المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

[الكتاب الخامس عشر] كتاب الأَيمان والنذور الأَيمانُ بفتحِ الهمزةِ جمعُ يمينٍ، - سبل السلام شرح بلوغ المرام - ت حلاق - جـ ٨

[الصنعاني]

فهرس الكتاب

[الكتاب الخامس عشر] كتاب الأَيمان والنذور

الأَيمانُ بفتحِ الهمزةِ جمعُ يمينٍ، وأصلُ اليمينِ في اللغةِ اليدُ [الجارحة]

(1)

، وأُطْلِقَتْ على الحلفِ لأنَّهم كانُوا إذا تحالفُوا أَخَذَ كلٌّ بيمينِ صاحبِه. والنذورُ: جمعُ نذرٍ، وأصلُه الإنذارُ بمعنَى التخويفِ، وعرَّفَهُ الراغبُ بأنهُ إيجابُ ما ليسَ بواجبٍ لحدوثِ أمرٍ.

‌النهي عن الحلف بغير الله

1/ 1280 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ في رَكْبٍ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَخلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(عن ابن عمرَ رضي الله عنهما عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ أدركَ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه في ركْبٍ) الركبُ رُكْبانُ الإبِلِ، اسمُ جَمْعٍ، أو جمعٌ، وهمُ العَشَرةُ فصاعِدًا، وقدْ يكونُ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

البخاري رقم (6646)، ومسلم رقم (1646).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3249)، والترمذي رقم (1534)، والنسائي (7/ 5)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2431)، ومالك في "الموطأ"(2/ 480 رقم 14)، وأحمد (2/ 11، 17، 142)، والطحاوي في "المشكل"(1/ 355) وابن ماجه رقم (2094)، والدارمي (2/ 185)، والبيهقي (10/ 29)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 160)، والحميدي رقم (686).

ص: 5

للخيلِ، (وعمرُ يحلفُ بأبيهِ، فناداهمُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ألا إنَّ اللَّهَ ينْهاكم أن تحلفُوا بآبائِكم، فمنْ كانَ حالِفًا فليحلفْ باللَّهِ)، ليسَ المرادُ أنهُ لا يحلفُ إلا بهذَا اللفظِ بدليلِ أنهُ كانَ يحلفُ بغيرِه نحوَ:"مقلِّبِ القلوبِ" كما [سيأتي

(1)

]

(2)

، (أوْ ليصمُتْ) بضمِّ الميمِ مثلَ قتلَ يقتُلُ (متفقٌ عليهِ).

2/ 1281 - وَفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ

(3)

وَالنَّسَائِيِّ

(4)

عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "لَا تَحلِفُوا بِابَائِكُمْ، وَلَا بِأمهَاتِكُمْ، وَلَا بِالأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَّا وَأَنْتُم صَادِقُونَ". [صحيح]

(وفي روايةٍ لأبي داودَ، والنسائيِّ عن أبي هريرةَ مرفُوعًا: لا تحلفُوا بآبائِكم، ولا بأمهاتِكم، ولا بالأندادِ). الندُّ بكسرِ أولهِ المِثْلُ، والمرادُ هنا أصنامُهم وأوثانُهم التي جعلُوها للَّهِ (تعالَى) أمثالًا لعبادتِهم إيَّاها وحَلِفِهِمْ بها، نحوَ قولِهِم: واللاتِ والعُزَّى، (ولا تحلفُوا باللهِ إلا وأنتُم صادقونَ). الحديثانِ [دليلان]

(5)

على النَّهْي عن الحلفِ بغيرِ اللهِ تعالَى، وهوَ للتحريمِ كما هوَ أصلُه، وبهِ قالتِ الحنابلةُ والظاهريةُ

(6)

.

قالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(7)

: لا يجوزُ الحلفُ بغيرِ اللهِ تعالَى بالإجماعِ. وفي روايةٍ عنهُ: أن اليمينَ بغيرِ اللهِ مكروهةُ مَنْهِيٌّ عنْها لا يجوزُ لأحدِ الحلفُ بها. وقولُه: لا يجوزُ، بيانُ أنهُ أرادَ بالكراهةِ التحريمَ كما صرَّحَ بهِ أولًا، وقالَ الماورديُ: لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يحلِّفَ بغيرِ اللهِ (تعالَى) لا بطلاقٍ، ولا [بعتاق]

(8)

، ولا نذرٍ، وإذا حلَّفَ الحاكمُ أحدًا بذلكَ وجبَ عزلُه. وعندَ جمهورِ الشافعيةِ، والمشهورُ عن المالكيةِ أنهُ للكراهةِ، ومثلُه للهادويةِ ما لم يسوِّ في التعظيمِ.

(1)

برقم (6/ 1285) من كتابنا هذا.

(2)

في (ب): "يأتي".

(3)

في "السنن"(3248).

(4)

في "السنن"(3769).

قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 29)، وابن حبان (رقم 1176 - موارد) وهو حديث صحيح.

(5)

في (ب): "دليل".

(6)

انظر: "المحلَّى"(8/ 30، 31).

(7)

في "الاستذكار"(15/ 95 رقم 21145).

(8)

في (ب): "عتاق".

ص: 6

قلتُ: لا يخْفَى أن الأحاديثَ واضحةٌ في التحريمِ لما سمعتَ، ولما أخرجَ أبو داودَ

(1)

، والحاكمُ

(2)

، [واللفظُ له]

(3)

منْ حديثِ ابن عمرَ أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حلفَ بغيرِ اللهِ كفرَ"، وفي روايةِ للحاكمِ

(4)

: "كلُّ يمينٍ يُحْلَفُ بها دونَ اللهِ تعالَى شِرْكٌ"، ورواهُ أحمدُ

(5)

بلفظِ: "مَنْ حلفَ بغيرِ اللهِ فقدْ أشركَ". وأخرجَ مسلمٌ

(6)

: "مَنْ حلفَ منكُمْ [فقالَ]

(7)

في حَلِفِهِ: واللَّاتِ والعُزَّى فليقلْ: لا إلهَ إلا اللهُ". وأخرجَ النسائيُّ

(8)

منْ حديثِ سعدِ بن أبي وقاص أنهُ حلفَ باللَّاتِ والعُزى قالَ: فذكرتُ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "قلْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ علَى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وانفثْ عنْ يسارِكَ ثلاثًا، وتعوَّذْ باللَّهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ ولا تعدْ". فهذهِ الأحاديثُ [الأخيرةُ]

(9)

تقوِّي القولَ [بأنهُ

(1)

في "السنن"(3251).

(2)

في "المستدرك"(1/ 52).

قلت: وأخرجه الترمذي (4/ 110 رقم 1535) وابن حبان (رقم: 1177 - موارد)، والطيالسي رقم (1896)، وأحمد (2/ 125) من طرق عن سعد بن عبيدة.

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقد أعلَّ بالانقطاع فقد قال البيهقي (10/ 29:"وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر".

قلت: وللحديث شواهد يكون بها صحيح إن شاء الله.

وقد صحَّحه الألباني في "الإرواء" رقم (2561).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في "المستدرك"(1/ 18).

(5)

في "المسند"(2/ 86 - 87).

(6)

في "صحيحه"(5/ 1647).

قلت: وأخرجه البخاري أيضًا (6650) كليهما من حديث أبي هريرة.

(7)

في (أ): "وقال".

(8)

في "السنن"(7/ 8 رقم 3777).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2097)، وابن حبان (رقم: 1178 - موارد)، وأحمد (1/ 183، 186، 187) من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد عن أبيه.

ورجاله ثقات رجال الشيخين، غير أن أبا إسحاق وهو السبيعي واسمه عمرو بن عبد اللهِ كان اختلط، ثم هو مدلس وقد عنعنه.

قلت: وله شاهد من حديث أبي هريرة المتقدم.

وخلاصة القول: فهو حديث صحيح لغيره، واللهُ أعلم.

(9)

في (أ): "وما في معناها".

ص: 7

محرَّم]

(1)

لتصريحِها بأنهُ شركٌ منْ غيرِ تأويلٍ، ولذَا أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بتجديدِ الإسلامِ والإتيانِ بكلمةِ التوحيدِ. واستدلَّ القائلُ بالكراهةِ بحديثِ:"أفلحَ - وأبيهِ - إنْ صدقَ"، أخرجَهُ مسلمٌ

(2)

. وأُجِيْبَ عنهُ أوَّلَا بأنهُ قالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(3)

: إنَّ هذهِ اللفظةَ غيرُ محفوظةٍ وقدْ جاءتْ عن راويْها: "أفلحَ واللَّهِ إنْ صدقَ"، بل زعمَ بعضُهم أنَّ راوْيها [صحَّفها، أي]

(4)

: صحَّفَ [لفظة]

(5)

: (واللَّهِ)، إلى:(وأبيهِ).

وثانيًا: أنَّها لم تخرجْ مخرجَ القَسَمِ، بلْ هيَ منَ الكلامِ الذي يجري على الألسنةِ [من غير قصد معناها]

(6)

مثلَ: تربتْ يداهُ. وقولُنا: منْ غيرِ تأويلٍ، إشارةً إلى تأويلِ القائلِ بالكراهةِ فإنهُ تأوَّلَ قولَه:"فقدْ أشركَ" بما قالَهُ الترمذيُّ: قدْ حملَ بعضهم مثلَ هذَا على التغليظِ كما حملَ بعضُهم قولَه: "الرياءُ شركٌ" علَى ذلكَ. وأجيبَ بأنَّ هذَا إنَّما [يدفعُ]

(7)

القولَ بكفرِ مَنْ حلفَ بغيرِ اللهِ ولا يرفعُ التحريمَ، كما أن الرياءَ محرَّمٌ اتفاقًا، ولا يكفرُ مَنْ فعلَه كما قالَ ذلكَ البعضُ. واستدلَّ القائلُ بالكراهيةِ بأنَّ اللَّهَ تعالَى قدْ أقسمَ في كتابهِ المجيد بالمخلوقاتِ منَ الشمسِ

(8)

والقمرِ

(9)

وغيرِهما

(10)

. وأُجِيْبَ بأنهُ ليسَ للعبدِ الاقتداءُ بالربِّ تعالَى،

(1)

في (أ): "بالتحريم".

(2)

في "صحيحه"(9/ 11).

قلت: وأجاب صاحب "الروضة الندية"(2/ 357) بتحقيقنا بجوابين: أحدهما: أن فيه إضمارًا معناه: "ورب أبيه

"، وثانيهما: وهو الأصح أن النهي إنما وقع عمَّا كان على قصد التعظيم للمحلوف باسمه.

(3)

في "التمهيد"(14/ 367): "فإن احتج محتج بحديث يروى عن إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد اللهِ في قصة الأعرابي النجدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفلح - وأبيه - إن صدق"، قيل له: هذه لفظة غير محفوظة في هذا الحديث من حديث من يحتج به، وقد روى هذا الحديث مالك وغيره عن أبي سهيل، لم يقولوا ذلك فيه وقد روي عن إسماعيل بن جعفر هذا الحديث، وفيه: أفلح - واللهِ - إن صدق، أو دخل الجنة - واللهِ - إن صدق"، وهذا أولى من رواية من روى "وأبيه" لأنها لفظة منكرة تردُّها الآثار الصِّحاح، وباللهِ التوفيق" اهـ.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

زياد من (أ).

(7)

في (أ): "يرفع".

(8)

كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1].

(9)

كقوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2].

(10)

كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1].

ص: 8

فإنهُ يفعلُ ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريدُ على أنَّها كلُّها مؤوَّلةٌ بأنَّ المرادَ وربِّ الشمسِ ونحوِهِ. ووجْهُ التحريمِ أن الحِلفَ يقتضي تعظيمَ المحلوفِ بهِ، ومنعَ النفسِ عن الفعلِ أو عزْمَها عليهِ بمجردِ عظمةِ مَنْ حلفَ بهِ، وحقيقةُ العظمةِ مختصَّةٌ باللَّهِ تعالَى، فلا يلحقُ بهِ غيرُه. ويحرمُ الحلِفُ بالبراءةِ منَ الإسلامِ، أوْ منَ الدينِ، أو بأنهُ يهوديٌّ أوْ نحوُ ذلكَ لما أخرجَهُ أبو داودَ

(1)

، وابنُ ماجهْ

(2)

، والنسائيُّ

(3)

بإسنادٍ على شرطِ مسلم منْ حديثِ بريدةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ حلفَ فقالَ إني بريءٌ منَ الإسلامِ، فإن كانَ كاذِبًا فهو كما قالَ، وإنْ كانَ صادِقًا فلنْ يرجِعَ إلى الإسلامِ سالِمًا". والأظهرُ عدمُ وجوبِ الكفارةِ في الحلِفِ بهذهِ المحرَّماتِ، إذِ الكفارةُ مشروعةٌ فيما أذِنَ اللهُ (تعالَى) أنْ يحلفَ بهِ لا فيما نَهَى عنهُ، ولأنهُ لم يذكرِ الشارعُ كفارةً بلْ ذكرَ أنهُ يقولُ كلمةَ التوحيدِ لا غيرُ.

‌اعتبار نية المستحلف في اليمين

3/ 1282 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ"

(4)

. [صحيح]

- وَفي رِوَايَةٍ: "الْيَمِينُ عَلَى نِيةِ الْمُسْتَحْلِفِ"

(5)

، أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يمينُكَ علَى ما يصدِّقُكَ بهِ

(1)

في "السنن" رقم (3258).

(2)

في "السنن" رقم (2100).

(3)

في "السنن" رقم (7/ 6).

قلت: وأخرجه أحمد (5/ 335، 356)، والحاكم (4/ 298) وعنه البيهقي (10/ 30) من طريق الحسين بن واقد ثنا عبد اللهِ بن بريدة عن أبيه به. وقال الحاكم:"صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي.

قلت: الحسين بن واقد إنما أخرج له البخاري تعليقًا، فهو على شرط مسلم وحده.

والخلاصة: أن الحديث صحيح، واللَّهُ أعلم.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1653)، وأحمد (2/ 228، 331)، والترمذي رقم (1354)، وابن ماجه رقم (2121)، والدارمي (2/ 187)، وأبو داود رقم (3255)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2514).

(5)

أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (21/ 1653)، وابن ماجه رقم (2120)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2515).

ص: 9

صاحِبُكَ، وفي روايةٍ: اليمينُ على نيةِ المستحلِفِ. أخرجَهما مسلمٌ). دلَّ الحديث على أن اليمينَ تكونُ على نيةِ المحلِّفِ، ولا تنفعُ نيةُ الحالِفِ إذا نَوَى بها غيرَ ما أظهرهُ. وظاهرُه الإطلاقُ سواءً كانَ المحلِّفُ لهُ الحاكمَ أو المدَّعي للحقِّ، والمرادُ حيثُ كانَ المحلفُ له التحليفُ كما يشيرُ إليه قولُه:"على ما يصدِّقكَ بهِ صاحبُكَ"؛ فإنهُ يفيدُ أن ذلكَ حيثُ كانَ للمحلِّفِ التحليفُ وهوَ حيثُ كانَ صادِقًا فيما [ادَّعاهُ]

(1)

على الحالِفِ، وأما لو كانَ غيرَ ذلكَ كانتِ النيةُ نيةَ الحالِفِ. واعتبرتِ الشافعيةُ أنْ يكونَ المحلِّفُ الحاكمَ وإلا كانتِ النيةُ نيةَ الحالِفِ.

قالَ النوويُّ

(2)

: وأما إذا حلفَ بغيرِ استحلافٍ، وورَّى فتنفعُه ولا يحنثُ، سواءٌ حلفَ ابتداءً منْ غيرِ تحليفٍ أوْ حلَّفه غيرُ القاضي، أو غيرُ نائبهِ، ولا اعتبارَ في ذلكَ نية المحلِّفِ [بكسرِ اللام غيرُ القاضي]

(3)

. والحاصلُ أن اليمينَ علَى نيةِ الحالِفِ في جميعِ الأحوالِ إلَّا إذا استحلفَهُ القاضي أو نائبُه في دعْوى [توجَّهتْ]

(4)

عليهِ، فتكونُ [اليمينُ على]

(5)

نيةِ المستحلِفِ، وهوَ مرادُ الحديثِ. أما إذا حلفَ بغيرِ استحلافِ القاضي أو نائبِه في دعْوى توجَّهتْ عليهِ فتكونُ اليمينُ على نيةِ الحالفِ، وسواءٌ في هذا كلِّهِ اليمينُ باللهِ تعالَى، أوْ بالطلاقِ والعتاقِ، إلا أنهُ إذا حلَّفهُ القاضي بالطلاقِ والعتاقِ فتنفعُه التوريةُ، ويكونُ الاعتبارُ بنيةِ الحالِفِ لأنَّ القاضي ليسَ لهُ التحليفُ بالطلاقِ والعتاقِ، وإنما يستحلفُ باللهِ اهـ.

قلتُ: ولا أدري مِنْ أينَ جاءَ تقييدُ الحديثِ بالقاضي أو نائبه، بلْ ظاهرُ الحديثِ أنهُ إذا استحلفَه مَنْ لهُ الحقُّ فالنيةُ نيةُ المستحلِفِ [مُطْلقًا]

(6)

.

‌من حلف فرأى الحِنث خيرًا كفَّر عن يمينه

4/ 1283 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

في (أ): "دعواه".

(2)

في "شرح صحيح مسلم"(11/ 117).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (أ): "توجه".

(5)

في (أ): "النية".

(6)

زيادة من (ب).

ص: 10

"وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّر عَنْ يَمِينِكَ، وَائتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

وفي لَفْظٍ للْبُخَارِيِّ

(2)

: "فَائتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ". [صحيح]

وَفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ

(3)

: "فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُم ائتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ".

وإسْنَادُهُمَا صَحِيحٌ. [صحيح]

(وعنْ عبدِ الرحمنِ بن سمرةَ)

(4)

بن حبيبٍ بن عبدِ شمسٍ العَبْشميِّ أبو سعيدٍ، [كنيته]

(5)

، صحابيٌّ منْ مسلمةِ الفتحِ، افتتحَ سجستانَ، ثمَّ سكنَ البصرةَ وماتَ بها سنةَ خمسينَ أو بعدَها. (قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذا حلفتَ على يمينِ) أي على محلوفٍ منهُ سمَّاهُ يمينًا مجازًا، (ورأيتَ غيرَها خيرًا منها فكفِّر عنْ يمينِكَ، وأتِ الذي هوَ خيرٌ. متفقٌ عليهِ. وفي لفظِ للبخاريِّ: فأتِ الذي هوَ خيرٌ، وكفِّر عنْ يمينِكَ. وفي روايةِ لأبي داودَ)، [عنْ عبدِ الرحمنِ أيضًا]

(6)

: (فكفِّر عنْ يمينِكَ، ثمَّ ائْتِ الذي هوَ خيرٌ. وإسنادُهما) بالتثنيةِ أي: لفظُ البخاريِّ، وروايةُ أبي داودَ. والأَوْلَى إفرادُ الضميرِ ليعودَ إلى روايةِ أبي داودَ فقطْ لما عُلِمَ منْ عُرْفِهِمْ إنَّ ما في الصحيحينِ صحيحٌ لا يحتاجُ إلى أنْ يقالَ إسنادُه (صحيحٌ). الحديثُ دليلٌ على أن مَنْ حلفَ على شيءٍ وكانَ تركُهُ خيرًا منَ التمادي على اليمينِ وجبَ عليهِ التكفيرُ، وإتيانُ [الذي]

(7)

هوَ خيرٌ كما يفيدُه الأمرُ، ولكنَّه صرَّحَ الجماهيرُ [بأن ذلك

(1)

البخاري رقم (6622)، ومسلم (19/ 1652).

قلت: وأخرجه أحمد (5/ 62، 63)، والدارمي (2/ 186)، والطيالسي رقم (1351)، وأبو داود رقم (3278)، والنسائي (7/ 10)، والبيهقي 10/ 52، 53)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 228).

(2)

في "صحيحه" رقم (7147).

(3)

في السنن رقم (3277)، وهو حديث صحيح.

(4)

انظر ترجمته في: "الاستيعاب" رقم (1440)، و "الإصابة" رقم (5149)، و "سير أعلام النبلاء"(2/ 571)، و "أسد الغابة" رقم (3323).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

زيادة من (ب)

(7)

في (ب): "ما".

ص: 11

مستحب لا واجب]

(1)

. وظاهرُ وجوبِ تقديمِ الكفارةِ، ولكنَّهُ ادَّعَى الإجماعَ على عدمِ وجوب تقديمِها، وعلى جوازِ تأخيرها إلى بعدَ الحنثِ [لا يصحُّ تقديمُها قبلَ اليمينِ. وَدلتْ روايةُ:"ثمَّ ائْتِ الذي هوَ خيرٌ" على أنهُ يقدمُ الكفارةَ]

(2)

[قبل الحنث]

(3)

[للاقتضاء]

(4)

، (ثمَّ) الترتيبَ، وروايةُ الواوِ تُحْمَلُ علَى روايةِ (ثمَّ) حملًا للْمطلَقِ على المقيَّدِ، فإنْ تمَّ الإجماعُ [على جوازِ تأخيرِها]

(5)

، وإلا فالحديثُ دالٌ على وجوبِ تقديمِها. وممنْ ذهبَ إلى جوازِ تقديمِها على الحنْثِ مالكٌ والشافعيُّ وغيرُهما، وأربعةَ عشر [صحابيًا]

(6)

، وجماعةٌ منَ التابعينَ، وهوَ قولُ جماهيرِ العلماء

(7)

. لكنْ قالُوا: يستحبُّ تأخيرُها عن الحنثِ، وظاهرُه أن هذا جارٍ في جميعِ أنواعِ [الكفارات]

(8)

.

وذهبَ الشافعيُّ إلى عدمِ إجزاءِ تقديمِ التكفيرِ بالصومِ وقالَ: لا يجوزُ قبلَ الحنثِ لأنَّها عبادةٌ بدنيةٌ، لا يجوزُ تقديمُها على وقْتِها كالصلاةِ وصومِ رمضانَ، وأما التكفيرُ بغيرِ الصوم فجائزٌ تقديمُه كما يجوزُ تعجيلُ الزكاةِ. وذهبتِ الهادويةُ والحنفيةُ إلى أنهُ لا يجوزُ تقديمُ التكفيرِ على الحنثِ على كلِّ حالٍ.

قالتَ الهادويةُ: لأنَّ سببَ وجوبِ الكفارةِ هوَ مجموعُ الحنثِ واليمينِ، فلا يصحُّ التقديمُ قبلَ تمامِ سببِ الوجوبُ، وعندَ الحنفيةِ السببُ الحِنْثُ

(9)

.

(1)

في (ب): "بأنه إنه إنما يستحب له ذلك لا أنه يجب".

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (ب): "الاقتضاء".

(5)

في (أ): "فذلك".

(6)

في (ب): "من الصحابة".

(7)

قال مالك، والشافعي، والليث بن سعد، والأوزاعي، وعبد اللهِ بن المبارك، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق: لا بأس أن يكفر قبل الحنث.

وقال مالك، والشافعي، والثوري: ولو حنث ثم كفَّرَ كانَ أحبَّ إلينا.

قال أبو عمر: رُويَ جوازُ الكفارة قبل الحنث عن ابن عمر، وسلمان، ومسلمةَ بن مخلد، وأبي الدرداء، وابن سيرين، وجابر بن زيد.

[انظر: "الاستذكار" (15/ 78 - 79)].

(8)

في (ب): "الكفارة".

(9)

وقدم الحِنْثُ قبل الكفارة في حديث:

• عدي بن حاتم: الذي أخرجه مسلم رقم (17/ 1651)، والنسائي (7/ 11)، والبيهقي =

ص: 12

ولا يخْفَى أن الحديثَ [دلَّ]

(1)

على خلافِ ما علَّلُوا بهِ، وذهبُوا إليهِ.

فالقولُ الأولُ أقربُ إلى العملِ بهِ.

‌الاستثناء في اليمين

5/ 1284 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ

(2)

رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللهُ، فَلا حِنْثَ عَلَيْهِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(3)

، وَالأَرْبَعَةُ

(4)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(5)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ (2) رضي الله عنهما أَن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: منْ حلفَ على يمينٍ فقالَ: إنْ شاءَ الله فلا حنثَ عليهِ. رواهُ أحمدُ والأربعة، وصحَّحَة ابن حبَّانَ).

= (10/ 32)، وأحمد (4/ 257، 259)، والطيالسي رقم (1027).

• وأبي الدرداء: الذي أخرجه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات كما في "مجمع الزوائد"(4/ 184).

• وعائشة: الذي أخرجه البخاري رقم (4614) ورقم (6621).

وعبد الله بن عمرو الذي أخرجه أحمد (2/ 185) و (2/ 211) و (2/ 212)، والطيالسي رقم (2259)، والنسائي (7/ 10)، وابن ماجه رقم (2111)، والبيهقي (10/ 33، 34).

• وأنس: أخرجه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح. كما في "مجمع الزوائد"(4/ 183).

• وأبي موسى: الذي أخرجه البخاري رقم (6623)، ومسلم رقم (10/ 1649)، وأبو داود رقم (3276)، وابن ماجه رقم (2107)، والنسائي (7/ 9).

كل هؤلاء روَوا عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقالوا فيه: "فليأت الذي هو خير، ثم ليكفِّر عن يمينه بتبدية الحنث قبل الكفارة".

(1)

في (ب): "دال".

(2)

في "المخطوطة"(ب): عن أبي هريرة. وفي (أ): عن ابن عمر وهو الأوفق لكلام الصنعاني في شرحه.

(3)

في "المسند"(2/ 68، 127، 153).

(4)

أبو داود رقم (3262)، والترمذي رقم (1531)، وابن ماجه رقم (2105)، والنسائي (7/ 12).

(5)

في "صحيحه" رقم (4342). وقال الترمذي: حديث ابن عمر حديث حسن.

قلت: وأخرجه البيهقي (10/ 46). والخلاصة: أن الحديث صحيح.

ص: 13

قالَ الترمذيُّ

(1)

: لا نعلمُ أحدًا رفعَه غيرَ أيوبَ السختيانيِّ، قالَ ابنُ عليةَ: كانَ أيوبُ يرفعهُ تارةً وتارةً لا يرفعُه.

قالَ البيهقيُّ: لا يصحُّ رفْعُه إلا عنْ أيوبَ معَ أنهُ شكَّ فيهِ.

قلتُ: كأنهُ يريدُ أنهُ رفعهُ تارةً ووقفَهُ أُخْرى، ولا يخْفَى أن أيوبَ ثقةٌ حافظٌ لا يضرُّ تفردُه برفعِه، وكونُهُ وقفَه تارةً لا يقدحُ فيهِ، لأنَّ رفعَهُ زيادةُ عدلٍ مقبولةٌ، وقدْ رفعهُ عبدُ اللهِ العمريُّ، وموسى بنُ عقبةَ، وكثيرُ بنُ فرقدٍ، [وأيوبُ بنُ موسَى]

(2)

، وحسانُ بنُ عطيةَ كلُّهم عنْ نافعٍ مرفوعًا، [فقويَ]

(3)

رفْعُه على أنهُ وإنْ كانَ موقُوفًا فلهُ حكمُ الرفعِ؛ إذْ لا مسرحَ للاجتهادِ فيهِ. وإلى ما أفادَه الحديثُ ذهبَ الجماهيرُ، وقالَ ابنُ العربي

(4)

: أجمعَ المسلمونَ بأنَّ قولَه: إنْ شاءَ اللهُ، يمنعُ انعقادَ اليمينِ بشرطِ كونِه متصلًا. قالَ: ولو جازَ منفصِلًا كما [قالَ]

(5)

بعضُ السلفِ لم يحنثْ أحدٌ في يمينٍ ولم يحتجْ إلى [الكفارةِ]

(6)

. واختلفُوا في زمنِ الاتصالِ.

فقالَ الجمهورُ: هوَ أنْ يقولَ إنْ شاءَ اللهُ متصلًا باليمينِ من غيرِ سكوتٍ بينَهما [ولا يضرُّه التنفسُ]

(7)

.

قلتُ: وهذَا هوَ الذي تدلُّ لهُ الفاءُ في قولِه: "فقالَ". وعنْ طاوسٍ والحسنِ وجماعةٍ منَ التابعينَ أن لهُ الاستثناءَ ما لم يقمْ منْ مجلسِه، [وقال عطاءٌ]

(8)

: قدْرَ حلبةِ الناقةِ.

وقالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ: بعدَ أربعةَ أشهرٍ، وقالَ ابنُ عباسٍ لهُ الاستثناءُ أبدًا حتى يذكرهُ.

قلتُ: وهذهِ تقاديرُ خاليةٌ عن الدليلِ. وقدْ تأوَّلَ بعضُهم هذهِ الأقاويلَ بأنَّ مرادَهم أنهُ يستحبُّ لهُ أنْ يقولَ إنْ شاءَ اللهُ تبرّكًا أو وجوبًا كما ذهبَ إليهِ بعضُهم

(1)

في السنن (4/ 108).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (أ): "يقوي".

(4)

في "عارضة الأحوذي"(7/ 13).

(5)

في (أ): "زعم".

(6)

في (أ): "كفارة".

(7)

في (أ): "ولا يضر النفس".

(8)

زيادة من (ب).

ص: 14

لقولِه تعالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}

(1)

، فيكونُ الاستثناءُ رافِعًا للإثمِ الحاصلِ بتركهِ، أو لتحصيلِ ثوابِ الندبِ على القولِ باستحبابِه، ولم يريدُوا بهِ حلَّ اليمينِ ومنعَ الحِنْثِ. واختلفُوا: هلِ الاستثناءُ مانعٌ للحنثِ في الحلفِ باللَّهِ وغيرِه منَ الظهارِ والنذرِ والإقرارِ؟ فقالَ مالكٌ: لا ينفعُ إلا في الحلفِ باللَّهِ دونَ غيرِه واستقواهُ ابنُ العربي، واستدلَّ بأنهُ تعالَى قالَ:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}

(2)

، قال: الاستثناء أخو الكفارة، فلا يدخلُ في ذلكَ إلا اليمينُ الشرعيةُ، وهيَ الحلفُ باللَّهِ. وذهبَ أحمدُ إلى أنهُ لا يدخلُ العتقُ لما أخرجَهُ البيهقيُّ

(3)

منْ حديثِ معاذٍ مرفُوعًا: "إذا قالَ لامرأتِه أنتِ طالقٌ إنْ شاءَ اللهُ لم تطلُقْ، وإذا قالَ لعبدِه أنتَ حرٌّ إنْ شاءَ اللهُ، فإنهُ حرٌّ". إلا أنهُ قالَ البيهقيُّ: [تفرَّدَ]

(4)

بهِ حميدُ بنُ مالكٍ وهوَ مجهولٌ

(5)

، واختُلِفَ عليهِ في إسنادِهِ. وذهبتِ الهادويةُ إلى أن الاستثناءَ بقولِه إنْ شاءَ اللهُ يعتبر فيهِ أنْ يكونَ المحلوفُ عليهِ فيما يشاؤه اللهُ أوْ لا يشاؤُه، فإنْ كانَ مما يشاؤُه اللهُ بأنْ كانَ واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا في المجلسِ، أو حالَ التكلُّمِ، لأنَّ مشيئةَ اللهِ حاصلةٌ في الحالِ، فلا تبطلُ اليمينُ بل [تنعَقدُ]

(6)

بهِ، وإنْ كانَ لا يشاؤُه بأنْ يكونَ محظورًا أوْ مكْروهًا فلا تنعقدُ اليمينُ، فجعلُوا حكمَ الاستثناءِ بالمشيئةِ حكمَ التقييدِ بالشرطِ، فيقعُ المعلَّق عندَ وقوعِ المعلَّقِ بهِ وينتفي بانتفائِه، وكذا قولُه: إلا أنْ يشاءَ اللهُ، حكْمُه حكمُ إنْ شاءَ اللهُ. ولا يخْفَى أن الحديثَ لا تطابقُه هذهِ الأقوالُ. وفي قولِه: فقالَ "إنْ شاءَ اللهُ" دليلٌ على أنهُ لا يكفي في الاستثناءِ النيةُ، وهوَ قولُ كافةِ العلماءِ، وحُكِيَ عنْ بعضِ المالكيةِ صحةُ الاستثناءِ بالنيةِ منْ غيرِ لفظٍ. وإلى هذا أشارَ البخاريُّ وبوَّبَ عليهِ: بابُ النيةِ في الأَيْمانِ

(7)

، (يعني بفتحِ الهمزةِ). ومذهبُ الهادويةِ صحةُ الاستثناءِ بالنيةِ وإنْ لم يلفظْ بالعمومِ إلا منْ عددٍ منصوصٍ، فلا بدَّ منَ الاستثناءِ باللفظِ.

