأتي]
(3)
بطولِه
(4)
فلم يوجبْ عليهمْ الهجرةَ.
والأحاديثُ غيرَ حديثِ ابنِ عباسٍ محمولةٌ على مَنْ لم يأمنْ على دينِه، قالُوا: وفي هذا جَمْعٌ بينَ الأحاديثِ.
وأجابَ مَنْ أوجبَ الهجرةَ بأنَّ حديثَ لا هجرةَ مراد بهِ نفيُها عنْ مكةَ كما يدلُّ لهُ قولُه بعدَ الفتحِ، فإنَّ الهجرةَ كانتْ واجبةً منْ مكةَ قبلَه، وقالَ ابنُ العربيِّ
(5)
: الهجرةُ هي الخروجُ منْ دارِ الحربِ إلى دارِ الإسلامِ وكانتْ فرضًا في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم واستمرتْ بعدَه لمنْ خافَ على نفسِه، والتي انقطعتْ بالأصالةِ هيَ القصدُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيثُ كانَ.
(1)
سورة النساء: الآية 97.
(2)
البخاري رقم (2825)، ومسلم رقم (1353). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2480)، والترمذي رقم (1590).
(3)
في (أ): "يأتي".
(4)
برقم (11/ 1190) من كتابنا هذا.
(5)
ذكره عنه ابن حجر في "فتح الباري (6/ 39).
وقولُه: "ولكنْ جهادٌ ونيةٌ"، قالَ الطيبيُّ
(1)
وغيرُه: "هذا الاستدراكُ يقتضي مخالفةَ حكمِ ما بعدَه لما قبلَه، والمعنَى أنَّ الهجرةَ التي هيَ مفارقةُ الوطنِ التي كانتْ مطلوبةً على الأعيانِ إلى المدينةِ قدِ انقطعتْ، إلَّا أنَّ المفارقةَ بسببِ الجهادِ باقيةٌ، وكذلكَ المفارقةُ بسببِ نيةٍ صالحةٍ كالفرارِ منْ دارِ الكفرِ والخروجِ في طلبِ العلمِ والفرارِ منَ الفتنِ، والنيةُ في جميعِ ذلكَ مُعْتَبَرةٌ.
وقالَ النوويُّ
(2)
: المعنَى أنَّ الخيرَ الذي انقطعَ بانقطاع الهجرةِ يمكنُ تحصيلُه بالجهادِ والنيةِ الصالحةِ. وجهادٌ معطوفٌ بالرفعِ على محلِّ اسمِ لا.
الإخلاص في الجهاد واجب
8/ 1187 - وَعَنْ أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ أبي مَوسَى الأشعريِّ قالَ: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قاتلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العليا فهوَ في سبيلِ اللهِ، متفقٌ عليهِ). وفي الحديثِ هُنَا اختصارٌ، ولفظُه:"عنْ أبي موسَى أنهُ قالَ أعرابيٌّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: الرجلُ يقاتلُ للمغنَم، والرجلُ يقاتلُ ليُذكر، والرجلُ يقاتلُ لِيُرَى مكانَه، فمنْ في سبيلِ اللهِ؟ قَالَ مَنْ قاتلَ" الحديثَ. والحديثُ دليلٌ علَى أنَّ القتالَ في سبيلِ اللهِ يكتبُ أجرُه لمنْ قاتلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العليا، ومفهومُه أنَّ مَنْ خَلَا عنْ هذهِ الخصلةِ فليسَ في سبيلِ اللهِ وهوَ مِنْ مفهومِ الشرطِ، [ويبقى]
(4)
الكلامُ فيما إذا انضمَّ إليها قصدُ غيرِها وهوَ المغنَمُ مَثَلًا، هلْ هوَ في سبيلِ اللهِ أَوْ لَا؟.
قالَ الطبريُّ: إنهُ إذا كانَ أصلُ المقصدِ إعلاء كلمةِ اللهِ لم يضرَّ ما حصلَ
(1)
ذكره عنه ابن حجر في "فتح الباري (6/ 39).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 123).
(3)
البخاري رقم (2810)، ومسلم رقم (1904). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2517)، والترمذي رقم (1646)، والنسائي (6/ 23)، وابن ماجه رقم (2783).
(4)
في (أ): "وبقي".
منْ غيرِه ضِمْنًا، وبذلكَ قالَ الجمهورُ. والحديثُ يحتملُ أنهُ لا يخرجُ عنْ كونهِ في سبيلِ اللهِ معَ قصدِ التشريكِ؛ لأنهُ قاتلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العُلْيا ويتأيدُ بقولِه تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
(1)
، فإنَّ ذلكَ لا ينافي فضيلةَ الحجِّ، فكذلكَ في غيرِه، فَعَلَى هذَا العمدةُ [الباعثُ]
(2)
على الفعلِ، فإنْ كانَ هوَ إعلاءَ كلمةِ اللهِ لم يضرَّهُ ما انضافَ إليهِ ضمنًا، وبقيَ الكلامُ فيما [لو]
(3)
اسْتَوى القصْدانِ فظاهرُ الحديثِ والآيةِ أنهُ لا يضرُّ، إلَّا أنهُ أخرجَ أبو داودَ
(4)
والنسائيُّ
(5)
منْ حديثِ أبي أمامةَ رضي الله عنه بإسنادٍ جيدٍ قالَ: "جاءَ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ رجلًا غَزَا يلتمسُ الأجْرَ والذِّكْرَ، ما لَهُ؟ قالَ: لا شيءَ لهُ فأعادَها ثلاثًا، كلُّ ذلكَ يقولُ: لا شيءَ لهُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللهَ (تعالى) لا يقبلُ منَ العملِ إلَّا ما كانَ خالِصًا وابتُغي بهِ وجْهَهُ".
قلتُ: فيكونُ هذا دليلًا علَى أنهُ إذا اسْتَوى الباعثانِ الأجرُ والذكرُ مثلًا بطلَ الأجْرُ، ولعلَّ بُطْلَانَهُ هنا لخصوصيةِ طلبِ الذِّكر، لأنه انقلب عملُه للرياء، والرياءُ مبطلٌ لما يشاركُه بخلافِ طلبِ المغنَمِ فإنهُ لا ينافي الجهادَ، بلْ إذا قصدَ بأخذِ المغنم إغاظةَ المشركينَ والانتفاعَ بهِ على الطاعةِ كانَ لهُ أجرٌ، فإنهُ تعالَى يقولُ:{وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}
(6)
، والمرادُ النيلُ المأذونُ فيهِ شَرْعًا، وفي قولِه صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَتلَ قتيلًا فلهُ سَلَبُهُ"
(7)
قبلَ القتالِ دليلٌ علَى أنهُ لا ينافي [قصدُ المغنمِ]
(8)
القتالَ، بلْ ما قالَه إلَّا ليجتهدَ السامعُ في قتالِ المشركينَ.
(1)
سورة البقرة: الآية 198.
(2)
في (أ): "الباعثة".
(3)
في (ب): "إذا".
(4)
لم أعثر عليه في سنن أبي داود، واللهُ أعلم.
(5)
في "السنن"(6/ 25).
وأورده الشوكاني في "نيل الأوطار"(7/ 243)، وقال: هذا الحديث رواه أحمد والنسائي، وقال: حديث أبي أمامة جوَّد الحافظ إسناده في الفتح" اهـ. وأورده الألباني في الصحيحة رقم (52).
(6)
سورة التوبة: الآية 120.
(7)
أخرجه أبو داود رقم (2718) من حديث أنس، وهو حديث صحيح.
(8)
في (أ): "القصد للمغنم في".
وفي البخاريِّ
(1)
منْ حديثِ أبي هريرةَ: قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انتدبَ اللهُ عز وجل لمَنْ خرجَ في سبيلهِ لا يُخْرجُهُ إلَّا إيمانٌ بي وتصديقٌ برسولي أنْ أُرْجِعَهُ بما نالَ مِنْ أَجْرٍ أوْ غنيمةٍ أوْ أُدْخِلَهُ الجنةَ"، ولا يَخْفَى أنَّ هذهِ الأخبارَ دليلٌ على جوازِ تشريكِ النيةِ، إذِ الإخبارُ بهِ يقتضي ذلكَ غالبًا، ثمَّ إنهُ قدْ يقصدُ المشركونَ لمجردِ نَهْبِ أموالِهم كما خرج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمنْ معهُ في غزاةِ بدرِ لأَخْذِ عيرِ المشركينَ، ولا ينافي ذلكَ أنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا بلْ ذلكَ منْ إعلاءِ كلمةِ اللهِ تعالَى وأقرَّهم اللهُ تعالَى علَى ذلكَ، بلْ قالَ تعالَى:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}
(2)
، ولم يذمَّهُم بذلكَ معَ أنَّ في [هذا]
(3)
الإخبارِ إخبارًا لهمْ بمحبَّتِهِمْ للمالِ دونَ القتالِ، فإعلاءُ كلمةِ اللهِ يدخلُ فيهِ إخافةُ المشركينَ وأَخْذُ أموالِهم وقَطْعُ أشجارِهم ونحوُهُ.
وأما حديثُ أبي هريرةَ عندَ أبي داودَ
(4)
: "أنَّ رجلًا قالَ: يا رسولَ اللهِ، رجلٌ يريدُ الجهادَ في [سبيلِ اللهِ]
(5)
وهوَ يبتغي عَرَضًا منَ الدنيا، فقالَ: لا أَجْرَ لهُ، فأعادَ عليهِ ثلاثًا كلُّ ذلكَ يقولُ: لا أَجْرَ لهُ"، فكأنهُ فهمَ صلى الله عليه وسلم أنَّ الحامِلَ هوَ الغَرَضُ منَ الدنيا فأجابَهُ بما أجابَ، وإلَّا فإنهُ قدْ كانَ تشريكُ الجهادِ [بطلبه]
(6)
الغنيمةِ أمرًا معروفًا في الصحابةِ، فإنهُ أخرجَ الحاكمُ
(7)
والبيهقيُّ
(8)
بإسنادٍ صحيحٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ جحشٍ يومَ أُحُدٍ قالَ: اللهمَّ ارزقْني رَجُلًا شديدًا أقاتلُه ويقاتلُني ثمَّ ارزُقْني عليهِ الصبرَ حتَّى أقتلَه وآخذَ سَلَبَهُ. فهذَا يدلُّ على أنَّ طلبَ العَرَضِ منَ الدنيا معَ الجهادِ كانَ أمرًا معلومًا جوازُهُ للصحابةِ فيدعونَ اللهَ بِنَيْلِهِ.
ثبوت حكم الهجرة
9/ 1188 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّعْدِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا
(1)
في صحيحه رقم (3123)، قلت: وأخرجه مسلم رقم (1876)، والنسائي (6/ 16).
(2)
سورة الأنفال: الآية 7.
(3)
في (أ): "هذه".
(4)
في "السنن" رقم (2516)، وهو حديث حسن.
(5)
في (أ): "سبيلك".
(6)
في (ب): "بطلب".
(7)
في "المستدرك"(2/ 76) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(8)
في "السنن الكبرى"(6/ 307).
تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ"، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
(1)
وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
. [صحيح]
ترجمة عبدالله بن السعدي
(وعنْ عبدِ اللهِ بنِ السعدي رضي الله عنه)
(3)
هوَ أبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ السعديِّ وفي اسمِ السعدي أقوالٌ، وإنَّما قيلَ لهُ السعديُّ لأنهُ كانَ مسترضعَاً في بني سعدٍ. سكنَ عبدُ اللهِ الأردنَّ ومات بالشامِ سنةَ خمسينَ على قولٍ. لهُ صُحْبَةٌ وروايةٌ [قالَهُ]
(4)
ابنُ الأثيرِ، ويقالُ فيهِ: ابنُ السعدي المالكي نسبةً إلى جدِّهِ، ويُقَالُ فيهِ: الساعديِّ كما في أبي داودَ.
(قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا تنقطعُ الهجرةُ ما قوتلَ العدوُّ. رواهُ النسائيُّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ)، دلَّ الحديثُ على ثبوتِ حكمِ الهجرةِ وأنهُ باقٍ إلى يومِ القيامةِ، فإنَّ قتالَ العدوِّ مستمرٌّ إلى يومِ القيامةِ، ولكنَّهُ لا يدلُّ على وجوبِها ولا كلامَ في ثوابِها معَ حصولِ مقتضيها، وأما وجوبُها ففيهِ ما عرفْتَ.
الإغاره على العدو بلا إنذار
10/ 1189 - وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَغَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيْهم، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
، وَفِيهِ: وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. [صحيح]
(1)
في "السنن"(7/ 146).
(2)
رقم (1579 - موارد).
ونقل الحافظ في "الإصابة"(4/ 98) عن أبي زرعة الدمشقي أنه قال: "هذا الحديث عن عبد اللهِ بن السعدي حديث صحيح متقن، رواه الأثبات عنه" اهـ.
(3)
انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (4736)، و"أسد الغابة" رقم (2979)، و"الاستيعاب" رقم (1572)، و"الوافي بالوفيات"(17/ 193).
(4)
في (أ): "قال".
(5)
البخاري رقم (2541)، ومسلم رقم (1730). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2633).
ترجمة نافع مولى ابن عمر
(وعنْ نافعٍ)
(1)
هوَ مَوْلَى ابنِ عمرَ، يُقَالُ لهُ: أبو عبدِ اللهِ نافعُ بنُ سَرْجِسٍ بفتحِ السينِ وسكونِ الراءِ وكسرِ الجيمِ، كانَ منْ كبارِ التابعينَ مِنْ أهل المدينة، سمعَ ابنَ عمرَ وأبا سعيدٍ، وهوَ منَ الثقاتِ المشهورينَ [بالحديثِ]
(2)
المأخوذِ عَنْهم، ماتَ سنةَ سبعَ عَشْرَةَ ومائةٍ وقيلَ عشرينَ.
(قالَ: أغارَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق) بضمِّ الميمِ وسكونِ المهملةِ وفتحِ الطاءِ وكسر اللامِ بعدَها قافٌ، بطنٌ شهيرٌ منْ خُزَاعَةَ (وهمْ غارُّونَ) بالغينِ المعجمةِ وتشديدِ الراءِ جَمْعُ غارٍ، أي غافلونَ، فأخذَهم على غرَّةٍ (فقتلَ مقاتلَتهم وسَبَى ذراريْهم. حدثني بذلكَ عبدُ اللهِ بنِ عمرَ: متفقٌ عليهِ، وفيهِ: وأصابَ يومئذٍ جويريةَ) فيهِ مسألتانِ:
الأولَى: الحديثُ دليلٌ على جوازِ المقاتلةِ قبلَ الدعاءِ إلى الإسلامِ في حقِّ الكفَّارِ الذينِ قدْ بلغتْهمْ الدعوةُ منْ غيرِ إنذارٍ، وهذا أصحُّ الأقوالِ الثلاثةِ في المسألةِ وهيَ عدمُ وجوبِ الإنذارِ مُطْلَقًا، ويردُّ عليهِ حديثُ بريدةَ الآتي
(3)
، الثاني: وجوبُه مطلقًا، ويردُّ عليهِ [هذا]
(4)
الحديثُ. الثالثُ: يجبُ إنْ لم تبلغْهُمُ الدعوةُ ولا يجبُ إنْ بلغتْهم ولكنْ يُسْتَحَبُّ، قالَ ابنُ المنذرِ: وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، وعلَى معناهُ تضافرت الأحاديثُ الصحيحةُ وهذا أحدُها.
وحديثُ كعبِ بنِ الأشرفِ
(5)
، وَقَتْلُ ابنِ أبي الحقيقِ
(6)
وغيرُ ذلكَ. وادَّعى في "البحر"
(7)
الإجماعَ علَى وجوبِ دعوةِ مَنْ لم تبلغْهُ دعوةُ الإسلامِ. [المسألة]
(8)
الثانيةُ: في قولِه: "وسبى ذراريْهم"، دليلٌ على جوازِ استرقاقِ
(1)
انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب"(10/ 368 - 370)، و"الثقات" للعجلي (ص 447) رقم (1679).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
رقم (11/ 1190) من كتابنا هذا.
(4)
في (أ): "هذه".
(5)
أخرج قصة قتله: البخاري رقم (4037)، ومسلم رقم (119/ 1801). وأبو داود رقم (2768)، والبيهقي في "الدلائل"(3/ 195 - 196) وابن سعد في "الطبقات"(2/ 32، 34).
(6)
أخرج قصة قتله: البخاري رقم (4039) و (4040)، وابن سعد في "الطبقات"(2/ 91، 92)، والبيهقي (9/ 80، 81)، وعبد الرزاق في مصنفه (5/ 407، 410).
(7)
(5/ 395)
(8)
زيادة من (أ).
العربِ، لأنَّ بني المصطلقِ عَرَبٌ من خزاعة وإليه ذهب جمهور العلماء، وقال به مالك وأصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي، وذهبَ آخرونَ إلى عدمِ جوازِ استرقاقِهم وليسَ لهم دليلٌ ناهضٌ، ومَنْ طالعَ كتبَ السِّيَرِ والمغازي علمَ يقينًا استرقاقَهُ صلى الله عليه وسلم للعربِ غيرِ الكتابيينَ كهوازن وبني المصطلقِ، وقالَ لأَهْلِ مكةَ: اذهبُوا فأنتُم الطلقاءُ
(1)
، وفادَى أهلَ بدرٍ، والظاهرُ أنهُ لا فرقَ بينَ الفداءِ والقتلِ والاسترقاقِ لثبوتِها في غيرِ العربِ قطعًا، وقدْ ثبت فيهمْ ولم يصحَّ تخصيصٌ ولا نَسْخٌ، قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ: لا أذهبُ إلى قولِ عمرَ ليسَ علَى عربيٍّ مُلْكٌ، وقدْ سَبَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ العربِ كما وردَ في غيرِ حديثٍ
(2)
. وأبو بكرٍ
(3)
وعليٌّ
(4)
رضي الله عنهما سَبَيَا بني [حنيفة]
(5)
ويدلُّ له الحديثُ الآتي:
(1)
حديث دخول الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وفيه: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، أخرجه ابن هشام في "السيرة"(4/ 77 - 78) ولم يسم ابن إسحاق من حدَّثه. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"(2/ 141 - 142) وسنده منقطع، وفي سياقه اختلاف يسير. وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الغضب" - كما في "كنز العمال"(10/ 389) باختلاف يسير، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" رقم (319) وفي سنده: عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف، انظر:"الكامل" لابن عدي (4/ 1454 - 1456). اختلاف يسير. والخلاصة: أن الحديث ضعيف، واللهُ أعلم.
(2)
(منها): حديث أبي هريرة في الصحيحين البخاري رقم (2543)، ومسلم رقم (198/ 2525). وغيرهما: أنها كانت عند عائشة سَبية - أسيرة - من بني تميم، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أعتِقيها فإنها من ولد إسماعيل". (ومنها): حديث مروان، والمسور بن مخرمة عند البخاري رقم (2539، 2540) وغيره: أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال حين جاء وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أحبُّ الحديث إليَّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال"، الحديث.
(3)
سبى أبو بكر بني ناجية وهم من العرب - كما في "كشف الغمة"(2/ 216). وكذلك سبى نساء بني حنيفة وذراريهم وضرب عليهم الرق، وأعطى امرأة منهم علي بن أبي طالب، فولدت له محمد بن الحنفية. انظر: سنن البيهقي (2/ 371) و"كنز العمال"(8/ 147، و"المحلى" (5/ 112)، و"موسوعة فقه أبي بكر الصديق"(138).
(4)
قال: د. قلعة جي في "موسوعة فقه علي"(ص 88): "أما الفئة الثانية - أي أسرى مشركي العرب -: فإن كانوا، رجالًا خُير الإمام فيهم بين المنِّ أو الفداء أو القتل، ولكن لا يضرب الرق عليهم. وإن كن نساء أو ذرية، فإن الإمام يخير فيهن بين المن أو الفداء أو الرق - انظر: "موسوعة فقه عمر بن الخطاب". مادة أسر - وقد سبى أبو بكر وعلي بن أبي طالب بني ناجية وهم من العرب - كما في "كشف الغمة" (2/ 216) " اهـ.
(5)
في (ب): "ناجية".
وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمراء الجيوش
11/ 1190 - وَعَنْ سُلَيْمانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالَتْ: كَانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمّ قَالَ: "اغْزُوا عَلَى اسْمِ اللهِ، في سَبِيلِ اللهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدُرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ: ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ في الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ عَلَيهِمْ بِاللهِ تَعَالَى وَقَاتِلْهُم.
وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوا أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذمَّةَ اللهِ وَذِمّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَخْفُرُوا ذِمَمَكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَخْفُرُوا ذِمَّةَ اللهِ، وَإِذَا أَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تَفْعَلْ، بَلْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ سليمانَ بنِ بريدةَ عنْ أبيهِ قالَ: كانَ رسول اللهِ إذا أَمَّرَ أميرًا على جيشٍ) همُ الجندُ أو السائرونَ إلى الحربِ أو غيرِه (أوْ سريةٍ) هي القطعةُ منَ الجيشِ تخرجُ منهُ تغيرُ على العدوِّ وترجعُ إليهِ (أوصاهُ بتقْوى اللهِ، وأوصاه بمنْ معة منَ المسلمينَ خيرًا، ثمَّ قالَ: اغزُوا على اسمِ اللهِ تعالَى في سبيلِ اللهِ تعالى، قاتِلُوا مَنْ كفرَ باللهِ، اغزُوا ولا تغُلُّوا) بالغينِ المعجمةِ، والغلولُ الخيانةُ في المغنَمِ مُطْلَقًا (ولا تغدُروا) الغدرُ ضدُّ الوفاءِ (ولا تمثِّلُوا) منَ الْمُثْلَةِ، يقالُ: مُثِّلَ بالقتيلِ إذا قُطِعَ أنفُه أو أُذُنُهُ أو مذاكيرُه أوْ شيئًا منْ أطْرافِهِ، (ولا تقتلُوا وليدًا)، المرادُ غيرُ البالغِ سنَّ
(1)
في صحيحه رقم (1731). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2612)، والترمذي رقم (1617) وابن ماجه رقم (2858).
التكليفِ (وإذا لقيتَ عدوَّكَ منَ المشركينَ فادْعُهم إلى ثلاثِ خصالٍ) أي إلى إحْدَى ثلاث [كما يدل له قوله]: (فَأَيَّتُهُنَّ أجابُوكَ إليها فاقبلْ منْهم وكُفَّ عنْهم) أي القتالَ. [وبيَّنَ الثلاث الخصال]
(1)
بقولِه: (ادْعُهم إلى الإسلامِ، فإنْ أجابُوكَ فاقبلْ منْهم، ثمَّ [ادْعُهم]
(2)
إلى التحوُّلِ منْ دارِهم إلى دارِ المهاجرينَ فإنْ أَبَوْا فأخبرَهُم بأنَّهم يكونونَ كأعرابِ المسلمينَ) وبيانُ حكمِ أعرابِ المسلمينَ قولُه: (ولا يكونُ لهم في الغنيمةِ) الغنيمةُ ما أُصِيبَ منْ مالِ أهلِ الحربِ وأوجفَ عليهِ المسلمونَ بالخيلِ والرِّكَابِ (والفيءِ) هوَ ما حصلَ للمسلمينَ منْ أموالِ الكفار منْ غيرِ حربٍ ولا جهادٍ (شيءٌ إلَّا أنْ يجاهدُوا معَ المسلمينَ، فإنْ هُمْ أَبَوْا) أي الإسلامَ (فاسألْهمُ الجزيةَ) هيَ الخصلةُ الثانيةُ منَ الثلاثِ (فإنْ همْ أجابوكَ فاقْبَلْ منْهم، وإنْ هُمْ أَبَوْا فاستعنْ عليهمْ باللهِ وقاتِلْهم) وهذهِ هيَ الخصلةُ الثالثةُ.
(وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فأرادوكَ أنْ تجعلَ لهمْ ذِمَّةَ اللهِ وذمةَ نبِّيهِ فلا تفعلْ ولكنِ اجعلْ لهم ذِمَّتَكَ) علَّلَ النَّهيَ بقولِه: (فإنكُمْ إن تَخْفُرُوا) بالخاءِ المعجمةِ والفاءِ والراءِ من أَخْفَرْتَ الرجلَ إذا نَقَضْتَ عَهْدَهُ وذِمَامَهُ (ذِمَمَكم أهونُ مِنْ أن تخفُروا ذمةَ اللهِ، وإذا أرادوكَ أنْ تنزلَهم على حكمِ اللهِ فلا تفعلْ بلْ على حُكْمِكَ) علَّلَ النَّهْيَ بقولِه: (فإنكَ لا تدري أتصيبُ فيهمْ حكمَ اللهِ أمْ لا. أخرجَهُ مسلمٌ).
في الحديثِ مسائلُ:
الأُولَى: دلَّ على أنهُ إذا بعثَ الأميرُ مَنْ يغزُو أَوْصَاهُ بتقْوى اللهِ وبمنْ يصحَبُهُ مِنَ المجاهدينَ خَيْرًا، ثمَّ يخبرهُ بتحريمِ الغُلولِ منَ الغنيمةِ وتحريمِ الغدْرٍ وتحريمِ المُثْلَةِ وتحريمِ قتلِ صبيانِ المشركينَ، وهذهِ محرماتٌ بالإجماعِ، [ويدل]
(3)
علَى أنهُ يدعُو الأميرُ المشركينَ إلى الإسلام قبلَ قتالِهم وظاهرُه وإنْ كانَ قدْ بلغتْهمُ الدعوةُ [لكنها]
(4)
معَ بلوغِها [تحمل]
(5)
علَى الاستحبابِ كما دلَّ لهُ إغارتُه صلى الله عليه وسلم على بني المصطلقِ وهمْ غارّونَ وإلا وجبَ دعاؤُهم.
وفيهِ دليلٌ على دعائِهم إلى الهجرةِ بعدَ إسلامِهم وهوَ مشروعٌ نَدْبًا بدليلٍ ما
(1)
في (ب): "وبينها".
(2)
في (أ): "أمرهم".
(3)
في (ب): "ودكَّ".
(4)
في (ب): "لكنه".
(5)
في (ب): "يحمل".
في الحديثِ منَ الإذنِ لهمْ في البقاءِ، وفيهِ دليلٌ على أنَّ الغنيمةَ والفيءَ لا يستحقها إلَّا المهاجرونَ وأنَّ الأعرابَ لا حقَّ لهم فيها إلَّا أنْ يحضُروا الجهادَ، وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ وذهبَ غيرُه إلى خلافِه وادَّعُوا نسخَ الحديثِ ولم يأتُوا ببرهانٍ على نسخِه.
المسألةُ الثانيةُ: في الحديثِ دليلٌ على أنَّ الجزيةَ تؤخذُ منْ كلِّ كافرٍ كتابيٍّ وغيرِ كتابيٍّ، عربي وغيرِ عربيٍّ، لقولِه:"عدوَّكَ" وهوَ عامٌّ، وإلى هذا ذهبَ مالكٌ والأوزاعيُّ وغيرُهما، وذهبَ الشافعيُّ إلى أَنَّها لا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ أهلِ الكتابِ والمجوسِ عَرَبًا كانُوا أو عجمًا لقولِه تعالَى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}
(1)
بعدَ ذكرِ أهلِ الكتابِ، ولقولِه صلى الله عليه وسلم:"سنُّوا بهمْ سُنَّةَ أهلِ الكتاب"
(2)
، وما عدَاهُم داخلونَ في عموم قولِه تعالَى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}
(3)
، وقولِه تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(4)
، [وقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}
(5)
]
(6)
، واعتَذَرُوا عنِ الحديثِ بأنهُ واردٌ قبلَ فتحِ مكةَ بدليلٍ الأمرِ بالتحولِ والهجرةِ، والآياتُ بعدَ الهجرةِ، فحديثُ بريدةَ منسوخٌ أوْ [مؤوَّل]
(7)
بأنَّ المرادَ [من عدوك]
(8)
مَنْ كانَ مِنْ أهلِ الكتابِ.
قلتُ: الذي يظهرُ عمومُ أَخْذِ الجزيةِ منْ كلِّ كافرٍ لعمومِ حديثِ بريدةَ هذا،
(1)
سورة التوبة (29).
(2)
أخرجه مالك (1/ 278 رقم 42) ومن طريقه الشافعي في "بدائع المنن"(2/ 34 رقم 1183)، وكذا البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 189). عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه. أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
…
"، فذكره. وهو حديث ضعيف.
• وله شاهد ولكنه ضعيف، وهو من حديث السائب بن يزيد قال:"شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما عهد إلى العلاء حين وجهه إلى اليمن، قال: ولا يحل لأحد جهل الفرض والسنن، ويحل له ما سوى ذلك، وكتب للعلاء: أن سنُّوا بالمجوس سنة أهل الكتاب". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 13): "رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه".
(3)
سورة البقرة: الآية 193.
(4)
سورة التوبة: الآية 5.
(5)
سورة التوبة: الآية 36.
(6)
زيادة من (أ).
(7)
في (ب): "متأول".
(8)
في (ب): "بعدوك".
وأما الآيةُ فأفادتْ أَخْذَ الجزيةِ منْ أهلِ الكتابِ ولم تتعرضْ لأخْذِها منْ غيرِهِم ولا لعدمِ أَخْذِها، والحديثُ بيَّنَ أَخذَها منْ غيرِهم، وحَمْلُ عدوِّكَ علَى أهلِ الكتابِ في غايةِ البعدِ وإنْ قالَ ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ: إنْ آيةَ الجزيةِ إنما نزلتْ بعدَ انقضاءِ حربِ المشركينَ وَعَبَدَةِ الأوثانِ ولم يبقَ بعدَ نُزُولِها إلَّا أهلُ الكتابِ، قالَه تقويةً لمذهبِ إمامِه الشافعيِّ، ولا يَخْفَى بطلانُ دعواهُ بأنهُ لم يبقَ بعدَ نزولِ آيةِ الجزيةِ إلَّا أهلُ الكتابِ، بلْ بقيَ عُبَّادُ النيرانِ منْ أهلِ فارسَ وغيرِهم، وعُبَّادُ الأصنامِ منْ أهلِ الهندِ.
وأما عدمُ أخذِها منَ العربِ فإنَّها لم تُشْرَعْ إلَّا بعدَ الفتحِ وقدْ دخلَ العربُ في الإسلامِ ولم يبقَ منْهم عدو يحارب فلم يبقَ [منهم]
(1)
بعدَ الفتح مَنْ يُسْبَى ولا مَنْ تضربُ عليهِ الجزيةُ، بلْ مَنْ خرجَ بعدَ ذلكَ عنِ الإسلامِ منهم فليسَ إلَّا السيفُ أوِ الإسلامُ كما ذلكَ الحكمُ في أهلِ الرِدَّةِ، وقدْ سَبَى صلى الله عليه وسلم قبلَ ذلكَ منَ العربِ بني المصطلقِ وهوازنَ، وهلْ حديثُ ألاستبراءِ إلَّا في سبايا أوطاسٍ
(2)
، واستمرَّ هذا الحكمُ بعدَ عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم ففتحتِ الصحابةُ رضي الله عنهم بلادَ فارسَ والرومِ وفي رعاياهُم العربُ خصوصًا الشامُ والعراقُ ولم يبحثُوا عنْ عربيٍّ منْ عجميٍّ بلْ عمَّمُوا حُكْمَ السبي والجزيةِ على جميعِ مَنِ استَوْلَوْا عليهِ.
وبِهذَا يعرفُ أنَّ حديثَ بريدةَ كانَ بعدَ نزولِ فرضِ الجزيةِ وفرضُها كانَ بعدَ الفتحِ، فكانَ فرضُها في السنةِ الثانيةِ من الفتح عندَ نزولِ سورةِ براءةِ، ولهذا نَهى فيهِ عن الْمُثْلَة، ولم ينزلِ النَّهْيُ عنْها إلَّا بعدَ أُحُدٍ، وإلى هذا المعنَى جنحَ ابنُ القيِّمِ في الهدي
(3)
ولا يخْفَى [قُوَّتُهُ]
(4)
.
(1)
في (ب): "فيهم".
(2)
أوطاس: واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حُنين للنبي صلى الله عليه وسلم ببني هوازن، [معجم البلدان:(1/ 281)].
• وأما الحديث فقد أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 62)، وأبو داود رقم (2157)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 195) وصححه على شرط مسلم. وصحَّحه الألباني في "الإرواء" رقم (187) من حديث أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس:"لا توطأ حامل حتَّى تضع، ولا غير حامل حتَّى تحيض حيضة".
(3)
أي كتابه: "زاد المعاد في هدي خير العباد"، وهو أنفس ما ألف في السيرة النبوية والفقه".
(4)
في (أ): "قربة".
المسألةُ الثالثةُ: يتضمن الحديثُ النَّهْيَ عنْ إجابةِ العدوِّ إلى أنْ يجعلَ لهمْ الأميرُ ذِمَّةَ اللهِ وذمةَ رسولِه، بلْ يجعلُ لهم ذمتَه، وقدْ علَّلَهُ بأنَّ الأميرَ ومَنْ معَهُ إذأ أخْفَر ذمَّتهم أي نقضُوا [عهودهم]
(1)
فهوَ أهونُ عندَ اللهِ من أنْ يخفُروا ذمَته تعالَى، وإنْ كانَ نقضُ الذمةِ محرَّمًا مُطْلقًا.
قيلَ: وهذا النَّهْيُ للتنزيهِ لا للتحريمِ، ولكنّ الأصلَ فيهِ التحريمُ ودَعْوى الإجماعِ على أنهُ للتنزيهِ لا تتمُّ، وكذلكَ تضمنَ النَّهْيُ عنْ إنزالِهم على حكمِ اللهِ تعالى، وعلَّلَهُ بأنهُ لا يدري أيصيبُ فيهمُ حكمَ اللهِ أمْ لا فَلَا ينزلُهم على شيءٍ لا يدري أيقعُ أمْ لا، بلْ ينزلُهم على حُكْمِهِ، وهوَ دليلٌ على أنَّ الحقَّ في مسائلِ الاجتهادِ معَ واحدٍ وليسَ كلُّ مجتهدٍ مصيبًا للحقِّ، وقدْ أقمنا أدلةَ حقيَّة هذا القولِ في محلٍّ آخرَ.
التورية عند الغزو
12/ 1191 - وَعَنْ كَعْبِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِها. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
. [صحيح]
(وعنْ كعبِ بنِ مالكٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أرادَ غزوةً ورَّى) بفتحِ الواوِ وتشديد الراءِ أي سَتَرَها (بغيرِها. متفقٌ عليهِ). وقدْ جاءَ الاستثناءُ في ذلكَ بلفظِ: "إلَّا في غزوةِ تبوكَ فإنهُ أظهرَ لهمْ مرادَه". وأخرجَهُ أبو داودَ
(3)
وزادَ فيهِ: ويقولُ: "الحربُ خدعةٌ"، وكانتْ توريتُه أنهُ إذا أرادَ قَصْدَ جهةٍ سألَ عنْ طريقِ جهةٍ أُخْرَى إيهامًا أنهُ يريدُها وإنَّما يفعلُ ذلكَ، لأنهُ أتمَّ فيما يريدُه منْ إصابةِ العدوِّ وإتيانِهم علَى غفلةٍ منْ غيرِ تأهُّبِهم لهُ. وفيهِ دليلٌ على جوازِ مثلِ هذَا، وقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم:"الحربُ خدعةٌ".
القتال أول النهار وآخره
13/ 1192 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرَّنٍ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ
(1)
في (ب): "عهدهم".
(2)
البخاري رقم (2947)، ومسلم رقم (54/ 2769).
(3)
في "السنن" رقم (2637).
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ
(1)
وَالثَّلَاثَةُ
(2)
، وَصحّحَهُ الْحَاكِمُ
(3)
، وَأَصْلُهُ في الْبُخَارِيِّ
(4)
. [صحيح]
ترجمة معقل بن النعمان بن مقرَّن
(وعنْ معقلِ بنِ النعمانِ بنِ مُقَرَّنٍ)
(5)
بضمِّ الميمِ وفتحِ القافِ وتشديدِ الراءِ فنونٍ، لم يذكرِ ابنُ الأثيرِ معقلَ بنَ مقرَّنٍ في الصحابةِ
(6)
إنَّما ذكرَ النعمانَ بنَ مقرَّنٍ وعزَا هذا الحديثَ إليهِ
(7)
، وكذلكَ البخاريُّ وأبو داودَ والترمذيُّ أخرجُوه عنِ النعمانِ بنِ مُقرَّنٍ فيُنْظَرُ فما أظنُّ لفظَ معقلٍ إلَّا سبقَ قلمٍ والشارحُ وقعَ لهُ أنهُ قالَ: هوَ معقلُ بنُ النعمانِ بنِ مقرَّنٍ المزنيِّ، ولا يخْفَى أنَّ النعمانَ، هو ابن مقرن، فإذا كان له أخ فهو معقل بن مقرن لا ابن النعمان، قال ابن الأثير: إن النعمان هاجرَ ومعهُ سبعةُ إخوةٍ لهُ، يريدُ أنَّهم هاجَرُوا كلُّهم معهُ، فراجعتُ التقريبَ للمصنفِ فلمْ أجدْ فيهِ صحابيًا يُقَالُ لهُ معقلُ بنُ النعمانِ ولا ابنُ مقرَّن بلْ فيهِ النعمانُ بنُ مقرَّنٍ، فتعيَّنَ أنَّ لفظَ معقلٍ في نُسَخِ "بلوغِ المرامِ" سبقُ قلمٍ وهوَ ثابتٌ فيما رأَيْنَاهُ منْ نُسَخِهِ.
(قالَ: شهدتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتلْ أولَ النهارِ أخَّرَ القتالَ حتَّي تزولَ الشمسُ وتهبَّ الرياحُ وينزلَ النصرُ. رواهُ أحمدُ والثلاثةُ وصحَّحَهُ الحاكمُ وأصلُه في
(1)
في "المسند"(5/ 445).
(2)
أبو داود رقم (2655)، والترمذي رقم (1613)، والنسائي في "الكبرى تحفة الأشراف"(9/ 32).
(3)
في "المستدرك"(2/ 116) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
(4)
في صحيحه (6/ 258 رقم 3160).
(5)
انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (8157)، و"أسد الغابة" رقم (5035)، و"الاستيعاب" رقم (2490).
(6)
قلت: بل ذكره في "أسد الغابة" رقم (5035) وقال: هو أخو النعمان بن مقرن، وكانوا سبعة إخوة، كلهم هاجر وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك لأحد من العرب، قاله الواقدي، وابن نُمير.
(7)
في "أسد الغابة" رقم (5268).
البخاريِّ)، فإنهُ أخرجَهُ عنِ النعمانِ بنِ مقرّنٍ بلفظِ: "إذا لم يقاتلْ في أولِ النهارِ انتظرَ حتَّى تهبَّ الأرواحُ
(1)
وتحضرَ الصلوات"، قالُوا: والحكمةُ في التأخيرِ إلى وقتِ الصلاةِ أنهُ مظنةُ إجابةِ الدعاءِ وأما هبوبُ الرياحِ فقدْ وقعَ بهِ النصرُ في الأحزابِ كما قالَ تعالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}
(2)
فكانَ تَوَخِي هبوبها مظنةً للنصرِ، وقدْ عُلِّلَ بأنَّ الرياحَ تهبُّ غالبًا بعدَ الزوالِ فيحصلُ بها تبريدُ حدِّ السلاحِ للحربِ والزيادةُ للنشاطِ، ولا يعارضُ هذَا ما وردَ منْ أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يغيرُ صباحًا؛ لأنَّ هذَا في الإغارةِ وذلكَ عندَ المصادفةِ للقتالِ.
النهي عن قتل النساء والصبيان
14/ 1193 - وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ، فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وذَرَاريْهم، فَقَالَ:"هُمْ مِنْهُم"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
. [صحيح]
(وعنِ الصعبِ بنِ جثامةَ) تقدَّم ضبطهما في الحجِّ (قالَ: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ووقعَ في صحيحِ ابنِ حبَّانَ السائلُ هوَ الصعبُ، ولفظُه: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وساقَهُ [بمعنى ما هنا]
(4)
(عنِ أهل الدارِ منَ المشركينَ يُبَيِّتُونَ) بصيغةِ المضارعِ من بيَّتَه مبنيٌّ للمجهولِ (فيصيبونَ منْ نسائِهم وذراريْهم، قال: همْ منْهم. متفقٌ عليهِ). وفي لفظٍ للبخاري عنْ أهلِ الدارِ وهوَ تصريحٌ بالمضافِ المحذوفِ، والتبييتُ الإغارةُ عليهمْ في الليلِ على غفلةٍ معَ اختلاطِهم لصبيانهم ونسائِهم فيصابُ النساءُ والصبيانُ منْ غيرِ قصدٍ لقتلِهم ابتداءً.
(1)
جمع الريح: رياح وأرياح، وأرواح قليل.
(2)
سورة الأحزاب: الآية 9.
(3)
البخاري رقم (3012)، ومسلم رقم (26/ 1745).
قلت: وأخرجه الحميدي رقم (781)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 388)، وأحمد (4/ 37، 38، 71، 72، 73)، وأبو داود رقم (2672)، والترمذي رقم (1570)، وابن ماجه رقم (2839)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2697)، وابن الجارود رقم (1044)، والبيهقي (9/ 78) وغيرهم.
(4)
في (ب): "بمعناه".
وهذَا الحديثُ أخرجَه ابنُ حبانَ
(1)
منْ حديثِ الصعبِ بن جثامة وزادَ فيهِ: ثمَّ نَهَى عنْهم يومَ حُنَيْنٍ، وهيَ مدرجةٌ في حديثٍ الصعبِ. وفي سننِ أبي داودَ
(2)
زيادةٌ في آخرِه: قالَ سفيانُ. قالَ الزهريُّ: ثمَّ نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلكَ عنْ قَتْلِ النساءِ والصبيانِ، "ويؤيدُ أنَّ النَّهْيَ في حنينٍ ما في البخاريِّ: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأحدِهم: "الحقْ خالدًا فقلْ لهُ: لا [تقتل]
(3)
ذريةً ولا عَسِيْفًا"، وأولُ مشاهدِ خالدٍ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم غزوةَ حنينٍ، كذا قيلَ: ولا يخْفَى أنهُ قدْ شهدَ معهُ صلى الله عليه وسلم فتحَ مكةَ قبلَ ذلكَ"
(4)
.
وأخرجَ الطبرانيُّ في "الأوسطِ"
(5)
منْ حديثِ ابنِ عمرَ قالَ: لما دخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ أُتِيَ بامرأةٍ مقتولةٍ فقالَ: "ما كانتْ هذهِ تقاتلُ ونَهَى عنْ قتلِ النساءِ".
وقد اختلفَ العلماءُ في هذا، فذهبَ الشافعيُّ وأبو حنيفةَ والجمهورُ إلى جوازِ قتلِ النساءِ والصبيانِ في البيانِ عملًا بروايةِ الصحيحينِ، وقولُه: همْ منْهم، أي في إباحةِ القتلِ تِبْعًا لا قَصْدًا إذا لم يمكنِ انفصالُهم عمنْ يستحقُّ القتلَ.
وذهبَ مالكٌ والأوزاعيُّ إلى أنهُ لا يجوزُ قتلُ النساءِ والصبيانِ بحالٍ حتَّى إذا تترَّسَ أهلُ الحربِ بالنساءِ والصبيانِ أوْ تحصَّنُوا بحصنٍ أو سفينةٍ هُما فيهما معَهُم لم يجزْ قتالُهم ولا تحريقُهم، وإليهِ ذهبَ الهادويةُ إلَّا أنَّهم قالُوا في التَّتَرُّسِ: يجوزُ قتلُ النساءِ والصبيانِ حيثُ جُعِلُوا تِرْسًا ولا يجوزُ إذا تترَّسُوا [بالمسلمين]
(6)
إلَّا معَ خشية [الاستئصال]
(7)
، ونقلَ ابنُ بطالٍ وغيرُه اتفاقَ الجميعِ على عدمِ جوازِ القصدِ إلى قتلِ النساءِ والصبيانِ للنَّهْي عنْ ذلكَ.
وفي قولِه: همْ منْهم، دليلٌ بإطلاقِهِ لمنْ قالَ: همْ منْ أهلِ النارِ، وهوَ ثالثُ الأقوالِ في المسألةِ، والثاني أنَّهم منْ أهلِ الجنةِ وهوَ الراجحُ في الصبيانِ، والأَوْلَى الوقْفُ.
(1)
رقم (137 - الإحسان) بسند حسن.
(2)
رقم (2672) بسند حسن.
(3)
في (ب): "يقتل".
(4)
انظر: "فتح الباري"(6/ 147).
(5)
رقم (673) وقال: لم يَرْوِ هذا الحديث عن محمد بن زيدِ إلَّا شريك.
(6)
في (ب): "بالمسلم".
(7)
في (ب): "استئصال المسلمين".
لا نستعين بمشرك في الحرب
15/ 1194 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ تَبِعَهُ في يَوْمِ بَدْرٍ: "ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لرجلٍ) أي مشركٍ (تَبِعَهُ يومَ بدرٍ: ارجعْ فلنْ أستعينَ بمشركٍ. رواهُ مسلمٌ). ولفظُه عنْ عائشةَ قالتْ: "خرجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدرٍ، فلمَّا كانَ بحرَّةِ الوَبَرَةِ
(2)
أدركَهُ رجلٌ قدْ كانَ تُذْكَرُ فيهِ جرأةٌ ونَجْدةٌ، ففرحَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رَأَوْهُ، فلمَّا أدركَهُ قالَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: جئتُ لأَتَّبِعَكَ وأصيبَ معكَ، قالَ: أتؤمنُ باللهِ، قالَ: لا، قالَ: فارجعْ فلنْ أستعينَ بمشركٍ، فلمَّا أسلمَ أذنَ لهُ".
والحديثُ منْ أدلةِ مَنْ قالَ: لا يجوزُ الاستعانةُ بالمشركينَ في القتالِ وهوَ قولُ طائفةٍ منْ أهلِ العلمِ، وذهبَ الهادويةُ وأبو حنيفةَ وأصحابُه إلى جوازِ ذلكَ قالُوا: لأنهُ صلى الله عليه وسلم استعانَ بصفوانَ بنِ أَميةَ يومَ حنينٍ
(3)
واستعانَ بيهودِ بني قينقاعٍ
(1)
في صحيحه رقم (1817). قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1558) وقال: هذا حديث حسن غريب. والطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (2575)، وأحمد (3/ 148 - 149).
(2)
وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة.
(3)
أخرجه ابن إسحاق معلقًا - كما في "سيرة ابن هشام"(4/ 118) - وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(3/ 49) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 89) من طرق أحدها من طريق ابن إسحاق وقد صرَّح بالسماع، والأخرى مثل رواية أبي داود ولم يصرح شريك بالسماع وهو مدلس، وفي الأخرى قيس بن الربيع ضعفه البيهقي في باب من زرع أرض غيره، وفي الأخرى مجهول. انتهى بتصرف من "الجوهر النقي"(6/ 89).
وأخرجه أبو داود رقم (3562) ولم يصرح شريك بالسماع وهو مدلس قاله الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 117) وبذا يكون السند منقطعًا. وأخرجه أحمد (3/ 401)(6/ 465). قال البيهقي (6/ 90) بعد روايته للحديث من طرق: "وبعض هذه الأخبار وإن كان مرسلًا فإنه يقوى بشواهده مع ما تقدم من الموصول" اهـ. فيكون الحديث صحيحًا بطرقه، واللهُ أعلم.
ورضخَ لهم، أخرجَهُ أبو داودَ في "المراسيلِ"
(1)
، وأخرجَهُ الترمذيُّ عنِ الزُّهْرِيِّ مرسلًا
(2)
ومراسيلُ الزهريِّ ضعيفةٌ.
قالَ الذهبيُّ: لأنهُ كانَ خطَّاءً، ففي إرسالهِ شبهةُ تدليسٍ وصحَّحَ البيهقيُّ
(3)
منْ حديثِ أبي حُمَيْدٍ الساعديِّ أنهُ ردَّهمْ، قالَ المصنفُ: ويجمعُ بينَ الرواياتِ بأنَّ الذي ردَّه يومَ بَدْرٍ تفرَّسَ فيهِ الرغبةَ في الإسلامِ فردَّه رجاءَ أنْ يسلمَ فصدَقَ ظنُّه، أوْ أنَّ الاستعانةَ كانتْ ممنوعةً فرخَّصَ فيها وهذا أقربُ، وقد استعانَ يومَ حنينٍ بجماعةٍ منَ المشركينَ تالَّفَهُم بالغنائمِ، اشترطَ الهادويةُ أنْ يكونَ معهُ مسلمونَ يستقلُّ بهمْ في إمضاءِ الأحكامِ.
وفي "شرحِ مسلمٍ"
(4)
أنَّ الشافعيَّ قالَ: إنْ كانَ الكافرُ حسنَ الرأي في المسلمينَ ودعتِ حاجة إلى الاستعانةِ استُعِيْنَ بهِ وإلا فَيُكْرَهُ. ويجوزُ الاستعانةُ بالمنافقِ إِجْماعًا لاستعانتهِ صلى الله عليه وسلم[بعبدِ]
(5)
اللهِ بنِ أُبيٍّ وأصحابِه.
النهي عن قتل النساء في الحرب
16/ 1195 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولةً في بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأَنْكَرَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(6)
. [صحيح]
(1)
رقم (281) ورجاله ثقات رجال الشيخين غيرَ (يزيد بن جابر) فإنه من رجال مسلم. وهو في سنن سعيد بن منصور رقم (2790)، وأخرجه عبد الرزاق رقم (9329)، وابن أبي شيبة (12/ 395 - 396)، والبيهقي (9/ 53) عن سفيان الثوري، عن يزيد بن جابر، عن الزهري، به. قال البيهقي: والحديث المنقطع عندنا لا يكون حجة.
(2)
في "السنن" رقم (1558) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(3)
في "معرفة السنن والآثار"(13/ 177 رقم 17833).
ورواه إسحاق بن راهويه في "مسنده"، والواقدي في كتاب "المغازي" بلفظ مختلف - كما في "نصب الراية" للزيلعي (3/ 423 - 424).
(4)
(12/ 199) للنووي.
(5)
في (أ): "لعبد".
(6)
البخاري رقم (3014)، ومسلم رقم (1744).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2668)، والترمذي رقم (1569)، وابن ماجه رقم (2841)، ومالك في "الموطأ"(2/ 447 رقم 9)، والدارمي (2/ 223)، وأحمد (2/ 122 و 123).
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً مقتولةً في بعضِ مغازيهِ فأنكرَ قَتْلَ النساءِ والصبيانِ. متفقٌ عليهِ). وقدْ أخرجَ الطبرانيُّ
(1)
أنهُ صلى الله عليه وسلم لمَّا دخلَ مكةَ أُتِيَ بامرأةٍ مقتولةٍ فقالَ: "ما كانتْ هذهِ لتقاتل"، أخرجهُ عنِ ابنِ عمر فيحتملُ أنَّها هذهِ.
وأخرجَ أبو داودَ في "المراسيلِ"
(2)
عنْ عكرمةَ أنهُ صلى الله عليه وسلم: "رأى امرأةً مقتولةً بالطائفِ فقالَ: ألم أَنْهَ عنْ قتلِ النساءِ، مَنْ صاحبُها؟ فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ أردفْتُها فأرادتْ أنْ تصرعَني فتقتلَني، فقتْلتُها، فأمرَ بها أنْ توارَى"، ومفهومُ قولِه:"لتقاتل" وتقريرُه لهذا القاتل يدلُّ على أنَّها إذا قاتلتْ قُتِلَتْ، وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ. واستدلَّ أيضًا بما أخرجَهُ أبو داودَ
(3)
والنسائيُّ
(4)
وابنُ حبَّانَ
(5)
منْ حديثِ رباحِ بنِ الربيع التميميِّ قالَ: كنَّا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ فرأَى النَّاسَ مجتمعينَ فرأَى امرأةً مقتولةً فقالَ: "ما كانت هذه لتقاتل".
قتل شيوخ المشركين وترك شبابهم
17/ 1196 - وَعَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكينَ وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ"، رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ
(6)
، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
(7)
. [ضعيف]
(وعنْ سَمُرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقتلُوا شيوخَ المشركينَ واستبقُوا شرْخَهُم) بالشينِ المعجمةِ وسكونِ الراءِ والخاءِ المعجمةِ، وهمُ الصغارُ الذينَ لم يُدْرِكُوا، ذَكَرهُ في "النهايةِ"
(8)
.
(1)
في "الأوسط" رقم (673) وقال: لم يَرْوِ هذا الحديث عن محمد بن زيد إلا شريك.
(2)
رقم (333) ورجاله ثقات رجال الشيخين.
(3)
في "السنن" رقم (2669).
(4)
في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(3/ 166).
(5)
رقم (1656 - موارد).
قلت: وأخرجه أحمد (3/ 388) و (4/ 346)، وابن ماجه رقم (2842)، والبيهقي (9/ 91)، والطبراني رقم (4619) و (4620) و (4621) و (4622) من طرق
…
وهو حديث صحيح.
(6)
في "السنن" رقم (2670).
(7)
في "السنن" رقم (1583) وقال: حديث حسن صحيح غريب. قلت: وأخرجه أحمد (5/ 12، 20) وهو حديث ضعيف.
(8)
(2/ 456 - 457).
(رواهُ أبو داودَ وصحَّحَهُ الترمذيُّ) وقالَ: حسنٌ غريبٌ، وفي نسخةٍ صحيحٌ وهوَ منْ روايةٍ الحسنِ عنْ سَمُرةَ وفيها ما قدَّمْنا.
والشيخُ مَنِ استبانتْ فيهِ السنُّ أوْ مَنْ بلغَ خمسينَ سنةً أو إحدى وخمسينَ كما في "القاموسِ"
(1)
، والمرادُ هنا الرجالُ الشبان أهلُ الْجَلَدِ والقوةِ على القتالِ ولم يردِ الهرْمَى، ويُحْتَمَلُ أنهُ أُرِيدَ بالشيوخِ مَنْ كانُوا بِالِغِيْنَ مطْلقًا فَيُقْتَلُ، ومَنْ كانَ صغيرًا فلا يُقْتَلُ، فيوافقُ ما تقدَّمَ منَ النَّهْي عنْ قَتْلِ الصبيانِ، ويحتملُ أنهُ أُرِيْدَ بالشرخِ مَنْ كانَ في أولِ الشبابِ فإنهُ يُطْلَقُ عليهِ كما قالَ حسَّانٌ
(2)
:
إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرِ الأَسْـ
…
ــوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنُونا
فإنهُ يستبقى رجاءَ إسلامِهِ كما قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ: الشيخُ لا يكادُ يسلمُ، والشبابُ أقربُ إلى الإسلامِ، فيكونُ الحديثُ مخصوصًا بِمَنْ يجوزُ تقريرُه على الكفرِ بالجزيةِ.
المبارزة في الحرب
18/ 1197 - وَعَنْ عَليٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُمْ تَبَارَزوا يَوْمَ بَدْرٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(3)
، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُطَوَّلًا
(4)
. [صحيح]
(وعنْ عليٍّ كرمَ اللهُ وجْهَهُ أنَّهم تبارزوا يومَ بدرٍ. رواهُ البخاريُّ وأخرجَهُ أبو داودَ مُطَوَّلًا). وفي المغازي منَ البخاري عنْ عليٍّ كرَّمَ اللهُ وجْهَهُ أنهُ قالَ: أنا أولُ مَنْ يجثُو للخصومةِ يومَ القيامةِ، قالَ قيسٌ الراوي. وفيهمْ أُنْزِلَتْ:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}
(5)
، قالَ: همُ الذينَ تبارزُوا [يوم]
(6)
بدرٍ حمزةُ وعليٌّ وعبيدةُ بنُ الحارثِ رضي الله عنهم وشيبةُ بنُ ربيعةَ وعتبةُ بنُ ربيعةَ والوليدُ بنُ عتبةَ [لعنهم اللهُ]
(7)
،
(1)
"القاموس المحيط"(ص 325).
(2)
في شرح ديوان حسان بن ثابت لعبد الرحمن البرقوقي (ص 466).
• شرخ الشباب: أوله وقوته ونضارته.
• مَا لَمْ يعاص: أي ما لم يعص.
(3)
في صحيحه رقم (4744).
(4)
في "السنن" رقم (2665).
(5)
سورة الحج: الآية 19.
(6)
في (ب): "في".
(7)
زيادة من (أ).
وتفصيلُه ما ذكرَهُ ابنُ إسحاقَ أنهُ برزَ عبيدةُ لعتبةَ وحمزةُ لشيبةَ وعليٌّ للوليدِ.
وعندَ موسى بنِ عقبةَ: فَقَتَلَ عليٌّ وحمزةُ مَنْ بارزَاهُما، واختلفَ عبيدةُ ومَنْ بارزَهُ بضربتينِ فوقعتِ الضربةُ في ركبةِ عبيدةَ فماتَ منها لما رجعُوا بالصفراءِ. ومالَ عليٌّ وحمزةُ علَى مَنْ بارزَ عبيدةَ فَأَعَانَاهُ على قَتْلِه.
والحديثُ دليلٌ على جوازِ المبارزةِ وإلى [ذلكَ]
(1)
ذهبَ الجمهورُ. وذهبَ الحسنُ البصريُّ إلى عدمِ جوازِها وشرطَ الأوزاعيُّ والثوريُّ وأحمدُ وإسحاقُ إِذْنَ الأميرِ كما في هذهِ الروايةِ
(2)
.
الحمل على صفوف الكفار
19/ 1198 - وَعَنْ أَبي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، يَعْني قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
(3)
، قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ. رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ
(4)
، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
(5)
وَابْنُ حِبَّانَ
(6)
والحاكِمُ
(7)
. [صحيح]
(وعنْ أبي أيوبَ رضي الله عنه قالَ: إنَّما أُنْزِلتْ هذهِ الآيةُ فينا معشرَ الأنصارِ يعني: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) قَالَهُ ردًّا علي مَنْ) أنكرَ على مَنْ (حملَ على صفِّ الرومِ حتَّى دخلَ فيهمْ. رواهُ الثلاثة وصحَّحَه الترمذيُّ) وقالَ: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، (وابنُ
(1)
في (أ): "هذا".
(2)
انظر: "المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير"(10/ 387 - 388).
(3)
سورة البقرة: الآية 195.
(4)
الترمذي رقم (2972)، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(3/ 88)، وأبو داود رقم (2512).
(5)
في "السنن"(5/ 212) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(6)
رقم (1667 - موارد) بإسناد صحيح.
(7)
في "المستدرك"(2/ 275) على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
قلت: وأخرجه الطيالسي رقم (599)، والبيهقي (9/ 99)، والطبري رقم (3179) و (3180)، والطبراني في "الكبير" رقم (4060) من طرق
…
وخلاصة القول: أن الحديث صحيح.
حبانَ والحاكمُ) أخرجَه المذكورونَ منْ حديثِ أسلمَ بنِ يزيدَ أبي عمرَانَ قالَ: "كنَّا بالقسطنطينيةِ فخرجَ صفٌّ عظيمٌ منَ الرومِ فحملَ رجلٌ منَ المسلمينَ علَى صفِّ الرومِ حتَّى حصلَ فيهمْ ثمَّ رجعَ مقبلًا فصاحَ النَّاسُ، سبحانَ اللهِ أَلْقَى بيدهِ إلى التهلُكَةِ، فقالَ أبو أيوبَ: أيُّها النَّاسُ إنَّكم تُؤَوِّلُونَ هذهِ الآيةَ على هذا التأويلِ وإنَّما [أنزلت]
(1)
هذهِ الآيةُ فينا معشرَ الأنصارِ، إنا لما أعزَّ اللهُ [الإسلام]
(2)
وكَثُرَ ناصِرُوهُ قلْنا بينَنا سرًا: إنَّ أموالَنا قدْ ضاعتْ فلوْ أنا قمنا فيها وأصلحْنا ما ضاعَ منْها، فأنزلَ اللهُ تعالَى هذهِ الآيةَ، فكانتِ التهلُكةُ الإقامةَ التي أردْنا".
وصحَّ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه وغيرِه نحوُ [هذَا في تأويلِ](2) الآيةِ. قيلَ: وفيهِ دليلٌ على جوازِ دخولِ الواحدِ في صفِّ القتالِ ولوْ ظنَّ الهلاكَ.
قلتُ: أما ظنُّ الهلاكِ فلا دليلَ فيهِ إذْ لا يعرفُ ما كانَ ظنُّ مَنْ حملَ هنا، وكأنَّ القائلَ يقولُ إنَّ الغالبَ في واحدٍ يُحْمَلُ على صفٍّ كثير أنهُ يظنُّ الهلاكَ.
قالَ المصنفُ رحمه الله في مسألةِ حَمل الواحدِ على العددِ الكثيرِ منَ العدوِّ. إنهُ صرَّحَ الجمهورُ أنهُ إذا كانَ لفرطِ شجاعتِه وظنِّه أنهُ يرهبُ العدوَّ بذلكَ أوْ يجزئُ المسلمينَ عليهمِ أوُ نحوَ ذلكَ منَ المقاصدِ الصحيحةِ فهوَ حسنٌ، ومَتى كانَ مجرَّدَ تهوُّرٍ فممنوعٌ لا سيَّما [إذا]
(3)
ترتَّبَ على ذلكَ وَهْنُ المسلمينَ.
قلتُ: وأخرجَ أبو داودَ
(4)
منْ حديثِ عطاءِ بنِ السائبِ - قالَ ابنُ كثيرٍ ولا بأسَ بهِ - عنِ ابنِ مسعودٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَجِبَ ربُّنَا مِنْ رجلٍ غَزَا في سبيلِ اللهِ فانهزمَ أصحابُه فعلمَ ما عليهِ فرجعَ رغبةً فيما عندي [وشفقةً مما عندي]
(5)
حتَّى أُهْرِيْقَ دمُه". قالَ ابنُ كثيرٍ: والأحاديثُ والآثارُ في هذا كثيرةٌ تدلُّ
(1)
في (ب): "نزلت".
(2)
في (ب): "دينه".
(3)
في (ب): "إنْ".
(4)
في "السنن" رقم (2536). وفي إسناده (عطاء بن السائب) قال فيه أحمد: من سمع منه قديمًا فهو صحيح، ومن سمع منه حديثًا لم يكن بشيء، ووافقه على هذه التفرقة يحيى بن معين أيضًا كما في "المختصر" (3/ 382). قلت: وأخرجه أحمد مطولًا رقم (3949) وهو عنده وعند أبي داود من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، وحماد سمع من عطاء قبل تغيره، فالحديث صحيح - شاكر.
(5)
زيادة من سنن أبي داود.
على جوازِ المبارزةِ لمنْ عرفَ مِنْ نفسهِ بلاءً في الحروبِ وشدةً وسَطْوةً.
إتلاف أموال المحاربين
20/ 1199 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَّعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(وعنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قالَ: حرَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نخلَ بني النضيرِ وقطَعَ. متفقٌ عليهِ)، يدلُّ علَى جوازِ إفسادِ أموالِ أهلِ الحربِ بالتحريقِ والقطعِ لمصلحةٍ في ذلكَ، ونزلتِ الآيةُ:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ}
(2)
الآيةَ، قالَ المشركونَ: إنكَ تَنْهَى عن الفسادِ في الأرضِ فما بالُ قطعِ الأشجارِ وتحريقِها؟ قالَ في "معالمِ التنزيلِ"
(3)
: اللِّيْنَةُ فِعلةٌ منَ اللونِ ويُجْمَعُ على أَلوانٍ، وقيلَ منَ اللِّيْنِ ومعناهُ النخلةُ الكريمةُ وجَمْعُها لِيْنٌ، وقدْ ذهبَ الجماهيرُ إلى جوازِ التحريقِ والتخريبِ في بلادِ العدوِّ وكَرهَهُ الأوزاعيُّ وأبو ثورٍ واحتجَّا بأنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه وصَّى جيوشَهُ أنْ لا [يفعلُوا]
(4)
ذلكَ.
وأُجِيْبَ بأنهُ رأَى المصلحةَ في بقائِها؛ لأنهُ قدْ علمَ أنَّها تصيرُ للمسلمينَ، فأرادَ بقاءَها لهم وذلكَ يدورُ على ملاحظةِ المصلحةِ.
النهي عن الغلول
21/ 1200 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(5)
وَالنَّسَائِيُّ
(6)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(7)
. [حسن]
(1)
البخاري رقم (3021)، ومسلم رقم (1746).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2615)، وابن ماجه رقم (2845)، وأحمد (2/ 8، 52، 80، 123، 140).
(2)
سورة الحشر: الآية 5.
(3)
للإمام البغوي (8/ 71 - 72).
(4)
في (أ): "تفعلوا".
(5)
في "المسند"(5/ 318، 319 و 319 - 320، 322، 323، 324).
(6)
في "السنن"(7/ 131).
(7)
رقم (1693 - موارد). =
(وعنْ عبادةَ بنِ الصامتِ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا تغلُّوا فإنَّ الغُلُولَ) بضمِّ الغينِ المعجمةِ وضمِّ اللامِ (نارٌ وعارٌ على أصحابهِ في الدنيا والآخرةِ. رواهُ أحمدُ والنسائيُّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ). تقدَّم أنَّ الغُلولَ الخيانةُ في الغنيمة.
قالَ ابنُ قُتَيْبَةَ
(1)
: سُمِّيَ بذلكَ لأنَّ صاحبَه يغلُّه في متاعِهِ أي يُخْفيهِ، وهوَ منَ الكبائرِ بالإجماعِ كما نقلَه النوويُّ
(2)
، والعارُ الفضيحةُ، ففي الدُّنيا إذا ظهرَ افتضحَ بهِ صاحبُه، وأما في الآخرةِ فلعلَّ العارَ يفيدُه ما أخرجَه البخاريُّ
(3)
منْ حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: "قامَ فينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وذكرَ الغلولَ وعظَّم أمرَه فقالَ: لا ألفينَّ أحدَكم يومَ القيامةِ علَى رقبتهِ شاةٌ لها ثغاءٌ، على رقبتِه فرسٌ لهُ حَمْحَمَةٌ يقولُ: يا رسولَ اللهِ أغثْني فأقولُ: لا أملكُ لكَ شيئًا قدْ أبلغْتُكَ - الحديثُ"، وذكرَ فيهِ البعيرَ وغيره.
فإنهُ دلَّ الحديثُ علَى أنهُ يأتي الغالُّ بهذهِ الصفةِ الشنيعةِ يومَ القيامةِ على رؤوسِ الأشهادِ، فلعلَّ هذا هوَ العارُ يوم القيامة، ويحتملُ أنهُ شيءٌ أعظمُ منْ هذَا. ويُؤْخَذُ منْ هذا الحديثِ أنَّ هذا ذَنْبٌ لا يُغْفَرُ بالشفاعةِ لقولِه صلى الله عليه وسلم "لا أملكُ لكَ منَ اللهِ شيئًا"، ويحتملُ أنهُ أوردَه في محلِّ التغليظِ والتشديدِ، ويُحْتَمَلُ [أنهُ]
(4)
يُغْفَرُ لهُ بعدَ تشهيرهِ في ذلكَ الموقفِ.
والحديثُ الذي سُقْنَاهُ وردَ في خطابِ العاملينَ على الصدقاتِ، فدلَّ على أنَّ الغلولَ عامٌّ لكلِّ ما فيهِ حقٌّ للعبادِ وهوَ مشتركٌ بينَ الغالِّ وغيرِه.
فإنْ قلتَ: فهل يجبُ على الغالِّ ردُّ ما أخذَ.
قلتُ: قالَ ابنُ المنذرِ: إنَّهم أجمعُوا على أنَّ الغالَّ يعيدُ ما غلَّ قبلَ القسمةِ،
= قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1561)، وابن ماجه رقم (2852)، والطبري رقم (15654)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 20، 21، 57) من طرق، وهو حديث حسن، انظر:"الصحيحة" رقم (985).
(1)
في "غريب الحديث"(1/ 45).
(2)
في "شرح صحيح مسلم"(12/ 217).
(3)
في صحيحه رقم (3073). قلت: وأخرجه مسلم رقم (24/ 1831).
(4)
في (أ): "أن".
وأمَّا بعدَها فقالَ الأوزاعيُّ والليثُ ومالكٌ؛ يدفعُ إلى الإمامِ خمُسَهُ ويتصدقُ بالباقي، وكانَ الشافعيُّ لا يَرَى في ذلكَ، وقالَ: إنْ كانَ ملكَه فليسَ عليهِ أنْ يتصدَّق بهِ وإنْ لم يكن [ملكه]
(1)
فليسَ لهُ التَّصدقُ بمالِ [الغير]
(2)
، والواجبُ أنْ يدفَعَهُ إلى الإمامِ كالأموالِ الضائعةِ.
من قتل قتيلًا فله سلبه
22/ 1201 - وَعَن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بالسَّلبِ لِلقَاتلِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(3)
، وَأَصْلُهُ عِندَ مُسْلِمٍ
(4)
. [صحيح]
(وعنْ عوفِ بن مالكٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَي بالسلبِ للقاتلِ، رواهُ أَبو داودَ، وأصلُه عندَ مسلمٍ).
فيهِ دليلٌ على أن السلبَ الذي يُؤْخَذُ منَ العدوِّ الكافرِ يستحقّه قاتلُه سواءٌ قالَ الإمامُ قبلَ القتالِ: مَن قتلَ قتيلًا فلهُ سَلَبُهُ، أَوْ لا، وسواءٌ كانَ القاتل مُقْبِلًا أو مُنْهَزِمًا، وسواءٌ كانَ ممنْ يستحِقُّ السهمَ في المغنَمٍ أَوْ لا
(5)
، إذْ قولُه:"قَضَى بالسلبِ للقاتلِ" حُكْمٌ مُطْلَقٌ غيرُ مقيَّدٍ بشيءِ منَ الأشياءِ، قالَ الشافعيُّ: وقدْ حُفِظَ هذا الحكمُ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في مواطنَ كثيرة منْها يومَ بدرٍ، فإنه صلى الله عليه وسلم حكمَ بسلبِ أبي جهلٍ لمعاذِ بني الجموحِ لما كانَ هو المؤثِرُ في قتلِ أبي جهل، وكَذا في قَتْلِ حاطبِ بن أبي بلتعةَ لرجلٍ يومَ أُحُدٍ أعطاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سَلَبَهُ. رواهُ الحاكمُ
(6)
. والأَحاديثُ في هذا الحكمِ كثيرةٌ.
(1)
في (ب): "يملكه".
(2)
في (ب): "غيره".
(3)
في "السنن" رقم (2719).
(4)
في صحيحه رقم (1753).
(5)
كالمرأة والصبي والعبد
…
أخرجه البخاري رقم (3141)، ومسلم رقم (42/ 1752) من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(6)
في "المستدرك"(3/ 300 - 301) وسكت عليه الحاكم والذهبي. بينما قال في "سير أعلام النبلاء"(2/ 44): "إسناده مظلم"؛ لأن هارون بن يحيى قال العقيلي في "الضعفاء"(4/ 361): لا يتابع على حديثه، وأبو ربيعة مجهول.
وقولُه صلى الله عليه وسلم في يومِ حُنَيْنٍ: "مَنْ قَتَلَ قتيلًا فلهُ سلبُه"
(1)
، بعدَ القتالِ لا ينافي هذا بلْ هوَ مقرِّرٌ للحكمِ السابِقِ، فإنَّ هذا كانَ معلومًا عندَ الصحابةِ منْ قبلِ حُنَيْنٍ ولِذَا قالَ عبدُ اللَّهِ بنُ جحشٍ: اللهمَّ ارزُقني رجلًا شديدًا - إلى قولِه - أقتلُه وآخذُ سَلَبَهُ كما قدَّمناهُ قريبًا، وأما قولُ أبي حنيفةَ والهادويةِ إنهُ لا يكونُ السلبُ للقاتلِ إلا إذا قالَ الإمامُ قبلَ القتالِ مثلًا: مَنْ قتلَ قتيلًا فلهُ سلبُهُ، وإلَّا كانَ السَّلَبُ منْ جملةِ الغنيمةِ بينَ الغانمينَ فإنهُ قولٌ لا توافقُه الأدلةُ، قالَ الطحاويُّ: ذلكَ موكولٌ إلى رَأي الإمامِ فإنهُ صلى الله عليه وسلم أعطَى سَلَبَ أبي جهلٍ لمعاذِ بن الجموحِ بعدَ قولِه لهُ ولمشاركهِ في قَتْلهِ كِلَاكُما قَتَلَهُ لما أَرَيَاهُ سَيْفَيْهِمَا.
وأُجِيْبَ عنهُ بأنهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أعطاهُ معاذًا؛ لأنهُ الذي أَثَّر في قتلِه لمَّا رأَى عُمْقَ الجنايةِ في سيفهِ، وأما قولُه: كِلَاكُما قتلَه، فإنهُ قالَه تَطْيِيْبًا لنفسِ صاحبِهِ. وأما تخميسُ السَّلَبِ الذي يُعْطَاهُ القاتلُ فعمومُ الأدلةِ منَ الأحاديثِ قاضيةٌ بعدمِ تخميسهِ.
وبهِ قالَ أحمدُ وابنُ المنذرِ وابنُ جريرٍ، وآخرونَ كأنَّهم يخصِّصُونَ عمومَ الآيةِ بالأحاديث، فإنهُ أخرجَ حديثَ عوفِ بن مالكٍ أبو داودَ
(2)
وابنُ حِبَّانَ
(3)
بزيادةِ: "ولم يخمِّسِ السلبَ"، وكذلكَ أخرجَهُ الطبرانيُّ
(4)
.
واختلفُوا هل تلزمُ القاتلَ البيِّنَةُ على أنهُ قَتَلَ مَنْ يريدُ أَخذَ سَلَبه؟ فقالَ الليثُ والشافعيُّ وجماعةٌ منَ المالكيةِ إنهُ لا يُقْبَلُ قولُه إلَّا بالبينةِ لورودِ ذلكَ في بعضِ الرواياتِ بلفظِ: "مَنْ قَتَلَ قتيلًا لهُ عليهِ بيِّنةٌ فلهُ سَلَبَهُ"
(5)
، وقالَ مالك والأوزاعيُّ:
(1)
وهو جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (3142)، ومسلم رقم (41/ 1751) من حديث أبي قتادة.
(2)
في "السنن" رقم (2721).
(3)
في صحيحه رقم (4844).
قلت: وأخرجه سعيد بن منصور رقم (2698)، والبيهقي (6/ 26)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (1077)، وأحمد (6/ 26).
وهو حديث صحيح.
(4)
في "المعجم الكبير" (18/ 49 رقم
…
(86).
(5)
تقدم تخريجه من حديث أبي قتادة في التعليقة المتقدمة رقم (4).
يُقْبَلُ قولُه بلا بَيِّنَةٍ، قالُوا: لأنهُ صلى الله عليه وسلم قدْ قبلَ قولَ واحدٍ ولم يحلِّفْهُ بلِ اكْتَفَى بقولِه، وذلكَ في قصةِ معاذِ بن الجموحِ وغيرِها فيكونُ مخصِّصًا لحديثِ الدَّعْوى والبينةِ.
للإمام أن يعطي السلب لمن يشاء
23/ 1202 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه في - قِصَّةِ قَتْلِ أَبي جَهْلِ - قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتى قَتَلَاهُ، ثمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ:"أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيفَيكُمَا؟ " قَالَا: لَا، قَالَ: فَنَظَرَ فِيهِمَا فَقَالَ: "كِلاكُمَا قَتَلَهُ"، فَقَضَى صلى الله عليه وسلم بِسَلْبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ رضي الله عنه في قِصَّةِ قَتْلِ أبي جهلٍ) يومَ بدرٍ (قالَ فابْتَدَرَاهُ) أي تسابقا إليهِ (بسيْفَيْهِمَا) أي ابني عفراءَ - (حتَّى قَتَلَاهُ ثمَّ انْصَرَفَا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخبراهُ. فقالَ: أيُّكُمَا قتلَه؟ هلْ مسحْتُما سيفَكُما؟ قَالَا: لا، فنظرَ فيهِمَا) أي في سَيْفَيْهِمَا (فقالَ: كِلَاكما قتلَه فقضَى صلى الله عليه وسلم بِسَلَبِهِ لمعاذِ بن الجَموحِ) بفتحِ الجيمِ آخرَه حاءٌ مهملةٌ بِزِنَةِ فَعُولٍ (متفقٌ عليهِ).
استدلَّ بهِ على أن للإمامِ أنْ يعطيَ السَّلَبَ لِمَنْ شاءَ وأنهُ مفوَّضٌ إلى رأيهِ؛ لأنهُ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أن ابني عفراءَ قَتلا أبا جهلٍ ثمَ جعلَ سَلَبَهُ لغيرِهِما، وأُجِيْبَ عنهُ بأنهُ إنَّما حكمَ بهِ صلى الله عليه وسلم لمعاذِ بن عمرِو بن الجموحِ؛ لأنهُ رأَى أثرَ ضربتِه بسيفهِ هيَ المؤثرةُ في قَتْلِهِ لِعُمْقِها فأعطاهُ السلبَ، وطَيَّبَ قلبَ ابني عفراءَ بقولِه: كِلَاكُما قتلَه وإِلَّا فالجنايةُ القاتلةُ ضربةُ معاذِ بن عمرِو ونسبةُ القتلِ إليهما مجازٌ أيّ كِلَاكُما أرادَ قَتْلَه، وقرينةُ المجازِ إعطاءُ سَلَبِ المقتولِ [لأحدهما]
(2)
، وقدْ يُقَالُ هذا محلُّ النزاعِ.
يجوز قتل الكفار إذا تحصَّنوا بالمنجنيق
24/ 1203 - وَعَنْ مَكْحُولٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ
(1)
البخاري رقم (3141)، ومسلم رقم (1752).
(2)
في (ب): "لغيرها".
الطَّائِفِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ في الْمَرَاسِيلِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ
(1)
. [موقوف]
وَوَصَلَهُ الْعُقَيْلِي بِإِسْنَادٍ ضَعِيف
(2)
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. [موضوع]
ترجمة مكحول
(وعنْ مكحولٍ)
(3)
هوَ أبو عبدِ اللَّهِ مكحولُ بنُ عبدِ اللَّهِ الشامي كانَ منْ سَبْي كابُلٍ
(4)
، وكانَ مَوْلَى لامرأةٍ منْ قيسٍ وكانَ سنديا لا يفصحُ، وهوَ عالمُ الشامِ ولم يكنْ أبصرَ منهُ بالفُتْيَا في زمانِه، سمعَ مِنْ أنسِ بن مالك وواثلةَ وغيرِهمَا، ويرْوِي عنهُ الزهريُّ وغيرُه وربيعةُ الرأْي وعطاءُ الخراساني، ماتَ سنةَ ثمانِ عشرةَ ومائةٍ.
(أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نصبَ المنجنيقَ على أهلِ الطائفِ. أخرجَهُ أبو داودَ في "المراسيل" ورجالُه ثِقاتٌ، ووصلَه العقيليُّ بإسنادِ ضعيفِ عنْ عليٍّ عليه السلام، وأخرجَهُ الترمذيُّ عنْ ثورٍ روايةِ عن مكحولٍ ولمْ يذكرْ مكحولًا فكانَ مِنْ قِسْمِ المعضلِ
(5)
، قالَ السُّهَيْليُّ: ذكرَ الرمي بالمنجنيقِ الواقديُّ كما ذكرهُ مكحولٌ، وذكرَ أن الذي أشارَ بهِ سلمانُ الفارسي رضي الله عنه. وَرَوَى ابنُ أبي شيبةَ منْ حديثِ عبدِ اللهِ بن سنانٍ ومنَ حديثِ عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ أنهُ صلى الله عليه وسلم حاصرَهم خمسًا وعشرينَ ليلة ولم يذكرْ أشياءَ منْ ذلكَ.
وفي الصحيحينِ
(6)
منْ حديثِ ابن عمرَ حاصرَ أهلَ الطائفِ شَهْرًا. وفي
(1)
أبو داود في "المراسيل" رقم (335) ورجاله ثقات رجال الشيخين غير ثور وهو ابن يزيد الكلاعي، فإنه من رجال البخاري.
(2)
العقيلي في "الضعفاء"(2/ 244) من حديث علي. وفيه عبد اللَّهِ بن خراش قال عنه البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 1/ 80) منكر الحديث.
(3)
انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(5/ 155 - 160)، و"تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 113 - 114)، و"تهذيب التهذيب"(10/ 258)، و"النجوم الزاهرة"(1/ 272).
(4)
من ثغور خراسان، وهي اليوم عاصمة "أفغانستان" وتقع في شمال شرقي البلاد على نهر كابل.
(5)
المعضل: وهو ما سقَطَ من إسنادِه اثنان فصاعدًا. ومنه ما يرسله تابع التابعين.
"الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث"(1/ 167).
(6)
البخاري رقم (4325)، ومسلم رقم (82/ 1778)، وفيه حصار الطائف دون ذكر الشهر.
مسلمٍ
(1)
منْ حديثِ أنسٍ أن المدَّةَ كانتْ أربعينَ ليلةً. وفي الحديثِ دليل [على]
(2)
أنهُ يجوزُ قَتْلُ الكفَّارِ إذا تحصَّنُوا بالمنجنيقِ، ويُقَاسُ عليهِ غيرُه منَ المدافعِ وغيرها.
إقامة الحدود بالحرَم
25/ 1204 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأسِه الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخلَ مكَّةَ وعلى رأسهِ المِغْفَرُ) بالغينِ المعجمةِ ففاءٍ، في "القامَّوَسِ"
(4)
: المغفرُ كمِنْبَرٍ وبهاءٍ وككتابةٍ، زَرَدٌ منَ الدرعِ يُلْبَسُ تحتَ الْقَلَنْسُوَةِ، أوْ حِلَقٌ يتقنَّعُ بها المسلَّحُ، (فلما نزعَ المغفرَ جاءهُ رجلٌ فقالَ: ابن خَطَلٍ) بفتحِ الخاءِ المعجمةِ وفتحِ الطاءِ المهملةِ (متعلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ، فقالَ: اقتلُوه. متفقٌ عليهِ).
فيهِ دليلٌ علَى أنهُ صلى الله عليه وسلم دخلَ مكّةَ غيرَ مُحرِم يومَ الفتحِ؛ لأنهُ دخلَ مقاتلًا، ولكنه يختصُّ بهِ ذلكَ، فإنهُ محرَّمٌ القتالُ فيها كما قالَ صلى الله عليه وسلم:"وإنَّما أُحِلَّتْ لي ساعةً منْ نهارٍ" الحديثَ، وهوَ متفقٌ عليهِ
(5)
.
وأما أمرُهُ صلى الله عليه وسلم بِقتلِ ابن خَطَلٍ، وهوَ أحدُ جماعةٍ تسعةٍ أمرَ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِمْ ولوْ
(1)
في صحيحه رقم (136/ 1059).
(2)
زيادة من (أ).
(3)
البخاري رقم (3044)، ومسلم رقم (1357).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2685)، والترمذي رقم (1693).
وابن ماجه رقم (2805)، ومالك (2/ 938 رقم 2805)، والنسائي (5/ 200، 201) وغيرهم.
(4)
"القاموس المحيط"(ص 580).
(5)
البخاري رقم (4295)، ومسلم رقم (1354).
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (809)، والنسائي (5/ 204، 205، 206)، وأحمد (4/ 31، 32) من حديث أبي شريح.
• وأخرجه مسلم رقم (1353)، والنسائي (5/ 203) من حديث ابن عباس.
• وأخرجه مسلم رقم (1355) من حديث أبي هريرة.
تعلَّقُوا بأستارِ الكعبةِ فأسلَم منهمْ ستةٌ وقتلَ ثلاثةً منْهم ابنُ خَطَلٍ. وكانَ ابنُ خَطَلٍ قدْ أسلَم فبعثَه النبي صلى الله عليه وسلم مصدِّقًا وبعثَ معهُ رجلًا منَ الأنصارِ وكانَ معهُ مولَى يخدمُهُ مسلِمًا فنزلَ منزلًا وأمرَ مولاهُ أنْ يذبحَ لهُ تَيْسًا ويصنعَ لهُ طعامًا، فنامَ فاستيقظَ ولمْ يصنعْ لهُ شيئًا فعدَا عليهِ فقتلَه ثمَّ ارتدَّ مشرِكًا، وكانتْ له قينتانِ [تغنيانِه]
(1)
بهجاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأمرَ بِقَتْلِهِمَا معهُ فَقُتِلَتْ إحدَاهُما واستُؤْمِنَ للأُخْرَى فأمَّنَها، قالَ الخطابيُّ
(2)
: قتلَه صلى الله عليه وسلم بحقِّ ما جَنَاهُ في الإسلامِ، فدلَّ على أن الحرمَ لا يعصمُ مِنْ إقامةِ واجبٍ ولا يؤخِّرُهُ عنْ وقْتِهِ، انتَهى.
وقدِ اختلفَ الناسُ في هذا، فذهبَ الشافعيُّ ومالكٌ إلى أنهُ يستوفي الحدودَ والقصاصَ بكلِّ مكانٍ وزمانٍ لعمومِ الأدلةِ ولهذِه القصةِ، وذهبَ الجمهورُ منَ السلفِ والخلَفِ وهوَ قولُ الهادويةِ إلى أنهُ لا يستوفى [في مكة]
(3)
حدٌّ لقولِه تعالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}
(4)
ولقولِهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يُسْفَكُ بها دمٌ"
(5)
، [وأجيب]
(6)
عما احتجَّ بهِ الأولونَ بأنهُ لا عمومَ للأدلةِ في الزمانِ والمكانِ بلْ هيَ مطلقاتٌ مقيدةٌ بما ذكرْنَا منَ الحديثِ وهوَ متأخّرٌ، فإنهُ في يومِ الفتحِ بعدَ شرعيةِ الحدودِ، وأما قتلُ ابنُ خَطَلٍ ومَنْ ذكرَ معهُ فإنهُ كانَ في الساعةِ التي أُحِلَّتْ فيها مكةُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم واستمرتْ منْ صبيحةِ يومِ الفتحِ إلى العصرِ، وقدْ قُتِلَ ابنُ خَطَلٍ وَقْتَ الضّحَى بينَ زمزمٍ والمقامِ.
وهذا الكلامُ فيمنِ ارتكبَ في غيرِ الحرمِ ثمَّ التجأَ إليهِ، وأما إذا ارتكبَ إنسانٌ في الحرم ما يوجبُ الحدَّ فاختلفَ القائلونَ بأنهُ لا يُقَامُ فيهِ حدٌّ، فذهبَ بعضُ الهادويةِ أَنهُ يُخْرَجُ منَ الحرمِ ولا يُقَامُ عليهِ الحدُّ وهوَ فيهِ، وخالفَ ابنُ عباسٍ فقالَ: مَنْ سرقَ أوْ قَتَلَ في الحرمِ أُقِيمَ عليهِ الحد في الحرمِ. رواهُ أحمدُ
(7)
عنْ طاوسٍ عن ابن عباسٍ وذكرَ الأثرمُ عن ابن عباسٍ أيضًا: "مَنْ أحدثَ حَدَثًا
(1)
في (أ): "يغنيان".
(2)
في "معالم السنن"(3/ 135 - هامش السنن).
(3)
في (ب): "فيها".
(4)
وهو جزء من الحديث السابق وقد تقدم تخريجه.
(5)
في (ب): "وأجابوا".
(6)
سورة آل عمران: الآية 97.
(7)
لم أعثر عليه؟!.
في الحرمِ أُقيْمَ عليهِ ما أحدثَ فيهِ منْ شيء"، واللَّهُ تعالَى يقولُ:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}
(1)
، وفرَّقُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الملتجئِ إليهِ بأنَّ الجاني فيهِ هاتكٌ لِحُرْمَتِهِ والملتجئُ معظّمٌ لها، ولأنهُ لو لم يقمِ الحدَّ علَى مَنْ جَنَى فيهِ منْ أهلهِ لعظُمَ الفسادُ في الحرم وأدَّى إلى أن مَنْ أرادَ الفسادَ قصدَ الحرمَ ليسكُنه وفعلَ فيهِ ما [تتقاضاهُ]
(2)
شهوتُه.
وأما الحدُّ بغيرِ القتلِ فيما دونَ النفسِ منَ القصاصِ ففيهِ خلافٌ أيضًا، فَذَهَبَ أحمدُ في روايةٍ عنه أنهُ يستوفى لأنَّ الأدلةَ إنَّما وردتْ فيمَنْ سفكَ الدمَ وإنَّما ينصرفُ إلى القتلِ ولا يلزمُ مِنْ تحريْمِهِ في الحرمِ تحريمُ ما دونَه لأنَّ حُرْمَةَ النفسِ أعظمُ والانتهاكُ بالقتلِ أشدُّ، ولأنَّ الحدَّ فيما دونَ النفسِ جارٍ مَجْرَى تأديبِ السيِّدِ عبدَه فلا يمنعْ منهُ. وعنهُ روايةٌ [أخرى]
(3)
بعدمِ الاستيفاءِ لشيء عملًا بعمومِ الأدلةِ. ولا يخْفَى أن الحكمَ للأخصِّ حيثُ صحَّ أن سفْكَ الدَّمِ لا ينصرفُ إلَّا إلى القتلِ.
قلتُ: ولا يخْفَى أنَّ الدليلَ قاض بالقتلِ، والكلامُ مِنْ أَولهِ في الحدودِ فلا بدَّ منْ حَمْلِها على القتلِ، إذْ حدُّ الزِّنَى غيرُ الرجمِ وحدُّ الشُّربِ والقذفِ يُقَامُ عليهِ.
القتل صبرًا
26/ 1205 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَة صَبْرًا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ في الْمَرَاسِيلِ، وَرِجَالُهُ ثِقَات
(4)
. [سنده صحيح]
ترجمة سعيد بن جبير
(وعنْ سعيدِ بن جبير رضي الله عنه)
(5)
هوَ أبو عبدِ اللَّهِ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ بضمِّ الجيمِ وفتحِ الباءِ الموحدةِ فمثناةٍ فراءٍ، الأسديُّ مولَى بني والبةَ بطنٌ منْ بني أسدِ بن
(1)
سورة البقرة: الآية 191.
(2)
في (أ): "اقتضى".
(3)
زيادة من (أ).
(4)
في "المراسيل" رقم (337). زياد بن أيوب: ثقة من رجال مسلم، ومن فوقه من رجال الشيخين.
(5)
انظر ترجمته في: "الجمع بين رجال الصحيحين"(1/ 164)، و"الكاشف"(1/ 282)، و"تذكرة الحفاظ"(1/ 76)، و"تهذيب التهذيب"(4/ 11 - 13) وذكر أسماء التابعين (1/ 147).
خزيمةَ، كوفيٌّ أحدُ أعلام التابعينَ. سمعَ ابنَ مسعودٍ وابنَ عباسٍ وابنَ عمرَ وابنَ الزبيرِ وأنسًا وأخذَ عنهُ عمرُو بنُ دينارٍ وأيوبُ. قتلَه الحجاجُ سنةَ خمسٍ وتسعينَ في شعبانَ منْها، وماتَ الحجاجُ في رمضانَ منَ السنةِ المذكورةِ.
(أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قتلَ ثلاثة يوم بدر صبرًا) في "القاموس"
(1)
: صَبْرُ الإنسانِ وغيرِه على القتلِ أنْ يُحْبَسَ ويُرْمَى حتَّى يموتَ، وقدْ قتلَه صَبْرا وصبَّره عليهِ، ورجلُ صبورةٌ مصبورٌ للقتلِ، انتَهى.
(أخرجَه أبو داودَ في "المراسيل" ورجالُه ثِقَاتٌ)، والثلاثةُ همْ: طُعَيْمَةُ بنُ عديّ، والنضرُ بنُ الحارثِ، وعقبةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ، ومَنْ قالَ بدلَ طعيمةَ المطعِمَ بنَ عديّ فقدْ صحَّفَ كما قالَه المصنفُ.
وهذا دليلٌ علَى جوازِ قَتْلِ الصبْرِ، إلَّا أنهُ قدْ رُوِيَ عنهُ صلى الله عليه وسلم برجالٍ ثقاتٍ وفي بعضِهم مقالٌ:"لا يُقْتَلَنَّ قرشيٌّ بعدَ هذا صبْرًا"
(2)
، قالَه صلى الله عليه وسلم بعدَ قَتْلِ ابن خَطَلٍ يومَ الفتحِ.
جواز مفاداة المسلم الأسير بأسير من المشركين
27/ 1206 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَى
رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلِ مُشْرِكٍ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ
(3)
، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ
(4)
. [صحيح]
(1)
"القاموس المحيط"(ص 541).
(2)
أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (1653)، والبزار (3/ 181 - كشف) مختصرًا.
من حديث الزبير بن العوام.
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 99) وقال: وفي إسناد الطبراني أبو خيثمة مصعب بن سعد، وفي إسناد البزار عبد اللهِ بن شبيب، وكلاهما ضعيف.
• وأخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (4243) عن السائب بن يزيد. وأورده الهيثمي في "مجمع البحرين"(5/ 123 رقم 2792) وقال: "تفرد به أبو معشر".
• وأخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (6028) من حديث ابن مُطيع عن أبيه وقال: تفرد به سليمان بن عمر بن خالد.
(3)
في "السنن" رقم (1568) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4)
في صحيحه رقم (1641).
(وعنْ عِمرانَ بن حصينٍ رضي الله عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَيْنِ منَ المسلمينَ برجلٍ مشركٍ. أخرجَهُ الترمذيُّ وصحَّحَهُ وأصلُه عندَ مسلمٍ)، فيهِ دليلٌ علَى جوازِ مُفَاداةِ المسلمِ الأسيرِ بأسيرٍ منَ المشركينَ، وإلى هذا ذهبَ الجمهورُ.
وقالَ أبو حنيفةَ: [لا تجوزُ]
(1)
المفاداةُ ويتعيَّنُ إما قتلُ الأسيرِ أوِ اسْتِرْقَاقُهُ.
وزادَ مالكٌ أو مفاداتُهُ بأسيرٍ.
وقالَ صاحِبا أبي حنيفةَ: تجوزُ المفاداةُ بغيرِ، أو بمالٍ أو قتلِ الأسيرِ أو استرقاقِهِ، وقدْ وقعَ منهُ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ الأسيرِ كما في قصةِ عقبةَ بن أبي معيطٍ
(2)
، وفداؤُه بالمالِ كما في أَسَارَى بدرٍ
(3)
، والمنُّ عليهِ كما مَنَّ على أبي غرةَ يومَ بدرٍ على أنْ لا يقاتِلَ فعادَ إلى القتالِ يومَ أُحُدٍ فأسرَهُ وقتلَه وقالَ في حقِّه:"لا يُلْدَغُ المؤمنُ منْ جُحْرٍ مرتينِ"
(4)
، والاسترقاقُ وقعَ منهُ صلى الله عليه وسلم لأهلِ مكةَ ثمَّ أعتقَهم
(5)
.
من أسلم من الكفار حرم دمه وماله
28/ 1207 - وَعَنْ صَخْرِ بْنِ الْعَيْلَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ
(6)
. [سنده ضعيف]
(1)
في (أ): "لا يجوز".
(2)
انظر: "سيرة ابن هشام"(2/ 347).
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (2691) عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة". وفي سنده أبو العنبس وهو مقبول كما قال الحافظ في "التقريب" (1/ 304 رقم 245). وأخرجه الطبراني في "الصغير" (1/ 233 - الروض الداني) وفيه الواقدي وهو ضعيف، انظر: "مجمع الزوائد" (6/ 90)، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" (3/ 140) باختلاف من طريق أبي داود حيث قال: أربع مائة دينار. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (11/ 406، 407 رقم 12154)، و"الأوسط" ورجاله رجال الصحيح، انظر: "المجمع" (6/ 89).
والخلاصة: أن الحديث حسن، واللَّهُ أعلم.
(4)
أخرجه البخاري رقم (6133)، ومسلم رقم (2998)، وأبو داود رقم (4862)، وابن ماجه رقم (3982) من حديث أبي هريرة.
(5)
ابن سعد في "الطبقات"(2/ 141 - 142) بسند منقطع، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" وفي سنده عبد اللَّهِ بن المؤمل وهو ضعيف.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف.
(6)
"السنن" رقم (3067) بسند ضعيف.
ترجمة صخر بن أبي العيلة
(وعنْ صخرِ)
(1)
بالصادِ المهملةِ فخاءٍ معجمةٍ ساكنةٍ فراءٍ (ابن العيلةِ) بالعينِ المهملةِ مفتوحةً وسكونِ المثناةِ التحتيةِ، ويُقَالُ ابنُ أبي العيلةِ، عِدادُه في أهلِ الكوفةِ وحديثُه عندَهم، رَوَى عنهُ عثمانُ بنُ أبي حازمٍ وهوَ ابنُ ابنِه (أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: إن القومَ إذا أسلمُوا أحرزُوا دماءَهم وأموالَهم. أخرجَه أبو داودَ ورجالُه موثقونَ).
وفي معناهُ الحديثُ المتفقُ عليهِ: "أُمِرْتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتَّى يقولُوا: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، فإذا قالُوها أحرزُوا دماءَهم وأموالَهم"
(2)
، الحديثَ.
(1)
انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (4069)، و"أسد الغابة" رقم (2490)، "والاستيعاب" رقم (1212)، و"الوافي بالوفَيات"(16/ 289).
(2)
وهو حديث متواتر وله طرق عن أبي هريرة.
1 -
سعيد بن المسيب، عنه:
أخرجه مسلم (33/ 21)، والنسائي (6/ 4 - 655، 7)، وابن حبان (1/ 220 رقم 218)، والطبراني في "الأوسط"(2/ 158 رقم 1294) والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 213) وابن منده في "الإيمان"(1/ 162 رقم 23) و (1/ 359 رقم 199)، و (1/ 360 رقم 200) من طريق الزهري، عنه.
قال ابن منده (1/ 163): "هذا حديث غريب من حديث الزهري، عن سعيد عن أبي هريرة، رواه جماعة عنه غير يونس، فيهم مقال".
2 -
عبيد اللهِ بن عبد الله بن عتبة، عنه:
أخرجه البخاري (1399) و (6924) و (7284، 7285)، ومسلم (32/ 20)، وأبو داود (1556)، والنسائي (5/ 14 - 15)، (6/ 5)، والترمذي (2607) وقال حديث حسن صحيح، وأحمد (2/ 423 - 528)، وأبو عبيد في "الأموال"(ص 23 رقم 44 و 46)، والطبراني في "الأوسط"(1/ 512 رقم 945)، وابن منده في "الإيمان" (1/ 164 رقم 24) و (1/ 380 رقم 215) و (1/ 382 رقم 216) من طريق الزهري عنه قال ابن منده (1/ 165):"هذا إسناد مجمع على صحته من حديث الزهري، وعنه مشهور".
3 -
أبو صالح، عنه:
أخرجه مسلم (35/ 21)، وأبو داود (2640)، والترمذي (2606) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (3927)، وأحمد (2/ 377)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 213)، وابن منده (1/ 166 رقم 26)، (1/ 168 رقم 28).
4 -
أبو صالح مولى التوأمة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 475) من طريق سفيان عنه، وسنده حسن في المتابعات.
5 -
الأعرج، عنه: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أخرجه الطحاوي (3/ 213) عن أبي الزناد، عنه.
6 -
أبو سلمة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 502)، والشافعي في "السنن المأثورة"(ص 432 رقم 643)، وأبو عبيد في "الأموال"(ص 23 رقم 43)، والطحاوي (3/ 213)، والبغوي (1/ 65 - 66) من طريق محمد بن عمرو، عنه: وسنده حسن.
7 -
عبد الرحمن بن يعقوب، عنه:
أخرجه مسلم (34/ 21)، وابن حبان (1/ 199 رقم 174) و (1/ 221 رقم 220)، وابن منده (1/ 358 رقم 196 و 197، 198)، والدارقطني (2/ 89 رقم 4).
8 -
أبو حازم، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 527) من طريق يزيد بن كيسان، عنه. وسنده صحيح.
9 -
همام بن منبه، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 314)، وابن منده في "الإيمان"(1/ 167 رقم 27)، والبغوي (1/ 65).
10 -
عبد الرحمن بن أبي عمرة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 482) من طريق هلال بن علي، عنه.
11 -
مجاهد بن جبر، عنه:
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 306) من طريق ليث بن أبي سليم عنه وقال: "هذا حديث صحيح غريب ثابت من طرق كثيرة. وحديث مجاهد عن أبي هريرة غريب من حديث ليث، لم نكتبه إلا من هذا الوجه" اهـ.
قلت: وليث بن أبي سليم ضعيف. ["الميزان" (3/ 420)، "والمجروحين" (2/ 231 - 234)، و"الجرح والتعديل" (7/ 177، 179)].
12 -
كثير بن عبيد، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 345)، وابن خزيمة (4/ 8 رقم 2248)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 35 - 36)، والدارقطني (1/ 231 رقم 1) و (2/ 89 رقم 3)، والحاكم (1/ 387) من طريق سعيد بن كثير عن أبيه وسنده حسن في "المتابعات"، وسعيد بن كثير متكلم فيه ولكن تابعه عبد اللهِ بن دكين، عن كثير بن عبيد.
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(4/ 1542).
وعبد اللهِ بن دُكَين، وثقه أحمد، وقال ابن معين:"لا بأس به" وضعَّفه في رواية، وكذا أبو زرعة الرازي. ["الميزان" (2/ 417 رقم 4296)] فالسند صحيح بمجموع الطريقين.
13 -
ابن الحنفية عنه:
أخرجه الخطيب في "التاريخ (12/ 201) من طريق منذر الثوري، عنه وسنده تالف.
وفيه: عمرو بن عباد الغفار الفقيمي. قال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال ابن عدي: اتهم بوضع الحديث. ["الميزان" (3/ 272 رقم 6403)].=
وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ مَنْ أسلمَ مِنَ الكفارِ حَرُمَ دمُهُ ومالُه وللعلماءِ تفصيلٌ في ذلكَ، قالُوا: مَنْ أسلمَ طَوْعًا مِنْ غير قتالٍ مَلَكَ مالَه وأرضَه وذلكَ كأرضِ اليمنِ، وإنْ أسلمُوا بعدَ القتالِ فالإسلامُ قدْ عصَمَ دماءَهم، وأما أموالُهم فالمنقولُ غنيمةٌ وغيرُ المنقولِ فيءٌ.
ثمَّ اختلفَ العلماءُ في هذهِ الأرضِ التي صارتْ فيئًا للمسلمينَ على أقوالٍ: الأولُ: لمالكٍ
(1)
ونصرَهُ ابنُ القيمِ أنَّها تكونُ وقْفًا يُقْسَمُ خراجُها في مصالحِ المسلمينَ وأرزاقِ المقاتِلَةِ وبناءِ القناطرِ والمساجدِ وغيرِ ذلكَ منْ سُبُلِ الخيرات، إلَّا أنْ يَرَى الإمامُ في وقْتٍ منَ الأوقاتِ أنَّ المصلحةَ في قِسْمَتِها كانَ لهُ ذلكَ، قالَ ابنُ القيمِ
(2)
: وبهِ قالَ جمهورُ العلماءِ وكانتْ عليهِ سيرةُ الخلفاءِ الراشدينَ ونازعَ في ذلكَ بلالٌ وأصحابُه وقالُوا لعمرَ: اِقسمِ الأرضَ التي فتحُوها في الشامِ، وقالُوا لهُ: خذْ خُمُسَها واقْسِمْها.
فقالَ عمرُ: هذا غيرُ المالِ ولكنْ أحبِسُه فيئًا يجري عليكمْ وعلى المسلمينَ، ثمَّ وافقَ سائرُ الصحابةِ عمرَ رضي الله عنه.
=14 - زياد بن الحارث، عنه:
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 367) من طريق ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف - عنه، وقد اختلف في زياد هذا.
15 -
الحسن البصري، عنه:
أخرجه الدارقطني (2/ 89 رقم 20)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 159) و (3/ 25) وسنده ضعيف.
16 -
عجلان المدني، عنه:
أخرجه الطحاوي (3/ 203) من طريق محمد بن عجلان، عنه. وسنده صحيح، قلت: وللحديث شواهد كثيرة - فهو متواتر - عن جماعة من الصحابة كأنس وابن عمر، وجابر، وأوس بن أبي أويس، وجرير بن عبد اللهِ، وأبو بكرة والنعمان بن بشير، وابن عباس، وأبي مالك الأشجعي، وسهل بن سعد.
وانظر: "قطف الأزهار المتناثرة" للسيوطي (ص 34 - 35)، و"نظم المتناثر من الحديث المتواتر" للكتاني (ص 29 رقم 9).
(1)
انظر: "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (ص 167 - 168).
(2)
انظر: "زاد المعاد"(3/ 117 - 119).
وكذلكَ جَرَى في فتوحِ مصرَ والعراقِ وأرضِ فارسَ وسائرِ البلادِ التي فتحُوها عُنْوَةً، فلمْ يقسمْ منها الخلفاءُ الراشدونَ قريةً واحدةً: ثمَّ قالَ: ووافقَهُ على ذلكَ جمهورُ الأئمةِ وإن اختلفُوا في كيفيةِ بقائِها بلا قسمةٍ، فظاهرُ مذهبِ [الإمامِ]
(1)
أحمدَ وأكثرُ نصوصِه أن الإمامَ مخيَّرٌ فيها تخييرَ مصلحةٍ لا تخييرَ شهوةٍ، فإنْ كانَ الأصلحُ للمسلمينَ قسمتُها قسمَها، وإنْ كانَ الأصْلَحُ أنْ يقفَها على المسلمينَ وقَفَها عليهمْ، وإنْ كانَ الأصلحُ [ترك] البعضِ ووقْفَ البعضِ فَعَلَه. فإنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فعلَ الأقسامَ الثلاثةَ، فإنهُ قسمَ أرضَ قريظةَ والنضيرِ وتركَ قسمةَ مكةَ وقسمَ بعضَ خيبرَ وتركَ بعضَها لما ينوبُه منْ مصالحِ المسلمينَ.
وذهبَ الهادويةُ إلى أن الإمامَ مخيَّرٌ فيها بينَ الأصْلحِ منَ الأربعةِ الأشياءِ: إما القسمُ بينَ الغانمينَ، أو يتركُها لأهلِها على خراجٍ، أو يتركُها على معاملةٍ منْ غِلَّتها، أو يمنُّ بها عليهم. قالُوا: وقدْ فعلَ مثلَ ذلكَ النبي صلى الله عليه وسلم.
معرفة الجميل لأهله
29/ 1208 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ في أُسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي في هؤُلاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(2)
. [صحيح]
ترجمة جبير بن مطعم
(وعنْ جبيرٍ)
(3)
بالجيمِ والموحدةِ والراءِ مصغَّرًا (ابن مطعمٍ) بِزِنَةِ اسمِ الفاعلِ أي ابن عديٍّ. وجبيرٌ صحابيٌّ [كان عارفًا]
(4)
بالأنسابِ. [قيل إنه أخذ ذلك عن أبي بكر، وكانت وفاته]
(5)
سنةَ ثمانٍ أو تسع وخمسينَ (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في
(1)
زيادة من (ب).
(2)
في صحيحه رقم (3139).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2689).
(3)
انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (1094)، و"تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 146)، و"أسد الغابة" رقم (698)، و"الاستيعاب" رقم (315)، و"العقد الثمين"(3/ 408).
(4)
زيادة من (أ).
(5)
زيادة من (أ).
أُسَارى بدرٍ: لوْ كانَ المطعمُ بنُ عديٍّ) هوَ والدُ جبيرٍ [المذكور هنا حيًا]
(1)
(ثمَّ كلَّمَني في هؤلاءِ النَّتْنَى) جمعُ نتنِ
(2)
بالنونِ والمثناةِ الفوقيةِ (لتركتُهم لهُ. رواهُ البخاريُّ).
المرادُ بهم أُسَارَى بدرٍ وصفَهم بالنتنِ لما همْ عليهِ منَ الشركِ كما وصفَ اللَّهُ تعالَى المشركينَ بالنجسِ
(3)
، والمرادُ: لو طلبَ مني تَرْكَهم وإطلاقَهم منَ الأسرِ بغيرِ فداءٍ لفعلتُ ذلكَ مكافأةً لهُ على يدٍ لهُ عندَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وذلكَ أنهُ صلى الله عليه وسلم لما رجعَ منَ الطائفِ دخلَ صلى الله عليه وسلم في جوارِ المطعمِ بن عديٍّ إلى مكةَ، فإنَّ المطعِمَ بنَ عديٍّ
(4)
أمرَ أولادَه الأربعةَ فلبسُوا السلاحَ وقامَ كل واحدٍ منْهم عندَ ركن منَ الكعبةِ، فبلغَ ذلكَ قريشًا فقالُوا لهُ: أنتَ الرجلُ الذي لا تُخْفَرُ ذِمَّتُكَ، وقيلَ: إنَّ اليدَ التي كانتْ لهُ أنهُ أعظمُ مَنْ سَعَى في نقضِ الصحيفةِ
(5)
التي كتبتْها قريش في قطيعةِ بني هاشمٍ ومَنْ مَعَهُم منَ المسلمينَ حينَ حَصَرُوهم في الشِّعْبِ.
وكانَ المطعِمُ قدْ ماتَ قبلَ وقعةِ بدر كما رواهُ الطبراني.
وفيهِ دليلٌ على أنهُ يجوزُ تركُ أَخْذِ الفداءِ منَ الأسيرِ والسماحةِ بهِ لشفاعةِ رجلٍ عظيمٍ وأنهُ يُكَافَأُ المحسنُ وإنْ كانَ كافِرًا.
لا توطأ مسبية حتى تستبرأ أو تضع
30/ 1209 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَتَحَرّجُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(6)
الآية. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(7)
. [صحيح]
(1)
زيادة من (أ).
(2)
نَتن: بفتح النون وسكون المثناة الفوقية. كما في "مختار الصحاح"(ص 269).
(3)
يشير المؤلف إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
(4)
أخرج حديث دخول الرسول صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي بن سعد في "الطبقات"(1/ 212) من طريق الواقدي وهو ضعيف. والخلاصة: أنَّ الحديث ضعيف.
(5)
انظر: "سيرة ابن هشام"(2/ 16 - 25).
(6)
سورة النساء: الآية 24.
(7)
في صحيح رقم (1456).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2155)، والترمذي رقم (1132)، والنسائي (6/ 110).
(وعنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قالَ: أصبْنَا سبايا يومَ أوطاسٍ لهن أزواجٌ فتحرَّجُوا، فأنزلَ اللَّهُ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(1)
الآيةَ. أخرجَهُ مسلمٌ قالَ أبو عبيدٍ البكريِّ أوطاسٌ وادٍ في ديارِ هوازنَ.
والحديثُ دليلٌ على انفساخِ نكاحِ المسبيةِ، فالاستثناءُ في الآية على هذا متصلٌ.
وإلى هذا ذهبتَ الهادويةُ والشافعيُّ، وظاهرُ الآية الإطلاقُ سواءٌ سُبِيَ معَها زوجُها أم لا. ودل أيضًا على جوازِ الوطْءِ ولو قبلَ إسلامِ المسبيةِ سواءٌ كانت كتابيةً أو وثنيةً، إذِ الآيةُ عامةٌ ولم يعلمْ أنهُ صلى الله عليه وسلم عرضَ على سَبَايا أوطاسٍ
(2)
الإسلامَ ولا أخبرَ أصحابَهُ أنَّها لا تُوطَأُ مسبيةٌ حتَّى تُسْلِمَ، معَ أنهُ لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ.
ويدلُّ لِهَذَا ما أخرجَهُ الترمذيُّ
(3)
منْ حديثِ العرباضِ بن ساريةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "حرَّمَ وطءَ السبايا حتَّى يضعْنَ ما في بطونِهِنَّ"، فجعلَ للتحريمِ غايةً واحدةً وهيَ وضعَ الحمْلِ، ولمْ يذكرِ الإسلامَ، وما أخرجَهُ في "السنن"
(4)
مرفُوعًا: "لا يحل لامرئٍ يؤمنُ باللَّهِ واليوم الآخرِ أنْ يقعَ على امرأةٍ منَ السَّبْي حتَّى يستبرئَها"، ولمْ يذكرِ الإسلامَ، أخرجَه أَحمدُ
(5)
.
وأخرجَ أحمدُ
(6)
أيضًا: "مَنْ كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ [فلا ينكحُ]
(7)
شيئًا منَ السبايا حتَّى تحيضَ حيضةً"، ولم يذكرِ الإسلامَ، ولا يعرفُ اشتراطُ الإسلامِ في المسبيَّةِ في حديثٍ واحدٍ.
وقدْ ذهبَ إلى هذَا طاوسُ وغيرُه. وذهبَ الشافعيُّ وغيرُهُ منَ الأئمةِ إلى أنهُ لا يجوزُ وَطْءُ المسبيةِ بالملْكِ حتَّى تُسْلِمَ إذا لم تكنْ كتابيةً، وسَبَايا أوطاسٍ هنَّ
(1)
النساء: الآية 24.
(2)
أوطاس: واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين للنبي صلى الله عليه وسلم ببني هوازن. "معجم البلدان"(1/ 281).
(3)
في "السنن رقم (15640) وقال: حديث غريب. قلت: هو حديث صحيح بشواهده.
(4)
أخرجه أبو داود رقم (2158)، والترمذي رقم (1131) وقال: حديث حسن وهو كما قال من حديث رُويفع بن ثابت الأنصاري.
(5)
في "المسند"(4/ 108 - 109).
(6)
في "المسند"(4/ 108) من حديث رويفع أيضًا.
(7)
في (أ): "لا ينكحن".
وثنياتٌ فلا بدَّ عندَهم منَ التأويلِ بأنَّ حِلَّهُنَّ بعدَ الإسلامِ، ولا يتم ذلكَ إلا لمجردِ الدعْوى وقد عرفتَ أنهُ لم يأتِ دليلُ شَرطيهِ الإسلامِ.
تنفيل المجاهدين بعد قسمة الفيء
31/ 1210 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً وَأَنَا فِيهِمْ، قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُم اثْنَى عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفلوا بَعِيرًا بَعِيرًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: بعثَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سريةً) بفتحِ السينِ المهملةِ وكسرِ الراءِ وتشديدِ الياءِ (وأنا فيهمْ قِبَلَ) بكسرِ القافِ وفتحِ الباءِ الموحدةِ أي جهةَ (نَجْدٍ، فغنمُوا إبلًا كثيرة وكانتْ سُهْمَائهم) بضمِّ السينِ المهملةِ جَمْعُ سَهْمٍ وهوَ النصيبُ (اثني عشرَ بعيرًا ونُفِلُوا بعيرًا بعيرًا. متفقٌ عليهِ).
السريةُ قطعةٌ منَ الجيشِ تخرجُ منهُ وتعودُ إليهِ وهيَ منْ مائةِ إلى خمسمائةِ، والسريةُ التي تخرجُ بالليلِ والساريةُ التي تخرجُ بالنهارِ، والمرادُ منْ قولِه سُهْمَانِهم أي أنصبَاؤُهم، أي أنهُ بلغَ نصيبُ كلِّ واحدٍ منْهم هذا القدرَ، أعني اثني عشرَ بعيرًا، والنفلُ زيادةٌ يُزَادُها الغازي على نصيبِه منَ المغنَمِ.