(1)

سورة الكهف: الآية 24.

(2)

سورة المائدة: الآية 89.

(3)

في "السنن الكبرى"(7/ 361) بسند ضعيف جدًّا.

(4)

في (أ): "يتفرد".

(5)

انظر ترجمته في: "الميزان"(1/ 616)، والمغني في الضعفاء (1/ 195)، و "الكامل"(2/ 694).

(6)

في (أ): "تنقيد".

(7)

في "صحيحه"(11/ 571 رقم الباب 23).

ص: 15

‌كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم

6/ 1285 - وَعَنْهُ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: كانتْ يمينُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا ومقلِّبَ القلوبِ. رواهُ البخاريُّ). المرادُ أن هذا اللفظَ الذي كانَ يواظبُ عليهِ صلى الله عليه وسلم في القسمِ. وقدْ ذكرَ البخاريُّ الألفاظَ التي كانَ صلى الله عليه وسلم يقسمُ بها: "لا ومقلِّبَ القلوبِ"، وفي روايةٍ: (لا ومصرِّفِ القلوب

(2)

، والذي نفسي بيدِه

(3)

- والذي نفسُ محمدٍ بيدِه

(4)

- واللَّهِ

(5)

- وربِّ الكعبةِ)

(6)

. ولابنِ أبي شيبةَ

(7)

: (كانَ إذا اجتهدَ في اليمينِ قالَ: لا والذي نفسُ أبي القاسمِ بيدِه). ولابنِ ماجهْ

(8)

: (كان يمينُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم التي يحلفُ بها: أشهدُ عندَ اللهِ، والذي نفسي بيدهِ). والمرادُ بتقليبِ القلوبِ تقليبُ أعراضِها وأحوالِها، [لا تقليبُ]

(9)

[ذات القلبِ]

(10)

.

(1)

في "صحيحه"(11/ 523 رقم 6628).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3263)، والترمذي رقم (1540)، والنسائي (7/ 2).

(2)

أخرجه النسائي (7/ 2، 3 رقم 3762)، وابن ماجه رقم (2092) من حديث ابن عمر، وهو حديث صحيح.

(3)

أخرجه البخاري (11/ 523 رقم 6629) من حديث جابر بن سمرة.

(4)

أخرجه البخاري (11/ 523 رقم 6630) من حديث أبي هريرة.

(5)

أخرجه البخاري (11/ 523 رقم 6631) من حديث عائشة.

(6)

أخرجه البخاري (11/ 524 رقم 6638)، ومسلم رقم (990) من حديث أبي ذر.

(7)

وكذلك أخرجه أبو داود في "السنن"(3/ 577 رقم 3264) من حديث أبي سعيد الخدري وهو ضعيف.

(8)

في "السنن"(1/ 676 رقم 2091) من حديث رفَاعَةَ بن عَرَابَةَ الجهني وسنده ضعيف لضعف محمد بن مصعب، وعبد الملك بن محمد، ولكن لم ينفردا به عن الأوزاعي.

كما رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" عن إسحاق بن منصور عن أبي المغيرة، وعن هشام بن عمار عن يحيى بن حمزة كلاهما عن الأوزاعي به.

انظر: "مصباح الزجاجة"(2/ 141 رقم 736/ 2091).

قلت: الحديث صحيح بالمتابعة التي أخرجها أحمد في "المسند"(4/ 16) والتي أخرجها النسائي.

إحداهما على شرط الشيخين، والثانية: على شرط البخاري. انظر: "الصحيحة" رقم (2069).

(9)

في (أ): "لا تقلب".

(10)

في (أ): "ذوات القلوب".

ص: 16

قالَ الراغبُ

(1)

: "تقليبُ اللهِ القلوبَ والبصائرَ صرفُها عنْ رأيٍ إلى رأيٍ. والتَّقَلُّبُ التصرفُ، قالَ اللهُ تعالَى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ}

(2)

قالَ ابنُ العربيِّ

(3)

: القلبُ جزءٌ منَ البدنِ [خلقَهُ]

(4)

اللهُ وجعله للإنسانِ محلَّ العلمِ والكلامِ وغيرِ ذلكَ منَ الصفاتِ الباطنةِ، وجعلَ ظاهرَ البدنِ محلَّ التصرفاتِ الفعليةِ والقوليةِ، ووكَّلَ بهِ ملَكًا يأمرُ بالخيرِ، وشيطانًا يأمرُ بالشرِّ. والعقلُ بنوره يهديهِ، والهوَى بظلمتِه يُغْوِيهِ، والقضاءُ مسيطرٌ على الكلِّ. والقلبُ يتقلَّبُ بينَ الخواطرِ الحسنةِ والسيئةِ، [واللمَّةُ منَ الملكِ تارةً ومنَ الشيطانِ أُخْرى، والمحفوظُ]

(5)

[مَنْ حفظَهُ اللهُ]

(6)

اهـ.

قلتُ: وقولُه: والكلام بناءً منهُ على إثباتِ الكلام النفسيِّ، وأنَّ محلَّه القلبُ. وقولُه صلى الله عليه وسلم:(لا) ردٌّ ونفيٌ للسابقِ منَ الكلامِ. والحديثُ دليل على جوازِ الإقسام بصفةٍ منْ صفاتِ اللهِ، وإنْ لم تكنْ منْ صفاتِ الذاتِ. وإلى هذا ذهبتِ الهادوية حيثُ قالُوا: الحلفُ باللَّهِ أو بصفةٍ لذاتِه، أو لفعلِه لا يكونُ على ضدِّها، ويريدونَ بصفةِ الذاتِ كالعلمِ والقدرةِ، ولكنَّهم قالُوا: لا بدَّ منْ إضافَتِها إلى اللهِ تعالَى، كعلمِ اللهِ، ويريدونَ بصفةِ الفعلِ العهدَ والأمانة إذا أُضِيْفَتْ إلى اللهِ (تعالَى) إلَّا أنهُ قدْ وردَ حديثٌ في النهي عن الحلفِ بالأمانةِ أخرجَهُ أبو داودَ

(7)

منْ حديثِ بريدةَ بلفظِ: "منْ حلفَ بالأمانةِ فليسَ منَّا"؛ وذلكَ لأنَّ الأمانةَ ليستْ منْ صفاتِه تعالَى بلْ من فروضهِ على العبادِ، وقولُهم: لا يكونُ على ضدِّها احترازٌ عن الغضبِ والرِّضَا والمشيئةِ فلا [تنعقدُ]

(8)

بها اليمينُ. وذهبَ ابنُ حزم

(9)

- وهوَ ظاهرُ كلامِ المالكيةِ والحنفيةِ - أن جميعَ الأسماءِ الواردةِ في القرآنِ والسنةِ

(1)

في "المفردات في غريب القرآن"(ص 411).

(2)

سورة النحل: الآية 46.

(3)

في "عارضة الأحوذي"(7/ 22).

(4)

في (أ): "خلق".

(5)

زيادة من (ب).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

في "السنن"(4/ 571 رقم 3253)، وهو حديث صحيح.

وأورده الألباني في الصحيحه رقم (94).

(8)

في (أ): "ينعقد".

(9)

في "المحلَّى"(8/ 30).

ص: 17

الصحيحةِ، وكذَا الصفاتُ صريحٌ في اليمينِ ويجبُ [به]

(1)

الكفارةُ، وفصَّلتِ الشافعيةُ في المشهورِ عنْهم والحنابلةُ فقالُوا: إنْ [كانَ]

(2)

اللَّفظُ يختصُّ باللَّهِ تعالَى كالرحمنِ، وربِّ العالمينَ، وخالقِ الخلقِ، فهوَ صريحٌ تنعقد بهِ اليمينُ، سواءٌ قصدَ اللَّهَ تعالى أو أطْلَقَ، وإنْ كانَ يطلقُ عليهِ تعالَى وعلى غيرِه [لكنْ يقيَّدُ]

(3)

كالربِّ والخالقِ فتنعقدُ بهِ اليمينُ إلَّا أنْ يقصدَ بهِ غيرَه تعالَى، وإنْ كانَ يطلقُ عليهِ تعالَى وعلى غيرِه على السواءِ نحوَ الحيِّ والموجودِ، فإنْ نوَى غيرَ اللهِ تعالَى أو أطلقَ فليسَ بيمينٍ، وإنْ نَوى بهِ اللَّهَ تعالَى انعقدَ على الصحيحِ.

‌ما يُحلف عليه

7/ 1286 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ أَعْرَابيٌّ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:"الْيَمِينُ الْغَمُوسُ". وَفِيهِ: قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: "الَّتي يَقْتَطِعُ بها مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ"، أَخْرَجَهُ البخاري

(4)

. [صحيح]

(وعنْ عبدِ اللهِ بن عمرٍو) أي ابن العاصِ (قالَ: جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ اللهِ ما الكبائرُ؟ فذكرَ الحديثَ. وفيهِ: اليمين الغموسُ)، وهيَ بفتحِ الغينِ المعجمةِ، وضمِّ الميمِ آخرَه مهملةٌ (وفيهِ قلتُ:) ظاهرُه أن السائلَ ابنُ عمرٍو راوي الحديثِ، والمجيبَ هوَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أنْ يكونَ السائلُ غيرَ عبدِ اللهِ لعبدِ اللهِ، وعبدُ اللهِ المجيبُ، والأولُ أظهرُ

(5)

. (وما اليمين الغموسُ؟ قالَ: [التي يَقْتَطِعُ]

(6)

بها مالَ امريءٍ مسلمٍ هوَ فيها كاذبٌ. أخرجَه البخاريُّ).

اعلمْ أن اليمينَ إما أنْ تكونَ بعقدِ قلبٍ وقصدٍ أوْ لا، بلْ تجري على

(1)

في (أ): "بها".

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (أ): "لا يقيد".

(4)

في "صحيحه"(11/ 555 رقم 6675)، و (12/ 191 رقم 6870) و (12/ 264 رقم 6920).

(5)

قال الحافظ في "فتح الباري"(11/ 556): "فظهر أن السائل عن ذلك فراس، والمسؤول الشعبي وهو عامر، فللَّه الحمد على ما أنعم، ثم للهِ الحمد ثم للهِ الحمد، فإني لم أر من تحرَّر له ذلك من الشرَّاح" اهـ.

(6)

في (أ): "الذي يقطع".

ص: 18

اللسانِ بغيرِ عقدِ قلبٍ إنَّما يقع بحسبِ ما تعوَّدهُ المتكلمُ، سواءً كانتْ بإثباتٍ أوْ نفي نحوَ: واللَّهِ، وبلَى واللَّهِ، ولَا واللَّهِ، فهذهِ هي اللغوُ الذي قالَ اللهُ تعالَى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}

(1)

كما يأتي دليلُه، وإنْ كانتْ عنْ عقدِ قلبٍ فينظرُ إلى حالِ المحلوفِ عليهِ، فينقسمُ بحسبِه إلى أقسامٍ خمسةٍ: إمَّا أنْ يكونَ معلومَ الصدقِ، أوْ معلومَ الكذبِ، أوْ مظنونَ الصدقِ، أو مظنونَ الكذبِ، أو مشكوكًا فيهِ:

فالأولُ: يمينٌ برَّةٌ صادِقةٌ وهيَ التي وقعتْ في كلامِ اللهِ تعالَى نحوَ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}

(2)

، ووقعتْ في كلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قالَ ابنُ القيِّمِ

(3)

: إنهُ صلى الله عليه وسلم حلفَ في أكثرَ منْ ثمانينَ موضِعًا، وهذهِ هيَ المرادةُ في حديثِ:"إنَّ اللَّهَ تعالَى يحبُّ أنْ يُحْلَفَ بهِ"

(4)

، وذلكَ لما يتضمنُ منْ تعظيمِ اللهِ تعالَى.

والثاني: وهوَ معلومُ الكذبِ اليمينُ الغموسُ، ويُقَالُ لها الزورُ والفاجرةُ، وسُمِّيَتْ في الأحاديثِ: يمينَ صبرٍ ويمينًا مصبورةً، قالَ في "النهايةِ"

(5)

: سمِّيتْ غموسًا لأنَّها تغمسُ صاحبَها في النارِ، فعلَى هذا هيَ فعولٌ بمعنَى فاعلٍ. وقدْ فسَّرها في الحديثِ بالتي يُقْتَطَعُ بها مالُ المرءِ المسلم، فظاهرُه أنَّها لا تكونُ غموسًا إلا إذا اقتُطِعَ بها مالُ امرئٍ مسلمٍ، [لا أن]

(6)

كلَّ محلوفٍ عليهِ كَذِبًا يكونُ غموسًا، ولكنَّها تُسَمَّى فاجرةُ.

الثالثُ: ما ظُنَّ صدقُه وهوَ قسمانِ:

الأولُ: ما انكشفَ فيهِ الإصابةُ، فهذَا ألحقَهُ البعضُ بما عُلِمَ؛ إذْ [بالانكشافِ]

(7)

صارَ مثلَه.

والثاني: ما ظُنَّ صدقُه وانكشفَ خلافُه، وقدْ قيلَ: لا يجوزُ الحلفُ في هذينِ القسمينِ، لأنَّ وضعَ الحلفِ لقطعِ الاحتمالِ، فكأنَّ الحالِفَ يقولُ: أنا أعلمُ مضمونَ الخبرِ، وهذا كذبٌ فإنهُ إنما حلفَ على ظنِّه.

(1)

سورة البقرة: الآية 225، والمائدة: الآية 89.

(2)

سورة الذاريات: الآية 23.

(3)

في "زاد المعاد"(1/ 41) و (2/ 127، 128) ط: البابي الحلبي بمصر.

(4)

فلينظر من أخرجه؟!

(5)

(3/ 386).

(6)

في (أ): "لأن".

(7)

في (أ): "الانكشاف".

ص: 19

الرابعُ: ما ظُنَّ كذبُه والحلفُ عليهِ محرَّمٌ.

الخامسُ: ما شُكَّ في صِدْقِه وكذبِه وهوَ أيضًا محرَّمٌ. فتلخَّصَ أنهُ يحرمُ ما عدَا المعلومَ صدقُه. وقولُه: ما الكبائرُ؟ فيهِ دليلٌ على أنهُ قدْ كانَ معلومًا عندَ السائلِ أنّ في المعاصي كبائرُ وغيرُها. وقدِ اختلفَ العلماءُ في ذلكَ، فذهبَ إمامُ الحرمينِ وجماعةٌ منْ أئمةِ العلمِ إلى أن المعاصي كلَّها كبائرُ. وذهبَ الجماهيرُ إلى أنَّها تنقسمُ إلى كبائرَ وصغائرَ، واستدلُّوا بقولِه تعالَى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}

(1)

، وقوله تعالَى:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ}

(2)

.

قلتُ: ولا يخْفَى أنهُ لا دليلَ على [تسميةِ] شيءٍ منَ المعاصي صغائرَ، وهوَ محلُّ النزاعِ. وقيلَ: لا خلافَ في المعنَى، إنَّما الخلافُ لفظي لاتفاقَ الكلِّ علَى أن منَ المعاصي ما يقدحُ في العدالةِ، ومنْها ما لا يقدحُ فيها.

قلت: وفيهِ أيضًا تأمُّلٌ. وقولُه: (فذكرَ الحديثَ) ذكرَ فيهِ الإشراكَ باللَّهِ، وعقوقَ الوالدينِ، وقتلَ النفسِ، واليمينَ الغموسِ.

‌الكبر والصغر في الذنوب أمر نسبي

وقدْ تعرَّضَ الشارحُ

(3)

رحمه الله إلى ما قالَهُ العلماءُ في تحديدِ [الكبيرةِ]

(4)

، وأطالَ نَقْلَ أقاويلِهم في ذلكَ، وهيَ أقوال مدخولةٌ. الحق أن الكِبَرَ والصِّغَرَ أمرٌ نِسْبي فلا يتمُّ الجزمُ بأنَّ هذا صغيرٌ وهذا كبيرٌ إلا بالرجوعِ إلى ما نصَّ الشارعُ على كِبَرِه، فما نصَّ على كبره فهوَ كبيرةٌ، وما عداهُ باقي على الإبهامِ والاحتمالِ.

‌عدّ الكبائر عن العلائي

وقدْ عدَّ العلائيُّ في قواعده [الكبائرَ] المنصوصَ عليها بعدَ تَتَبُّعِها منَ النصوصِ فأبلغَها خمسًا وعشرين، وهي الشركُ باللَّهِ، والقتلُ، والزِّنَى، (وأفحشُه بحليلةِ الجارِ)، والفرارُ منَ الزحفِ، وأكْلُ الربا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وقذفُ المحصناتِ، والسحرُ، والاستطالةُ في عِرْض المسلمِ بغيرِ حقٍّ، وشهادةُ الزورِ،

(1)

سورة النساء: الآية 31.

(2)

سورة الشورى: الآية 37.

(3)

أي المغربي صاحب "البدر التمام".

(4)

في (أ): "الكبائر".

ص: 20

واليمينُ الغموسُ، والنميمةُ، والسرقةُ، وشربُ الخمرِ، واستحلالُ بيتِ اللَّهِ الحرامِ، ونكثُ الصفقةِ، وتركُ السنةِ، والتعرُّبُ بعدَ الهجرةِ، واليأسُ منْ رَوْحِ اللهِ، والأمنُ منْ مكْرِ اللَّهِ، ومنعُ ابن السبيلِ منْ فضلِ الماءِ، وعدمُ التنزهِ منَ البولِ، وعقوقُ الوالدينِ والتسببُ إلى شتْمِهِمَا، والإضرارُ في الوصيةِ.

وتعقبَ بأنَّ السرقةَ لم يردِ النصَّ بأنَّها كبيرةٌ، وإنَّما في الصحيحينِ

(1)

: "لا يسرقُ السارقُ حينَ يسرقُ وهوَ مؤمنٌ"، وفي روايةِ النسائيِّ

(2)

: "فإنْ فعلَ ذلكَ فقدْ خلعَ ربْقةَ الإسلامِ منْ عُنُقِهِ. فإنْ تابَ تابَ اللَّهُ عليهِ". وقدْ جاءَ في أحاديثَ صحيحةٍ النصُّ على الغلولِ

(3)

، وهوَ إخفاءُ بعضِ الغنيمةِ بأنهُ كبيرةٌ. وجاءَ في الجمعِ بينَ الصلاتينِ لغيرِ عذرٍ

(4)

، ومنعُ الفحْلِ، ولكنَّه حديثٌ ضعيفٌ

(5)

. وجاءَ

(1)

البخاري رقم (2475)، ومسلم رقم (102/ 57) من حديث أبي هريرة.

(2)

في "السنن"(4872) من حديث أبي هريرة.

(3)

(منها): ما أخرجه البخاري (11/ 592 رقم 6707)، ومسلم (8/ 101 رقم 183/ 115)، ومالك (2/ 459 رقم 25)، والنسائي (7/ 24)، وأبو داود (3/ 155 رقم 2711).

عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ خيبر فلم نغنم ذهبًا ولا فِضَّة إلا الأموال والثيابَ والمتاعَ، فأهدى رجل من بني الضُّبَيب، يقال له رفاعة بن زيد لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غلامًا يقال له مدعمٌ، فوجَّهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى حتى إذا كان بوادي القرى بينما مدعم يحطُّ رحلًا لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سهمٌ عائر فقتله، فقال الناس هَنِيئًا له الجنة، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملةَ التي أخذها يومَ خيبرَ من المغانم لم تُصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا. فلما سمع ذلك الناسُ جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شِراك من نار أو شراكان من نار".

و (منها): حديث عمر بن الخطاب عند مسلم (1/ 107 رقم 182/ 114). قال: لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، وفلانٌ شهيد، وفلانٌ شهيد حتى مَروا على رَجُلٍ فقالوا: فلانٌ شهيد، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَلَّا إني رأيتُهُ في النار في بُردة غَلَّهَا أو عباءَةٍ".

(4)

أخرج الحاكَم في "المستدرك"(1/ 275) عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من جَمَعَ بين صلاتين من غيرِ عُذر فقد أَتَى بابًا من أبواب الكبائر".

قال الحاكم: حنش بن قيس ثقة. وتعقبه الذهبي فقال: بل ضعَّفوه.

والخلاصة: أنّ الحديث ضعيف، والله أعلم.

(5)

أخرج البزار - كما في الزواجر - (1/ 230) عن بريدة أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أكبر الكبائر الإشراك باللهِ، وعقوق الوالدين، ومنع فضل الماء، ومنع الفحل".

وقال ابن حجر الهيثمي: "تنبيه: عدّ هذا كبيرة هو ما وقع في كلام الجلال البلقيني لكنه =

ص: 21

في الأحاديثِ ذكرُ الكبائرِ كحديثِ أبي هريرةَ: "إنَّ منْ أكبرِ الكبائرِ استطالةُ المرءِ المسلم في عرضِ رجلٍ مسلمٍ"، أخرجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادٍ حسنٍ

(1)

، ونحوُهُ منَ الأحاديثِ، ولا مانعَ منْ أنْ يكونَ في الذنوبِ الكبيرُ والأكبرُ، وظاهرُ الحديثِ أنهُ لا كفارةَ في الغموسِ. وقدْ نقلَ ابنُ المنذرِ وابنُ عبدِ البرِّ اتفاقَ العلماءِ على ذلكَ. وقدْ أخرجَ ابنُ الجوزي في التحقيق

(2)

عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه مرفوعًا أنهُ سمعَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ليسَ فيها كفارةُ يمينٍ صبرٍ يقتطعُ بها مالًا بغيرِ حقٍّ"، وفيهِ راوٍ مجهولٌ. وقدْ رَوَى آدمُ بنُ أبي إياسٍ، وإسماعيلُ القاضي

(3)

، عن ابن مسعودٍ موقوفًا:"كنَّا نعدُّ الذنبَ الذي لا كفارةَ لهُ، اليمينُ الغموسُ أنْ يحلفَ الرجلُ على مالِ أخيهِ كاذِبًا ليقتطِعَهُ". قالُوا: ولا مخالفَ لهُ منَ الصحابةِ، لكنه تكلَّمَ ابنُ حزمٍ في صحةِ أثرِ ابن مسعودٍ

(4)

. وإلى عدمِ الكفارةِ ذهبتِ الهادويةُ. وذهبَ الشافعي وآخرونَ إلى وجوبِ الكفارةِ فيها، وهوَ الذي اختارَهُ ابنُ حزمٍ في "شرحِ المحلَّى"

(5)

لعمومِ قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ}

(6)

الآية. واليمينُ الغموسُ معقودةٌ قالُوا: والحديثُ لا تقومُ بهِ حجةٌ حتَّى تخصصَ الآيةُ، والقولُ بأنهُ لا يكفِّرُها إلا التوبةُ، فالكفارةُ تنفعهُ في رفْعِ إثم اليمينِ، ويبقَى في ذمتهِ ما اقتطَعه بها منْ مالِ أخيهِ، فإنْ تحلَّلَ منهُ وتابَ محا اللهُ تعالَى عنهُ الإثمَ.

‌اللغو من الأيمان ما لا يكون عن قصد الحلف

8/ 1287 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها في قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}

(7)

= قال بعد ذلك: إسناد حديثه ضعيف ولا يبلغ ضرره ضرر غيره من الكبائر. وإنما ذكرناه لتقدم ذكره في الحديث" اهـ. قلت: والخلاصة: فالحديث ضعيف لا تقوم به حجة.

(1)

وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت وحفظ اللسان" رقم (727) من حديث أبي هريرة بلفظ: "من الكبائر: استطالةُ الرجلُ في عرْض رجل مسلم

".

(2)

وأخرجه أحمد في "المسند"(2/ 361، 362) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 103) وقال: "رواه أحمد وفيه "بقية" وهو مدلس وقد عنعنه" اهـ.

(3)

وأخرجه ابن حزم في "المحلَّى"(8/ 36) وفيه انقطاع لأن أبا العالية لم يلق ابن مسعود.

(4)

في "المحلَّى"(8/ 39، 40).

(5)

(8/ 36، 40).

(6)

سورة المائدة: الآية 89.

(7)

سورة البقرة: الآية 225.

ص: 22

قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي

(1)

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا

(2)

[صحيح]

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها في قولِه تعالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [قالتْ]

(3)

: هوَ قولُ الرجلِ: لا واللَّهِ، وبلَى واللَّهِ. أخرجَه البخاريّ) موقوفًا على عائشةَ، (ورواهُ أبو داودَ مرفوعًا). فيهِ دليلٌ على أن اللَّغوَ منَ الأيمانِ ما لا يكونُ عنْ قصدِ الحلفِ، وإنَّما جَرى على اللسانِ منْ غيرِ إرادةِ الحلفِ. وإلى تفسيرِ اللغوِ بهذا ذهبَ الشافعي، ونقلَه ابنُ المنذرِ عن ابن عمرَ وابنِ عباسٍ وغيرِهما منَ الصحابةِ وجماعةٍ منَ التابعينَ

(4)

. وذهبَ الهادويةُ والحنفيةُ

(5)

إلى أن لغوَ اليمينِ أنْ يحلفَ على الشيءِ يظنُّ صدقَه فينكشفُ خلافُه، وذهبَ طاوسُ إلى أنَّها الحلفُ وهوَ غضبانُ، وفي ذلكَ تفاسيرُ أُخَرُ لا يقومُ عليها دليلٌ. وتفسيرُ عائشةَ أقربُ لأنَّها شاهدتِ التنزيلَ وهيَ عارفةٌ بلغةِ العربِ. وعنْ عطاءٍ والشعبيِّ وطاوسِ والحسنِ وأبي قلابةَ: لا واللَّهِ، وبلَى واللَّهِ لغةٌ منْ لغاتِ العربِ، لا يرادُ بها اليمينُ وهيَ منْ صلةِ الكلامِ، ولأنَّ اللغوَ في اللغةِ ما كانَ باطلًا، وما لا يعتدُّ بهِ منَ القولِ، ففي "القاموسِ"

(6)

: اللغوُ واللغى [كالفَتى]

(7)

السَقَطُ وما لا يُعْتَدُّ بهِ منْ كلامٍ وغيرِهِ.

‌الخلاف في أسماء الله تعالى

9/ 1288 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن لِلَّهِ تِسْعَةً وَتَسْعِينَ

(1)

في صحيحه (11/ 547 رقم 6663) عن عائشة موقوفًا.

(2)

في "السنن" رقم (3254).

وهو حديث صحيح.

(3)

زيادة من (ب).

(4)

انظر: "الدُّرُّ المنثور" للسيوطي (1/ 644، 646).

(5)

انظر: "عقود الجواهر المنيفه" لمحمد مرتضى الزبيدي (1/ 292).

(6)

"القاموس المحيط"(ص 1715، 1716).

(7)

في (أ): "كالشيء".

ص: 23

اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنةَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، وَسَاقَ الترْمِذِيُّ

(2)

وَابْنُ حِبَّانَ

(3)

الأَسْمَاءَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. [صحيح بدون سياق الأسماء]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إن للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا مَنْ أحصَاها)، وفي لفظٍ: منْ حفظَها (دخلَ الجنةَ. متفقٌ عليهِ. وساقَ الترمذيُّ، وابنُ حبانَ الأسماءَ. والتحقيقُ أن سردَها إدراجٌ منْ بعضِ الرواةِ). اتفقَ الحفاظُ منْ أئمةِ الحديثِ أن سردَها إدراجٌ

(4)

منْ بعضِ الرواةِ. وظاهرُ الحديثِ أن أسماءَ اللَّهِ

(1)

البخاري رقم (6410) و (2736) و (7392)، ومسلم (5/ 2677).

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 258)، والحميدي رقم (1130)، والترمذي رقم (3508)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(1/ 20 رقم 4) كلهم بدون سياق الأسماء.

(2)

في السنن رقم (3507) وقال: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم في كثير شيء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث

".

(3)

في "صحيحه" رقم (808).

• ونقل ابن علان في "الفتوحات الربانية (3/ 221) عن ابن حجر أنه قال: "اختلف الحفاظ في أن سرد الأسماء هل هو موقوف على الراوي أو مرفوع، ورجح الأول، وإن تعدادها مدرج من كلام الراوي".

• وقال البيهقي في "الأسماء والصفات"(1/ 33): "ويحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة، وكذلك في حديث الوليد بن مسلم، ولهذا الاحتمال ترك البخاري ومسلم إخراج حديث الوليد في الصحيح" اهـ.

ومع ذلك فقد صحَّحه الحاكم (1/ 16) وقال: "هذا حديث قد خرَّجاه في الصحيحين بأسانيد صحيحة دون ذكر الأسامي فيه. والعلة فيه عندهما أن الوليد بن مسلم تفرد بسياقه بطوله، ولم يذكر الأسامي غيره، وليس هذا بعلة، فإني لا أعلم اختلافًا بين أئمة الحديث أن الوليد بن مسلم أوثق وأحفظ وأعلم وأجل من أبي اليمان، وبشر بن شعيب، وعلي بن عياش، وأقرانهم من أصحاب شعيب، يشير إلى أن بشرًا وعليًا وأبا اليمان روَوه عن شعيب بدون سياق الأسماء" اهـ.

وتعقبه الحافظ في "الفتح"(11/ 215) بعد ما نقل كلام الحاكم هذا بقوله: "وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه، والاضطراب، وتدليسه، واحتمال الإدراج

" اهـ.

• والخلاصة: أنّ الحديث صحيح بدون سياق الأسماء، واللهُ أعلم.

(4)

المُدْرَجُ: ما ذُكِرَ في ضمن الحديث متصلًا به وليس منه. وهو قسمان: مدرج الإسناد، ومدرج المتن. انظر: "شرح النخبة نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل =

ص: 24

الحسنَى منحصرةٌ في هذا العددِ، بناءً على القولِ بمفهومِ العددِ

(1)

. ويحتملُ أنهُ حصرٌ لها باعتبارِ ما ذكرَ بعدَه منْ قولِه: مَنْ أحصَاها دخلَ الجنةَ وهوَ خبرُ المبتدأ. فالمرادُ أن هذهِ التسعةَ والتسعينَ تختصُّ بفضيلةٍ منْ بين سائرِ [أسمائِه]

(2)

تعالَى، وهوَ أن إحصاءَها سببٌ لدخولِ الجنةِ. وإلى هذا ذهبَ الجمهورُ.