وقولُه: (نُفِلُوا) مبنيٌّ للمجهولِ فيحتَمَلُ أنهُ نفلَهم أميرُهم وهوَ أبو قتادةَ، ويُحْتَمَلُ أنهُ النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهرُ روايةِ الليثِ عنْ نافعٍ عندَ مسلمٍ
(2)
أن القسمَ والتنفيلَ كانَ منْ أميرِ الجيشِ وقرَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلكَ؛ لأنَّه قالَ: ولم يغيرْهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما روايةُ ابن عمرَ عندَ مسلمٍ بلفظِ:"ونفلَنا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا"، فقدْ قالَ النوويُّ
(3)
: نسبَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم لما كانَ مقررًا لذلكَ، ولكنَّ الحديثَ عندَ أبي داودَ
(4)
بلفظِ: "فأصبْنا نعمًا كثيرًا وأعطانا أميرُنا بعيرًا بعيرًا لكلِّ إنسانٍ، ثمَّ قدِمْنَا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقسمَ بينَنا غنيمتَنا، فأصابَ كل رجلٍ اثنى عشرَ بعيرًا بعدَ
(1)
البخاري رقم (3134) ومسلم رقم (1749).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2741) ومالك (2/ 450 رقم 15).
(2)
في صحيحه رقم (36/ 1749).
(3)
في "شرح مسلم"(12/ 55).
(4)
في "السنن" رقم (2743) من حديث ابن عمر.
الخمسِ"، فدلَّ علَى أنَّ التنفيلَ منَ الأميرِ والقسمةَ منهُ صلى الله عليه وسلم.
وقدْ جمعَ بينَ الرواياتِ بأنَّ التنفيلَ كانَ منَ الأميرِ قبل الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد الوصولِ قسَم النبي صلى الله عليه وسلم[بين]
(1)
الجيشِ وتولى الأمير قبض ما هوَ للسريةِ جُمْلَةً ثمَّ قسمَ ذلكَ على أصحابِه، فمنْ نسبَ ذلكَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَلِكَوْنِه الذي قسمَ أولَا، ومَنْ نسبَ ذلكَ إلى الأميرِ فباعتبارِ أنهُ الذي أعطَى ذلكَ أصحابَه آخِرًا.
وفي الحديثِ دليلٌ على جوازِ التنفيلِ للجيشِ ودَعْوَى أنهُ يختصُّ [ذلكَ]
(2)
بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم دليلَ عليهِ، بلْ تنفيلُ الأميرِ قبلَ الوصولِ إليهِ صلى الله عليه وسلم في هذهِ القصةِ دليلٌ على عدمِ الاختصاصِ، وقولُ مالكٍ إنهُ يُكْرَهُ أنْ يكونَ التنفيلُ بشرطٍ منَ الأميرِ بأنْ يقولَ مَنْ فعلَ كَذَا، فَلَهُ نفل كَذَا قالَ: لأنهُ يكونُ القتالُ للدنيا فلا يجوزُ، يردُّهُ قولُه صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَتَلَ قتيلًا فلهُ سَلَبُهُ"
(3)
سواءٌ قالَه صلى الله عليه وسلم قبلَ القتالِ أو بعدَه؛ لأنهُ تشريعٌ عامٌّ إلى يوم القيامةِ، وأما لزومُ كونِ القتالِ للدنيا فالعمدةُ الباعثُ عليهِ فإنهُ لا يصيرُه قولُ الإمامِ: مَنْ فعلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا، قتالًا للدُّنيا بعدَ الإعلام أنَّ المجاهدَ في سبيلِ اللهِ مَنْ جاهدَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العُلْيَا.
فمَنْ كانَ قصْدُه إعلاءَ كلمةِ اللهِ لم يضرَّهُ أنْ يريدَ معَ ذلكَ المغْنَم والاسترزاقَ كما قالَ صلى الله عليه وسلم: "واجعلْ رزقي تحتَ ظلِّ رُمْحِي"
(4)
.
واختلفَ العلماءُ هلْ يكونُ التنفيلُ منْ أصلِ الغنيمةِ، أوْ منَ الخمسِ، أوْ
(1)
في (أ): "بعد".
(2)
زيادة من (ب).
(3)
وهو حديث صحيح.
أخرجه البخاري رقم (2100)، ومسلم رقم (1751)، وأبو داود رقم (2717)، والترمذي رقم (1562)، وابن الجارود رقم (1076)، والبغوي رقم (2724) وغيرهم مختصرًا ومطولًا من حديث أبي قتادة. وتقدم في شرح حديث رقم (22/ 1202).
(4)
أخرج أحمد (2/ 50)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 313) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له شيء، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصَّغار على من خالف أمري
…
"، وأخرجه البخاري تعليقًا (6/ 98).
وله شاهد بإسناد حسن، لكنه مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 322) عن طاووس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن عمر.
منَ خمسِ الخمسِ؟ قالَ الخطابيُّ
(1)
: أكثرُ ما رُوِيَ منَ الأخبارِ يدلُّ على أن التنفيل منْ أصلِ الغنيمةِ.
سهم الفارس والفرس والراجل
32/ 1211 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرّاجِلِ سَهْمًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(2)
. [صحيح]
- وَلأَبِي دَاوُدَ
(3)
: أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُم: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمًا لَهُ.
(وعنهُ) أي ابن عمرَ (قالَ: قسمَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ خيبرَ للفرَسِ سهمينِ وللراجلِ سَهْمًا. متفقٌ عليهِ واللفظُ للبخاريِّ. ولأبي داودَ) أي عن ابن عمرَ (أسهمَ للرجلِ ولفرسِه ثلاثةَ أَسْهُمٍ سهمينِ لفرسِه وسهمًا لهُ).
الحديثُ دليلٌ على أنهُ يسهمُ لصاحبِ الفرسِ ثلاثةَ سهامٍ منَ الغنيمةِ لهُ سهمٌ ولفرسهِ سهمانِ. وإليهِ ذهبَ الناصرُ والقاسمُ ومالكٌ والشافعيُّ لهذا الحديثِ، ولما أخرجَه أبو داودَ
(4)
منْ حديثِ أبي عمرةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطَى للفرسِ سهمينِ ولكلِّ إنسانِ سهمًا، فكانَ للفارسِ ثلاثةُ أَسهمٍ"، ولما أخرجه النَّسَائِيُّ
(5)
من حديث الزبير أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "ضربَ له أربعة أسهم: سهمينِ لفرسِهِ وسَهْمًا لهُ وسَهْمًا لقرابتِه"، يعني منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ إلى أن الفرسَ لهُ سهمٌ واحدٌ لما في بعض
(1)
في "معالم السنن"(3/ 178 - هامش السنن).
(2)
البخاري رقم (2863)، ومسلم رقم (1762).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2733)، وابن ماجه رقم (2854)، وأحمد (2/ 2، 62، 72)، والترمذي رقم (1554)، والدارمي (2/ 225 - 226)، والشافعي (2/ 134 رقم 409)، والدارقطني (4/ 101)، والبيهقي (6/ 325) من طرق.
(3)
في "السنن" رقم (2733)، وهو حديث صحيح.
(4)
في "السنن" رقم (2734)، وهو حديث صحيح.
(5)
في "السنن الكبرى"(3/ 4434/ 1).
الروايات بلفظِ: "فأعطَى للفارسِ سهمينِ وللراجلِ سَهْمًا"، وهوَ منْ حديثٍ مجمعِ بن جاريةَ، ولا يقاوِمُ حديثَ الصحيحينِ. واختلفُوا إذا حضرَ بفرسينِ، فقالَ الجمهورُ: لا يُسْهَمُ إلا لفرسٍ واحدٍ ولا يُسْهَمُ لها إلا إذا حضرَ بها القتالَ.
33/ 1212 - وَعَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا نَفَلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ
(1)
، وَأَبُو دَاوُدَ
(2)
، وَصَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ معنِ) بفتحِ الميمِ وسكونِ العينِ المهملةِ، هوَ أبو يزيدَ معنُ بنُ يزيدَ السُّلَميِّ بضمِّ السينِ المهملةِ وفتح اللام، لهُ ولأبيهِ ولجدِّهِ صحبةٌ، شهدُوا بَدرًا كما قيلَ ولا يعلمُ مَنْ شهدَ بدْرًا هوَ وأبوهُ وجدُّه غيرُهم، وقيلَ لا يصح شهودُه بَدْرًا. يُعَدُّ في الكوفيينَ (ابن يزيدَ قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: لا نَفَلَ) بفتحِ النونِ وفتحِ الفاءِ هوَ الغنيمةُ (إلَّا بعدَ الخُمُسِ. رواهُ أحمدُ وأبو داودَ وصحَّحَه الطحاويّ).
المرادُ بالنَّفَلِ هوَ ما يزيدُه الإمامُ لأحدِ الغانمينَ على نصيبهِ. وقدِ اتفقَ العلماءُ على جوازِه، واختلفُوا هل يكونُ من أصل الغنيمة أوْ منَ الخمُس، وحديثُ معنٍ هذا ليسَ فيهِ دليلٌ على أحدِ الأمرينِ بلْ غايةُ ما دل عليهِ [أنَّها] تُخَمَّسُ الغنيمةُ قبلَ التنفيلِ منْها.
وتقدَّمَ ما قالَه الخطابيُّ منْ أنَّ أكثرَ الأخبارِ دالَّةٌ على أن التنفيلَ منْ أصلِ الغنيمةِ. واختلفوا في مقدارِ التنفيلِ، فقالَ بعضُهم: لا يجوزُ أنْ ينفلَ أكثرُ منَ الثلثِ أو منَ الربعِ كما يدلُّ عليهِ قولُه.
تفويض مقدار ما يتنفل به إلى الإمام
34/ 1213 - وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبُعَ في الْبَدْءَةِ، وَالثلُثَ في الرَّجْعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(4)
، وَصَحّحَهُ ابْنُ
(1)
في "المسند"(3/ 470).
(2)
في "السنن" رقم (2753).
(3)
في شرح "معاني الآثار"(3/ 242).
قلت: وهو حديث صحيح.
(4)
في "السنن" رقم (2750) و (2748) و (3749).
الْجَارُودِ
(1)
وَابْنُ حِبّانَ
(2)
وَالْحَاكِمُ
(3)
. [حسن]
ترجمة حبيب بن مسلمة
(وعنْ حبيبِ بن مسلمةَ)
(4)
بالحاءِ المهملةِ المفتوحةِ وموحدتيْنِ بينَهما مثناةٌ تحتيةٌ، هوَ عبدُ الرحمنِ حبيبُ بنُ مسلمةَ القرشي الفهري وكانَ يُقَالُ لهُ حبيبُ الرومِ لكثرةِ مجاهدتِه لهمْ، ولَّاهُ عمرُ رضي الله عنه أعمالَ الجزيرةِ وضمَّ إليهِ أرمينيةَ وأذربيجانَ، وكانَ فاضلًا مجابَ الدعوةِ. ماتَ بالشامِ أوْ بأرمينيةَ سنةَ اثنتينِ وأربعينَ رضي الله عنه وأرضاه.
(قالَ: شهدتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نفَّلَ الربعَ في البدْأَةِ) بفتحِ الباءِ الموحدةِ وسكونِ الدالِ المهملةِ (والثلثَ في الرجعةِ. رواهُ أبو داودَ وصحَّحه ابنُ الجارودِ وابن حِبَّانَ والحاكمُ).
دلَّ الحديثُ على أنهُ صلى الله عليه وسلم لم يجاوزِ الثلثَ في التنفيلِ، وقالَ آخرونَ: للإمام أنْ ينفلَ السريةَ جميعَ ما غنمتْ لقولِه تعالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}
(5)
، ففوَّضَها إليهِ صلى الله عليه وسلم. والحديثُ لا دليلَ فيهِ على أنهُ لا يُنْفَلُ أكثرُ منَ الثلثِ.
واعلمْ أنهُ اختُلِفَ في تفسيرِ الحديثِ فقالَ الخطابيُّ روايةً عن ابن المنذرِ: إنهُ صلى الله عليه وسلم إنما فرق بينَ البدأةَ [والقفولَ]
(6)
حينَ فضلَ [إحدى]
(7)
العطيَّتينِ على الأخرى لقوةِ الظهرِ عندَ دخولِهم وضعْفِه عندَ خروجِهم، ولأنَّهم وهمْ داخلونَ
(1)
في "المنتقى" رقم (1078) و (1079).
(2)
رقم (1672 - موارد).
(3)
في "المستدرك"(2/ 133)، ووافقه الذهبي.
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 159، 159 - 160، 160)، وابن ماجه رقم (2851)، وسعيد بن منصور رقم (2701) و (2702)، والطحاوي (3/ 240)، والطبراني في "الكبير" رقم (3518 - 3527)، والبيهقي (6/ 313، 314)، وعبد الرزاق رقم (9331) و (9333) من طرق عن مكحول عن زياد بن جارية اللخمي عنه. والخلاصة: فالحديث حسن.
(4)
انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب" (2/ 167 رقم 349).
(5)
سورة الأنفال: الآية 1.
(6)
في (ب): "الرجعة".
(7)
في (أ): "أحد".
أنشطُ وأشْهى للسيرِ والإمعانِ في بلادِ العدوِّ وأجمُّ، وهمْ عندَ القفولِ تضعف دوابِّهم وأبدانِهم وهمْ أشْهَى للرجوعِ إلى أوطانِهم وأهاليهم لطولِ عهدِهم بهمْ وحبِّهم للرجوعِ فيرَى أنهُ زادَهم في القفولِ لهذِه العلةِ، واللَّهُ أعلمُ.
قالَ الخطابيُّ بعدَ نقلِه كلامَ ابن المنذرِ: هذا ليسَ بالبيِّنِ لأنَّ فحواهُ يوهمُ أن الرجعةَ هي القفولُ إلى أوطانِهم وليسَ هوَ معنَى الحديثِ، والبدأةُ إنَّما هيَ ابتداءُ السفرِ للغزوِ إذا نهضتْ سريةٌ منْ جملةِ العسكرِ، فإذا وقعتْ بطائفةِ منَ العدوِّ كانَ لهمْ فيهِ الربعُ ويشركُهم سائرُ العسكرِ في ثلاثةِ أرباعِه، فإنْ قفلُوا منَ الغزوةِ ثمَّ رجعُوا فأوقعُوا بالعدوِّ ثانيةً كانَ لهم مما غنمُوا الثلثُ لأنَّ نهوضَهم بعدَ القفولِ أشدُّ لكونِ العدوِّ علَى حَذَرٍ وحَزْمِ انتَهى، وما قالَه هوَ الأقربُ. واللَّهُ سبحانه أعلم.
35/ 1214 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قِسْمَةِ عَامَّةِ الْجَيْشِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّل بعضَ مَنْ يبعثُ منَ السَّرايا لأنفسِهم خاصة سوى قسمةِ عامةِ الجيشِ. متفقٌ عليهِ).
فيهِ أنهُ صلى الله عليه وسلم لمْ يكنْ ينفلُ كلَّ مَنْ [يبعثُه]
(2)
بلْ بحسبِ ما يراهُ منَ المصلحةِ في التنفيلِ.
الأخذ من طعام العدو قبل القسمة
36/ 1215 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ في مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ، فَنأْكُلُهُ ولَا نَرْفَعُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(3)
، وَلأَبي دَاودَ
(4)
: فَلَمْ يُؤخَذْ مِنْهُ الْخُمُسُ. وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ
(5)
. [صحيح]
(1)
البخاري رقم (3135)، ومسلم رقم (40/ 1750).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2746).
(2)
في (أ): "بعثه".
(3)
في صحيحه رقم (3154).
(4)
في "السنن" رقم (2701).
(5)
رقم (1670 - موارد)، وهو حديث صحيح.
(وعنهُ قالَ: كنَّا نصيبُ في مغازيْنَا العسلَ والعنبَ فنأكلُه ولا نرفعُه. رواهُ البخاريُّ، ولأبي داودَ) أي عن ابن عمرَ (فلمْ يُؤْخَذْ [منه]
(1)
الخمسُ، وصحَّحَهما ابنُ حبانَ). لا نرفعُه: لا نحملُه على سبيلِ الادِّخارِ، أوْ لا نرفعُه إلى مَنْ يتولَّى أمرَ الغنيمةِ ونستأذنُه في أكْلِهِ اكتفاءً بما عُلِمَ منَ الإذْنِ في ذلكَ.
وذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ يجوزُ للغانمينَ أَخْذُ القوتِ وما يصلحُ بهِ وكلُّ طعامٍ اعْتِيْدَ أَكلُه عمومًا، وكذلكَ علفُ الدوابِّ قبلَ القسمةِ سواءٌ كانَ بإذنِ الإمامِ أو [بغيرِ إذنِه]
(2)
. ودليلُهم هذا الحديثُ وما أخرجَهُ الشيخانِ
(3)
منْ حديثِ ابن مغفلٍ قالَ: "أصبتُ جرابَ شحمٍ يوم خيبرَ فقلتُ: لا أُعطي منهُ أحدًا، فالتفتُّ فإذا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يبتسمُ". وهذهِ الأحاديثُ مخصِّصَةٌ لأحاديثِ النَّهْي عن الغُلولِ، ويدلُّ له أيضًا الحديثُ الآتي وهوَ قولُه:
المحافظة على الفيء
37/ 1216 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمّ يَنْصَرِفُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(4)
وَصَحّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ
(5)
وَالْحَاكِمُ
(6)
. [صحيح]
(وعنْ عبدِ اللَّهِ بن أبي أَوْفَى رضي الله عنه قالَ: أصَبْنَا طعامًا يومَ خيبرَ فكانَ الرجلُ يجيءُ فيأخذُ منهُ مقدار ما يكفيه ثمَّ ينصرفُ. أخرجَهُ أبو داودَ وصحَّحَهُ ابنُ الجارودِ والحاكمُ)، فإنهُ واضحٌ في الدلالةِ على أخْذِ الطعامِ قبلَ القسمةِ وقَبْلَ التخميسِ، قالَه الخطابي
(7)
.
وأما سلاحُ العدوِّ ودوابُّهم فلا أعلمُ بينَ المسلمينَ خلافًا في جوازِ
(1)
في (ب): "منهم".
(2)
في (أ): "لا".
(3)
البخاري رقم (4214)، ومسلم رقم (72/ 1772).
(4)
في "السنن" رقم (2704) وإسناده قوي.
(5)
لم أعثر عليه في "المنتقى".
(6)
في "المستدرك (2/ 126) وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 60)، وهو حديث صحيح.
(7)
في "معالم السنن"(3/ 153 - هامش السنن).
استعمالِها، [فإذا]
(1)
انقضتِ الحربُ فالواجبُ ردُّها في المغنَمِ. وأما الثيابُ والحرْثُ والأدواتُ فلا يجوزُ أنْ يُسْتَعْمَلَ، شيءٌ منْها إلا أنْ يقولَ قائل إنهُ إذا احتاجَ إلى شيءٍ مِنْها لحاجةٍ ضروريةٍ كانَ لهُ أنْ يستعملَهُ مثلَ أنْ يشتدَّ البردُ [فيستدفئِ]
(2)
بثوبٍ ويتقوَّى بهِ على المقامِ [بأرض]
(3)
العدوِّ ومرصدًا لقتالِهم. وسُئِلَ الأوزاعي عنْ ذلكَ فقالَ: لا يَلْبَسُ الثوبَ إلا أنْ يخافَ الموتَ.
قلتُ: الحديثُ الآتي:
38/ 1217 - وَعَنْ رُويفِعِ بْن ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَلا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(4)
وَالدَّارِمِيُّ
(5)
، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ. [إسناده حسن]
(وعنْ رويفعِ بن ثابتٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ فلا يركبْ دابةً منْ فيءِ المسلمينَ حتَّى إذا أَعْجَفَها ردَّها فيهِ، ولا يلبسْ ثوبًا منْ فيءِ المسلمينَ حتَّى إذا أخْلَقَهُ ردَّهُ فيهِ. أخرجَهُ أبو داودَ والدارميُّ ورجالُه لا بأسَ بهمْ).
يُوخَذُ منهُ جوازُ الركوبِ ولبسُ الثوبِ، وإنَّما يتوجهُ النَّهيُ إلى الإعجافِ والإخْلاقِ للثوبِ، ولو ركبَ منْ غيرِ إعجافٍ ولبسَ منْ غيرِ إخلاقٍ وإتلافٍ جازَ.
يجير على المسلمين أدناهم
39/ 1218 - وَعَنْ أَبي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَاحِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُجِيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ". أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ
(6)
وَأَحْمَدُ
(7)
، وَفي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. [صحيح لغيره]
(1)
في (ب): "فأمَّا إذا".
(2)
في (أ): "فيشتد في".
(3)
في (ب): "في بلاد".
(4)
في "السنن" رقم (2708).
(5)
في "السنن"(2/ 230) وإسناده حسن.
(6)
في "المصنف"(12/ 452 رقم 15235).
(7)
في "المسند"(1/ 195).
قلت: وأخرجه أبو يعلى في "المسند" رقم (7/ 876)، والبزار رقم (1727 - كشف).=
(وعنْ أبي عبيدةَ بن الجراحِ)[بالجيمِ والراءِ والحاءِ المهملةِ]
(1)
(قالَ: سمعت رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: يُجيْرُ) بالجيمِ والراءِ بينَهما مثناةٌ تحتيةٌ، منَ الإجارَةِ وهيَ الأمانُ (على المسلمينَ بعضهم. أخرجَهُ ابن أبي شيبةَ وأحمدُ وفي إسنادِه ضعفٌ) لأنَّ في إسنادِه الحجَّاجَ بنَ أرطأةَ ولكنَّه يَجْبُرُ ضَعْفَهُ الحديثُ الآتي وهوَ قولُه:
40/ 1219 - وَللطَّيَالِسِيِّ
(2)
مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: "يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ". [صحيح لغيره]
(وللطيالسي منْ حديثِ عمروِ بن العاصِ: يجيرُ علَى المسلمينَ أَدْنَاهُمْ)، وما في الصحيحينِ وهوَ:
41/ 1220 - وَفي الصَّحِيحَيْنِ
(3)
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: "ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَة يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ"، زَادَ ابنُ مَاجَهْ
(4)
مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: "وَيُجِيرُ عَلَيهِمْ أَقْصَاهُمْ". [صحيح]
(عنْ عليٍّ رضي الله عنه ذمةُ المسلمينَ واحدةٌ يسعَى بها أدناهُم. زادَ ابن ماجهْ) منْ حديثِ عليٍّ أيضًا (منْ وجْهٍ آخرَ: ويجيرُ عليهم أَقْصَاهم) كالدفعِ لتوهُّمِ أنهُ لا يجيرُ إلا أدناهم فتدخلُ المرأةُ في جوازِ إجارتها على المسلمينَ كما أفادَه الحديثُ الآتي:
= وأورده الهيثمي في "المجمع"(5/ 329) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه الحجاج بن أرطاة وهو مدلس" اهـ.
وله شواهد كثيرة عن عدد من الصحابة، انظر:"مجمع الزوائد"(5/ 329)، والحديث رقم (40/ 1218)، (41/ 1219) و (42/ 1220) من كتابنا هذا.
والخلاصة: فالحديث صحيح لغيره، واللهُ أعلم.
(1)
زيادة من (ب).
(2)
لم أعثر عليه في "مسند الطيالسي".
بل أخرجه أبو يعلى رقم (9/ 7344) إسناده ضعيف فيه جهالة.
وأخرجه أحمد (4/ 197) من حديث عمرو بن العاص.
وأورده الهيثمي في "المجمع"(5/ 329) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وفيه رجل لم يُسَمَّ وبقية رجال أحمد رجال الصحيح" اهـ.
ويشهد له حديث أم هانئ عند البخاري رقم (357)، ومسلم رقم (336).
(3)
البخاري رقم (6755)، ومسلم رقم (1370).
(4)
في "السنن" رقم (2683) من حديث ابن عباس.
42/ 1221 - وَفي الصَّحِيحَيْنِ
(1)
مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئِ: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ". [صحيح]
ترجمة أم هانئ
(وفي الصحيحينِ منْ حديثِ أمِّ هانئ)
(2)
بنتِ أبي طالبٍ، قيلَ اسمُها هندُ وقيلَ فاطمةُ وهيَ أختُ علي بن أبي طالبٍ كرم اللَّهُ وجهه (قدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ) وذلكَ أنَّها أجارتْ رجلينِ منْ أحْمَائِها، وجاءتْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تخبرُهُ أن عليًا أخاها لم يُجِزْ إجارتَها فقالَ صلى الله عليه وسلم:(قدْ أَجَرْنا) الحديثَ.
والأحاديثُ دالةٌ على صحةِ أمانِ الكافرِ منْ كل مسلم ذكرٍ أو أُنْثَى، حرٍّ أمْ عبدٍ، مأذونٍ أوْ غيرِ مأذونٍ، لقولِه:"أدناهُم" فإنهُ شاملٌ لكلّ وضيعٍ، وتُعْلَمُ صحةُ أمانِ الشريفِ بالأَوْلَى، وعلَى هذا جمهورُ العلماءِ إلَّا عندَ جماعةٍ منْ أصحابِ مالكٍ فإنَّهم قالُوا: لا يصحُّ أمانُ المرأةِ إلا بإذنِ الإمامِ وذلكَ لأنَّهم حملُوا قولَه صلى الله عليه وسلم لأمِّ هانئٍ: "قدْ أجرْنا مَنْ أَجَرْتِ" على أنهُ إجازةٌ منهُ، قالُوا:[ولو]
(3)
لم يجزْ لم يصحَّ أمانُها، وحملَه الجمهورُ على أنهُ صلى الله عليه وسلم أمضَى ما وقعَ منْها وأنهُ قدْ انعقدَ أمانُها لأنهُ صلى الله عليه وسلم سمَّاها مجيرةً ولأنَّها داخلةٌ في عمومِ المسلمينَ في الحديثِ علَى ما يقولُه بعضُ أئمةِ الأصولِ، أوْ منْ بابِ التغليبِ بقرينةِ الحديثِ الآتي:
لا يجتمع في جزيرة العرب دينان
43/ 1222 - وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لأخرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(4)
. [صحيح]
(1)
البخاري رقم (357)، ومسلم رقم (336).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2763)، والترمذي (2735)، والنسائي (1/ 126)، ومالك (1/ 152 رقم 28)، وأحمد (6/ 343، 423، 425).
(2)
انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (12289)، و"أسد الغابة" رقم (7620)، و"الاستيعاب" رقم (3684)، و"طبقات ابن سعد"(8/ 47)، و"الجرح والتعديل"(9/ 467).
(3)
زيادة من (ب).
(4)
في صحيحه رقم (1767).=
(وعنْ عمرَ رضي الله عنه سمعَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: لأخرجنَّ اليهودَ والنصارى منْ جزيرةِ العربِ حتَّى لا أدعَ إلا مسلمًا. رواة مسلمٌ). وأخرجَهُ أحمدُ
(1)
بزيادة: "لئنْ عشتُ إلى قابلٍ".
وأخرجَ الشيخانِ
(2)
منْ حديثِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أَنهُ صلى الله عليه وسلم أوصَى عندَ موتِه بثلاثٍ: "أخرجُوا المشركينَ منْ جزيرةِ العربِ"، وأخرجَ البيهقي
(3)
منْ حديثِ مالكٍ عن ابن شهابٍ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يجتمعُ دينانِ في جزيرةِ العربِ"، قالَ مالكٌ
(4)
: قالَ ابنُ شهابٍ ففحصَ عمرُ عنْ ذلكَ حتَّى أتاهُ الثَّلَجُ واليقيَنُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يجتمعُ دينانِ في جزيرةِ العربِ"، فأجْلَى يهودَ خيبرَ، قالَ مالكٌ
(5)
: وقدْ أَجْلَى يهودَ نجرانَ وفدكَ أيضًا.
والحديثُ دليلٌ على وجوبِ إخراجِ اليهودِ والنَّصارى والمجوسِ منْ جزيرةِ العربِ لعمومِ قولِه: "لا يجتمعُ دينانِ في جزيرةِ العربِ"، وهوَ عامٌّ لكلِّ دينٍ، والمجوسُ بخصوصِهم حُكْمُهم حكمُ أهلِ الكتابِ كما عرف.
وأما حقيقةُ جزيرةِ العربِ، فقالَ مجدُ الدينِ في "القاموسِ"
(6)
: جزيرةُ العرب ما أحاطَ بهِ بَحرُ الهِندِ وبحرُ الشام ثمَّ دِجْلَةُ والفُراتُ، أو ما بينَ عَدَنِ أَبْيَنَ إلى أطَرافِ الشامِ طولًا، ومَنْ جُدَّةَ إلى [أَطرافِ] ريفِ العراقِ عرْضًا. انتَهى.
وأضيفتْ إلى العربِ لأنَّها كانتْ أوطانَهم قبلَ الإسلامِ وأوطانَ أسلافِهم وهي تحتَ أيديْهم. وبما تضمنتْه الأحاديثُ منْ وجوبِ إخراجِ مَنْ له دينٌ غيرُ دينِ
= قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3030)، والترمذي رقم (1607) وقال: حديث حسن صحيح، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2756)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (9985) و (19365) وهو حديث صحيح.
(1)
في "المسند"(1/ 29).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3031)، والبزار رقم (229)، والحاكم (4/ 274)، والترمذي رقم (1606)، والنسائي في "الكبرى" رقم (8686)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 12) من طرق.
(2)
البخاري رقم (3053)، ومسلم رقم (1637).
(3)
في "السنن الكبرى"(9/ 208).
(4)
في "الموطأ"(2/ 893).
(5)
في "الموطأ"(2/ 893) رقم (19).
(6)
"القاموس المحيط"(ص 465) وما بين القوسين زيادة من القاموس.
الإسلامِ منْ جزيرةِ العربِ قالَ مالكٌ والشافعي وغيرُهما، إلا أنَّ الشافعيَّ والهادويةَ خصُّوا ذلكَ بالحجازِ قالَ الشافعيُّ: وإنْ سألَ مَنْ يعطي الجزيةَ أنْ يعطيَها ويجري عليهِ الحكمَ على أنْ يسكنَ الحجازَ لم يكنْ له ذلكَ، والمرادُ بالحجازِ: مكةُ والمدينةُ واليمامةُ ومخاليفُها كلُّها، وفي "القاموسِ"
(1)
: الحجازُ مكةُ والمدينةُ والطائفُ ومخاليفُها، لكأنها حجزتْ بينَ نجدٍ وتهامةَ أوْ بينَ نجدٍ وتهامة السراةِ، أو لأنَّها احتجزتْ بالحرارِ الخمسِ، حرَّةِ بني سليمٍ، وواقمٍ، وليلَى، وشورانَ، والنارِ.
قالَ الشافعيُّ: ولا أعلمُ أحدًا أَجْلَى أحدًا منْ أهلِ الذمةِ من اليمنِ وقدْ كانتْ لها ذمةٌ، وليسَ اليمنُ بحجاز فلا يجلِيهم أحدٌ منَ اليمنِ ولا بأسَ أنْ يصالحَهُم على مُقَامِهم باليمنِ.
قلتُ: لا يخْفَى أن الأحاديثَ الماضيةَ فيها الأمرُ بإخراجِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ أَهْلِ الأديانِ غيرِ دينِ الإسلام منْ جزيرةِ العربِ، والحجازُ بعضُ جزيرةِ العربِ. ووردَ في حديثِ أبي عبيدةَ
(2)
الأمرُ بإخراجِهم منَ الحجازِ وهوَ بعضُ مسمَّى جزيرةِ العربِ، والحكمُ على بعضِ مسمَّياتِها بحكمِ موافق للحكم عليها لا يعارِضُ الحكمَ عليها كلِّها بذلكَ الحكمِ، كما قرَّرَ في الأصولِ أنَّ الحكمَ على بعضِ أفرادِ العامِّ لا يخصِّصُ العامَّ وهذا نظيرُه، وليستْ جزيرةُ العربِ منْ ألفاظِ العمومِ كما وهمَ فيهِ جماعةٌ منَ العلماءِ، وغايةُ ما أفادَه حديثُ أبي عبيدةَ زيادةُ التأكيدِ في إخراجِهم منَ الحجازِ لأنهُ دخلَ إخراجُهم منَ الحجازِ تحتَ الأمرِ بإخراجِهم منْ جزيرةِ العربِ، ثمَّ أفردَ بالأمرِ زيادة في التأكيدِ لا أنهُ تخصيصٌ أوْ نسخ، وكيفَ وقدْ كانَ آخرَ كلامِه صلى الله عليه وسلم:"أخرجُوا المشركينَ منْ جزيرةِ العربِ"
(3)
كما قالَ ابنُ عباسٍ: أَوْصَى عندَ موتِه.
(1)
"القاموس المحيط"(ص 653).
(2)
ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار"(26/ 62 رقم 38709) ولفظه: وقال أبو عُبيدَةَ: جزيرةُ العربِ ما بين حفرِ أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما في العرض، فمن بئر يبرين إلى منقطع السماوة، وكذلك ذكره في التمهيد (1/ 172).
(3)
تقدَّم تخريجه وهو متفق عليه.
وأخرجَ البيهقي
(1)
منْ حديثِ مالكٍ عنْ إسماعيلَ بن أبي حكيمٍ أنهُ سمعَ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ يقولُ: بلغني أنهُ كانَ منْ آخِرِ ما تكلَّم بهِ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "قاتلَ اللَّهُ اليهودَ والنَّصارى اتخذُوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، لا يبقينَّ دينانِ بأرضِ العربِ".
وأما قولُ الشافعيِّ: ولم أعلم أحدًا أجلاهم منَ اليمنِ، فليسَ تركُ إجلائِهم بدليلٍ، فإنَّ أعذارَ مَنْ تَرَكَ ذلكَ كثيرةٌ، وقدْ تركَ أبو بكرٍ رضي الله عنه إجلاءَ أهلِ الحجازِ معَ الاتفاقِ على وجوبِ إجلائِهم لشغلته بجهادِ أهلِ الرِدَّةِ ولم يكنْ ذلكَ دليلًا على أنَّهم لا يجلونَ بلْ أجلاهُم عمرُ رضي الله عنه، وأما القولُ بأنهُ صلى الله عليه وسلم أقرَّهم في اليمنِ بقولِه لمعاذٍ:"خذْ منْ كلِّ حالمٍ دينارًا أو عَدْلُه معافريًا"
(2)
، فهذَا كانَ قبلَ أمرِه صلى الله عليه وسلم بإخراجِهم فإنهُ كانَ عندَ وفاتِه كما عرفتَ.
فالحقُّ وجوبُ إجلائِهم منَ اليمنِ لوضوحِ دليلِه، وكذلك القولُ بأنَّ تقريرَهم في اليمنِ قدْ صارَ إجْماعًا سكوتيًا كلام لا ينهضُ على دَفْعِ الأحاديثِ، فإنَّ السكوتَ منَ العلماءِ على أمرٍ وقعَ منَ الآحادِ مِنْ خليفةٍ أو غيرِه مِنْ فعلٍ محظورٍ أوْ تركِ واجب لا يدلُّ على جوازِ ما وقعَ ولا علَى جوازِ ما تركَ، فإنهُ إنْ كان الواقعُ فعلًا أو تَرْكًا منكرًا وسكتُوا لم يدلَّ سكوتُهم على أنهُ ليسَ بمنكرٍ لما عُلِمَ
(1)
في "السنن الكبرى"(9/ 208).
وأورده ابن عبد البر في "التمهيد"(1/ 165)، وقال: "هكذا جاء هذا الحديث عن مالك في الموطآت كلها مقطوعًا، وهو يتصل من وجوه حسان عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وعائشة، ومن حديث علي بن أبي طالب، وأسامة
…
" اهـ.
(2)
وهو حديث صحيح.
أخرجه أبو داود رقم (1578)، والترمذي رقم (623)، والنسائي (5/ 25 - 26)، وأحمد (5/ 230)، وعبد الرزاق رقم (6841)، والطيالسي رقم (567)، والدارمي (1/ 382)، والدارقطني (2/ 102)، والحاكم (1/ 398)، والبيهقي (4/ 98)، و (9/ 193) من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق عنه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وقال ابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 275): وقد روي هذا الخبر عن معاذ بإسناد متصل صحيح ثابت؛
…
قلت: وللحديث طرق أخرى انظرها في: "إرواء الغليل" رقم (795).
منْ أن مراتبَ [الإنكار]
(1)
ثلاثٌ: باليدِ أو اللسانِ أو بالقلبِ، وانتفاءُ الإنكارِ باليدِ واللسانِ لا يدلُّ على انتفائِه بالقلبِ، فلعل الساكت أنكر بقلبه لعذر عن التغيير باليد واللسان، وحينئد فلا يدل سكوته علة تقريرِه لما وقعَ حتَّى يُقَالَ قد [أجمعت الأمة عليه]
(2)
إِجْمَاعًا سكوتيًا، إذْ لا يثبتُ أنهُ قدْ أجمعَ الساكت إلا إذا عُلِمَ رضاهُ بالواقعِ، ولا يَعْلمُ ذلكَ إلَّا علَّامُ الغيوبَ.
بهذَا [يُعْرَفُ]
(3)
بطلان القولِ بأن الإجماعَ السكوتيَّ حجةٌ ولا أعلمُ أحدًا قدْ حرَّرَ هذا في ردِّ الإجماعِ السكوتيِّ معَ وضوحِه، والحمدِ للَّهِ المنعمِ المتفضلِ، وقد أوضحْناهُ في رسالةٍ مستقلةٍ، فالعجبُ ممن قالَ: ومثلُه قدْ يفيدُ القطعَ، وكذلكَ قولُ مَنْ قالَ: إنهُ يحتمل أن حديثَ الأمرِ بالإخراجِ كانَ عندَ سكوتِهم بغير جزيةٍ باطلٌ لأنَّ الأمرَ بإخراجهم عندَ وفاته صلى الله عليه وسلم والجزيةُ فُرِضَتْ في التاسعة منَ الهجرةِ عندَ نزولِ براءةَ فكيفَ يتمُّ هذَا، ثمَّ إنَّ عمرَ أَجْلَى أهلَ نجرانَ وقدْ كانَ صالَحَهُمْ على مالٍ واسعٍ كما هوَ معروفٌ وهوَ جزيةٌ. والتكلفُ [بتقويم]
(4)
ما عليهِ الناسُ وردُّ ما وردَ من [النصوصُ]
(5)
بمثل هذهِ التأويلاتِ مما يطيلُ تعجبَ الناظرِ المنصفِ.
قالَ النوويُّ: قالَ العلماءُ رحمَهم اللَّهُ تعالَى: ولا يُمْنعُ الكفارُ منَ الترددِ مسافرينَ إلى الحجازِ ولا يمكثونَ فيهِ أكثرَ منْ ثلاثةِ أيامٍ، قالَ الشافعيُّ ومَنْ وافقَهُ: إلَّا مكة وحَرَمَها فلا يجوزُ تمكينُ كافر منْ دخولِها بحالٍ. فإنْ دخل في خفيةٍ وجبَ إخراجُه، فإنْ ماتَ ودُفِنَ فيهِ نُبشَ وأُخْرِجَ [ما لم يتغيرْ]
(6)
، وحجَّتُه قولُه تعالَى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}
(7)
.
قلتُ: ولا يخفَى أن [البانيان]
(8)
همُ المجوسُ، والمجوس حكْمُهم منْ حكمِ أهلَ الكتابِ لحديثِ:"سُنُّوا بهمْ سُنَّةَ أهلِ الكتاب"
(9)
، فيجبُ إخراجُهم منْ
(1)
في (أ): "المنكر".
(2)
في (ب): "أجمع عليه".
(3)
في (أ): "تعرف".
(4)
في (ب): "التقويم".
(5)
في (أ): "المنصوص".
(6)
زيادة من (ب).
(7)
سورة التوبة: الآية 28.
(8)
زيادة من (ب).
(9)
• أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 278 رقم 42) من حديث عبد الرحمن بن عوف ورجاله ثقات إلا أنه منقطع السند.=
أرضِ اليمنِ ومِنْ كلِّ محلٍّ منْ جزيرةِ العربِ، وعلَى فَرَضِ أنَّهم ليسُوا بمجوسٍ فالدليلُ علَى إخراجِهم دخولهُم تحتَ:"لا يجتمعُ دينانِ في أرضِ العربِ"
(1)
.
إجلاء بني النضير من المدينة
44/ 1223 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ في الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، عُدَّة في سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
. [صحيح]
(وعنهُ) أي عمرَ رضي الله عنه (قالَ: كانتْ أموالُ بني النَّضيرِ) بفتحِ النونِ وكسرِ الضادِ المعجمةِ بعدَها مثناةٌ تحتيةٌ (مما أفاءَ الله علَى رسولِه مما لم يوجِفْ) الإيجافُ منَ الوجيف وهوَ السيرُ السريعُ (عليهِ المسلمونَ بخيلٍ ولا رِكابٍ) الرِّكابُ بكسرِ الراءِ الإبلُ (وكانت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصةً، وكان ينفق على أهلهِ نفقة سنةٍ وما بقيَ [يجعلُه]
(3)
في الكُرَاعِ) بالراءِ والعينِ المهملةِ بزنةِ غُرابٍ اسمٌ لجميعِ الخيلِ (والسلاحِ عدةً في سبيلِ اللهِ تعالَى. متفقٌ عليهِ).
بنو النَّضيرِ قبيلةٌ كبيرة منَ اليهودِ وادَعَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدَ قدومِه إلى المدينةِ علَى أنْ لا يحاربُوا وأنْ لا يعينُوا عليهِ عدوَّهُ وكانتْ أموالُهم ونخيلُهم ومنَازِلُهمْ بناحيةِ المدينةِ فنكثُوا العهدَ وسارَ معهُم كعبُ بنُ الأشرفِ في أربعينَ راكبًا إلى قريشٍ فحالفَهم وكانَ ذلكَ على رأسِ ستةِ أشهرٍ منْ واقعةِ بدرٍ كما ذكرهُ الزهريُّ،
= • وأخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد"(6/ 13) من حديث مسلم بن العلاء الحضرمي: "سنُّوا بالمجوس سنَّة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط"، وقال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم.
• وأخرج أبو عبيد في "الأموال"(ص 39) بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري قال: لولا أني رأيت أصحابي يأخذون منهم الجزية ما أخذتها - يعني المجوس.
(1)
تقدَّم تخريجه قريبًا.
(2)
البخاري رقم (2904)، ومسلم رقم (1757).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2965)، والترمذي رقم (1719)، والنسائي (7/ 132).
(3)
في (أ): "جعله".
وذكرَ ابنُ إسحاقَ في "المغازي" أن ذلكَ كانَ بعدَ [وقعة]
(1)
أُحُدٍ وبئرِ معونةَ
(2)
"وخرجَ النبيَّ يستعينُهم في ديةِ رجلينِ قتلَهما عمرُو بنُ أميةَ الضميريُّ منْ بني عامر قد أمَّنهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشعر عمرو بذلك، فجلسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدارٍ لهم فتمالئوا على إلقاء صخرة عليه من فوق ذلك الجدارِ وقامَ بذلكَ عمرُو بنُ جِحَاشِ بن كعبٍ، فأتاهُ الخبرُ منَ السماءِ فقامَ مظهرًا أنهُ يقضي حاجةً وقالَ لأصحابِه: لا تبرحُوا، ورجعَ مسرِعًا إلى المدينةِ، فاستبطأَهُ أصحابُه فأُخبرُوا أنهُ رجعَ إلى المدينةِ فلحقُوا بهِ فأمرَ بحربِهم والمسيرِ إليهم، فتحصَّنُوا فأمرَ بقطعِ النخلِ والتحريقِ وحاصرَهم ستَ ليالٍ، وكانَ ناسٌ منَ المنافقينَ
(3)
بعثُوا إليهم أنِ اثْبُتُوا وتمنَّعُوا فإنْ قُوتِلْتُم قاتلْنا معَكم، فتربَّصُوا فقذفَ اللَّهُ الرعبَ في قلوبِهم فلمْ ينصُروهُم، فسألُوا أنْ يجلُوا عن أَرْضِهم على أنَّ لهمْ ما حملتِ الإبلُ، فصُولِحُوا على ذلكَ إلا الحَلَقَة - بفتحِ الحاءِ المهملةِ وفتحِ اللامِ فقافٍ - وهيَ السلاحُ، فخرجُوا إلى أذرعاتٍ
(4)
وأريحاءٍ منَ الشامِ وآخرونَ إلى الحيرةِ، ولحقَ آلُ أبي الحقيقِ وآلُ حييِّ بن أخطبَ بخيبرَ وكانوا أولَ مَنْ أُجْلِيَ منَ اليهودِ كما قالَ تعالَى:{لِأَوَّلِ الحَشْرِ}
(5)
، والحشرُ الثاني مِنْ خيبرَ في أيامِ عمرَ رضي الله عنه.
[وقولُه]
(6)
: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الفيءُ ما أُخِذَ بغيرِ قتالٍ، قالَ في "نهايةِ المجتهدِ"
(7)
: إنهُ لا خُمُسَ فيهِ عندَ جمهورِ العلماءِ. وإنما لم يوجَفْ عليها بخيلٍ ولا ركابٍ لأنَّ بني النضيرِ كانتْ على ميلينِ منَ المدينةِ فَمَشَوْا إليها مشاةً غيرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإنهُ ركبَ جملًا أو حمارًا ولم تنلْ أصحابَهُ صلى الله عليه وسلم مشقةٌ في ذلكَ. وقولُه: "كانَ ينفقُ علَى أَهْلِهِ أي مما استبقاهُ لنفسهِ، والمرادُ أنهُ يعزلُ لهمْ نفقةَ سنةٍ ولكنَّه كانَ ينفقُه قبلَ انقضاءِ السنةِ في وجوهِ الخيرِ ولا يتم عليهِ السنةُ،
(1)
في (ب): "قضية".
(2)
وهو الأرجح، انظر:"سيرة ابن هشام"(3/ 267 - 268).
(3)
منهم: عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول، ووديعة، ومالك بن أبي قوْقل، وسُوَيد، وداعس.
(4)
أذرعات: بلدِ في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان. انظر: "معجم البلدان"(1/ 130).
• أريحاء: بلد من الشام.
(5)
سورة الحشر: الآية 2.
(6)
في (أ): "وقولهم".
(7)
"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد (2/ 376) بتحقيقنا.
ولهذَا تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم ودرعُه [مرهون]
(1)
على شعيرٍ استدانَه لأهلِه
(2)
.
وفيهِ دلالةٌ على جوازِ ادِّخارِ قوتِ سنةٍ وأنهُ لا ينافي التوكلَ. وأجمعَ العلماءُ على جوازِ [الادخار]
(3)
مما يستغله الإنسانُ منْ أَرْضِهِ، وأما إذا أرادَ أنْ يشتريَهُ منَ السوقِ ويدَّخره فإنْ كانَ في وقتِ ضيقِ الطعامِ لم يجزْ بلْ يشتري ما لا يحصلُ بهِ تضييقٌ على المسلمينَ كقوتِ أيامٍ أو شهرٍ، وإنْ كانَ في وقتِ سَعَةٍ اشتَرى قوتَ السنةِ، وهذا التفصيلُ نقلُه القاضي عياض عنْ أكثرِ العلماءِ
(4)
.
دليل على تنفيل الجيش
45/ 1224 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، فَأَصَبْنَا فِيهَا غَنَمًا، فَقَسَمَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً، وَجَعَلَ بَقِيَّتَهَا في الْمَغْنَمِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(5)
، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ. [حسن]
(وعنْ معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه قالَ: غزْونا معَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خيبرَ فأصبْنا فيها غنمًا، فقسمَ فينا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طائفةً وجعلَ بقيَّتَها في المغنمِ: رواهُ أبو داودَ ورجالُه لا بأسَ بهمْ). الحديثُ مِنْ أدلةِ التنفيلِ، وقدْ سلفَ الكلامُ فيهِ، ولو ضمَّه المصنف رحمه الله إليها لكانَ أَوْلَى.
لا يحبس الرسول ولا ينقض العهد
46/ 1225 - وَعَنْ أَبي رَافِعٍ قَالَ: قَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الرُّسُلَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(6)
وَالنَّسَائيُّ
(7)
، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(8)
. [صحيح]
(1)
في (ب): "مرهونة".
(2)
أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2069)، وأحمد (3/ 133)، والنسائي (7/ 288)، وابن ماجه رقم (2437)، والبيهقي (6/ 36).
(3)
في (أ): "ادخار الإنسان".
(4)
انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي"(12/ 295).
(5)
في "السنن" رقم (2707)، وهو حديث حسن.
(6)
في "السنن"(رقم (2758).
(7)
في "السنن الكبرى" كما في "التحفة"(9/ 199).
(8)
في صحيحه رقم (4877).=
(وعنْ أبي رافعٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إني لا أَخِيسُ) بالخاءِ المعجمةِ فمثناةِ تحتيةِ فسينٍ مهملةٍ، في "النهايةِ": لا أنقضُه (بالعهدِ، ولا أحبِسُ الرسلَ، رواهُ أبو داودَ والنسائي وصحَّحَه ابن حِبَّانَ).
في الحديثِ دليلٌ على حفظِ العهدِ والوفاءِ بهِ ولوْ لكافرٍ، وعلَى أنهُ لا يُحْبَسُ الرسولُ بلْ يُرَدُّ جوابُه، فكأنَّ وصولَه أمان لهُ لا يجوزُ أنْ يُحْبَسَ بلْ يُرَدَّ.
حكم الأرض المفتوحة
47/ 1226 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتيتُمُوهَا فَأَقَمْتمْ فِيهَا فَسَهْمُكمْ فِيهَا، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإنَّ خُمُسَهَا للهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: أيُّما قريةٍ أتيتمُوها فأقمتم فيها فسهمُكم فيها، وأيُّما قريةٍ عصتِ اللَّهِ ورسولَه فإن خُمُسَها للَّهِ ورسولِه ثمَّ هيَ لكمْ. رواهُ مسلمٌ).
قالَ القاضي عياضٌ في "شرح مسلم"
(2)
: "يُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المرادُ بالقريةِ الأُولى هي التي لم يوجِفْ عليها المسلمون بخيلٍ ولا رِكَابٍ بلْ أُجْلِيَ عنْها أهلُها أو صالَحُوا فيكونُ سهمُهم فيها أي حقُّهم منَ العطاءِ كما تقررَ في الفيءِ، ويكونُ المرادُ بالثانيةِ ما أُخِذَتْ عُنْوةً فيكونُ غنيمةً يخرجُ منْها الخمسَ والباقي للغانمينَ، [وهوَ]
(3)
معنَى قولِه: "هي لكمْ"، أي باقيْهَا. وقدِ احتجَّ بهِ مَنْ لم يوجبِ الخمسَ في الفيءِ، قالَ ابنُ المنذرِ: لا نعلمُ أحدًا قبلَ الشافعيِّ قالَ بالخمس في الفيءِ" اهـ.
* * *
= قلت: وأخرجه الحاكم (3/ 598)، والبيهقي (9/ 145)، والطبراني في "الكبير" رقم (963) وغيرهم، وهو حديث صحيح.
(1)
في صحيحه رقم (1756). قلت: وأخرجه أحمد (2/ 317)، وأبو داود رقم (3036).
(2)
للنووي (12/ 69).
(3)
في (أ): "وهي".
[الباب الثاني] باب الجزية والهدنة
الأظهرُ [في الجزيةِ] أنَّها مأخوذةٌ منَ الإجزاءِ لأنَّها تكفي مَنْ تُوضَعُ عليهِ في عصمةِ دمهِ، (والهدنةُ): هي متاركةُ أهلِ الحربِ مدةً معلومةً لمصلحةٍ، ومشروعيةُ
(1)
الجزيةِ سَنةَ تسعٍ على الأظهرِ وقيلَ: سنةَ ثمانٍ.
أخذ الجزية من المَجوس
1/ 1227 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا يَعْني الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(2)
. [صحيح]
وَلَهُ طَرِيقٌ في "الْمُوَطَّإ"
(3)
فِيها انْقِطَاعٌ. [مرسل منقطع]
(عنْ عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذَها - يعني الجزيةَ - منْ مَجوسِ هَجَرَ. رواة البخاريُّ ولهُ طريق في "الموطأ" فيها انقطاعٌ)، وهيَ ما أخرجَهُ الشافعيُّ
(4)
عن ابن شهابٍ أنهُ بلغَهُ "أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أخذ الجزيةَ منْ مجوسِ
(1)
هكذا في المخطوطات ولعلها "وشرعت".
(2)
في صحيحه رقم (3157)، وقال ابن حجر في "الفتح" (6/ 261):"إن كان هذا من جملة كتاب عمر فهو متصل وتكون فيه رواية عمر عن عبد الرحمن بن عوف، وبذلك وقع التصريح في رواية الترمذي رقم (1586) ولفظه: "فجاءنا كتاب عمر: انظر مجوس من قِبَلَكَ فخذ منهم الجزية، فمن عبد الرحمن بن عوف "أخبرني"، فذكره
…
(3)
في "الموطأ"(1/ 278) عن جعفر بن محمد عن أبيه: "أن عمر قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "سنُّوا بهم سنة أهل الكتاب"، وهذا منقطع مع ثقة رجاله
…
(4)
في "الأم"(4/ 183) ط: دار الفكر.
البحرينِ". قالَ البيهقيُّ
(1)
: وابنُ شهاب إنَّما أخذَ حديثَه عن ابن المسيِّبِ وابن المسيِّب حسنُ المرسلِ، فهذا هوَ الانقطاعُ الذي أشارَ إليهِ المصنفُ.
وأخرجَ الشافعيُّ
(2)
منْ حديثِ عبدِ الرحمنِ [بن عوف]
(3)
أن عمرَ بنَ الخطابِ ذكرَ المجوسَ فقالَ: لا أدري كيفَ أصنعُ في أمرِهم، فقالَ عبدُ الرحمنِ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "سنُّوا بهمْ سنَّةُ أهلِ الكتابِ". وأخرجَ أبو داودَ
(4)
والبيهقي
(5)
عن ابن عباسٍ قالَ: جاءَ رجلٌ منْ مجوسِ هَجَرَ
(6)
إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما خرجَ قلتُ لهُ: ما قضَى اللَّهُ ورسولُه فيكمْ؟ قالَ: شرًا، قلتُ: مهْ، قالَ: الإسلامُ أوِ القتلُ.
قالَ: وقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ: قَبِلَ منهمُ الجزيةَ.
قالَ ابنُ عباسٍ: وأخذَ الناسُ بقولِ عبدِ الرحمنِ وتركُوا ما سمعتُ أنا.
قلتُ: لأنَّ روايةَ عبدِ الرحمنِ موصولة صحيحة وروايةُ ابن عباسٍ هيَ عنْ مجوسيٍّ لا تُقْبَلُ اتفاقًا. وأخرجَ الطبراني
(7)
عنْ مسلمِ بن العلاءِ الحضرميِّ في آخرِ حديثِه بلفظِ: "سنُّوا بالمجوس سنةَ أهلِ الكتابِ". وأخرجَ البيهقيُّ
(8)
عن المغيرةِ في حديثٍ طويلٍ معَ فارسَ وقالَ فيهِ: "فأمرَنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أنْ نقاتَلكم حتَّى تعبدُوا اللَّهَ وحدَهُ أوْ تؤدُّوا الجزيةَ". وكانَ أهلُ هجرَ خصُوصًا كما دلتِ الآيةُ على أخْذِها منْ أهلِ الكتابِ اليهودِ والنَّصارى، قالَ الخطابيُّ
(9)
: وفي امتناعِ
(1)
في "السنن الكبرى"(9/ 190) بعد عبارة وابن المسيب حسن المرسل، عبارة: وكيف وقد انضم إليه ما تقدم.
(2)
في "بدائع المنن"(2/ 34 رقم 1183).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
في "السنن" رقم (3044).
(5)
في "السنن الكبرى"(9/ 190)، وهو حديث ضعيف الإسناد.
(6)
هَجَر: بفتح الهاء والجيم، مدينة في بلاد البحرين، وهناك قرية صغيرة بجانب المدينة المنورة.
(7)
في "المعجم الكبير"(19/ 437 رقم 000/ 1059)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/ 13) وقال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. وقال الحافظ في "الإصابة"(3/ 416): ومدار الحديث على عمر بن إبراهيم وهو ساقط.
(8)
في "السنن الكبرى"(9/ 191).
(9)
في "معالم السنن"(3/ 432 - هامش السنن).
عمرَ رضي الله عنه عن أَخْذِ الجزيةِ منَ المجوسَ حتَّى شهدَ عبدُ الرحمنِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذَها منْ مجوسِ هجرَ، دليل علَى أن رأي الصحابةِ أنْ لا تُوخَذَ الجزيةُ منْ كلِّ مشركٍ كما ذهبَ إليهِ الأوزاعيُّ وإنَّما تُقْبَلُ منْ أهلِ الكتابِ.
وقد اختلفَ العلماءُ في المعنَى الذي [منْ أجلِه]
(1)
أُخِذَتِ الجزيةُ [مِنْهم]
(2)
، فذهبَ الشافعيُّ في أغلبِ قولَيْهِ إلى أنَّها إنَّما قُبِلتْ منْهم لأنَّهم منْ أهلِ الكتابِ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال أكثر أهل العلمِ: إنَّهم ليسُوا منْ أهلِ الكتابِ وإنَّما أُخِذَتِ الجزيةُ منَ اليهودِ والنَّصارى بالكتابِ ومنَ المجوسِ بالسنة، انتَهى.
قلتُ: قد قدَّمْنا لكَ أن الحقَّ أخْذُ الجزيةِ منْ كلِّ مشركٍ كما دلَّ لهُ حديثُ بُريدةُ، ولا يخْفَى أن في قولِه:"سنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتاب" ما يُشْعِرُ أنهم ليسُوا بأهلِ كتابٍ. ويدلُّ لما قدَّمْنَاهُ قولُه:
أخذ الجزية من العرب
2/ 1228 - وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ رضي الله عنهم أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَالِدَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَأَخَذُوهُ فَأَتَوْا بِهِ. فَحَقَنَ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(3)
. [حسن]
ترجمة عاصم بن عمر
(وعنْ عاصمِ بن عمرَ)
(4)
هوَ أبو عمروٍ عاصمُ بنُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه العدويُّ القرشيُّ. وُلدَ قبلَ وفاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بسنتيْنِ وكانَ وسيمًا جسيمًا خيِّرًا
(1)
في (أ): "لأجله".