وقالَ النوويُّ

(3)

: ليسَ في الحديثِ حصرُ أسماءِ اللَّهِ تعالَى، وليسَ معناهُ أنهُ ليسَ لهُ اسمٌ [غيرَ التسعةِ والتسعينَ]،

(4)

، ويدلُّ عليهِ ما أخرجَه أحمدُ

(5)

، وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ

(6)

منْ حديثِ ابن مسعودٍ مرفوعًا: "أسألكَ بكلِّ اسم هوَ لكَ، سمَّيْتَ بهِ نفسَكَ، أوْ أنزلْتَهُ في كتابكَ، أو علَّمْتَهُ أحدًا منْ خَلْقِكَ، أوِ استأثرتَ بهِ في علمِ الغيبِ عندكَ"؛ فإنهُ [دلَّ]

(7)

على أن لهُ تعالَى أسماءً لم يعرفْها أحد منْ خلْقِهِ بلِ استأثرَ بها. ودلَّ على أنهُ قدْ يعلمُ بعضُ عبادِه بعضَ أسمائِه، ولكنَّه يحتملُ أنَّها منَ التسعةِ والتسعينَ. وقدْ جزَم بالحصرِ فيما ذكرَ أبو محمدٍ بنُ حزمٍ

(8)

فقالَ: قدْ

= الأثر" للحافظ ابن حجر. تحقيق وتعليق: د: نور الدين عتر (ص 90، 92).

(1)

مفهوم العدد: هو تعليق الحكم بعدد مخصوص نحو: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فإن الآية تدل على تحريم الزيادة على ذلك.

ونحو قول عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن ثم نسخن بخمس معلومات"، أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 1075 رقم 1452) يدل على أن ما كان أقل من ذلك لا يحرِّم.

(2)

في (أ): "أسماء اللهِ".

(3)

"شرح صحيح مسلم"(5/ 17).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في "المسند"(1/ 391، 452).

(6)

رقم (2372 - موارد).

قلت: وأخرجه الحاكم (1/ 509)، والطبراني في "الكبير"(10/ 210 رقم 10352).

قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد اللهِ عن أبيه، فإنه مختلف في سماعه من أبيه" اهـ. وقال الذهبي: "وأبو سلمة لا يدري من هو ولا رواية له في الكتب الستة" اهـ.

قلت: أبو سلمة الجهني هو موسى بن عبد اللهِ أو ابن عبد الرحمن الكوفى ثقة من رجال مسلم كما حقق ذلك المحدث الألباني في "الصحيحة" رقم (199).

وللحديث شاهد من حديث أبي موسى الأشعري أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" رقم (339).

والخلاصة: فالحديث حسن، واللهُ أعلم.

(7)

في (أ): "دال".

(8)

في "المحلَّى"(1/ 30).

ص: 25

صحَّ أن أسماءَهُ تعالَى لا تزيدُ على تسعةٍ وتسعين [اسمًا]

(1)

لقولِه صلى الله عليه وسلم: "مائةٌ إلا واحدًا" فنفى الزيادةَ وأبْطَلَها، ثمَّ قالَ: وجاءتْ أحاديثُ في إحصاءِ التسعةِ والتسعينَ اسمًا مضْطَّرِبةً لا يصحُّ منها شيءٌ أصلًا، وإنَّما يؤخذ منْ نصِّ القرآنِ، وما صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ سردَ أربعةً وثمانينَ اسمًا استخرجَها منَ القرآنِ والسنةِ، وقالَ الشارحُ تبعًا لكلامِ المصنفِ في "التلخيص"

(2)

: إنهُ ذكرَ ابنُ حزمٍ أحدًا وثمانينَ اسمًا، والذي رأيناهُ في كلامِ ابن حزمٍ أربعةٌ وثمانونَ. وقدْ نقلت كلامَه. وتعيينُ الأسماءِ الحسنَى على ما ذكرهُ في هامشِ "التلخيصِ". واستخرجَ المصنفُ منَ القرآنِ فقطْ تسعةً وتسعينَ اسمًا وسردَها في التلخيصِ

(3)

وغيرِه، وذكرَ السيدُ محمدُ إبراهيمَ الوزيرِ في "إيثارِ الحقِ"

(4)

أنهُ تَتَبَّعَها منَ القرآنِ فبلغتْ مائةً وثلاثة وسبعينَ اسمًا وإنْ قالَ صاحبُ الإيثارِ: مائةٌ وسبعةٌ وخمسينَ فإنا عددْناها فوجدْناها كما قلناه أوَّلًا، وعرفتَ منْ كلام المصنفِ أن مرادَه أن سردَ الأسماءِ الحسنَى المعروفةِ مدرجٌ عندَ المحققينَ، وأنهُ ليسَ منْ كلامِه صلى الله عليه وسلم. وذهبَ كثيرونَ إلى أن [عدَّها]

(5)

مرفوعٌ، وقالَ المصنفُ

(6)

بعدَ نقلِه كلامَ العلماءِ في ذكرِ عدِّ الأسماءِ: والاختلافُ فيها ما لفظُه، وروايةُ الوليدِ بن مسلمٍ عنْ شعيبٍ هيَ أقربُ الطرقِ إلى الصحة، وعليها عوَّلَ غالبُ مَنْ شرحَ الأسماءَ الحسنَى، ثمَّ سردَها على روايةِ الترمذيِّ، وذكرَ اختلافًا في بعضِ ألفاظِها، وتبديلًا في إحدى الرواياتِ للفظ بِلفظٍ ثمَّ قالَ: واعلمْ أن الأسماءَ الحسنَى على أربعةِ أقسامٍ:

القسمُ الأولُ: الاسمُ العلَمُ وهوَ اللَّهُ.

الثاني: ما يدلُّ علَى الصفاتِ الثابتةِ للذاتِ كالعليمِ، والقديرِ، والسميعِ، والبصيرِ.

[والثالثُ]

(7)

: ما يدلُّ على إضافةِ أمرٍ إليهِ كالخالقِ والرازقِ.

(1)

في (ب): "شيئًا".

(2)

(4/ 173).

(3)

(4/ 173 - 174).

(4)

وهو "إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد"(ص 160، 159).

(5)

في (أ): "عددها".

(6)

في "فتح الباري"(11/ 216).

(7)

في (أ): "الثالثة".

ص: 26

والرابعُ: ما يدلُّ على سلبِ شيءٍ عنهُ كالعليِّ والقدُّوسِ، واختلفَ العلماءُ أيضًا هلْ هيَ توقيفيةٌ بمعنى أنهُ لا يجوزُ لأحدِ أنْ يشتقَ منَ الأفعالِ الثابتةِ للهِ تعالى اسمًا بلْ لا يطلقُ عليهِ إلا ما وردَ بهِ نصُّ الكتابِ والسنةِ، فقالَ الفخرُ الرازيُّ

(1)

: المشهورُ عنْ أصحابِنا أنها توقيفيةٌ.

وقالتِ المعتزلةُ والكرَّاميةُ: إذا دل العقلُ على أن معنَى اللفظِ ثابتٌ في حقّ اللَّهِ تعالَى جازَ إطلاقُه على اللَّهِ تعالَى.

وقالَ القاضي أبو بكرٍ

(2)

والغزاليُّ: الأسماءُ توقيفيةٌ دونَ الصفاتِ كما قالَ الغزاليُّ: كما أنهُ ليسَ لنا أن نسمِّيَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم باسمٍ لم يسمِّهِ بهِ أبوهُ ولا أمهُ، ولا سمَّى بهِ نفسَه، كذلكَ في حق اللَّهِ تعالَى. واتفقُوا علَى أنهُ لا يجوزُ أنْ يطلقَ عليهِ تعالَى اسمٌ أو صفةٌ توهِم نَقْصًا فلا يقالُ: ماهدٌ، ولا زارعٌ، ولا فالقٌ، وإنْ جاءَ في القرآنِ:{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} {فَالِقُ الْحَبِّ}

(3)

ولا يقالُ ماكرٌ ولا بنَّاءٌ وإنْ وردَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا}

(4)

.

وقال القشيريُّ: الأسماءُ تُوخَذُ [توقيفًا]

(5)

منَ الكتابِ والسنةِ والإجماعِ، فكلُّ اسمٍ وردَ فيها وجبَ إطلاقُه في وصْفِه، وما لمْ يردْ لم يجزْ ولو صحَّ معناهُ. وقدْ أوضحْنا هذا البحثَ في كتابِنا "إيقاظُ الفكرةِ"

(6)

.

(1)

في كتابه: "شرح أسماء اللهِ الحسنى" وهو المسمَّى: "لوامعُ البينات شرح أسماء اللهِ تعالى والصفات"(ص 40).

(2)

وهو أبو بكر الباقلاني، واسمه محمد بن الطيب. متكلِّم فقيه ولد بالبصرة ومات ببغداد سنة (1013) من أكبر دعاة المذهب الأشعري.

(3)

سورة الأنعام: الآية 95.

(4)

سورة الذاريات: الآية 47.

(5)

في (أ): "توقيفٌ".

(6)

وهو: "إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة "تأليف الأمير الصنعاني. والموجود منه: المقدمة والبحث الأول في الأسماء والصفات الإلهية، والبحث الثاني في الحكمة، والبحث الثالث في التحسين والتقبيح، والبحث الرابع في مسألة خلق الأفعال، والبحث الخامس في القضاء والقدر، والبحث السادس في الرجاء.

والذي فات البدر الكلام في بقية البدث السادس والبحث السابع والبحث الثامن والخاتمة. لأنه ذكر أن المقصود انحصر في ثمانية أبحاث وخاتمة.

قلت: هذا ما وجدته على صفحة عنوان المخطوط الذي قمت بتحقيقه ولله الحمد والمنة. ط: دار ابن حزم - بيروت. =

ص: 27

‌أقوال العلماء في معنى أحصاها

وقولُه: "منْ أحصَاها" اختلفَ العلماءُ في الإحصاءِ، فقالَ البخاريُّ وغيرُه منَ المحققينَ: معناهُ حفظَها، وهوَ الظاهرُ فإنَّ إحدَى الروايتينِ مفسِّرةٌ للأُخْرَى، وقالَ الخطابي: يحتملُ وجوهًا:

أحدَهما: أنْ يعدَّها حتَّى يستوفيَها، بمعنَى أنْ لا يقتصرَ على بعضِها، فيدعُو اللَّهَ تعالى بها كلِّها، [ويثني]

(1)

عليهِ بجميعِها، [فيستوجبُ]

(2)

الموعودَ عليه منَ الثوابِ.

وثانيها: منْ أطاقَ القيامَ بحقِّ هذهِ الأسماءِ والعملِ بمقتضَاها وهوَ أنْ يعتبرَ معانيها، فيلزِمُ نفسَه بموجبها، فإذا قالَ الرزاقُ وثقَ بالرزقِ وكذَا سائرُ الأسماءِ.

وثالثُها: الإحاطةُ بمعانيها، وقيلَ: أحصَاها عملَ بها، فإذا قالَ: الحكيمُ، سلَّمَ لجميعِ أوامرهِ، لأنَّ جميعَها على الحكمةِ، وإذا قالَ: القدُوسُ، استحضرَ كونَه مقدَّسًا منزَّهًا عنْ جميعِ النقائصِ [ومنزهًا عن الظلم وعن الرضا بالقبائح وسائر المعاصي]

(3)

، واختارَهُ أبو الوفاءِ بنُ عقيلٍ.

وقالَ ابنُ بطالٍ: هو أن ما كانَ يسوغُ الاقتداءَ بهِ فيها كالرحيمِ والكريم فيمرِّنُ العبدُ نفسَه على أنْ يصحَّ لهُ الاتصافُ بها، وما كانَ يختص [بهِ نفسَهُ]

(4)

كالجبارِ والعظيمِ، فعلَى العبدِ الإقرارُ بها، والخضوع لها، وعدمُ التحلِّي بصفةٍ منْها، وما كانَ فيهِ معنَى الوعدِ يقفُ فيهِ عندَ الطمع والرغبةِ، وما كانَ فيهِ معنَى الوعيدِ يقفُ منهُ عندَ الخشيةِ والرهبةِ، ويؤيدُ هذَا أن حِفْظَها لفظًا منْ دونِ اتصافٍ كحفظِ القرآنِ منْ دونِ عملٍ لا ينفعُ كما جاءَ:"يقرأونَ القرآنَ لا يجاوزُ حناجرَهم"

(5)

، ولكنَّ هذا الذي ذكره لا يمنعُ منْ ثوابِ منْ قرأَها سرْدًا، وإنْ كانَ

= • وقد أوضح الأمير في البحث الأول (ق: 6 ب - ق: 17 ب] هذا الموضوع.

(1)

في (أ): "وتثني".

(2)

في (أ): "فتستوجب".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في (أ): "باللهِ تعالى".

(5)

أخرجه البخاري رقم (3344) وأطرافه (3610، 4351، 4667، 5058، 6163، 6931، 6933، 7432، 5762).

ومسلم رقم (1064)، وأبو داود رقم (4764)، والنسائي (5/ 87 رقم 2578) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 28

متلبسًا بمعصيةٍ، وإنْ كانَ ذلكَ مقامَ الكمالِ الذي لا [يقومُ]

(1)

بهِ إلا [أفرادٌ]

(2)

منَ الرجالِ

(3)

وفيهِ أقوالٌ أُخَرُ لا تخلُو عن تكلُّفٍ تركْناها.

فإنْ قلتَ: كيفَ يتمُّ أن المرادَ منْ حفظِها على ما هوَ قولُ المحققينَ ولم يأتِ بعددِها حديثٌ صحيحٌ.

قلتُ: [لعلَّ]

(4)

المرادَ مَنْ حفِظَ كلَّ ما وردَ في القرآنِ، وفي السنةِ الصحيحةِ، وإنْ كانَ الموجودُ فيهما أكثرَ منْ تسعةِ وتسعينَ فقدْ حفظَ التسعةَ والتسعينَ في ضمنِها، فيكونُ حثًا على تطلبِها منَ الكتابِ والسنةِ [الصحيحةِ](4) وحفظِها.

‌الدعاء بخير لصانع المعروف

10/ 1289 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صُنِعَ إِلَيهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا فَقدْ أَبْلَغَ في الثنَاءِ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(5)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(6)

. [صحيحٌ]

(وعنْ أسامةَ بن زيَدٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: منْ صُنِعَ إليهِ معروف فقالَ لفاعلِه: جزاكَ اللهُ خيْرًا، فقدْ أبلغَ في الثناءِ. أخرجَهُ الترمذيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ). المعروفُ الإحسانُ، والمرادُ مَنْ أحسنَ إليهِ إنسانٌ بأيِّ إحسانٍ فكافأهُ بهذا القولِ

(1)

في (أ): "تقوم".

(2)

في (أ): "الأفراد".

(3)

والصواب من ذلك ما قاله ابن بطال: فإن الله تعالى مثل اليهود بالحمار يحمل أسفارًا لعدم عملهم بما حملوا فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5].

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في "السنن" رقم (2035) وقال: هذا حديث حسن جيد غريب لا نعرفُه من حديث أسامة بن زيد إلا من هذا الوجه.

(6)

في "صحيحه" رقم (3413).

قلت: وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (180)، وعنه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" رقم (275)، والطبراني في "الصغير"(2/ 291 رقم 1183 - الروض الداني)، وهو حديث صحيح.

ص: 29

فقدْ بلغَ في الثناءِ عليهِ مبلَغًا عظيمًا، ولا يدلُّ على أنهُ قدْ كافأَه على إحسانِه، بلْ دلَّ علَى أنهُ ينبغي الثناءُ على المحسِنِ. وقدْ وردَ في حديثٍ آخرَ:"إنَّ الدعاءَ إذا عجزَ العبدُ عن المكافأةِ مكافأةٌ"

(1)

. ولا يَخْفَى أن ذِكْرَ الحديثِ هنا غيرُ موافقٍ لبابِ الأيمانِ والنذورِ، وإنما محلُّه بابُ الأدبِ [الجامعِ]

(2)

.

‌حكم النذر

11/ 1290 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: "إنَّهُ لَا يَأتِى بِخَيرٍ، وَإنَّما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، مُتفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ ابن عمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنه نَهَي عن النذرِ وقالَ: إنهُ لا يأتي بخيرٍ، وانَّما يُسْتَخْرَجُ بهِ منَ البخيلِ. متفقٌ عليهِ) هذا أولُ الكلامِ في النذورِ. والنذرُ لغةً: التزامُ خيرٍ أو شرٍّ، وفي الشرعِ التزامُ المكلَّفِ شيئًا لم يكنْ عليهِ مُنْجَزًا أو معلَّقًا. واختلفَ العلماءُ في هذا النَّهْي، فقيلَ هوَ على ظاهرِه، وقيلَ: بلْ متأوَّلٌ، قالَ ابنُ [الأثيرِ في "النهاية"

(4)

]

(5)

: "تكررَ النَّهيُ عن النذرِ في [الحديثِ]

(6)

، وهوَ تأكيدٌ لأمرِه، وتحذيرٌ عن التهاونِ بهِ بعدَ إيجابهِ، ولوْ كانَ معناهُ الزجرَ عنهُ حتَّى لا يُفْعَلَ لكانَ في ذلكَ إبطالٌ لحكْمِه، وإسقاطٌ للزوم الوفاءِ بهِ، إذْ كانَ بالنَّهْي يصيرُ معصيةً فلا يلزمُ، وإنَّما وجْهُ الحديثِ أنهُ قدْ أَعلمَهم أن ذلكَ الأمرَ لا يجرُّ لهم في العاجلِ نَفْعًا، ولا يصرفُ عنْهم ضُرًّا ولا يردُّ قضاءً، فقالَ: لا تنذُروا على أنكم تدرونَ بالنذرِ شيئًا لم يقدِّرْهُ اللَّهُ لكم، أو [تصرفونَ به]

(7)

عنكمْ [ما قُدِّرَ

(1)

أخرج أبو داود رقم (1672)، والنسائي (5/ 82 رقم 2567).

عن ابن عمر ولفظه: "

ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"، وهو حديث صحيح.

• ولم أعثر على اللفظ المذكور في الكتاب.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

البخاري رقم (6608)، ومسلم رقم (1639).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3287)، والنسائي (7/ 15، 16)، وابن ماجه رقم (2122).

(4)

(5/ 39).

(5)

في (أ): "عبد البر".

(6)

في (أ): "الأحاديث".

(7)

في (أ): "يصرف".

ص: 30

عليكمْ]

(1)

، فإذا نذرتُم [ولم تعتقدُوا هذا]

(2)

فاخرجُوا عنهُ بالوفاءِ منه، فإنَّ الذي نذرتُموه لازمٌ لكمْ" اهـ.

وقالَ المازريُّ بعدَ نقلِ معناهُ عنْ بعضِ أصحابِه: وهذَا عندي بعيدٌ عنْ ظاهرِ الحديثِ. قالَ: ويحتملُ عندي أنْ يكونَ وجْهُ الحديثِ أن الناذِرَ يأتي بالقربةِ مستثقلًا لها لما صارتْ عليهِ ضربةَ لازبٍ، فلا ينشطُ للفعلِ [نشاطَ]

(3)

مُطْلَقِ الاختبار، أوْ لأنَّ الناذِرَ يصيِّرُ القربةَ كالعوضِ عن الذي نذرَ لأجلهِ، فلا تكونُ خالصةً. ويدلُّ له قولُه:"إنهُ لا يأتي بخيرٍ".

قالَ [القاضي] عياضٌ: [إنَّ]

(4)

المعنَى [أنهُ يغالبُ القدرَ]

(5)

، وأن النَّهْيَ لخشيةِ أنْ يقعَ في ظنِّ بعضِ الجهلةِ ذلكَ. وقولُه:"لا يأتي بخيرٍ" معناهُ أن عقباهُ لا تُحْمَدُ. وقدْ يتعذَّر الوفاءُ بهِ، وأنهُ لا يكونُ سببًا لخيرٍ لم يقدَّرْ فيكونُ مباحًا. وذهبَ أكثرُ الشافعيةِ

(6)

- ونُقِلَ عن المالكيةِ

(7)

- إلى أنَّ النذرَ مكروهٌ لثبوتِ النَّهْي عنْهُ. واحتجُّوا بأنهُ ليسَ طاعةً محضةً، لأنهُ لم يقصدْ بهِ خالصَ القُربةِ، وإنَّما قصدَ أنْ ينفعَ نفسَه أوْ يدفعَ عنْها ضَرَرًا بما التزمَ. وجزمَ الحنابلةُ بالكراهةِ

(8)

، وعندَهم روايةٌ أنَّها كراهةُ تحريمٍ، ونقلَ الترمذيُّ

(9)

كراهتَهُ عنْ بعضِ أهلِ العلمِ منَ الصحابةِ.

وقالَ ابنُ المباركِ: يُكْرَهُ النذرُ في الطاعةِ والمعصيةِ، فإنْ نذرَ [بالطاعةِ]

(10)

، ووفَّى بهِ كانَ لهُ أجرٌ. وذهبَ النوويُّ في شرحِ المهذَّبِ إلى أن النذرَ مستحَبٌّ، وقالَ المصنِّفُ

(11)

: وأنا أتعجَّبُ ممنْ أطلقَ لسانَهُ بأنهُ ليسَ بمكروهٍ معَ ثبوتِ النَّهْي الصريحِ، فأقلُّ درجاتهِ أنْ يكونَ مكروهًا.

(1)

في (أ): "شيئًا".

(2)

هذه زيادة من "النهاية" لابن الأثير.

(3)

في (أ): "نشط".

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "لا ينفع في ذلك".

(6)

انظر: "مغني المحتاج"(4/ 354).

(7)

انظر: "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي (ص 188).

(8)

قال ابن قدامة في "المغني"(13/ 621) عقب حديث ابن عمر: "وهذا نهيُ كراهةٍ لا نهيُ تحريم، لأنه لو كان حرامًا لما مدحَ الموفينَ به، لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشدُّ من طاعتِهم في وفائه، ولأن النذر لو كان مستحبًا، لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأفاضلُ أصحابهِ" اهـ.

(9)

في "السنن"(4/ 112).

(10)

في (أ): "في الطاعة".

(11)

في "فتح الباري"(11/ 578).

ص: 31

قالَ ابنُ العربيِّ: النذرُ شبيهٌ بالدعاءِ، فإنهُ لا يردُّ القدرَ لكنَّه منَ القدرِ، وقدْ ندبَ إلى الدعاءِ ونَهَى عن النذرِ، لأنَّ الدعاءَ عبادةٌ عاجلةٌ، ويظهرُ بهِ التوجُّهُ إلى اللهِ تعالى والخضوعُ والتضرُّعُ، والنذرُ فيهِ تأخيرُ العبادةِ إلى حينِ الحصولِ، وتركُ العملِ إلى حينِ الضرورة اهـ.

قلتُ: القولُ بتحريمِ النذَرِ هوَ الذي دلَّ عليهِ الحديثُ، ويزيدُه تأكيدًا تعليلُه بأنهُ لا يأتي بخيرٍ، فإنهُ يصيرُ إخراجُ المالِ فيهِ منْ بابِ إضاعةِ المالِ، وإضاعةُ المالِ محرَّمةٌ، فيحرُمُ النذرُ بالمالِ كما هوَ ظاهرُ قولِه:"وإنَّما يُستخرجُ بهِ منَ البخيلِ". وأما النذرُ بالصلاةِ والصيامِ والزكاةِ والحجِّ والعمرةِ ونحوِها منَ الطاعاتِ فلا يدخل في النَّهْي، ويدلُّ لهُ ما أخرجَهُ الطبرانيُّ

(1)

بسندٍ صحيح عنْ قتادةَ في قولهِ تعالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}

(2)

، قالَ: كانُوا ينذرونَ طاعة منَ الصلاةِ [والصيامِ]

(3)

، وسائرِ ما افترضَ اللَّهُ عليهمْ، وهوَ إنْ كانَ أثرًا فهوَ يقوِّيهِ ما ذُكِرَ في سببِ نزولِ الآيةِ. هذا وأما النذورُ المعروفةُ [في] هذهِ الأزمنةِ على القبورِ، والمشاهدِ، والأمواتِ، فلا كلامَ في تحريْمِها لأنَّ الناذِرَ يعتقدُ في صاحبِ القبرِ أنهُ ينفعُ ويضر، ويجلبُ الخيرَ ويدفعُ الشرَّ، ويعافي الأليمَ، ويشفي السقيمَ، وهذا هوَ الذي كانَ يفعلُهُ عُبَّادُ الأوثانِ بعينِه، فيحرمُ كما يحرمُ النذرُ على الوثنِ، ويحرمُ قبضُه لأنهُ تقريرٌ على الشركِ، ويجبُ النهيُ عنهُ [وإبانةُ أنهُ]

(4)

مِنْ أعظمِ المحرَّماتِ، وأنهُ الذي كانَ يفعلُه عُبَّادُ الأصنامِ، لكنْ طالَ الأمدُ حتى صارَ المعروفُ منكرًا، والمنكرُ معروفًا. وصارتْ تُعْقَدُ الولايات لقبَّاضِ النذورِ على الأمواتِ، ويُجعلُ للقادمينَ إلى محلِّ الميتِ الضيافاتُ، وينحرُ في بابِه النحائرُ منَ الأنعامِ، وهذا هوَ بعينِه الذي كانَ عليهِ عبَّادُ الأصنامِ، فإنا للَّهِ وإنا إليهِ راجعونَ، وقدْ أشبَعْنا الكلامَ في هذا في رسالةِ:"تطهير الاعتقاد عنْ درَنِ الإلحادِ"

(5)

.

(1)

أخرجه الطبري في "جامع البيان"(14/ ج 29/ 208) بسند صحيح. وعزو الأثر للطبراني وهم.

(2)

سورة الإنسان: الآية 7.

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (أ): "أو بأنه".

(5)

وقد أكرمني الله بتحقيقها وتخريج أحاديثها والتعليق عليها على مخطوطتين. ط مكتبة ابن تيمية، القاهرة.

ص: 32

والحديثُ ظاهرٌ في النَّهْي عن النذرِ مطْلقًا ما ينذرُ بهِ ابتداءً، كمنْ ينذرُ أنْ يُخرجَ منْ مالِه كذَا، وما يتقرَّبُ بهِ معلَّقًا كأنْ يقولَ: إنْ قدِمَ زيدٌ تصدَّقتُ بكذَا.

‌كفارة النذر كفَّارة يمين

12/ 1291 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كفارَةُ يَمينٍ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

، وَزَادَ الترْمِذيُّ

(2)

فِيهِ: "إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ" وَصَحَّحَهُ. [صحيح]

(وعنْ عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -: كفَّارةُ النذرِ كفارةُ يمينٍ. رواهُ مسلمٌ. وزادَ الترمذيُّ فيهِ: إذا لم يسمِّه. وصحَّحَهُ). [ولمسلم

(3)

من حديث عمران: لا وفاء لنذر في معصيةٍ]

(4)

. الحديثُ دليلٌ على أن مَنْ نذرَ بأيِّ نذرٍ منْ مالٍ أو غيرِه فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ولا يجبُ الوفاءُ بهِ. وإلى هذَا ذهبَ جماعةٌ منْ فقهاءِ أهلِ الحديثِ كما قالَ النوويُّ

(5)

. وقدْ أخرج البيهقيُّ

(6)

عنْ عائشةَ رضي الله عنها: "في رجلٍ جعلَ مالَه في [المساكينِ]

(7)

صدقة قالتْ: كفارةُ يمينٍ".

وأخرجَ أيضًا

(8)

عنْ صفيةَ أنَّها سمعتْ عائشةَ رضي الله عنها، وإنسانٌ يسألُها عن الذي يقولُ: كلُّ مالِه في سبيلِ اللَّهِ، أوْ كل مالِه في رتاجِ الكعبةِ، ما يكفِّرُ ذلكَ؟ قالتْ عائشةُ:"يكفِّره ما يكفِّرُ اليمينَ"، وكذا أخرجَهُ

(9)

عنْ عمرَ وابنِ عمرَ وأمِّ سلمةَ، قالَ البيهقي: هذا في غيرِ العتقِ، فقدْ رُوِيَ عن ابن عمرَ منْ وجهٍ آخرَ أن العتاقَ يقعُ، وكذا عن ابن عباسٍ، ودليلُهم حديثُ عقبةَ هذَا. وذهبَ آخرونَ إلى

(1)

في "صحيحه" رقم (1645).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3324)، والنسائي (7/ 26)، وأحمد (4/ 144، و 146 و 147) وإسناده صحيح.

(2)

في "السنن" رقم (1528) وقال: هذ حديث حسن صحيح غريب.

قلت: في سنده محمد مولى المغيرة وهو مجهول.

(3)

في "صحيحه" رقم (1641).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في شرحه لصحيح مسلم (11/ 104).

(6)

في "السنن الكبرى"(10/ 65).

(7)

في (أ): "سبيل اللهِ".

(8)

في "السنن الكبرى"(10/ 65).

(9)

في "السنن الكبرى"(10/ 66).

ص: 33

تفصيلٍ في المنذورِ بهِ، فإنْ كانَ المنذورُ بهِ فعلًا فالفعلُ إنْ كانَ غيرَ مقدورٍ فهوَ غير منعقدٍ، وإنْ كانَ مقدورًا فإنْ كانَ جنسُه واجبًا لزمَ الوفاءُ بهِ عندَ الهادويةِ، ومالكٍ، وأبي حنيفةَ، وجماعةٍ آخرينَ، وقولٌ للشافعي أنهُ لا ينعقدُ النذرُ المطلقُ بل يكونُ يمينًا [فيكفِّرها]

(1)

، ذكرَ هذا الخلافَ في "البحرِ"

(2)

، وذهبَ داودُ وأهلُ الظاهرِ

(3)

وذكرَ النوويُّ في "شرح مسلمٍ"

(4)

: أنهُ أجمعَ المسلمونَ على صحةِ النذرِ، ووجوبِ الوفاءِ بهِ إذا كانَ الملتزَمُ طاعةً، فإنْ كان معصيةً أو مباحًا كدخولِ السوقِ لم ينعقدِ النذرُ، ولا كفارةَ عليهِ عندَنا. وبهِ قالَ جمهورُ العلماءِ.

وقالَ أحمدُ وطائفةٌ: فيهِ كفارةُ يمينٍ. وقالَ في "نهايةِ المجتهدِ"

(5)

: إنهُ وقعَ الاتفاقُ على لزومِ النذرِ بالمالِ إذا كانَ في سبيلِ البرِّ، وكانَ على جهةِ الجزم، وإنْ كانَ على جهةِ الشرطِ فقالَ مالكٌ: يلزمُ كالجزمِ ولا كفارةَ يمينٍ في ذلكَ، إلا أنهُ إذا نذرَ بجميعِ مالِه لزمَ ثلثُ مالِه إذا كانَ مطْلَقًا، وإنْ كانَ معيِّنا المنذورُ بهِ [لزمَهُ]

(6)

، وإنْ كَانَ جميعَ مالِه، وكذَا إذا كانَ المعيَّنُ أكثرَ منَ الثلثِ.

وذهبَ الشافعيُّ أنَّها تجبُ كفارةُ يمينٍ لأنهُ ألحقَها بالأيمانِ. ثمَّ ذكرَ أقاويلَ في المسألةِ لا ينهضُ عليها دليلٌ، وذكرَ متمسكَ القائلينَ بأدلةٍ ليستْ منْ بابِ النذرِ، ولا تنطبقُ على المدَّعي، وحديثُ عقبة أحسنُ ما يَعْتمِدُ الناظرُ عليهِ، وقدْ حملَه جماعةٌ منْ فقهاءِ الحديثِ على جميعِ أنواعِ النذرِ، وقالُوا: هوَ مخيَّر في جميعِ أنواعِ المنذوراتِ بينَ الوفاءِ بما التزمَ، وبيَّنَ كفارةَ يمينٍ، ذكرهُ النوويُّ في "شرح مسلمٍ"

(7)

، وهوَ الذي دلَّ عليهِ إطلاقُ حديثِ عقبةَ.

13/ 1292 - وَلأَبي دَاوُدَ

(8)

مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَباسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا

(1)

في (أ): "يكفرها".

(2)

واسمه "البحر الزخار الجامع لمذاهب الأمصار" لأحمد بن المرتضى (4/ 266، 277).

(3)

هكذا في المخطوطتين ولعل صحته "إلى مثل قول الشافعي".

(4)

(11/ 101).

(5)

(2/ 425، 426).

(6)

في (أ): "لزم".

(7)

(11/ 104).

(8)

في "السنن" رقم (3322) وعنه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 45) قال أبو داود: روى هذا الحديث وكيع وغيره عن عبد اللهِ بن سعيد بن أبي هند فوقفوه على ابن عباس. قلت: الموقوف أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن وكيع به. =

ص: 34

لَمْ يُسَمَّ فَكَفارَتُهُ كَفارَةُ يمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا في مَعْصِيَةٍ فَكَفارَتُهُ كَفارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ فَكَفارَتُهُ كَفارَةُ يَمِينٍ"، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، إلَّا أن الْحفَّاظَ رَجّحُوا وَقْفَهُ. [ضعيف] (ولأبي داودَ منْ حديثِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما مرفوعًا: مَنْ نذرَ نذرًا لم يسمَّ فكفارتُه كفارةُ يمينٍ، ومَنْ نذْرَ نذْرًا في معصيةِ فكفارتُه كفارةُ يمينٍ، ومَنْ نذرَ نذْرًا لا يطيقُه فكفارتُه كفارةُ يمينٍ. وإسنادُه صحيحٌ لكنْ رجَّحَ الحفَّاظُ وقْفَهُ) [على ابن عباس في قوله]

(1)

: أما النذرُ الذي لم يسمَّ كأنْ يقولُ للَّهِ عليَّ نذْرٌ. فقالَ كثيرٌ منَ العلماءِ: في ذلكَ كفارةُ يمينٍ لا غيرُ. وعليهِ دلَّ حديثُ عقبةَ

(2)

، وحديثُ ابن عباسٍ. وأما النذرُ بالمعصيةِ فكفارتُه كفارةُ يمينٍ كما صرَّحَ بهِ الحديثُ، سواءٌ فعلَ المعصيةَ أمْ لا، وكذلكَ مَنْ نذرَ نذْرًا لا يطيقُه عقلًا ولا شرْعًا كطلوعِ السماءِ، وحجتينِ في عامٍ فلا ينعقدُ، ويلزم كفارةُ يمينٍ. وعندَ الشافعيِّ ومالكٍ وداودَ وجماهيرِ العلماءِ لا تلزُمه الكفارةُ لما دلَّ عليهِ الحديثُ الآتي وهوَ قولُه:

‌من نذر أن يعصي الله فلا يعصه

14/ 1293 - وَللْبُخَاريِّ

(3)

مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنهما: "وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله فَلَا يَعْصِهِ". [صحيح]

= وهذا أصح، فإن طلحة بن يحيى الأنصاري مع ثقته وإخراج الشيخين له، فقد قال الحافظ عنه في "التقريب" (1/ 380 رقم 44): صدوق يهم.

فالصواب في الحديث وقفه على ابن عباس.

نعم قد تابعه خارجة بن مصعب إلا أنه لم يذكر نذر المعصية، وذكر مكانه:"ومن نذر نذرًا أطاقه فليف به"، أخرجه ابن ماجه رقم (2128).

لكن هذه المتابعة واهية جدًّا، فإن خارجة هذا متروك، وكان يدلس عن الكذابين، ويقال أن ابن معين كذبه كما في "التقريب"(1/ 210 رقم 7).

والخلاصة: أن الحديث ضعيف، واللهُ أعلم.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

تقدم تخريجه رقم (12/ 1291) من كتابنا هذا.

(3)

في "صحيحه"(11/ 585 رقم 6700).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3289)، والترمذي رقم (1526)، وابن ماجه رقم (2126)، والنسائي (7/ 17). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 35

(وأخرجَ البخاريُّ منْ حديثِ عائشةَ: مَنْ نذرَ أنْ يعصيَ الله فلا يعصِهِ)، ولمْ يذكرْ كفارةً. وحديثُ عمرَ:"لا يمينَ عليكَ ولا نذْرَ في معصيةِ اللَّهِ"، أخرجَهُ ابنُ ماجهْ. وذهبتِ الهادويةُ وابنُ حنبلٍ إلى وجوبِ الكفارةِ لحديثِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما وأُجِيْبَ عنهُ بأنَّ الأصحَّ أنهُ موقوفٌ. وأما الزيادةُ في حديثِ عمرانَ بن حصينٍ

(1)

: "وكفارتُه كفارةُ يمينٍ"، فقدْ أخرجَها النسائيُّ والحاكمُ

(1)

وهو حديث ضعيف.

• أخرجه أحمد (4/ 433) والطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (2163) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن رجل عن عمران بن الحصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا نذر في غضب، وكفارتُه كفارةُ يمين". وإسناده ضعيف جدًّا، محمد بن الزبير هذا متروك كما قال الحافظ في "التقريب"(2/ 161 رقم 220).

وقد اضطربوا عليه في إسناده، فرواه عبد الوهاب وهو ابن عطاء عنه هكذا. ومن طريقه أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 305).

وتابعه عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن الزبير الحنظلي، به. أخرجه النسائي (7/ 29 رقم 3846)، والبيهقي (10/ 70)، والطيالسي رقم (839)، وأحمد (4/ 440) وتابعه عنده إسماعيل بن إبراهيم أيضًا.

وتابعه خالد بن عبد اللهِ عن محمد بن الزبير، به. أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (2164).

وخالفه سعيد بن أبي عروبة عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران به فلم يقل: "عن رجل". أخرجه البيهقي (10/ 70).

وتابعه جرير بن حازم عن محمد بن الزبير، به. أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (2160) وابن عدي في "الكامل"(6/ 2209).

وتابعه حماد بن زيد عنه، به. أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (2161).

والخطيب في "التاريخ"(13/ 56)، والبيهقي (10/ 70) وقال: "وهذا منقطع؛ الزبير الحنظلي لم يسمع من عمران،.

وتابعه أيضًا عباد بن العوام عند الطحاوي رقم (2162).

وخالفهم محمد بن إسحاق فقال: عن محمد بن الزبير عن رجل صَحِبَهُ عن عمران. أخرجه النسائي (7/ 28 رقم 3845). وابن عدى في الكامل" (6/ 2209 - 2210) ومن طريقه البيهقي (10/ 70).

وخالفهم سفيان، فقال: عن محمد بن الزبير عن الحسن عن عمران. أخرجه أحمد (4/ 443)، والنسائي (7/ 29 رقم 3847)، والحاكم (4/ 305)، والبيهقي 10/ 70)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 97). =

ص: 36

والبيهقيُّ، [ولكنَّ]

(1)

فيهِ محمدَ بنَ الزبيرِ الحنظلي وليسَ بالقويِّ. لهُ طريقٌ أُخْرى فيها علةٌ، ورواهُ الأربعةُ

(2)

منْ حديثِ عائشةَ، وفيهِ راوٍ متروكٌ، ورواهُ

= وتابعه أبو بكر النهشلي عن محمد بن الزبير به. أخرجه أحمد (4/ 439)، والنسائي (7/ 29 رقم 3848).

وخالفهم جميعًا يحيى بن أبي كثير، فقال: حدثني رجل من بني حنظلة عن أبيه عن عمران به. أخرجه ابن عدي في "الكامل"(6/ 2210)، وعنه البيهقي (10/ 70)، وفي رواية له عن يحيى به إلا أنه لم يقل "عن أبيه"، وعلى الوجهين أخرجه النسائي (7/ 28 رقم 3841، 3842، 3843) إلا أنه سمَّى الرجل فقال: محمد بن الزبير الحنظلي.

قلت: وهذا اضطراب شديد في السند وكذلك اضطراب في المتن.

والخلاصة: أن الحديث ضعيف، واللهُ أعلم.

(1)

في (أ): "ولكنه".

(2)

أبو داود رقم (3290)، والنسائي (7/ 26)، والترمذي رقم (1524)، وابن ماجه رقم (2125).

قلت: وأخرجه الطحاوي رقم (2158)، والبيهقي (10/ 69)، وأحمد (6/ 247) والخطيب (5/ 127) كلهم من طرق عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة به.

وقال الترمذي: "هذا حديث لا يصحُّ لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة. قال: سمعتُ محمد - البخاري - يقول روى غير واحدٍ منهم موسى بن عقبة، وابن أبي عتيق، عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال محمد: والحديث هو هذا".

وقال أبو داود: سمعت أحمد بن شبويه يقول: قال ابن المبارك - يعني في هذا الحديث -: حدَّث أبو سلمة، فدلَّ على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة.

وقال أحمد بن محمد المروزي: وتصديق ذلك ما حدثنا أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم أن يحيى بن أبي كثير أخبره عن أبي سلمة، عن عائشة. قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير - قال النسائي: ضعيف لا تقوم بمثله حجة وقد اختلف عليه في هذا الحديث -، عن أبيه، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم. أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها.

وقال النسائي: سليمان بن أرقم متروك الحديث واللهُ أعلم، خالفه غيرُ واحد من أصحاب يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث.

قلت: وقد جاء بسند صحيح عند النسائي (7/ 27) تصريح الزهري بسماعه من أبي سلمة. قال السندي في حاشية النسائي: ويرفع هذا الاختلاف بإثبات سماع الزهري مرة =

ص: 37

الدارقطنيُّ

(1)

، وفيهِ أيضًا متروكٌ. ولا يلزمُ الوفاءُ بنذرِ المعصيةِ لقولِه:"فلا يعصِه"، ولما يفيدُه قولُه:

15/ 1294 - وَلمُسْلِمٍ

(2)

مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ: "لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةٍ". [صحيح]

(ولمسلمٍ منْ حديثِ عمرانَ: لا وفاءَ لنذرٍ في معصيةٍ)؛ فإنهُ صريحٌ في النَّهْي عن الوفاءِ كالذي قبلَه.

‌حكم من نذرَ أن يمشي إلى بيت الله الحرام

16/ 1295 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم. [صحيح]

- وَلأَحْمَدَ

(4)

، وَالأَرْبَعَةِ

(5)

: فَقَالَ: "إِنْ الله تَعَالَى لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ

= عن سليمان، عن يحيى، عن أبي سلمة، ومرة عن أبي سلمة نفسه، وعند ذلك لا قطع لضعفه، لا سيما حديث عقبة وعمران يؤيد الثبوت.

قلت: وحديث عائشة له طريق صحيح على شرط الشيخين: ولفظه: "من نذر أن يطيع الله عز وجل فليطعه، ومن نذرَ أن يعصي الله فلا يعصه، ويكفِّر عن يمينه".

أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (2144)، وابن حبان في "الإحسان" رقم (4387)، و (4388)، و (4389) و (4390). وانظر:"إرواء الغليل"(8/ 214، 217 رقم 2590).

(1)

في "السنن"(4/ 159 رقم 4). وقال صاحب "التنقيح": غالب بن عبيد اللهِ مجمع على تركه.

(2)

في "صحيحه" رقم (1641).

(3)

البخاري رقم (1866)، ومسلم رقم (1644).

(4)

في المسند (4/ 145).

(5)

أبو داود رقم (3293)، والترمذي رقم (1544)، والنسائي (7/ 20 رقم 3815)، وابن ماجه رقم (3134). وقال الترمذي: حديث حسن وفي إسناده عبيد اللَّهِ بن زَحْر، وقد تكلَّم فيه غير واحد. قاله المنذري.

قلت: ذكر المحدث الألباني متابعات وشواهد لهذا الحديث في "إرواء الغليل"(8/ 219، 221) ثم قال في النهاية: "وجملة القول أن ذكر الصيام في الحديث لم يأت من طريق تقوم به الحجة لا سيما وفي الطرق الأخرى خلافه وهو قوله: "ولتهد بدنة"، فهذا هو المحفوظ، واللهُ أعلم.

ص: 38

شَيئا، مُرْهَا فلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ). [ضعيف]

(وعنْ عُقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه قالَ: نذرتْ أختي أنْ تمشيَ إلى بيتِ اللهِ حافيةً، [فأمرتْني أنْ أستفتيَ لها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاستفتيتُه]، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لتمشِ ولتركبْ. متفقٌ عليهِ، واللفظُ لمسلمٍ. ولأحمدَ والأربعةِ فقالَ: إن الله تعالَى لا يصنعُ بشقاءِ أختِكَ شيئًا، مُرْها فلتختمرْ ولتركبْ، ولتصمْ ثلاثةَ أيامٍ).

دل الحديثُ على أنّ مَنْ نذرَ أنْ يمشيَ إلى بيتِ اللهِ لا يلزمُه الوفاءُ، ولهُ أنْ يركبَ لغيرِ عجزٍ، وإليهِ ذهبَ الشافعي. وذهبتِ الهادويةُ إلى أنهُ لا يجوزُ الركوبُ معَ القدرةِ على المشي، فإذا عجزَ جازَ لهُ الركوبُ ولزمَهُ دمٌ، مستدلينَ بروايةِ أبي داودَ

(1)

لحديثِ عقبةَ بأنَّهُ قالَ فيهِ: "إنَّ أختي نذرتْ أن تحجَّ ماشيةً، وإنَّها لا تطيقُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ تعالَى لغنيٌّ عنْ مشيِ أختِكَ، فلتركبْ ولتهدِ بَدَنةً"، قالُوا: فَتقَيَّدُ روايةُ الصحيحينِ بأنَّ المرادَ ولتمشِ إنِ استطاعتْ وتركبْ في الوقتِ الذي لا تطيقُ المشيَ فيهِ أو يشقُّ عليها، وقولُه:"فلتختمرْ"، ذكرَ ذلكَ لأنهُ وقعَ في الروايةِ أنَّها نذرتْ أنْ تحجَّ للَّهِ ماشيةً غيرَ مختمرةٍ، قالَ: فذكرتْ ذلكَ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "مُرْها - الحديثَ". ولعل الأمرَ بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ لأجلِ النذرِ بعدمِ الاختمارِ فإنهُ نذرٌ بمعصيةٍ فوجبَ كفارةُ يمينٍ، وهوَ منْ أدلةِ مَنْ يوجِبُ الكفارةَ في النذرِ بمعصيةٍ، إلَّا أنهُ ذكرَ البيهقيُّ

(2)

أن في إسنادِه اختلافًا. وقدْ ثبتَ إهداء البدنة في روايةِ أبي داودَ

(3)

عن ابن عباسٍ بعدَ قولِه: فلتركبْ: "ولتهدِ بَدَنَةً". قيلَ: وهوَ على شرطِ الشيخينِ، إلَّا أنهُ قالَ البخاري

(4)

: لا يصح في حديثِ عقبةَ بن عامرٍ الأمرُ بالإهداءِ، فإنْ صحَّ فهو أمرُ ندبٍ، وفي وجههِ خفاءٌ.

‌وفاء نذر الميت

17/ 1296 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ

(1)

في "السنن" رقم (3303)، وهو حديث صحيح.

(2)

في "السنن الكبرى"(10/ 80).

(3)

في "السنن" رقم (3303)، وهو حديث صحيح.

(4)

ذكره البيهقي في "السنن الكبرى"(15/ 80).

ص: 39

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ:"اقْضِهِ عَنْهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: استفتَى سعدُ بنُ عبادةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نذرٍ كانَ على أمهِ توفيتْ قبلَ أنْ تقضيَهُ فقالَ: اقضِهِ عنْها. متفقٌ عليهِ)، لم يبينْ في هذهِ الروايةِ ما هوَ النذرُ، وجاءَ في روايةٍ [البخاري

(2)

]

(3)

: "أفيجزي عنها أنْ أعتقَ عنْها فقالَ: اعتقْ عنْ أمِّكَ"، فظاهرُ هذهِ الروايةِ أنَّها نذرتْ بعتقٍ. وأمَّا ما أخرجَ النسائي

(4)

عنْ سعدِ بن عبادةَ رضي الله عنه قالَ: "قلتُ يا رسولَ اللَّهِ، إن أمي ماتتْ أفأتصدقُ عنْها؟ قالَ: نعمْ، قلتُ: فأيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قالَ: سقْيُ الماءِ"؛ فإنهُ في أمرٍ آخرَ غيرِ الفُتيا إذْ [هنا]

(5)

في سؤالِه صلى الله عليه وسلم عن الصدقةِ تبرُّعًا عنْها. والحديثُ دليلٌ على أنهُ يلحقُّ الميتَ ما فُعِلَ إليهِ منْ بعدِه منْ عتاقة أو صدقةٍ، أو نحوِهما، وقدْ قدمنا ذلكَ في آخرِ كتابِ الجنائزِ، وفيما قرب، وهلْ يجبُ ذلكَ على الوارثِ؟ ذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ لا يجبُ على الوارثِ أنْ يقضيَ النذرَ عن الميتِ إذا كانَ ماليًا، ولم يخلِّفْ تَرِكَة، وكذا غيرُ الماليِّ. وقالتِ الظاهريةُ

(6)

: يلزمهُ ذلكَ لحديثِ سعدٍ. وأُجِيْبَ بأنَّ حديثَ سعدٍ لا دلالةَ فيهِ على الوجوبِ، والظاهرُ معَ الظاهريةِ إذِ الأمرُ للوجوبِ.

‌نذر المكان المعين

18/ 1297 - وَعَنْ ثابِتِ بْنِ الضَّحَاكِ رضي الله عنه قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "هَلْ كَانَ

(1)

البخاري (2761)، ومسلم (1638).

قلت: وأخرجه أبو داود (3307)، والنسائي (3818)، والترمذي (1546). ومالك (2/ 472 رقم 1).

(2)

لم أعثر عليه عند البخاري بهذا اللفظ، واللَّهُ أعلم.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في "السنن"(6/ 255 رقم 3666)، وهو حديث حسن.

(5)

في (ب): "إذ هذا".

(6)

"المحلَّى"(8/ 27، 28).

ص: 40

فِيهَا وَثَنٌ يُعْبَدُ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ " فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: "أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإنَّهُ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا في قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

، وَالطَّبَرَانِيُّ

(2)

، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحُ الإسْنَادِ. [صحيح]

- وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كرْدَمَ عِنْدَ أَحْمَدَ

(3)

. [صحيح]

‌ترجمة ثابت بن الضحاك

(وعنْ ثابتِ بن الضحاكِ)

(4)

هوَ ثابتُ بنُ الضحاكِ الأشهليُّ. قالَ البخاريُّ: هوَ ممنْ بايعَ تحتَ الشجرةِ، حدَّثَ عنهُ أبو قلابةَ وغيرُه (قالَ: نذرَ رجلٌ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ ينحرَ إبلًا بِبُوانَةَ) بضمِّ الموحدةِ وبفتحِها، بعدَ الألفِ نونٌ، موضعٌ بالشامِ، وقيلَ: أسفلَ مكةَ دونَ يلملمَ، (فأتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فسألَه" فقالَ: هلْ كانَ فيها وثنٌ يُعْبَدُ؟ قالَ: لا، قالَ: فهلْ كانَ فيها عيدٌ منْ أعيادِهم؟ فقالَ: لا، فقالَ: أَوْفِ بنذرِكَ فإنهُ لا وفاءَ لنذرٍ في معصيةِ اللهِ تعالَى، ولا في قطيعةِ رحمٍ، ولا فيما لا يملكُ ابنُ آدمَ. رواهُ أبو داودَ، والطبرانيُّ، واللفظُ لهُ، وهوَ صحيحُ الإسنادِ، ولهُ شاهدٌ منْ حديثِ كَردمَ) بفتحِ الكافِ وسكونِ الراءِ، وفتحِ الدالِ المهملةِ، (عندَ أحمدَ). والحديثُ لهُ سببٌ عندَ أبي داودَ

(5)

، وهوَ أنهُ "قال": يا رسول اللَّهِ، إني نذرتُ إنْ وُلِدَ لي ولدٌ ذكرٌ أنْ أذبحَ على رأسِ بوانةَ - في عقبةٍ منَ الصاعدةِ - عنهُ -

(1)

في "السنن"(3/ 607 رقم 3313)، وقال الحافظ في "التلخيص" (4/ 180): بسند صحيح.

(2)

في "الكبير"(2/ 75، 76 رقم 1341).

وهو حديث صحيح. وقد صحَّحه الألباني في "صحيح أبي داود".

(3)

في "المسند"(3/ 419).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3314)، وابن ماجه رقم (2131) بمعناه، وهو حديث صحيح. وقد صحَّحه الألباني في "صحيح أبي داود" و"صحيح ابن ماجه".

(4)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" رقم (558)، و"الإصابة"(895)، و"الاستيعاب"(260)، و"الوافي بالوفيات"(10/ 458)، و"الجرح والتعديل"(2/ 453).

(5)

في "السنن" رقم (3314).

ص: 41

الحديثَ"، وهوَ دليلٌ على أن مَنْ نذرَ أنْ يتصدقَ أوْ يأتي بقربةٍ في محلِّ معيَّنٍ أنهُ يتعينُ عليهِ الوفاءُ بنذرِه ما لم يكنْ في ذلكَ المحلِّ شيءٌ منْ أعمالِ الجاهليةِ. وإلى هذا ذهبَ جماعةٌ منْ أئمةِ الهادويةِ.

وقالَ الخطابي

(1)

: إنهُ مذهبُ الشافعيِّ، وأجازَهُ غيرُه لغيرِ أهلِ ذلكَ المكانِ اهـ.

ولكنهُ يعارضُه حديثُ: (لا تُشَدُّ الرحالُ)

(2)

، فيكونُ قرينةً على أن الأمرَ هنا للندبِ كذا قيلَ، ويدلُّ لهُ أيضًا قولُه:

‌لا يتعين المكان في النذر - وإن عُيِّن - إلا ندبًا

19/ 1298 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ الْفَتحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ في بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ:"صَلِّ هَاهُنَا"، فَسَأَلَهُ فَقَالَ:"صَلِّ هَاهُنَا"، فَسَأَلَهُ فَقَالَ:"فَشَأنَكَ إِذًا". رَوَاهُ أَحْمَدُ

(3)

، وَأَبُو دَاوُدَ

(4)

، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(5)

. [صحيح]

(وعنْ جابرٍ أن رجلًا قالَ يومَ الفتحِ)، [أي: فتحِ مكةَ]

(6)

: (يا رسولَ اللَّهِ، إني نذرتُ إنْ فتحَ الله عليكَ مكةَ أنْ أصلِّيَ في بيتِ المقدسِ، فقالَ: صل هاهُنا، فسألَه فقالَ: صلِّ هاهُنا، فسأله فقالَ: فشأنكَ إذًا. رواة أحمدُ، وأبو داودَ، وصححه الحاكمُ)،

(1)

في "معالم السنن"(3/ 608) - حاشية سنن أبي داود.

(2)

• أخرجه البخاري رقم (1197) و (1995)، ومسلم (2/ 975) رقم (415/ 827)، وأحمد (3/ 34، 51، 52، 71، 77)، والبغوي في شرح السنة" رقم (450) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري.

• وأخرجه البخاري رقم (1189)، ومسلم (511/ 1397)، وأبو داود رقم (2033)، والنسائي (2/ 37)، وأحمد (2/ 238)، والحميدي رقم (943) وغيرهم من حديث أبي هريرة.

(3)

في "المسند"(3/ 363).

(4)

في "السنن"(رقم: 3305).

(5)

في "المستدرك (4/ 304، 305) ووافقه الذهبي. وصحَّحه أيضًا ابن دقيق العيد في "الاقتراح" كما في "التلخيص" (4/ 178) رقم (2067)، وكذلك صححه الألباني في "الإرواء" رقم (972).

(6)

زيادة من (ب).

ص: 42

وصحَّحهُ ابنُ دقيقِ العيدِ في "الاقتراحِ"

(1)

، وهوَ دليلٌ على أنهُ لا يتعينُ المكانُ في النذرِ - وإن عُيِّنَ - إلا ندْبًا.

20/ 1299 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هذَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. [صحيح]

(وعنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: مسجدِ الحرامِ، ومسجدِ الأقصَى، ومسجدي. متفقٌ عليهِ، واللفط للبخاريِّ). تقدَّمَ الحديثُ في آخرِ بابِ الاعتكافِ، ولعلَّه أوردَه هنا للإشارةِ إلى أن النذرَ لا يتعينُ فيهِ المكانُ إلا أحدَ الثلاثةِ المساجدِ. وقدْ ذهبَ مالكٌ والشافعيُّ إلى لزومِ الوفاءِ بالنذرِ بالصلاةِ في أيِّ المساجدِ الثلاثةِ، وخالفَهم أبو حنيفةَ فقالَ: لا يلزمُ الوفاءُ، ولهُ أنْ يصلِّيَ في أيِّ محلٍّ شاءَ، وإنَّما يجبُ عندَه المشيُ إلى المسجدِ الحرامِ إذا كانَ لحجٍّ أوْ عمرةٍ، وأما غيرُ الثلاثةِ المساجدِ، فذهبَ أكثرُ العلماءِ إلى عدمِ لزومِ الوفاءِ لو نذرَ بالصلاةِ فيها إلا ندْبًا، وأما شدُّ الرحالِ للذهاب إلى قبورِ الصالحينَ، والمواضعِ الفاضلةِ فقالَ الشيخُ أبو محمدِ الجوينيُّ

(3)

: إنهُ حرامٌ، وهوَ الذي أشارَ القاضي عياضٌ إلى اختيارهِ.

قالَ النوويُّ (3): والصحيحُ عندَ أصحابِنا، وهوَ الذي اختارَه إمامُ الحرمينِ والمحققونَ - أنهُ لا يحرمُ ولا يُكْرَهُ. قالُوا: والمرادُ أن الفضيلةَ التامةَ إنما هيَ في شدِّ الرحالِ إلى الثلاثةِ خاصةً. وقدْ تقدَّمَ هذا في آخرِ بابِ الاعتكافِ.

‌الوفاء بالنذر بعد الإسلام

21/ 1300 - وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ في

(1)

ذكره الحافظ في "التلخيص" كما تقدم أعلاه.

(2)

البخاري رقم (1197) و (1995)، ومسلم (2/ 975) رقم (415/ 827) وقد تقدم تخريجه في "شرح الحديث" رقم (18/ 1297) من كتابنا هذا.

(3)

ذكره النووي في "شرح مسلم"(9/ 106).

ص: 43

الْجَاهِلِيّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ:"أَوْفِ بِنَذْرِكَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. وَزَادَ الْبُخَارِيُّ في رِوَاية: فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً. [صحيح]

(وعنْ عمرَ رضي الله عنه قالَ: قلت: يا رسولَ اللهِ، إني نذرت في الجاهليةِ أنْ أعتكفَ ليلةً في المسجدِ الحرامِ، قالَ: فأوفِ بنذِركَ. متفقٌ عليهِ. وزادَ البخاريُّ في روايةٍ: فاعتكفَ ليلةً). دلَّ الحديثُ على أنهُ يجبُ على الكافرِ الوفاءُ بما نذرَ بهِ إذا أسلمَ. وإليهِ ذهبَ البخاريُّ، وابنُ جريرٍ، وجماعةٌ منَ الشافعيةِ لهذا الحديثِ، وذهبَ الجماهيرُ إلى أنهُ لا ينعقدُ النذرُ منَ الكافرِ.

قالَ الطحاويُّ: لا يصحُّ منهُ التقربُ بالعبادةِ، قالَ: ولكنهُ يحتملُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فهمَ منْ عمرَ رضي الله عنه أنهُ سمحَ بفعلِ ما كانَ نذرَ فأمرَهُ بهِ لأنَّ فعلَه طاعةٌ وليسَ هوَ ما كانَ نذرَ بهِ في الجاهليةِ. وذهبَ بعضُ المالكيةِ إلى أنهُ صلى الله عليه وسلم إنَّما أمرَ بهِ استحباب وإنْ كانَ التزمَه في حالٍ لا ينعقدُ فيها. ولا يخْفَى أن القولَ الأولَ أوفقُ بالحديثِ والتأويلُ تعسفٌ. وقدِ استدلَّ بهِ على أن الاعتكافَ لا يشترطُ فيهِ الصومُ؛ إذِ الليلُ ليسَ ظرفًا لهُ. وتعقبَ: بأنَّ في روايةٍ عندَ مسلمٍ

(2)

يومًا وليلةً، وقدْ وردَ ذكرُ الصومِ صريحًا في روايةِ أبي داودَ

(3)

، والنسائيّ

(4)

: "اعتكفْ وصمْ"، وهوَ ضعيفٌ.

* * *

(1)

البخاري رقم (2032)، (2043) و (3144)، (4320)، (6697)، ومسلم (3/ 1277 رقم 1656).

قلت: وأخرجه أبو داود (3/ 616 رقم 3325)، والترمذي (4/ 112 رقم 1539)، والنسائي (7/ 21 - 22 رقم 3820، 3821، 3822)، وابن ما جه (1/ 687) رقم (2129)، وأحمد (1/ 37، 419)، والحميدي (2/ 304 رقم 691)، البيهقي (4/ 318) و (10/ 76، 83، 84)، والدارمي (2/ 183).

(2)

في "صحيحه" (3/ 1277 رقم

/ 1656).

(3)

في "السنن"(2/ 837، 838 رقم 2474) و (3/ 616، 617 رقم 3325).

(4)

في "السنن الكبرى" - كما في "تحفة الأشراف"(6/ 18، 19 رقم 7354) من حديث ابن عمر. وهو حديث صحيح دون قوله: "أو يومًا"، وقوله:"وصم".

ص: 44

[الكتاب السادس عشر] كتاب القضَاء

القضاءُ بالمدِّ الولايةُ المعروفةُ، وهوَ في اللغةِ مشترَكٌ بينَ [معان منها]

(1)

: إحكام الشيءِ والفراغِ منهُ. ومنهُ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}

(2)

، وبمعنى وإمضاءِ الأمرِ، ومنهُ:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}

(3)

، وبمعنَى الحتمِ والإلزامِ، ومنهُ:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}

(4)

. وفي الشرعِ إلزامُ ذي الولايةِ بعدَ الترافعِ. وقيلَ هوَ الإكراهُ بحكمِ الشرعِ في الوقائعِ الخاصةِ لمعيَّنٍ أو جهةٍ، والمرادُ بالجهةِ كالحكمِ لبيتِ المالِ أو عليهِ.

‌ينجو من النار من القضاة من عرف الحق وعمل به

1/ 1301 - عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْقُضَاةُ ثَلَاثةٌ: اثْنَانِ في النَّارِ، وَوَاحِدٌ في الْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَرَفَ الْحَق فَقَضَى بِهِ فَهُوَ في الْجَنةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَق فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ في الْحُكْمِ فَهُوَ في النارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فَقَضَى لِلناسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ في النَّارِ". رَوَاهُ

(5)

الأَرْبَعَةُ، وَصحّحَهُ الْحَاكِمُ

(6)

. [صحيح]

(1)

زيادة من (أ).

(2)

سورة فصلت: الآية 12.

(3)

سورة الإسراء: الآية 4.

(4)

سورة الإسراء: الآية 23.

(5)

أخرجه ابن ماجه في "السنن"(3315)، وأبو داود في "السنن"(3573).

والترمذي في "السنن"(1322).

والنسائي في "السنن الكبرى"(3/ 461 رقم 5922/ 1).

(6)

في "المستدرك"(4/ 90) وقال: "صحيح الإسناد"، وردَّه الذهبي بقوله:"قلت: ابن بكير الغنوي منكر الحديث".