(2)
زيادة من (ب).
(3)
في "السنن" رقم (3037)، وهو حديث حسن.
(4)
انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب"(5/ 46 رقم 83)، و"الاستيعاب" رقم (1319)، و"الإصابة" رقم (6169)، و"أسد الغابة" رقم (2674)، و"التاريخ الكبير"(6/ 477)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 223)، و"الوافي بالوفيات"(16/ 570).
فاضلًا شاعرًا، ماتَ سنةَ سبعينَ قبلَ موتِ أخيهِ عبدِ اللَّهِ بأربعِ سنينَ، وهوَ جدُّ عمرَ بن عبدِ العزيزِ لأُمِّهِ. رَوَى عنهُ أبو أمامةَ بنُ سهلِ بن حنيفٍ وعروةُ بنُ الزبيرِ.
(عنْ أنسٍ) أي ابن مالكٍ (وعنْ عثمانَ بن أبي سليمانَ) أي ابن جبيرِ بن مطعمٍ القرشيِّ المكيِّ، سمعَ [أبا]
(1)
أبا سلمةَ بنَ عبدِ الرحمن وعامرَ بن عبد اللَّهِ بن الزبيرِ وغيرَهم (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ خالدَ بنَ الوليدَ إلى أُكيْدِرِ) بضمِّ الهمزةِ بعدَ الكافِ مثناةٌ تحتيةٌ فدالٌ مهملةٌ فراءٌ (ذومةِ) بضمِّ الدالِ المهملةِ وسكونِ الواوِ، وهي دُومةُ الجندلِ اسمُ محلٍّ (فأخذُوه فحقنَ دمَة وصالحَه على الجزيةِ. رواهُ أبو داودَ) قالَ الخطابيُّ
(2)
: أكيدرُ دومةُ رجلٍ منَ العربِ يقالُ منْ غسَّانَ.
ففي هذا دليلٌ على أَخْذِ الجزيةِ منَ العربِ كجوازهِ منَ العجَم، انتَهى.
قلتُ: فهوَ منْ أدلةِ ما قدَّمناهُ، وكانَ صلى الله عليه وسلم بعثَ خالدًا منْ تبوكَ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بها في آخرِ غزاةٍ غَزَاها وقالَ لخالدٍ:"إنكَ تجدُه يصيدُ البقرَ"
(3)
، فمضَى خالدٌ حتَّى إذا كانَ منْ حصنِه بمبصَرِ العينِ في ليلةٍ مقمرةٍ أقامَ وجاءتْ بقرُ الوحشِ حتَّى حكَّتْ قرونَها بباب القصرِ فخرجَ إليها أكيدرُ في جماعةٍ منْ خاصَّتِهِ فتلقتْهم خيل رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأخذُوا أكيدرَ وقتلُوا أخاهُ حسانَ، فحقنَ رسولُ اللَّهِ دمَهُ وكانَ نصرانيًا واستلبَ خالدُ [منْ] حسانَ قباءَ ديباجٍ مُخَوَّصًا بالذهبِ وبعثَ بهِ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأجارَ خالدٌ أكيدرَ منَ القتلِ حتَّى يأتيَ بهِ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على أن يفتحَ لهُ دومةَ الجندلِ، ففعلَ، وصالحهُ على ألفيْ بعيرٍ وثمانمائةِ رأسٍ وألفي درعٍ وأربعمائةِ رمحٍ، فعزلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَفِيُّهُ
(4)
خَالصًا ثم قسمَ الغنيمةَ -
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في "معالم السنن"(3/ 427 - بهامش السنن).
(3)
وهو حديث ضعيف.
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 250 - 251) من طريق ابن إسحاق، وقد صرَّح عنده بالسماع وسنده منقطع؛ لأن يزيد وعبد اللَّهِ لم يسمِّيا من حدَّثهما.
وعزاه صاحب "الكنز"(10/ 583 - 584) إلى ابن منده، وابن عساكر.
(4)
الصَّفيُّ: ما كان يأخذُه رئيسُ الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القِسمة، ويقال له: الصَّفِيَة. والجمعُ الصَّفايا. "النهاية"(3/ 40).
الحديثَ"، وفيهِ أنهُ قدِمَ خالدٌ بأكيدرَ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فدعاهُ إلى الإسلامِ فأبَى فأقرَّه على الجزيةِ.
مقدار الجزية على كل حالم
3/ 1229 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ. فَأَمَرَنِي "أَنْ آخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عِدْلَهُ معَافِريًّا". أَخْرَجَهُ الثَّلَاثةُ
(1)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
وَالْحَاكِمُ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه قالَ: بعثني رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى اليمنِ وأمرني أنْ آخذَ منْ كلِّ حالِمٍ دينارًا أو عِدْلَه) بالعينِ المهملةِ مفتوحةً وتُكْسَرُ، المثلُ، وقيلَ بالفتحِ ما عادلَه منْ جِنْسهِ، [وبالكسرِ ما ليسَ منْ جنسه]
(4)
، وقيلَ بالعكس كما في "النهايةِ"
(5)
ثمَّ دالٌ مهملةٌ.
(معافريًا) بفتحِ الميمِ فعينٍ مهملةٍ [بعدها ألفٌ]
(6)
ففاءٌ وراءٌ بعدَها ياءُ النسبةِ إلى معافرٍ وهيَ بلدٌ باليمنِ تُصْنَعُ فيها الثيابُ فنسبتْ إليها، فالمرادُ أو عدلَه ثوبًا معافريًا.
(1)
أبو داود رقم (1576) و (1577) و (1578)، والترمذي رقم (623)، والنسائي (5/ 26).
(2)
في صحيحه رقم (4886).
(3)
في "المستدرك"(1/ 398) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
قلت: وأخرجه ابن الجارود رقم (1104)، والدارقطني (2/ 102 رقم 29)، والبيهقي (4/ 98) و (9/ 193)، والبغوي في "شرح السنة"(6/ 19)، وابن ماجه رقم (1803)، وأبو عبيد في الأموال رقم (64)، وعبد الرزاق (4/ 21 رقم 6841)، وابن أبي شيبة (3/ 126 - 127)، والطيالسي (1/ 240 رقم 2077 - منحة المعبود)، وأحمد (5/ 230).
قال الترمذي: هذا حديث حسن، وروى بعضهم هذا الحديث، عن سفيان عن الأعمش، عن مسروق، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بعث معاذًا إلى اليمن، فأمره أن يأخذ
…
"، وهذا أصح. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 275): "وإسناده متصل، صحيح، ثابت. قلت: وقد تكلم بعض العلماء في سماع مسروق من معاذ، وذكره الترمذي وكذا الدارقطني في "العلل" ورجَّحا الرواية المرسلة.
ولكن الراجح أنه سمع منه. وانظر: "التلخيص الحبير"(2/ 152 - 153).
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في "غريب الحديث"(3/ 191).
(6)
زيادة من (ح).
(أخرجَهُ الثلاثةُ، وصحَّحَهُ ابنُ حبانَ والحاكمُ) وقالَ الترمذيُّ
(1)
: حديثٌ حسنٌ. وذكرَ أن بعضَهم رواهُ مرسلًا وأنهُ أصحُّ وأعلَّه ابنُ حزمٍ
(2)
بالانقطاعِ وأنَّ مسروقًا لم يلقَ معاذًا، وفيهِ نظرٌ. وقالَ أبو داودَ
(3)
: إنهُ منكرٌ، قالَ: وبلغني عنْ أحمدَ أنهُ كانَ ينكرُ هذا الحديثَ إنكارًا شديدًا، قالَ البيهقيُّ
(4)
: إنَّما المنكرُ روايةُ أبي معاويةَ عن الأعمشِ عنْ إبراهيمَ عنْ مسروقٍ عنْ معاذٍ، فأما روايةُ الأعمشِ عنْ أبي وائلٍ عنْ مسروقٍ فإنَّها محفوظةً قدْ رواها عن الأعمشِ جماعةٌ منْهم سفيانُ الثوريُّ وشعبةُ ومعمرٌ وجرير وأبو عوانةَ ويحيى بنُ سعيد وحفصُ بنُ غياثِ، قالَ بعضُهم عنْ معاذٍ، وقالَ بعضُهم: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بعثَ معاذًا إلى اليمنِ أو معناهُ.
والحديثُ دليلٌ على تقديرِ الجزيةِ بالدينارِ منَ الذهبِ علي كلِّ حالِمٍ أي بالغٍ، وفي روايةٍ محتلِم. وظاهرُ إطلاقِه سواءٌ كانَ غنيًا أو فقيرًا، والمرادُ أنهُ يُوخَذُ الدينارُ ممنْ ذكرَ في السنةِ، وإلى هذا ذهبَ الشافعيُّ فقالَ: أقل ما يؤخذُ منْ أهلِ الذِمَّةِ دينارٌ على كلِّ حالمٍ، وبهِ قالَ أحمدُ فقالَ: الجزيةُ دينارٌ أو عَدْلُه منَ المعافريِّ لا يزادُ عليهِ ولا يُنْقَصُ، إلا أن الشافعيَّ جعلَ ذلكَ حدًّا في جانبِ القلَّةِ، وأما الزيادةُ فتجوزُ لما أخرجَه أبو داودَ
(5)
منْ حديثِ ابن عباسٍ: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صالحَ أهل نجرانَ على ألفي حُلَّةٍ النصفُ في محرَّمٍ والنصفُ في رجبٍ يؤدُّونَها إلى المسلمينَ وعاريةً ثلاثينَ دِرْعًا وثلاثينَ فرسًا، وثلاثينَ بعيرًا وثلاثينَ منْ كلِّ صِنْفٍ منْ أصنافِ السلاحِ يغْزو بها المسلمونَ ضامنينَ لها حتَّى يردُّوها عليهمْ إنْ كانَ باليمنِ كيدٌ".
قالَ الشافعي: قدْ سمعتُ بعضَ أهلِ العلمِ منَ المسلمينَ ومنْ أهلِ الذمةِ منْ أهلِ نجرانَ يذكر أن قيمةَ ما أخذُوا منْ كلِّ واحدٍ أكثرُ منْ دينارٍ، وإلى هذا
(1)
في "السنن"(3/ 20).
(2)
قلت: بل قال ابن حزم في "المحلَّى"(7/ 348): "ومسروق أدرك معاذًا وشاهد حكمه باليمن".
(3)
في "السنن"(2/ 236).
(4)
في "السنن الكبرى"(9/ 193).
(5)
في "السنن"(رقم (3041)، وهو حديث ضعيف الإسناد.
ذهبَ عمرُ فإنهُ أخذَ زائدًا على الدينارِ، وذهبَ بعضُ أهلِ العلم إلى أنه لا توقيفَ في [قدرِ]
(1)
الجزيةِ في القلةِ ولا في الكثرةِ وأنَّ ذلكَ موكولٌ إلى نظرِ الإمامِ، ويجعل هذهِ الأحاديثَ محمولةً على التخييرِ والنظرِ في المصلحةِ.
وفي الحديثِ دليلٌ على أنها لا تُوخَذُ الجزيةَ منَ الأُنْثَى لقولِه: "حالمٍ"، قالَ في "نهاية المجتهدِ"
(2)
: اتفقُوا على أنها لا تجبُ الجزيةُ إلا بثلاثة أوصافٍ: الذكورية والبلوغِ والحريةِ. واختلفُوا في المجنونِ المقعدِ والشيخِ وأهلِ الصوامعِ، [والكبير]
(3)
، والفقيرِ، قالَ: وكلُّ هذهِ مسائلُ اجتهاديةٌ ليسَ فيها توقيفٌ شرعيٌّ، قالَ: وسببُ اختلَافِهم هلْ يقتلونَ أمْ لا. اهـ.
هذا وأما روايةُ البيهقيُّ
(4)
عن الحكمِ بن عتيبةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتبَ إلى معاذٍ باليمنِ "على كلِّ حالمٍ أوْ حالمةٍ دينارًا أو قيمتُه"، فإسنادُها منقطعٌ، وقدْ وصَلَه أبو شيبةَ عن الحكمِ بن عتيبةَ عنْ مقسم عن ابن عباسٍ بلفظِ: "فعلَى كلِّ حالمٍ [دينارٌ]
(5)
أو عَدْلُه منَ المعافِرِ ذكرٍ أوْ أُنْثَى، حرٍّ أو عبدٍ، دينارٌ أو عِوَضُه منَ الثيابِ"، لكنَّه قالَ البيهقيُّ (4): أبو شيبةَ ضعيفٌ، وفي البابِ عنْ عمرِو بن حزمٍ
(6)
ولكنَّه منقطعٌ وعنْ عروةَ
(7)
وفيهِ انقطاعٌ. وعنْ معمرٍ عن الأعمشِ عنْ أبي وائلٍ عنْ مسروقٍ عنْ معاذٍ وفيهِ: "وحالمةٍ"، لكنْ قالَ أئمةُ الحديثِ: إن معمرًا إذا رَوَى عنْ غيرِ الزهريِّ يغلط كثيرًا. وبهِ يُعْرَفُ أنهُ لم يثبتْ في أَخْذِ الجزيةِ منَ الأُنْثَى حديثٌ يُعْمَلُ بهِ.
وقالَ الشافعيُّ: سألتُ محمدَ بنَ خالدٍ وعبدِ اللَّهِ بنَ عمرِو بن مسلمٍ وعددًا منْ علماءِ أهلِ المدينةِ وكلُّهم حَكَوْا عنْ عددٍ مضُوا قَبْلَهم يحكونَ عنْ عددٍ مَضَوْا قَبلَهم كلُّهم ثقةٌ أن صلحَ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ لأهلِ الذمةِ باليمنِ على دينارٍ كلَّ سنةٍ ولا
(1)
زيادة من (أ).
(2)
"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد (2/ 378 - 379).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
في "السنن الكبرى"(9/ 193 - 194).
(5)
في (أ): "دينارًا".
(6)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 194) وهو منقطع.
(7)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 194) وهو منقطع.
يثبتونَ أن النساءَ كُنَّ ممنْ يؤخذُ منهُ الجزيةُ، وقالَ عامتُهم: ولم يؤخذْ مِنْ زروعِهم وقدْ كانَ لهم زروعٌ، ولا منْ مواشيْهم شيئًا علمْناهُ.
قالَ: وسألتُ عددًا كثيرًا منْ ذمةِ أهلِ اليمنِ متفرقينَ في بلدانِ اليمنِ فكلهم أثبتَ لي لا يختلفُ قولُهم أنَّ معاذًا أخذَ منْهم دينارًا عنْ كلِّ بالغٍ منْهم وسموا البالغَ حالِمًا، قالُوا: وكانَ [ذلك]
(1)
في كتابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم معَ معاذٍ "إنَّ علَى كلِّ حالمٍ دينارًا".
واعلمْ أنهُ يُفْهَمُ منْ حديثِ معاذٍ هذَا، وحديثِ بريدةَ المتقدمِ
(2)
أنهُ يجبُ قبولُ الجزية ممنْ بذلَها ويحرمُ قتلُه وهوَ المفهومُ منْ قولِه تعالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ [عَن يَدٍ]
(3)
}
(4)
الآيةَ، أنهُ ينقطعُ القتالُ المأمورُ بهِ في صدرِ الآيةِ منْ قولِه تعالَى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (4) بإعطاءِ الجزيةِ، وأما جوازُه وعدمُ قَبولِ الجزيةِ فتدلُّ الآيةُ علَى النَّهْي عن القتالِ عندَ حصولِ الغايةِ وهوَ إعطاءُ الجزيةِ، فيحرمُ قتالُهم بعدَ إعطائِها.
علو الإسلام بالوقوف عند العمل به
4/ 1230 - وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرو المُزنيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الإِسْلامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى"، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
(5)
. [حسن]
(1)
زيادة من (أ).
(2)
أخرجه مسلم رقم (1731).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
سورة التوبة: الآية (29).
(5)
في "السنن"(3/ 252 رقم 30).
قلت: وأخرجه البيهقي (6/ 205) وقال الدارقطني: وعبد الله بن حشرج وأبوه مجهولان، كما في "نصب الراية" للزيلعي (3/ 213).
وقال الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(ق 60/ 1): "وحشرج بن عبد الله، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا".
وقال الألباني في "الإرواء"(5/ 106، 107) معقبًا على الضياء: "ذكره - ابن أبي حاتم - (1/ 2/ 296) برواية جماعة من الثقات عنه، وقال عن أبيه: "شيخ".
وعلة الحديث عندي أبوه عبد الله بن حشرج وجدّه، فقد أوردهما ابن أبي حاتم أيضًا (2/ 2/ 40)، (1/ 2/ 295 - 296) وقال في كل منهما عن أبيه:"لا يعرف"، وأقرّه الحافظ في "اللسان"
…
اهـ.=
(وعنْ عائذِ بن عمرٍو المزني عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: الإسلامُ يعلُو ولا يُعْلَى. أخرجَهُ الدارقطنيُّ)، فيهِ دليلٌ على عُلُوِّ أهلِ الإسلامِ على أهلِ الأديانِ في كلِّ أمرٍ لإطلاقِه، فالحقُّ لأهلِ الإيمانِ إذا عارضَهم غيرُهم منْ أهلِ المللِ كما أُشِيْرَ إليهِ في إلجائِهم إلى مضايقِ الطرقِ، ولا يزالُ الدينُ الحق يزدادُ عُلُوًا والداخلونَ فيهِ أكثرُ في كلِّ عصرٍ منَ الأعصارِ
(1)
.
السلام على الكفار وحكمه
5/ 1231 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبْدَأُوا الْيَهُودَ والنَّصَارَى بِالسَّلامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ في طَرِيقِ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: لا تبدأوا اليهودَ والنَّصارى بالسلامِ، وإذا لقيتُم أحدَهم في طريقِ فاضْطَرُّوه إلى أضْيَقِهِ. رواهُ مسلمٌ)، فيهِ دليل على تحريمِ
= • وأخرج بَحْشَل في "تاريخ واسط"(ص 155) عن معاذ مرفوعًا بلفظ: "الإيمان يعلو ولا يعلى". وعزاه إليه الزيلعي في "نصب الراية"(3/ 213) وسكت عليه وتبعه الحافظ في "الدراية"(2/ 66 رقم 555).
قلت: وفيه عمران ابن أبان وهو أبي موسى الطحان الواسطي، قال الحافظ في "التقريب""ضعيف". وبقية رجاله ثقات معروفون غير إسماعيل بن عيسى وهو بغدادي واسطي وثقه الخطيب وغيره. قاله الألباني في "الإرواء"(5/ 108).
• وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 150)، والبخاري تعليقًا (3/ 218 رقم الباب 79) عن ابن عباس موقوفًا بلفظ:"الإسلام يعلو ولا يُعلى".
وخلاصة القول: أن الحديث حسن بطرقه، والله أعلم.
(1)
إنما يعلو شأن الإسلام إذا عملنا بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح
…
ومنها إعداد القوة ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا
…
ومنها وحدة الصف وجمع الكلمة
…
ومنها العمل الدؤوب لإعلاء كلمة الله فوق كل جبل ورابية
…
(2)
في "صحيحه" رقم (2167).
قلت: وأخرجه أحمد (2/ 263، 266، 346، 444، 459، 525)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (1103، 1111)، وأبو داود رقم (5205)، والترمذي رقم (1602)، والطيالسي رقم (2424)، والبيهقي (9/ 203) من طرق.
ابتداءِ المسلمِ لليهودي والنصراني بالسلامِ لأنَّ ذلكَ أصلُ النَّهي، وحَمْلُهُ علَى الكراهةِ خلافُ أصلِه وعليهِ حملَه الأقل.
وإلى التحريمِ ذهبَ الجمهورُ منَ السلفِ والخلفِ، وذهبَ طائفةٌ منهم ابنُ عباسٍ إلى جوازِ الابتداءِ لهم بالسلامِ وهوَ وجهٌ لبعضِ الشافعيةِ إلا أنهُ قالَ المازريُّ إنهُ يُقَالُ: السلامُ عليكَ بالإفرادِ، ولا يقالُ [السلامُ] عليكمْ، واحتجَّ له بعمومِ قولِه تعالَى:{وَقُولُوا للِنَّاسِ حُسْنًا}
(1)
، وأحاديثُ الأمرِ بإفشاءِ السلامِ.
والجوابُ أنَّ هذهِ العموماتِ مخصوصةٌ بحديثِ البابِ، وهذا إذا كانَ الذميُّ [منفردًا]
(2)
، وأما إذا كانَ معهُ مسلمٌ جازَ الابتداءُ بالسلامِ ينوي بهِ المسلمَ؛ لأنهُ قدْ ثبتَ أنهُ صلى الله عليه وسلم سلمَ علَى مجلسٍ فيهِ أخلاطٌ منَ المشركينَ والمسلمينَ.
ومفهومُ قولِه: لا تبدءُوا، أن لا نهي عن الجوابِ عليهمْ إن سلَّموا، ويدلُّ لهُ عمومُ قولِه تعالَى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
(3)
، وأحاديثُ:"إذا سلَّمَ عليكمْ أهلُ الكتابِ فقولُوا: وعليكمْ"
(4)
، وفي روايةٍ: "إنَّ اليهودَ إذا سلَّموا عليكمْ [يقولُ أحدُهم السَّامُ عليكمْ]
(5)
فقولُوا: وعليكَ"
(6)
، وفي روايةٍ:"قلْ: وعليكَ"
(7)
، أخرجَها مسلمٌ.
واتفقَ العلماءُ علَى أنهُ يُرَدُّ على أهلِ الكتابِ ولكنَّه يقتصرُ على قولِه وعليكم وهوَ هكذَا بالواوِ عندَ مسلمٍ في رواياتٍ
(8)
. قالَ الخطابيُّ: عامةُ المحدِّثينَ يَرْوُوْن هذا الحرفَ بالواوِ، قالُوا: وكانَ ابنُ عيينةَ يرويهِ بغيرِ الواوِ، وقالَ الخطابي: هذا هوَ الصوابُ لأنهُ إذا حَذَفَ الواو صارَ كلامُه بعينِه مردودًا عليهمْ خاصةً، وإذا
(1)
سورة البقرة: الآية 83.
(2)
في (أ): "مفردًا".
(3)
سورة النساء: الآية (86).
(4)
أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (6/ 2163) من حديث أنس بن مالك.
(5)
زيادة من (ب).
(6)
أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (8/ 2164) من حديث ابن عمر.
(7)
أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (9/ 2164) من حديث ابن عمر.
(8)
رقم (11/ 2165) من حديث عائشة، ورقم (12/ 2166) من حديث جابر بالإضافة لما تقدم.
أثبتَ الواوَ اقتضَى المشاركةَ معَهُم فيما [قالُوه]
(1)
، قالَ النوويُّ
(2)
: إثباتُ الواوِ وحذفُها جائزٌ إنْ صحَّتْ الرواية به، فإنَّ الواوَ وإن اقتضتِ المشاركةَ فالموتُ هوَ علينا وعليهم ولا امتناعَ.
وفي الحديثِ دليلٌ على إلجائِهم إلى مضايقِ الطُّرقِ إذا اشتركُوا همْ [والمسلمونَ]
(3)
في الطريقِ، فيكونُ [طريقهم الضيق، والأوسع]
(4)
للمسلمينَ، فإنْ خلتِ الطريقُ عن المسلمينَ فلا حرجَ عليهم، وأما ما يفعلُه اليهودُ في هذهِ الأزمنةِ منْ تعمدِ جَعْلِ [المسلم]
(5)
على يسارِهِم إذا لاقاهُم في الطريقِ، فشيءٌ ابتدعُوه لم يُرْوَ فيهِ شيءٌ، وكأنَّهَم يريدونَ التفاؤلَ بأنَّهم أصحابِ اليمينِ فينبغي مَنْعهُم مما يتعمَّدونَه منْ ذلكَ لشدةِ محافَظَتِهِمْ عليهِ ومضادةِ [المسلمينِ]
(6)
.
وثيقة صلح الحديبية
6/ 1232 - وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عامَ الْحُدَيْبِيَةِ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ:"هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سُهَيلَ بْنَ عَمْرٍو: عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأمَنُ فِيهَا الناسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(7)
، وَأَصْلُهُ في الْبخارِيِّ
(8)
. [صحيح]
(وعنِ المسور بن مخرمةَ ومروانَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجَ عامَ الحديبية وذكر الحديثِ)، هكذَا في نُسَخِ بلوغِ المرامِ بفرادِ [ضمير]
(9)
ذِكْرٍ، وكانَ الظاهرُ فَذَكَرا بضمير التثنيةِ يعودَ إلى [المسورِ]
(10)
ومروانَ، وكأنهُ أرادَ فذكرَ أي الراوي (بطولِه وفيهِ: هذَا ما صَالَحَ عليهِ محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ سهيلَ بنَ عمرٍو على وضْعِ الحربِ عَشْرَ سنينَ يأمنُ فيها الناسُ ويكفُّ بعضُهم عنْ بعضٍ. أخرجَهُ أبو داودَ وأصلهُ في البخاريِّ).
(1)
في (أ): "قالوا".
(2)
في "شرح صحيح مسلم"(14/ 144).
(3)
في (أ): "المسلمين".
(4)
في (ب): "واسعة".
(5)
في (أ): "المسلمين".
(6)
في (ب): "المسلم".
(7)
في "السنن" رقم (2765) و (2766).
(8)
في "صحيحه" رقم (2731، 2732).
(9)
زيادة من (أ).
(10)
زيادة من (أ).
الحديثُ دليلٌ علَى جوازِ المهادنةِ بينَ المسلمينَ وأعدائِهم المشركينَ مدةً معلومةً لمصلحةٍ يراها الإمامُ وإن كرهَ ذلكَ أصحابُه، فإنهُ ذكرَ في المهادنةِ ما يفيدُه الحديثُ الآتي وهوَ قولُه:
7/ 1233 - وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ
(1)
بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه وَفِيهِ: "أَنَّ مَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَينَا"، فَقَالوا: أَتَكْتُبُ هذَا يَا رسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا". [صحيح]
(وأخرجَ مسلمٌ بعضَه منْ حديثِ أنسٍ وفيهِ: أن مَنْ جاءَ منكمْ لم نردُّه عليكمْ ومَنْ جاءَكم منَّا رددتُموه علينَا)، أي مَنْ جاءَ منَ المسلمينَ إلى كفارِ مكةِ لم يردُّوهُ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ومَنْ جاءَ منْ أهلِ مكةَ إليهِ صلى الله عليه وسلم ردَّه إليهمْ، فكرهَ المسلمونَ ذلكَ:(فقالُوا: أتكتبُ هذا يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: نعمْ إنهُ مَنْ ذهبَ منَّا إليهمْ فابعدَهُ اللَّهُ، ومنْ جاءَنا منْهم فسيجعلُ اللَّهُ لهُ فَرَجًا ومَخْرَجًا)، فإنهُ صلى الله عليه وسلم كتبَ هذا الشرطَ معَ ما فيهِ منْ كراهةِ أصحابِه لهُ.
والحديثُ طويلٌ ساقَه أئمةُ السِّيرِ في قصةِ الحديبيةِ واستوفاهُ ابنُ القيمِ في "زادِ المعادِ"
(2)
وذكرَ فيهِ كثيرًا منَ الفوائدِ، وفيهِ أنهُ صلى الله عليه وسلم ردَّ إليهم أبا جندلٍ بنَ سهيلٍ وقدْ جاءَ مسلمًا قبلَ تمامِ كتابِ الصلحِ، وأنهُ بعدَ ردِّهِ إليهمْ جعلَ اللَّهُ لهُ فرجًا ومخرجًا، ففر من المشركين إلى أبي بصير عند سيف البحر حين أقام به على طريقهم يقطعها عليهم، وانضاف إليه جماعةٌ منَ المسلمينَ حتَّى ضيَّقَ على أهلِ مكةَ مسالكَهم، والقصةُ مبسوطةٌ في كتبِ السِّيَرِ.
وقدْ ثبتَ أنهُ صلى الله عليه وسلم يردَّ النساءَ الخارجاتِ إليهِ، فقيلَ لأنَّ الصلحَ إنما وقعَ في حقِّ الرجالِ فقط دونَ النساءِ، وأرادتْ قريشٌ تعميمَ ذلكَ في الفريقينِ، فإنَّها لما خرجتْ أمُّ كُلثومٍ بنتُ أبي معيطٍ مهاجرةً طلبَ المشركونَ رجوعَها فمنعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ ذلكَ وأنزلَ اللَّهُ تعالَى الآيةَ.
(1)
في "صحيحه" رقم (1784).
(2)
(3/ 286 - 316).
وفيها: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}
(1)
الآيةَ. والحديثُ دليلٌ على جوازِ الصُّلحِ على ردِّ مَنْ وصلَ إلينا منَ العدوِّ كما [فعلَه]
(2)
صلى الله عليه وسلم، وعلَى ألا يردُّوا مَنْ وصلَ إليهمْ منَّا.
النهي عن قتل المعاهد
8/ 1234 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنةِ، وَإِنَّ رِبحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ عبدِ اللَّهِ بن عمرَ رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ قتلَ معاهدًا لم يَرِحْ) بفتحِ المثناةِ التحتيةِ وفتحِ الراءِ، أصلُه يَرَاح
(4)
أي لم يجدْ (رائحةَ الجنةِ، وإنَّ رِيْحَها ليوجدُ منْ مسيرةِ أربعينَ عامًا. أخرجَهُ البخاريُّ).
وفي لفظٍ للبخاريِّ
(5)
: "مَنْ قتلَ نفسًا معاهدًا لهُ ذمةُ اللَّهِ وذمةُ رسولِه - الحديثَ"، وفي لفظٍ لهُ تقييدُ ذلكَ "بغيرِ جرْمٍ"، وفي لفظٍ: بغيرِ حقٍّ، وعندَ أبي داودَ
(6)
والنسائيِّ
(7)
: بغيرِ حلِّها، والتقييدُ معلوم منْ قواعدِ الشرعِ.
وقولُه: (مسيرة أربعينَ عامًا) وقعَ عندَ الإسماعيليِّ
(8)
سبعينَ عامًا، ووقعَ
(1)
سورة الممتحنة: الآية 10.
(2)
في (أ): "فعل".
(3)
في صحيحه رقم (3166). قلت: وأخرجه النَّسَائِي (8/ 25)، وابن ماجه رقم (2686).
(4)
قوله: "لم يَرَح رائحة الجنة"، قال أبو عبيد: من رحتُ أراح: إذا وجد الريح. وقال أبو عمرو: لم يرِح بكسرِ الراء من رِحت، أريح: إذا وجد الريح، وقال الكسائي: لم يُرح بضم الياء من قولك: أرحتُ الشيء، فأنا أريحه: إذا وجدت ريحه " اهـ.، شرح السنة" للبغوي (10/ 152).
(5)
في "صحيحه" رقم (6914).
(6)
في "السنن" رقم (2760).
(7)
في "السنن" رقم (8/ 24 رقم 4747) و (8/ 25 رقم 4748) من حديث أبي بكرة، قلت: وأخرجه أحمد (5/ 36، 38، 46، 50، 52)، والدارمي (2/ 135)، وهو حديث صحيح.
(8)
عزاه إليه ابن حجر في "الفتح"(12/ 259).
عندَ الترمذي
(1)
منْ حديثِ أبي هريرةَ وعندَ البيهقيِّ
(2)
منْ [روايةِ]
(3)
صفوانِ بن سليمٍ عنْ ثلاثينَ منْ أبناءِ الصحابةِ بلفظِ: "سبعينَ خريفًا"، وعندَ الطبرانيِّ
(4)
منْ حديثِ أبي هريرة مائةَ عامٍ، وفيهِ
(5)
منْ حديثِ أبي بكرةَ خمسمائةِ عامٍ، وهوَ في "الموطأ"، منْ حديثٍ آخرَ في "مسندِ الفردوسِ"
(6)
عنْ جابرٍ: "إنَّ ريحَ الجنةِ ليدرَكُ منْ مسيرةِ ألفِ عامٍ". وقدْ جمعَ العلماءُ بينَ هذهِ الرواياتِ المختلفةِ.
قالَ المصنفُ
(7)
ما حاصلُه: إنَّ ذلكَ الإدراكَ في موقفِ القيامةِ، وأنهُ يتفاوتُ بتفاوتِ مراتبِ الأشخاصِ، فالذي يدركُه منْ مسيرةِ خمسمائةِ عامِ أفضلُ منْ صاحبِ السبعينَ إلى آخرِ ذلكَ، وقدْ أشارَ إلى ذلكَ شيخُنا في "شرحِ الترمذيِّ" رأيتُ نحوَه في كلام ابن العربيِّ
(8)
.
وفي الحديثِ دليلٌ على تحريمِ قَتْلِ المُعَاهِدِ. وتقدَّمَ الخلافُ في الاقتصاص منْ قاتلِه، وقالَ المهلَّبُ: هذا فيهِ دليلٌ على أن المسلمَ إذا قتلَ الْمُعَاهِدَ أوِ الذِّمِّيَّ لا يُقْتَصُّ منهُ، قالَ: لأنهُ اقتصرَ فيهِ على ذِكْرِ الوعيدِ الأُخْرويِّ دونَ الدنيويِّ، هذا كلامُهُ.
* * *
(1)
في "السنن" رقم (1403) وقال: حديث حسن صحيح.
قلت: وأخرجه ابن ماجه (2687) وهو حديث صحيح.
(2)
في "السنن الكبرى"(9/ 205).
(3)
في (أ): "حديث".
(4)
في "الأوسط" رقم (663) من حديث أبي هريرة.
وأورده الهيثمي في "المجمع"(6/ 294) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" عن شيخه أحمد بن القاسم ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح غير معلل بن نفيل وهو ثقة.
(5)
أي في "الطبراني" كما في "مجمع الزوائد"(6/ 293)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه محمد بن عبد الرحمن العلاف ولم أعرفه.
(6)
عزاه إليه الحافظ في "الفتح"(12/ 260).
(7)
في "الفتح"(12/ 260).
(8)
انظر: "فتح الباري"(12/ 260).
[الباب الثالث] باب السبقِ والرمي
السَّبْقُ بفتحِ السينِ المهملةِ وسكونِ الموحدةِ، مصدرٌ، وهوَ المرادُ هنا. ويُقَالُ بتحريكِ الموحدةِ، وهوَ الرهنُ الذي يوضعُ لذلكَ. والرمي: مصدرُ رَمَى، والمرادُ هُنَا المناضلةُ بالسهام، وهي المراماة بالسهام للسبق.
سباق الخيل المضمرة وغيرها
1/ 1235 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَابَقَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْلِ الَّتي قَدْ ضُمِّرَتْ، مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنيّةَ الْوداعِ، وَسَبَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتي لَمْ تُضمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَني زُريقٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
زَادَ الْبُخَارِيُّ
(2)
، قَالَ سُفْيَانُ: مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْودَاع خَمْسَةُ أَمْيَالٍ، أَوْ سِتَّةٌ، وَمِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقِ مِيلٌ
(3)
. [صحيح]
(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: سابقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخيلِ التي قدْ ضُمِّرَتْ) منَ التضميرِ، وهوَ كما في "النهايةِ"
(4)
: أنْ [يظاهرَ]
(5)
عليها بالعلفِ حتَّى تسمنَ ثمَّ لا تُعلفُ إلَّا قوتَها لتخفَّ، زادَ في الصحاحِ، وذلكَ في أربعينَ يومًا، وهذهِ المدةُ
(1)
البخاري رقم (420)، ومسلم رقم (1870).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2575)، والترمذي رقم (1699)، والنسائي (6/ 226)، وابن ماجه رقم (2877) وغيرهم.
(2)
في "صحيحه" رقم (2868).
(3)
الميل= 1848 م.
(4)
(3/ 99).
(5)
في (أ): "تظاهر".
تسمَّى المضمارَ، والموضعُ الذي تضمر فيهِ الخيلُ [أيضًا]
(1)
مِضْمارٌ، وقيلَ: تُشَدُّ عليها سروجُها وتُجَلَّلُ بالأَجِلَّةِ حتَّى تَعْرَفَ فيذهبَ رَهَلهَا ويشتدُّ لحمُها.
(منَ الحَفياءِ) بفتحِ [الحاءِ]
(2)
المهملةِ وسكونِ الفاءِ بعدَها مثناةٌ تحتيةٌ ممدودةٌ وقد تُقْصَرُ، مكانٌ خارجَ المدينةِ (وكانَ أمدُها) بالدالِ المهملةِ أي غايتُها (ثنيةَ الوداعِ)، محلٌّ قريبٌ منَ المدينةِ سُمِّيَتْ بذلكَ لأنَّ الخارجَ منَ المدينةِ يمشي معهُ المودعونَ إليها.
(وسابقَ بينَ الخيلِ التي لم تُضَمَّرْ منَ الثنيةِ إلى مسجدِ بني زُرَيْقٍ، وكانَ ابنُ عمرَ فيمنْ سابقَ. متفق عليهِ. زادَ البخاريُّ) منْ حديثِ ابن عمرَ (قالَ سفيانُ: منَ الحفياءِ إلى ثنيةِ الوداعِ خمسةُ أميالٍ أو ستةٌ، ومِنَ الثنيةِ إلي مسجدِ بني زُرَيْقٍ ميلٌ).
الحديثُ دليلٌ على مشروعيةِ المسابقة وأنهُ ليسَ منَ العبثِ بلْ منَ الرياضةِ المحمودةِ الموصلَةِ إلى تحصيلِ المقاصدِ في الغزوِ والانتفاعِ بها في الجهادِ، وهي دائرة بينَ الاستحبابِ والإباحةِ بحسبِ الباعثِ علَى ذلكَ.
قالَ القرطبي: لا خلافَ في جوازِ المسابقةِ على الخيلِ وغيرِها منَ الدوابِّ وعلَى الأقدام، وكَذَا [الترامِي]
(3)
بالسهامِ واستعمالِ الأسلحةِ، لما في ذلكَ منَ [التدرب]
(4)
على الحربِ. وفيهِ دليلٌ على جوازِ تضميرِ الخيلِ المعدَّةِ للجهادِ، [وقيلَ]
(5)
إنهُ يستحبُّ.
2/ 1236 - وَعَنْهُ رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ، وَفَضَّلَ الْقُرَّحَ في الْغَايَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ
(6)
وَأَبُو دَاوُدَ
(7)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(8)
. [صحيح]
(وعنهُ) أي ابن عمرَ رضي الله عنهما (أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سابَقَ بينَ الخيلِ وفضَّل القُرَّحَ) جمعُ
(1)
زيادة من (ب).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
في (أ): "المراماة".
(4)
في (أ): "التمرين".
(5)
زيادة من (ب).
(6)
في "المسند"(2/ 157).
(7)
في "السنن" رقم (2577).
(8)
في "صحيحه" رقم (4688).
قلت: وأخرجه الدارقطني (4/ 299)، وهو حديث صحيح.
قارحٍ، والقارحُ ما كملتْ سِنُّه كالبازِلِ في الإبلِ، (في الغايةِ. رواهُ أحمدُ وأبو داودَ وصحَّحهُ ابنُ حبانَ).
فيهِ مثلُ الذي قبلَه دليلٌ على شرعية السِّباقِ بينَ الخيلِ وأنهُ يجعلُ غايةَ القُرَّحِ أبعدَ منْ غايةِ ما دونَها لِقُوَّتِها وجَلادتِها، وهوَ المرادُ منْ قولِه: وفضَّل القُرَّحَ.
السباق على الخُف والحافر والنصل
3/ 1237 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا سَبَقَ إِلَّا في خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(1)
والثَّلَاثَةُ
(2)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(3)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا سَبَقَ) بفتحِ السينِ المهملةِ وفتحِ الباءِ الموحدةِ، هوَ ما يُجْعَلُ للسابِقِ [على السَّبْقِ]
(4)
منْ جُعَلٍ، (إلَّا في خفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ. رواهُ أحمدُ والثلاثةُ وصحَّحهُ ابنُ حِبَّانَ)، ورواه الشافعي
(5)
والحاكمُ
(6)
منْ طُرقٍ، وصحَّحَهُ ابنُ القطَّانِ وابنُ دقيقِ العيدِ، وأعلَّ الدارقطني بعضَها بالوقْفِ
(7)
، ورواه الطبراني
(8)
وأبو الشيخ من حديث ابن عباس.
وقولُه: (إلا في خفٍّ) المرادُ بهِ الإبلُ، والحافرُ: الخيلُ، والنصلُ: السهمُ، أي ذي خُفٍّ أو ذي حافرٍ أو ذي نصلٍ، على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليهِ مقامَهُ.
(1)
في "المسند"(2/ 474).
(2)
أبو داود رقم (2574)، والترمذي رقم (1700)، والنسائي (6/ 226).
(3)
في "صحيحه" رقم (4690).
قلت: وأخرجه الشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 128 - 129)، والبغوي في "مسند ابن الجعد" رقم (2855) و (2857)، والبيهقي (10/ 16)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2653).
وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه ابن القطان وابن دقيق العيد. انظر:"التلخيص الحبير"(4/ 161).
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في "ترتيب المسند"(2/ 128، 129).
(6)
عزاه إليه الحافظ في "التلخيص الحبير"(4/ 161).
(7)
كما في "التلخيص الحبير"(4/ 161).
(8)
في "الكبير"(10/ 382 رقم 10764). وأورده الهيثمي في "المجمع"(5/ 263) وقال: فيه عبد اللهِ بن هارون الفروي، وهو ضعيف بهذا الحديث وغيره.
والحديثُ دليلٌ علَى جوازِ السباقِ على جُعَلٍ، فإنْ كانَ الْجُعَلُ منْ غيرِ المتسابقينِ كالإمام يجعلُه للسابِقِ حلَّ ذلكَ بلا خلافٍ، وإنْ كانَ منْ أحدِ المتسابقينَ لم يحلَّ لأَنهُ منَ القمارِ.
وظاهرُ الحديثِ أنهُ لا يشرعُ السَّبَقُ إلَّا فيما ذُكِرَ منَ الثلاثةِ، وعلى الثلاثةِ قَصَرَهُ مالكٌ والشافعي، وأجازَهُ عطاءٌ في كلِّ شيءٍ، وللفقهاءِ خلافٌ في جوازِه على عِوَضٍ أو لا، ومَنْ أجازَه عليهِ فلَهُ شرائطُ مستوفاةٌ وقد ذكرها في الشرح
(1)
.
محلِّل السباق
4/ 1238 - وَعَنْهُ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أدْخَلَ فَرَسًا بَينَ فَرَسَينِ - وَهُوَ لَا يَأمَنَ أَنْ يُسْبَقَ - فَلَا بَأسَ بِهِ، فَإنْ أَمِنَ فَهُوَ قِمَارٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(2)
وَأَبُو دَاوُدَ
(3)
وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. [ضعيف]
(وعنهُ) أي عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه (عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ أَدخلَ فَرسًا بينَ فَرسَيْنِ وهوَ لا يأمن أن يُسْبَقَ) مغيَّر الصيغةِ أي يسبقُه غيرُه (فلا بأسَ بهِ، فإنْ أَمِنَ فهوَ قمارٌ. رواهُ أحمدُ وأبو داودَ وإسنادُه ضعيفٌ).
ولأئمةِ الحديثِ في صحتِه إلى أبي هريرةَ كلامٌ كثيرٌ حتَّى قالَ أبو حاتمٍ
(4)
: أحسنُ أحوالِه أنْ يكونَ موقوفًا على سعيدِ بن المسيبِ، فقدْ رواهُ يحيى بنُ سعيدٍ عنْ سعيدٍ منْ قولِه. انتَهى.
وهوَ كذلكَ في "الموطأِ"
(5)
عن الزُّهريِّ عنْ سعيدٍ قالَ ابنُ أبي خيثمةَ: سألتُ ابنَ معينٍ عنهُ فقالَ: هذَا باطلٌ وضَرْبٌ على أبي هريرةَ، وقدْ غلَّطَ الشافعيُّ سعيد بن حسين في روايته عن الزهري عنْ سعيدٍ عنْ أبي هريرةَ.
(1)
وهو "البدر التمام" للمغربي. وهو أصل "سبل السلام". ولديَّ مخطوطة له.
(2)
في "المسند"(2/ 505).
(3)
في "السنن" رقم (2579) بسند ضعيف لضعف سفيان بن حسين في روايته عن الزهري.
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2876)، والحاكم (2/ 114)، والبيهقي (10/ 20)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 175)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 396).
والخلاصة: أن الحديث ضعيف. انظر ما قاله الحافظ في: "التلخيص الحبير"(4/ 163).
(4)
في "علل الحديث"(2/ 318).
(5)
(2/ 468).
وفي قولهِ: (وهوَ لا يَأْمَنُ أنْ يُسْبَقَ) دلالةٌ على أن المحلِّلَ وهوَ الفرسُ الثالثُ في الرهانِ يُشْتَرَطُ فيه أنْ لا يكونَ متحققَ السبقِ وإلا كانَ قمارًا. وإلى هذا الشرطِ ذهبَ البعضُ، وبهذَا الشرطِ يخرجُ عن القمارِ، ولعلَّ الوجْهَ أن المقصودَ إنَّما هوَ الاختبارُ للخيلِ، فإِذَا كانَ معلوم السبقِ فاتَ الغرضُ الذي يُشْرَعُ لأجلِه، وأما المسابقةُ بغيرِ جُعَلٍ فمباحةٌ إجماعًا.
شرعية التدرب على القوة
5/ 1239 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقْرَأُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
(1)
، "أَلَا إِن الْقُوّةَ الرّمْيُ، أَلَا إِن الْقُوّةَ الرّمْي، أَلَا إِن الْقُوَّةَ الرّمْيُ"، رَوَاهُ مُسْلمٌ
(2)
. [صحيح]
(وعنْ عقبةَ بن عامر قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهوَ على المنبرِ يقرأُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، أَلَا إنَّ القوةَ الرميُ، ألا إنَّ القوةَ الرميُ ألا إنَّ القوةَ الرميُ، رواهُ مسلمٌ).
أفادَ الحديثُ تفسيرَ القوةِ في الآيةِ بالرمي بالسهامِ لأنهُ المعتادُ في عصرِ النبوةِ، ويشملُ الرميَ بالبنادقِ للمشركينَ والبغاةِ، ويُؤخَذُ منْ ذلكَ شرعيةُ التدرب فيهِ لأنَّ الإعدادَ إنَّما يكونُ معَ الاعتيادِ، [لأن]
(3)
مَنْ لم يحسنِ الرميَ لا يُسَمَّى مُعِدًّا للقوة، والله أعلم.
* * *
(1)
سورة الأنفال: الآية 60.
(2)
في "صحيحه" رقم (1917).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2514)، وابن ماجه رقم (2813)، وأحمد (4/ 157)، والبيهقي (10/ 13).
وللحديث طرق أخرى، انظر في:"إرواء الغليل" رقم (1500).
(3)
في (ب): "إذ".
[الكتاب الرابع عشر] كتاب الأطعمَة
تحريم ما له ناب من السباع
1/ 1240 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُل ذِي نَابِ مِنَ السباع فَأكْلُهُ حَرَامٌ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: كلُّ ذي نابٍ منَ السباعِ فكلُه حرام. رواهُ مسلم).
الحديثُ دليل على تحريمِ ما لَهُ نابٌ منْ سباعِ الحيواناتِ، والنابُ السنُّ خلفَ الرباعيةِ كما في "القاموس"
(2)
، والسبعُ هوَ المفترِسُ منَ الحيوانِ كما في
(1)
في "صحيحه" رقم (1933).
قلت: وأخرجه مالك (2/ 496 رقم 14)، وعنه الشافعي في "بدائع المنن"، وأحمد (2/ 236)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 375).
من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان عنه.
وأخرجه الطحاوي (4/ 375)، والترمذي رقم (1479)، وأحمد (2/ 366، 418)، والبيهقي (9/ 331).
من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه.
قال الترمذي: حديث حسن.
وقال ابن عبد البر في "التمهيد"(1/ 139): "وهذا حديث ثابت صحيح مجتمع على صحته".
والخلاصة: أن الحديث صحيح، واللهُ أعلم.
(2)
و"لسان العرب"(14/ 345).
"القاموسِ"
(1)
أيضًا، وفيهِ الافتراسُ الاصطيادُ، وفي "النهايةِ"
(2)
: نَهَى عنْ كلِّ ذي نابٍ منَ السباعِ، هوَ ما يفترسُ الحيوانَ ويأكل قَهْرًا وقسرًا كالأسدِ والذئبِ والنمرِ ونحوِها.
واختلفَ العلماءُ في المحرَّمِ منْها، فذهبَ الهادويةُ والشافعيُّ وأبو حنيفةَ وأحمدُ وداودُ إلى ما أفادهُ الحديثُ، ولكنَّهم اختلفُوا في جنسِ السباعِ المحرَّمةِ.
فقال أبو حنيفةَ: كلُّ ما أكلَ اللحمَ فهوَ سَبُعٌ حتَّى الفيلُ [والضبعُ]
(3)
واليربوعُ والسِّنَّوْرُ.
وقالَ الشافعيُّ: يحرمُ مِنَ السباعِ ما يعدُو على الناسِ كالأسدِ والذئبِ والنمرِ [ونحوها]
(4)
دونَ الضبُعِ والثعلبِ لأنَّهما لا يعدوانِ على الناسِ.
وذهبَ ابنُ عباسٍ فيما حكاهُ ابنُ عبدِ البرِ
(5)
عنهُ وعائشةُ وابنُ عمرَ على روايةٍ عنهُ فيها ضعفٌ، والشعبيُّ [وسعيدُ]
(6)
بنُ جبيرٍ، إلى حلِّ لحومِ السباعِ مستدلينَ بقولِه تعالَى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}
(7)
الآيةَ. فالمحرَّمُ هوَ ما ذُكِرَ [في الآيةِ]
(8)
وما عدا حلالٌ.
(وأُجِيْبَ) بأنَّ الآيةَ مكيةٌ
(9)
وحديثُ أبي هريرةَ بعدَ الهجرةِ فهو ناسخ للآيةِ عندَ مَنْ يَرى نسخَ القرآنِ بالسنةِ، وبأنَّ الآيةَ خاصةٌ بثمانيةِ الأزواجِ منَ الأنعام ردًّا علَى مَنْ حرَّم بعضَها كما ذكرَ اللَّهُ تعالى قبلَها منْ قولِه:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ}
(10)
إلى آخرِ الآياتِ.
فقيلَ في الردِّ عليهم: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (6) الآيةَ، أي أن الذي أحللتُموهُ هوَ المحرَّمُ، والذي حرَّمْتُمُوهُ هوَ الحلالُ وأنَّ ذلكَ افتراءٌ على اللَّهِ، وقرنَ بها لحمَ الخنزيرِ لكونِه مشارِكًا لها في علةِ التحريمِ وهوَ كونُه رجسًا.
(1)
"القاموس المحيط"(ص 938).
(2)
(5/ 140).
(3)
في (ب): "والضب".
(4)
زيادة من (أ).
(5)
في "التمهيد"(1/ 145).
(6)
زيادة من (ب).
(7)
سورة الأنعام: (145).
(8)
في (أ): "منها".
(9)
انظر: "فتح القدير" للشوكاني - بتخريجنا - عند تفسير هذه الآية.
(10)
سورة الأنعام: الآية 139.
فالآيةُ وردتْ في الكفارِ الذينَ يحلونَ الميتةَ والدمَ ولحمَ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ الله بهِ ويحرِّمونَ كثيرًا مما أباحه الشرعُ، وكانَ الغرضُ منَ الآيةِ بيانَ حالِهم وأنَّهم يضادونَ الحقَّ، فكأنهُ قيلَ: ما حرَّم إلَّا ما أحلَلْتُمُوهُ مبالغةً في الردِّ عليهم.
قلتُ: ويحتملُ أن المرادَ قلْ لا أجدُ - الآيةَ - محرَّمًا إلا ما ذُكِرَ في الآيةِ، ثمَّ حرَّمَ الله منْ بعدُ كلَّ ذي نابٍ منَ السباع
(1)
، ويُرْوَى عنْ مالكٍ
(2)
أنهُ إنَّما يُكْرَهُ أكلُ كلِّ ذي نابٍ منَ السباعِ لا أنهُ [يحرمَ]
(3)
.
تحريم ذي المخلب من الطير
2/ 1241 - وأَخْرَجَهُ
(4)
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَفْظِ: نَهَى. وَزَادَ: "وَكُلِّ ذِي مخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ". [صحيح]
(وأخرجَهُ) أي أخرجَ معنَى حديثِ أبي هريرةَ مسلم (منْ حديثِ ابن عباسٍ بلفظِ: نَهَى) أي نهى عنْ كلِّ ذي نابٍ منَ السباعِ (وزادَ) أي ابنُ عباسٍ: (وكلِّ ذي
(1)
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(1/ 145 - 146):
"
…
قال أكثر أهل العلم والنظر من أهل الأثر وغيرهم، أن الآية محكمة غير منسوخة، وكل ما حرَّمه رسول الله مضموم إليها. وهو زيادة من حكم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين ما حرَّم الله في كتابه أو حرَّمه على لسان رسوله، بدليل قوله:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. قال أهل العلم: القرآن والسنة
…
فقرَن الله عز وجل طاعته بطاعته، وأوعد على مخالفته، وأخبر أنه يهدي إلى صراطه، وبسط هذا القول موجود في كتب الأصول.
وليس في هذه الآية دليل على أن لا حرام على آكل إلا ما ذكر فيها، وإنما فيها أن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يخبر عباده أنه لم يجد في القرآن منصوصًا شيئًا محرمًا على الآكل، والشارب، إلا ما في هذه الآية، وليس ذلك بمانع أن يحرم الله في كتابه بعد ذلك وعلى لسان رسوله أشياء سوى ما في هذه الآية
…
" اهـ.
(2)
انظر: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(2/ 514) بتحقيقنا.
(3)
في (أ): "حرم".
(4)
أي مسلم في "صحيحه" رقم (1934).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3803)، والنسائي (7/ 206).
مِخْلَبٍ) بكسرِ الميمِ وسكونِ الخاءِ [المعجمةِ]
(1)
وفتحِ اللامِ آخرَه موحدةٌ (منَ الطيرِ).
وأخرجَ الترمذيُّ
(2)
منْ حديثِ جابرٍ تحريمُ كل ذي مخلبِ منَ الطيرِ، وأخرجَهُ
(3)
أيضًا منْ حديثِ العِرباضِ بن ساريةَ وزادَ فيهِ: يومَ خيبرَ. في "القاموس"
(4)
: المخلبُ ظُفرُ كلِّ سَبُعٍ منَ الماشي والطائرِ أو لما يصيدُ منَ الطيرِ. والظفرُ لما لا يَصيدُ. وإلى تحريمِ كلِّ ذي مخْلَبٍ منَ الطير ذهبتِ الهادويةُ ونسبهُ النوويُّ
(5)
إلى الشافعيِّ وأبي حنيفةَ وأحمدَ وداود والجمهورِ.
وفي "نهاية المجتهدِ"
(6)
نسبَ إلى الجمهورِ [القولَ]
(7)
بحلِّ كلِّ ذي مخلبٍ منَ الطيرِ وقالَ: وحرَّمها قومٌ، ونَقْلُ النوويِّ أثبتُ لأنهُ المذكورُ في كتبِ الفريقينِ وأحمدَ، فإنَّ في دليلِ الطالبِ على مذهبِ أحمدَ ما لفظُه: ويحرمُ منَ الطيرِ ما يصيدُ بمخلبهِ كعُقابِ وبازٍ وصقرٍ وباشقٍ وشاهينٍ، وعدَّ كثيرًا منْ ذلكَ، ومثلُه في "المنهاج"
(8)
للشافعيةِ، ومثلُه للحنفيةِ
(9)
.
وقالَ مالكٌ: يُكْرَهُ كلُّ ذي مخلبٍ منَ الطيرِ ولا يحرمُ. وأما النسرُ فقالُوا: ليسَ بذي مخلبٍ ولكن يحرم لاستخباثهِ. وقالتِ الشافعيةُ: يحرمُ ما ندبَ قتلُه كحيةٍ وعقربٍ وغرابٍ أبقعَ وحدأةٍ وفأرةٍ وكلّ سَبُعٍ ضارٍ، واستدلُّوا بقولِه صلى الله عليه وسلم:"خمسٌ فواسقُ يُقْتَلْنَ في الحل والحرَمِ"
(10)
، تقدَّمَ في كتاب الحجّ، قالُوا: ولأنَّ هذهِ مستخبثاتٌ شرعًا وطبعًا.
(1)
زيادة من (ب).
(2)
في "السنن" رقم (1478) وقال: حديث جابر حديث حسن غريب.
(3)
في "السنن" رقم (1474)، وهو حديث صحيح.
(4)
في "القاموس"(ص 104).
(5)
في "شرح صحيح مسلم"(13/ 82 - 83).
(6)
(2/ 514) بتحقيقنا.
(7)
زيادة من (ب).
(8)
"مغني المحتاج شرح المنهاج"(4/ 305). ط: البابي الحلبي.
(9)
"الدر المختار"(5/ 238). ط. البابي الحلبي.
وقد أكرمني الله بتحقيقه وتخريج أحاديثه بالاشتراك مع الأخ عامر حسين.
(10)
أخرجه البخاري (3314)، ومسلم (67/ 1198) من حديث عائشة.
قلتُ: وفي دلالةِ الأمرِ بقتلِها على تحريمِ أكْلِها نظرٌ، ويأتي لهمْ أن الأمرَ بعدمِ القتلِ دليلٌ على التحريم، وقدْ قالَ الشافعي: إنَّ الآدميَّ إذا وطئَ بهيمةً منْ بهائمِ الأنعامِ فقدْ أمرَ الشارع بقتلِها
(1)
قالُوا: ولا يحرمُ أكلُها، فدلَّ على أنهُ لا ملازمةَ بينَ الأمرِ بالقتلِ والتحريمِ.
حكم أكل الحُمُر الأهلية
3/ 1242 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيّةِ، وأذِنَ في لُحُومِ الْخَيْلِ. مُتَّفَق عَلَيْهِ
(2)
، وَفي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَرَخَّصَ. [صحيح]
(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ خيبرَ عنْ لحومِ الحُمُرِ الأهليةِ وأنَّ في لحومِ الخيلِ. متفقٌ عليهِ، وفي لفظ للبخاريّ)[لروايةِ جابرٍ هذهِ]
(3)
: (ورخص) عوضُ أَذِنَ. وقدْ ثبتَ في رواياتٍ
(4)
أنهُ صلى الله عليه وسلم القدورَ تغلي بلحمِها
(1)
يشير المؤلف رحمه الله تعالى إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (1/ 269)، وأبو داود (4/ 609 رقم 4464)، والترمذي (4/ 56 رقم 1455)، وابن ماجه (2/ 856 رقم 2564) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ وقعَ على بهيمةٍ فاقتلوه واقتلوا البهيمة".
قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه مرفوعًا.
وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير"(4/ 55) وفي إسناد هذا الحديث كلام وحديث ابن عباس الآتي يخالفه وهو أصح.
فقد أخرجه الترمذي (4/ 57)، وأبو داود (4/ 610 رقم 4465) من حديث أبي رُزين عن ابن عباس أنه قال:"مَنْ أتى بهيمة فلا حدَّ عليهِ"، وهو حديث صحيح.
وقال الترمذي: إنه أصح من الحديث الأول. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم.
(2)
البخاري (4219)، ومسلم رقم (1941).
قلت: وأخرجه أبو داود (4/ 149 رقم 3788)، والترمذي (1478)، والنسائي (7/ 202).
(3)
زيادة من (ب).
(4)
(منها) ما أخرجه البخاري (4426)، ومسلم (31/ 1938)، والنسائي (7/ 203 رقم 4338).
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قالَ: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبرَ أن نُلْقِيَ الحُمرَ الأهليةَ نِيئةً ونضيجة، ثم لمَ يأمُرنا بأكله بعدُ".=
فأمرَ بإراقتِها وقالَ: لا تأكلُوا منْ لحومِها شيئًا، والأحاديثُ في ذلكَ كثيرةٌ. وفي روايةٍ: إنَّها رجسٌ أو نجسٌ، وفي لفظٍ: إنَّها رجسٌ منْ عملِ الشيطانِ.
وفي الحديثِ مسألتانِ:
الأُولى: أنهُ دلَّ منطوقُه على تحريمِ أَكْلِ لحومِ الحمرِ الأهليةِ إذ النَّهْيُ أَصْلُه التحريمُ، وإلى تحريمِ أَكْلِ لحومِها ذهبَ [الجماهير من علماء]
(1)
الصحابةِ والتابعينَ ومَنْ بعدَهمِ إلَّا ابنَ عباسٍ فقالَ: ليستْ بحرامٍ. وفي روايةِ ابن جريجٍ عن ابن عباسٍ: وأَبَى ذلكَ "البحرُ"
(2)
وتلا قولَه تعالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}
(3)
الآيةَ، ورُوِيَ عنْ عائشةَ، وعنْ مالكٍ برواياتٍ أنَّها مكروهةٌ أوْ حرامٌ أوْ مباحةُ
(4)
.
وأما ما أخرجَ أبو داودَ
(5)
عنْ غالبِ بن أبجرَ قالَ: "أصابتْنا سَنَةٌ فلمْ يكنْ في مالي ما أطعمُ أهلي إلا سمانَ حُمُرٍ، فأتيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إنكَ حرَّمتَ لحومَ الحمُرِ الأهليةِ وقدْ أصابتْنا سَنَةٌ، فقالَ: أطعمْ أهلكَ منْ سمينِ حُمُركَ فإنَّما حرَّمتُها منْ جهةِ جوَّالِ القريةِ - يعني الجلَّالَةَ.
فقدْ قالَ الخطابيُّ: أما حديثُ ابن أبجرَ فقدِ اختُلِفَ في إسنادِه، قالَ أبو داودَ
(6)
: "رواهُ شعب عنْ عبيدِ بن الحسنِ، عنْ عبدِ الرحمن بن معقلٍ، عنْ عبدِ الرحمنِ بن بشرٍ، عنْ ناسٍ منْ مُزْينَةَ، أن سيدَ مُزينةَ أبجر أوْ ابنُ أبي أبجر سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم"، ورواهُ مسعرُ فقالَ: عن ابن عبيد عنْ ابن معقلٍ عنْ رجلَيْنِ منْ
=ومنها أخرجه البخاري (5521) و (4217)، ومسلم (3/ 1538) رقم (25/ 561)، والنسائي (7/ 203 رقم 4336).
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمرِ الأهلية".
وانظر مزيدًا من الأمثلة في: "جامع الأصول"(7/ 456 - 462 رقم 5546 - 5554).
(1)
في (ب): "جماهير العلماء من".
(2)
يعني عبد الله بن عباس.
(3)
سورة الأنعام: الآية 145.
(4)
انظر: "بداية المجتهد"(2/ 517 - 518).
(5)
في "السنن"(4/ 163 رقم 3809)، وقال المنذري في "المختصر"(5/ 320). اختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا، قال: وقد ثبت التحريم من حديث جابر بن عبد اللهِ.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف الإسناد مضطرب.
(6)
في "السنن"(4/ 163).
مزينةَ، أحدُهما عن الآخرِ
(1)
. وقدْ ثبتَ التحريمُ منْ حديثِ جابرِ يريدُ هذا، وساقَهُ منْ طريقِ أبي داودَ متصلًا ثمَّ قالَ: وأما قولُه، وإنما حرَّمْتُها منْ أَجْلِ جوَّالِ القريةِ فإنَّ الجوَّالَ هي التي تأكلُ [العذرةَ]
(2)
وهي الجلَّةُ، إلا أنَّ هذا لا يثبتُ، وقدْ ثبتَ أنهُ إنَّما نَهَى عنْ لحومِها لأنَّها رجسٌ وساقَ سندَه إلى محمدِ بن سيرينَ عنْ أنسِ بن مالكٍ
(3)
قالَ: "لما افتتحَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خيبرَ أصبْنا حُمُرًا خارجةٌ منَ القريةِ فنحرْنا وطبخْنا منْها، فنادى منادي رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ ورسولَه ينهيانِكم عنْها، وإنَها رجسٌ منْ عملِ الشيطانِ، فَأُكْفِئَتِ القدورُ"، انتَهى.
وبهذا يبطلُ القولُ بأنَّها إنَّما حرِّمتْ مخافةَ قلةِ الظَّهْرِ كما أخرجَه الطبرانيّ
(4)
وابنُ ماجهْ
(5)
عن ابن عباسٍ: إنَّما حرَّم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الحمُرَ الأهليةَ مخافةَ قلةِ الظَّهْرِ. وفي روايةِ البخاريِّ
(6)
عن ابن عباسٍ في المغازي منْ روايةِ الشعبيِّ أنهُ قالَ ابنُ عباسٍ: لا أدري أنَهى عنها رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منْ أَجْل أنَّها حمولةُ الناسِ فكرهَ أنْ تَذْهبَ حمولتُهم أو حرَّمها البتةَ [يومَ خيبرَ، فإنهُ]
(7)
قدْ عُلِمَ بالنصِّ أنهُ حرَّمها [لأنَّها]
(8)
رجسٌ، وكأنَّ ابنَ عباسٍ لم يعلمْ بالحديثِ فتردَّدَ في علة النَّهْي، وإذْ قدْ ثبتَ النَّهيُ وأصلُه التحريمُ عُمِلَ بهِ وإنْ جهلْنا عِلَّتَهُ.
وأما ما أخرجَهُ الطبرانيُّ
(9)
منْ حديثِ أمّ نصرٍ المحاربيةِ: "أنَّ رجلًا سألَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحُمُرِ الأهليةِ فقالَ: أليسَ ترعَى الكلأَ وتأكلُ الشجرَ؟ قالَ: فأصِبْ منْ لحومِها"، فهيَ روايةٌ غيرُ صحيحةٍ لا تعارَضُ بها الأحاديثُ الصحيحةُ.
(1)
أخرجه أبو داود في "السنن"(4/ 164 رقم 3810).
(2)
في (أ): "العذرات".
(3)
أخرجه البخاري رقم (4198).
ومسلم رقم (1940)، والنسائي (7/ 204).
(4)
في الكبير (11/ 432 رقم 12226) وفي "الأوسط" رقم (4094 - مجمع البحرين)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 47 - 48) وقال: وفي الكبير حبان بن علي وفيه ضعف وقد وثق. وفي "الأوسط" محمد بن جابر وهو متروك، وقد وثق.
(5)
لم أعثر عليه الآن؟!
(6)
في "صحيحه" رقم (4227).
(7)
في (أ): "فتردد في علة النهي فيقال".
(8)
في (أ): "لأجل أنها".
(9)
كما في "مجمع الزوائد"(5/ 47) وقال الهيثمي: "وفيه إسحاق ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر" اهـ.
حل أكل لحوم الخيل
المسالةُ الثانيةُ: دلَّ الحديثُ علَى حِلّ أكْلِ [لحومِ]
(1)
الخيلِ، وإلى حِلّها ذهبَ زيدُ بنُ عليٍّ والشافعي وصاحِبا أبي حنيفةَ وأحمدُ وإسحاقُ وجماهيرُ السلفِ والخلَفِ لهذا الحديثِ
(2)
ولما في معناهُ منَ الأحاديثِ الصحيحةِ.
وأخرجَ ابنُ أبي شيبةَ بسندِهِ
(3)
على شرطِ الشيخينِ عنْ عطاءٍ أنهُ قالَ لابنِ جُرَيْجٍ: لم يزلْ سلفُك يأكلونَه، قالَ ابنُ جريجٍ: قلتُ لهُ: أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: نعمْ. ويأتي حديثُ أسماء
(4)
: نحرْنا على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فرسًا [أفأكلنا]
(5)
.
وذهبتِ الهادويةُ ومالكٌ وهوَ المشهورُ عندَ الحنفيةِ إلى تحريمِ [أكلها]
(6)
، واستدلُّوا بحديثِ خالدِ بن الوليد
(7)
: "نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ لحومِ الخيلِ والبغالِ والحميرِ وكلِّ ذي نابٍ منَ السباعِ"، وفي روايةٍ
(8)
بزيادةِ: "يومَ خيبرَ".
(1)
في (أ): "لحم".
(2)
قال أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار"(15/ 332، 333 رقم 22200): "أما أهل العلم بالحديث فحديثُ الإباحةِ في لُحُومِ الخيل أصحَّ عندهم، وأثبت من النهي عن أكلِها" اهـ. وقال الحسين بن أحمد السّيَاغي في "الروض النضير"(1/ 290): "الأول: الرخصة في أكل لحوم الخيل. وهو مذهب زيد بن علي، والمهدي محمد بن المطهر، وقرَّره في "المنهاج"، وقال به أيضًا محمد بن منصور المرادي مع زيادة أكل البراذين، وذهب إليه أيضًا الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق، وابن المبارك، وأبو ثور، ومن السلف القاضي شريح، والحسن، وابن الزبير، وعطاء، وسعيد بن جبير، وحماد بن زيد، والليث بن سعد، وابن سيرين، والأسود بن يزيد، وسفيان الثوري، وغيرهم .. "، ثم ذكر أدلتهم.
(3)
في "المصنف".
(4)
في كتابنا هذا رقم (11/ 1249) وهو حديث متفق عليه.
(5)
في (أ): "فأكلناها".
(6)
في (ب): "الخيل".
(7)
أخرجه أبو داود رقم (3790)، وابن ماجه رقم (3198)، والنسائي (7/ 202)، وأحمد (4/ 89)، والدارقطني (4/ 287 رقم 61)، وإسناده ضعيف لضعف صالح بن يحيى بن المقدام، قال البخاري: فيه نظر، والراوي عنه وهو أبوه لم يوثقه إلا ابن حبان، وهو حديث ضعيف.
(8)
أخرجها الدارقطني في "السنن"(4/ 287 رقم 60)، وفيه محمد بن عمر الواقدي: وهو =
وأُجِيْبَ عنهُ بأنهُ قالَ البيهقيُّ فيهِ: هذا إسنادٌ مضَّطَرِبٌ مخالِفٌ لروايةِ الثقاتِ، وقالَ البخاريُّ: يُرْوَى عنْ [أبي صالحٍ]
(1)
ثورِ بن يزيدَ وسليمانِ بن سليمٍ وفيهِ نظرٌ. وضعَّفَ الحديثَ أحمدُ والدارقطنيُّ والخطابيُّ وابنُ عبدِ البرِّ وعبدُ الحقِّ
(2)
واستدلُّوا بقولِه تعالَى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}
(3)
، وتقريرُ الاستدلالِ بالآيةِ بوجوهٍ:
الأولُ: أن العلةَ المنصوصةَ تقتضي الحصْرَ، فإباحةُ أكلها خلاف ظاهر الآية. وأجيب عنه بأن كون العلة منصوصةً لا تقتضي الحصر فيها. فلا تفيد الحصرَ في الركوبِ والزينةِ فإنهُ يُنْتَفَعُ بها في غيرِهما اتفاقًا، وإنَّما نصَّ عليهما لكونِهما أغلبَ ما يُطْلَبُ، ولو سلمَ الحصرُ لامتنعَ حملُ الأثقالِ على الخيلِ والبغالِ والحميرِ ولا قائلَ بهِ.
الثاني: منْ وجوهٍ دلالةِ الآيةِ على تحريم الآكلِ عطفُ البغالِ والحميرِ فإنهُ دالٌّ على اشتراكها معَها في حُكْمِ التحريمِ، فَمَنْ أفردَ حكمَهُما عنْ حكمِ ما عطفَ عليهِ احتاجَ إلى دليلٍ. وأُجِيْبَ عنهُ بأنَّ هذا منْ دلالةِ الاقترانِ وهيَ ضعيفةٌ.
الثالثُ: منْ وجوهِ دلالةِ الآيةِ أنَّها سيقَتْ للامتنانِ، فلوْ كانتْ مما يُؤْكَلُ لكانَ الامتنانُ بهِ أكثرَ لأنهُ يتعلَّقُ ببقاءِ البنيةِ، والحكيمُ لا يمتنُّ بأدْنَى النِّعمِ ويتركُ أعلاها سِيَّما وقدِ امتنَّ بالآكلِ فيما ذكرَ قبلَها.
وأُجِيْبَ: بأنهُ تعالَى خصَّ الامتنانَ بالركوبِ لأنهُ غالبُ ما يُنْتَفَعُ بالخيلِ فيهِ عندَ العربِ فخُوطِبُوا بما عرفوهُ وألِفُوه كما خُوطِبوا في الأنعامِ بالأكلِ وحَمْلِ الأثقالِ لأنهُ كانَ أكثرُ انتفاعِهم بها لذلكَ، فاقتصرَ في كلّ منَ الصنفين بأغلبِ ما يُنْتَفَعُ بهِ [عليهِ]
(4)
.
الرابعُ: منْ وجوهِ دلالةِ الآيةِ أنه لو أُبيحَ أكْلُها لفاتتِ المنفعةُ التي امتنَّ بها وهيَ الركوبُ والزينةُ، وأجيبَ عنهُ: بأنهُ لو لزمَ منَ الإِذْنِ في أَكْلِها أَنْ تَفْنَى لَلَزِمَ
= ضعيف. وفي سياق الحديث ما يشهد بضعفه وعدم صحته، فقد جاء فيه أن خالدًا شهد خيبر وهو خطأ فإنه لم يسلم إلا بعدها على الصحيح.
(1)
كذا في (أ) و (ب)، والصواب:"صالح بن يحيى" كما في "التمهيد"(10/ 128).
(2)
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(10/ 128) على حديث خالد بن الوليد المتقدم: "وهذا حديث لا تقوم به حجة لضعف إسناده، وحديث الإباحة صحيح الإسناد" اهـ.
(3)
سورة النحل: الآية 8.
(4)
في (ب): "فيه".
مثلُه في البقرِ [ونحوِها]
(1)
مما أُبيحَ أكْلُه ووقعَ الامتنانُ بهِ لمنفعةٍ أُخْرى.
وأجيبَ [عن الاستدلالِ بالآيةِ]
(2)
بجواب إجماليٍّ وهوَ أن آيةَ النحلِ مكيةٌ اتفاقًا، والإِذْنُ في أَكْلِ الخيلِ كانَ بعدَ الهجرَةِ منْ مكةَ بأكثرَ منْ ستِ سنينَ، وأيضًا فإنَّ آيةَ النحلِ ليستْ نصًا في تحريم الأكلِ والحديثُ صريحٌ في جوازِه، وأيضًا لو سَلِمَ ما ذكرَ كانَ غايتُه الدلالةَ على تركِ الأكلِ وهوَ أعمُّ منْ أنْ يكونَ للتحريمِ أو للتنزيهِ أو [لخلاف]
(3)
الأوْلَى، وحيثُ لم يتعينْ هُنَا واحدٌ منها لا يتمَّ التمسكُ، فالتمسك بالأدلةِ المصرِّحَةِ بالجوازِ أَوْلَى.
وأما زَعْمُ البعضِ أن حديثَ جابرٍ دالٌّ على التحريمِ لكونِه وردَ بلفظِ الرخصةِ والرخصةُ استباحةُ المحظورِ معَ قيامِ [المانعِ]
(4)
، فدلَّ أنهُ رخَّصَ لهمْ فيها بسببِ المخمصةِ، فلا يدل على الحِلَّ المطلقِ، فهوَ ضعيفٌ لأنهُ وردَ بلفظِ أَذِنَ لنا، [وبلفظ]
(5)
أطعَمَنا، فعبّرَ الراوي بقولِه رخَّصَ عنْ أَذِنَ لا أنهُ أرادَ الرخصةَ الاصطلاحيةَ الحادثةَ بعدَ زمنِ الصحابةِ، فلا فَرْقَ بينَ العبارتينِ (أَذِنَ) ورخَّص في لسانِ الصحابةِ.
أكل الجراد
4/ 1243 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(6)
. [صحيح]
(وعنِ ابن أبي أَوْفَى قالَ: غزوْنا معَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غزواتٍ نأْكلُ الجرادَ) هوَ جنسٌ والواحدةُ جرادةٌ يقعُ على الذكرِ والأُنثَى كحَمَامةٍ، متفقٌ عليهِ، هوَ دليل على حِلِّ الجرادِ، قالَ النوويُّ
(7)
: هوَ إجماعٌ. وأخرجَ ابنُ ماجهْ
(8)
عنْ أنسٍ قالَ: "كانَ أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يتهادينَ الجرادَ في الأطباقِ.
(1)
في (أ): "ونحوه".
(2)
زيادة من (ب).
(3)
في (ب): "خلاف".
(4)
في (أ): "مانع".
(5)
في (ب): "ما قاله".
(6)
البخاري رقم (5495)، ومسلم رقم (1952).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3812)، والترمذي رقم (1821، 1822)، والنسائي (7/ 210).
(7)
في "شرح صحيح مسلم"(13/ 103).
(8)
"السنن" رقم (3220).=
وقالَ ابنُ العربيِّ في شرح الترمذي
(1)
: إنَّ جرادَ الأندلسِ لا يُؤْكَلُ لأنهُ ضررٌ محضٌ. فإذا ثبتَ [ذلك]
(2)
فتحريْمُها لأجلِ الضررِ كما تحرَّمُ السمومُ ونحوُها. واختلفُوا هلْ أَكَلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الجرادَ أم لا؟ وحديثُ الكتاب يحتملُ أنهُ كانَ [يأكلُ]
(3)
معهُم إلَّا أن في روايةِ البخاريِّ
(4)
زياد: "نأكلُ الجرَادَ معهُ"، قيلَ: وهيَ محتملةٌ أن المرادَ غزوْنا معهُ فيكونُ تأكيدًا لقولِه معَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أن المرادَ نأكلُ معهُ.
قلتُ: وهذا الأخيرُ هوَ الذي يحسنُ حَمْلُ الحديثِ عليهِ، إذِ التأسيسُ أبلغُ منَ التأكيدِ، ويؤيدُه ما وقعَ في الطبِّ عندَ أبي نعيمٍ بزيادةِ: ويأكلُ معَنا. وأما ما أخرجَه أبو داودَ
(5)
منْ حديثِ سَلمانَ: "أنهُ سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الجرادِ فقالَ: "لا آكلُه ولا أحرِّمُه"، فقدْ أعلَّه المنذريُّ بالإرسالِ
(6)
، وكذلكَ ما أخرجَهُ ابنُ عديٍّ
(7)
في ترجمةِ ثابتِ بن زهيرٍ عنْ نافعٍ عن ابن عمرَ: "أنهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الضبِّ فقال: "لا آكلهُ ولا أحرِّمه"، وسُئِلَ عن الجرادِ "فقالَ مثلَ ذلكَ"، فإنهُ قالَ النَّسَائِي
(8)
: ثابتُ ليسَ بثقةٍ. ويؤكلُ عندَ الجماهيرِ على كلِّ حالٍ، ولو ماتَ بغيرِ
= قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(3/ 64 رقم 1108/ 3220): "هذا إسناد ضعيف لضعف أبي سعد واسمه سعيد بن المرزبان".
(1)
في "عارضة الأحوذي"(8/ 16).
(2)
في (ب): "ما قاله".
(3)
في (أ): "أكل".
(4)
في "صحيحه" رقم (5495).
(5)
في "السنن"(4/ 165 رقم 3813) قال أبو داود: رواه المعتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكر سلمان.
قلت: وأخرجه ابن ماجه مسندًا (2/ 1073 رقم 3219)، وأبو داود (4/ 165 رقم 3814). وقال أبو داود: رواه حمَّاد بن سلمة، عن أبي العوام، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكر سلمان.
والخلاصة: أن الحديث اختلف في وصله وإرساله، والمحفوظ أنه مرسل فهو ضعيف، واللهُ أعلم.
(6)
في "المختصر"(5/ 323).
(7)
في "الكامل"(2/ 521) وفيه ثابت بن زهير عن نافع منكر الحديث.
وقال ابن عدي: ولثابت بن زهير غير ما ذكرت عن نافع، وعن الحسن، وكل أحاديثه تخالف الثقات في أسانيدها ومتونها.
والخلاصة: أن الحديث موضوع، واللَّهُ أعلم.
(8)
في "الضعفاء" رقم (97).
سببٍ
(1)
لحديثِ: "أُحلَّ لنا ميتتانِ ودمانِ: السمكُ والجرادُ، والكبدُ والطحالُ"، أخرجهُ أحمدُ
(2)
والدارقطني
(3)
مرفوعًا من حديثِ ابن عمرَ وقالَ: إنَّ الموقوفَ أصحُّ، ورجَّحَ البيهقيُّ
(4)
الموقوفَ وقالَ: لهُ حكمُ الرفعِ، واختُلِفَ فيهِ هلْ هوَ منْ صَيْدِ البحرِ أمْ منْ صَيْدِ البرِّ، ووردَ حديثانِ ضعيفانِ أنهُ منْ صيدِ البحرِ
(5)
.
(1)
واشترط المالكية ذكاته بقتل الآدمي من ضرب أو حرق أو طبخ. أفاده في هامش "فتح العلام".
(2)
في "المسند"(2/ 97).
(3)
(3) في "السنن"(4/ 272 رقم 25).
(4)
في "السنن الكبرى"(1/ 254).
قلت: وأخرجه الشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 173)، وابن ماجه (2/ 1102 رقم 3314) كلهم من حديث ابن عمر. قال المارديني في "الجوهر النقي":"رواه يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال مرفوعًا كذا قال ابن عدي في "الكامل" اهـ.
والخلاصة: فهو حديث صحيح.
(5)
الحديث الأول:
أخرجه الترمذي (3/ 207 رقم 850)، وأبو داود (2/ 429 رقم 1854)، وابن ماجه (2/ 1074 رقم 3222) من طريق أبي المهزِّم.
عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فاستقبلَنَا رِجْلٌ مِنْ جَراد. فجعلنا نضربُهُ بسياطِنَا وعِصيِّنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كُلُوهُ فإنه من صيدِ البحر". قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفُهُ إلا من حديث أبي المُهَزِّمِ عن أبي هُريرةَ. وأبو المُهَزِّم اسمهُ يزيدُ بن سفيان، وقد تكلم فيه شعبة" اهـ.
قلت: بل قال الحافظ عنه في "التقريب"(2/ 478): متروك.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف.
• وأخرجه أبو داود (2/ 429 رقم 1853) من طريق ميمون بن جابان، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الجراد من صيد البحر".
وفيه ميمون بن جابان، وهو مجهول، لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال المنذري: ميمون بن جابان لا يحتج به، وهو حديث ضعيف.
الحديث الثاني:
أخرجه الترمذي (4/ 269 رقم 1823)، وابن ماجه (2/ 1074 رقم 3221) من حديث جابر بن عبد الله وأنس بن مالك مرفوعًا بلفظ:"إنها نَشْرَةُ حوت في البحر". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وموسى بن محمد بن إبراهيم التيمي قد تُكُلِّم فيه وهو كثير الغرائب والمناكير. وأبوه محمد بن إبراهيم ثقة وهو مدني. قلت: والخلاصة أن الحديث ضعيف.
ووردَ عنْ بعضِ الصحابةِ أنهُ يلزمُ المحرِمَ فيهِ الجزاءُ فدلَّ أنهُ عندَهُ منْ صيدِ البرِّ، والأصلُ فيهِ أنهُ بريٌّ حتَّى يقومَ دليل على أنهُ بحريٌّ.
أكل الأرنب
5/ 1244 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه في قصَّةِ الأَرْنَبِ - قَالَ: فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرَكِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه في قصةِ الأرنب قالَ: فذبَحها فبعثَ بِوَرَكِها إلي رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقبلَه. متفقٌ عليهِ). وفي القصةِ أنَّهُ قال أنسٌ: "أَنْفَجْنا أرنَبًا [ونحنُ]
(2)
بمرِّ الظهرانِ، فسعَى القومُ ولغبوا
(3)
فأخذْتُها فجئتُ بها إلى أبي طلحةَ فبعثَ بورَكِها إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقبلَها"، وهوَ لا يدَلُّ أنهُ أكلَ منْها، لكنْ في روايةِ البخاريِّ
(4)
في كتابِ الهِبَةِ قالَ الراوي - وهوَ هشامُ بنُ زيدٍ -: قلتُ لأنسٍ: وأكلَ منه؟ قالَ: وأكلَ منْه، ثمَّ [قالَ: فَقَبِلَهُ]
(5)
. والإجماعُ واقعٌ على حِلِّ أكْلِها، إلَّا أن الهادويةَ وعبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ وعكرمةَ وابنَ أبي ليلَى قالُوا: يُكْرَهُ أكْلُها لما أخرجَهُ أبو داودَ
(6)
والبيهقي
(7)
منْ حديثِ ابن عمرَ أنَّها جِيءَ بها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فلمْ يأكلْها ولم يَنْهَ عنْها، وزعمَ ابنُ عمرَ أنَّها تحيضُ.
وأخرجَ البيهقيُّ
(8)
عنْ عمرَ وعمارٍ مثلَ ذلكَ وأنهُ أمرَ بأكْلِها ولم يأكلْ منْها، قلتُ: لكنَّهُ لا يَخْفى أن عدمَ أَكْلِهِ صلى الله عليه وسلم لا يدلُّ على كراهتها، وحَكَى الرافعيُّ عنْ أبي حُلَيْفَةَ تحريمَها.
فائدةٌ: ذكرَ الدُّمَيْرِي في حياةِ الحيوانِ أن الذي تحيضُ منَ الحيوانِ المرأةُ والضبعُ والخفاشُ والأرنبُ، ويُقَالُ إنَّ الكلْبَةَ كذلكَ.
(1)
البخاري رقم (5535)، ومسلم رقم (1953).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3791)، والترمذي رقم (1789)، والنسائي (7/ 196).
(2)
زيادة من (أ).
(3)
لغبوا: اللَّغب: التعب والإعياء.
(4)
في "صحيحه" رقم (2572).
(5)
في (أ): "قَبَلِهُ".
(6)
في "السنن"(4/ 152 رقم 3792).
(7)
في "السنن الكبرى"(9/ 321)، وهو حديث ضعيف الإسناد.
(8)
في "السنن الكبرى"(9/ 321).
حكم النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد
6/ 1245 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ
(1)
وَأَبُو دَاوُدَ
(2)
. وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(3)
. [صحيح]
(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: نَهَي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ قَتْلِ أربع منَ الدوابِّ: النملةِ والنحلةِ والهدهدِ والصُّرَدِ. رواهُ أحمدُ وأبو داودَ وصحَّحَهُ ابن حِبَّانَ). قالَ البيهقيُّ: رجالُه رجالُ الصحيحِ، قالَ البيهقيُّ: هوَ أَقْوَى ما وردَ في هذا البابِ، وفيهِ دليلٌ على تحريمِ قَتْلِ ما ذُكِرَ، ويؤخَذُ منهُ تحريمُ أكْلِها؛ لأنهُ لو حل لما نَهَى عن القتلِ وتقدَّمَ لنا في هذا الاستدلالِ بَحْثٌ. وتحريمُ أكْلِها رَاُيُ الجماهيرِ وفي كلِّ واحدةٍ خلافٌ إلا النملةَ فالظاهرُ أنَّ تحريْمَهَا إجماعٌ.
حِل أكل الضبع
7/ 1246 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي عَمّارٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ رضي الله عنه: الضَّبُعُ صَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. روَاهُ أَحْمَدُ
(4)
وَالأَرْبَعَةُ
(5)
وَصَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ
(6)
وَابْنُ حِبَّانَ
(7)
. [صحيح]
(1)
في "المسند"(9/ 332).
(2)
في "السنن"(5/ 418 رقم (5267).
(3)
رقم (1078 - موارد).
قلت: وأخرجه ابن ماجه (2/ 1074 رقم 3224)، والدارمي (2/ 89)، والبيهقي (9/ 317)، وهو حديث صحيح.
انظر: "التلخيص الحبير"(2/ 275 رقم 1093)، والألباني في "الإرواء"(8/ 142 رقم 2490).
• والصُّرَدُ: طائر فوق العصفور، وقال الأزهري يصيد العصافير. وقيل: الصُّرَدُ طائر أبقع ضخم الرأس يكون في الشجر، نصفه أبيض، ونصفه أسود ضخم المنقار. "لسان العرب"(7/ 320).
(4)
في "المسند"(3/ 318، 322).
(5)
أبو داود رقم (3801)، والترمذي رقم (1791)، والنسائي (7/ 200)، وابن ماجه (3236).
(6)
و
(7)
قال الحافظ في "التلخيص"(2/ 278): وصحَّحه البخاري، والترمذي، وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي
…
".
(وعنِ ابن أبي عمَّارِ) هوَ عبدُ الرحمنِ بنُ أبي عمارٍ المكي وثَّقَهُ أبو زرعةَ والنسائيُّ ولم يتكلمْ فيهِ أحدٌ، ويسمَّى القسُّ لعبادتِه. ووهمَ ابنُ عبدِ البرِّ في إعلالِه وقالَ البيهقيُّ: إنَّ الحديثَ صحيحٌ.
(قالَ: قلتُ لجابرٍ: الضبعُ صيدٌ هيَ؟ قالَ: نعمْ، قلتُ: قالَه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نعمْ. رواة أحمدُ والأربعةُ وصحَّحَهُ البخاريُّ وابن حِبَّانَ).
الحديثُ فيهِ دليلٌ على حِلِّ أكْلِ الضَّبُعِ، وإليهِ ذهبَ الشافعي، فهوَ مخصَّصٌ منْ حديثِ تحريمِ كلِّ ذي نابٍ منَ السِّباعِ. وأخرجَ أبو داودَ
(1)
منْ حديثِ جابرٍ مرفُوعًا: "الضَّبُعُ صيدٌ فإذا أصابُه المحرِمُ ففيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ ويؤكلُ"، وأخرجَهُ الحاكمُ
(2)
وقالَ: صحيحُ الإسنادِ.
قالَ الشافعي: وما زالَ الناسُ يأكلونَها ويبيعونَها بينَ الصَّفا والمروةِ منْ غيرِ نكيرٍ، وحرَّمها الهادويةُ والحنفيةُ عملًا بالحديثِ العامّ كما أشرْنا إليهِ، ولكنَّ أحاديثَ التحليلِ تخصِّصُهُ. وأما استدلالُهم على التحريمِ بحديثِ خُزَيْمَةَ [بن جُزْءٍ]
(3)
وفيهِ: "قالَ صلى الله عليه وسلم: أوَ يأكُلُ الضبعَ أحدٌ؟ أخرجَهُ الترمذيُّ
(4)
، ففي إسنادهِ عبدُ الكريمِ أبو أميةَ وهوَ متفقٌ على ضَعْفِهِ
(5)
.
(1)
في "السنن" رقم (3801).
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1791)، والنسائي (7/ 200)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(2)
في "المستدرك"(1/ 452) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وسكت عليه الذهبي. قلت: بل هو على شرط مسلم وحده؛ لأن عبد الرحمن بن أبي عمار لم يخرج له البخاري.
(3)
زيادة من (ب).
(4)
في "السنن"(4/ 253 رقم 1792) وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بالقوي لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن عبد الكريم أبي أمية.
وقد تكلم بعض أهل الحديث في إسماعيل وعبد الكريم أبي أمية، وهو عبد الكريم بن قيس بن أبي المخارق، وعبد الكريم بن مالك الجزري ثقة.
(5)
قال النَّسَائِي والدارقطني: متروك.
"الضعفاء" للنسائي رقم (422)، والمجروحين (2/ 144)، و"الميزان"(2/ 646).
حكم أكل القنفذ
8/ 1247 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُنْفُذِ فَقَالَ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}
(1)
الآيَةَ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إِنَّها خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثَ"، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا، فَهُوَ كَمَا قَالَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
(2)
وَأَبُو دَاوُدَ
(3)
، وَإسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. [ضعيف الإسناد]
(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما أنَّهُ سُئِلَ عن القُنفذِ) بضمّ القافِ وفَتْحِها وضمّ الفاءِ (فقالَ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}
(4)
، فقالَ شيخٌ عندَه: سمعت أبا هريرةَ يقول: ذكِرَ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "إنَّها خبيثةٌ من الخبائثِ". أخرجَهُ أحمدُ وأبو داودَ بإسناد ضعيفٌ)، ضُعِّفَ بجهالةِ الشيخِ المذكورِ، قالَ الخطابيُّ
(5)
: ليسَ إسنادُه بذاكَ ولهُ طُرُقٌ، قالَ البيهقيُّ: لم يردْ إلَّا منْ وجْهٍ ضعيفٍ وقدْ ذهبَ إلى تحريْمِهِ أبو طالب والإمامُ يَحْيى.
وقالَ الرافعيُّ: في القنفذِ وجهانِ أحدهما أنهُ يحرمُ، وبهِ قالَ أبو حنيفةَ وأحمدُ لما رُوِيَ في الخبرِ أنهُ منَ الخبائثِ، وذهبَ مالكٌ وابنُ أبي ليلَى إلى أنهُ حلالٌ وهوَ أقْوى منَ القولِ بتحريمِهِ لعدمِ نهوضِ الدليلِ معَ القولِ بأنَّ الأصلَ الإباحةُ في الحيواناتِ. وهيَ مسألةٌ خلافيةٌ معروفةٌ في الأصولِ فيها خلافٌ بينَ العلماءِ.
النهي عن أكل الجلَّالة
9/ 1248 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَلَّالَةِ
(1)
سورة الأنعام: الآية 145.
(2)
في "المسند"(2/ 381).
(3)
في "السنن" رقم (3799).
قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 326) ولم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد فيه ضعف.
(4)
سورة الأنعام: الآية 145.
(5)
في "معالم السنن"(4/ 157) هامش السنن.
وَأَلْبَانِهَا. أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ، وَحَسّنَهُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
. [صحيح]
(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما) قياسُ قاعدتِه وعنهُ (قالَ: نَهى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الجلَّالةِ وألبانِها. أخرجَهُ الأربعةُ إلا النسائيَّ وحسَّنهُ الترمذيُّ). وأخرجَ الحاكمُ
(2)
والدارقطنيُّ
(3)
والبيهقيُّ
(4)
منْ حديثِ ابن عمرِو بن العاصِ نحوَه، وقالَ:"حتَّى تُعْلَفَ أربعينَ ليلةً"، ورواهُ أحمدُ
(5)
وأبو داودَ
(6)
والنسائيُّ
(7)
والحاكمُ
(8)
منْ حديثِ عمرِو بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّه بلفظِ: "نَهَى عن لحومِ الحمرِ الأهليةِ وعنِ الجلَّالةِ وعنْ ركوبِها"، ولأبي داودَ:"أنْ يركبَ عليها وأنْ يشربَ ألبانُها".
والجلَّالةُ هي التي تأكلُ العذرةَ والنجاساتِ، سواءٌ كانتْ منَ الإبلِ أو البقرِ أو الغنمِ أو الدجاجِ
(9)
.
والحديثُ دليلٌ على تحريمِ الجلَّالةِ وألبانِها وتحريمِ الركوبِ عليها. وقدْ جزمَ ابنُ حزمٍ أن مَنْ وقفَ في عرفاتٍ راكبًا على جلالةٍ لا يصحُّ حجُّه. وظاهرُ الحديثِ أنهُ إذا ثبتَ أنَّها أكلتِ الجلَّةَ فقدْ صارتْ محرَّمةً، وقالَ النوويُّ: لا تكونُ جلَّالة إلا إذا غلبَ على علفِها النجاسةُ، وقيلَ بلِ الاعتبارُ بالرائحةِ والنتنِ وبهِ جزمَ النوويُّ والإمامُ يحيى وقالَ: لا تطهرُ بالطبخِ ولا بإلقاءِ التوابلِ وإنْ زالَ الريحُ لأنَّ ذلكَ تغطيةٌ لا استحالةٌ، وقالَ الخطابيُّ: كرههُ أحمدُ وأصحابُ الرأي
(1)
أبو داود رقم (3785)، والترمذي رقم (1824)، وابن ماجه رقم (3189). وقال الترمذي: هذا الحديث حسن غريب. وصحّحه الألباني في "الإرواء" رقم (2503).
قلت: والخلاصة أنَّ الحديث صحيح، والله أعلم.
(2)
في "المستدرك"(2/ 39) وقال: حديث صحيح الإسناد وتعقَّبه الذهبي بقوله: إسماعيل وأبوه ضعيفان.
(3)
في "السنن"(4/ 283 رقم 44).
(4)
في "السنن الكبرى"(9/ 333).
(5)
في "المسند"(2/ 219).
(6)
في "السنن" رقم (3811).
(7)
في "السنن"(7/ 239 - 240 رقم 4447).
(8)
في "المستدرك"(4/ 39).
قلت: وأخرجه الدارقطني (4/ 283 رقم 44)، والبيهقي (9/ 333).
وهو حديث حسن، انظر:"إرواء الغليل"(8/ 150 - 151).
(9)
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (ص 149).
والشافعيُّ
(1)
وقالُوا: لا [تؤكلْ]
(2)
حتى تحبسَ أيامًا.
قلتُ: قد عيَّنَ في الحديثِ حبسَها أربعينَ يومًا، وكانَ ابنُ عمرَ يحبسُ الدجاجةَ ثلاثةَ أيامٍ ولم يرَ مالكٌ بأكلِها بأسًا منْ غيرِ حبسٍ.
وذهبَ الثوريُّ وروايةٌ عنْ أحمدَ إلى التحريمِ كما هوَ ظاهرُ الحديثِ، ومَنْ قالَ: يكرهُ ولا يحرمُ قالَ: لأنَّ النهيَ الواردَ فيهِ إنما كانَ لتغيرِ اللحمِ وهوَ لا يوجبُ التحريمَ بدليلِ المذكى إذا جافَ، ولا يخْفَى أنَّ هذا رأيٌ في مقابلةِ النصِّ. ولقدْ خالفَ الناظرونَ هذه السنةَ فقالَ المهدي في "البحر"
(3)
: "المذهبُ والفريقانِ، ندبُ حبسِ الجلَّالةِ قبلَ الذبحِ، الدجاجةُ ثلاثةَ أيامٍ، والشاةُ سبعة أيام، والبقرةُ والناقةُ أربعةَ عشرَ، وقالَ مالكٌ: لا وجْهَ لهُ.
قلنا: "لتطييبِ أجوافِها" اهـ. والعملُ بالأحاديثِ هوَ الواجبُ وكأنَّهم حملُوا النهيَ على التنزيهِ ولا ينهضُ دليلٌ، وأما مخالفتُهم للتوقيتِ فلم يعرفْ وجهُه.
حِلُّ الحمار الوحشي والخيل
10/ 1249 - وَعَنْ أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه في قِصةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ - فَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
. [صحيح]
(وعنْ أبي قتادةَ في قصةِ الحمارِ الوحشيِّ، فأكلَ منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم. متفقٌ عليهِ) تقدمَ ذكرُ قصةِ الحمارِ هذا الذي أهداهُ أبو قتادةَ في كتاب الحجِّ. وفي هذا دلالةٌ على أنهُ يحلُّ أكلُ لحمِه وهوَ إجماعٌ. وفيهِ خلافٌ شاذٌ أَنهُ إذا عُلِفَ وأَنِسَ صارَ كالأهليِّ.
11/ 1250 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
. [صحيح]
(1)
انظر: "مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج" للخطيب الشربيني (4/ 304)، و"المغني، لابن قدامة (11/ 72 - 73)، و"الحجة البالغة" (2/ 182).
(2)
في (أ): "يؤكل".
(3)
(4/ 334).
(4)
البخاري رقم (1824)، ومسلم رقم (1196) وتقدم تخريجه في الحج.
(5)
البخاري رقم (5510)، ومسلم رقم (1942).
(وعنْ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالتْ: نحرْنا على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فرسًا فأكلْناه. متفقٌ عليهِ). وفي روايةٍ
(1)
ونحنُ بالمدينةِ، وفي روايةِ الدارقطنيِّ
(2)
[هذا]
(3)
: "فأكلْنا نحنُ وأهلُ بيتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ".
والحديثُ دليلٌ على حِلِّ أكلِ لحمِ الخيلِ، وتقدمَ الكلامُ فيهِ لأنَّ الظاهرَ أنهُ صلى الله عليه وسلم علم ذلكَ وقرَّرَهُ، كيفَ وقدْ قالتْ: إنهُ أكلَ منهُ أهلُه صلى الله عليه وسلم، وقالتْ هنا: نحرْنا، وفي روايةِ الدارقطنيِّ: ذبحْنا.
فقيلَ: فيهِ دليلٌ على أن النحرَ والذبحَ واحدٌ، قيلَ: ويجوزُ أنْ يكونَ أحدُ اللفظينِ مجازًا إذِ النحرُ للإبلِ خاصةً وهوَ الضربُ بالحديدِ في لبَّةِ البدنةِ حتَّى تُفْرَى أوداجُها. والذبحُ: هوَ قطعُ الأوداجِ في غيرِ الإبلِ.
قالَ ابنُ التينِ: الأصلُ في الإبلِ النحرُ وفي غيرِها الذبحُ، وجاءَ في القرآنِ في البقرةِ:{فَذَبَحُوهَا}
(4)
، وفي السنةِ نحرَها. وقدِ اختلفَ العلماءُ في نحرِ ما يُذْبَحُ وذبحِ ما يُنْحَرُ، فأجازهُ الجمهورُ والخلافُ فيهِ لبعضِ المالكيةِ.
وقولُه في الحديثِ: (ونحنُ بالمدينةِ)، يردُّ على مَنْ زعَم أن حِلَّها قبلَ فرضِ الجهادِ، فإنهُ فُرِضَ أولَ دخولِهم المدينةَ.
أكل الضبِّ
12/ 1251 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
. [صحيح]
(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنه قالَ: أُكِلَ الضبُّ على مائدةِ رسولِ الله. متفقٌ عليهِ)، فيهِ دليلٌ على جوازِ أكْلِ الضبِّ وعليهِ الجماهيرُ. وحكَى عياضٌ عنْ قومٍ تحريْمَه
(1)
البخاري رقم (5511).
(2)
في "السنن"(4/ 290 رقم 77).
(3)
في (ب): "هنا".
(4)
سورة البقرة: الآية 71.
(5)
البخاري (5391)، ومسلم (44/ 1946).
قلت: وأخرجه أبو داود (3794)، والنسائي (7/ 198)، والدارمي (2/ 93)، وأحمد (4/ 88، 89)، وابن ماجه (2/ 1079 رقم 3241)، والبيهقي (9/ 323).
عن الزهري قال: أخبرني أبو أمامةَ بن سهل بن حُنيف الأنصاري أن ابن عباس أخبره أن خالد بن الوليد - الذي يقال له سيف الله - أخبره ....
وعنِ الحنفيةِ كراهتَه، وقالَ النوويُّ
(1)
: وأظنه لا يصحُّ عنْ أحدٍ، فإنْ صحَّ فهوَ محجُوجٌ بالنصِّ وبإجماعِ مَنْ قبلَه.
وقدِ احتجَّ للقائلينَ بالتحريمِ بما أخرجَهُ أبو داودَ
(2)
: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الضبِّ" وفي إسنادِه إسماعيلُ بنُ عياشٍ ورجالُه شاميونَ وهوَ قويٌّ في الشاميينَ فلا يتمُّ قولُ الخطابيِّ: ليسَ إسنادُهُ بذلكَ ولا قولُ ابن حزمٍ: فيه ضعفًا ومجهولون فإن رجاله ثقات كما قال المصنف، ولا قول البيهقي فيهِ إسماعيلُ بنُ عياشٍ وليسَ بحجَّةٍ، لما عرفتَ منْ أنهُ رواهُ عن الشاميينَ وهوَ حجةٌ في روايتِه عنْهم
(3)
.
وبما أخرجَهُ أبو داودَ
(4)
منْ حديثِ عبدِ الرحمنِ بن حسنةَ: "أنَّهم طبخُوا ضبًّا فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ أمةً منْ بني إسرائيلَ مُسِخَتْ دوابَّ في الأرضِ فأخشَى أنْ تكونَ هذهِ. فألقُوها"، وأخرجَهُ أحمدُ
(5)
وصحَّحهُ ابنُ حبانَ
(6)
والطحاويُّ
(7)
وسندُه على شرطِ الشيخينِ.
وأُجِيْبَ عن الأولِ بأنَّ النَّهْيَ وإنْ كانَ أصلُه التحريمَ لكنْ صرفَه هنَا إلى الكراهةِ ما أخرجَه مسلمٌ
(8)
أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "كلُوه فإنهُ حلالٌ ولكنهُ ليسَ منْ طعامي". وهذهِ الروايةُ تردُّ ما رواهُ مسلمٌ
(9)
أنهُ قالَ بعضُ القومِ عندَ ابن عباسٍ رضي الله عنه: إنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ في الضبِّ: "لا آكلُه ولا أنْهَى عنهُ ولا أحرِّمهُ"، ولذَا أعلَّ ابنُ عباسٍ هذهِ الروايةَ فقالَ:"بئسمَا قلتُم، ما بُعِثَ نبيُّ الله إلا محرِّمًا أو محلِّلًا"، كذَا في مسلمٍ.
(1)
في "شرح صحيح مسلم"(13/ 97 - 99).
(2)
في "السنن"(4/ 155 رقم 3796)، وقال الخطابي: ليس إسناده بذاك، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" رقم (2390).
(3)
وهو كما قال الأمير. انظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 280 - 284 رقم 584).
(4)
في "السنن"(4/ 154 رقم 3795)، وهو حديث صحيح.
(5)
في "المسند"(4/ 196).
(6)
في "صحيحه" رقم (5266).
(7)
في "شرح معاني الآثار"(4/ 197)، وفي "مشكل الآثار" (4/ 278). قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة (8/ 266)، والبزار (1217)، وأبو يعلى رقم (931).
وذكره الهيثمي في "المجمع"(4/ 36 - 37) وقال: رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، وأبو يعلى والبزار، ورجال الجميع رجال الصحيح" اهـ.
(8)
في "صحيحه"(3/ 1542 رقم 42/ 1944).
(9)
في "صحيحه"(3/ 1545 رقم 47/ 1948).
وأُجِيْبَ عن الثاني بأنهُ يحتملُ أنهُ وقعَ منهُ صلى الله عليه وسلم، ذلكَ أعني خشيةَ أنْ تكونَ أُمة ممسوخةً قبلَ أنْ يُعلِّمهُ اللَّهُ تعالَى أن الممسوخَ لا ينسلُ.
وقدْ أخرجَ الطحاويُّ
(1)
[منْ حديثِ ابن مسعودٍ]
(2)
قالَ: "سُئِلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن القردةِ والخنازيرِ أهيَ مما مُسِخَ؟ قالَ: إنَّ اللَّهَ تعالى لم يهلكْ قومًا أوْ يمسخْ قومًا فيجعلَ لهم نسلًا ولا عاقبة"، وأصل الحديث في مسلم
(3)
ولم يعرفْه ابنُ العربي. فقالَ: قولُهم إنَّ الممسوخَ لا ينسلُ دعْوى فإنهُ لا يعرفُ بالعقلِ وإنَّما طريقُه النقلُ وليسَ فيهِ أمرٌ يعوَّلُ عليهِ.
(وأُجِيْبَ) أيضًا بأنهُ لو سلمَ أنهُ ممسوخٌ فلا يقتضي تحريمَ أكْلِه فإنَّ كونَه كانَ آدميًا قدْ زالَ حكمهُ ولم يبقَ لهُ أثرٌ أصلًا، وإنَّما كره صلى الله عليه وسلم الأكلَ منهُ لما وقعَ عليه منْ سخطِ اللَّهِ تعالى كما كرهَ الشربَ منْ مياهِ ثمودَ
(4)
.
قلتُ: ولا يخْفَى أنهُ لو لمْ يرَ تحريْمَهُ لما أمرَ بإلقائِها أوْ بتقريرِهمْ عليهِ لأنهُ إضاعةُ مالٍ، ولأَذِنَ لهم في أكْلِه، فالجوابُ الذي قبلَه هوَ الأحسنُ، فيستفاد المجموعِ جوازُ أكْلِه وكراهتِه للنَّهي.
حكم الضفدع
13/ 1252 - وَعَنْ عبدِ الرَّحْمنِ بْنِ عُثْمَان الْقُرَشِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضِّفْاع يَجْعَلُهَا في دَوَاءٍ، فَنَهى عَنْ قَتْلِهَا. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
(5)
، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ
(6)
. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(7)
وَالنَّسَائِيُّ
(8)
. [صحيح]
(1)
في "شرح معاني الآثار"(4/ 199).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
في "صحيحه"(4/ 2051 رقم 33/ 2663).
(4)
يشير المؤلف رحمه الله إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (6/ 378 رقم 3379)، ومسلم (4/ 226 رقم 2981) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"إن الناسَ نزلوا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أرضَ ثمودَ، الحِجرَ، واستقوا من بئرها واعتجنوا به، فأمرهم رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يُهريقوا ما استقوا من بئارِها وأن يَعْلِفوا الإبلَ العجينَ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تَرِدُها الناقة".
(5)
في "المسند"(3/ 499).
(6)
"في المستدرك"(4/ 411).
(7)
في "السنن" رقم (3871).
(8)
في "السنن"(7/ 210).=
(وعنْ عبدِ الرحمنِ بن عثمانَ)
(1)
هوَ ابنُ عبيد اللَّهِ التيميِّ القرشيِّ ابن أخي طلحةَ بن عبيد الله الصحابي، قيلَ أنهُ أدركَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وليستْ لهُ رواية. أسلمَ يومَ الفتحِ وقيلَ يومَ الحديبيةِ، وقُتِلَ معَ ابن الزبيرِ في يومِ واحدٍ، رَوَى عنهُ ابناهُ وابنُ المنكدرِ (أن طبيبًا سألَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الضفدعِ) بزنةِ الخنصرِ (يجعلُها في دواءٍ فنَهى عنْ قَتْلِها. أخرجَهُ أحمدُ وصحَّحهُ الحاكمُ).
وأخرجَه أبو داودَ والنسائي والبيهقيُّ بلفظِ: "ذكرَ طبيبٌ عندَ النبيّ صلى الله عليه وسلم دواءً وذكرَ الضفدعَ يجعلُها فيهِ، فنَهى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ قتلِ الضفدعِ". قالَ البيهقي: هوَ أقْوى ما وردَ في النَّهْي عنْ قتلِ الضفدعِ.
وأخرجَ
(2)
منْ حديثِ ابن عمرَو: "لا تقتلُوا الضفدعَ فإنَّ نقيقَها تسبيحٌ، ولا تقتلُوا الخفاشَ فإنهُ لما خربَ بيتَ المقدسِ قالَ: يا ربِّ سلِّطني على البحرِ حتَّى أغرقَهم"، قالَ البيهقي إسنادُه صحيحٌ. وعنْ أنسٍ: "لا تقتلُوا [الضفدع]
(3)
فإنَّها مرتْ على نارِ إبراهيمَ فجعلتْ في أفواهِها الماءَ وكانتْ ترشهُ على النارِ"
(4)
.
والحديثُ دليلٌ على تحريمِ قتلِ الضفادعِ، قالُوا: ويؤخذُ منهُ تحريمُ أكْلِها لأنَّها لو حلَّتْ لما نَهَى عنْ قتلِها، وتقدمَ نظيرُ هذا الاستدلالِ وليسَ بواضحٍ.
* * *
= قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 258)، و (9/ 318)، وفي "المعرفة"(14/ 86 رقم 19212)، وابن ماجه رقم (3224)، وهو حديث صحيح.
(1)
انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (5175)، و"الاستيعاب" رقم (1444)، و"أسد الغابة" رقم (3355).
(2)
في "السنن الكبرى"(9/ 318) موقوفًا بسند صحيح.
(3)
في (ب): "الضفدع".
(4)
كون الخفاش أغرق، والضفاع أطفأت، لا يثبت إلا بخبر صحيح.
[الباب الأول] باب الصيد والذبائح
الصيدُ يطلقُ على المصدرِ، أي التصيُّدِ، وعلى المصِيْدِ. واعلم أنهُ تعالَى أباحَ الصيدَ في آيتينِ منَ القرآنِ، قولُه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}
(1)
، والثانيةُ:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}
(2)
الآيةَ.
الآلة التي يصادُ بها ثلاثةٌ: الحيوانُ الجارحُ، والمحدِّدُ، والمِثْقَلُ، ففي الحيوانِ:
اقتناء الكلاب
1/ 1253 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيدٍ، أَوْ زَرْعٍ، انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ".
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
. [صحيح]
(عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: منِ اتخذَ كلْبًا إلَّا كلبَ ماشيةٍ أو صيدٍ أو زرعٍ انتُقِصَ منْ أجرِه كلَّ يومٍ قيراطٌ. متفقٌ عليهِ).
الحديثُ دليلٌ على المنعِ منِ اتخاذِ الكلابِ واقتنائِها وإمساكِها إلا ما
(1)
سورة المائدة: الآية 94.
(2)
سورة المائدة: الآية 4.
(3)
البخاري (2322)، ومسلم (58/ 1575).
قلت: وأخرجه أحمد (2/ 425، 473)، وأبو داود (2844)، والنسائي (7/ 189)، وابن ماجه (3204).
اسْتثناهُ منَ الثلاثةِ، وقدْ ورد بهذهِ الألفاظِ رواياتٌ في الصحيحينِ وغيرِهِما
(1)
.
واختلفَ العلماءُ هلِ المنعُ للتحريمِ أوْ للكراهةِ؟ فقيلَ بالأولِ ويكونُ نقصانُ القيراطِ عقوبةً في اتخاذِها بمعنَى أن الإثمَ الحاصلَ باتخاذِها يوازنُ قَدْرَ قيراطٍ منْ أجرِ المتخذِ لهُ، وفي روايةٍ قيراطانِ، وحِكْمةُ التحريمِ ما في بقائِها في البيتِ منَ التسببِ إلى ترويعِ الناسِ وامتناع دخولِ الملائكةِ الذينَ دخولُهم [خير وبركة وتقرب]
(2)
إلى فعلِ الطاعاتِ ويبعد عنْ فعلِ المعصيةِ، وبعدُهم سببٌ لضدّ ذلكَ، ولتنجيسها الأواني، وقيلَ بالثاني بدليلِ نقصِ بعضِ الثوابِ على التدريجِ، فلوْ كانَ حرامًا لذهبَ [بالكلية]
(3)
. وفيه أن فعلَ المكروهِ تنزيهًا لا يقتضي حبوط شيءٍ منَ الثوابِ.
وذهبَ إلى تحريمِ اقتناءِ الكلبِ الشافعيةُ إلا المُسْتَثنى. واختُلِفَ في الجمعِ بينَ روايةِ قيراطٍ وروايةِ قيراطانِ، فقيلَ إنهُ باعتبار كثرةِ الأضرارِ كما في المدنِ ينقصُ قيراطانِ، وقلَّتُه كما في البوادي ينقصُ قيراطٌ، أو أن الأولَ إذا كانَ في المدينةِ النبويةِ والثاني في غيرِها، أوْ قيراطٌ منْ عملِ النهارِ وقيراطٌ منْ عملِ الليلِ، فالمقتصرُ في الروايةِ باعتبارِ كلّ واحدٍ منَ الليلِ والنهارِ، والمثنَّى باعتبارِ مجموعِهما.