وقال الألباني في "الإرواء (8/ 236): "وشيخه حكيم بن جبير مثله أو شر منه فقال فيه =

ص: 45

(عنْ بريدةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: القضاةُ ثلاثةٌ: اثنانِ في النارِ، وواحدٌ في الجنة)، [وكأنهُ]

(1)

قيلَ: مَنْ همْ؟ فقالَ: (رجلٌ عرفَ الحق فقضَى بهِ فهوَ في الجنةِ، ورجلٌ عرفَ الحق فلمْ يقضِ بهِ وجارَ في الحكمِ فهوَ في النارِ، ورجلٌ لم يعرفِ الحق فقضَى للناسِ على جَهْل فهوَ في النارِ. رواهُ الأربعةُ، وصحَّحهُ الحاكمُ).

وقالَ في علومِ

(2)

الحديثِ: تفرَّد بهِ [الخراسانيونَ]

(3)

، ورواتُه مراوزةٌ. قالَ المصنِّفُ: لهُ طرقٌ غيرُ هذهِ جمعتُها في جزءٍ مفردٍ. والحديثُ دليلٌ على أنهُ لا ينجُو منَ النارِ منَ القضاةِ إلا مَنْ عرفَ الحقَّ وعملَ بهِ. والعمدةُ العملُ، فإنَّ منْ عرفَ الحقَّ فلم يعملْ به [فهوَ]

(4)

ومنْ حكمَ بجهلٍ سواءٌ في النارِ. وظاهرُه أن مَنْ حكمَ بجهلٍ وإنْ وافقَ حكمهُ الحقَّ [فإنهُ]

(5)

في النار لأنهُ أطلقُه [وقالَ: فقضَى]

(6)

للناسِ على جهلٍ، فإنهُ يصدقُ على مَنْ وافقَ [الحقَّ وهوَ]

(7)

جاهلٌ في قضائِه - أنهُ قضَى على جهلٍ. وفيهِ التحذيرُ منْ الحكم بجهلٍ أوْ بخلافِ الحقِّ معَ معرفتهِ بهِ. والذي في الحديث أن الناجيَ مَنْ قضَى بالحقِّ عالمًا بهِ، والاثنانِ في النارِ. وفيهِ أنهُ يتضمَّنُ النَّهْيَ عنْ توليةِ الجاهلِ القضاءَ. قالَ في مختصرِ شرحِ السنة: "إنهُ لا يجوزُ لغيرِ المجتهدِ أنْ يتقلَّدَ القضاءَ، ولا يجوزُ للإمامِ توليتُه.

قالَ: والمجتهدُ مَنْ جمعَ خمسةَ علومٍ: علمَ كتابِ اللَّهِ تعالى، وعلمَ سنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأقاويلَ [علماءِ]

(8)

السلفِ منْ إجماعِهم واختلافِهم، وعلمَ اللغةِ، وعلمَ القياسِ، وهوَ طريقُ استنباطِ الحكمِ منَ الكتابِ والسنةِ إذا لم [يجدْه]

(9)

صريحًا في نصِّ كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعٍ، فيجبُ أنْ يعلمَ مِنْ علمِ

= الدارقطني: متروك، ولم يوثقه أحد بخلاف البغوي، فقد قال الساجي:"من أهل الصدق، وليس بقوي. وذكر له ابن عدي مناكير وهذا كل ما جرح به. وذكره ابن حبان في الثقات"، فقول الذهبي: منكر الحديث لا يخلو من مبالغة، وقد قال في "الضعفاء": ضعَّفوه ولم يُترك".

وهو حديث صحيح. وانظر: "الإرواء".

(1)

في (أ)"فكأنه".

(2)

للحاكم النيسابوري (ص 99).

(3)

في (أ)"الخراسيون".

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "في أنه".

(6)

في (أ): "فقال يقضى".

(7)

زيادة من (ب).

(8)

في (أ): "على".

(9)

في (أ): "تجده".

ص: 46

الكتابِ الناسخَ والمنسوخَ، والمجملَ والمفسَّرَ، والخاصَّ والعامَّ، والمحكَمَ والمتشابِهَ، والكراهةَ والتحريمَ، والإباحةَ والندبَ، ويعرفُ منَ السنةِ هذهِ الأشياءَ، ويعرفُ منْها الصحيحَ والضعيفَ، والمسندَ والمرسلَ، ويعرفُ ترتيبَ السنةِ على الكتابِ وبالعكسِ، حتَّى إذا وجدَ حديثًا لا يوافقُ ظاهرُه الكتابَ اهتدَى إلى وجْهِ محمَلِهِ، فإنَّ السنةَ بيانُ للكتابِ فلا تخالفُه، وإنَّما تجبُ معرفةُ ما وردَ منْها منْ أحكامِ الشرعِ دونَ ما عدَاها منَ القصصِ والأخبارِ والمواعظِ، وكذَا يجبُ أنْ يعرفَ منْ علمِ اللغةِ ما أَتَى في الكتابِ والسنةِ منْ أمورِ الأحكامِ دونَ الإحاطةِ بجميعِ لغاتِ العربِ، ويعرفُ أقاويلَ الصحابةِ والتابعينَ في الأحكامِ، ومعظمِ فتاوَى فقهاءِ الأمةِ حتَّى لا يقعَ حكمهُ مخالفًا لأقوالِهم فيأمنُ فيهِ خرقَ الإجماعِ، فإذا عرفَ كلَّ نوعٍ منْ هذهِ الأنواعِ فهوَ مجتهدٌ وإذا لم يعرفْها فسبيلُه التقليدُ. اهـ

(1)

.

‌التحذير من ولاية القضاء والدخول فيه

2/ 1302 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وُلِّيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيرِ سِكِّينٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ

(2)

، وَالأَرْبَعَةُ

(3)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ

(4)

خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبّانَ

(5)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ وُلِّيَ القضاءَ فقدْ ذُبِحَ بغيرِ سكينٍ. رواهُ أحمدُ، والأربعةُ، وصحَّحَهُ ابنُ خزيمةَ، وابنُ حِبَّانَ). دلَّ الحديثُ على

(1)

انظر: "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد" للأمير الصنعاني بتحقيقي.

(2)

في "المسند"(2/ 230 و 365).

(3)

أخرجه أبو داود في "السنن"(3571 و 3572)، وابن ماجه في "السنن"(2308)، والترمذي في "السنن" (1325). وقال: حديث حسن غريب.

قلت: وأخرجه الحاكم في "المستدرك (4/ 91) وقال: حديث صحيح الإسناد، وأقرَّه الذهبي. والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 96)، والدراقطني في "السنن" (4/ 204 رقم 7)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 756 رقم 126)، والخطيب (6/ 150، 151).

(4)

و

(5)

قاله ابن الديبع في "التمييز" رقم الحديث (1357): بتحقيقنا وصحَّحَهُ الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6190).

ص: 47

التحذيرِ منْ ولايةِ القضاءِ، والدخولِ فيهِ كأنهُ يقولُ: منْ تولَّى القضاءَ فقدْ تعرضَ لذبحِ نفسهِ، فليحذرْه وليتوقَّهُ، لأنه إنْ حكمَ بغيرِ الحق معَ علمهِ بهِ أو جهلهِ لهُ فهوَ في النارِ، والمرادُ منْ ذبْحِ نفسهِ إهلاكُها، أي: فقدْ أهلكَها بتوليةِ القضاءِ، وإنَّما قالَ بغير سكينٍ للإعلامِ بأنهُ لم يردْ بالذبحِ فَرْيَ الأوداجِ الذي يكونُ في الغالبِ بالسكينِ، بلْ أُرِيدَ بهِ إهلاكُ النفسِ بالعذاب الأُخرويِّ. وقيلَ: ذبحَ ذبحًا معنويًا، وهوَ لازمٌ لهُ لأنهُ إنْ أصابَ الحقَّ فقدْ أَتعبَ نفسَه في الدُّنيا لإرادتِه الوقوفَ على الحق وطلبِه واستقصاءَ ما تجبُ عليهِ رعايتُه في النظرِ في الحكمِ، والموقفُ معَ الخصْمَيْنِ، والتسويةُ بينَهما في العدلِ والقسطِ وإنْ أخطأ في ذلكَ لزمَهُ عذابُ الآخرةِ، فلا بدَّ لهُ منَ التعبِ والنَّصبِ. ولبعضِهم كلامٌ في الحديثِ لا يوافقُ المتبادَرَ منْهُ.

3/ 1303 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ

(1)

، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ"

(2)

، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

. [صحيح]

(وعنهُ) أي: أبي هريرةَ رضي الله عنه (قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّكم ستحرصونَ على الإمارةِ) عامٌّ لكلِّ إمارةٍ منَ الإمامةِ العظْمى، إلى أدنى إمارةٍ ولوْ على واحدٍ، (وستكونُ ندامةً يومَ القيامةِ، فنعمَ المرضعةُ) أي: في الدُّنيا، (وبئستِ الفاطمةُ) أي: بعدَ الخروجِ منْها. (رواهُ البخاريُّ). قال

(4)

الطيبيُّ: تأنيثُ الإمارةِ غيرُ حقيقيٍّ فتركَ تأنيثَ نِعْمَ وألحقَه ببئسَ نظرًا إلى كونِ الإمارةِ حينئذٍ داهيةً دهْياءَ. وقالَ غيرُه: أنَّثَ في لفظٍ وتركَه في لفظٍ للافتنانِ وإلَّا فالفاعلُ واحدٌ. وأخرجَ الطبرانيُّ

(5)

والبزارُ

(6)

بسندٍ صحيح منْ حديثِ عوفِ بن مالكِ بلفظِ: "أوّلها

(1)

ضرب المرضعة مثلًا للإمارة، وما توصلُهُ إلى صاحبها من المنافع.

(2)

ضرب الفاطمة مثلًا للموت الذي يهدم عليه لذاته ويقطع تلك المنافع.

(3)

في "صحيحه"(7148).

(4)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(13/ 126).

(5)

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 200): رواه البزار والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"(7/ 26 رقم 6747) باختصار، ورجال الكبير رجال الصحيح.

(6)

البزار (2/ 236 رقم 1597 - كشف الأستار).

ص: 48

ملامةٌ، وثانيها ندامةٌ، وثالثُها عذابُ يومِ القيامةِ، إلَّا مَنْ عدلَ". وأخرجَ الطبرانيُّ

(1)

من حديثِ زيدِ بن ثابتٍ يرفعُه: "نعمَ الشيءُ الإمارةُ لمنْ أخذَها بحقِّها وحِلِّها، وبئسَ الشيءُ الإمارةُ لمنْ أخذَها بغيرِ حقِّها، تكونُ عليهِ حسرة يومَ القيامةِ". وهذا يقيِّدُ ما أطلقَ فيما قبلَه. وقد أخرجَ

(2)

مسلمٌ منْ حديثِ أبي ذرٍ قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ألا تستعملُني؟ قالَ: "إنكَ ضعيفٌ، وإنَّها أمانةٌ، وإنَّها يومَ القيامةِ خِزْيٌ وندامةٌ إلَّا مَنْ أخذَها بحقِّها، وأدَّى الذي عليهِ فيها". قالَ النوويُّ

(3)

: هذا أصلٌ عظيمٌ في اجتنابِ الولايةِ لا سيَّما لمنْ كانَ فيه ضعفٌ، وهو في حقِّ من دخَلَ فيها بغيرِ أهليَّةٍ ولم يعدلْ، فإنّه يندمُ على مَا فرَّط فيهِ إذا جُوزِيَ بالجزاءِ يوم القيامةِ، وأما مَنْ كانَ أهلًا لها وعدلَ فيها فأجرُه عظيمٌ كما تضافرتْ بهِ الأخبارُ، ولكنْ في الدخولِ فيها خطرٌ عظيمٌ، ولذلكَ امتنعَ الأكابرُ منْها، فامتنعَ الشافعيُّ لمَّا استدْعاهُ المأمونُ لقضاءِ الشرقِ والغرب، وامتنعَ منهُ أبو حنيفةَ لمَّا استدْعاهُ المنصورُ فحبسَهُ وضربهُ، والذينَ امتنعُوا منَ الأَكابرِ جماعةٌ كثيرونَ، وعدَّ في النجمِ الوهَّاجِ جماعةً.

تنبيهٌ: قوله: ["ستحرصونَ"]

(4)

، دلالةٌ على محبةِ النفوسِ للإمارة لما فيها منْ نيلِ حظوظِ الدنيا ولَذَّاتِها، ونفوذِ الكلمةِ، ولذَا وردَ النَّهْيُ عنْ طَلَبها كما أخرجَ الشيخانِ

(5)

أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لعبدِ الرحمن: "لا تسألِ الإمارةَ فإنكَ إنْ أُعْطِيتَها

(1)

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 200): رواه الطبراني عن شيخه حفص بن عمر بن الصباح الرقي وثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(2)

في "صحيحه" رقم (1825).

(3)

في "صحيح مسلم" بشرح النووي (12/ 210، 211).

(4)

في (أ)"ستحرصوا".

(5)

أخرجه البخاري (6622) و (6722)، و (7146) و (7147).

ومسلم في "صحيحه"(1652).

قلت: وأخرجه النسائي (8/ 225)، وأبو داود (2929)، والترمذي (1529)، وأحمد (5/ 62، 63)، وعبد الرزاق (20654)، وأبو يعلى في "المسند" رقم (1516)، والطبراني في "الأوسط"(1/ 37، 38، 349) و (2/ 186)، والبيهقي (10/ 100)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 230)، (8/ 387)، (9/ 18، 19)، والخطيب في "التاريخ"(2/ 400) و (4/ 189، 288) و (7/ 161) و (8/ 480) و (12/ 421، 450، 451)، والدارمي (6/ 186)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(2/ 91 رقم 948)، وابن الجارود (998).

ص: 49

عنْ مسألةٍ وُكِلْتَ إليها، وإنْ أعطيتَها عنْ غيرِ مسألةٍ أُعِنْتَ عليها". وأخرجَ أبو داودَ

(1)

والترمذيُّ

(2)

عنهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَلَبَ القضاءَ واستعانَ عليهِ وُكِلَ إليهِ، ومَنْ لم يطلبْه ولم يستعنْ عليهِ أنزلَ اللَّهُ مَلكًا يسدِّده". وفي صحيحِ

(3)

مسلمٍ أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "واللَّهِ لا نولِّي هذا الأمرَ أحدًا سألَه، ولا أحدًا حرَصَ عليهِ" حرَصَ بفتحِ الراءِ. قالَ اللَّهُ تعالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}

(4)

، ويتعينُ على الإمامِ أنْ يبحثَ عنْ أَرضَى الناسِ وأفضلِهم فيوليهِ، لما أخرجَه الحاكمُ

(5)

والبيهقيُّ

(6)

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "من استعملَ رجلًا على عصابةٍ وفي تلكَ العصابةِ مَنْ هوَ أرضَى للَّهِ تعالَى منهُ فقدْ خَانَ الله ورسولَه وجماعةَ المسلمينَ"؛ وإنَّما نَهَى عنْ طلبِ الإمارةِ لأنَّ الولايةَ تفيدُ قوةً بعدَ ضعفٍ، وقدرةً بعدَ عجزٍ تتخذُها النفسُ المجبولةُ على الشرِّ وسيلةً إلى الانتقامِ منَ العدوِّ، والنظرِ للصديقِ، وتتبعِ الأغراضِ الفاسدةِ، ولا يوثقُ بحسنِ عاقبتِها، ولا سلامةِ مجاورتها، فالأَوْلَى أن لا [تطلبَ]

(7)

ما أمكنَ. وإنْ كانَ قدْ أخرجَ أبو داودَ

(8)

بإسنادٍ حسنٍ عنهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طلبَ قضاءَ المسلمينَ [حتى ينالَهُ]

(9)

فغلبَ عدْلُه جورَه فلهُ الجنةُ، ومَنْ غَلبَ جورُه عدلَه فلهُ النارُ".

(1)

في "السنن"(3578).

(2)

في "السنن"(1323) وحسَّنه من حديث أنس.

قلت: وأخرجه ابن ماجه في "السنن"(2309).

وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" للألباني (3/ 296 رقم 1154).

(3)

في "صحيحه"(14/ 1733) من حديث أبي موسى.

قلت: وأخرجه البخاري (7149).

(4)

سورة يوسف: الآية 103.

(5)

في المستدرك" (4/ 92). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي.

(6)

في "السنن الكبرى"(10/ 118) كلاهما عن ابن عباس.

قلت: وأخرجه العقيلي (1/ 248) بنحوه وابن عدي في "الكامل"(2/ 763) بلفظ: "من استعمل عاملًا على قوم

" الحديث بنحوه. وفيه حسين بن قيس الرحبي الملقب بحنش متروك. والحديث ضعيف.

(7)

في (أ): "يطلب".

(8)

في "السنن"(3575) وإسنادهُ ضعيف.

(9)

زيادة من (ب).

ص: 50

‌شرط الحاكم الاجتهاد

4/ 1304 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُم أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُم أَخْطَأ فَلَهُ أَجْرٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ عمرِو بن العاصِ أنهُ سمعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: إذا حكمَ الحاكمُ) أي: أرادَ الحكمُ لقولِه (فاجتهدَ)، فإنَّ الاجتهادَ قبلَ الحكمِ، (ثمَّ أصابَ فلهُ أجرانِ، فإذا حكمَ واجتهدَ ثمَّ أخطأَ) أي: لم [يوافقْ]

(2)

ما [هوَ]

(3)

عندَ اللَّهِ منَ الحُكم (فله أجرٌ. متفقٌ عليه). الحديثُ منْ أدلةِ القولِ بأنَّ الحكمَ عندَ الله تعالَى في كلِّ قضيةٍ واحدٌ معيَّنٌ قدْ يصيبُه مَنْ أعملَ فكْرَهُ وتتبعَ الأدلةَ، [ووفَّقَه]

(4)

اللَّهُ، فيكونُ لهُ أجرانِ: أجرُ الاجتهادِ، وأجرُ الإصابةِ. والذي لهُ أجرٌ واحدٌ منِ اجتهدَ فأخطأَ فلهُ أجرُ الاجتهادِ. واستدلُّوا بالحديثِ على أنهُ يُشْتَرَطُ أنْ يكونَ الحاكمُ مجتهدًا. قال الشارحُ وغيرُه: وهوَ المتمكِّنُ منْ أَخْذِ الأحكامِ منَ الأدلةِ الشرعيةِ قالَ: ولكنَّه

(1)

أخرجه البخاري (7352)، ومسلم رقم (1716)، وأحمد (4/ 198، 204)، والدارقطني (4/ 211)، والبيهقي (10/ 118، 119)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" رقم (1662).

• وأخرجه مسلم (1716)، وأبو داود رقم (3574)، والدارقطني (4/ 210، 211، 211)، والبغوي رقم (2509) من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، به.

قلت: وفي الباب من حديث أبي هريرة قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا حكمَ الحاكمُ فاجتهدَ فأصاب فله أجرانِ، وإذا حكمَ، فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ".

• أخرجه البخاري رقم (7352)، ومسلم رقم (1716)، وأبو داود (3574)، وابن ماجه رقم (2314)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(8/ 158). والدارقطني (4/ 210، 211 و 211)، والبيهقي (15/ 119)، والبغوي رقم (2509)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" رقم (1664)، وأحمد (4/ 198، 204، 205)، والشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 176، 177) من طريق يزيد بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن حزم، به وأخرجه الترمذي رقم (1326)، والنسائي (8/ 223، 224)، والبيهقى (10/ 119) من طرق عن عبد الرزاق به.

(2)

في (أ): "يوافقه".

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (أ): "ووفق".

ص: 51

يعزُّ وجودُه بلْ كادَ يعدمُ بالكليةِ، ومعَ تعذُّرهِ فمنْ شرطَه أنْ يكونَ مقلّدًا مجتهدًا في مذهبِ إمامِه. ومنْ شرطِه أنْ يتحققَ أصولَ إمامهِ وأدلَّتَه، وينزلَ أحكامَه عليها فيما لم يجدْه منصُوصًا منْ مذهبِ إمامه، انتهى.

قلت: ولا يخْفَى ما في الكلامِ منَ البطلانِ، وإنْ تطابقَ عليهِ الأعيانُ، وقدْ بيَّنَّا بطلانَ دعْوى تعذرِ الاجتهادِ في رسالتِنا المسمَّاةِ بإرشادِ النقادِ إلى تيسيرِ الاجتهادِ

(1)

بما لا يمكنُ دفعُه، وما أَرى هذه [الدعْوى]

(2)

التي تطابق عليها الأنظارُ إلَّا منْ كفرانِ نعمةِ اللَّهِ عليهم، فإنَّهم - أعني المدعينَ لهذِه الدعْوى والمقررينَ لها - مجتهدونَ يعرفُ أحدُهم مِنَ الأدلةِ ما يمكنُه بها الاستنباطُ مما لم يكنْ قدْ عرفَه عتابُ بن أسيدٍ قاضي رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على مكةَ، ولا أبو موسَى [الأشعريُّ]

(3)

قاضي رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في اليمنِ، ولا معاذُ بن جبل قاضيْه فيها [وعاملُه عليها]

(4)

، ولا شريحٌ قاضي عمرَ وعليٍّ رضي الله عنه[على الكوفة]

(5)

.

ويدلُّ لذلكَ قولُ الشارحِ: فمنْ شرطِه، أي [المقلدِ]

(6)

أنْ يكونَ مجتهدًا في مذهبِ إمامه، فإنَّ هذَا هوَ الاجتهادُ الذي حكمَ بكيدودةِ عدمِه بالكليةِ وسمَّاهُ متعذِّرًا، فهلَّا جعلَ هذا المقلِّدُ إمامَه كتابَ اللَّهِ وسنةَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِوَضًا عنْ إمامِه، وتتبعَ نصوصَ الكتابِ والسنةِ عوضًا عن [تَتَبُّع]

(7)

نصوصِ إمامهِ والعباراتُ كلُّها ألفاظٌ دالة على معاني، فهلَّا استبدلَ بالفاظِ إمامِه ومعانيها ألفاظَ الشارعِ ومعانيها، ونزَّلَ الأحكامَ عليها إذا لم يجدْ نصًا شرعيًا عِوَضًا عنْ تنزيلِها على مذهبِ إمامهِ فيما لم يجدْه منصُوصًا، تاللَّهِ لقدِ استبدلَ الذي هوَ أدنَى بالذي هوَ خيرٌ منْ معرفةِ الكتابِ والسنةِ إلى معرفةِ كلام الشيوخِ والأصحابِ وتفهمِ مرامِهم، والتفتيشِ عنْ كلامهم. ومنَ المعلومِ يقينًا أَنَّ كلامَ اللَّهِ تعالى وكلامَ رسولِه صلى الله عليه وسلم أقربُ إلى الأفهامِ وأدنى إلى إصابة بلوغ

(8)

المرامِ، فإنهُ أبلغُ الكلامِ بالإجماعِ، وأعذبُه في الأفواهِ والأسماعِ، وأقربُه إلى الفهمِ والانتفاعِ، ولا ينكرُ هذا إلا

(1)

طبع بتحقيقي ولله الحمد.

(2)

في (أ): "الدعاوي".

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "بالكوفة".

(6)

في (أ): "التقليد".

(7)

زيادة من (ب).

(8)

أي بأنه لا يكاد يوجد.

ص: 52

جلمودُ الطباعِ، ومَنْ لا حظَّ لهُ في النفعِ والانتفاعِ، والأفهامُ التي فهمَ بها الصحابةُ الكلامَ الإلهيَّ، والخطابَ النبويَّ هيَ كأفهامِنا، وأحلامُهم كاحلامِنا، إذْ لوْ كانتِ الأفهامُ متفاوتةً تفاوتًا يسقطُ معهُ فهمُ العباراتِ الإلهيةِ، والأحاديثِ النبويةِ لما كنَّا مكلَّفينَ ولا مأمورينَ ولا منهيينَ، لا اجتهادًا ولا تقليدًا. أما الأولُ فلإحالته، وأما الثاني فَلانَّا لا نقلِّدُ حتَّى نعلمَ أنهُ يجوزُ لنا التقليدُ، ولا نعلمُ ذلكَ إلا بعدَ فهمِ الدليلِ منَ الكتابِ والسنةِ على جوازِه لتصريحِهم بأنهُ لا يجوزُ التقليدُ في جوازِ التقليدِ، فهذا الفهمُ الذي فهمْنا بهِ هذا الدليلَ نفهمُ بهِ غيرَه منَ الأدلةِ منْ كثيرٍ وقليلٍ، على أنهُ قدْ شهدَ المصْطَفَى صلى الله عليه وسلم بأنهُ يأتي مِنْ بعدِه مَنْ هوَ أفقهُ ممنْ هو في عصرِه، وأوعَى لكلامِه حيثُ قالَ:"فربَّ مبلغٍ أفقهُ منْ سامعٍ"

(1)

، وفي لفظٍ:"أوعَى لهُ من سامع"

(2)

. والكلامُ قدْ وفَّيْنَاهُ حقَّه في الرسالةِ المذكورةِ، ومنْ أحسنِ ما [يعرفُه]

(3)

القضاةُ كتابُ عمرَ رضي الله عنه الذي كتَبه إلى أبي موسَى الذي رواهُ أحمدُ

(4)

والدارقطني

(5)

، والبيهقيّ

(6)

، قالَ الشيخُ أبو إسحاقَ: هوَ أجلّ كتابٍ فإنهُ بيَّنَ آدابَ القضاةِ، وصفةَ الحكمِ، وكيفيةَ الاجتهادِ واستنباطَ القياسِ،

(1)

أخرجه الترمذي (7/ 417 - مع التحفة)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (1/ 85 - 232)، وأحمد (1/ 166 - الفتح الرباني).

قلت: مدار حديث ابن مسعود في كل طرقه على ابنه عبد الرحمن وهو مدلس من المرتبة الثالثة، ولم يصرح بالسماع. ولكن يشهد له حديث زيد بن ثابت الذي أخرجه الترمذي (7/ 415 - مع التحفة). وقال: حديث حسن، وأبو داود (10/ 94 - مع العون)، وأحمد (1/ 164 - الفتح الرباني)، وابن ماجه (1/ 84 - 230). وكذلك يشهد له من حديث: جبير بن مطعم الذي أخرجه أحمد (1/ 165 - الفتح الرباني)، وابن ماجه (1/ 85 - 231) فالحديث صحيح لغيره.

وقد صحَّحه الترمذي، والألباني في "صحيح الجامع"(6/ 29 - 6640).

(2)

أخرجه ابن ماجه في "السنن"(233).

(3)

في (أ): "يعرف".

(4)

في "مسنده".

(5)

في "السنن"(4/ 206، 207 رقم 15) وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد وهو ضعيف.

(6)

في "السنن الكبرى"(10/ 115).

وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين"(1/ 86) بعد أن أورده: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، إلى تأمله والتفقه فيه.

ص: 53

ولفظُه: "أما بعدُ فإنَّ القضاءَ فريضةٌ محكمةٌ وسنةٌ متَّبعةٌ، فعليكَ بالعقلِ والفهمِ وكثرةِ الذكرِ، فافهمْ إذا أدلَى إليكَ الرجلُ الحجةَ فاقضِ إذا فهمتَ، وامضِ إذا قضيتَ. فإنهُ لا ينفعُ [تكلُّمٌ]

(1)

بحقٍ لا نفاذَ لهُ. آسِ بينَ الناسِ في وجهكَ ومجلسِكَ وقضائِكَ حتَّى لا يطمعَ شريفٌ في حيفكَ، ولا ييأسَ ضعيفٌ منْ عدلِكَ. البينةُ على المدَّعي واليمينُ على مَنْ أنكرَ، والصلحُ جائزٌ بينَ المسلمينَ إلا صلحًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالًا. ومن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بينةً فاضربْ لهُ أمدًا ينتهي إليهِ، فإنْ جاءَ ببيِّنتِه أعطيتَهُ حقَّهُ، وإلَّا استَحْلَلْتَ عليهِ القضيّةَ، فإنَّ ذلكَ أبلغُ في العُذرِ، وأجْلَى للعَمى. ولا يمنعكُ قضاءٌ قضيتَ فيهِ اليومَ فراجعتَ فيهِ عقلكَ وهُدِيْتَ فيهٍ لرشدَكَ أنْ ترجَع إلى الحقِّ، فانَّ الحقَّ قديمٌ ومراجعةُ الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطلِ. الفهمَ الفهمَ فيما يختلجُ في صدركَ مما ليسَ في كتابِ اللَّهِ ولا سنةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ اعرفْ الأشباهَ والأمثالَ وقسِ الأمورَ عندَ ذلكَ، واعمدْ إلى أقربها إلى اللَّهِ تعالَى وأشبهِهَا بالحقِّ. المسلمونَ عدولٌ بعضُهم على بعضٍ إلَّا مجلُودًا في حدٍّ، أو مجرَّبًا عليهِ شهادةُ زورٍ، أو ظِنِّيْنًا في ولاءٍ أو نسبٍ أو قرابةٍ، فإنَّ الله تعالَى تولَّى منكمُ السرائرَ. وادرأ بالبيناتِ والأيمانِ، وإياك والغضبَ والقلقَ والضجرَ، والتأذيَ بالناسِ عندَ الخصومةِ، [والتفكرِ]

(2)

عندَ الخصوماتِ، فإنَّ القضاءَ عندَ مواطنِ الحقَّ، يوجبُ اللَّهَ تعالى بهِ الأجرَ، ويحسنُ بهِ الذكرَ. فمنْ خلصتْ نيتُه في الحقِّ ولوْ على نفسِه كفاهُ اللَّهُ (تعالى) ما بينَه وبينَ الناسِ، ومَنْ تخلَّق للناسِ بما ليسَ في قلبِهِ شانَهُ اللَّهُ تعالَى، فإنَّ اللَّهَ تعالَى لا يقبلُ منَ العبادِ إلَّا ما كانَ خالصًا، فما ظنكَ بثوابٍ منَ اللَّهِ في عاجلِ رِزْقه، وخزائن رحمتِهِ، والسلامُ اهـ". ولأمير المؤمنينَ عليٍّ عليه السلام في عهدٍ عهِده إلى الأشترِ لما ولَّاه مصرَ فِيْهِ عدةُ نصائح وآدابٍ ومواعظَ وحكمٍ، وهوَ معروفٌ في النهجِ لم أنقلْه لشهرتِه. وقدْ أُخِذَ منْ كلامِ عمرً أنهُ ينقضُ القاضي حُكْمُه إذا أخطأَ، ويدلُّ لهُ ما أخرجَه

(3)

الشيخانِ منْ حديثِ أبي هريرةَ أنهُ قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بينَما امرأتانِ معَهُما ابناهُما جاءَ الذئبُ فذهبَ بابنِ إحداهُما

(1)

في (أ): "كلام".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(3244 - البغا)، ومسلم في "صحيحه"(1720).

ص: 54

فقالتْ هذهِ لصاحِبَتها: إنما ذهبَ بابنِكِ، وقالتِ الأُخرى: إنما ذهبَ بابنِكِ، فتحاكَمَتَا إلى داودَ عليه السلام فقضَى بهِ للكُبرى فخرجَتَا إلى سليمانَ فأخبرتاهُ فقال: ائتوني بالسكينِ أشقُّه بينَكُما نصفينِ، فقالتِ الصغْرى: لا تفعلْ يرحمْك اللَّهُ هوَ ابنُها فقضَى بهِ للصُّغْرى". وللعلماءِ قولانِ في المسألةِ: قولٌ إنهُ ينقضه إذا أخطأ، والآخرُ لا ينقضُهُ لحديث: "وإنْ أخطأ فلهُ أجرٌ"

(1)

.