[واختلفُوا]
(4)
أيضًا هلِ النقصانُ منَ العملِ الماضي أوْ منَ الأعمالِ المستقبلةِ؟ قالَ ابنُ التينِ: المستقبلةُ، وحكَى غيرُه الخلافَ فيهِ
(5)
وفيهِ دليلٌ على
(1)
• منها: أخرج البخاري (2323)، ومسلم (5/ 1574)، والنسائي (7/ 188)، وابن ماجه (3206)، والدارمي (2/ 90)، ومالك في "الموطأ"(2/ 969 رقم 12)، وأحمد (5/ 219، 220) عن سفيان بن أبي زهير، قال: سمعت رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "من اقتنى كلبًا لا يُغني عنه زرعًا ولا ضرعًا نقصَ كلُّ يومٍ من عملهِ قيراط".
(ومنها): أخرج البخاري (5480)، ومسلم (51/ 1574)، والنسائي (7/ 188)، وأحمد (2/ 8)، والدارمي (2/ 90)، ومالك (2/ 969 رقم 13).
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية نقصَ من أجره كل يوم قيراطان".
(2)
في (ب): "يقرِّب".
(3)
في (ب): "الثواب مرة واحدة".
(4)
في (أ): "اختلف".
(5)
الخلاف في أمثال هذه الأشياء لا فائدة فيه، بل هو مضر لأنَّه مضيعة للوقت، وتهجُّم على الغيب.
أن منِ اتخذَ المأذونَ منْها فلا ينقص عليهِ، وقيسَ عليهِ اتخاذُه لحفظِ الدورِ إذا احتيجَ [إليهِ]
(1)
أشارَ إليهِ ابنُ عبدِ البرِّ. واتفقُوا على أنهُ لا يدخلُ الكلبُ العقورُ في الإذنِ لأنهُ مأمورٌ بقتلهِ
(2)
.
وفي الحديثِ دليلٌ على التحذيرِ منَ الإتيانِ بما ينقصُ الأعمالَ الصالحةَ. وفيهِ الإخبارُ بلطفِ اللَّهِ تعالَى في إباحتِه لما يحتاجُ إليهِ في تحصيلِ المعاشِ وحفظِه.
تنبيهُ: وردَ في مسلمٍ
(3)
الأمرُ بقتلِ الكلابِ، فقالَ القاضي عياضٌ: ذهبَ كثيرٌ منَ العلماءِ إلى الأخذِ بالحديثِ في قتلِ الكلابِ إلا ما استُثْنيَ، قالَ: وهذا مذهبُ مالكٍ وأصحابهِ. وذهبَ آخرونَ إلى جوازِ اقتنائِها جميعًا ونُسِخَ قتلُها إلا الأسودَ البهيمَ
(4)
. قالَ: وعندي أن النهيَ أولًا كانَ عامًا من اقتنائِها جميعًا وأمرَ بقتلِها جميعًا، ثمَّ نَهَى عنْ قتلِ ما عدَا الأسودَ ومنعَ الاقتناءَ في جميعِها إلا المستثنَى اهـ.
(1)
في (ب): "إلى ذلك".
(2)
أخرج البخاري (3314)، ومسلم (67/ 1198) وغيرهما.
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمسُ فواسق يُقتلنَ في الحرم: الفأرةُ، والعقرب، والحدَيَّا، والغرابُ، والكلب العقور".
(3)
في "صحيحه"(48/ 1573).
عن عبد اللَّهِ بن مغفل قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم".
قلت: وأخرجه النَّسَائِي (7/ 185)، وابن ماجه (3200)، وأحمد (4/ 86)، و (5/ 56)، والدارمي (2/ 90).
(4)
• أخرج مسلم في "صحيحه"(47/ 1572) أن جابر بن عبد اللَّهِ قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إنَّ المرأةَ تقدَمُ من البادية بكلبها فنقتلُهُ، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقال:"عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان".
• وأخرج الترمذي رقم (1486) و (1489)، وأبو داود رقم (2845)، وابن ماجه رقم (3205) عن عبد اللَّهِ بن مغفل قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لولا أنَّ الكلاب أمَّةٌ من الأمم لأمرتُ بقتلها كُلِّها، فاقتلُوا منها كُلِّ أسودَ بهيم"، وقال الترمذي بعد (1486): حديث حسن صحيح. وقال بعد (1489): حديث حسن.
والخلاصة: أن الحديث صحيح.
والمرادُ بالأسودِ البهيمِ ذوُ النقطتينِ، فإنهُ شيطانٌ. والبهيمُ الخالصُ السوادَ، والنقطتانِ معروفتانِ فوقَ عينيهِ.
حِلُّ صيد الكلب المعلَّم
2/ 1254 - وَعَنْ عَدِيٍّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ الله عَلَيهِ، فَإنْ أَمْسَكَ عَلَيكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأكلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيرَهُ وَقدْ قَتَلَ فَلا تَأكُلْ، فَإنَّكَ لَا تَدْرِي أَيّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ الله تَعَالَى، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا في الْمَاءِ فَلَا تَأْكلْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٌ. [صحيح]
(وعنْ عديِّ بن حاتم رضي الله عنه قالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذا أرسلْتَ كلبكَ) المعلَّمَ فاذكرِ اسمَ اللَّهِ تعالَى عليهِ، فإنْ أمسك عليكَ فأدركْتَه حيًا فاذبْحه، وإنْ أدركْته قدْ قَتَلَ ولم يأكلْ منهُ فكلْه، وإنْ وجدتَ معَ كلبكَ كلْبًا غيرَه وقدْ قَتَلَ فلا تأكلْ فإنك لا تدري أيُّهما قتلَه، وإنْ رميتَ بسهمك فاذكرِ اسمَ اللَّهِ) هذا إشارةٌ إلى آلةِ الصيدِ الثانيةِ أعني المحددَ، وهو قتلُه بالرماحِ والسيوفِ، لقولِه تعالَى:{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}
(2)
، ولكنَّ الحديثَ في السهمِ (فإنْ غابَ عنكَ يومًا فلم تجدْ فيهِ إلَّا أثرَ سهمِكَ فكلْ إنْ شئتَ، وإنْ [وجدَتُه]
(3)
غريقًا في الماءِ فلا تأكلْ. متفقٌ عليهِ وهذا لفظُ مسلمٌ).
في الحديثِ مسائلُ:
الأولى: أنهُ لا يحلُّ صيدُ الكلبِ إلَّا إذا أرسلَه صاحبُه، فلو استرسلَ بنفسه لم يحلَّ ما يصيدُه عندَ الجمهورِ. والدليلُ قولُه صلى الله عليه وسلم:(إذا أرسلتَ) فمفهومُ الشرطِ أن غيرَ المرسلِ ليسَ كذلكَ، وعنْ طائفةِ المعتبرُ كونُه معلَّمًا فيحل صيدُه وإنْ لم يرسلْه صاحبُه بناءً على أنهُ خرجَ قولُه إذا أرسلتَ مَخْرَجَ الغالبِ فلا مفهومَ لهُ.
وحقيقةُ المعلَّمِ هوَ أنْ يكونَ بحيثُ يُغْرَى فيقصدُ، ويُزْجَرُ فيقعدُ. وقيلَ:
(1)
البخاري رقم (5475)، ومسلم رقم (6/ 1929).
(2)
سورة المائدة: الآية 94.
(3)
في (أ): "وجدت".
التعليمُ قَبولُ الإرسالِ والإغراءِ حتَّى يمتثلَ للزجرِ في الابتداءِ لا بعدَ العدْوِ ويتركَ أَكْلَ ما أمسكَ، فالمعتبرُ امتثالُه للزجرِ قبلَ الإرسال، أما بعدَ إرسالِه على الصيدِ فذلكَ متعذَّرٌ. والتكليبُ إلهامٌ منَ اللَّهِ تعالَى ومكتسبٌ بالعقلِ كما قالَ تعالَى:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}
(1)
. قالَ جارُ الله
(2)
: مما عرَّفَكُم أنْ تعلِّموهُ منِ اتباعِ الصيدِ بإرسالِ صاحبِه، وانزجارِه بزجْرِه، وانصرافِه بُدعائِه، وإمساكِ الصيدِ عليهِ، وأنْ لا يأكلَ منهُ.
المسالةُ الثانية: في قولِه: (فاذكرِ اسمَ اللَّهِ) هذا مأخوذٌ منْ قولِه تعالَى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(3)
، فإنَّ ضميرَ عليهِ [يعودُ]
(4)
إلى ما أمسكْنَ على معنَى: وسمُّوا عليهِ إذا أدركتُم ذكاتَهُ، أو إلى ما علَّمتُم منَ الجوارحِ، أي سمُّوا عليهِ عندَ إرسالِه كما أفادَهُ الكشافُ
(5)
، وكذلكَ قولُه:(إنْ رميتَ بسهمك فاذكرِ اسمَ اللَّهِ عليه) دليلٌ على اشتراطِ التسميةِ عندَ الرَّميِ، وظاهرُ الكتابِ والسنةِ وجوبُ التسميةِ.
واختلفَ العلماءُ في ذلك، فذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ إلى أنَّ التسميةَ واجبةٌ على الذاكرِ عندَ الإرسالِ ويجبُ عليهِ أيضًا عندَ الذبحِ والنحرِ فلا تحلُّ ذبيحتُه ولا صيدُه إذا تركتْ عمدًا مستدلِّينَ بقولِه تعالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(6)
، وبالحديثِ هذَا، قالُوا: وعُفِيَ عن الناسي لحديثِ: "رُفِعَ عنْ أمتي الخطأُ والنسيانُ"
(7)
،
(1)
سورة المائدة: الآية 4.
(2)
الزمخشري في "تفسير الكشاف"(1/ 323).
(3)
سورة المائدة: الآية 4.
(4)
في (ب): "وفيه".
(5)
أي الزمخشري في "الكشاف"(1/ 324).
(6)
سورة الأنعام: الآية 121.
(7)
وهو حديث صحيح.
أخرجه ابن ماجه (2045)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 95)، والطبراني في "الكبير"(11/ 133 رقم 11274)، وابن حبان (رقم 1498 - موارد)، والدارقطني (4/ 170 رقم 33)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 198)، والبيهقي (7/ 356).
عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّهَ وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وفي لفظ:"تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيان"، الحديث. وفي لفظٍ آخر:"إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان"، الحديث.=
ولما يأتي
(1)
منْ حديثِ ابن عبابر بلفظِ: "فإنْ نسيَ أنْ يسمِّيَ حينَ يذبحُ فليسمِّ ثمَّ ليأكلْ"، سيأتي في آخرِ البابِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
وذهبَ آخرونَ إلى أنَّها سنَةُ، منهمْ ابنُ عباسٍ ومالكٌ وروايةٌ عنْ أحمدَ، مستدلينَ بقولِه تعالَى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}
(2)
، قالُوا: فأباحَ التذكيةَ منْ غيرِ اشتراطِ التسميةِ، بقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
(3)
وهمْ لا يسمُّونَ، ولحديثِ عائشةَ الآتي
(4)
، وأنَّهم قالُوا: يا رسولَ الله إنَّ قومًا يأتونَنَا بلحم لا ندري أَذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليهِ أم لا أفنأكُلُ منها؟ قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سمُّوا عليهِ أنتُم وكلُوا".
وأجابُوا عنْ أدلةِ الإيجابِ بأنَّ قولَه: "ولا تأكلُوا"، المرادُ بهِ ما ذُبِح للأصنامِ كما قالَ تعالَى:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
(5)
؛ لأنهُ تعالَى قالَ: {وَإنَّهُ لَفِسْقٌ} ، وقدْ أجمعَ المسلمونَ على أن مَنْ أكلَ متروكَ التسميةِ عليهِ فليسَ بفاسقٍ، فوجبَ حَمْلُها على ما ذُكِرَ جَمْعًا بينها وبينَ الآياتِ السابقةِ، وحديثُ عائشةَ.
وذهبتِ الظاهرية إلى أنهُ يحرم أَكْلُ ما لم يسمَّ عليهِ ولو كانَ تارِكُها ناسيًا لظاهرِ الآيةِ الكريمةِ، وحديثُ عديٍّ رضي الله عنه ولم يفصلْ. قالُوا: وأما حديثُ عائشةَ وفيهِ "أنَّهم قالُوا: يا رسولَ الله إن قومًا حديث عهدِهم بالجاهليةِ يأتونَ بلحمانٍ - الحديثَ"، فقد قالَ ابنُ حجرٍ إنهُ أعلَّه البعضُ بالإرسالِ، قالَ الدارقطني: الصوابُ أنهُ مرسلٌ على أنهُ لا حجةَ فيهِ لأنهُ أدارَ الشارعُ الحكمَ على المظنَّةِ وهيَ كونُ الذابحِ مسلمًا، وإنَّما شكَّكَ على السائلِ حداثةَ إسلامِ القومِ فألغاهُ صلى الله عليه وسلم، بلْ فيهِ دليلٌ على أنهُ لا بدَّ منَ التسميةِ وإلا لبيَّنَ لهم صلى الله عليه وسلم عدمَ لزومِها، وهذا وقتُ الحاجةِ إلى البيان.
وأما حديثُ:
= قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وحسنه النووي في "الأربعين" الحديث التاسع والثلاثون. وصحَّحه الألباني في "الإرواء" رقم (82).
(1)
برقم (13/ 1264) من كتابنا هذا.
(2)
سورة المائدة: الآية 3.
(3)
سورة المائدة: الآية 5.
(4)
برقم (5/ 1256) من كتابنا هذا.
(5)
سورة المائدة: الآية 3.
(رُفِعَ عنْ أمتي الخطأُ والنسيانُ)
(1)
، فهمْ متفقونَ علَى تقديرِ رفْعِ الإِثْمِ أو نحوِه ولا دليلَ فيهِ.
وأما أهلُ الكتابِ فهمْ يذكرونَ اسمَ اللَّهِ علَى ذبائِحهم فيتحصَّلُ قوةُ كلامِ الظاهريةِ، فيتركُ ما تيقنَ أنهُ لم يسمِّ عليهِ، وأما ما شكَّ فيهِ والذابحُ مسلمٌ فكما قال صلى الله عليه وسلم:"اذكُروا اسمَ اللَّهِ وكلُوا".
المسألةُ الثالثةُ: في قولِه: (فإِنْ أدركْتَه حيًا فاذبْحُه). فيهِ دليل على أنهُ يجبُ عليهِ تذكيتُه إذا وجدَه حيًا ولا يحلُّ إلَّا بها وذلكَ اتفاقٌ، فإنْ أدركَهُ [وبه]
(2)
بقيةُ حياةٍ فإنْ كانَ قدْ قطعَ حلقومَهُ أو مريئَه أوْ خرق أمعاءَه أوْ أخرجَ حشْوهُ فيحلُّ بلا ذكاةٍ، قالَ النوويُّ
(3)
: بالإجماعِ، وقالَ المهدي
(4)
للهادويةِ: إنهُ إذا بقيَ فيهِ رمَقٌ وجبَ تذكيتُه، والرَمقُ إمكانُ التذكيةِ لو حضرتْ آلةٌ.
ودلَّ قولُه: (وإنْ أدركته قدْ قَتَلَ ولم يأكلْ [فكل])
(5)
، أنهُ إذا أكلَ حرُمَ أكلُه، وقدْ عرفتَ أن مِنْ شرطِ المعلَّم أنْ لا يأكلَ، فأكْلُه دليلٌ على أنهُ غيرُ كاملِ التعليم. وقدْ وردَ في الحديثِ الآخرِ تعليلُ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"فإني أخاف أن يكون إنما أمَسك على نفسه"
(6)
، وهو مستفادٌ منْ قولهِ تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فإنهُ فسَّرَ الإمساكَ على صاحبِه بأنْ لا يأكلَ منهُ.
وقدْ أخرجَ أحمدُ
(7)
منْ حديثِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "إذا أرسلتَ الكلبَ فأكلَ الصيدَ فلا تأكلْ، فإنَّما أمسكَ على نفسهِ، وإذا أرسلْتَهُ ولم يأكلْ فكلْ فإنَّما أمسكَ على صاحبه"، وإلى هذا ذهبَ أكثرُ العلماءِ، ورُوِيَ عنْ عليّ رضي الله عنه وجماعةٍ منَ الصحابةِ أنهُ يحل، وهوَ مذهبُ مالكٍ لقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ أبي ثعلبةَ الذي أخرجَهُ أبو داودَ باسنادٍ حسنٍ
(8)
أنهُ
(1)
تقدم تخريجه آنفًا، وهو حديث صحيح.
(2)
في (ب): "وفيه".
(3)
في "شرح صحيح مسلم"(13/ 78).
(4)
في "البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار"(4/ 296).
(5)
في (ب): "فكله".
(6)
وهو جزء من حديث أخرجه البخاري (5483)، ومسلم (2/ 1929).
(7)
في "المسند"(1/ 231).
(8)
في "السنن"(2857)، وهو حديث حسن، لكن قوله:"وإن أكل منه" منكر.
قالَ: (يا رسولَ اللَّهِ إنَّ لي كِلَابًا مكلَّبةً
(1)
فأفتني في صَيْدِها؟ [فقال]
(2)
: كلْ مما أمسكْنَ عليكَ، قالَ: وإنْ أكَلَ؟ قالَ: وإنْ أكَلَ)، وفي حديثِ [سلمانَ]
(3)
: "كُلْه وإن لم تدركْ منهُ إلا نصفَه"
(4)
.
قيلَ: فَيُحْمَلُ حديثُ عديٍّ على أن ذلكَ في كلبٍ قدِ اعتادَ الأكْلَ فخرجَ عن التعليمِ، وقيلَ إنهُ محمولٌ على [كراهةِ]
(5)
التنزيهِ، وحديثُ أبي ثعلبةَ لبيانِ أصلِ الحلِّ وقدْ كانَ عديٌّ موسرًا فاختار صلى الله عليه وسلم لهُ الأَوْلَى، وكانَ أبو ثعلبةَ مُعْسِرًا فأفتاهُ بأصلِ الحِلِّ.
وقالَ الأولونَ: الحديثانِ قدْ تعارضَا، وهذهِ الأجوبةُ لا يخْفَى ضعْفُها فيرجعُ إلى الترجيحِ. وحديثُ عديٍّ أرجحُ لأنهُ مُخْرَجٌ في الصحيحين ومتأيدٌ بالآيةِ، وقدْ صرَّحَ صلى الله عليه وسلم بأنهُ يخافُ أنهُ إنَّما [أمسكه]
(6)
على نفسِه فَيُتْرَكُ ترجِيْحًا لجنبةِ [الحظْر]
(7)
كما [قالَ]
(8)
صلى الله عليه وسلم في الحديثِ
(9)
: "وإنْ وجدْتَ معَ كلْبِكَ [كلْبًا]
(10)
آخرَ - إلى قولِه: [فلا تأكَلْ]
(11)
فإنهُ نَهْيٌ عنهُ لاحتمالِ أن المؤثرَ فيهِ كلبٌ آخرُ غيرُ المرسَلِ [فيترك]
(12)
ترجيحًا لجنبةِ الحظْرِ.
وقولُه
(13)
: (فإنْ غابَ عنكَ يوما فلم تجدْ فيهِ إلا أثرَ سهْمِكَ فكلْه إنْ شِئْتَ)، اختلفتِ الأحاديثُ في هذَا. فرَوَى مسلمٌ
(14)
وغيرُه منْ حديثِ أبي ثعلبةَ في الذي
(1)
مكَلَّبة: المسلَّطة على الصيد، والمُعَوَّدة بالاصطياد التي ضرِبت به، والمُكَلِّب: بالكسر صاحبها الذي يصطاد بها. "النهاية"(4/ 195).
(2)
في (ب): "قال".
(3)
زيادة من (ب).
(4)
فلينظر من أخرجه؟!. وقد أخرج مالك (2/ 493) بلاغًا عن مالك بن أنس بلغه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "أنه سئل عن الكلب المعلَّم إذا قتلَ الصيد؟ فقال سعد: كل أن لم يبقَ إلا بضعة واحدة"، وإسناده منقطع.
(5)
زيادة من (ب).
(6)
في (ب): "أمسك".
(7)
في (أ): "الحفر".
(8)
في (أ): "قاله".
(9)
أخرجه مسلم (6/ 1929). وهو حديث الباب.
(10)
زيادة من (ب).
(11)
في (أ): "ولا تأكله".
(12)
في (ب): "فيتركه".
(13)
أخرجه مسلم (6/ 1929)، وهو حديث الباب.
(14)
في "صحيحه"(1931).
يدركُ صيدَه بعدَ ثلاثٍ أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم: "كلْ ما لمْ يُنْتِنْ"
(1)
، ورَوَى مسلمٌ أيضًا منْ حديثِه أنهُ قال صلى الله عليه وسلم:"إذا رمَيْتَ بسهْمكَ فغابَ عنكَ مصرعُه فكلْ ما لم يبتْ"
(2)
، ولاختلافِها اختلفَ العلماءُ. فقالَ مالكٌ: إذا غابَ مصرعُه ثمَّ [وجدت]
(3)
بهِ أثرًا منَ الكلبِ فإنهُ [يأكل]
(4)
ما لمْ يبتْ فإذا باتَ كُرِهَ، وفيهِ أقوالٌ أُخَرُ، والتعليلُ بما لم يُنْتِنْ وما لم يبِتْ هوَ النصُّ ويحملُ ذكرُ الأوقاتِ على التقييد بهِ وتركِ الأكلِ للاحتياطِ وترجيحِ جنبةِ الحظْرِ.
وقولُه
(5)
: (وانْ وجدتَه غريقًا فلا تأكلْ)، ظاهرُه وإنْ [وجدت](3) بهِ أثرَ السهمِ لأنهُ يجوزُ أنهُ ماتَ بالغرق لا بالسهم.
الصيد لغير الكلاب
المسألة الرابعة: الحديثُ نصٌّ في صيدِ الكلبِ، واختُلِفَ فيما يعلَّمُ مِنْ غيرهِ كالفهدِ والنمرِ، ومنَ الطيورِ كالبازي والشاهينِ وغيرِهما، فذهبَ مالكٌ وأصحابُه إلى أنهُ يحلُّ صيدُ كلِّ ما قَبِلَ التعليمَ حتَّى السِّنَّوْرِ. وقال جماعة منهم مجاهدٌ: لا يحلُّ إلَّا صيدُ الكلب، وأما ما صادَه غيرُ الكلبِ فيُشْتَرَطُ إدراكُ ذكاتِه، وقولُه تعالَى:{مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}
(6)
دليل للثاني بناءً على أنهُ مشتق منَ الكلب بسكونِ اللامِ، فلا [يشملُ]
(7)
غيرَه منَ الجوارحِ، ولكنُه يحتملُ أنهُ مشتقٌّ منَ الكَلَبِ بفتحِ اللامِ وهوَ مصدرٌ بمعنَى التكليبِ وهوَ التضريةُ، فيشملُ الجوارحَ كلَّها. والمرادُ بالجوارحِ الكواسبُ علَى أهلِها وهوَ عامٌّ.
(1)
ما لمْ يُنتنِ: بضم المثناة التحتية، وكسر المثناة الفوقية من أنتن. وضم المثناة الفوقية من نتُن بضم المثناة الفوقية.
(2)
لا يوجد هذا الحديث في صحيح مسلم، ولا في باقي الكتب الستة. وبعد البحث تبين أنه من كلام الإمام مالك: رحمه الله في "الموطأ"(2/ 492) ط البابي الحلبي. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: "لا بأس بأكل الصيد وإن غاب عنك مصرعه. وإذا وجدت به أثرًا من كلبك أو كان به سهمك، ما لم يبت، فإذا بات فإنه يكره أكله". من حاشية المطبوع.
(3)
في (ب): "وجد".
(4)
في (ب): "يأكله".
(5)
أخرجه مسلم (6/ 1929). وهو حديث الباب.
(6)
سورة المائدة: الآية 4.
(7)
في (أ): "يشتمل".
قالَ في "الكشافَ"
(1)
: والجوارحُ الكواسبُ منْ سباعِ البهائمِ والطيرِ كالفهدِ والكلب والنمرِ والعُقابِ والبازي والصقْرِ والشاهينِ. والمرادُ بالمكلِّبِ معلِّمُ الجوارحِ ومضريها بالصيدِ لصاحِبها ورائضُها لذلكَ [مما]
(2)
علِمَ منَ الحِيَلِ وطُرُقِ التأديبِ والتثقيفِ، واشتقاقُه منَ الكلبِ لأنَّ التأديبَ أكثرُ ما يكونُ في الكلابِ فاشتقَّ لهُ منهُ لكثرتِه في جنسه أوْ لأنَّ السبعَ يسمَّى كلْبًا ومنهُ قولُه صلى الله عليه وسلم:"اللهمَّ سلِّطْ عليهِ كلبًا منْ كلابِكَ"
(3)
فأكلَه الأسدُ، أوْ منَ الكلَبِ الذي هو بمعنَى الضراوةِ، يقالُ: هوَ كلِبٌ بكذَا إذا كانَ ضاريًا بهِ" اهـ.
فدلَّ كلامُه على شمولِ الآيةِ للكلبِ وغيرِه منَ الجوارحِ علَى تقديرِ الاشتقاقينِ، ولا شكَّ أن الآيةَ نزلتْ والعربُ تصيدُ بالكلابِ والطيورِ وغيرِهما.
وقدْ أخرجَ الترمذيُّ
(4)
منْ حديثِ عديِّ بن حاتم: سألتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ صيدِ البازي فقالَ: "ما أمسكَ عليكَ فكلْ". وقدْ ضعِّفَ بمجالدٍ، ولكنْ قدْ أوضحْنا في حواشي "ضوءِ النهارِ"
(5)
أنهُ يعملُ بما رواهُ.
صيد المِعراض
3/ 1255 - وَعَنْ عَدِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: "إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّه فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ
(1)
أي الزمخشري (1/ 323).
(2)
في (ب): "بما".
(3)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 539) من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.
قلت: فيه العباس بن الفضل الأنصاري، أو العباس بن الفضل الأزرق وكلاهما متروك، انظر: التقريب (1/ 398، 399).
والخلاصة: أن الحديث موضوع، واللَّهُ أعلم.
(4)
في "السنن"(4/ 66 رقم 1467).
قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفُهُ إلا من حديث مُجَالِدٍ عن الشعبي.
والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بصيد البُزَاةِ والصقور بأسًا
…
".
وقال الألباني في ضعيف الترمذي: "منكر".
(5)
(4/ 1898 - 1899).
وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكلْ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ عديٍّ قالَ: سألتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ صيدِ المِعراضِ) بكسرِ الميمِ وسكونِ المهملةِ آخرَه معجمةٌ يأتي تفسيرُه (فقالَ: إذا أصبتَ بحدِّه فكلْ، وإذا أصبتَ بعرضِه فقتلَ فإنهُ وَقيذٌ) بفتحِ الواوِ وبالقافِ فمثناةٍ تحتيةٍ فذال معجمةِ بزنةِ عظيمٍ يأتي بيانُه (فلا تأكلْ. رواهُ البخاريُّ).
اختُلفَ في تفسيرِ المعراضِ على أقوالٍ أقربَها ما قالَه ابنُ التينِ إنهُ عَصَا في [طرفِها حديدةٌ]
(2)
يرمي بها الصائدُ، فما أصابَ بحدِّه فهوَ ذكيٌّ يؤكلُ، وما أصابَ بعرضِه فهوَ وقيذٌ، أي موقوذٌ. والموقوذُ [ما رمي]
(3)
بعصَا أو حجرٍ أو ما لا حدَّ فيهِ. والموقوذةُ المضروبةُ بخشبةِ حتَّى تموتَ، منْ وقَذْتُه ضربتُه.
والحديثُ إشارةٌ إلى آلةِ منْ آلاتِ الاصطياد وهيَ المحدَّدُ، فإنهُ صلى الله عليه وسلم أخبرَهُ أنهُ إذا أصابَ المعراض بحدِّه أكلَ فإنهُ محددٌ، وإذا أصابَ بعرضِه فلا يأكلْ. وفيهِ دليلٌ أنهُ لا يحلُّ صيدُ المثقلِ. وإلى هذا ذهبَ مالكٌ
(4)
والشافعيّ وأبو حنيفةَ وأحمدُ والثوريُّ. وذهبَ الأوزاعيُّ ومكحولٌ وغيرُهما منْ علماءِ الشامِ إلى أنهُ يحلُّ صيدُ المعراضِ مطْلقًا.
وسببُ الخلافِ معارضةُ الأصولِ في هذا الباب بعضُها لبعضِ، ومعارضةُ الأثرِ لها، وذلكَ أن مِنَ الأصولِ في هذا البابِ أَنَّ الوقيذَ محرَّمٌ بالكتابِ والإجماعِ، [و]
(5)
منْ أصولِه أن العقرَ ذكاةُ الصيدِ فمنْ رأَى أن ما قتلَه المعراضُ وقيذًا منعهُ على الإطلاقِ، ومَنْ [رآهُ عقرًا]
(6)
مختصًا بالصيدِ، وأنَّ الوقيذ غيرُ معتبَرٍ فيهِ لم يمنعْه على الإطلاقِ، ومَنْ فرَّقَ بينَ ما أخرق منْ ذلكَ وما لم يخرقْ نظرَ إلى حديثِ عديٍّ وهوَ الصوابُ.
(1)
في "صحيحه"(9/ 599 رقم 5475).
قلت: وأخرجه مسلم رقم (3/ 1929)، وأبو داود رقم (2854)، والترمذي رقم (1471)، وابن ماجه رقم (3214)، والنسائي (7/ 180).
(2)
في (أ): "طرفه حديد".
(3)
في (ب): "ما قُتلَ".
(4)
انظر: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(2/ 486 - 487) بتحقيقي.
(5)
زيادة من (ج).
(6)
في (أ): (رأى عقره) والمثبت من (ب، ج).
وقولُه: (فإنُه وقيذٌ) أي كالوقيذِ، وذلكَ لأنَّ الوقيذَ المضروبُ بالعصَا منْ دونِ حدٍّ وهذَا قد شاركَه في العلةِ وهي القتلُ بغيرِ حدٍّ.
تحريم أكل ما أنتن
4/ 1256 - وَعَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَمَيتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكتَهُ، فَكُلْهُ، مَا لَمْ يَنْتُنْ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِم
(1)
. [صحيح]
(وعنْ أبي ثعلبةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذا رميتَ بسهمِكَ فغابَ عنكَ فأدركْتَه فَكُلْ ما لمْ ينتنْ. أخرجَهُ مسلمٌ). تقدمَ الكلامُ فيما غابَ عنْ مصرعِه منَ الصيدِ سواءٌ كانَ بسهمٍ أو جارحٍ. وفي الحديثِ دلالة على تحريمِ أَكْلِ ما أنتنَ منَ اللحمِ، قيلَ ويحملُ على ما يضرُّ الأكلُ أوْ صارَ مستخبثًا أو يحملُ على التنزيهِ ويُقَاسُ علَيهِ سائرُ الأطعمةِ المنتنَةِ.
5/ 1257 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ قَوْمًا يَأتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لَا نَدْرِي: أَذَكَروا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: "سَمُّوا الله عَلَيهِ أَنتُمْ وَكلُوهُ"، رَوَاهُ الْبُخَارِي
(2)
. [صحيح].
(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أن قومًا قالُوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ قومًا يأتونَنَا باللحمِ لا ندري أَذُكِرَ اسمَ اللَّهِ عليهِ) أي عندَ ذكاتِه (أمْ لا؟ فقال: سمُّوا الله عليهِ أنتمْ وكلُوه. رواه البخاريُّ). تقدَّمَ أن في رواية: "إنَّ قومًا حديثو عهد "بالجاهليةِ"، وهي هُنا في البخاريِّ منْ تمامِ الحديثِ بلفظِ: "قالتْ وكانُوا حديثي عهدِ بالكفرِ"، وفي روايةٍ مالكٍ
(3)
زيادةٌ: "وذلكَ في أولِ الإسلامِ"، والحديثُ قدْ أُعِلَّ بالإرسالِ وليسَ بعلةٍ عندنا على ما عرفتَ [غير مرة]
(4)
سيِّما وقدْ وصلَه البخاريُّ.
وتقدَّم أنَّ الحديثَ منْ أدلةِ مَنْ قالَ بعدمِ وجوبِ التسميةِ ولا يتمُّ ذلكَ. وإنَّما هوَ دليلٌ على أنهُ لا يلزمُ أنْ يعلمُوا التسميةَ فيم يجلبُ إلى أسواقِ
(1)
في "صحيحه"(3/ 1532 رقم 1931).
(2)
في "صحيحه"(9/ 634 رقم 5507).
(3)
في "الموطأ"(2/ 488 رقم 1) وهي من قول مالك.
(4)
زيادة من (أ).
المسلمينَ، وكذَا ما ذبحَهُ الأعرابُ منَ المسلمينَ لأنَّهم قدْ عرفُوا التسميةَ، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ
(1)
: لأنَّ المسلمَ لا يُظَنُّ بهِ في كلِّ شيءٍ إلا الخيرُ حتى يتبينَ خلافُ ذلكَ، ويكونُ الجوابُ عنْهم سمُّوا إلخ منَ الأسلوبِ الحكيمِ، وهوَ جوابُ السائلِ بغيرِ ما يترقبُ كأنهُ قال: الذي يهمُّكم أنتمْ أنْ [تذكُروا]
(2)
اسمَ اللَّهَ عليهِ وتأكلُوا منهُ، وهذا يقررُ ما قدَّمناه منْ وجوبِ التسميةِ، إلا أنْ نحملَ أمورَ المسلمينَ على السلامةِ
(3)
.
وأما ما اشتهرَ منْ حديثِ: "المؤمنُ يذبحُ على اسمِ الله سمَّى أمْ لم يسمِّ"
(4)
،
(1)
في "الاستذكار"(15/ 214 رقم 21632).
(2)
في (أ): "يذكر".
(3)
انظر: "الفقه الإسلامي وأدلته"(3/ 659)، و"مغني المحتاج"(4/ 272) و"القوانين الفقهية"(ص 185)، "البدائع"(5/ 46).
(4)
غريب بهذا اللفظ. وفي معناه أحاديث:
• (منها): ما أخرجه الدارقطني (4/ 596 رقم 98)، ثم البيهقي عن محمد بن يزيد بن سنان عن معقل بن عبيد الله الجزري عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المسلم يكفيه اسمه، فمن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم، وليذكر اسم الله، ثم ليأكل".
وفيه محمد بن يزيد بن سنان، كان صدوقًا صالحًا، لكنه كان شديد الغفلة، قاله ابن القطان، وقال غيره: معقل بن عبيد الله - وإن كان من رجال مسلم - لكنه أخطأ في رفع هذا الحديث.
وقد أخرجه الدارقطني (4/ 295 - 296 رقم 96) عن محمد بن بكر بن خالد عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن عين - عكرمة - عن ابن عباس، قال:"إذا ذبح المسلم، فلم يذكر اسم الله، فلياكل، فإن المسلم فيه اسمًا من أسماء اللَّهِ".
قلت: وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(4/ 481 رقم 8548)، والبيهقي (9/ 239).
والخلاصة: أن الحديث موقوف على ابن عباس.
• (ومنها): ما أخرجه الدارقطني أيضًا (4/ 295 رقم 94) عن مروان بن سالم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح وينسى أن يسمِّي الله، قال: اسم اللَّهِ على كل مسلم. وفي لفظ: "على فم كل مسلم".
قال الدارقطني: ومروان ضعيف، وأعله ابن القطان به أيضًا، وقال: هو مروان بن سالم العقاري، وهو ضعيف. وليس بمروان بن سالم المكي.=
وإنْ قالَ الغزاليُّ في "الإحياءِ"
(1)
إنهُ صحيحٌ فقدْ قالَ النوويُّ: إنهُ مُجْمَعٌ على ضعفِه. وقدْ أخرجَهُ البيهقي منْ حديثِ أبي هريرةَ وقالَ إنهُ منكرٌ لا يحتجُّ بهِ. وكذَا ما أخرجَهُ أبو داودَ في "المراسيلِ"
(2)
عن الصلتِ السدوسيِّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ذبيحة المسلمِ حلالٌ ذكرَ اسمَ اللَّهِ أو لمِ يذكرْ"، فهوَ مرسلٌ وإنْ كانَ الصلتُ ثقةً فالإرسالُ علةٌ عندَ مَنْ لم يقبلْ المراسيلَ.
وقولُنا فيما تقدَّمَ إنهُ ليسَ الإرسالُ علة نريدُ إذا أعلُّوا بهِ حديثًا موصولا ثمَّ جاءَ منْ جهة أُخْرَى [مرسلًا]
(3)
.
= وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(6/ 2381) وأسند تضعيفه عن أحمد والنسائي ووافقهما، وقال عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه.
• (ومنها): ما أخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (378) عن الصلت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم اللَّهِ أم لم يذكر".
قال ابن القطان: وفيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا، ولا روى عنه غير ثور بن يزيد.
وقال ابن حجر في "الفتح"(9/ 636): "وهو مرسل جيد".
والخلاصة: أن الحديث بطرقه مرسل لم يبلغ درجة الصحة.
انظر: "نصب الراية" للزيلعي (4/ 182 - 183).
(1)
• قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(19/ 339): أما "الإحياء" ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير، لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية
…
" اهـ.
• وقال القاضي عيَاض كما في "سير أعلام النبلاء"(19/ 327): "والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف الفظيعة، غلا في طريقة التصوف، وتجرَّد لنصر مذهبهم، وصار داعيةً في ذلك، وألَّف فيه تواليفَه المشهورة - الإحياء - أُخِذَ عليه فيها مواضِعُ، وساءَت به ظنونُ أمَّة، واللَّه أعلم بسرِّه، ونَفَذَ أمرُ السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها والبُعد عنها، فامْتُثِلَ ذلك
…
" اهـ.
• وقال المحدث الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1/ 18): "وكم في كتاب "الإحياء" من أحاديث جزم بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مما يقول الحافظ العراقي وغيره فيها: لا أصل له" اهـ.
وانظر كتاب: "إحياء علوم الدين في ميزان العلماء والمؤرخين" بقلم: علي حسن علي عبد الحميد. فقد أجاد وأفاد.
(2)
رقم (378) وقد تقدم في التعليقة السابقة.
(3)
في (أ): "مرسل".
النهي عن الخذف
6/ 1258 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ:"إِنَّهَا لَا تَصيدُ صَيدًا، وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا ثَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ الْعَينَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. [صحيح]
(وعنْ عبدِ اللَّهِ بن مغفلٍ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهى عن الخَذْفِ) بفتحِ الخاءِ المعجمةِ وسكونِ الذالِ المعجمةِ ففاء (وقالَ إنَّها) أنَّثَ الضميرَ معَ أن مرجعَه الخذفُ وهوَ مذكرٌ نظرًا إلى المخذوفِ بهِ وهي الحصاةُ (لا تصيدُ صيدًا ولا تَنْكَأُ) بفتحِ حرفِ المضارعةِ وهمزةٍ في آخرهِ (عدوًا، ولكنَّها تكسرُ السن وتفقأُ العينَ. متفقٌ عليهِ واللفظُ لمسلم).
الخذفُ رميُ الإنسانِ بحصاةٍ أوْ نواةٍ أوْ نحوهما [يجعلُها]
(2)
بينَ إصبعيهِ السبابتينِ أوِ السبابةِ والإبهامِ. وفي تحريمِ ما قتل بالخذفِ منَ الصيدِ الخلافُ الذي مضَى في صيدِ المثقلِ؛ لأنَّ صيد الحصاة ثقيل بثقْلِها لا بحدٍّ، والحديثُ نَهَى عن الخذفِ لأنُه لا فائدةَ فيهِ ويخافُ منهُ المفسدةُ المذكورةُ، ويلحقُ بهِ كلُّ ما فيهِ مفسدةٌ.
واختُلِفَ فيما يقتلُ بالبندقةِ، فقالَ النوويُّ
(3)
: إنهُ إذا كانَ الرميُ بالبنادقِ [وبالخذفِ]
(4)
إنَّما هوَ لتحصيلِ الصيدِ وكانَ الغالبُ فيهِ عدمَ قتلِه فإنهُ يجوزُ ذلكَ إذا أدركَه الصائدُ وذكَّاه كرمي الطيورِ الكبارِ بالبنادقِ.
وأما أثرُ ابن عمرَ وهوَ ما أخرجَهُ عنهُ البيهقيُّ أنهُ كانَ يقولُ: "المقتولةُ
(1)
البخاري (6220)، ومسلم (55/ 1954).
قلت: وأخرجه أبو داود (5270)، والنسائي (8/ 47)، وابن ماجه (3226).
• الخذفُ: رميكَ حصاة أو نواةً تأخُذها بين سبابتيك، أو تأخذُ خشبة فترمي بها بين إبهامك والسبابة.
• يَنْكأُ: نَكَأتْ الجُرحَ: إذا قشرته، والنكأُ في العدو مستعار.
(2)
زيادة من (ب).
(3)
انظر: "شرح صحيح مسلم للنووي"(13/ 106).
(4)
في (أ): "وبالحصى".
بالبندقةِ تلكَ الموقوذةُ"، فهذَا في المقتولةِ بالبندقةِ، وكلامُ النووي في الذي لا يقتلُها وإنَّما تحبسها على الرامي حتَّى يذكيها، وكلامُ أكثرِ السلفِ أنهُ لا يؤكلُ ما [قتل]
(1)
بالبندقةِ [وذلكَ](1) لأنه قُتِلَ بالمثقلِ.
قلتُ: وأما البنادقُ المعروفةُ الآنَ فإنَّها ترمي بالرصاصِ فتخرجُ وقدْ صيَّرتْه نارُ البارودِ كالميلِ فيقتلُ بحدِّه لا بصدمِه، فالظاهرُ حِلُّ ما قتلَتْه
(2)
.
النهي عن جعل الحيوان هدفًا يرمى إليه
7/ 1259 - وَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَتخِذُوا شَيئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
. [صحيح]
(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: لا تتخذوا شيئًا فيهِ الروح غَرَضًا) بفتحِ الغينِ المعجمةِ وفتحِ الراءِ فضادٍ معجمةٍ، هوَ في الأصلِ الهدفُ يُرْمَى إليهِ، ثمَّ جُعِلَ اسمًا لكل غايةٍ يتحرَّى إداركَها (رواة مسلمٌ).
الحديثُ نَهْيٌ عنْ جَعْلِ الحيوانِ هدفًا يُرْمَى إليهِ، والنهيُ للتحريمِ لأنهُ أصلُه ويؤيدُه قوةُ حديثِ
(4)
: "لعنَ اللَّهُ مَنْ فعلَ هذَا"، لما مرَّ صلى الله عليه وسلم وطائر قدْ نصب وهمْ يرمونَه. وحكمةُ النهي أن فيهِ إيلامًا للحيوانِ وتضييعًا لماليتهِ وتفويتًا لذاتِه إنْ كانَ مما يُذَكَّى، ولمنفعتِه إنْ كانَ غيرَ مذكَّى.
الذبح بالحجر
8/ 1260 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةَ ذَبَحتْ شَاةً بِحَجَرٍ،
(1)
زيادة من (ب).
(2)
وإلى حله ذهب الشوكاني في "نيل الأوطار" والسيد صدِّيق حسن خان. "هامش فتح العلَّام".
(3)
في "صحيحه" رقم (1957).
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1475)، وابن ماجه رقم (3187)، والنسائي (7/ 238 رقم 4443).
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(4)
أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (59/ 1958) من حديث ابن عمر.
فَسُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِي
(1)
. [صحيح]
(وعنْ كعبِ بن مالكٍ أن امرأة ذبحتْ شاةً بحجرٍ فَسُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فأمرَ بأكْلِها.
رواهُ البخاريُّ). الحديثُ دليلٌ على صحةِ تذكيةِ المرأةِ وهوَ قولُ الجماهيرِ، وفيهِ خلافٌ شاذٌ أنهُ يُكْرَهُ ولا وجْهَ لهُ. ودليلٌ على صحةِ التذكيةِ بالحجرِ الحاد إذا فرى الأوداج؛ لأنَّه قد جاء في رواية أنها كسرت الحجر وذبحت به، والحجر إذا كُسِرَ يكونُ فيهِ الحدُّ. ودليلٌ على أنهُ يصحّ أكْلُ ما ذُبِحَ بغيرِ إذنِ المالكِ، وخالفَ فيهِ إسحاقُ بنُ راهويهْ وأهلُ الظاهرِ وغيرُهم، واحتجُّوا بأمرهِ صلى الله عليه وسلم بإكفاءِ ما في القدور مما ذُبِحَ منَ المغنَمِ قبلَ القِسْمَةِ بذي الحليفةِ كما أخرجَهُ الشيخانِ
(2)
.
وأُجِيْب بأنهُ إنَّما أمرَ بإِراقةِ المرقِ، وأما اللحمُ فباق جُمِعَ ورُدَّ إلى المغنَم، فإنْ قيلَ لم ينْقلْ جمعُه وردُّه إليهِ، قلْنا: لم ينقلْ أنَّهم أتلفُوه وأحرقُوه، فيجبُ تأويلُه بما ذكرنا موافقةً للقواعدِ الشرعيةِ.
قلتُ: لا يخْفَى تكلفُ الجوابِ، والمرقُ مال لو كانَ حلالًا لما أمرَ بإراقتِه فإنهُ من إضاعةِ المالِ.
وأما الاستدلالُ على المدَّعي بشاةِ الأَسارى فإنَّها ذُبحتْ بغيرِ إذْنِ مالِكِها فأمرَ على بالتصدقِ بها على الأَسارى كما هوَ معروفٌ، فإنهُ استدلالٌ غيرُ صحيح، وذلكَ لأنهُ صلى الله عليه وسلم لم يستحلَّ أكلَها ولا أباحَ لأحدٍ منَ المسلمينَ أكلَها بلْ أمرَ أنْ يطعم الكفارَ المستحلينَ للميتةِ.
وقدْ أخرجَ أبو داودَ
(3)
منْ حديثِ رجلٍ منَ الأنصارِ قالَ: "خرجْنا معَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأصابَ الناسَ مجاعةٌ شديدةٌ وجَهْدٌ، فأصابُوا غنمًا فانتَهبُوها، فإنَّ قدورنَا تغلي إذْ جاءَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على فرسِه فأكفَأ قدورنَا ثمَّ جعلَ [يرملُ]
(4)
اللحمَ بالترابِ وقالَ: إنَّ النهبةَ ليستْ بأحلَّ منَ الميتةِ"، فهذا مثلُ الحديثِ الذي أخرجَه الشيخانِ (2) وفيهِ
(1)
في صحيحه (5502).
قلت: وأخرجه أحمد (6/ 386)، وابن ماجه (3182)، والبيهقي (9/ 281)، ومالك (2/ 489 رقم 4).
(2)
البخاري (2488)، ومسلم (1968).
(3)
في "السنن" رقم (2705) وإسناده جيد.
(4)
في (أ): "بزمل".
التصريحُ بأنهُ حرامٌ، وفيهِ إتلافُ اللحمِ لأنهُ ميتةٌ فعرفتْ قوةُ كلامِ أهلِ الظاهرِ.
وأما حديثُ الكتابِ وأنهُ صلى الله عليه وسلم أمرَ بأكلِ ما ذبحَ بغيرِ إذنِ مالكِه فإنهُ لا يردُّ علَى الظاهرية لأنَّهم يقولونَ بحلِّ ما ذبحَ بغيرِ إذنِ مالكِه مخافةَ أنْ يموتَ أو نحوَه.
وفيهِ دليلٌ على أنَّهُ يجوزُ تمكينُ الكفارِ مما هوَ محرَّمٌ على المسلمينَ، ويدلُّ له أن صلى الله عليه وسلم "نَهَى عمرُ عنْ لُبْسِ الحلةِ منَ الحريرِ، فبعثَ بها عمرُ لأخيهِ المشركِ [بمكة]
(1)
"كما في البخاري
(2)
وغيرِه.
قالَ المصنفُ في "الفتحِ"
(3)
: ويدلُّ الحديثُ على تصديقِ الأجيرِ الأمينِ فيما اوْتُمنَ عليهِ حتَّى يتبيَّنَ عليهِ دليلُ الخيانةِ؛ لأنَّ في الحديثِ أنَّها كانتِ المرأةُ أَمَةً راعيةً لغنمِ سيِّدِها وهوَ كعبُ بنُ مالك فخشيتْ على الشاةِ أنْ تموتَ فذبحتْها. ويُؤْخَذُ منهُ جوازُ تصرُّف [المودَعِ]
(4)
لمصلحةٍ بغيرِ إذْنِ المالكِ.
شروط الذبح
9/ 1261 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خديجٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ علَيهِ فَكُلْ، ليسَ السنَّ والظُّفُرَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
. [صحيح]
(وعنْ رافعِ بن خديجٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم[قالَ]
(6)
:) سببُ الحديثِ أنهُ قالَ رافعُ بنُ خديجٍ: يا رسولَ اللَّهِ، إنا لاقُوا العدوِّ غدًا وليسَ معنا مُدَىً
(7)
،
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في "صحيحه" رقم (886)، ومسلم رقم (6/ 2068).
(3)
(9/ 633).
(4)
في (أ): "الوديع".
(5)
البخاري (5543)، ومسلم (20/ 1968).
قلت: وأخرجه أبو داود (2821)، والترمذي (1491)، والنسائي (7/ 226)، وابن ماجه (3178)، وأحمد (3/ 463، 464).
(6)
زيادة من (ب).
(7)
مفردها: مُدْية: الشفرة. "مختار الصحاح"(ص 258).
فقالَ صلى الله عليه وسلم: (ما أنهرَ الدمَ) بفتحِ الهمزةِ فنونٍ ساكنةٍ فهاءٍ مفتوحةٍ فراءٍ، أي أسالَه وصبَّهُ [بكثرةٍ]
(1)
منَ النَّهَرِ (وذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليهِ فكلْ، ليسَ السنُّ والظُّفُرُ، أما السن فعظمٌ، وأما الظُّفُر فمُدَى) بضمِّ الميمِ [وبفتحِها]
(2)
وفتحِ الدالِ المهملةِ فألفٍ مقصورةٍ جَمعٌ مديةٍ مثلثةُ الميمِ وهي الشفرةُ [أي السكينُ]
(3)
(الحبشةِ. متفقٌ عليهِ)، فيهِ دلالةٌ صريحةٌ بأنهُ يُشْتَرَطُ في الذكاةِ ما يقطعُ ويجري الدمَ.
واعلمْ أنهُ تكونُ الذكاةُ بالنحرِ للإبلِ وهوَ الضربُ بالحديدة في لبَّةِ البدنةِ حتَّى يفريَ أوداجَها، واللَّبَّةُ بفتحِ اللامِ وتشديدِ الباءِ موضعُ القِلادةِ منَ الصَّدْرِ. والذبحُ [لما]
(4)
عدَاها وهوَ قطعُ الأوداجِ، أي الودجينِ وهما عِرقَانِ محيطانِ بالحلقومِ، فقولُهم الأوداجُ تغليبٌ على الحلقومِ والمريءِ، فَسُمِّيتِ الأربعةُ أوداجًا.
واختلفَ العلماءُ، فقيلَ: لا بدَّ منْ قطعِ الأربعةِ، وعنْ أبي حنيفةَ [يكْفي](2) قَطْعُ ثلاثةٍ منْ أيِّ جانبٍ، وقالَ الشافعي: يكفي قطعُ الأوداجِ والمريءِ، وعنِ الثوريّ يجزئُ قطعُ الودجينِ، وعنْ مالك يُشْتَرَطُ قطعُ الحلقومِ والودجينِ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"ما أنهرَ الدمَ" وإنهارُه أجراؤُه وذلكَ يكونُ بقطعِ الأوداجِ لأنَّها مَجْرَى الدمِ، وأما المريءُ فهو مَجْرَى الطعامِ وليسَ بهِ منَ الدمِ ما يحصلُ بهِ إنهارُه.
والحديثُ دليلٌ على أنهُ يُجْزِئُ الذبحُ بكلّ محدَّدٍ فيدخلُ السيفُ والسكينُ والحجرُ والخشبةُ والزجاجُ والقصبُ والخزفُ والنحاسُ وسائرُ الأشياءِ المحددةِ.
والنَّهْيُ عن السنِّ والظفرِ مطلقًا منْ آدميٍّ أو غيرِه منفصل أو متصلٌ ولوْ [كانَ]
(5)
محدَّدًا، وقدْ بيَّنَ صلى الله عليه وسلم وجْهَ النَّهْي في الحديثِ بقولِه:"أما السنُّ فعظمٌ"، فالعلةُ كونُها عظْمًا وكأنهُ قدْ سبقَ منهُ صلى الله عليه وسلم[النَّهْيَ]
(6)
عن الذبحِ بالعظمِ، وقدْ علَّلَ النوويُّ وجْهَ النَّهْي عن الذبحِ بالعظمِ أنهُ يتنجسُ بهِ وهوَ منْ طعام الجنِّ فيكونُ كالاستجمارِ بالعظمِ. وعلَّلَ في الحديثِ النَّهْيَ عن الذبحِ بالظفرِ بكونِه مُدَى الحبشةِ أي وهمْ كفارٌ وقدْ نُهِيْتُمْ عن التشبه بهمْ، وأوردَ عليهِ بأنَّ الحبشةَ تذبحُ
(1)
زيادة من (ب).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
زيادة من (ب).
(4)
زيادة من (ب).
(5)
في (أ): "ما".
(6)
في (أ): "نهي".
بالسكينِ أيضًا فيلزمُ المنعُ منْ ذلكَ للتشبُّهِ، وأُجِيْبَ بأنَّ الذبحَ بالسكينِ هوَ الأصلُ وهوَ غيرُ مختصٍّ بالحبشةِ، وعلَّلَ ابنُ الصَّلاحِ ذلكَ بأنهُ إنَّما مُنِعَ لما فيهِ منَ [تعذيب الحيوان]
(1)
ولا يحصلُ بهِ إلا الخنقَ الذي ليسَ على صفةِ الذبحِ.
[وفي المعرفةِ للبيهقي]
(2)
روايةٌ عن الشافعيّ أنهُ حملَ الظفرَ في هذا الحديثِ على النوعِ الذي يدخلُ في الطيبِ وهوَ منْ بلادِ الحبشةِ، وهو لا يفري فيكونُ في معنَى الخنقِ. وإلى تحريمِ الذبحِ بما ذكرَ ذهبَ الجمهورُ. وعنْ أبي حنيفةَ وصاحبيْه أنهُ يجوزُ بالسن والظفرِ المنفصلينِ، واحتجُّوا بما أخرجَه أبو داوَد
(3)
منْ حديثِ عديٍّ بن حاتمٍ: "أفرَّ الدمَ بما شئتَ"، والجوابُ أنهُ عامٌّ خصَّصَهُ حديثُ رافعٍ بِن خُدَيْجٍ.
قتل الصبر
10/ 1262 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْ يُقْتَلَ شَيءٌ مِنَ الدَّوابِّ صَبرًا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(4)
. [صحيح]
(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُقْتَلَ شيءٌ من الدوابِّ صَبْرًا. رواهُ مسلمٌ)، هوَ دليل على تحريمِ قَتْلِ أيِّ حيوانٍ صَبْرًا وهوَ إمساكُهُ حيًا ثمَّ يُرْمَى حتَّى يموتَ، وكذلكَ مَنْ قُتِلَ منَ الآدميينَ في غيرِ معركةٍ ولا حرْبٍ ولا خطأٍ فإنهُ مقتولٌ صَبْرًا، والصبرُ الحبْسُ.
(1)
في (ب): "التعذيب للحيوان".
(2)
في (أ): "وقال".
(3)
في "السنن"(2824).
قلت: وأخرجه النَّسَائِي (7/ 225 رقم 4401)، وابن ماجه (3177)، والحاكم (4/ 240) وقال: صحيح على شرط مسلم. وتعقبه الألباني بقوله في "الإرواء"(8/ 166): "وهذا من أوهامه التي لم ينبه عليها الذهبي، فإن مري بن قطري لم يخرج له مسلم شيئًا ثم هو لا يُعرف كما قال الذهبي".
والخلاصة: أن الحديث صحيح. انظر: "التلخيص الحبير"(4/ 135 رقم 1938).
(4)
في "صحيحه" رقم (1955).
قلت: وأخرجه ابن ماجه (3188)، وأحمد (3/ 318).
إحسان القِتلة والذِّبحة
11/ 1263 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن الله كتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذا ذَبَحْتُمُ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيرِحْ ذَبيحَتَهُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
. [صحيح]
ترجمة شدَّاد بن أوس
(وعنْ شدادِ بن أوسٍ)
(2)
شدادٌ بالشينِ المعجمةِ ودالينِ مهملتينِ، هوَ أبو يعلَى شدادُ بنُ أوسِ بن ثابتٍ النجاريِّ الأنصاريِّ وهوَ ابنُ أخي حسانَ بن ثابتٍ لم يصحَّ شهودُه بدرًا، نزلَ بيتَ المقدسِ وعِدَادُه في أهلِ الشامِ، ماتَ بهِ سنةَ ثمانٍ وخمسينَ وقيلَ غيرُ ذلكَ، قالَ عبادةُ بنُ الصامتِ وأبو الدرداءِ: كانَ شدادُ ممنْ أُوتي العلمَ والحِلمَ.
(قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ تعالَى كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلْتُم فأحسِنُوا القِتْلَةَ) بكسرِ القافِ مصدرٌ نوعيٌّ (وإذا ذبحتُم فأحسِنُوا الذِّبْحَةَ) بزنةِ [القِتْلَة]
(3)
(وليحدَّ أحدُكمِ شفَرتَه وليرحْ ذبيحتَه. رواهُ مسلمٌ).
قولُه: كتبَ الإحسانَ، أي أوجبَه، كما قالَ تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
(4)
، وهوَ فعلُ الحسنِ ضدَّ القبيحِ، فيتناولُ الحسنَ شرعًا والحسنَ عرفًا
(1)
في "صحيحه"(57/ 1955).