قلتُ: ولا يخْفَى أنهُ لا دليلَ فيهِ لأنَّ المرادَ: أخطأَ ما عندَ اللَّهِ، وما هوَ في نفسِ الأمرِ [من الحقِّ وهذا الخطأُ]

(2)

لا يعلمُ إلا يومَ القيامةِ، أوْ بوحيٍ منَ اللَّهِ تعالَى، والكلامُ في الخطأِ يظهرُ [له في الدنيا منْ]

(3)

عدمِ استكمال شرائطِ الحكمِ أو نحوِه.

‌لا يقضي القاضي وهو مشوش الفكر

5/ 1305 - وَعَنْ أَبي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَينَ اثْنَينِ وَهُوَ غَضْبَان"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

. [صحيح]

(وعَنْ أبي بكرةَ رضي الله عنه قالَ: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: لا يحكمُ أحدٌ بينَ اثنينِ وهوَ غضبانٌ. متفقٌ عليهِ). النَّهْيُ ظاهرٌ في التحريمِ، وحملَه الجمهورُ علَى الكراهةِ، وترجَم النوويُّ في شرحِ مسلم

(5)

لهُ ببابِ كراهةِ قضاءِ القاضي وهوَ غضبانُ. وترجمَ البخارى

(6)

ببابِ هلْ يقضي القاضي أو يفتي المفتي وهوَ غضبانُ؟ وصرَّحَ النوويُّ

(7)

بالكراهةِ في ذلكَ، وإنَّما حملُوه على الكراهةِ نظَرًا إلى العلةِ المستنبَطَةِ المناسبةِ لذلكَ، وهو أنهُ لما رتَّبَ النَّهْيَ على الغضبِ، والغضبُ بنفسِه لا مناسبةَ فيهِ لمنعِ الحكمِ، وإنَّما ذلكَ لما هوَ مظنةٌ لحصولِه، وهوَ تشويشُ

(1)

تقدم تخريجه حديث (4/ 1304) من كتابنا هذا.

(2)

في (أ)"ولم يعلم بخطأه وهذا".

(3)

في (أ)"بعد الحكم بسبب".

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(7158)، ومسلم (16/ 1717).

قلت: وأخرجه أبو داود (3589)، والترمذي (1334)، والنسائي (8/ 237)، وابن ماجه (2316)، والبيهقي (10/ 104، 105).

(5)

(12/ 15).

(6)

في "صحيحه"(13/ 136).

(7)

في "شرحه لمسلم"(12/ 15).

ص: 55

[الفكرِ ومشغلةُ]

(1)

القلبِ عن استيفاءِ ما يجبُ منَ النظرِ، وحصولُ هذا قدْ يفضي إلى الخطأِ عن الصوابِ، ولكنهُ غيرُ مطَّرِدٍ معَ كلِّ غضبٍ، ومعَ كلِّ إنسانٍ، فإنْ أفَضَى الغضبُ إلى عدم تمييزِ الحق منَ الباطلِ فَلَا كلامَ في تحريمهِ، وإنْ لم يفضِ إلى هذا الحدِّ فأقلُّ أحوالِهِ الكراهةُ، وظاهرُ الحديثِ أنهُ لا فرقَ بينَ مراتبِ الغضبِ، ولا بينَ أسبابهِ. وخصَّهُ البغويُّ

(2)

وإمامُ الحرمينِ

(3)

بما إذا كان الغضبُ لغيرِ اللَّهِ تعالى، وعللَّ بأنَّ الغضبَ للَّهِ يؤمَنُ معَهُ منَ التعدِّي بخلافِ الغضبِ للنفسِ، واستبعدَه جماعةٌ لمخالفتِه لظاهرِ الحديثِ، والمعنَى الذي لأجلِه نُهِيَ عن الحكمِ معَهُ، ثمَّ لا يخْفَى أن الظاهرَ في النَّهْي التحريمُ، وأنَّ جَعْلَ العلةِ المستنبطةِ صارفةً إلى الكراهةِ بعيدٌ. وأما حكمهُ صلى الله عليه وسلم

(4)

معَ غضبِه في قصةِ الزبيرِ، فلمَا عُلِمَ منْ أن عصمتَه مانعةٌ عنْ إخراجِ الغضبِ لهُ عن الحقِّ، ثمَّ الظاهرُ عدمُ نفوذِ الحكمِ معَ الغضبِ؛ إذِ النهْيُ يقتضي الفسادَ. والتفرقة بينَ النهي للذاتِ والنهي للوصفِ كما يقولُه الجمهورُ غيرُ واضحٍ كما قررَ في غيرِ هذا المحلِّ. وقدْ أُلْحِقَ بالغضبِ الجوعُ والعطش المفرطينِ لما أخرجه الدارقطنيُّ

(5)

والبيهقيُّ

(6)

بسندٍ تفردَ بهِ القاسمُ العمريُّ وهوَ ضعيفٌ عنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يقضي القاضي إلَّا وهوَ شبعانٌ ريَّانُ"، وكذلك أُلْحِقَ بهِ كلُّ ما يشغلُ القلبَ، ويشوشُ الفكرَ منْ غلبةِ النعاسِ، أو الهمِّ أو المرضِ أو نحوهما.

(1)

في (أ): "الخاطر وشغل".

(2)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(13/ 138).

(3)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(13/ 138).

(4)

يشير المؤلف رحمه الله إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2359، 2360)، ومسلم رقم (2357)، وأبو داود رقم (3637)، والترمذي رقم (1363)، والنسائي (5409)، وابن ماجه رقم (2480)، والبيهقي (10/ 104 و 105) من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه:"أنه اختصم هو وأنصاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى أخيك، فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أنْ كان ابن عمتك، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسقِ يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر".

(5)

في "السنن"(4/ 206 رقم 14) وفيه القاسم العمري وهو متهم بالوضع كذا في التلخيص (4/ 189 رقم 2090).

(6)

في "السنن الكبرى"(10/ 105، 106) والخلاصة: أنّ الحديث ضعيف.

ص: 56

‌لا يقضي القاضي حتى يسمع من الخصمين

6/ 1306 - وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَقَاضَى إِلَيكَ رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ للأَوَّلِ حَتى تَسْمَعَ كَلامَ الآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْري كَيفَ تَقْضِي"، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضيًا بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

، وَأَبُو دَاوُدَ

(2)

: وَالتِّرْمِذِيُّ

(3)

وَحَسّنَهُ، وَقَوّاهُ ابْنُ الْمَدِيني، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(4)

. [صحيح]

(وعنْ عليٍّ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذا تقاضَى إليكَ رجلانِ فلا تقضِ للأولِ حتَّى تسمعَ كلامَ الآخرِ، فسوفَ تدري كيفَ تقضي. قالَ عليٌّ رضي الله عنه: فما زلتُ قاضيًا بعدُ. رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ وحسَّنهُ، وقوَّاهُ ابنُ المديني، وصحَّحَهُ ابنُ حبانَ). الحديثُ أخرجُوه منْ طرقٍ أحسنُها روايةُ البزارِ

(5)

عنْ عمرِو بن مُرَّةَ عنْ عبدِ اللَّهِ بن سلمةَ عنْ عليٍّ رضي الله عنه، وفي إسنادِه عمرُو بنُ أبي المقدامِ، واختُلِفَ فيهِ على عمرِو بن مُرَّةَ، فرواهُ شعبةُ عنْ أبي البختريِّ قالَ: حدثني مَنْ سمعَ عليًا رضي الله عنه أخرجَهُ أبو يعلى

(6)

، وإسنادُه صحيحٌ لولا هذَا [المبهمُ]

(7)

، ولهُ طرقٌ أُخَرُ تشهدُ لهُ، ويشهدُ لهُ الحديثُ الآتي:

(1)

في "المسند"(1/ 90، 96، 111).

(2)

في "السنن"(3582).

(3)

في "السنن"(1331) وقال: حديث حسن.

(4)

في "صحيحه" رقم (5065).

قلت: وأخرجه الطيالسي رقم (125)، والنسائي في "خصائص علي" رقم (34)، والبيهقي (10/ 137) من طرق عن سماك بن حرب، عن حنش، عن علي، به.

• وأخرجه ابن ماجه رقم (2310)، والحاكم (3/ 135) والنسائي في "خصائص علي" رقم (31، 32، 33) من طريق عمرو بن مرة، عن أبي البختري عن علي. وصحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. مع أن فيه انقطاعًا، فإن أبا البختري - واسمه سعيد بن فيروز، لم يسمع من علي شيئًا.

• وأخرجه أحمد (1/ 136)، والطيالسي رقم (98)، والبيهقي (10/ 86، 87) من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري عمن سمع عليًا، عن علي، والخلاصة فالحديث صحيح. وصححه الألباني في "الإرواء" رقم (2600).

(5)

لم أجده في "البحر الزخار مسند علي".

(6)

في "المسند"(1/ 305 رقم 111/ 371).

(7)

في (أ): "المتهم".

ص: 57

7/ 1307 - وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِم

(1)

مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَباسٍ. [إسناده حسن]

وهوَ قولُه: (وله شاهدٌ عندَ الحاكمِ منْ حديثِ ابن عباسٍ رضي الله عنه). والحديثُ دليلٌ على أنهُ يجبُ على الحاكمِ أنْ يسمعَ دعْوى المدَّعي أولًا، ثمَّ يسمعُ [جوابَ]

(2)

المجيبِ، ولا يجوزُ لهُ أنْ يبنيَ الحكمَ على [مجرد]

(3)

سماعِ دعْوى المدَّعي قبلَ جوابِ المجيبِ، فإنْ حكمَ قبلَ سماعِ الإجابةِ عَمْدًا بطلَ قضاؤُه، وكانَ قدْحًا في عدالته [ينعزل به]

(4)

، وإن كانَ خطأَ لم [يكن قادحًا]

(5)

، وأعادَ الحكمَ على وجْهِ الصحةِ، وهذا حيثُ أجابَ الخصمُ، فإنْ سكتَ عن الإجابةِ أوْ قالَ: لا أقرُّ ولا أنكرُ ففي البحر

(6)

عن الإمام يحيى ومالك يحكمُ عليهِ [لتصريحهِ]

(7)

[بالتمرُّد]

(8)

، وإنْ شاءَ حبَسهُ حتَّى [يقرَّ]

(9)

[أو ينكرَ]

(10)

. وقيلَ: بلْ يلزمُه الحقُّ بسكوته؛ إذ الإجابةُ تجبُ فورًا فإذا سكتَ كانَ كنكولِه.

وأجيبَ بأنَّ النكولَ الامتناعُ [من]

(11)

اليمينِ، وهذا ليسَ منهُ، وقيلَ يحبسُ حتَّى يقرَّ أو ينكرَ. وأجيبَ بأنَّ التمردَ كافٍ في جوازِ الحكمِ؛ إذِ الحكمُ شرعٌ لفصلِ الشجارِ، ودفعِ [الضرر]

(12)

، هذا حاصلُ ما في البحرِ والأوْلَى أنْ يُقالُ: ذلكَ حكْمه حكمُ الغائبِ فمنْ أجازَ الحكمَ على الغائبِ أجازَه على الممتنعِ عن الإجابةِ، لاشتراكِهما في عدمِ الإجابةِ، وفي الحكمِ على الغائبِ قولانِ: الأولُ أنهُ لا يحكمُ على الغائبِ لأنهُ لوْ كانَ الحكمُ عليهِ جائزًا لم يكنِ الحضورُ عليهِ واجبًا، ولهذَا الحديثِ فإنهُ دل على أنهُ لا يحكمُ حتَّى يسمعَ كلامَ المدَّعَى عليهِ، والغائبُ لا يُسْمَعُ لهُ جوابٌ، وهذا [الذي ذهبَ إليهِ]

(13)

زيدُ بنُ علي وأبو حنيفةَ، والثاني يحكمُ عليهِ لما تقدَّمَ منْ حديثِ هندٍ. وتقدمَ الكلامُ فيهِ مستوفَى.

(1)

في "المستدرك"(4/ 93) من حديث علي وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(2)

في (أ): "إجابة".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في (أ): "بغير".

(6)

(5/ 129).

(7)

في (أ): "لتمرده".

(8)

زيادة من (ب).

(9)

في (أ): "يجب".

(10)

زيادة من (ب).

(11)

في (أ): "عن"

(12)

في (ب): "الضرار".

(13)

في (أ): "مذهب".

ص: 58

وهذا مذهبُ الهادويةِ ومالكٍ والشافعيّ وأحمدَ

(1)

، وحملُوا حديثَ عليٍّ هذا على الحاضرِ، وقالُوا: الغائبُ لا يفوتُ عليه حق [فإنه إذا]

(2)

حضرَ [كانتْ]

(3)

حجتُه [قائمة]

(4)

، وتُسْمَعُ ويعملُ بمقتضَاها، ولو أدَّى إلى نقضِ الحكمِ لأنهُ في حكم المشروط.

‌حكم الحاكم لا يحل للمحكوم له الباطل

8/ 1308 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضِ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيئًا فَإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

. [صحيح]

(وعنْ أمِّ سلمةَ رضي الله عنها قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنكم تحْتصمونَ إليَّ، فلعل بعضَكم أنْ يكونَ ألحنَ بحجَّتِهِ منْ بعضٍ فأقضي لهُ علَى نحوِ ما أسمعُ منهُ، فمنْ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (أ): "على".

(4)

زيادة من (ب).

(5)

• أخرجه مسلم (4/ 1713)، والترمذي (1339)، والنسائي (8/ 233)، وابن ماجه رقم (2317)، وابن الجارود رقم (999)، وأحمد (6/ 203، 290، 291، 307)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(7/ 233)، والدارقطني (4/ 239)، والبيهقي (10/ 149) والطبراني في "الكبير"(23/ رقم 906، 907).

من طرق عن هشام بن عُروة عن أبيه، عن زينب عن أم سلمة، به.

• وأخرجه البخاري رقم (2458) و (7181) و (7185)، ومسلم رقم (5، 6/ 1713)، والطحاوي في شرح معاني الآثار" (4/ 154)، والطبراني في "الكبير" (23/ رقم 803، 902، 903)، والدارقطني (4/ 239)، والبيهقي (10/ 143، 149، 150) من طريقين عن عروة، به.

• وأخرجه أحمد (6/ 320، وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 234)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 154) و"مشكل الآثار"(1/ 329، 330)، والطبراني في "الكبير"(23/ رقم 663)، وابن الجارود رقم (1000)، والدارقطني (4/ 239)، والبيهقي (6/ 66)، والبغوي في شرح السنة" رقم (2508) من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة بنحوه في حديث طويل.

ص: 59

قطعتُ لهُ منْ أخيهِ شيئًا) زادَ في

(1)

روايةٍ: "فلا يأخذْهُ" رواهُ ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ، (فإنَّما أقطعُ لهُ قطعةً منَ النارِ. متفقٌ عليهِ). اللحن هوَ الميلُ [عن]

(2)

جهةِ الاستقامةِ، والمرادُ أن بعضَ الخصماءِ يكونُ أعرفَ بالحجةِ وأفطنَ لها منْ غيرِه. وقولُه:"على نحوِ ما أسمعُ" أي منَ الدَّعْوى والإجابةِ والبينةِ واليمينِ، وقدْ تكونُ باطلةً في نفسِ الأمرِ فيقتطعُ منْ مالِ أخيهِ قطعةً منْ [نارٍ]

(3)

، باعتبارِ ما يؤولُ إليهِ منْ بابِ:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}

(4)

. والحديثُ دليلٌ على أن حكمَ الحاكمِ لا يحلُّ بهِ للمحكومِ عليه ما حكمَ لهُ بهِ على غيرهِ، إذا كانَ ما ادَّعاهُ باطلًا في نفسِ الأمرِ، وما أقامهُ منَ الشهادةِ كاذِبًا، وأما الحاكمُ فيجوزُ لهُ الحكمُ بما ظهرَ لهُ والإلزامُ بهِ، وتخليصُ المحكومِ عليهِ مما حكمَ بهِ لو امتنعَ، وينفذُ حكْمَهُ ظاهرًا ولكنَّهُ لا يحلُّ بهِ الحرامَ إذا كانَ المدّعي [مبطلًا وشهادتُه]

(5)

كاذبةً، وإلى هذا ذهبَ الجمهورُ. وخالفَ أبو حنيفةَ فقالَ: إنهُ ينفذُ [حكمه] ظاهرًا وباطِنًا، وإنهُ لو حكمَ الحاكمُ بشهادةِ زورٍ أن هذهِ المرأةَ زوجةُ فلانٍ حلَّتْ لهُ، واستدلَّ بآثارٍ لا [يقومُ]

(6)

بها دليلٌ وبقياسٍ لا يقْوى على مقاومةِ النصِّ.

وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ صلى الله عليه وسلم يقرُّ على الخطأ. وقدْ نُقِلَ الاتفاقُ عن الأصوليينَ أنهُ لا يقرُّ [فيما حكمَ فيهِ باجتهادِه بناءً على جوازِ]

(7)

الخطإِ في الأحكام، وجمعَ بينَ اتفاقِهم وبين ما أفادَهُ الحديثُ بأنَّ مرادَهم أنهُ لا يقرُّ فيما حكمَ فيهِ باجتهادِه بناءً على جوازِ الخطأ عليهِ فيهِ، وذلكَ كقصةِ أُسَارَى بدرٍ والإذنِ للمتخلفينَ.

وأما الحكمُ الصادرُ عن الطريقِ التي فرضتْ، كالحكمِ بالبينةِ أو يمينِ المحكوم عليهِ، فإنهُ إذا كانَ مخالفًا للباطنِ لا يسمَّى الحكمُ بهِ خطأً بلْ هوَ صحيحٌ لأَنَّهُ على وفقِ ما وقعَ بهِ التكليفُ منْ وجوبِ العملِ بالشاهدينِ، وإنْ كانَا شاهدَيْ زورٍ فالتقصيرُ منْهما. وأما الحاكمُ فلا حيلةَ لهُ في ذلكَ، ولا عتْبَ عليهِ بسببهِ، بخلافِ ما إذا أخطأَ في الاجتهادِ الذي وقعَ الحكمُ على وفقهِ، مثلَ أنْ

(1)

عند البخاري في "صحيحه"(6967)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 143).

(2)

في (أ): "على".

(3)

في (أ): "النار".

(4)

سورة النساء: الآية 10.

(5)

في (أ): "باطلًا ولشهادة".

(6)

في (أ): "يقام".

(7)

زيادة من (ب).

ص: 60

يحكمَ بأنَّ الشفعةَ مثلًا للجارِ، وكانَ الحكمُ في ذلكَ في علمِ اللَّهِ أنَّها لا تثبتُ إلا للخليطِ، فإنهُ إذا كانَ مخالِفًا للحقِ الذي في علمِ اللَّهِ فيثبتُ فيهِ الخطأُ للمجتهدِ على مَنْ يقولُ الحقَّ مَعَ واحدٍ، وهذا هوَ الذي تقدَّمَ أنهُ إذا أخطأَ كانَ لهُ أجرٌ. واستدلَّ بالحديثِ على أنهُ لا يحكمُ الحاكمُ بعلمِه لأنه صلى الله عليه وسلم كانَ يمكنُه اطلاعُه على أعيانِ القضَايا مفصلًا، كذَا قالهُ ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ.

قلتُ: وفيهِ تأملٌ لأنهُ صلى الله عليه وسلم أنما أخبرَ أنهُ يحكمُ على نحوِ ما يسمعُ، ولم ينفِ أنهُ يحكمُ بما علمَ، والتعليلُ بقولِه:"فإنما أقطعُ لهُ قطعةً منَ النارِ" دالٌ على أن ذلكَ في حكمِه بما يسمعُ، فإذا حكمَ بما علمهُ فلا تجري فيهِ العلةُ.

‌الاهتمامُ بالعدل بين الناس

9/ 1309 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كَيْفَ تُقَدِّسُ أُمَّةٌ لَا يُؤخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ"، رَوَاهُ ابْنُ حِبّانَ

(1)

. [حسن بشواهده]

(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: كيفَ تُقَدَّسُ أمةٌ) أي: تطهرُ (لا يؤخذُ منْ شديدِهم لضعيفِهم. رواهُ ابنُ حِبَّانَ). وأخرجَ حديثَ جابرٍ أيضًا ابنُ خزيمةَ

(2)

، وابنُ ماجهْ

(3)

، ويشهد لهُ الحديثُ:

10/ 1310 - وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، عِنْدَ البزَّارِ

(4)

. [حسن بشواهده]

11/ 1311 - وآخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ

(5)

. [حسن بشواهده]

(1)

في "صحيحه"(11/ 445 رقم 5059). رجاله رجال الصحيح عند الفضل بن العلاء فقد روى له البخاري مقرونًا بغيره وقال ابن معين: لا بأس به، وقال علي بن المديني: ثقة. وأخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه"(7/ 396) من طريق الحسن بن عمرو السبيعي عن علي بن المديني بهذا الإسناد.

(2)

لعله في الجزء المفقود. والخلاصة: فالحديث حسن بشواهده.

(3)

في "السنن" رقم (4010).

(4)

في "كشف الأستار"(2/ 235 رقم 1596). قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 95)، و (10/ 94). وأورده الهيثمي في "المجمع"(5/ 208) ونسبه للبزار، وفيه عطاء بن السائب، وهو ثقة، لكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات.

(5)

في "السنن" رقم (2426). قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 592)، وأبو =

ص: 61

وهوَ قولُه: (ولهُ شاهدٌ منْ حديثِ بريدةَ عندَ البزارِ). وفي البابِ عنْ قابوسِ بن المخارقِ عنْ أبيهِ رواهُ

(1)

الطبرانيُّ، وابنُ قانعِ، وفيهِ عنْ خولةَ غيرَ منسوبةٍ. قيل: إنها امرأةُ حمزةَ، رواهُ الطبرانيُّ

(2)

وأبو نعيمٍ

(3)

[وشواهدُ حديث هذا البابِ]

(4)

كثيرةٌ منْها ما ذكرَ ومنْها الحديثُ:

وهوَ قولُه: (وآخرُ) أي ولهُ شاهدٌ آخر (منْ حديثِ أبي سعيدٍ عندَ ابن ماجهْ). والمرادُ أنَّها لا تطهرُ أمةٌ منَ الذنوبِ لا يُنْتَصَفُ لضعيفِها منْ قويِّها فيما يلزمُ منَ الحقِّ له، فإنهُ يجبُ نصرُ الضعيفِ حتَّى يأخذَ حقَّه منَ القويِّ كما يؤيدُه حديثُ:"انصر أخاكَ ظالمًا أو مظْلُومًا"

(5)

.

‌خطر القضاء وكبير مسؤوليته

12/ 1312 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَينَ اثْنَينِ في عُمْرِهِ". رَوَاهُ ابْنُ حِبّانَ

(6)

، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقيُّ

(7)

، ولَفْظُهُ:"في تَمْرَةٍ". [ضعيف]

= يعلى في "المسند"(2/ 344 رقم 117/ 1091). قال البوصيري: هذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات

(1)

في "الأوسط"(5/ 252 رقم 5234).

(2)

كما في "مجمع الزوائد"(5/ 208، 209) وقال: رواه البزار والطبراني في "الأوسط" وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة لكنه اختلط وبقية رجاله ثقات.

(3)

في "الحلية"(6/ 128).

(4)

في (أ): "وشواهده".

(5)

أخرجه البخاري رقم (2443) و (2444)، وأحمد (3/ 201)، والترمذي رقم (2255)، وأبو يعلى رقم (3838)، والطبراني في "الصغير"(576)، والقضاعي في "الشهاب"(646)، والبيهقي (6/ 94) و (10/ 90)، والبغوي في شرح السنة" (3516)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/ 405).

(6)

في "صحيحه"(11/ 439 رقم 5055).

(7)

في "السنن الكبرى"(10/ 96).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 75) ووكيع في "أخبار القضاة"(1/ 20، 21)، وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 192) ونسبه إلى أحمد وقال: إسناده حسن.

ص: 62

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: يدْعَى بالقاضي العادلِ يومَ القيامةِ فيلقَى منْ شدةِ الحسابِ ما يتمنَّى أنه لم يقضِ بينَ اثنينِ في عمرِهِ. رواهُ ابن حِبَّانَ وأخرجَهُ البيهقيُّ ولفظُه: في تمرةٍ). في الحديثِ دليلٌ على شدةِ حسابِ القضاةِ يومِ القيامةِ، وذلكَ لما يتعاطونَهُ منَ الخطرِ، فينبغي لهُ أنْ يتحرَّى الحقَّ، ويبلغَ فيهِ جهدَه ويحذرُ منْ خلطاءِ السوءِ منَ الوكلاءِ والأعوانِ.

فقدْ أخرجَ البخاريُّ

(1)

وغيرُه منْ حديثِ أبي سعيد [الخدريِّ]

(2)

مرفُوعًا: "ما استخلفَ اللَّهُ منْ خليفةٍ إلَّا لهُ بطانتانِ، بطانةٌ تأمرهُ بالخيرِ وتحضُّه عليهِ، وبطانةٌ تأمرهُ بالشرِّ وتحضُّهُ عليهِ، والمعصومُ مَنْ عصمَهُ اللَّهُ تعالَى"، وأخرجَهُ النسائيُّ

(3)

منْ حديثِ أبي هريرةَ مرفُوعًا بلفظِ: "ما مِنْ والٍ [إلَّا لهُ بطانتانِ

(4)

] " الحديثَ. ويحذِّرُ الغرماءَ والوكلاءَ ويروي لهمْ حديثَ: "مَنْ خاصمَ في باطلٍ وهوَ يعلمهُ، لم يزلْ في سخطِ اللَّهِ حتَّى ينزعَ"

(5)

، وفي لفظٍ:"مَنْ أعانَ على خصومةٍ بظلمٍ فقدْ باءَ بغضبٍ منَ اللَّهِ"

(6)

. رواهُما أبو داودَ منْ حديثِ ابن عمرِ. ولما [عرفتَه]

(7)

تجنبَ أكابرُ العلماءِ ولايةَ القضاءِ كما قدمناهُ. وإذا كانَ هذا في القاضي العدل فكيفَ بقضاةِ الجَورِ والجهالةِ، وفي ترجمةِ عبدِ اللَّهِ بن وهبٍ في الغربالِ أنهُ كتبَ إليهِ الخليفةُ بقضاءِ مصرَ فاختفَى في بيتِه، فاطلعَ عليه بعضُهم [يومًا]

(8)

فقالَ: يا ابنَ وهبٍ ألا تخرجُ بينَ الناسِ بكتابِ اللَّهِ وسنةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالَ: أما علمتَ أن العلماءُ يُحْشَرون معَ الأنبياءِ والقضاةُ معَ السلاطينِ.

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(7198).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في "السنن"(7/ 158).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في "السنن" رقم (3597)، وهو حديث صحيح.

قلت: وأخرجه الحاكم (4/ 99، 383)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 91): رواه الطبراني في "الكبير والأوسط"، ورجالهما رجال الصحيح غير محمد بن منصور الطوسي وهو ثقة.

(6)

في "السنن" رقم (3598) وهو حديث ضعيف.

انظر: "الإرواء"(7/ 350).

(7)

في (أ): "عرفت".

(8)

زيادة من (ب).

ص: 63

‌لا يجوز تولية المرأة شيئًا من أمور المسلمين العامة

13/ 1313 - وَعَنْ أَبي بَكرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ أبِي بكرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لنْ يفلحَ قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأةً، رواهُ البخاريُّ). فيهِ دليلٌ على عدمِ جوازِ توليةِ المرأةِ شيئًا منَ الأحكامِ العامةِ بينَ المسلمينَ، وإنْ كانَ الشارعُ قدْ أثبتَ لها أنَّها راعيةٌ في

(2)

بيتِ زوجِها، وذهبَ الحنفيةُ

(3)

إلى جوازِ تولِيَتِهَا الأحكامَ إلَّا الحدودَ. وذهبَ ابنُ جريرٍ

(4)

إلى جوازِ توليتِها مطلقًا. والحديثُ إخبارٌ عنْ عدمِ فلاحِ منْ ولِّيَ أمرَهم امرأةً، وهمْ منهيونَ عنْ جلبِ عدمِ الفلاحِ لأنفسِهم بل مأمورونَ باكتسابِ ما يكونُ سببًا [للفلاح]

(5)

.

‌من ولي من أمور المسلمين شيئًا فلا يحتجب عنهم

14/ 1314 - وَعَنْ أَبي مَرْيَمَ الأَزْدِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(4425) و (7599).

قلت: وأخرجه النسائي في "السنن"(8/ 227)، والحاكم (3/ 118، 119) و (4/ 291)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 90)، (10/ 117، 118)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2486)، والترمذي (2262).

وأخرجه أحمد (5/ 38، 43، 47، 51)، والطيالسي (878) والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (864، 865) من طرق

وهو حديث صحيح.

(2)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5188)، ومسلم في "صحيحه" رقم (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيِّده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته".

(3)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(8/ 128).

(4)

بل ذكر ابن حجر في "الفتح"(8/ 128) كلامًا يخالف ما ذكره الصنعاني في "السُّبل" فقال: "أجاز الطبري أن تلي المرأة الإمارة والقضاء"، وقال ابن حجر في "الفتح" (13/ 56):"وخالف الطبري فقال: يجوز أن تقضي فيما شهادتها فيه".

(5)

في (أ): "لفلاحهم".

ص: 64

وَلَّاهُ اللهُ شَيئًا مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

، والتِّرْمِذِيُّ

(2)

. [صحيح]

(وعنْ أبي مريمَ الأزديِّ)، هوَ صحابيٌّ اسمُه عمرُو بنُ مرَّة الجهنيُّ رَوَى [عن]

(3)

ابن عمِّهِ أبو الشماخِ

(4)

، [وأبو]

(5)

المعطلِ، وغيرِهِما، (عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ ولَّاهُ اللهُ شيئًا منْ أمورِ المسلمينَ، فاحتجبَ عنْ حاجتِهم وفقيرِهم، احتجبَ اللهُ دونَ حاجتِهِ. أخرجه أبو داودَ والترمذيُّ). ولفظُه عندَ الترمذيِّ

(6)

: "ما منْ إمامٍ يغلقُ بابهُ دونَ ذوي الحاجةِ والخلةِ والمسكنةِ، إلا أغلقَ اللهُ تعالى أبوابَ السماءِ دونَ خلتهِ وحاجتِه ومسكنتِه"، وأخرجَهُ الحاكمُ

(7)

عنْ [أبي]

(8)

مخيمرة، عنْ أبي مريمَ، ولهُ قصةٌ معَ معاويةَ، وذلكَ أنهُ قالَ لمعاويةَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ ولَّاهُ اللهُ - الحديث" فجعلَ معاويةُ رجلًا علَى حوائجِ المسلمينَ.

ورواهُ أحمدُ

(9)

منْ حديثِ معاذٍ بلفظِ: "مَنْ وُلِّيَ مِنْ أمورِ المسلمينَ شيئًا، فاحتجبَ عنْ أُولي الضعفِ والحاجةِ، احتجبَ اللهُ (تعالَى) عنهُ يومَ القيامةِ"، ورواهُ الطبراني

(10)

في الكبيرِ [من حديثِ ابن عباسٍ]

(11)

بلفظِ: "أيُّما أميرٍ احتجبَ عن الناسِ فأهمَّهم، احتجبَ اللهُ تعالَى عنهُ يومَ القيامةِ". وقالَ ابنُ أبي حاتمٍ

(12)

(1)

في "السنن" رقم (2948).

(2)

في "السنن" رقم (1333).

قلت: وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 93) وصححه، ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.

(3)

في (ب): "عنه".

(4)

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 210) رواه أبو يعلى - رقم (7378)، وأحمد (3/ 480)، و (3/ 441) و (4/ 441، 480)، وأبو الشماخ لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

وهو حديث حسن بشواهده.

(5)

في (أ): "ابن" وهو خطأ.

(6)

في "السنن" رقم (1332).

(7)

في "المستدرك"(4/ 93).

(8)

في (ب): "ابن" وهو الصواب.

(9)

في "المسند"(5/ 239). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 210): رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات.

(10)

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 210): دارواه أحمد - (5/ 239) - والطبراني ورجال أحمد ثقات" من حديث معاذ بن جبل.

(11)

زيادة من (ب).

(12)

في "العلل"(2/ 428، 429 رقم 2793).

ص: 65

عنْ أبيهِ في هذا الحديثِ: منكرٌ. وأخرجَ الطبرانيُّ

(1)

برجالٍ ثقاتٍ إلا شيخَه، فإِنهُ قالَ المنذريُّ

(2)

: لم يقفْ فيهِ على جُرْحٍ ولا تعديلٍ منْ حديثِ أبي جحيفةَ أنهُ قالَ لمعاويةَ: سمعتُ منْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حديثًا أحْبَبْتُ أنْ أضَعَهُ عندَكَ مخافَةَ أنْ لا تَلْقَانِي، سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"يا أيُّها الناسُ، مَنْ وُلِّيَ منكمْ عملًا فحجبَ بابَه عنْ ذي حاجةٍ للمسلمينَ، حجبَهُ اللهُ أنْ يلجَ بابَ الجنَّةِ، ومَنْ كانتْ همَّتُهُ الدُّنْيا حَرَّمَ اللهُ عليهِ جوارِي. فإني بُعِثْتُ بخرابِ الدُّنْيَا، ولم أُبْعَثْ بعمارَتها"

(3)

.

والحديثُ دليلٌ على أنهُ يجبُ على مَنْ وُلِّيَ أيَّ أمرٍ منْ أمورِ عبادِ اللهِ أنْ لا يحتجبَ عنْهم، وأنْ يسهلَ الحجابَ ليصلَ إليهِ ذو الحاجةِ منْ فقيرٍ وغيرِه. وقولُه:"احتجبَ اللهُ عنهُ" كنايةً عنْ منعِه لهُ منْ فضلِه وعطائِه ورحمتِه.

‌النهي عن الرشوة والسعي بها

15/ 1315 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الراشي وَالْمُرْتَشِيَ في الْحُكْم"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(4)

، والأَرْبَعَةُ

(5)

، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ

(6)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(7)

. [صحيح]

(1)

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 211): "رواه الطبراني عن شيخه جبرون بن عيسى عن يحيى بن سليمان الجفري ولم أعرفهما، وبقية رجاله رجال الصحيح".

(2)

في "الترغيب والترهيب"(3/ 117)، وهو حديث ضعيف.

(3)

وبهذا تعلم الأثر السيء للأحاديث الضعيفة على المسلمين، وكيف أن انتشارها أدَّى إلى مفاسد كثيرة، منها ما هو من الأمور الاعتقادية الغيبية، ومنها ما هو من الأمور التشريعية، وغيرها.

(4)

في "المسند"(2/ 387، 388).

(5)

أخرجه الترمذي في "السنن"(1336).

قلت: وأخرجه ابن الجارود رقم (585)، والحاكم (4/ 103)، الخطيب (10/ 254). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قلت: كذا قال: وعمر بن أبي سلمة ضعفه غير واحد من النفاد. قال أبو حاتم: هو عند صالح، صدوق في الأصل، ليس بذاك القوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، ويخالف في بعض الشيء". قلت: فمثله يحسن حديثه إذا لم يخالف، وقد توبع في أصل الحديث. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وابن عوف، وثوبان، وحذيفة، وعائشة، وأم سلمة.

(6)

في "السنن"(3/ 622).

(7)

في "الموارد"(ص 290 رقم 1196).

ص: 66

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الراشيَ والمرتشيَ) في النهايةِ: الراشي مَنْ يعطي الذي يعينُه على الباطلِ، والمرتشيَ الآخذُ (في الحكْمِ. رواهُ أحمدُ، والأربعة، وحسَّنه الترمذيُّ وابن حبانَ)

(1)

. زاد في النهاية: والرائشَ، وهوَ الذي يمشي بينَهما، وهو السفيرُ بين الدافعِ والآخذِ، وإنْ لم يأخذْ علَى سفارتِه أجرًا، فإنْ أخذَ فهوَ أبلغُ.

16/ 1316 - وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو، عِنْدَ الأَرْبَعَةِ

(2)

إلَّا النَّسَائِيَّ. [صحيح]

(ولهُ شاهدٌ منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو عندَ الأربعةِ إلَّا النسائيَّ) إلَّا أنهُ لم يذكر لفظَ [في]

(3)

الحكم في روايةِ أبي داودَ، وإنَّما زادَها في [روايةِ]

(4)

الترمذيِّ. والرشوةُ حرامٌ بالإجماعِ سواءٌ كانتْ للقاضي، أوْ للعاملِ على [الصدقة]

(5)

، أو لغيرِهِما. وقد قالَ تعالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

(6)

.

وحاصلُ ما يأخذُه القضاةُ منَ الأموالِ على أربعةِ أقسامٍ: رشوةٍ، وهديةٍ، وأجرةٍ، ورزقٍ

(7)

. فالأولُ الرشوةُ إنْ كانتْ ليحكمَ لهُ الحاكمُ بغيرِ حقٍّ فهيَ حرامٌ على الآخذِ والمعطي، وإنْ كاثتْ ليحكمَ لهُ بالحقِّ على غريمِه فهيَ حرامٌ على الحاكمِ دونَ المعطي، لأنها لاستيفاء حقه فهي كجُعل الآبق، وأجرة الوكالة على الخصومة، وقيل تحرمُ [لأنَّها]

(8)

توقعُ الحاكم في الإثْمِ. وأما الهديةُ وهيَ الثاني

(1)

في "المسند"(5/ 279).

(2)

أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (3580)، وابن ماجه في "السنن" رقم (2313)، والترمذي في "السنن" رقم (1337) وقال: حسن صحيح.

قلت: وأخرجه أحمد في "المسند"(2/ 164 و 190 و 194 و 212)، والطيالسي رقم (2276)، وابن الجارود رقم (586)، والبيهقي (10/ 138، 139). وصححه ابن حبان في "صحيحه" رقم (5077)، والحاكم (4/ 102، 103)، والدارقطني في "العلل" (4/ 274 - 275 س: 558).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "صدقة".

(6)

سورة البقرة: الآية 188.

(7)

انظر كتاب: "الروضة الندية" لصدِّيق حسن خان بتحقيقي (2/ 542، 545).

(8)

في (أ): "على المعطي لأنه".

ص: 67

فإنْ كانتْ ممنْ يهاديهِ قبلَ الولايةِ فلا تحرمُ استدامتُها، وإنْ كانَ لا يُهْدَى [إليه]

(1)

إلَّا بعدَ الولايةِ فإنْ كانتْ ممنْ لا خصومةَ بينَه وبينَ أحدٍ عندَه جازتْ وكُرِهَتْ، وإنْ كانتْ ممنْ بينَه وبينَ [غريمه]

(2)

خصومةٌ عندَه فهيَ حرامٌ على الحاكمِ والمُهدي. ويأتي فيهِ ما سلفَ في الرشوةِ على باطلٍ أو حقٍّ. وأما الأجرةُ وهي الثالثُ فإنْ كانَ للحاكمِ جرايةٌ منْ بيتِ المالِ ورزقٌ حُرمتْ بالاتفاقِ، لأنهُ إنَّما أُجْرِيَ لهُ الرزقُ لأجلِ الاشتغالِ [بالحكمِ]

(3)

، فلا وجْهَ للأجرةِ وإنْ كانَ لا جرايةَ له منْ بيتِ المالِ جازَ له أخذُ الأجْرةِ على قدرِ عملِهِ غير حاكِمٍ، فإنْ أخذَ أكثر مما يَستحقُّه حرم عليه لأنَّهُ إنّما يُعطى الأجرةَ [لكونهِ عملَ عملًا]

(4)

، لا لأجلِ كونِه حاكمًا، فأخْذُه [لما]

(5)

زادَ على أجرةِ مثلِه غيرَ حاكمٍ إنما أخذَها لا في مقابلةِ شيءٍ بلْ في مقابلةِ كونِه حاكمًا، ولا يستحقُّ لأجلِ كونِه حاكمًا شيئًا من [أموالٍ اتفاقًا]

(6)

، فأجرةُ العملِ أجْرةُ مثلِه فأخْذُ الزيادة [على أجرةِ مثلِه]

(7)

حرامٌ. ولذا قيلَ: إنَّ توليةَ القضاءِ [لمنْ كان غنيًا]

(8)

أَوْلَى منْ توليةِ [مَنْ كَان فقيرًا]

(9)

؛ وذلكَ لأنهُ لفقرِه يصيرُ متعرِّضًا للتناولِ ما لا يجوزُ لهُ [تناولُه إذا لم يكنْ له]

(10)

[رزقٌ منْ بيتِ المالِ]

(11)

.

قالَ المصنفُ: لم ندركْ في زمانِنا هذا مَنْ يطلبُ القضاءَ إلا وهوَ مصرِّحٌ بأنهُ لم يطلبْه إلا لاحتياجِهِ إلى ما يقومُ بأوَدِهِ معَ العلمِ بأنهُ لا يحصلُ لهُ شيءٌ منْ بيتِ المالِ، انتهَى.

‌تسوية القاضي بين الخصوم في المجلس

17/ 1317 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَي الْحَاكِم. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(12)

، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(13)

. [إسناده ضعيف]

(1)

في (أ): "له".

(2)

في (أ): "غيره".

(3)

في (أ): "بالقضاء".

(4)

في (أ): "لأجل عمله".

(5)

في (أ): "ما".

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

في (أ): "للمغني"

(9)

في (أ): "للفقر".

(10)

زيادة في (ب)

(11)

زيادة من (ب).

(12)

في "السنن" رقم (3588).

(13)

لم أجده في "المستدرك". وعزاه إليه ابن حجر في "التخليص"(4/ 193).

ص: 68

(وعنْ عبدِ اللهِ بن الزبيرِ رضي الله عنهما قَالَ: قضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن الخصمينِ يقعدانِ بينَ يدي الحاكم. رواهُ أبو داودَ، وصحَّحَهُ الحاكمُ)، [وأخرجَه]

(1)

أحمدُ

(2)

، والبيهقيُّ

(3)

، كلُّهم منْ [روايةِ]

(4)

مصعبِ

(5)

بْنِ ثابتِ بن عبدِ اللَّهِ بن الزبيرِ وفيهِ كلامٌ. قالَ أبو حاتم

(6)

: إنهُ كثيرُ الغلطِ. والحديثُ دليلٌ على شرعيةِ قعودِ الخصمينِ بينَ يدي الحاكمِ، ويسوَّى بينَهما في المجلسِ ما لم يكنْ أحدُهما غيرَ مسلمٍ، فإنهُ يُرْفَعُ المسلمُ كما في قصةِ عليٍّ عليه السلام معَ غريمهِ [الذميِّ]

(7)

عندَ شريحٍ، وهو ما أخرجَه أبو نعيم

(8)

في الحليةِ بسندِه قالَ: "وجدَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه دِرْعًا لهُ عندَ يهوديٍّ التَقَطها فعرفَها فقالَ: درعي سقطتْ عنْ جملٍ لي

(1)

في (أ): "وأخرج".

(2)

في "المسند"(4/ 4).

(3)

في "السنن الكبرى"(10/ 135).

(4)

في (أ): "طريق".

(5)

مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وهو ضعيف.

(6)

في "الجرح والتعديل"(8/ 304) وانظر: "المجروحين"(3/ 28) و"الميزان"(4/ 118) و"تقريب التهذيب"(2/ 251).

قال الحافظ: لين الحديث، وكان عابدًا. قال أحمد: أراه ضعيف الحديث. وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: صدوق كثير الغلط ليس بالقوي.

وقال أبو زرعة والنسائي: ليس بقوي. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 478) وقال: أدخلته في "الضعفاء" وهو ممن استخرت الله فيه.

(7)

في (أ): "اليهودي".

(8)

(4/ 139).

قلت: ذكر القصة الذهبي في "الميزان"(1/ 585) في ترجمة أبي سُمير حكيم بن خِذام. وذكر الحافظ الذهبي أن أبا حاتم قال: إنه متروك الحديث، وقال البخاري منكر الحديث .. فعلم بذلك أن القصة ضعيفة جدًّا من طريق سمير هذا. وكذلك أوردها أبو نعيم في "الحلية"(4/ 139).

• وأورد القصة أيضًا محمد بن خلف الملقب بوكيع في كتابه "أخبار القضاة"(2/ 194) بسند آخر مظلم.

• وأورده ابن الجوزي في "العلل"(2/ 388) من هذا الوجه وقال: لا يصح.

• ورواه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 136) من وجه آخر من طريق جابر الجعفي عن الشعبي وذكر الحديث. وفي إسناده (عمرو بن شَمِر) - انظر ترجمته في: "الكبير"(6/ 344)، و"الجرح والتعديل"(6/ 239)، و"الميزان" (3/ 268) - عن جابر الجعفي - انظر ترجمته في:"المجروحين"(1/ 208)، و"الميزان"(2/ 379)، و"الجرح والتعديل"(2/ 497)، و"الكبير"(2/ 210) - وهما ضعيفان.

ص: 69

أورقَ، فقالَ اليهوديُّ: درعي وفي يدي، ثمَّ قالَ اليهوديُّ: بيني وبينَك قاضي المسلمينَ، فأتَوا شُرَيْحًا، فلمَّا رأى عليًا عليه السلام قد أقبلَ تحرفَ عنْ موضعِه وجلسَ عليٌّ فيهِ ثمَّ قالَ عليٌّ: لو كانَ خصمي منَ المسلمينَ لساويتُه في المجلس لكنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا تساووهم في المجلسِ"، [وساق الحديثَ]

(1)

.

قالَ شريحٌ: ما تشاءُ يا أميرَ المؤمنينَ؟ قالَ: درعي سقطَ عنْ جملٍ لي أورقَ فالتقطَها هذا اليهوديُّ. قالَ شريحٌ: ما تقولُ يا يهوديُّ؟ قالَ: درعي وفي يدي، قال شريحٌ: صدقتَ واللَّه يا أميرَ المؤمنينَ إنَّها لَدِرْعُكَ، ولكنْ لا بدَّ لكَ منْ شاهدينِ فدعا قنبرًا والحسنَ بنَ عليّ عليهما الصلاة والسلام وشهدا أنها لَدِرْعُهُ. فقال شريحٌ: أما شهادةُ مولاكَ فقد أَجَزْنَاهَا. وأما شهادةُ ابنِكَ لك فلا نجيزُها، فقال عليٌّ عليه السلام: ثكلتكَ أمكَ، أما سمعتَ عمرَ بنَ الخطابِ يقولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسنُ والحسينُ سيِّدا شباب أهلِ الجنةِ"؟ قالَ: اللَّهمَّ نعمْ، قالَ: أفلا تجيزُ شهادةَ سيدِ شبابِ أهلِ الجنةِ؟ ثمَّ قالَ [لليهوديِّ]

(2)

: خذِ الدرعَ. فقالَ اليهوديُّ: أميرُ المؤمنينَ جاءَ معي إلى قاضي المسلمينَ فقضَى لي، ورَضِيَ. صدقتَ واللهِ يا أميرَ المؤمنينَ إنها لدرعكَ، سقطتْ عن جملِ لكَ التقطتُها، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، فوهَبَها لهُ عليٌّ عليه السلام وأجازَهُ بتسعمائةٍ، وقُتِلَ معهُ يومَ صِفِّينَ: اهـ".

وقولُ شريحٍ: [واللَّهِ]

(3)

إنها لدرعكَ كأنهُ عرفَها، ويعلمُ أنها درعُه لكنَّه لا يرى الحكمَ بعلمِه كما أنهُ لا يَرَى شهادةً الولدِ لأبيهِ، فانظرْ ما أَبْرَكَ العملَ بالحقِّ منَ الحاكمِ والمحكومِ عليهِ، وما آلَ إليهِ منَ الخيرِ للمدَّعى عليهِ.

* * *

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في (أ): "اليهودي".

(3)

زيادة من (ب).

ص: 70

[الباب الأول] باب الشهادات

الشهادةُ مصدرُ شهدَ، جمعٌ لإرادةِ [أنواعِ الشهادة]

(1)

. قالَ الجوهريُّ: الشهادةُ خبرٌ قاطعٌ، والشاهدُ حاملُ الشهادةِ ومؤدِّيها لأنه [مشاهِدٌ]

(2)

لما غابَ عنْ غيرِه. وقيلَ: [هي]

(3)

مأخوذةٌ منَ الإعلامِ منْ قولِه تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}

(4)

، أي: علمَ.

‌خير الشهودِ الذي يشهد قبل أن يُسأل

1/ 1318 - عَنْ زَيْدِ بْنِ خالِدِ الْجُهَنِيِّ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "ألَا أخْبِرُكُمْ بِخَيرِ الشهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأتِي بالشَّهادةِ قَبْلَ أنْ يُسْألهَا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(5)

. [صحيح]

(1)

في (ب): "الأنواع".

(2)

في (أ): "شاهد".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

سورة آل عمران: الآية 18.

(5)

في "صحيحه"(19/ 1719).

قلت: وأخرجه أحمد (5/ 193)، وأبو داود رقم (3596)، والترمذي رقم (2295 و 2296)، والطبراني في "الكبير"(5/ 232 رقم 5182)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 159)، ومالك (2/ 270).

قال الترمذي: هذا حديث حسن، وأكثر الناس يقولون عبد الرحمن أبي عمرة، واختلفوا على مالكٍ في رواية هذا الحديث، فروى بعضهم عن أبي عمرة، وروى بعضهم عن ابن أبي عمرة، وهو عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، وهذا أصحُّ لأنه قد روى من غير حديث مالك عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن زيد بن خالد.

وقد رُوِيَ عن ابن أبي عمرة عن زيد بن خالد غير هذا الحديث، وهو حديث صحيح أيضًا، وأبو عمرة مولى زيد بن خالد الجهني وله حديث الغلول، وأكثر الناس يقولون عبد الرحمن بن أبي عمرة.

ص: 71

(وعنْ زيدِ بن خالدٍ الجهنيِّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ألا أخبرُكم بخيرِ الشهداءِ؟ الذي يأتي بالشهادةِ قبلَ أنْ يُسْألها. رواه مسلمٌ). دلَّ [الحديث]

(1)

على أن خيرَ الشهداءِ مَنْ يأتي بشهادتِه لمن هيَ لهُ قبلَ أنْ [يسأِلَه]

(2)

، إلَّا أنهُ يعارضُه الحديثُ الثاني

(3)

، وهوَ حديثُ عمرانَ، وفيه:"ثمَّ يكونُ قومٌ يشهدونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ" في سياقِ الذمِّ لهمْ. ولما تعارضَا اختلفَ العلماءُ في الجمعِ بينَهما على ثلاثةِ أوجهٍ:

الأوَّلُ: أن المرادَ بحديثِ زيدٍ إذا كانَ عندَ الشاهدِ شهادةٌ بحقِّ لا يعلمُ بها صاحبُ الحقِّ فيأتي إليه فيخبرُه بها، أو يموتُ صاحبُها فيخلفُ ورثةً، فيأتي إليهم فيخبرُهم بأنَّ عندَه لهمْ شهادةً، وهذا أحسنُ الأجوبةِ وهوَ جوابُ يحيى بن سعيدٍ شيخِ مالكٍ.

الثاني: أن المرادَ بها شهادةُ الحسبةِ وهيَ ما لا تتعلقُ بحقوقِ الآدميينَ المختصةِ بهم محضًا، ويدخلُ في الحسبةِ ما يتعلقُ بحقِّ اللهِ (تعالى)، أوْ ما فيهِ شائبةٌ للهِ تعالى، كالصلاةِ والوقْفِ، والوصيةِ العامةِ، ونحوها. وحديثُ عمرانَ المرادُ بهِ الشهادةُ في حقوقِ الآدميينَ المحضةِ.

الثالثُ: أن المرادَ بقولِ أنْ يأتيَ بالشهادةِ قبلَ أنْ يُسْألها المبالغةُ في الإجابةِ، فيكونُ لقوةِ استعدادِه كالذي أَتَى بها قبلَ أنْ يسألَها كما يُقالُ في حقِّ الجوادِ إنهُ ليعطي قبلَ الطلب، وهذهِ الأجوبةُ مبنيةٌ على أن الشهادةَ [لا تُؤَدَّى]

(4)

قبلَ أن يطلبَها صاحبُ الحَقِّ. ومنْهم مَنْ أجازَ ذلكَ عملًا بروايةِ زيدٍ، وتأولَ حديثَ عمرانَ بأحدِ تأويلاتٍ:

الأولُ: أنهُ محمولٌ على شهادةِ الزورِ أي يؤدونَ شهادة لم يسبقْ لهم بها علمٌ، حكاهُ الترمذيُّ عنْ بعض أهل العلمِ.

الثاني: أن المرادَ إتيانُه بالشهادةِ بلفظِ الحلفِ نحوَ: أشهدُ باللهِ ما كانَ إلَّا كذا، [وهذا]

(5)

جوابُ

(6)

الطحاويِّ.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في (أ): "سال".

(3)

سيأتي تخريجه رقم (2/ 1319) من كتابنا هذا.

(4)

في (أ): "لا ترد".

(5)

في (أ): "وهو".

(6)

في "شرح معاني الآثار"(4/ 152).

ص: 72

الثالثُ: أن المرادَ بالشهادةِ على ما لم يعلم ما سيكونُ منَ الأمورِ المستقبلةِ، فيشهدُ على قومٍ بانَّهم منْ أهلِ النّارِ، وعلى قومٍ بأنّهم منْ أهلِ الجنةِ بغير دليلٍ كما يصنعُ ذلكَ أهلُ الأهواءِ. حكاهُ الخطابيُّ

(1)

، والأولُ أحسنُها.

‌خير القرون الثلاثة الأولى

2/ 1319 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَيرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وعنْ عمرانَ بن حصينٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خَيرَكم قرني، ثمَّ الذينَ يلونُهم، ثمَّ الذينَ يلونَهم، ثم يكونُ قومٌ يشهدونَ ولا يُسْتَشْهَذونَ، ويخونونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، وينذرونَ ولا يوفونَ، ويظهرُ فيهمُ السِّمَن. متفقٌ عليهِ).

القرنُ أهلُ زمانٍ واحدٍ متقاربٍ اشتركُوا في أمرٍ منَ الأمورِ المقصودةِ، ويقالُ إن ذلكَ مخصوصٌ بما إذا اجتمعُوا في زمانٍ [أو رئيسٍ]

(3)

يجمعُهم على ملةٍ أوْ مذهبٍ أو عملٍ، ويطلقُ القرنُ على مدةٍ منَ الزمانِ، واختلفُوا في تحديدِها منْ عشرةِ أعوامٍ إلى مائةٍ وعشرينَ. قالَ المصنفُ: إنهُ لم يُرَ مَنْ صرَّح بالتسعينَ

(1)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(5/ 260).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2651) و (3650) و (6428) و (6695)، ومسلم رقم (214/ 2535)، وأحمد (4/ 427 و 436)، والنسائي (7/ 17، 18)، والطبراني في "الكبير"(18/ رقم 580 و 581 و 582)، والبيهقي (10/ 123) وفي "دلائل النبوة"(6/ 552)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (3857). من طريق زهدم بن المضرِّب، عن عمران بن حصين.

• وأخرجه مسلم رقم (215/ 2535)، وأحمد (4/ 440)، وأبو داود رقم (4657)، والترمذي رقم (2222)، والطبراني في "الكبير"(18/ رقم 527) من طرق عن أبي عوانة، به.

• وأخرجه مسلم رقم (215/ 2535)، وأحمد (4/ 426)، والطحاوي في "المشكل"(3/ 176) الطبراني في "الكبير"(18/ رقم 526 و 528 و 529)، والبيهقي (10/ 160) والبغوي في "شرح السنة" رقم (3858) من طرق عن قتادة، به.

(3)

زيادة من (ب).

ص: 73

ولا بمائةٍ وعشرينَ، وما عدا ذلكَ فقدْ قالَ بهِ قائلٌ. قلتُ: أما التسعونَ فنعمْ، وأما المائةُ والعشرونَ]

(1)

فصرَّح بهِ في القاموسِ

(2)

، فإنهُ قالَ: أو مائةٌ، أو مائةٌ وعشرونَ. والأولُ أصحُّ لقولِه صلى الله عليه وسلم لغلامٍ:"عِشْ قَرْنًا" فعاشَ مائةَ سنةٍ

(3)

انتهَى.

قالَ صاحبُ

(4)

المطالعِ: القرنُ أمةٌ هلكتْ فلمْ يبقَ منْهم أحدٌ. وقرنُه

(5)

صلى الله عليه وسلم المرادُ بهِ همُ المسلمونَ في عصرِه. وقولُه: "ثمَّ الذين يلونَهم" همُ التابعونَ، والذينَ يلونَ التابعينَ أتباع التابعينَ. وهذا يدلُّ على أن الصحابةَ أفضلُ منَ التابعينَ، والتابعينَ أفضلُ منْ تابعيهم، وأنَّ التفضيلَ بالنظرِ إلى كلِّ فردٍ فردٍ، وإليه ذهبَ الجماهيرُ. وذهبَ ابنُ عبدِ البرِّ

(6)

إلى أن التفضيلَ بالنسبةِ إلى مجموعِ الصحابةِ لا إلى الأفرادِ، فمجموعُ الصحابةِ أفضلُ ممنْ بعدَهم لا كلُّ فردٍ منْهم، إلَّا أهلَ بدرٍ، وأهلَ الحديبيةِ فإنَّهم أفضلُ منْ غيرهم، يريدُ أن أفرادَهم أفضلُ منْ أفرادِ [مَنْ يأتي بعدَهم]

(7)

. واستدلَّ على ذلكَ بما أخرجَه الترمذي

(8)

منْ حديثِ أنسٍ، وصحَّحَهُ ابنُ حبانَ

(9)

منْ حديثِ عمارٍ منْ قولِه صلى الله عليه وسلم: "أمتي مثلُ المطرِ لا

(1)

في (أ): "والعشرين".

(2)

"المحيط"(ص 1578).

(3)

أخرجه أحمد (4/ 189)، والبزار في مسنده رقم (3502)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 404) وقال:"ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي وهو ثقة" اهـ.

وأخرجه الحاكم (4/ 500) من طريق محمد بن القاسم الطائي عن عبد الله بن بسر بلفظ: "لتدركن قرنًا". وخلاصة القول: أن الحديث حسن، والله أعلم.

(4)

ذكره الفيروزآبادي في "القاموس المحيط"(ص 1578).

(5)

انظر: "مقدمة الاستيعاب".

(6)

في (أ): "غيرهم".

(7)

في "السنن" رقم (2869) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 130، 143)، والطيالسي رقم (2023)، وأبو الشيخ في "الأمثال" رقم (330) و (331)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (1351) و (1352)، والرامهرمزي (ص 108، 109)، وابن عدي في "الكامل"(3/ 918) و (4/ 1638).

(8)

في "صحيحه"(16/ 209، 210 رقم 7226)

قلت: وأخرجه الرامهرمزي في "الأمثال"(ص 109)، والبزار رقم (2843 - كشف)، وأحمد (4/ 319)، والطيالسي رقم (647) من طرق.

(9)

وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 68) وقال: رواه أحمد، والبزار، والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح غير الحسن بن قزعة، وعبيد بن سلمان الأغر، وهما ثقتان، وفي عبيد خلاف لا يضر. =

ص: 74

يدرى أوَّلُه خيرٌ أمْ آخِرُه"، وبما أخرجَهُ أحمدُ

(1)

والطبرانيُّ

(2)

، والدارميُّ

(3)

منْ حديثِ أبي جمعة قالَ: قَالَ أبو عبيدةَ: يا رسولَ اللهِ، أحدٌ خيرٌ مِنَّا؟ أسلمْنا معكَ، وهاجرْنا معكَ، قالَ:"قومٌ يكونونَ منْ بعدِكُم يؤمنونَ بي ولم يروني"، وصحَّحَه الحاكمُ

(4)

. وأخرجَ أبو داود

(5)

والترمذيُّ

(6)

منْ حديثِ (أبي) ثعلبةَ يرفعُه: "تأتي أيامٌ للعاملِ فيهنَّ أجرُ خمسينَ، قيلَ: منْهم أو منَّا يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: "بل منكم". وأخرجَ أبو الحسنِ

(7)

= وذكره أيضًا، وقال: رواه الطبراني، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.

ومن شواهده:

• عن ابن عمر عند أبي نعيم في "الحلية"(2/ 231)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1349 و 1350). وذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 68) وقال: رواه الطبراني وفيه عيسى بن ميمون وهو متروك.

• وعن عمران بن حصين أخرجه البزار (2844) وقال: لا نعلمه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أحسن من هذا.

وذكره الهيثمي (10/ 68) وقال: رواه البزار والطبراني في "الأوسط"(4/ 78 رقم 3660). وإسناد البزار حسن.

والخلاصة: فالحديث حسن بشواهده، والله أعلم.

(1)

في "المسند"(4/ 106).

(2)

عزاه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 66).

وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد أحمد رجاله ثقات.

(3)

في "السنن"(2/ 308).

(4)

في "المستدرك"(4/ 85) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(5)

في "السنن" رقم (4341).

(6)

في "السنن" رقم (3058).

قلت: وأخرجه ابن ماجه (4014)، وهو حديث ضعيف.

(7)

وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (4341)، والترمذي رقم (3058)، وابن ماجه رقم (4014)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 91، 92)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 30)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (4156)، ومحمد بن نصر في "السنة" رقم (31) من طرق عن أبي ثعلبة الخشنيِّ.

• وأخرجه محمد بن نصر في "السنة" رقم (32) عن عتبة بن غزوان - أخي بني مازن بن صعصعة وكان من الصحابة.

قال الألباني في "الصحيحة" رقم (494): "وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات لولا أن إبراهيم بن أبي عبلة عن عتبة بن غزوان مرسل كما في "التهذيب". =

ص: 75

القطانُ في مشيخَتِه عنْ أنسٍ يرفعُه: "يأتي على الناسِ زمانٌ الصابرُ فيهِ على دينِه لهُ أجرُ خمسينَ منكمْ". وجمعَ الجمهورُ بينَ الأحاديثِ بأنَّ للصحبةِ فضيلةً ومزيةً لا يوازيْها شيءٌ منَ الأعمالِ، فَلِمَنْ صحبَهُ صلى الله عليه وسلم فضيلتُها وإنْ قَصُرَ عملُه، وأجرُه باعتبارِ الاجتهادِ في العبادةِ، وتكونُ خيرية منْ يأتي باعتبارِ كثرةِ الأجرِ بالنظرِ إلى ثوابِ الأعمالِ، وهذا قدْ يكونُ في حقِّ بعضِ الصحابةِ.

وأما مشاهيرُ الصحابةِ فإنَّهم حازُوا السبقَ منْ كلِّ نوعٍ منْ أنواعِ الخيرِ، وبهذَا يحصلُ الجمعُ بينَ الأحاديثِ. وأيضًا فإنَّ المُفاضلَةَ بينَ الأعمالِ بالنظرِ إلى الأعمالِ المتساويةِ في النوعِ، وفضيلةُ الصحبةِ مختصةٌ بالصحابةِ لم يكنْ لِمَنْ عداهُم شيءٌ منْ ذلكَ النوعِ.