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 123، 124، 125)، والنسائي (7/ 229 - 230)، وابن ماجه (3170)، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، وقال: حديث حسن صحيح. والطيالسي (1/ 341 - 342 رقم 1740 - منحة المعبود)، والبيهقي (9/ 280)، وابن الجارود رقم (899)، والدارمي (2/ 82)، والبغوي في "شرح السنة"(11/ 219)، والخطيب في "التاريخ"(5/ 278)، والسهمي في "تاريخ جرجان"(ص 386 رقم 640)، وهو حديث صحيح.
(2)
انظر ترجمته في: "أسد الغابة" رقم (2393)، "و"الإصابة" رقم (3866)، "والاستعاب" رقم (1163)، و "التاريخ الكبير" (4/ 224)، "وشذرات الذهب" (1/ 64)، و "الجرح والتعديل" (4/ 328).
(3)
في (أ): "القلة".
(4)
سورة النحل: الآية 90.
وذكرَ منهُ ما هو أبعدُ شيءٍ عن اعتبارِ الإحسانِ وهوَ الإحسان في القتلِ لأيِّ حيوانٍ منْ آدميٍّ وغيرِه في حدٍّ وغيرِه. ودلَّ على نفي المُثلةِ مكافأةً إلا أنهُ يحتملُ أنه مخصَّصٌ بقولِه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
(1)
، وقدْ تقدَّم الكلامُ في ذلكَ.
وأبانَ بعضَ كيفيه إحسانِها بقولِه: (وليُحدَّ) بضمِّ حرفِ المضارعةِ، منْ أحدَّ السكينَ أحسنَ حدَّها، والشفرةُ [بضم الشين]
(2)
المعجمه السكينُ العظيمةُ وما عَظُمَ منَ الحديدِ وحُدِّدَ.
وقولُه: "وليرحْ" بضمِّ حرفِ المضارعةِ [أيضًا]
(3)
منَ الإراحةِ، ويكونُ بإحدادِ السكينِ وتعجيلِ إمرارها وحُسْنِ الصنعة.
12/ 1264 - وَعَنْ أَبي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ
(4)
وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(5)
.
(1)
سورة البقرة: الآية 194.
(2)
في (ب): "بفتح الشين".
(3)
زيادة من (ب).
(4)
في "المسند"(3/ 39).
(5)
(ص 264 رقم 1077) - الموارد.
قلت: وأخرجه الدارقطني (4/ 274 رقم 30)، والبيهقي (9/ 335)، والخطيب في "الموضح"(2/ 249) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي الودَّاك عن أبي سعيد.
وأخرجه عبد الرزاق (4/ 502 رقم 8650)، وأبو يعلى (2/ 278 رقم 992)، والبغوي في "شرح السنة"(11/ 218 رقم 2789) من طريق مجالد بن سعيد، عن أبي الودَّاك عن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد (3/ 45)، وأبو يعلى (2/ 415 رقم 1206)، والطبراني في "الصغير"(1/ 156 رقم 242)، والخطيب في "التاريخ"(8/ 412) من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد، وعطية ضعيف.
• ولحديث أبي سعيد شاهد من حديث جابر رضي الله عنه.
أخرجه أبو داود (2818)، والدارمي (2/ 84)، والدارقطني (4/ 173 رقم 27)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 660، 733)، (6/ 2403)، والحاكم (4/ 114)، والبيهقي (9/ 334 - 335)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 92) و (9/ 236) من طرق عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا به. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
قلت: وأبو الزبير مدلس، ولم يصرِّح بالسماع والخلاصة: أن الحديث صحيح.
وللحديث شواهد أخرى عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبي أمامة، وأبي الدرداء وغيرهم، ذكرتهم في كتابي:"إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة" جزء الصيد والربائح.
(وعنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ذكاة الجنينِ ذكاة أمهِ. رواهُ أحمدُ وصحَّحَهُ ابن حِبَّانِ). الحديثُ لهُ طرقٌ
(1)
عندَ الترمذيِّ وأبي داودَ والدارقطنيِّ إلَّا أنهُ قالَ عبدُ الحقِّ: إنهُ لا يُحْتَجُّ بأسانيدهِ كلِّها، وقالَ الجوينيُّ إنه صحيحٌ لا يتطرقُ احتمالٌ إلى متْنِهِ ولا ضعفٌ إلى سندِه، وتابعهُ الغزالي، والصوابُ أنهُ لمجموع طُرقِهِ يُعْمَلُ بهِ، وقدْ صحَّحَهُ ابنُ حبانَ
(2)
وابنُ دقيقِ العيدِ
(3)
.
وفي البابِ عنْ جابرٍ
(4)
وأبي الدرداءِ
(5)
وأبي أمامةَ
(6)
وأبي هريرةَ
(7)
قالُه الترمذيُّ. وفيهِ عنْ جماعةٍ منَ الصحابةِ مما يؤيدُ العملَ بهِ.
والحديثُ دليلٌ على أن الجنينَ إذا خرجَ منْ بطنِ أمهِ ميتًا بعدَ ذكاتِها فهوَ حلالٌ مذكَّى بذكاةِ أمهِ. وإلى هذا ذهبَ الشافعيُّ وجماعةٌ حتَّى قالَ ابنُ المنذرِ لم يُرْوَ عنْ أحدٍ منَ الصحابةِ ولا منَ العلماءِ أن الجنينَ لا يُؤْكَلُ إلَّا باستئنافِ الذكاةِ فيهِ إلا ما يُرْوَى عنْ أبي حنيفةَ وذلكَ لصراحةِ الحديثِ فيهِ، ففي لفظِ:(ذكاة الجنينِ بذكاةِ أمهِ) أخرجَهُ البيهقيُّ، فالباءُ سببيةٌ أي أن ذكاتَه حصلتْ بسببِ ذكاةِ أمهِ أو ظرفيةٌ ليوافقَ ما عندَ البيهقي أيضًا:"ذكاةُ الجنينِ في ذكاةِ أمهِ".
(1)
تقدم بعض الطرق في تخريج حديث الباب.
(2)
في "صحيحه" رقم (5889).
(3)
في كتابه: الإلمام بأحاديث الأحكام (ص 299) رقم (2/ 752).
(4)
تقدم تخريجه في تخريج حديث الباب.
(5)
و
(6)
أخرجه البزار (2/ 70 رقم 1226 - كشف) وعزاه الهيثمي في "المجمع"(4/ 35) للطبراني وابن عدي في "الكامل"(443/ 2)، إلا أنه وقع عند البزار عن خالد بن معدان بدل راشد بن سعد، وبشر بن عمارة فيه مقال، وقال ابن عدي: ليس له حديث منكر وهو إلى الاستقامة أقرب.
(7)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 114) وقال صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي: بأن عبد الله بن سعيد هالك.
وأخرجه الدارقطني عن عمر بن قيس عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة قال عبد الحق: لا يحتج بإسناده، قال ابن القطان: وعلته عمر بن قيس وهو المعروف بسندل فإنه متروك. كما في "نصب الراية للزيلعي"(4/ 190).
وقد أورده الذهبي في "ميزان الاعتدال"(3/ 219) في ترجمة عمر بن قيس وقال: إنه منكر. لكنه قال: عن طاووس عن ابن عباس.
واشترطَ مالكٌ أنْ يكونَ قدْ أُشعرَ لما رواهُ أحمدُ بنُ عصامٍ عنْ مالكٍ عنْ نافعٍ عن ابن عمرَ مرفُوعًا: "إذا أشعرَ الجنينُ فذكاتُه ذكاةُ أمهِ" لكنهُ قالَ الخطيبُ: تفردَ بهِ أحمدُ بنُ عصامٍ وهوَ ضعيفٌ
(1)
وهوَ في "الموطأ"
(2)
موقوفٌ على ابن عمرَ وهوَ أصحُّ، [وقد]
(3)
عُورِضَ بما رواهُ ابنُ المباركِ عن ابن أبي ليلَى قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أمهِ أشْعرَ أو لم يشعِرْ" وفيهِ ضعفٌ لسوءِ حفظِ ابن أبي ليلَى
(4)
، ولكنهُ أخرجَ البيهقي
(5)
منْ حديثِ ابن عمرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "ذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أمهِ أشْعرَ أوْ لم يُشْعرْ"، رُوِيَ منْ أوجُهٍ عن ابن عمرَ مرفُوعًا، قالَ البيهقيُّ
(6)
: ورفْعُهُ عنهُ ضعيفٌ والصحيحُ أنهُ موقوفٌ.
قلت: والموقوفانِ عنهُ قدْ صحَّا وتعارضَا فيطرحانِ ويرجعُ إلى إطلاقِ حديثِ البابِ وما في معناهُ، وذهبَ الهادويةُ والحنفيةُ إلى أن الجنينَ إذا خرجَ ميْتًا منْ المذكاةِ فإنهُ ميتةٌ لعمومِ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ}
(7)
، وكذا لو خرجَ حيًّا ثمَّ ماتَ وإليهِ ذهبَ ابنُ حزمٍ
(8)
، وأجابُوا عن الحديثِ بأنَّ معناهُ ذكاةُ الجنينِ إذا خرجَ حيًّا نحو ذكاةِ أمهِ، قالهُ [الإمام المهدي]
(9)
في "البحرِ"
(10)
.
قلت: ولا يخْفَى أنهُ إلغاءٌ للحديثِ عن الإفادةِ، فإنهُ معلومٌ أن ذكاةَ الحيِّ منَ الأنعامِ ذكاةٌ واحدةٌ منْ جنينٍ وغيرِه، كيفَ وروايةُ البيهقيِّ بلفظِ: ذكاةِ الجنينِ في ذكاةِ أمهِ، فهيَ مفسِّرةٌ لروايةِ: ذكاةِ أمهِ، وفي أُخْرَى: بذكاةِ أمهِ
(11)
.
(1)
قاله الدارقطني في "الضعفاء والمتروكين" رقم (42).
وانظر: "الميزان"(1/ 119)، و "اللسان"(1/ 220)، و "المغني"(1/ 47).
(2)
(2/ 490 رقم 8).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
قال ابن حجر في "التقريب"(1/ 496 رقم 1094): ثقة، من الثانية، اختلف في سماعه من عمر.
(5)
في "السنن الكبرى"(9/ 335 - 336).
(6)
في "السنن الكبرى"(9/ 336).
(7)
سورة المائدة: الآية 3.
(8)
انظر: "المحلى"(7/ 419 - 421 رقم 1014).
(9)
زيادة من (أ).
(10)
(4/ 301).
(11)
انظر: "البدائع"(5/ 42)، "القوانين الفقهية"(ص 183)، "مغني المحتاج"(4/ 579، 306)، والمغني (8/ 579)، والفقه الإسلامي وأدلته (3/ 667 - 669).
ترك التسمية على الذبح
13/ 1265 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ ثُمَّ لِيَأْكُلْ". أَخْرَجَهُ الدَّارقُطْنيُّ
(1)
، وَفيهِ رَاوٍ في حِفْظِهِ ضَعْفٌ، وَفي إِسْنَادِهِ مُحْمّدُ بُنْ يَزِيدَ بنِ سِنَانٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ ضَعِيفُ الْحِفْظِ. [مرسل]
- وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (1) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. [مرسل]
- وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ في مَرَاسِيلِهِ (1) بِلَفْظِ: "ذَبَيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلالٌ، ذَكَرَ اسْمَ الله عَلَيهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ"، وَرِجَالُهُ مُوثَّقُونَ. [مرسل]
وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: المسلمُ يكفيهِ اسمُه. الضميرُ للمسلمِ وقدْ فسَّرهُ حديثُ البيهقيِّ
(2)
عن ابن عباسٍ قالَ فيهِ: "فإنَّ المسلمَ فيهِ اسمٌ منْ أسماءِ اللَّهِ تعالى (فإنْ نسيَ أنْ يسمِّيَ حينَ يذبح فليسمِّ ثمَّ يأكل. أخرجَهُ الدارقطنيُّ وفيهِ راوٍ في حفظِه ضعفٌ) بيَّنَهُ بقولِه: (وفي إسنادِه محمدُ بنُ يزيدَ بن سنانٍ وهوَ صدوقٌ ضعيفٌ الحفظِ
(3)
. وأخرجَهُ عبدُ الرزاقِ بإسنادٍ صحيح إلى ابن عباسٍ موقُوفًا عليهِ، ولهُ شاهدٌ عندَ أبي داودَ في مراسيلهِ بلفظِ: ذبيحةُ المسلمِ حلالٌ ذكرَ اسمَ اللَّهِ عليها أمْ لمْ يذكر. ورجالُه موثقون).
وفي البابِ مرسلٌ صحيحٌ ولكنَّها لا تُقَاوِمُ ما سلفَ منْ الأحاديثِ الدالةِ على وجوب التسميةِ مطلقًا، إلَّا أنَّها تفتُّ في عَضُدِ وجوبِ التسميةِ مطلقًا وتجعلُ تركَ [أكْلِ]
(4)
ما لم يسمَّ عليهِ منْ بابِ التورعِ.
* * *
(1)
تقدم تخريجها والكلام عليها في شرح الحديث رقم (5/ 1256) من كتابنا هذا.
(2)
في "السنن الكبرى"(9/ 239 - 240) موقوفًا على ابن عباس.
(3)
قال ابن حجر في "التقريب"(9/ 212 رقم 825): ليس بالقوي.
(4)
زيادة من (ب).
[الباب الثاني] باب الأضاحي
الأضاحي جمعُ أُضْحيةٍ بضمِّ الهمزةِ، ويجوزُ كسرُها، ويجوزُ حذفُ الهمزةِ فتفتح الضادَّ كأنَّها اشتُقَّتْ منِ اسم الوقتِ الذي شُرعَ ذبُحها فيهِ، وبها سمّيَ اليومُ يومَ الأضْحَى.
1/ 1266 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّيِ بِكَبْشَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ، ويُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. وَفي لَفْظٍ: ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. وَفي لَفْظ: سَمِينَيْنِ. وَلأَبي عُوَانَةَ في صَحِيحِهِ: ثَمِينَيْنِ - بِالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ السِّينِ - وفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، وَيَقُولُ:"بِسْمِ اللهِ وَاللَّه أكْبَرُ"
(1)
. [صحيح]
(وعنْ أنسِ بن مالك رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يضحِّي بكبشينِ أملحينِ أقرنينِ
(1)
• أخرجه البخاري (5558)، ومسلم (17/ 1966). والنسائي (7/ 230 رقم 4416)، و (7/ 230 - 231 رقم 4417)، وابن ماجه (3120)، وأبو يعلى رقم (3136) و (3247) و (3248) من طرق عن شعبة، به.
• وأخرجه البخاري رقم (5564) و (5565)، (7399)، ومسلم رقم (18/ 1966)، وأبو داود رقم (2794)، والترمذي رقم (1494)، والنسائي (7/ 220)، وأبو يعلى رقم (2859) و (2877) و (3118) و (3166) و (3247)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 259 و 283 و 285)، وفي "معرفة السنن والآثار"(14/ 9 رقم 18874)، وأحمد (3/ 170 و 211 و 214 و 258)، والطيالسي رقم (1968)، وعبد الرزاق رقم (8129) من طرق عن قتادة، به.
• وأخرجه البخاري رقم (1551)، (1712)، (1714)، (5554)، وأبو داود رقم (2793)، والنسائي (7/ 220)، وأبو يعلى رقم (2806) و (2807)، وأحمد (3/ 286)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 272 - 273 و 270) من طريق أبي قلابة، عن أنس.
ويسمِّي ويكبرُ ويضعُ رجلَه على صفاحِهما) بالمهملتينِ، الأولى مكسورةٌ.
في "النهايةِ" صفحةُ كلِّ شيءٍ وجهُه وجانبُه، (وفي لفظٍ: ذبَحَهُما بيدِه. وفي لفظٍ: سمينينِ. ولأبي عُوانةَ في صحيحهِ) أي عنْ أنسٍ رضي الله عنه (ثمينين بالمثلثةِ بدلَ السينِ) هذا مدرَجٌ منْ كلامِ أحدِ الرواةِ أو من كلام أبي عوانةَ أوْ من كلام المصنفُ [وهو الظاهر]
(1)
، (وفي لفظٍ لمسلمٍ)[عن]
(2)
أنسٍ: (ويقولُ: بسمِ اللهِ واللَّهُ أكبرُ) الكبشُ هوَ الثنيُّ إذا خرجتْ رَباعيَّتُه، والأملحُ الأبيضُ الخالصُ، وقيلَ: الذي يخالطُ بياضَه شيءٌ منْ سوادٍ، وقيلَ: الذي يخالطُ بياضَه حمرةٌ، وقيلَ: هوَ الذي فيهِ بياضٌ وسوادٌ والبياضُ أكثرُ، والأقرنُ هوَ الذي لهُ قرنانِ.
واستحبَّ العلماءُ التضحيةِ بالأقرنِ لهذا الحديثِ، وأجازوه بالأجمِّ الذي لا قَرْنَ لهُ أصْلًا. واختلفُوا في مكسور القرنِ فأجازهُ الجمهورُ، وعندَ الهادويةِ لا يُجْزِئُ إذا كانَ القرنُ الذاهبُ مما تحلُّه الحياةُ.
واتفقُوا على استحبابِ الأملحِ، قالَ النوويُّ
(3)
: إنَّ أفضَلَها عندَ أصحابه البيضاءُ، ثمَّ الصفراءُ، ثمَّ الغبراءُ وهيَ التي لا يصفُو بياضُها، ثمَّ البلقاءُ وهيَ التي بعضُها أسودُ وبعضُها أبيضُ، ثمَّ السوداءُ، وأما حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: (يطأُ في سوادٍ، [ويبركُ]
(4)
في سوادٍ، وينظرُ في سوادٍ)، فمعناهُ أن قوائمَهُ وبطْنَه وما حولَ عينيهِ أسودُ.
قلتُ: إذا كانتِ الأفضليةُ في اللونِ مستندةً إلى ما ضحَّى بهِ صلى الله عليه وسلم، فالظاهرُ أنهُ لم يتطلبْ لونًا معيَّنًا حتَّى يُحْكَمَ بأنهُ الأفضلُ، بلْ ضحَّى بما اتفقَ لهُ صلى الله عليه وسلم وتيسَّرَ حصولُه فلا يدلُّ على أفضليةِ لونٍ منَ الألوانِ.
وقولُه: (ويسمِّي ويكبِّرُ)، فسَّرهُ لفظُ مسلم
(5)
بأنهُ: "بسمِ اللهِ واللَّهُ أكبرُ"، أما التسميةُ فتقدَّمَ الكلامُ فيها، وأما التكبيرُ فكأنهُ خاص بالتضحيةِ والهدْي لقولِه تعالَى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}
(6)
، وأما وضْعُ رجلِه صلى الله عليه وسلم على صفحةِ
(1)
زيادة من (أ).
(2)
في (ب): "من".
(3)
في "شرح صحيح مسلم"(13/ 120).
(4)
في (أ): "ويترك".
(5)
في "صحيحه" (3/ 1557 رقم
…
/ 1966).
(6)
سورة البقرة: الآية 185.
العُنُقِ وهيَ جانِبُه، فلتكون أثبتَ لهُ وأمكَنَ لئلَّا تَضْطَرِبَ الضحيةُ. ودلَّ هوَ وما بعدَه أنهُ يتولى الذبحَ بنفسهِ ندْبًا.
يستحب إضجاع الغنم على الجنب الأيسر ثم الدعاء بقبولها
2/ 1267 - وَلَهُ
(1)
مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَمَرَ بِكَبْشِ أَقْرَنَ، يَطَأُ في سَوَادِ، ويَبْرُكُ في سَوَادِ، وَيَنْظُرُ في سَوَادِ، فَأُتِيَ بِهِ ليُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا:"يَا عَائَشَةُ هَلُمِّي الْمُدْيَةَ"، ثُمَّ قَالَ:"اشْحَذِيهَا بِحَجَر" فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أخَذَهَا، وَأَخَذَهُ، فَأضْجَعَه، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ:"بِسْمِ اللهِ، اللَّهُم تَقَبلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وآل مُحَمدِ، وَمِنْ أُمةِ مُحَمدٍ"، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ. [صحيح]
[(ولهُ من حديثِ) أي]
(2)
ولمسلمٍ من حديثِ (عائشةَ رضي الله عنها: أمرَ بكبشٍ أقرنَ يطأُ في سوادٍ ويبركُ في سوادٍ وينظرُ في سوادٍ ليضحي بهِ، فقالَ: اشحذي المُدْيَةَ) تقدَّم ضبطُها وهوَ بمعنَى وليحدَّ أحدُكم شفرتَه (ثمَّ أخذَها) أي المديةَ (فأضجَعَهُ) أي الكبشَ (ثمَّ ذبحَه وقالَ: بسمِ اللهِ اللهمَّ تقبلْ منْ محمدٍ والِ محمدٍ وأمةِ محمدٍ ثمَّ ضحَّى بهِ).
فيهِ دليل على أنهُ يستحبُّ إضجاعُ [الضحية من]
(3)
الغنمِ، ولا تذبحُ قائمةَ ولا بارِكةَ لأنهُ أرفقُ بها وعليهِ أجمعَ المسلمونَ. ويكونُ الإضجاعُ على جانِبها الأيسرِ لأنهُ أيسرُ للذابحِ في أخذِ السكينِ باليمنَى وإمساكِ رأسِها باليسارِ.
وفيهِ أنهُ يستحبُّ الدعاءُ بقَبولِ الأضحيةِ وغيرها منَ الأعمالِ، وقدْ قالَ الخليلُ والذبيحُ عليه السلام عند عمارةِ البيتِ:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}
(4)
.
وقدْ أخرجَ ابنُ ماجهْ
(5)
أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ عندَ التضحيةِ وتوجيهِهَا
(1)
أي لمسلم (1967).
قلت: وأخرجه أبو داود (2792)، وأحمد (6/ 78)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 267 و 286)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (5915).
(2)
زيادة من (ب).
(3)
زيادة من (أ).
(4)
سورة البقرة: الآية 127.
(5)
في "السنن"(3121). =
القبلةَ
(1)
؛ {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ - إلى - وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} اللهم تقبَّل من محمد وآله، ودلَّ قولُه:(وآلِ محمدٍ)[وفي (لفظٍ عنْ محمدٍ وآلِ محمدٍ)]
(2)
أنهُ تجزئُ التضحيةُ منَ الرجلِ عنه وعنْ أهلِ بيتِه ويشركهُم في ثوابها، ودل أنهُ يصحُّ نيابةُ المكلَّفِ عنْ غيرهِ في فعلِ الطاعاتِ وإنْ لم يكنْ منَ الغيرِ أمرٌ ولا وصيةٌ فيصحُّ أنْ يجعلَ ثوابَ عملِه لغيرِه من صلاةٍ كانتْ وغيرها، وقدْ تقَّدمَ ذلكَ في الجنائز، ويدل لهُ ما أخرجَهُ الدارقطنيُّ منْ حديثِ جابرٍ: أن رجلًا قالَ: يا رسولَ اللهِ، إنهُ كانَ لي أبوانِ أبرُّهما في حالِ حياتِهما فكيفَ لي ببرِّهما بعدَ موتِهما؟ فقالَ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ منَ البرِّ بعدَ البرِّ أنْ تصليَ لهما معَ صلاتِكَ، وأنْ تصومَ لهما معَ صيامِكَ"
(3)
.
ما حكم الأضحية
3/ 1268 - وَعَنْ أَبي هرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(4)
وَابْنُ مَاجَهْ
(5)
، وَصَححَهُ
= قلت: وأخرجه أبو داود (2795)، والدارمي (2/ 75 - 76)، وأحمد (3/ 275) من طريق أبي عياش عن جابر.
وأبو عياش هذا، هو المعافري ولم يوثقه أحد. وأشار الحافظ في "التقريب" إلى تليين حديثه.
ووقع في طريق ابن ماجه وحده أنه الزرقي، وهذا آخر، لكن السند بذلك ضعيف. لأن فيه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف غير روايته عن الشاميين وهذه منها.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف.
(1)
قال الشوكاني في "السيل الجرار"(4/ 69) عند قول صاحب الأزهار: "ونُدب الاستقبال". "أقول: ليس على هذا دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس، وما قيل من أن القول بندب الاستقبال في الذبح قياس على الأضحية فليس بصحيح لأنه لا دليل على الأصل حتى يصلح للقياس عليه، بل النزاع فيه كائن كما هو كائن في الفرع، والندب حكم من أحكام الشرع، فلا يجوز إثباته إلا بدليل تقوم به الحجة" اهـ.
وانظر: "الروضة الندية" لصدِّيق حسن خان (2/ 405) بتحقيقنا.
(2)
زيادة من (ب).
(3)
وهو حديث ضعيف، تكلَّمت عليه في تخريج أحاديث "حاشية ابن عابدين".
(4)
في "المسند"(2/ 321).
(5)
في "السنن"(2/ 1044 رقم 3123).
الْحَاكِمُ
(1)
، وَرَجَّحَ الأَئِمَّةُ غَيْرُهُ وَقْفَهُ. [حسن]
(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كانَ لهُ سعةٌ ولم يضحِّ فلا يقربنَّ مصلَّانا. رواة أحمدُ وابن ماجهْ وصحَّحَه الحاكمُ ورجَّحَ الأئمة غيرُه) أي غيرَ الحاكمِ (وقْفَه). وقدِ استُدِلَّ بهِ على وجوبِ التضحيةِ علَى مَنْ كانَ لهُ سعةٌ، لأنهُ لما نَهَى عنْ قربانِ المصلَّى دلَّ علَى أنهُ تركَ واجبًا، كأنهُ يقولُ لا فائدةَ في الصلاةِ معَ تركِ هذا الواجبِ، وبقوله تعالَى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
(2)
، وبحديث مِحْنَفِ بن سليمٍ مرفُوعًا:"على أهلِ كلِّ بيتٍ في كلّ عامٍ أضحيةٌ"
(3)
، دلَّ لفظُه على الوجوبِ. والوجوبُ قولُ أبي حنيفةَ فإنهُ أوجَبَها على المعدَمِ والموسِرِ، وقيلَ: لا تجبُ، والحديثُ الأولُ موقوفٌ فلا حجةَ فيهِ، والثاني ضُعِّفَ بأبي رملةَ، قالَ الخطابيُّ
(4)
: إنهُ مجهولٌ والآيةُ محتملةٌ، فقدْ فُسِّرَ قولُه:(وانحْر) بوضعِ الكفِّ على النحرِ في الصلاةِ، أخرجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ شاهينَ في سننهِ وابنُ مردويهْ والبيهقيُّ عن ابن عباسٍ
(5)
، وفيهِ رواياتٌ عن الصحابةِ مثلُ ذلكَ
(6)
، ولوْ سلمَ فهيَ دالةٌ على أن النحرَ بعدَ الصلاةِ، فهيَ تعيينٌ لوقتِه لا
(1)
في "المستدرك"(2/ 389) ووافقه الذهبي. قلت: ولكن عبد اللهِ بن عياش وهو القِتْباني فيه كلام من قبل حفظه. وقال الحافظ في "التقريب"(1/ 439): "صدوق يغلط، أخرج له مسلم في الشواهد".
وقال ابن حجر في "الفتح"(10/ 3): "رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره".
والخلاصة: أن الحديث حسن، وانظر كلام المحدث الألباني في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" رقم (102).
(2)
سورة الكوثر: الآية 2.
(3)
أخرجه أحمد (4/ 215)، وأبو داود (2788)، والنسائي (4224)، وابن ماجه (3125)، والترمذي (1518) وقال: حديث حسن غريب.
قلت: في إسناده أبو رملة واسمه عامر، قال ابن حجر في "التقريب" (1/ 390):"عامر أبو رملة، شيخ لابن عون، لا يعرف من الثالثة"، وقال الخطابي:"مجهول"، ومع هذا فقد حسَّنه المحدث الألباني في صحيح ابن ماجه (2533).
(4)
في "معالم السنن" (3/ 226 - هامش السنن".
(5)
عزاه إليهم السيوطي في "الدُّر المنثور"(8/ 650 - 651).
(6)
انظر: في "الدُّر المنثور"(8/ 650 - 652).
لوجوبِه، كأنهُ يقولُ إذا نحرتَ فبعدَ صلاةِ العيدِ، فإنهُ قدْ أخرجَ ابنُ جرير
(1)
عنْ أنسٍ: "كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ينحر قبلَ أنْ يصلي فأُمرَ أنْ يصلي ثمَّ ينحرَ".
ولضعفِ أدلةِ الوجوبِ ذهبَ الجمهورُ منَ الصحابةِ والتابعينَ والفقهاءِ إلى أنها سنةٌ مؤكدةٌ، بلْ قالَ ابنُ حزمٍ
(2)
: لا يصحَّ عنْ أحدٍ منَ الصحابةِ أنَّها واجبةٌ.
وقدْ أخرجَ مسلمٌ
(3)
وغيرُه منْ حديثِ أمِّ سلمةَ قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلتِ العشرُ فأرادَ أحدُكم أنْ يضحيَ فلا يأخذْ منْ شعرهِ ولا بَشَرهِ شيئًا"، قالَ الشافعيُّ
(4)
: إنَّ قولَه: (فأرادَ أحدُكم) يدل على عدم الوجوبِ، ولما أخرجَهُ البيهقيُّ
(5)
منْ حديثِ عبدِ اللهِ بن عمرو: "أن رجلَّا أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أمرتُ بيومِ الأضحَى عيدًا جعلَه الله تعالى لهذِه الأمةِ، فقالَ: الرجلُ: فإنْ لم أجدْ إلَّا منيحة أنثَى أو شاة أهلي ومنيحتهم أذبُحها؟ قالَ: لا - الحديثَ"، وبما أخرجَه البيهقيُّ
(6)
منْ حديثِ ابن عباسٍ أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم: "ثلاثُ هنَّ عليَّ فرْضٌ ولكمْ تطوعٌ، وعدَّ منْها الضحيةَ".
(1)
في "جامع البيان"(15/ ج 30/ 326).
(2)
في "المحلى"(7/ 358). ثم قال: "وصحَّ أن الأضحية ليست واجبة عن سعيد بن المسيب، والشعبي وأنه قال: لأن أتصدق بثلاثة دراهم أحبَّ إليَّ من أن أضحي، وعن سعيد بن جبير، وعن عطاء، وعن الحسن، وعن طاوس، وعن أبي الشعثاء جابر بن زيد، وروى أيضًا عن علقمة، ومحمد بن علي بن الحسين، وهو قول سفيان، وعبيد اللهِ بن الحسن، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي سليمان: وهذا مما خالف فيه الحنفيون جمهور العلماء".
(3)
في "صحيحه"(41/ 1977).
(4)
انظر: "المجموع" للنووي (8/ 391 - 392).
(5)
في "السنن الكبرى"(9/ 263 - 264).
قلت: وأخرجه أبو داود (3/ 227 رقم 2789)، والنسائي (7/ 212 رقم 4365) وفي إسناده عيسى بن هلال الصدفي، ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(3/ 1/ 290) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. وهذا المسكوت عنه يعتبر مجهولًا. وإن ذكره ابن حبان في "الثقات" لأنه يوثق المجاهيل.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف، واللَّهُ أعلم.
(6)
في "السنن الكبرى"(9/ 264). قال ابن التركماني في "الجوهر النقي": "في سنده أبو خباب يحيى بن أبي يحيى الكلبي سكت عنه البيهقي هنا، وضعفه فيما مضى - في باب: =
وأخرجَهُ أيضًا
(1)
منْ طريقٍ أخرى بلفظِ: "كُتِبَ عليَّ النحرُ ولم يُكْتَبْ عليكمْ"، وبما أخرجَه أيضًا
(2)
منْ أنهُ صلى الله عليه وسلم لما ضحَّى قالَ: "بسمِ اللهِ واللَّهُ أكبرُ، اللهمَّ عنِّي وعمنْ لم يضحِّ منْ أمتي".
وأفعالُ الصحابة دالةٌ على عدمِ الإيجابِ، فأخرجَ البيهقيُّ
(3)
عنْ أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما أنَّهما كانا لا يضحيان خشية أن يُقتدى بهما، وأخرج
(4)
عن ابن عباس أنه كان إذا حضرَ الأضحَى أعطَى مولًى لهُ درهمينِ فقالَ: اشترِ بهما لحمًا وأخبرْ الناسَ أنهُ ضحَّى ابنُ عباسٍ، ورُوِيَ أن بلالًا ضحَّى بديك، ومثلُهُ رُوِيَ عنْ أبي هريرةَ، والرواياتُ عن الصحابةِ في هذا المعنَى كثيرةٌ دالةٌ على أنَّها سُنَّةٌ.
وقت الأضحية
4/ 1269 - وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ الأَضْحى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَالَ:"مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، ومَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
. [صحيح]
= لا فرض أكثر من الخمس - وفي كتاب الضعفاء لابن الجوزي: كان يحيى القطان يقول: لا أستحل أن أروي عنه. وقال عمرو بن علي متروك الحديث،
…
".
(1)
في "السنن الكبرى"(9/ 264).
(2)
في "السنن الكبرى"(9/ 264) قال ابن التركماني في "الجوهر النقي": "فيه أشياء أحدها: أن المطلب لم يسمع من جابر كذا قال أبو حاتم. وذكر الترمذي هذا الحديث ثم قال: غريب. ويقال أن المطلب لم يسمِع من جابر، وفي موضع آخر من كتاب الترمذي قال محمد: لا أعرف للمطلب سماعًا من أحد من الصحابة
…
قال محمد بن سعيد: لا يحتج بحديث المطلب لأنه يرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وليس له لقاء. الثاني: أن مولى المطلب قال فيه ابن معين: ليس بالقوي وليس بحجة. الثالث: إن هذا الحديث متروك عند الشافعية
…
" اهـ.
(3)
و
(4)
في "السنن الكبرى"(9/ 265)، وإسناد (3) صحيح.
(5)
البخاري (985)، ومسلم (1/ 1960).
قلت: وأخرجه النسائي (4368)، وابن ماجه (3152).
(وعنْ جندبِ بن سفيانَ)
(1)
هوَ أبو عبدِ اللهِ جندبُ بنُ سفيانَ البجلي العلقي الأحمسيِّ، كانَ بالكوفةِ ثمَّ انتقلَ إلى البصرةِ، ثمَّ خرجَ منْها، وماتَ في فتنةِ ابن الزبيرِ بعدَ أربعِ سنينَ (قالَ: شهدت الأضْحَى معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلما قضَى صلاتَهُ بالناسِ نظرَ إلى غنمٍ قدْ ذبحتْ فقالَ: مَنْ ذبحَ قبلَ الصلاةِ فليذبحْ شاةً مكانَها، ومَنْ لم يكنْ ذبحَ فليذبحْ على اسمِ اللهِ. متفقٌ عليه).
فيهِ دليلٌ على أن وقتَ التضحيةِ منْ بعدِ صلاةِ العيدِ فلا تجزئُ قبلَه، والمرادُ صلاةُ المصلِّي نفسه، ويحتملُ أنْ يرادَ صلاةُ الإمامِ، وأنَّ اللامَ للعهدِ في قولِه الصلاةِ يرادُ بهِ المذكورةَ قبلَها وهي صلاتُه صلى الله عليه وسلم، وإليهِ ذهبَ مالكٌ فقالَ: لا يجوزُ قبلَ صلاةِ الإمامِ وخطبتِه وذبحِهِ.
ودليلُ اعتبارِ ذبحِ الإمامِ ما رواهُ الطحاويُّ
(2)
منْ حديثِ جابرٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم "صلَّى يومَ النحرِ بالمدينةِ فتقدَّمَ رجالٌ [ونحروا]
(3)
وظنُّوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد نحرَ، فأمرهُم أن يعيدُوا".
وأجيبَ بأنَّ المرادَ زجُرُهم عن التعجيلِ الذي يؤدي إلى فعلِها قبلَ الوقتِ، ولذَا لم يأتِ في الأحاديثِ إلا تقييدُها بالصلاة. وقالَ أحمدُ مثلَ قولِ مالكٍ ولم يشترطْ ذبحَه، ونحوُهُ عن الحسنِ والأوزاعيِّ وإسحقَ بن راهويةْ، وقالَ الشافعيُّ وداودُ: وقتُها إذا طلعتِ الشمسُ ومضَى قدْرُ صلاةِ العيدِ وخطبتينِ وإنْ لم يصلِّ الإمامُ ولا المضحِّي، قالَ القرطبيُّ: ظواهرُ الحديثِ تدلُّ على تعليقِ الذبحِ بالصلاةِ، لكنْ لما رأَى الشافعيُّ أن مَنْ لا صلاةَ عليهِ مخاطبٌ بالتضحيةِ حملَ الصلاةَ على وقتِها.
وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: هذا اللفظُ أظهرُ في اعتبارِ الصلاةِ، وهوَ قولُه في روايةٍ:(مَنْ ذبحَ قبلَ أنْ يصلِّيَ فليذبحْ مكانَها أُخْرَى) قالَ: لكنْ إنْ أجريْنَاهُ على ظاهرهِ اقتضَى أنَّها لا تجزئُ [الأضحيةُ]
(4)
في حقِّ مَنْ لمْ يصلِّ العيدَ، فإنْ ذهبَ
(1)
انظر ترجمته في: "الوافي بالوفيات"(11/ 931)، و "سير أعلام النبلاء"(3/ 174)، "الإصابة" رقم (1226)، و "الاستيعاب" رقم (344)، و "أسد الغابة" رقم (804).
(2)
في "شرح معاني الآثار"(4/ 171).
(3)
في (ب): "فنحروا".
(4)
في (أ): "التضحية".
إليهِ أحدٌ فهوَ أسعدُ الناسِ بظاهرِ [هذا]
(1)
الحديثِ وإلَّا وجبَ الخروجُ عنْ هذَا الظاهرِ في هذهِ الصورةِ ويبقَى ما عداهَا في محلِّ البحثِ.
وقدْ أخرجَ الطحاويُّ
(2)
من حديثِ جابرٍ: "أن رجلًا ذبحَ قبلَ أنْ يصلِّي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنَهى أنْ يذبحَ أحدٌ قبلَ الصلاةِ"، صحَّحَهُ ابنُ حبَّانَ
(3)
، وقدْ عرفتَ الأقْوى دليلًا منْ هذهِ الأقوالِ، وهذا الكلامُ في ابتداءِ وقتِ التضحيةِ.
آخر وقت الأضحية
وأما انتهاؤُه فأقوالٌ: [فعندَ]
(4)
الهادويةِ العاشرُ [من يوم الحجة]
(5)
ويومانِ بعدَه وبهِ قالَ مالكٌ وأحمدُ، وعندَ الشافعيِّ أن أيامَ الأضْحَى أربعةٌ: يومُ النحرِ وثلاثةٌ بعدَه. وعندَ داودَ وجماعةٍ منَ التابعينَ يومَ النحرِ فقطْ إلَّا في مِنًى فيجوزُ في الثلاثةِ الأيامِ، وعندَ جماعةٍ أنهُ إلى آخرِ يومٍ منْ شهرِ الحجَّةِ، قالَ في "نهايةِ المجتهدِ"
(6)
: سببُ [اختلافِهم]
(7)
شيئانِ: أحدُهما الاختلافُ في الأيامِ المعلوماتِ ما هيَ في قولِه تعالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}
(8)
الآية، فقيلَ يومُ النحرِ ويومانِ بعدَه وهوَ المشهورُ، وقيلَ: العشرُ الأُوَلُ منْ ذي الحجَّةِ.
والسببُ الثاني معارضةُ دليلِ الخطابِ في هذه الآيةِ بحديثِ جبيرِ بن مطعمٍ
(9)
مرفُوعًا أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "كلُّ فِجَاجِ مكةَ منحَرٌ وكلُّ أيامِ التشريقِ ذَبْحٌ"، فمن
(1)
زيادة من (ب).
(2)
في "شرح معاني الآثار"(4/ 172).
(3)
في "صحيحه"(13/ 230 رقم 5909).
قلت: وأخرجه أبو يعلى رقم (1779)، وأحمد (3/ 364). وهو حديث صحيح.
وأورده الهيثمي في "المجمع"(4/ 24) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى: ورجالهما رجال الصحيح.
(4)
في (أ): "عند".
(5)
زيادة من (أ).
(6)
(2/ 447 - 448) بتحقيقنا.
(7)
في (أ): "الخلاف".
(8)
سورة الحج: الآية 28.
(9)
وهو حديث حسن.
أخرجه أحمد (4/ 82)، والبزار (2/ 27 رقم 1126 - كشف)، وابن حبان رقم (1008 - موارد)، والطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (3/ 251). وقال الهيثمي:"رواه أحمد والبزار والطبراني في "الكبير" ورجاله موثقون".
وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 239).
قالَ في الأيامِ المعلوماتِ إنَّها يومُ النحرِ ويومانِ بعدَه في هذهِ الآيةِ رجَّحَ دليلَ الخطابِ فيها على الحديثِ المذكورِ وقالَ: لا نحرَ إلا في هذه الأيامِ، ومنْ رأَى الجمعَ بينَ الحديث والآيةِ قالَ: لا معارضةَ بينَهما إذ الحديثُ اقتضَى حكْمًا زائدًا على ما في الآيةِ معَ أن الآيةَ ليسَ المقصودُ فيها تحديدَ أيامِ النحرِ، والحديثُ المقصودُ منهُ [التحديد]
(1)
قالَ بجواز الذبحِ في اليومِ الرابعِ إذا كانَ منْ أيامِ التشريقِ باتفاقٍ، ولا خلافِ بينَهم أن [الأيامَ]
(2)
المعدوداتِ هي أيامُ التشريقِ وأنَّها ثلاثةُ أيامٍ بعدَ يومِ النحرِ إلَّا ما يُرْوَى عنْ سعيدِ بن جبيرٍ أنهُ قالَ: يومُ النحرِ من أيام التشريقِ. وإنَّما اختلفُوا في الأيامِ المعلوماتِ على القولينِ.
وأما مَنْ قالَ يومُ النحرِ فقطْ فبناهُ على أن المعلوماتِ العشرُ الأُوَلُ، قالُوا: وإذا كانَ الإجماعُ قدِ انعقدَ على أنهُ لا يجوزُ الذبحُ هنا إلا في اليومِ العاشرِ وهي محلُّ الذبحِ المنصوصِ عليهِ فوجبَ أنْ لا يكونَ إلا يومُ النحرِ فقطْ، انتَهى.
فائدةٌ: في "النهاية"
(3)
أيضًا ذهبَ مالكٌ في المشهورِ عنهُ إلى أنهُ لا يجوزُ التضحيةُ ليالي أيامِ النحرِ، وذهبَ غيرُه إلى جوازِ ذلكَ. وسببُ الاختلافِ هوَ أن اليومَ يطلقُ على اليومِ والليلةِ نحوَ قولِه تعالى:{فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ}
(4)
، ويطلقُ على النهارِ فقط دونَ الليلِ نحوَ:{سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ}
(5)
، فعطفَ الأيامَ علَى اللَّيالي والعطفُ يقتضي المغايرةَ، [ولكنْ]
(6)
بقيَ النظرُ في أيُّهما أظهرُ، والمحتجُّ بالمغايرةِ في أنهُ لا يصحُّ بالليلِ عملٌ بمفهومِ اللقبِ ولم يقلْ بهِ إلَّا الدقَّاقُ، إلا أنْ يقالَ دلَّ الدليلُ أنهُ يجوزُ في النهارِ والأصلُ في الذبحِ الحظْرُ فيبقى الليلُ على الحظْرِ والدليلُ على مجوزه في الليلِ اهـ.
قلتُ: لا حظْرَ في الذبحِ، بلْ قدْ أباحَ اللهُ ذبحَ الحيوان في أيِّ وقتٍ، وإنما كان الحظْرُ عقلًا قبلَ إباحةِ اللهِ تعالَى [ذلك]
(7)
.
(1)
في (ب): "ذلك".
(2)
زيادة من (ب).
(3)
أي "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(2/ 448).
(4)
سورة هود: الآية 65.
(5)
سورة الحاقة: الآية 7.
(6)
زيادة من (ب).
(7)
زيادة من (ب).
عيوب الأضحية
5/ 1270 - وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ في الضَّحَايَا: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضَلْعُهَا، وَالْكسير الَّتي لَا تُنْقِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(1)
وَالأَرْبَعَةُ
(2)
، وَصَححَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبّانَ
(3)
. [صحيح]
(وعنِ البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنه قالَ: قامَ فينا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: أربعٌ لا تجوزُ في الضَّحَايا: العوراءُ البيِّن عورُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعرجاءُ البيِّنُ ضلْعُها، والكسير التي لا تُنْقي) بضمِّ المثناةِ الفوقيةِ وإسكانِ النونِ وكسرِ القافِ، أي التي لا نِقْيَ لها، بكسرِ النونِ وإسكانِ القاف، وهوَ المخُّ.
(رواهُ أحمدُ والأربعةُ وصحَّحَهُ الترمذيُّ وابن حِبَّانَ) وصحَّحَهُ الحاكمُ
(4)
وقالَ: علَى شرطِهِمَا، وصوَّبَ كلامَهُ المصنفُ وقالَ: لم يخرجْه البخاريُّ ومسلمٌ
(1)
في "المسند"(4/ 284 و 289، 300 - 301).
(2)
أبو داود (3/ 235 رقم 2802)، والترمذي (4/ 85 رقم 1497)، والنسائي (7/ 214 - 215)، وابن ماجه (2/ 1050 رقم 3144).
(3)
رقم (1046 - موارد).
قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 76 - 77)، والطيالسي (1/ 230 رقم 2010 - منحة المعبود)، وابن خزيمة (4/ 292 رقم 2912)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 168)، والحاكم (1/ 467 - 468)، والبيهقي (5/ 242) و (9/ 274) من طريق شعبة عن سليمان بن عبد الرحمن، عن عبيد بن فيروز عن البراء به.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: حديث صحيح ولم يخرجاه، لقلة روايات سليمان بن عبد الرحمن، وقد أظهر عليٌّ بن المديني فضائله، وإتقانه، ووافقه الذهبي.
قلت: سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى ثقة، كما قال ابن معين، وأبو حاتم،
والنسائي، والعجلي. وقال ابن المديني في "العلل": لم يسمع من عبيد بن فيروز.
قلت: وقد صرَّح سليمان بسماعه من عبيد في رواية شعبة.
ولذلك قال أحمد: ما أحسن حديثه في الضحايا. [انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر (4/ 182 - 183 رقم 355)].
(4)
في "المستدرك"(1/ 467 - 467).
في صحيحَيْهِما ولكنَّه صحيحٌ أخرجَهُ أصحابُ السننِ بأسانيدَ صحيحةٍ، وحسَّنهُ أحمدُ بنُ حنبلٍ
(1)
فقالَ: ما أحسنَه منْ حديثٍ، وقالَ الترمذيُّ: حسن صحيحٌ.
والحديثُ دليلٌ على أن هذهِ الأربعةَ العيوب مانعةٌ منْ صِحَّةِ التضحيةِ وسكتَ عنْ غيرِهَا منَ العيوب، فذهبَ أهلُ الظاهرِ
(2)
إلى أنهُ لا عيبَ [غيرُ هذهِ الأربعةِ]
(3)
وذهب الجمهورُ إلى أنهُ يقاسُ عليها غيرُها مما كانَ أشدَّ منْها أوْ مساويًا لها كالعمياءِ ومقطوعةِ الساقِ.
وقولُه: (البيِّنُ عووُها) قالَ في "البحرِ"
(4)
: إنهُ يُعْفَى عما كانَ الذاهبُ الثلثَ فما دونَ وكذا في العرج. قالَ الشافعيُّ: العرجاءُ إذا تأخرتْ عن الغنمِ [لأجلِ العرج]
(5)
فهوَ بيِّنٌ. وقولُه: (ضلعُها) أي اعوجاجُها.
يستحب في الأضحية المسنَّة
6/ 1271 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إِلا مُسِنَّة، إِلا إنْ تَعَسَّرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنْ الضَّأنِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(6)
. [ضعيف]
(وعنِ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا تذبحُوا إلا مسنةً إلَّا إنْ تعسَّر عليكمْ فتذبحُوا جذعةً منَ الضأْنِ. رواه مسلمٌ).
المسنَّةُ الثنيةُ منْ كلِّ شيءٍ منَ الإبلِ والبقرِ والغنمِ فما فوقَها كما قدَّمْنَا.
(1)
انظر: "تهذيب التهذيب"(4/ 182 - 183 رقم 355).
(2)
انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 358 - 360 رقم المسألة 974).
(3)
في (أ): "غيرها".
(4)
(4/ 312 و 313).
(5)
في (ب): "لأجله".
(6)
في "صحيحه"(13/ 1963).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2797)، والنسائي (7/ 218)، وابن ماجه رقم (3141)، وأحمد (3/ 312، 327)، والبيهقي (9/ 269)، وابن الجارود رقم (904)، وابن خزيمة (4/ 294 - 295)، وأبو يعلى في "المسند"(4/ 210 رقم 2324)، والبغوي في "شرح السنة"(4/ 330) من طريق زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر.
قلت: وفيه عنعنة أبي الزبير، وبها ضعفه المحدث الألباني في بحث له حول هذا الحديث في "الضعيفة"(1/ 91 - 95)، فارجع إليه فإنه مفيد.
والحديثُ دليلٌ على أنهُ لا يجزئُ الجذعُ منَ الضأنِ في حالٍ منَ الأحوالِ إلَّا عندَ تعسُّرِ المسنَّةِ، وقدْ نقلَ [القاضي]
(1)
عياضٌ الإجماعَ على ذلكَ، ولكنَّه غيرُ صحيحٍ لما يأتي، وحُكِيَ عن ابن عمرَ والزُّهْريِّ أنهُ لا يجزئُ ولو معَ التعسُّرِ.
وذهبَ كثيرونَ إلى إجزاءِ الجذعِ منَ الضأنِ مطلقًا، وحملُوا الحديثَ علَى الاستحباب بقرينةِ حديثِ أمِّ بلالٍ أنهُ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ضحُّوا بالجذع منَ الضأنِ"، أَخرجَهُ أحمدُ
(2)
وابنُ جريرٍ
(3)
والبيهقيُّ
(4)
، وأشارَ الترمذيُّ
(5)
إلى حديثِ: "نعمتِ الأضحيةُ الجذْعُ منَ الضأنِ"، ورَوَى ابنُ وهبٍ عنْ عقبةَ بن عامرٍ
(6)
بلفظٍ: "ضحَّينا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالجذعِ منَ الضأنِ".
(1)
زيادة من (ب).
(2)
في "المسند"(6/ 338).
(3)
لم أعثر عليه عند ابن جرير.
(4)
في "السنن الكبرى"(9/ 271).
قلت: وأخرجه ابن ماجه (3139)، وابن حزم في "المحلَّى" (5/ 364) قال ابن حزم (5/ 365):"أما حديث أم بلال فهو عن أم محمد بن أبي يحيى ولا ندري من هي عن أم بلال وهي مجهولة، ولا ندري لها صحبة أم لا"، ووافقه الألباني في "الضعيفة"(1/ 89).
والخلاصة: أن الحديث ضعيف
…
(5)
في "السنن"(4/ 87 رقم 1499) وقال: حديث حسن غريب.
قلت: وأخرجه البيهقي (9/ 271)، وأحمد (2/ 444 - 445)، وابن حزم في "المحلَّى"(5/ 364)، وقال ابن حزم في "المحلَّى" (5/ 365): "وطريق أبي هريرة الأولى أسقطها كلها وفضيحة الدهر لأنه عن عثمان بن واقد، وهو مجهول، عن كدام بن عبد الرحمن، ولا ندري من هو؟ وهنا جاء ما جاء أبو كباش وما أدراك ما أبو كباش ما شاء الله كان
…
" اهـ.
وقال الألباني في "الضعيفة"(1/ 87) موضحًا ومعقبًا على كلام ابن حزم: "كأنه يتهم أبا كباش بهذا الحديث، وهو مجهول مثل الراوي عنه كدام. وقد صرَّح بذلك الحافظ في "التقريب". وللحديث علة أخرى وهي الوقف، فقال البيهقي عقبه: "وبلغني عن أبي عيسى الترمذي قال: قال البخاري: رواه غير عثمان بن واقد عن أبي هريرة موقوفًا".
والخلاصة: أن الحديث ضعيف.
(6)
أخرجه النسائي (4382)، والبيهقي (9/ 270) من طريق بكير بن الأشج عن معاذ بن عبد اللهِ بن حبيب عنه.
قال الألباني في "الضعيفة"(1/ 89): وهذا إسناد جيد رجاله ثقات، وإعلال ابن حزم - في "المحلى" (7/ 364) - له بقوله:"ابن خبيب هذا مجهول"، غير مقبول، فإن معاذًا =
قلتُ: ويحتملُ أن ذلكَ كلَّه عندَ تعسُّرِ المسنَّة.
7/ 1272 - وَعَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُذُنَ، وَلَا نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا خَرْقَاءَ، وَلَا ثَرْمَاءَ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
(1)
وَالأَرْبَعَةُ
(2)
، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
(3)
وَالْحَاكِمُ
(4)
. [حسن]
(وعنْ عليٍّ رضي الله عنه قالَ: أَمَرَنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ نستشرفَ العينَ والأذنَ) أي نشرفُ عليهما ونتأملهما لئلَّا يقعَ نقصٌ وعيبٌ (ولا نضحِّي بعوراءَ ولا مقابَلةٍ) بفتحِ الموحدةِ، ما قُطِعَ منْ طرفِ أذُنِها شيءٌ ثمَّ بقي معلَّقًا، (ولا مدابَرةٍ) والمدابرةُ بالدالِ المهملةِ وفتحِ الموحدةِ ما قُطِعَ منْ مؤخَّرِ أذنها شيءٌ وتُرِكَ معلَّقًا، (ولا خرقاءَ) بالخاءِ المعجمةِ مفتوحةً والراءُ ساكنةٌ، المشقوقةُ الأذنينِ، (ولا ثَرْمَى) بالمثلثةِ فراءٍ وميمٍ وألفٍ مقصورةٍ
(5)
هي منَ الثَرمِ وهوَ سقوطُ الثنيةِ منَ الأسنانِ، وقيلَ: الثنيةُ والرَّباعيةُ، وقيلَ: هوَ أنْ تنقطعَ السنُّ منْ أصْلِها مطلقًا. وإنَّما نهَى عنْها لنقصانِ أَكْلِها قالَه في "النهاية"
(6)
، ووقعَ في نسخةِ الشرحِ شرقاء بالشين المعجمة والراء والقاف وعليها شرح الشارح، ولكن الذي في نسخ "بلوغِ المرامِ" الصحيحةِ الثرمَى كما ذكرنَاهُ.
(أخرجه أحمدُ والأربعةُ وصحَّحة الترمذيُّ وابن حبانَ والحاكمُ).
فيهِ دليلٌ على أنَّها تجزئُ الأضحيةُ بما ذكرَ وهوَ مذهبُ الهادويةِ، وقالَ
= هذا وثقه ابن معين وأبو داود وابن حبان، وقال الدارقطني:"ليس بذاك"، ولهذا قال الحافظ في "الفتح" بعد أن عزاه للنسائي:"سنده قوي".
والخلاصة: أن الحديث حسن، واللهُ أعلم.
(1)
في "المسند"(80، 108، 128، 149).
(2)
أبو داود (3/ 237) رقم (2804)، والنسائي (7/ 217 رقم 4374)، والترمذي (1498)، وابن ماجه (2/ 1050 رقم 3142).
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3)
في صحيحه (13/ 242 رقم 5920).
(4)
في "المستدرك"(4/ 224)، ووافقه الذهبي.
قلت: وأخرجه البيهقي (9/ 275)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 169)، وهو حديث حسن.
(5)
وتأتي بألف ممدودة بعدها همزة كما في حديث الباب.
(6)
(1/ 210).
الإمامُ يحيى: تجزئُ وتكرهُ، وقوَّاهُ المهدي
(1)
، وظاهرُ الحديثِ معَ الأولِ.
ووردَ النَّهيُ عن التضحيةِ بالمُصْفَرةِ بضمِّ الميم وإسكانِ الصادِ المهملةِ ففاءٍ مفتوحةٍ فراءٍ، أخرجَهُ أبو داودَ
(2)
والحاكمُ
(3)
، وهيَ المهزولةُ كما في "النهايةِ"
(4)
، وفي روايةٍ: المصفورةِ، وقيلَ: المستأصلَةُ الأذنِ.
وأخرجَ أبو داودَ
(5)
منْ حديثِ عقبةَ بن عامرٍ السُّلَميِّ أنهُ قالَ: "إنَّما نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن المصفَرةِ والمستأصَلَةِ والبخقَاء والمُشيَّعَةِ والكسراءِ". فالمصفرةُ: هي التي تُستأصلُ أذنُها حتَّى يبدُو صماخُها، والمستأصَلَةُ: هي التي استؤْصِلَ قَرْنُها من أصْلِهِ، والبخقاء: التي تبخق عينُها
(6)
، والمشيَّعةُ: هي التي لا تتبعُ الغنمَ عجْفًا أو ضعفًا، والكسراءُ: الكسيرةُ. هذَا لفظُ أبي داودَ.
وأما مقطوعُ الأَلْية والذنَب [فإنها تجزئُ]
(7)
لما أخرَجهُ أحمدُ
(8)
وابنُ ماجهْ
(9)
والبيهقيُّ
(10)
منْ حديثِ أَبي سعيدٍ قالَ: "اشتريتُ كبشًا لأضحِّيَ بهِ فعدَا الذئبُ فأخذَ منهُ الأليةَ، فسألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: ضحِّ بهِ"، وفيهِ جابرُ الجعفيُّ
(11)
(1)
في "البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار"(4/ 314).
(2)
في "السنن"(3/ 236 رقم 2803).
(3)
في "المستدرك"(4/ 225) وقال: صحيح الإسناد. وسكت عليه الذهبي.
قلت: وأخرجه أحمد (13/ 78 رقم 68 - الفتح الرباني) والبخاري في "التاريخ الكبير"(8/ 330 - 331 رقم 3205) كلهم من حديث يزيد ذو مصر.
قلت: ويزيد هذا لم يوثقه إلا ابن حبان، وفيه أبو حميد الرعيني مجهول.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف.
(4)
(3/ 36).
(5)
في "السنن"(3/ 236 رقم 2803) من حديث يزيد ذو مصر.
وفي إسناده أبو حميد الرعيني، وهو مجهول، ويزيد ذو مصر لم يوثقه غير ابن حبان.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف.
(6)
قال في "القاموس": البخق محركة أقبح العور، وأكثره غمصًا، أو أن لا يلتقي شفر.
(7)
في (ب): "فإنه لا يجزئُ".
(8)
في "المسند"(3/ 78).
(9)
في "السنن"(2/ 1051 رقم 3146).
(10)
في "السنن الكبرى"(9/ 289).
(11)
قال عنه النسائي: متروك، وقال البخاري: اتهم بالكذب. انظر: "التاريخ الكبير"(2/ 210)، و "المجروحين"(1/ 208)، و "الجرح والتعديل"(2/ 497)، و "الميزان"(2/ 379).
وهو حديث ضعيف.
وشيخُه محمدُ بنُ قرطةَ مجهولٌ، إلَّا أن لهُ شاهدًا عندَ البيهقيِّ
(1)
، واستدلَّ بهِ ابنُ تيميةَ في "المنتقى"
(2)
على أن العيبَ الحادثَ بعدَ تعيينِ الأضحيةِ لا يضرُّ، وذهبتِ الهادويةُ إلى عدمِ إجزاءِ مسلوبِ الأليةِ والذنب.
وفي "نهاية المجتهدِ"
(3)
أنهُ وردَ في هذا البابِ منَ الأحاديثِ الحسانِ حديثانِ متعارضَانِ، فذكرَ النسائيُّ عنْ أبي بردةَ
(4)
أنهُ قالَ: "يا رسولَ اللهِ أكرهُ النقصَ يكونُ في القرنِ والأذنِ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما كرهتَه فدعْهُ ولا تحرِّمْهُ على غيرِكَ"، ثمَّ ذكرَ حديثَ عليٍّ
(5)
رضي الله عنه: "أمرنا رسولُ اللهِ أن نستشرفَ العينَ الحديثَ"، فمنْ رجَّحَ حديثَ أبي بُردةَ (4) قالَ: لا تُتَّقَى إلَّا العيوبُ الأربعةُ وما هوَ أشدُّ منْها، ومَنْ جَمَعَ بينَ الحديثينِ حملَ حديثِ أبي بردةَ (4) على العيبِ اليسيرِ الذي هوَ غيرُ بيِّن، وحديثُ عليٍّ على البيِّنِ الكثير.
(1)
في "السنن الكبرى"(9/ 289).
(2)
(2/ 303).
(3)
"بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(2/ 437 - 438) بتحقيقنا.
(4)
قلت: هذا غلط فاحش، فليس الحديث لأبي بردة، بل هو للبراء بن عازب كما تقدم تخريجه رقم (5/ 1269) من كتابنا هذا.
وكذلك ليس فيه، قلت: يا رسول اللهِ، بل فيه فقط: قلت، وواضح أن قائل "قلت": هو عبيد بن فيروز، والمجيب بقوله: ما كرهته فدعه، هو البراء بن عازب لا النبي صلى الله عليه وسلم.
(5)
أخرجه أبو داود (2804)، والنسائي (7/ 216، 217)، والترمذي (1498)، وابن ماجه (2/ 1050 رقم 3142)، والدارمي (2/ 77)، وأحمد (1/ 80، 108، 128، 149)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 169)، والحاكم (4/ 224)، والبيهقي (9/ 275) من طرق عن أبي إسحاق، عن شريح عن علي قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
• وروى الحاكم من طريق قيس بن الربيع قال: قلت لأبي إسحاق: سمعته من شريح، قال: حدثني ابن أشوع عنه.
قلت: وقيس بن الربيع وإن كان في حفظه مقال، فيستأنس بروايته هذه، لا سيما وأبو إسحاق السبيعي مدلس معروف، فيكون شيخه فيه هو ابن أشوع وهو ثقة لا بأس به.
• وله طريق أخرى عن علي:
أخرجه النسائي (7/ 217)، والترمذي (4/ 90 رقم 1503)، وابن ما جه (2/ 1050 رقم 3143)، والدارمي (2/ 77)، وأحمد (1/ 105، 125، 152)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 169 - 170)، والحاكم (4/ 225) من طريق سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي قال: سمعت عليًا يقول: "أمرنا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن". =
فائدةٌ: أجمعَ العلماءُ على جوازِ التضحيةِ منْ جميعِ بهيمةِ الأنعام، وإنَّما اختلفُوا في الأفضلِ. والظاهرُ أن الغنَم في التضحية أفضلُ لفعلِه
(1)
صلى الله عليه وسلم وَأمْرِهِ
(2)
، وإنْ كانَ يحتملُ أن ذلكَ لأنَّها المتيسرةُ لهمْ، ثمَّ الإجماعُ أنهُ لا يجوزُ التضحيةُ بغيرِ بهيمةِ الأنعامِ
(3)
إلَّا ما حُكِيَ عن الحسنِ بن صالحِ [أنَّها تجوزُ]
(4)
التضحيةُ ببقرةِ الوحشِ عنْ عشرةٍ، والظبي عنْ واحدٍ
(5)
، وما رُوِيَ عنْ أسماءَ أنَّها قالتْ: ضحَّينا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالخيلِ، وما رُوِيَ عنْ أبي هريرةَ أنهُ ضحَّى بديكٍ.
لا يعطي الجزار من الأضحية
8/ 1273 - وَعَنْ عَليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
= قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يحتجا بحجية بن عدي، وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ووافقه الذهبي.
قلت: وسنده صالح في المتابعات، وحجية بن عدي، يروي عن علي، روى عنه سلمة بن كهل، وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 192)، ووثقه العجلي رقم (261).
والخلاصة: أن الحديث حسن، واللهُ أعلم.
(1)
كما في الحديث رقم (1/ 1265) من كتابنا هذا.
(2)
يشير المؤلف رحمه الله إلى الحديث الضعيف الذي أخرجه أبو داود (3/ 509 رقم 3156)، والحاكم (4/ 228)، والبيهقي (9/ 273). من حديث عبادة بن الصامت. بلفظ:"خيرُ الأضحية الكبش الأقرنُ".
• ومعلوم أن الحديث الضعيف لا تثبت بها الأحكام ولا فضائل الأعمال.
(3)
اتفق العلماء على أن الأضحية لا تصح إلا من نعم: إبل وبقر (ومنها الجاموس)، وغنم (ومنها المعز) بسائر أنواعها، فيشمل الذكر والأنثى، والخصي والفحل، فلا يجزئ غير النعم من بقر الوحش وغيره، والظباء وغيرها، لقوله تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التضحية بغيرها، ولأن التضحية عبادة تتعلق بالحيوان فتختص بالنَّعَم كالزكاة.
[انظر: "البدائع" (5/ 69)، و "بداية المجتهد" (2/ 435)، و "مغني المحتاج" (4/ 284)، و "المغني" (8/ 619)].
(4)
في (أ): "إنه يجوز".
(5)
ذكر ذلك ابن رشد الحفيد في "بداية المجتهد"(2/ 435) بتحقيقي.
أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَن أُقَسِّمَ لُحُومَها وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَا أُعْطِيَ في جُزَارَتِهَا
(1)
مِنْهَا شَيْئًا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
. [صحيح]
(وعنْ عليٍّ كرم اللهُ وجهه قالَ: أمرني رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ أقومَ على بدنهِ وأنْ أقسمَ لحومَها وجلودَها وجلَالَها على المساكينِ ولا أعطي في جزارتِها منها شيئًا. متفقٌ عليه). هذا في بُدْنهِ صلى الله عليه وسلم التي ساقَها في حجَّةِ الوداعِ وكانتْ معَ التي أَتَى بها عليٌّ رضي الله عنه منَ اليمنِ مائةُ بدنةٍ نحرَها صلى الله عليه وسلم يومَ النحرِ بمنَى، نحرَ بيدِهِ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستينَ ونحرَ بقيتَها عليٌّ رضي الله عنه، وقدْ تقدَّم في كتابِ الحجِّ.
والبدنُ تُطْلَقُ لغةً على الإبلِ والبقرِ والغنمِ إلا أنَّها [ها هنا]
(3)
للإبلِ، وهكذَا استعمالُها في الأحاديثِ وفي كُتُبِ الفقهِ في الإبلِ خاصةً.
ودلَّ على أنهُ يتصدَّقُ بالجلودِ والجلالِ كما يتصدقُ باللحمِ، وأنهُ لا يعطي الجزَّارَ منْها شيئًا أجرةً لأنَّ ذلكَ في حكمِ البيعِ لاستحقاقِه الأجرةَ، وحكمُ الأضحيةِ حكمُ الهدي في أنهُ لا يباعُ لحمُها ولا جلدُها ولا يعطي الجزارَ منْها شيئًا، قالَ في "نهاية المجتهدِ"
(4)
: العلماءُ متفقونَ فيما علمتَ أنهُ لا يجوزُ بيعُ لحمِها واختلفُوا في جلدِها وشعرِها مما ينتفعُ بهِ، فقالَ الجمهورُ: لا يجوزُ، وقالَ أبو حنيفةَ: يجوزُ بيعُه بغيرِ الدنانيرِ والدراهمِ يعني بالعروضِ، وقالَ عطاءٌ: يجوزُ بكلِّ شيءٍ دراهمَ وغيرِها. وإنَّما فرَّقَ أبو حنيفةَ بينَ الدراهمِ وغيرِها لأنهُ رأَى أن المعاوضةَ في العروضِ هيَ منْ بابِ الانتفاعِ فلإجماعِهم على أنهُ يجوزُ الانتفاعُ بهِ.
(1)
قال ابن الأثير في "النهاية"(1/ 267): "الجُزَارة بالضم: ما يأخُذ الجَزَّار من الذبيحةِ عن أجرته؛ كالعُمَالةِ للعامِل. وأصل الجُزَارة: أطراف البعير: الرأسُ، واليدان، والرجلان، سميت بذلك لأنَّ الجزَّار كان يأخذها عن أجرته، فمنع أن يأخذ من الضحية جزاءً في مُقَابلةِ الأجرة" اهـ.
(2)
البخاري (1716)، ومسلم (1317).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1769)، وابن ماجه رقم (3099).
(3)
في (ب): "هنا".
(4)
في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(2/ 451) بتحقيقنا.
إجزاء البدنة والبقرة عن سبعة
9/ 1274 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
. [صحيح]
(وعنِ جابرِ بن عبدِ اللهِ قالَ: نحرْنا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبيةِ البدَنَةَ عنْ سبعةٍ، والبقرةَ عنْ سبعةٍ. رواهُ مسلمٌ). دلَّ الحديثُ على جوازِ الاشتراكِ في البَدَنةِ والبقرةِ وأنَّهما يجزيانِ عنْ سبعةٍ وهذا في الهدْي ويقاسُ عليهِ الأضحيةُ، بلْ قدْ وردَ فيها نصٌّ، فأخرجَ الترمذيُّ
(2)
والنسائيُّ
(3)
منْ حديثِ ابن عباسٍ قالَ: "كُنَّا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في السَّفرِ فحضرَ الأضْحَى فاشتركْنا في البقرةِ سبعةٌ وفي البعيرِ عشرةٌ"، وقدْ صحَّ اشتراكُ أهلِ بيتٍ واحدٍ في ضحيّة واحدةٍ كما في حديثِ مخنفٍ
(4)
.
وإلى هذا ذهبَ زيدُ بنُ عليٍّ وحفيدُه أحمدُ بنُ عيسى والفريقانِ، قالَ النوويُّ
(5)
سواءٌ كانُوا مجتمعينَ أو متفرقينَ، مفترضينَ أوْ متطوعينَ، أو بعضُهم متقرِّبًا وبعضُهم طالبُ لحمٍ، وبهِ قالَ أحمدُ. وذهبَ مالكٌ إلى أنهُ لا يجوزُ الاشتراكُ في الهدْي إلَّا في هدْي التطوعِ، وهَدْيُ الإحصارِ عندي منْ هدي التطوعِ.
واشترطتِ الهادويةُ في الاشتراكِ اتفاقَ الغرضِ، قالُوا: ولا يصحُّ معَ الاختلافِ لأنَّ الهديَ شيءٌ واحدٌ فلا يتبعضُ بأن يكونَ بعضُه واجبًا وبعضُه غيرُ واجبٍ وقالُوا: إنَّها تجزئُ البدنةُ عنْ عشرةٍ لما سلفَ منْ حديثِ ابن عباسٍ وقاسُوا الهدْيَ على الأضحيةِ وأُجيبَ بأنهُ لا قياسَ معَ النصِّ.
(1)
في "صحيحه" رقم (350/ 1318).
قلت: وأخرجه أبو داود (2809)، والترمذي (1502)، وابن ماجه (3132)، والبيهقي (9/ 294)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 174)، وأحمد (3/ 353، 363)، ومالك (2/ 486 رقم 9).
(2)
في "السنن"(1501) وقال: حديث حسن غريب.
(3)
في "السنن"(7/ 222).
قلت: وأخرجه ابن ماجه (3131) عنه، وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
في "شرح صحيح مسلم"(9/ 67).
وادَّعى ابنُ رشدٍ
(1)
الإجماعَ علَى أنهُ لا يجوزُ أنْ يُشْتَرطَ في النسكِ أكثرُ منْ سبعةٍ، قالَ: وإنْ كانَ رُوِيَ منْ حديثِ رافعِ بن خديجٍ: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عدلَ البعيرَ بعشرِ شياهٍ"، أخرجَهُ في الصحيحين
(2)
. ومنْ طريقِ ابن عباسٍ وغيرِهِ: "البدنةُ عنْ عشرةٍ"
(3)
، قالَ الطحاويُّ: وإجماعُهم دليلٌ على أن [الآثارَ]
(4)
في ذلكَ غيرُ صحيحةٍ
(5)
اهـ، ولا يخْفَى أنهُ لا إجماعَ معَ خلافِ مَنْ ذكرْنا، وكأنهُ لم يطَّلعْ على الخلاف]
(6)
.
واختلفُوا في الشاةِ، فقالت الهادويةُ تجزئُ عنْ ثلاثةٍ في الأضحيةِ، قالُوا: وذلكَ لما تقدَّمَ منْ تضحيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالكبشِ عنْ محمدٍ وآلِ محمدٍ، قالُوا: وظاهرُ الحديثِ أنَّها تجزئُ عنْ أكثرَ لكنَّ الإجماعَ قصَرَ الإجزاءَ [عن ثلاثة]
(7)
.
قلتُ: وهذا الإجماعُ الذي ادَّعَوْهُ يباينُ ما قالُه في "نهاية المجتهدِ"
(8)
، فإنهُ قالَ إنهُ وقعَ الإجماعُ على أن الشاةَ لا تجزئُ إلَّا عنْ واحدٍ. والحقُّ أنَّها تجزئُ الشاةُ عن الرَّجُلِ وعنْ أهلِ بيتِه لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، ولما أخرجَهُ مالكٌ في "الموطأ"
(9)
منْ حديثِ أبي أيوبِ الأنصاريِّ قالَ: "كنَّا نضحِّي بالشاةِ الواحدةِ يذبحُها الرجلُ عنهُ وعنْ أهلِ بيتهِ ثمَّ تباهَى الناسُ بعدُ".
فائدةٌ: منَ السنَّةِ لمنْ أرادَ أنْ يضحِّيَ أنْ لا يأخذَ منْ شعرهِ ولا منْ أظفارهِ إذا دخلَ شهرُ ذي الحجَّةِ، لما أخرجَهُ مسلمٌ
(10)
منْ أربعِ طُرُقٍ منْ حديثِ أمِّ
(1)
في "بداية المجتهد"(2/ 443).
(2)
البخاري (2507)، ومسلم (21/ 1968).
(3)
تقدم تخريجه في التعليقة أعلاه رقم (2، 3).
(4)
في (أ): "الأثر".
(5)
قلت: هذا خطأ، فالأحاديث صحيحة كما عرفت، وحكاية الإجماع باطلة.
(6)
في (ب): "عليه".
(7)
زيادة من (أ).
(8)
(2/ 442).
(9)
في "الموطأ"(2/ 486 رقم 10).
قلت: وأخرجه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147)، والبيهقي (9/ 268). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وصحَّحه الألباني في "الإرواء"(رقم: 1142).
(10)
في "صحيحه"(3/ 1565 - 1566 رقم 39، 40، 41، 42/ 1977).
سلمةَ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلتِ العشرُ فأرادَ أحدُكم أنْ يضحِّيَ فلا يمسَّ منْ شعرِه ولا بشرَهِ شيئًا". وأخرجَ البيهقيُّ
(1)
منْ حديثِ عمرِو بن العاصِ أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لرجلٍ سألهُ عن الضحيةِ وأنهُ قدْ لا يجدُها فقالَ: "قلِّمْ أظافرَكَ، وقصَّ شاربكَ، واحلقْ عانتكَ، فذلكَ تمامُ أضحيتكَ عندَ اللهِ عز وجل".
وهذا فيهِ شرعيةُ هذهِ الأفعالِ في يومِ التضحيةِ وإنْ لم يتركه منْ أولِ [شهرِ ذي الحجَّةِ]
(2)
.
وذهبَ أحمدُ وإسحقُ إلى أنهُ يحرمُ للنَّهْي، وإليهِ ذهبَ ابنُ حزمٍ
(3)
.
وقال مَنْ لم يحرِّمْهُ: قدْ قامتِ القرينةُ على أن النَّهْيَ ليسَ للتحريمِ وهوَ ما أخرجَهُ الشيخانِ
(4)
وغيرُهما منْ حديثِ عائشةَ قالتْ: "أنا فتلتُ قلائدَ هدي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيدي، ثمَّ قلَّدها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيدهِ، ثم بعثَ بها معَ أبي فلم يحرمُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيءٌ مما أحلَّه اللهُ حتَّى نحرَ الهديَ".
قالَ الشافعيُّ: فيهِ دلالةٌ على أنهُ لا يحرمُ على المرءِ شيءٌ ببعثهِ بهدي، والبعثُ بالهدي أكثرُ منْ إرادةِ التضحيةِ.
قلتُ: هذا قياسٌ منهُ، والنصُّ قدْ خصَّ مَنْ [يريدُ]
(5)
التضحيةَ بما ذُكرَ.
(فائدةٌ أُخْرى).
أحكام لحوم الأضاحي
يُسْتَحَبُّ للمضحِّي أنْ يتصدقَ وأنْ يأكلَ، واستحبَّ كثيرٌ منَ العلماءِ أنْ يقسمَها أثلاثًا: ثلثًا للادِّخارِ، وثلثًا للصدقةِ، وثلثًا للأكلِ، لقولِهِ صلى الله عليه وسلم:"كلُوا، وتصدَّقوا، وادَّخِروا"
(6)
(1)
في "السنن الكبرى"(9/ 263 - 264).
(2)
في (أ): "الشهر".
(3)
في "المحلى"(7/ 355) و (7/ 368 - 370).
(4)
البخاري (1700)، ومسلم رقم (369/ 1321).
(5)
في (أ): "أراد".
(6)
أخرج البخاري (5569) عن سلمة بن الأكوع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ضحَّى منكم فلا يُصْبحنَّ بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء"، فلما كان العامُ المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعلُ كما فعلنا العامَ الماضي؟ قال:"كلوا، وأطعِموا، وادَّخِروا، فإن ذلك العام كان بالناس جَهْدٌ، فأردتُ أن تعينوا فيها". =
أخرجَهُ الترمذيُّ
(1)
بلفظِ: "كنتُ نهيتُكم عنْ لحوم الأضاحي فوقَ ثلاثٍ ليتسعَ ذو الطَّوْلِ على مَنْ لا طَوْلَ له، فكلُوا ما بدا لكم وتصدَّقُوا أو ادَّخِروا"، ولعلَ الظاهريةَ توجِبُ التجزئةَ.
وقالَ عبدُ الوهابِ: أوجبَ قومٌ الأكلَ وليسَ بواجبٍ في المذهبِ.
* * *
= • وأخرج مسلم (28/ 1971). عن عائشة قالت: دَفَّ أهلُ أبياتِ من أهلِ البادية حِضْرَةَ الأضحى زمن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادَّخِروا ثلاثًا، ثم تصدَّقوا بما بقي"، فلما كان بعدَ ذلك قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الناس يتخذونَ الأسقيةَ من ضحاياهم، ويحملُونَ منها الودكَ. فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وما ذاكَ"؟ قالوا: نهيتَ أن تؤكلَ لحومُ الضحايا بعد ثلاثِ، فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدَّافةِ التي دفَّت فكلوا وادَّخروا وتصدَّقوا.
• دف: أصل الدفيف من دفَ الطائر إذا ضرب بجناحيه دفيه (أي صفحتي جنبه) في طيرانه على الأرض، ثم قيل: دفت الإبل إذا سارت سيرًا لينًا.
(1)
في "السنن"(4/ 94 - 95 رقم 1510) من حديث بريدة.
قال الترمذي: حديث بريدة حديث حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح.
[الباب الثالث] باب العقيقة
العقيقةُ هيَ الذبيحةُ التي تُذْبَحُ للمولودِ. وأصلُ العقِّ الشقُّ والقطعُ، وقيلَ للذبيحةِ عقيقةٌ لأنهُ يُشقُّ حلْقُها، ويقالُ عقيقة للشعرِ الذي يخرجُ على رأسِ المولودِ منْ بطنِ أمِّهِ، وجعلَه الزمخشريُّ أصلًا، والشاةُ المذبوحةُ مشتقةٌ منهُ.
مشروعية العقيقة
1/ 1275 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(2)
وَابْنُ الْجَارُودِ
(3)
وَعَبْدُ الْحَقِّ
(4)
، لكِنْ رَجحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ
(5)
. [صحيح]
(عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسنِ والحسينِ كبشًا كبشًا. رواهُ أبو داودَ وصحَّحهُ ابنُ خزيمةَ وابنُ الجارودِ وعبدُ الحقِّ، لكنْ رجَّحَ أبو حاتمٍ إرسالَه).
(1)
في "السنن" رقم (2841).
(2)
في المفقود منه واللَّهُ أعلم.
(3)
في "المنتقى" رقم (911).
(4)
ذكره الحافظ في "التلخيص الحبير"(4/ 147). وزاد تصحيح ابن دقيق العيد.
(5)
في "العلل"(2/ 49 رقم 1631).
قلت: وأخرجه النسائي (7/ 165 - 166)، وعبد الرزاق (4/ 330)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 457)، والطبراني في "الكبير" رقم (11838) و (11856)، والبيهقي (9/ 299، 302)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 116) وفي "أخبار أصبهان"(2/ 151)، والخطيب في "التاريخ"(10/ 151) من طريق عكرمة عن ابن عباس.
وخلاصة القول: أن الحديث صحيح.
وقد أخرج البيهقيُّ
(1)
والحاكمُ
(2)
وابنُ حبانَ
(3)
منْ حديثِ عائشةَ بزيادةٍ يومَ السابعِ وسمَّاهما وأمرَ أنْ يماطَ عنْ رأسيْهمَا الأذَى.
وأخرج البيهقيُّ
(4)
والحاكم
(5)
منْ حديث عائشةَ رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ختنَ الحسنَ والحُسينَ رضي الله عنهما يوم السابع منْ ولادِتهما". وأخرجَ البيهقيُّ
(6)
أيضًا منْ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم "عقَّ عن الحسنِ والحسينِ وختنَهما لسبعةِ أيامٍ".
قالَ الحسنُ البصريُّ
(7)
: إماطةُ الأذى حلقُ الرأسِ. وصحَّحَهُ ابنُ السكنِ بأتمَّ منْ هذا وفيهِ: "وكانَ أهلُ الجاهليةِ يجعلونَ قطنةً في دمِ العقيقةِ ويجعلونَها على رأسِ المولودِ، فأمرَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يجعلُوا مكانَ الدم خَلوقًا"، ورواهُ أحمدُ
(8)
والنسائيُّ
(9)
منْ حديثِ بريدةَ وسندُه صحيحٌ، ويؤيدُ [هذهِ]
(10)
الأحاديثَ الحديثُ الآتي وهوَ قولُه:
2/ 1276 - وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ
(11)
مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ. [صحيح]
(وأخرجَ ابن حبانَ منْ حديثِ أنسٍ نحوَه)، والأحاديثُ دلَّتْ على مشروعيةِ العقيقةِ. واختلفتْ فيها مذاهبُ العلماءِ.
(1)
في "السنن الكبرى"(9/ 299 - 300).
(2)
في "المستدرك"(4/ 237) وصحَّحه ووافقه الذهبي.
(3)
في صحيحه (12/ 127 رقم 5311) بسند حسن.
(4)
في "السنن الكبرى"(9/ 299 - 300)، وقال البيهقي: الحديث ليس بمحفوظ.
(5)
في "المستدرك"(4/ 237).
(6)
في "السنن الكبرى"(8/ 324).
(7)
قال البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 298) روى هشام عن الحسن البصري.
(8)
في "المسند"(5/ 355 و 361).
(9)
النسائي في "السنن"(7/ 164 رقم 4213).
قلت: وأخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (2574)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(10)
في (أ): "هذا".
(11)
في "صحيحه" رقم (5309).
قلت: وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 456)، وأبو يعلى رقم (2945)، والبزار رقم (1235 - كشف)، والبيهقي (9/ 299) من طرق
…
قال البزار: لا نعلم أحدًا تابع جريرًا عليه.
وأورده الهيثمي في "المجمع"(4/ 57) وعزاه لأبي يعلى والبزار وقال: رجاله ثقات.
قلت: ويشهد له حديث عائشة المتقدم.
والخلاصة: أن الحديث صحيح، واللهُ أعلم.
فعندَ الجمهورِ أنها سنَّةٌ
(1)
، وذهبَ داودُ ومَنْ تبعهُ إلى أنها واجبةٌ
(2)
.
واستدلَّ الجمهورُ بأنَّ فعلَه صلى الله عليه وسلم دليلٌ على السنيَّةِ وبحديثِ: "مَنْ وُلدَ لهُ وَلَدٌ فأحبَّ أنْ ينسكَ عنْ ولدِه فليفعلْ"، أخرجَهُ مالكٌ
(3)
.
واستدلَّتْ الظاهريةُ بما يأتي منْ قولِ عائشة
(4)
رضي الله عنها أنهُ صلى الله عليه وسلم أمرهُم بها. والأمرُ دليلُ الإيجابِ. وأجابَ الأولونَ بأنهُ صرفُه عن الوجوبِ قولُه: "فأحبَّ أن ينسكَ عنْ ولدِه فليفعلْ".
وقولُه في حديثِ عائشةَ: (يومَ سابعهِ) دليل على أنهُ وقْتُها وسيأتي فيهِ حديثُ سَمُرَةُ
(5)
وأنهُ لا يُشْرَعُ قبلَه ولا بعدَه.
وقالَ النووي
(6)
: إنهُ يعقُّ قبلَ السابعِ، وكذَا عن الكبيرِ فقدْ أخرجَ البيهقيُّ
(7)
منْ حديثِ أنسٍ: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عقَّ عنْ نفسِه بعدَ البعثةِ"، ولكنَّهُ قالَ: منكرٌ، وقالَ النوويُّ: حديثٌ باطلٌ، وقيلَ: تجزئُ في السابعِ الثاني والثالثِ لما أخرجَهُ البيهقيُّ
(8)
عنْ عبدِ اللهِ بن بريدةَ عنْ أبيهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "العقيقةُ تذبحُ لسبع ولأربعَ عشْرةَ ولإحدى وعشرينَ".
ودلَّ الحديثُ على أنهُ يجزئُ عن الغلامِ شاةٌ لكنَّ الحديثَ الآتي وهوَ قولُه:
العقيقة عن الغلام والجارية
3/ 1277 - وَعَنْ عَائَشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَمَرَهُمْ أَنْ يُعَقَّ عَنْ الْغُلامِ
(1)
انظر: "بداية المجتهد"(2/ 501).
(2)
انظر: "المحلَّى"(7/ 523).
(3)
في "الموطأ"(2/ 500 رقم 1). وفي الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني (ص 225) رقم (659).
ومن طريق مالك أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(14/ 70 رقم 19144).
(4)
يأتي رقم الحديث (3/ 1276) من كتابنا هذا.
(5)
يأتي رقم الحديث (5/ 1279) من كتابنا هذا.
(6)
انظر: "روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنووي (3/ 229).
(7)
في "السنن الكبرى"(9/ 300) وقال: وهو حديث منكر. وأضاف النووي في "المجموع"(8/ 432) قائلًا: "فهو حديث باطل وعبد اللهِ بن محرر ضعيف متفق على ضعفه. قال الحافظ: هو متروك.
(8)
في "السنن الكبرى"(9/ 303).
شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ"، رواهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
(1)
. [صحيح]
(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرهُم أن يُعَقَّ عن الغلامِ شاتانِ مكافِئتانِ) قالَ النوويُّ
(2)
: بكسرِ الفاءِ بعدَها همزةٌ ويأتي [تفسيرُه]
(3)
(وعنِ الجاريةِ شاةٌ. رواهُ الترمذيُّ [وصحَّحَهُ])
(4)
وقالَ: حسنٌ صحيحٌ، إلَّا أني لم أجدْ لفظة:"أنْ يعقَّ" في نسخِ الترمذيِّ.
قالَ أحمدُ وأبو داودَ: معنَى مكافئتانِ متساويتانِ أو متقاربتانِ، وقالَ الخطابيُّ: المرادُ التكافؤُ في السنِّ فلا تكونُ إحداهُما مسنَّة والأخْرى غيرَ مسنَّةٍ بلْ يكونانِ مما يجزئُ في الأضحيةِ، وقيلَ معناهُ أنْ يذبحَ إحداهما مقابلة للأخرى.
دلَّ على أنهُ يُعَقُّ عن الغلامِ بضعفِ ما يعقُّ عن الجاريةِ، وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ وأبو ثورٍ وأحمدُ وداودُ لهذا الحديثِ
(5)
. وذهبتِ الهادويةُ ومالكٌ
(6)
إلى أنهُ يجزئُ عن الذكرِ والأنثَى عنْ كلِّ واحدٍ شاةٌ للحديثِ الماضي.
وأُجِيْب بأنَّ ذلكَ فعل وهذا قول والقولُ أقوى، وبأنهُ يجوزُ أنهُ صلى الله عليه وسلم ذبحَ عن الذكرِ كبْشًا لبيانِ أنهُ يجزئُ وذبحُ الاثنينِ مستحبٌّ، على أنهُ أخرجَ أبو الشيخِ
(7)
حديثَ ابن عباسٍ منْ طريقِ عكرمةَ بلفظ كبشينِ كبشينِ. ومنْ حديثِ عمروِ بن شعيبٍ مثلَه وحينئذٍ فلا تعارضَ. وفي إطلاقِ لفظِ الشاةِ دليل على أنهُ لا يشترطُ
(1)
في "السنن"(4/ 96 رقم 1513).
قلت: وأخرجه أحمد (6/ 31، 158، 251)، وابن حبان (رقم: 1058 - موارد)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 301)، وابن أبي شيبة (8/ 239)، وابن ماجه رقم (3163)، وعبد الرزاق رقم (7955) و (7956) من طرق
…
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهو كما قال: وإسناده صحيح على شرط مسلم وصحَّحه الألباني في "إرواء الغليل"(رقم: 1166).
(2)
في "المجموع"(8/ 429). ثم قال: أي متساويتان.
(3)
في (أ): "تفسيرها".
(4)
زيادة من (ب).
(5)
انظر: "الاستذكار"(15/ 378 - 379) وزاد على ما تقدم: إسحاق، والطبري، وعائشة، وابن عباس.
(6)
كما في "بداية المجتهد"(2/ 504).
(7)
والنسائي في "السنن"(7/ 165 - 166 رقم 4219)، وهو حديث صحيح.
فيها ما يشترطُ في الأضحية، ومن [اشترط ذلك]
(1)
فبالقياسِ.
4/ 1278 - وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ
(2)
والأَرْبَعَةُ
(3)
عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيّةِ نَحْوَهُ.
ترجمة أم كرز
(وأخرجَ أحمدُ والأربعة عنْ أمِّ كُرْزٍ)
(4)
بضمِّ أولهِ وسكونِ الراءِ وزاي، الكعبيةِ المكيةِ، صحابيةٌ لها أحاديثُ، قاله المصنفُ في "التقريبُ"
(5)
.
(نحوَه) أي نحوَ حديثِ عائشةَ ولفظُه في الترمذيِّ
(6)
: عنْ سباعِ بن ثابتٍ أن محمدَ بنَ ثابتٍ بن سباعِ أخبَره أن أمَّ كُرْزٍ أخبرتْه أنَّها سألتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن
(1)
في (ب): اشتراطها.
(2)
في "المسند"(6/ 381، 422).
(3)
أبو داود (2835)، والترمذي (1516)، والنسائي (7/ 165)، وابن ماجه (3162).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: وأخرجه ابن حبان رقم (1059 - الموارد)، وابن سعد في "الطبقات"(4/ 294 - 295)، وعبد الرزاق في "المصنف"(4/ 327 رقم 7953، 7954)، والطحاوي في "المشكل"(1/ 457)، وابن عبد البر في "التمهيد"(4/ 314 - 315)، وابن حزم في "المحلى"(6/ 235)، والحاكم (4/ 237)، والبيهقي (9/ 301)، وفي "خطأ من أخطأ على الشافعي" ص 283 - 284 من طريق سباع بن ثابت عنها.
ومن هذا الوجه: أخرجه الطيالسي (ص 227 رقم 1634، والحميدي (1/ 166 رقم 345)، والبغوي في شرح السنة" (11/ 265).
• وله طرق أخرى عنها:
أخرجه أبو داود (2834)، والنسائي (7/ 165)، والدارمي (2/ 81)، وابن حبان (رقم: 1060 - موارد)، وأحمد (6/ 381، 422)، والحميدي (1/ 167 رقم 346)، وابن حزم في "المحلى"(6/ 235)، وعبد الرزاق في "المصنف"(4/ 327) رقم 7953)، والبيهقي (9/ 310).
ومن طريق حبيبة بنت ميسرة عنها.
وحبيبة هذه مجهولة الحال، وحديثها حسن في الشواهد.
ولمزيد من المعرفة لطرق هذا الحديث، انظر:"إرواء الغليل" للألباني (4/ 390 رقم 393).
(4)
انظر ترجمتها في: "الإصابة" رقم (12223)، و "أسد الغابة" رقم (7578)، "والاستيعاب" رقم (3659)، و "تجريد أسماء الصحابة"(2/ 332)، و "الثقات"(3/ 459 - 464)، و "أعلام النساء"(4/ 239).
(5)
(2/ 623 رقم 71).
(6)
في "السنن"(1516) وقد تقدم.
العقيقةِ قالَ: "عن الغلامِ شاتانِ وعنِ الأنثَى واحدةٌ، ولا يضرُّكم أذكرانًا كنَّ أم إناثًا"، قالَ أبو عيسى: حسنٌ صحيحٌ. وهوَ يفيدُ [ما أفاده]
(1)
الحديثُ الثالثُ.
ارتهان الغلام بعقيقته
5/ 1279 - وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُل غُلامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، ويُحْلَقُ، وَيُسَمَّى". رَوَاهُ أَحْمَدُ
(2)
وَالأَرْبَعَةُ
(3)
، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. [صحيح]
(وعنْ سمرةَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: كل غلامٍ مرتَهَنٌ بعقيقِته تُذْبَحُ عنه يومَ سابعهِ ويحلقُ ويسمَّى. رواة أحمدُ والأربعةُ وصحَّحهُ الترمذيُّ)، وهذا هو حديثُ العقيقةِ الذي اتفقُوا على أنهُ سمِعَهُ الحسنُ منْ سمُرةَ واختلفُوا في سماعه لغيرهِ منهُ منَ الأحاديثِ، قالَ الخطابيُّ
(4)
: اختُلِفَ في قولِه مرتهنٌ بعقيقتهِ، فذهبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ أنهُ إذا ماتَ وهوَ طفلٌ لم يعقَّ عنهُ أنهُ لا يشفعُ لأبويْهِ.
قلتُ: ونقله الحليميُّ
(5)
عنْ عطاءِ الخراسانيِّ
(6)
، ومحمدِ بن
(1)
في (ب): ما يفيد.
(2)
في "المسند"(5/ 7 - 8، 12، 17، 18، 22).
(3)
أبو داود (2837) و (2838)، والترمذي (1522)، والنسائي (7/ 166 رقم 4220)، وابن ماجه (3165).
قلت: وأخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(4/ 307)، والطيالسي (ص 123 رقم 909)، والطحاوي في "المشكل"(1/ 453)، وابن الجارود في "المنتقى"(رقم 910)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 191)، والدارمي (2/ 81)، والبيهقي (9/ 299)، والطبراني في "الكبير"(7/ 200 - 201) رقم (6827 - 6832)، والحاكم (4/ 237). وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
وقد روى البخاري والنسائي عن الحسن أنه سمع هذا الحديث من سمرة، فانتفت شبهة تدليسه. انظر:"صحيح البخاري"(9/ 590 - مع الفتح)، و "سنن النسائي"(7/ 166).
(4)
انظر: "معالم السنن"(3/ 259 - هامش السنن).
(5)
في كتابه "المنهاج في شعب الإيمان"(3/ 281 - 282).
والحليمي: هو أبو عبد اللهِ الحسين بن الحسن الحليمي المتوفى سنة (403 هـ / 1012 م).
(6)
هو عطاء بن أبي مسلم المحدث الواعظ، نزيل دمشق والقدس.
وقال ابن معين: هو عطاء بن ميسرة، سمع من ابن عمر. =
مُطَرِّفٍ
(1)
وهما إمامانِ عالمانِ متقدِّمانِ على أحمدِ. وقيلَ: إنَّ المعنَى العقيقةُ لازِمةٌ لا بدَّ منْها، فشبَّه لزومَها للمولودِ بلزومِ الرهنِ للمرهونِ في يدِ المرتهنِ، وهوَ يقوي قولَ الظاهريةِ بالوجوبِ. وقيلَ المرادُ أنهُ مرهونٌ بأذى شعرهِ ولذلكَ جاءَ:"فأميطُوا عنهُ الأذَى".
ويقوِّي قولَ أحمدَ ما أخرجَهُ البيهقيُّ عنْ عطاءٍ الخراسانيِّ، وأخرجَهُ ابنُ حزمٍ
(2)
عنْ بريدةَ الأسلميِّ قالَ: إنَّ الناسَ يعرضونَ يومَ القيامةِ على العقيقةِ كما يعرضَونَ على [الصلوات]
(3)
الخمسِ، وهذا دليل - لو ثبتَ - لمن قالَ بالوجوبِ. وتقدَّمَ أنها مؤقتةٌ باليومِ السابعِ كما دلَّ لهُ ما مضَى ودلَّ لهُ أيضًا هذا.
وقالَ مالكٌ: تفوتُ بعدَهُ، وقالَ: منْ ماتَ قبلَ السابعِ سقطتْ عنهُ العقيقةُ.
وللعلماءِ خلافٌ في العقِّ [بعد السابع]
(4)
، وقول عائشة: أمرَهُم، أي المسلمينَ أن يعقَّ كل مولودٍ لهُ عنْ ولدهِ، فعندَ الشافعيُّ يتعينُ علَى كلِّ مَنْ تلزمُه
= وقال مالك: هو عطاء بن عبد اللهِ.
وقال النسائي: هو أبو أيوب، عطاء بن عبد اللهِ، بَلْخيٌّ، سكن الشام ليس به بأس.
وقال مرة: هو عطاء بن ميسرة.
وقال أحمد: ثقة.
وقال يعقوب بن شيبة: ثقة معروف بالفتوى والجهاد.
وقال أبو حاتم: لا بأس به.
وقال حجاج بن محمد: حدثنا شعبة، حدثنا عطاء الخراساني، وكان نَسِيًا
…
مات عطاء سنة خمس وثلاثين ومئة. وقيل: مولده سنة خمسين.
انظر: "سير أعلام النبلاء"(6/ 140 - 143 رقم 52)، والجرح والتعديل" (6/ 334 - 335)، و "ميزان الاعتدال" (3/ 73 - 75)، و "العبر" (1/ 140)، و "تهذيب التهذيب" (7/ 190)، و "شذرات الذهب" (1/ 192 - 193).
(1)
هو محمد بن مُطَرِّف بن داود. الإمام المحدِّث الحجَّة، أبو غسَّان المدني.
ولد قبل المئة. وثقه أحمد بن حنبل وغيره.
قال أبو بكر الخطيب: قيل: إنه من موالي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد نزل عَسْقَلان.
وقال الذهبي: ما ظفرتُ له بوفاة، وكأنه توفي سنة بضع وستين ومئة.
انظر: "سير أعلام النبلاء"(7/ 295 - 296)، والجرح والتعديل" (8/ 100)، و "الوافي بالوفيات" (5/ 34)، و "تهذيب التهذيب" (9/ 407)، و "شذرات الذهب" (1/ 258).
(2)
في "المحلى"(7/ 525).
(3)
في (أ): "الصلاة".
(4)
(ب): "بعده".
النفقةُ للمولودِ، وعندَ الحنابلةِ يتعينُ على الأبِ إلَّا أنْ يموتَ أو يمتنعَ، وأُخِذَ منْ لفظِ تُذْبَحُ بالبناءِ للمجهولِ أنهُ يجزئُ أنْ يعقَّ عنهُ الأجنبيُّ، وقدْ تأيدَ بأنهُ صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسنين كما سلفَ إلَّا أنهُ يقالُ قدْ ثبتَ أنهُ صلى الله عليه وسلم أبوهما كما وردَ بهِ الحديثُ بلفظِ:"كلُّ بني أمِّ ينتمونَ إلى عصبةٍ إلا ولدَ فاطمةَ رضي الله عنها فأنا وليُّهم وأنا عصبتُهم"، وفي لفظٍ:"وأنا أبوهُم"، أخرجَهُ الخطيبُ منْ حديثِ فاطمةَ الزهراءِ
(1)
رضي الله عنها ومِنْ حديثِ عمرَ
(2)
رضيَ اللهُ تعالَى عنْهُ.
وأما ما أخرجَهُ أحمدُ
(3)
منْ حديثِ أبي رافعٍ أن فاطمةَ رضي الله عنها لما ولدتْ حَسَنًا رضي الله عنه قالتْ: يا رسولَ اللهِ ألا أعق عن ولدي بدمٍ؟ قالَ: "لا ولكنِ احلقي رأسَهُ وتصدَّقي بوزنِ شعرهِ فضةً"، فهوَ منَ الأدلةِ أنهُ قدْ أجزأَ عنهُ ما ذبحَه
(1)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(3/ 44) رقم 2632)، وأبو يعلى في "المسند"(12/ 109 رقم 6741).
وأورده الهيثمي في "المجمع"(9/ 172 - 173) وقال: "رواه الطبراني وأبو يعلى وفيه شيبة بن نعامة ولا يجوز الاحتجاج به".
وقال ابن حبان في "المجروحين"(1/ 358) يروي - أي شيبة - عن أنس ما لا يشبه حديثه، وعن غيره من الثقات ما يخالف حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به".
وخلاصة القول: أن الحديث ضعيف، واللهُ أعلم.
(2)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(3/ 44 رقم 2631)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 142)، والبيهقي (7/ 64)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 3)، وأبو نعيم في "المعرفة"(1/ 231 - 232) رقم 214)، وفي "الحلية"(2/ 34).
قلت: فيه بشر بن مهران. ترك أبو حاتم حديثه، انظر:"لسان الميزان"(2/ 34).
وفيه: شريك بن عبد اللهِ: صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة.
انظر: "التقريب"(1/ 351).
وفيه أخيرًا محمد بن زكريا الغلابي: ضعيف.
والخلاصة: أن الحديث ضعيف لا يتقوى بالشواهد لشدة ضعفه وتقاعد الجابر.
(3)
في "المسند"(6/ 390) من طريق شريك عن عبد اللهِ بن محمد بن عقيل عن ابن الحسين، عن أبي رافع به.
قلت: سنده ضعيف، لضعف شريك. ولكن تابعه (عبد اللهِ بن عمرو) أخرجه أحمد في "المسند"(6/ 392)، وتابعه أيضًا (سعيد بن سلمة)، أخرجه البيهقي (9/ 304)، فيصبح الحديث حسنًا ولم يكن صحيحًا لأن عبد اللهِ بن محمد بن عقيل فيه مقال أيضًا، ولكن حديثه لا ينزل عن رتبة الحسن.
النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّها ذكرتْ هذا فمنَعها ثمَّ عقَّ عنهُ وأرشدَها إلى [أنها تتولى]
(1)
الحلقَ والتصدقَ، وهذا أقربُ لأنَّها لا تستأذنُه إلا قبلَ ذبحهِ وقبلَ مجيءِ وقْتِ الذبحِ وهوَ السابعُ.
قوله في حديثِ سَمُرَةَ: "ويحلقُ"، دليلٌ على شرعيةِ حلقِ رأسِ المولودِ [يومَ]
(2)
سابعهِ، وظاهرُه عامٌّ لحلقِ رأسِ الغلامِ والجاريةِ. وحكَى عن المازريُّ كراهةَ حلْقِ رأسِ الجاريةِ، وعنْ بعضِ الحنابلةِ تحلقُ لإطلاقِ الحديثِ.
وأما تثقيبُ أذنِ الصبيةِ لأجلِ تعليقِ الحليِّ فيها الذي يفعلُه الناسُ في هذهِ الأعصارِ وقبلَها فقالَ الغزاليُّ في "الإحياءِ"
(3)
: إنهُ لا يَرى فيهِ رخصةً فإنَّ ذلكَ جرحٌ [يؤلم]
(4)
ومثلُه موجبٌ للقصاصِ فلا يجوزُ إلا [لحاجةٍ مهمةٍ]
(5)
كالفصدِ والحجامةِ والختانِ، والتزينُ بالحليِّ غيرُ مهمٍّ، فهوَ حرامٌ وإن كانَ معتادًا، والمنعُ منه واجبٌ والاستئجارُ عليهِ [حرام]
(6)
، والأجرةُ المأخوذةُ [في مقابلته]
(7)
حرامٌ. اهـ.
وفي كتبِ الحنابلةِ
(8)
أن تثقيبَ آذانِ الصبية للحلية جائزٌ لأنهم كانوا في الجاهلية يفعلونه، ويكره للصبيانِ. وفي فتاوى قاضي خانْ منَ الحنفيةِ: لا بأسَ بثقبِ أذنِ الطفلِ لأنَّهم كانُوا في الجاهليةِ يفعلونَه ولم ينكرْ عليهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
قولُه: "ويُسَمَّى"، هذا هوَ الصحيحُ في الروايةِ - وأما روايتُه بلفظِ: ويدمَّى - منَ الدمِ - أي يفعلُ في رأسهِ منْ دمِ العقيقةِ كما كانتْ تفعلُه الجاهليةُ فقدْ وهمَ راوْيها
(9)
، والمرادُ تسميةُ المولودِ.
(1)
في (ب): "تولي".
(2)
زيادة من (ب).
(3)
(2/ 217).
(4)
في (ب): "مؤلم".
(5)
في (أ): "للحاجة المهمة".
(6)
في (ب): "غير صحيح".
(7)
في (ب): "عليه".
(8)
انظر كتاب: "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن قيم الجوزية، بتحقيقنا.
الباب العاشر: في ثقب أذن الصبي والبنت.
(9)
قال ابن القيم في "زاد المعاد"(2/ 326 - 327): "ثم اختُلِفَ في التدميةِ بعد هل هي صحيحة، أو غلط؟ على قولين. فقال أبو داود في سننه: هي وهم من همَّام بن يحيى. وقوله: ويُدَمَّى، إنما هو "ويُسَمَّى"، وقال غيره: كان في لسان هَمام لُثْغَةٌ فقال: "ويُدَّمَّ" =
يستحب اختيار الاسم الحسن
وينبغي اختيارُ الاسم الحسنِ لهُ لما ثبتَ منْ أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يغيرُ الاسمَ القبيحَ
(1)
. وصحَّ عنهُ [إنَّ]
(2)
أخنعَ الأسماءِ عندَ اللهِ رجلٌ تسمَّى شاهانِ شاهْ، ملكِ الأملاكْ، لا ملكَ إلا اللهُ تعالَى"
(3)
.
فتحرم التسميةُ بذلكَ، وألحقَ بهِ تحريمَ التسميةِ بقاضي القضاةِ وأشنعُ منهُ حاكمُ الحكامِ، نصَّ عليهِ الأوزاعيُّ.
ومِنَ الألقابِ القبيحةِ ما قالَه الزمخشريُّ: إنهُ توسعَ الناسُ في زمانِنا حتَّى لقَّبوا السفلةَ بألقابِ العِليَةِ، وهبْ أن العذرَ مبسوطٌ فما أقولُ في تلقيبِ مَنْ ليسَ منَ الدينِ في قبيلٍ ولا دبيرٍ بفلانِ الدينِ؟ هيَ لَعَمْري واللَّهِ الغصَّةُ التي لا تُساغُ.
وأحبُّ الأسماءِ [إلى اللَّهِ] عبدُ اللهِ وعبدُ الرحمنِ ونحوُهما، وأصدقُها حارثُ وهمامُ
(4)
،
= وإنما أراد أن يُسمى، وهذا لا يصح، فإن همامًا إن كان وهم في اللفظ، ولم يُقِمْهُ لسانُه، فقد حَكى عن قتادة صفة التدمية، وأنه سئل عنها فأجاب بذلك، وهذا لا تحتملُه اللُّثغة بوجه، فإن كان لفظُ التدمية هنا وهمًا، فهو من قتادة، أو من الحسن، والذين أثبتوا لفظَ التدمية قالوا: إنه من سنة العقيقة، وهذا مروي عن الحسن وقتادة، والذين منعوا التدمية كمالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق، قالوا:"ويُدَمَّى" غلط، وإنما هو "ويُسمَّى"، قالوا: وهذا كان من عمل أهلِ الجاهليةِ، فأبطله الإسلامُ" اهـ.
• وانظر كتاب: "التصحيف وأثره في الحديث والفقه وجهود المحدثين في مكافحته" إعداد: أسطيري جمال. (ص 286 - 291) تدمية رأس المولود.
(1)
كالحديث الذي أخرجه البخاري (6190) عن ابن المسيب عن أبيه، أن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما اسمُك؟ قال: حَزْن. قال: أنت سهل، قال: لا أغيرُ اسمًا سمانيهِ أبي. قال ابن المسيب: فما زالتِ الحزونةَ فينا بعد.
وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (841)، وأبو داود رقم (4956)، وأحمد (5/ 433)، والبيهقي (9/ 307)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (19851)، والبغوي في "شرح السنة"(12/ 340)، وابن سعد في "الطبقات"(5/ 119).
(2)
في (أ): "أنه".
(3)
أخرجه البخاري رقم (5852/ 5853 - البغا)، ومسلم (20، 21/ 2143، وأبو داود (4961)، والترمذي (2837) وقال: حديث حسن صحيح.
(4)
وهو حديث ضعيف.
أخرجه أبو داود (5/ 237 رقم 4950)، والنسائي (6/ 218، 219)، وأحمد في "المسند" =
ولا تكرهُ التسميةُ بأسماءِ الأنبياءِ
(1)
ويس وطهَ خَلافًا لمالكٍ.
وفي مسندِ الحارثِ بن أبي أسامةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "منْ كانَ لهُ ثلاثةٌ منَ الولدِ ولم يسمِّ أحدَهم بمحمدٍ فقدْ جهلَ"
(2)
، فينبغي التسمِّي باسمِه صلى الله عليه وسلم. فقدْ أخرجَ في كتابِ الخصائصِ لابنِ سبع عن ابن عباسٍ أنهُ إذا كانَ يومُ القيامةِ نادَى منادٍ: ألا ليقمْ منِ اسمُه محمدٌ فليدخلِ الجنةَ تكرمة لنبيهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وقالَ مالكٌ: سمعتُ أهلَ المدينةِ يقولونَ: ما منْ أهلِ بيتٍ فيهمُ اسمُ محمدٍ إلا رُزِقُوا رزقَ خيرٍ
(4)
، قالَ ابنُ رشدٍ: يحتملُ أن يكونُوا عرفُوا ذلكَ بالتجربةِ أو عندَهم فيهِ أثرٌ.
= (4/ 345)، وإسناده ضعيف من أجل عقيل بن شبيب لأنه مجهول.
انظر: "الإرواء" رقم (1178)، والصحيحة رقم (1040) و (904).
(1)
أخرج عبد الرزاق في "المصنف"(11/ 40 رقم 19850): عن معمر قال: قلت لحماد بن أبي سليمان: كيف تقول في رجل يسمَّى بجبريل، وميكائيل؟ فقال: لا بأس به.
• وأخرج البخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 35) عن عبد اللهِ بن جراد قال: صحبني رجل من مؤتة فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وأنا معه فقال: يا رسول الله ولد لي مولود فما أخيرَ الأسماء؟ قال: إن خير أسماءكم الحارث وهمام، ونعمَ الاسم عبد اللهِ، وعبد الرحمن، وسمُّوا بأسماء الأنبياء ولا تسمُّوا بأسماء الملائكة، قال: وباسمك؟ قال: وباسمي ولا تكنوا بكنيتي. في إسناده نظر.
(2)
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(6/ 2107) وقال عقبه: وهذا لا أعلم يرويه عن ليث غير موسى بن أعين.
والحديث أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات". ثم أخرجه السيوطي في "اللآلئ"(1/ 101) وقال: ليث لم يبلغ أمره أن يحكم على حديثه بالوضع، فقد روى له مسلم والأربعة، ووثقه ابن معين وغيره.
ثم ذكر السيوطي له شاهد مرسل وقال: هذا مرسل يعضد حديث ابن عباس ويدخله في قسم المقبول.
قلت: في هذا المرسل مجهول. وحديث ابن عباس أقل درجاته ضعيف.
(3)
إن مجرد التسمِّي باسم النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي - لا يكفي دخول الجنة، بل لا بد من الاتباع والاقتداء به في جميع مجالات الحياة.
(4)
الرزق إنما هو بالسعي والجد والتقوى لله في العمل، كما نطق بذلك القرآن الكريم والسنة النبوية.
فائدةٌ: رَوَى أبو داودَ
(1)
والترمذيُّ
(2)
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذَّنَ في أُذُنِ الحسنِ والحسينِ حينَ وُلِدا، ورواهُ الحاكمُ
(3)
. والمرادُ الأذنُ اليمنَى.
وفي بعض المسانيدِ
(4)
: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأَ في أُذُنِ مولودٍ سورةَ الإخلاصِ".
وأخرجَ ابنُ السنِّي
(5)
عن الحسنِ أن عليًا رضي الله عنه قالَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "منْ ولدَ لهُ مولودٌ
(6)
فأذَّنَ في أُذُنِهِ اليمنَى وأقامَ الصلاةَ في أُذُنِهِ اليُسرى لم تضرُّه أمُّ الصبيانِ"، وهي التابعةُ منَ الجنِّ.
ويستحبُّ [تحنيكُه]
(7)
بتمرٍ لما في الصحيحين
(8)
منْ حديثِ أبي موسى
(1)
في "السنن"(5105).
(2)
في "السنن"(1514) وقال: حديث حسن صحيح.
(3)
في "المستدرك"(3/ 179) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: عاصم ضعيف.
قلت: وأخرجه أحمد (6/ 9، 391، 392)، والبيهقي (9/ 305)، وعبد الرزاق في "المصنف"(4/ 336 رقم 7986).
وهو حديث حسن بشاهده عند البيهقى في "الشعب" من حديث ابن عباس. وانظر: "الإرواء"(4/ 400 رقم 1173).
(4)
فلينظر من أخرجه؟!
(5)
في "عمل اليوم والليلة" رقم (623) عن الحسين بن علي.
وفيه جبارة بن المغلس: ضعيف. [الميزان (1/ 387)].
ويحيى بن العلاء: رمي بالوضع. [الميزان (4/ 397 - 398)].
ومروان بن سالم: ضعيف. [الميزان (4/ 90 - 92)].
وعزاه الهيثمي في "المجمع (4/ 59) لأبى يعلى، وقال: فيه "مروان بن سالم الغفاري وهو متروك".
وتعقبه المناوي في "فيض القدير"(6/ 238): بقوله: "تعصيبه الجناية برأسه وحده يؤذن بأنه ليس فيه مما يحمل عليه سواه، والأمر بخلافه، ففيه: "يحيى بن العلاء البجلي الرازي"، قال الذهبي في "الضعفاء والمتروكين": قال أحمد: كذَّاب وضاع.
وقال في "الميزان" قال أحمد: كذاب يضع، "ثم أورد له أخبارًا هذا منها" اهـ.
وانظر: "الضعيفة" للألباني رقم (321).
وخلاصة القول: أن الحديث موضوع، واللهُ أعلم.
(6)
في (أ): "ولد".
(7)
في (أ): "تحنيك المولود".
(8)
البخاري (5467) و (6198)، ومسلم (2145).
قلت: وأخرجه البغوي في "شرح السنة"(11/ 271 رقم 2820)، وأحمد (4/ 399).
قالَ: ولدَ لي غلامٌ فأتيت به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسمَّاه إبراهيمَ، وحنَّكهُ بتمرةٍ ودعَا لهُ بالبركةِ.
التحنيكُ أن يضعَ التمر ونحوَه في حنكِ المولوكِ حتَّى ينزلَ إلى جوفِه منهُ شيءٌ، وينبغي أنْ يكونَ المحنِّكُ من أهلِ الخيرِ ممن تُرجى بركتُه.
* * *
تم بحمد الله المجلَّد السابع من
"سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام"
ولله الحمد والمنَّة
ويليه المجلَّد الثامن
وأَوله: [الكتاب الخامس عشر]
كتاب الأيمان والنذور
* * *