وفي قولهِ: "ثمَّ يكونُ قومٌ إلى آخرهِ" دليلٌ على أنهُ لم يكنْ في القرون الثلاثة مَنْ يتَّصِفُ بهذِه الصفات المذمومةِ، ولكنَّ الظاهرَ [أن المراد]

(1)

بحسبِ الأغلبِ. واستدلَّ بهِ على تعديلِ القرونِ الثلاثةِ، ولكنَّه أيضًا باعتبارِ الأغلبِ، وقولُه:"ولا يؤتمنونَ"، أي: لا يراهُم الناسُ أمناءَ، ولا يثقونَ بهم لظهورِ خيانَتِهم. وقدْ ثبتَ أن الأمانةَ أولُ [ما تُرْفَعُ]

(2)

منَ الناسِ، ومعنَى قولِه:(يظهرُ فيهمُ السِّمَنُ) أنهم يتوسَّعونَ في المأكل والمشربِ، وهي أسبابُ السِّمَنِ، وقيلَ أرادَ كثرةَ المالِ، وقيلَ المرادُ أنَّهم يتسمنونَ أي يتكثرونَ بما ليس فيهم، ويدَّعونَ ما ليسَ لهمْ منَ الشرفِ. وفي حديثٍ أخرجَهُ الترمذيُّ

(3)

بلفظ: "ثمَّ يجيءُ قومٌ يتسمَّنونَ ويحبونَ السمنَ"، فجمعَ بينَ السمنِ أي التكثرِ بما ليسَ عندَهم، وتعاطي أسبابِ السِّمَنِ.

‌من لا تجوز شهادته

3/ 1320 - وَعَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا

= وله شاهد عن ابن مسعود أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(10/ 225) رقم (10394) من طريقين

وقال الألباني: "وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم"، والخلاصة: فالحديث حسن، والله أعلم.

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في (ب)"ما يرفع".

(3)

في "السنن" رقم (2302).

ص: 76

تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غَمَرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَهْلِ الْبَيتِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

، وَأَبُو دَاوُدَ

(2)

. [حسن].

(وعنْ عبدِ اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: لا تجوز شهادةُ خائنٍ ولا خائنةٍ، ولا ذي غَمَرٍ) بفتحِ الغينِ المعجمةِ، وفتحِ الميمِ وكسرِها، بعدَها راءٌ، فسَّرَهُ أبو داودَ بالحنةِ بالحاءِ المهملةِ، وهيَ الحقدُ والشحناءُ، (على أخيهِ، ولا تجوزُ شهادة القانعِ) بالقافِ وبعدَ الألفِ نونٌ، ثمَّ عينٌ مهملةٌ يأتي بيانهُ، (لأهلِ البيتِ. رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ)، وأخرجَهُ أبو داودَ

(3)

منْ حديثِ عمروِ بن شعيب عنْ أبيهِ عنْ جدِّه بلفظٍ: "ردَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم شهادةَ الخائنِ والخائنةِ"، وأخرجَهُ ابنُ ماجهْ

(4)

، والبيهقيُّ

(5)

، وإسنادُه قويٌّ. وأخرجَهُ الترمذيُّ

(6)

والدارقطنيُّ

(7)

والبيهقيُّ

(8)

منْ حديثِ عائشةَ رضي الله عنها بلفظٍ: لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا خائنةٍ، ولا ذي غَمَرٍ لأخيهِ. وفيهِ ضعفٌ، قالَ الترمذيُّ

(9)

: لا يصحُّ إسنادُه. وقالَ أبو زُرعةَ

(10)

في العِلَلِ: منكرٌ، وضعَّفَهُ عبدُ الحقِّ وابن حزمٍ وابنُ الجوزي

(11)

. قالَ البيهقيُّ

(12)

: لا يصحُّ من هذا شيءٌ

(1)

في "المسند"(2/ 204، 225، 226).

(2)

في "السنن" رقم (3600).

قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 200)، وابن ماجه رقم (2366)، وهو حديث حسن.

(3)

في "السنن" رقم (3601)، وهو حديث حسن.

وقال ابن حجر في "التلخيص"(4/ 198 رقم 1209): إسناده قوي.

(4)

في "السنن" رقم (2366).

(5)

في "السنن"(10/ 200)، وهو حديث حسن.

انظر: "الإرواء" رقم (2669).

(6)

في "السنن" رقم (2298).

(7)

في "السنن"(4/ 244 رقم 145).

(8)

في "السنن الكبرى"(10/ 155).

وهو حديث ضعيف. وضعفه الألباني في "الإرواء" رقم (2675) وابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 476).

(9)

في "السنن"(4/ 546).

(10)

في "علل ابن أبي حاتم (1/ 476).

(11)

ذكره الحافظ في "التلخيص"(4/ 199).

(12)

في "السنن الكبرى"(10/ 155).

ص: 77

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقولهُ: "الخائنُ"، قالَ أبو عُبيدة

(1)

: لا نراه خصّ به الخيانةَ في أماناتِ النّاس دون ما افترض اللهُ علىَ عبادهِ، وأْتَمَنَهُمْ عليهِ، فإنهُ قدْ سمَّى ذلك أمانةً قالَ اللهُ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}

(2)

، فمنْ ضيَّعَ شيئًا مما أمرَ اللهُ تعالَى بهِ، أو ركب ما نهَى عنهُ [فلا]

(3)

ينبغي أنْ يكونَ عدْلًا فإنهُ إذا كانَ خائِنًا فليسَ لهُ تقوى تردُّه عن ارتكاب محظوراتِ الدينِ التي منها الكذبُ، فلا يحصلُ الظنُّ بخبرهِ، ولأنهُ مظنةُ تهمةِ أوَ مسلوبُ الأهليةِ، وأما ذو الغَمَرِ فالمرادُ بهِ ما ذكرنَاه منَ الحقدِ والشحناءِ، والمرادُ بأخيهِ المسلمِ المشهودُ عليهِ، والكافرُ مثلُه لا يجوزُ أنْ يشهدَ ذو حقدٍ عليهِ إذا كانت العداوةُ لسببٍ غيرِ الدينِ، فإنَّ ذا الحقدِ مظنةُ عدمِ صدقِ خبرهِ لمحبتهِ إنزالَ الضررِ بمنْ [يحقدُ]

(4)

عليهِ، وأما المسلمُ إذا لم يكنْ ذا حقدِ على الكافرِ بسببِ غيرِ الدينِ فإنَّها تُقْبَلُ شهادتُه عليهِ، وإنْ كانَ بينَهما عداوةٌ في الدينِ، فإنَّ عداوةَ الدينِ لا تقتضي أنْ يشهدَ عليهِ زورًا، فإنَّ الدينَ لا يسوِّغُ ذلكَ. وإنما خَرَجَ الحديثُ على الأغلبِ. والقانعُ هوَ الخادمُ لأهلِ البيتِ، والمنقطعُ إليهم للخدمةِ وقضاءِ الحوائج، [وموالاتِهم عندَ الحاجةِ]

(5)

. وفي تمامِ الحديثِ: وأجازَها، أي: شهادةَ القانعِ لغيرِهمْ أي لغيرِ مَنْ هَو تابعٌ لهم، وإنما مُنِعَ منْ شهادتهِ لمنْ هوَ تابعٌ لهمْ لأنهُ مظنة تهمةٍ، فيجبُ دفعُ الضرِّ عنْهم، وجلبُ الخيرِ إليهم فمنعَ منَ الشهادةِ. ومَنْعُ هؤلاءِ منَ الشهادةِ دليلٌ علَى اعتبار العدالةِ في الشاهدِ عليهِ، دلَّ قولُه تعالَى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(6)

، وقدْ رسمُوا العدالةَ بأنَّها محافظةٌ دينيةٌ تحملُ على ملازمةِ التقْوى والمروءةِ ليسَ معَها بِدْعَةٌ. وقدْ نازعنْاهُم في هذا الرسمِ

(7)

في عدةِ منَ المباحث [كرسالتنا]

(8)

المسمَّاة: "المسائلِ المهمةِ فيما تعمُّ بهِ البلْوى حكامَ الأمةِ"

(9)

، وحقَّقْنا الحقَّ في العدالةِ في رسالةِ "ثمراتِ النظرِ، في علمِ الأثرِ"

(10)

.

(1)

عزاه إليه ابن منظور في "لسان العرب"(4/ 254) مادة: خون.

(2)

سورة الأنفال: الآية 27.

(3)

في (ب): "فليس".

(4)

في (أ): "حقد".

(5)

زيادة من (ب).

(6)

سورة الطلاق: الآية 2.

(7)

في (أ): "الحد".

(8)

في (ب): "كرسالة".

(9)

مخطوط رقم (1182) مؤلفات الزيدية (3/ 10).

(10)

وهي حاشية على "نخبة الفكر" لابن حجر العسقلاني، وبحوزتي مخطوط لها.

ص: 78

وفي "منحةِ الغفارِ، حاشيةِ ضوءِ النهارِ"

(1)

وللهِ الحمدُ. واخترْنا أن العدلَ هوَ مَنْ غلبَ خيرُه شرَّهُ، ولم يجربْ عليهِ اعتيادُ كذبٍ، وأقمنا عليهِ الأدلةَ هنالكَ، والشارحُ هنا مشَى معَ الجماهيرِ. وذكرَ بعضَ ما يتعلقُ بتفسيرِ مرادِهم.

‌لا تقبل شهادة بدوي على صاحب قرية

4/ 1321 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَة"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

، وَابْنُ مَاجَهْ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: لا تجوز شهادة بدويٍّ على صاحبِ قريةٍ. رواهُ أبو داودَ، وابن ماجهْ). البدويُّ مَنْ سكنَ الباديةَ، نسِبَ على غيرِ قياس النسبةِ، والقياسُ بادويٌّ، والقريةُ بفتحِ القافِ وقدْ تكسرُ، المصرُ الجامعُ. وفيهِ دليلٌ على عدمِ صحةِ شهادةِ البدويِّ على صاحبِ القريةِ، لا لبدوي مثله فتصحُّ، وإلى هذا ذهبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ

(4)

، وجماعةٌ منْ [الصحابةِ]

(5)

.

وقالَ أحمدُ: أخْشَى أنْ لا تُقْبَلَ شهادةُ البدويِّ على صاحبِ القريةِ لهذا الحديثِ، لأنهُ متَّهم حيثُ أشهدَ بدويًا ولم يشهِدْ قرويًا. وإليهِ ذهبَ مالكٌ

(6)

، إلَّا أنهُ قالَ: لا تُقْبَلُ شهادةُ البدويِّ لما فيهِ منَ الجفاءِ في الدينِ، والجهالةِ بأحكامِ الشرائعِ، ولأنَّهم في الغالبِ لا يضبطونَ الشهادةَ على وجْهِهَا. وذهبَ الأكثرُ إلى قبولِ شهادتِهم، وحملُوا الحديثَ على مَنْ لا تُعْرَفُ عدالتُه منْ أهلِ الباديةِ؛ إذِ

(1)

وهي حاشية على "ضوء النهار" للجلال. وقد طبعت معه.

(2)

في "السنن" رقم (3602).

(3)

في "السنن" رقم (2366).

قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 250).

وقال المنذري في "المختصر"(5/ 219 رقم 3457) رجال إسناده احتج بهم مسلم في "صحيحه".

وهو حديث صحيح. صححه الألباني في "الإرواء"(8/ 289 رقم 2674).

(4)

في "المغني"(13/ 504).

(5)

في (ب): "أصحابه".

(6)

في "قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية" محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي (ص 337).

ص: 79

الأغلبُ أن عدالتَهم غيرُ معروفةٍ. واستدلَّ في البحرِ

(1)

لقَبولِ شهادتِهم بقَبولهِ صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابيِّ [على]

(2)

هلالِ رمضانَ.

‌عدالة الشاهد بما يظهر من حاله

5/ 1322 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ أُنَاسا كَانُوا يُؤخَذُونَ بِالْوَحْي في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُم الآنَ بِمَا ظَهَرَ لنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

. [صحيح]

(وعنْ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أنهُ خطبَ فقالَ: إنَّ أناسًا كانُوا يُؤخذونَ بالوحي في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الوحْيَ قدِ انقطعَ، وإنَّما نأخذُكم الآنَ بما ظهرَ لنا منْ أعمالِكم. رواهُ البخاريُّ)، وتمامهُ:"فمنْ أظهرَ لنا خيرًا أمِنَّاه وقرَّبناهُ، وليسَ لنا من سريرِته شيءٌ، اللهُ يحاسبُه في سريرتِه. ومَنْ أظهرَ لنا سوءًا لم نأمنْه ولم نصدِّقْه، وإنْ قالَ إنَّ سريرتَه حسنةٌ". استدلَّ بهِ على قبولِ شهادةِ مَنْ لم يظهرْ منهُ ريبةٌ نظرًا إلى ظاهرِ الحالِ، وأنهُ يكفي في التعديلِ ما يظهرُ منْ حالِ المعدِّلِ منَ الاستقامةِ منْ غيرِ كشفٍ عنْ حقيقةِ سريرته، لأنَّ ذلكَ متعذَّرٌ إلَّا بالوحْي وقدِ انقطعَ، وكأنَّ المصنفَ أوردَه وإنْ كانَ كلامَ صحابيٍّ لا حجةَ فيهِ، لأنهُ خطبَ بهِ عمرُ، وأقرَّه مَنْ سمعَهُ فكانَ قولَ جماهيرِ الصحابةِ، ولأنَّ الذي قالَه هوَ الجاري على قواعدِ الشريعةِ [الغرَّاء]

(4)

، وظاهرُ كلامهِ أنهُ لا يُقْبَلُ المجهولُ. ويدلُّ لهُ ما رواهُ ابنُ كثيرٍ في الإرشادِ: "أنهُ شهدَ عندَ عمرَ رجلٌ، فقالَ لهُ عمرُ: لستُ أعرفُك ولا

(1)

لم أجده في "البحر". أما الحديث فقد أخرجه أبو داود رقم (2340)، والنسائي (4/ 132)، والترمذي (691)، والدارمي (2/ 5)، وابن ماجه رقم (1652)، والدارقطني (2/ 158 رقم 9)، والحاكم (1/ 424)، والبيهقي في "السنن"(4/ 211، 212) من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح.

احتجَّ البخاري بأحاديث عكرمة، واحتجَّ مسلم بأحاديث سماك بن حرب.

وهو حديث ضعيف.

انظر: "الإرواء"(907).

(2)

في (أ): "في".

(3)

في "صحيحه" رقم (2641).

(4)

زياد من (أ).

ص: 80

يضرُّك أنْ لا أعرفَكَ، ائتِ بمنْ يعرفُكَ، فقالَ رجلٌ منَ القومِ: أنا أعرفُه، قالَ: بأيِّ شيءِ تعرفُه؟ قالَ: بالعدالةِ والفضلِ، فقالَ: هوَ جارُك الأَدْنى تعرفُ ليلَه ونهاره، ومدخلَه ومخرجَه؟ قالَ لا، قالَ فمعاملك بالدينارِ والدرهمِ اللذيْنِ يُسْتَدلُّ بهما على الورعِ، قالَ: لا، قالَ: فرفيقُكَ في السفرِ الذي يُسْتَدَلُ بهِ على مكارمِ الأخلاقِ، قالَ: لا، قالَ: لستَ تعرفُه، ثمَّ قالَ للرجلِ: ائتِ بمنْ يعرفُك". قالَ ابنُ كثيرِ: رواهُ البغويُّ

(1)

بإسنادِ حسنٍ.

‌من أكبر شهادة الزور

6/ 1323 - وَعَنْ أَبي بَكرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَدَّ شَهَادَةَ الزُّورِ في أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

، في حَدِيثِ طَوِيلٍ. [صحيح]

(وعنْ أبي بكرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ عدَّ شهادةَ الزورِ في أكبرِ الكبائرِ. متفقٌ عليهِ في حديثِ). ولفظ الحديث أنهُ صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبّئُكم بأكبرِ الكبائرِ - ثلاثًا - قالُوا: بلَى، قالَ:[الإشراكُ]

(3)

باللهِ، وعقوقُ الوالدينِ [

]

(4)

، وكانَ متكئًا [فجلس]

(5)

ثمَّ قالَ: "ألا وقولَ الزورِ" فما زال يكررهُا حتَّى قلْنا ليتَه سكتَ. تقدَّم تفسيرُ شهادةِ الزورِ. قالَ الثعلبيُّ

(6)

: الزورُ تحسينُ الشيءِ ووصفهُ بخلافِ

(1)

وهو حديث صحيح.

أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(3/ 454 رقم 1508)، والبيهقي (10/ 125)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(12/ 360).

قال الحافظ في "التلخيص"(4/ 197): قال العقيلي: الفضل مجهول وما في هذا الكتاب حديث لمجهول أحسن من هذا.

وصحَّحه أبو عليّ بن السكن. وكذلك صححه الألباني في "الإرواء"(8/ 260 رقم 2637).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(2654).

ومسلم في "صحيحه"(87/ 143).

قلت: وأخرجه الترمذي (1901).

(3)

في (أ): "الشرك".

(4)

في (ب): "وجلسَ". حذفتها لأنها مخلَّة بالمعنى.

(5)

زيادة من (أ).

(6)

وقد ذكرها الحافظ في "الفتح" عن الطبري (5/ 261).

ص: 81

صفتهِ حتَّى يُخَيَّلَ إلى مَنْ سمعَه أوْ رآهُ أنهُ بخلافِ ما هوَ بهِ، فهوَ تمويهُ الباطلِ بما يوهِمُ أنهُ حقٌّ، وقدْ جعلَ صلى الله عليه وسلم قولَ الزورِ عديلًا [للإشراكِ]

(1)

، ومساويًا لهُ. قالَ النوويُّ

(2)

: وليسَ على ظاهرهِ المتبادَرِ، وذلكَ لأنَّ الشركَ أكبرُ بلا شكٍّ، وكذلكَ القتلُ فلا بدَّ منْ تأويلهِ، وذلكَ بأنَّ التفضيلَ لها بالنظرِ إلى ما يناظرُها في المفسدةِ وهو التسبُّبُ إلى أكلِ المالِ بالباطلِ، فهيَ أكبرُ الكبائرِ بالنسبةِ إلى الكبائرِ التي يتسبَّبُ بها إلى أكلِ المالِ بالبَاطلِ، فهيَ أكبرُ منَ السرقةِ [والربا]

(3)

، وإنما اهتَمَّ صلى الله عليه وسلم بإخبارِهم عنْ شهادةِ الزورِ وجلسَ وأَتَى بحرفِ التنبيهِ، وكرَّرَ الإخبارَ لكونِ قولِ الزورِ وشهادةِ الزورِ أسهلَ على اللسانِ، والتهاونُ بها أكثرُ، ولأنَّ الحواملَ [عليهِ]

(4)

كثيرةٌ منَ العداوةِ والحسدِ وغيرِهما، فاحتيجَ إلى الاهتمامِ بشأنهِ، بخلافِ [الشرك فإنه وإن كان كبيرة إلَّا أنه]

(5)

ينبو عنهُ قلبُ المسلمِ، لأنها لا تتعدَّى مفسدتُه إلى غيرِ المشركِ، بخلافِ قولِ الزورِ فإنهُ يتعدَّى إلى مَنْ قيلَ فيهِ، والعقوقُ يصرفُ عنهُ كرمُ الطبعِ والمروءةِ.

‌الشهاده على ما استيقن

7/ 1324 - وَعَنِ ابْنِ عَبّاسِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: "تَرَى الشَّمْسَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ". أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ

(6)

بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(7)

فَأَخْطَأَ. [ضعيف]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لرجلٍ: ترى الشمسَ؟ قالَ: نعمْ، قالَ: على مثِلها فاشهدْ أو دعْ. أخرجَهُ ابنُ عدي بإسنادٍ ضعيفٍ. وصحَّحهُ الحاكمُ فأخطأ)، لأنَّ في إسنادِه محمدَ بنَ سليمانَ بنَ مشمولٍ ضعَّفهُ النسائيُّ

(8)

. وقالَ البيهقيُّ: لم يُرْوَ

(1)

في (أ): "للشرك".

(2)

في "شرحه" لمسلم (2/ 88).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في (أ): "عليها".

(5)

زيادة من (أ).

(6)

في "الكامل"(6/ 2213).

(7)

في "المستدرك"(4/ 98، 99). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، وتعقَّبه الذهبي بقوله: واهٍ، فعمرو قال ابن عدي: كان يسرق الحديث، وابن مشمول ضعَّفه غير واحد".

(8)

في "الضعفاء والمتروكين"(ص 212 رقم 542). =

ص: 82

منْ وجهٍ يعتمدُ عليهِ، وفيهِ دليل على أنهُ لا يجوزُ للشاهدِ أنْ يشهدَ إلَّا علَى ما يعلمهُ علْمًا يقينًا كما يعلم الشمسَ بالمشاهدة، ولا تجوزُ الشهادةُ بالظنِّ، فإنْ كانتِ الشهادةُ على فعلٍ فلا بدَّ منْ رؤيتهِ، وإنْ كانتْ على صوتٍ فلا بدَّ منْ سماع الصوتِ، ورؤيةِ المصوِّتِ، أو التعريفِ بالمصوِّتِ بعدلَيْنِ أو عدلٍ عندَ منْ يكتفي بهِ إلَّا في مواضعَ فإنها تجوزُ الشهادةُ بالظنِّ. وقدْ بوَّبَ البخاريُّ

(1)

للشهادةِ على الظنِّ بقولهِ: (بابُ الشهادةِ على الأنسابِ والرضاعِ المستفيضِ، والموتِ القديمِ) وذكرَ أربعةَ أحاديثَ

(2)

في ثبوتِ الرضاعِ، وثبوتُه إنَّما هوَ بالاستفاضةِ ولم يذكرْ حديثًا على رؤيةِ الرضاعِ، وأشارَ بذلكَ إلى ثبوتِ النسبِ، فإنَّ لازمَ الرضاعِ ثبوتُ النسبِ، وأما ثبوتُ الرضاعةِ نفسها بالاستفاضةِ فإنهُ مُسْتَفَادٌ منْ صريحِ الأحاديثِ، فإنَّ الرَّضاعةَ المذكورةَ فيها كانتْ في الجاهليةِ، وكانَ ذلكَ مستفيضًا عندَ مَنْ وقعَ لهُ. وحدُّ الاستفاضةِ عندَ الهادويةِ شهرةٌ في المحلَّةِ تثمرُ ظنًا أو عِلْمًا، وإنَّما اكْتُفي

= وذكره العقيلي والساجي والدولابي وابن الجارود في "الضعفاء"، وقال ابن حزم: منكر الحديث. انظر " (لسان الميزان"(5/ 185، 186)، وذكره ابن حبان في "الثقات"(7/ 439).

وقال الشيخ: ولمحمد بن مشمول غير هذا الحديث وعامة ما يرويه لا يتابع عليه في إسناده ولا متنه، "الكامل"(6/ 2214).

(1)

في "صحيحه"(5/ 253).

(2)

(منها): ما أخرجه برقم (2644) عن عائشة قالت: "استأذن عليَّ أفلح فلم آذن له فقال: أتحتجبين مني وأنا عمُّك؟ فقلتُ: وكيف ذلك؟ فقال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، فقالت: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدق أفلح، ائذني له".

(ومنها): ما أخرجه برقم (2645) عن ابن عباس قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: لا تحلُّ لي، يحرم من الرَّضاعة ما يحرم من النسب، هي ابنة أخي من الرَّضاعة".

(ومنها): ما أخرجه برقم (2646) عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها، وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، قالت عائشة: فقلت يا رسول الله أراه فلانًا لعمِّ حفصة من الرِّضاعة - فقالت عائشة: يا رسول الله هذا رجل يستأذنُ في بيتك. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أراه فلانًا، لعمِّ حفصة من الرضاعة. فقالت عائشة: لو كان فلانٌ حيًا - لعمِّها من الرضاعة - دخل عليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن الرضاعة تُحَرِّم ما يحرُم من الولادة".

(ومنها): ما أخرجه برقم (2647) عن مسروق أن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: يا عائشة من هذا؟ قلتُ: أخي من الرِّضاعة، قال: يا عائشة انظرن من إخوانكنَّ، فإنما الرضاعة من المجاعة".

ص: 83

بالشهرةِ في المذكورةِ؛ إذْ لا طريقَ لهُ إلى التحقيقِ بالنسبِ لتعذُّرِ التحققِ فيهِ في الأغلبِ. وأرادَ البخاريُّ

(1)

بالموتِ القديمِ ما تطاولَ الزمانُ عليهِ، وحدَّهَ البعضُ بخمسينَ

(2)

سنةٍ، وقيلَ أربعينَ، وذلكَ لأنهُ يشقُّ فيهِ التحقيقُ. وإلى العملِ بالشهرةِ في النسبِ ذهبَ الهادويةُ والشافعيةُ، وأحمدُ، ومثلُه الموتُ، كذلكَ ذهبت الهادويةُ، وفي ثبوتِ الولاءِ، وقالَ المصنفُ

(3)

في الفتحِ: اختلفَ العلماءُ في ضابطِ ما تفيدُ فيهِ الشهادةُ بالاستفاضةِ، فيصحُّ عندَ الشافعيةِ في النسبِ قطْعًا والولادةِ، وفي الموتِ، والعتقِ، والولاءِ، [والولايةِ]

(4)

، والوقفِ، والعزلِ، والنكاحِ، وتوابعهِ، والتعديلِ، والتجريحِ، والوصيةِ، والرشدِ، والسفهِ، والملك على الراجحِ في جميع ذلكَ، وبلغَها بعضُ المتأخرينَ منَ الشافعيةِ بضعةً وعشرينَ موضعًا، وهي مستوفاةٌ في قواعدِ العلائي إلى آخرِ كلامهِ.

‌القضاء باليمين والشاهد

8/ 1325 - وَعَنْهُ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

، وَأَبُو دَاوُدَ

(6)

، وَالنَّسَائيُّ

(7)

، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قضَى بيمينٍ وشاهدٍ. أخرجَهُ مسلمٌ، وأبو داود، والنسائيُّ. وقالَ: إسنادُه جيدٌ)، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(8)

: لا مطعنَ لأحدٍ في

(1)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(5/ 254).

(2)

قال ابن حجر في "الفتح"(5/ 254): ونسبه إلى مالك فقال: وحدَّه بعض المالكية بخمسين سنة، وقيل بأربعين.

(3)

(5/ 254).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في "صحيحه"(1712).

(6)

في "السنن" رقم (3608).

(7)

في "السنن الكبرى"(3/ 490 رقم 6011/ 1).

قلت: وأخرجه الشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 178)، وأحمد (1/ 315، 323، 348)، وابن ماجه (2370)، وابن الجاورد رقم (1006)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 144)، والبيهقي (10/ 167)، والدارقطني (4/ 214) وهو حديث صحيح. انظر:"نصب الراية" للزيلعي (4/ 97، 100). وفيه رد على كلام الطحاوي في تضعيف الحديث.

(8)

في "الاستذكار"(22/ 48 رقم 31754).

ص: 84

إسنادِه كذَا قالَ، لكنَّه قالَ الترمذيُّ في العللِ

(1)

: سألتُ محمَّدًا يعني البخاريَّ عنهُ فقالَ: لم يسمعْه عندي عمرٌو منِ ابن عباسٍ، يريدُ عمرَو بنَ دينارٍ راويه عن ابن عباسٍ. قالَ الحاكم: قدْ سمعَ عمرٌو منِ ابن عباسٍ عدةَ أحاديثَ، وسمعَ منْ جماعةٍ منْ [الصحابةِ]

(2)

، فلا ينكرُ أن يكونَ سمعً منهُ حديثًا. وسمعَهُ منْ أصحابهِ عنهُ، ولهُ شواهدُ منها:

9/ 1326 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مِثْلُهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(3)

، وَالتِّرْمِذِيُّ

(4)

، وَصَحّحَهُ

(5)

ابْنُ حِبَّانَ. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه مثلُهُ. أخرجَه أبو داودَ، والترمذيُّ، وصحَّحه ابن حبانَ)، وأخرجَهُ أيضًا الشافعي

(6)

. قالَ ابنُ أبي حاتمٍ في العللِ

(7)

عنْ أبيهِ: هوَ صحيحٌ. وقدْ أخرجَ الحديثَ عن اثنينِ وعشرين منَ الصحابةِ

(8)

، [وقدْ] سردَ الشارحُ أسماءَهم. والحديثُ دليلٌ على أنهُ يثبتُ القضاءُ بشاهدٍ ويمينٍ، وإليهِ ذهبَ جماهيرُ منَ الصحابةِ والتابعينَ وغيرِهم، وهوَ مذهبُ فقهاءِ المدينةِ السبعةِ، والهادويةِ، ومالك، قالَ الشافعيُّ: وعمدتُهم هذهِ الأحاديثُ، واليمينُ وإنْ كانَ حاصلُها تأكيدُ الدَّعْوى لكنْ يعظُم شأنُها، فإنَّها إشهادٌ للهِ سبحانَه تعالى أن

(1)

في "العلل الكبير"(ص 204 رقم 361).

(2)

في (ب): "أصحابه"، وهو خطأ.

(3)

في "السنن" رقم (3610).

(4)

في "السنن" رقم (1343) وقال: حديث حسن غريب.

(5)

في "صحيحه" رقم (5073).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2368)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 144)، والبيهقي (10/ 168)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2503)، والشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 179) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ربيعة، به.

• وأخرجه أبو داود رقم (3611)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 144)، والبيهقي (10/ 168) من طرق عن سليمان بن بلال، به.

• وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(6/ 2355)، والبيهقي (10/ 169) من طريقين عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

وللحديث شواهد من حديث جابر، وسُرَّق، وسعد بن عبادة، وعلي، انظر تخريجها في كتابنا:"إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة" جزء القضاء.

(6)

في "ترتيب المسند"(2/ 179) كما تقدم أعلاه.

(7)

(1/ 463).

(8)

انظر: "الاستذكار"(22/ 46، 65).

ص: 85

الحقيقةَ كما يقولُ ولو كانَ الأمرُ على خلافِ الدَّعْوى لكانَ مفتريًا علَى اللهِ أنّهُ يعلمُ صدقَهُ، فلمّا كانتْ بهذهِ [المثابةِ]

(1)

العظيمةِ هَابها المؤمِنُ بإيمانِهِ وعظَمة شأنِ اللهِ تعالى عندَهُ أن يَحْلفَ بهِ كاذِبًا، وهَابها الفاجِرُ لِمَا يراهُ منْ تعجيلِ عقُوبة اللهِ تعالى لمنْ حلفَ يمينًا فاجرةً، فلمَّا كانَ لليمينِ هذا الشأنَ صلحتْ للهجومِ على الحكمِ كشهادةِ الشاهدِ، وقد اعتُبرتِ الأيمانُ فقطْ في اللعانِ، وفي القَسَامةِ في مقامِ الشهودِ.

وذهبَ زيدُ بنُ عليّ وأبو حنيفةَ

(2)

وأصحابهُ إلى عدم الحكمِ باليمينِ والشاهدِ، مستدلينَ بقولهِ تعالَى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(3)

، وقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}

(4)

، قالُوا: وهذا يقتضي الحصرَ ويفيدُ مفهومُ المخالفة لا بغير ذلكَ، وزيادةُ الشاهدِ واليمين مخالفة، وزيادة الشاهد واليمين تكونُ نسخًا لمفهومِ المخالفةِ.

وأُجِيْبَ عنهُ بأنهُ على تقديرِ اعتبارِ مفهومِ المخالفةِ يصحُّ نسخهُ بالحديثِ الصحيحِ أعني حديثَ ابن عباسٍ. واستدلُّوا بقولهِ صلى الله عليه وسلم: "شاهداكَ أو يمينُه"

(5)

. وأُجِيْبَ بأنَّ هذا الحديثَ صحيحٌ، وحديثُ الشاهدِ واليمينِ صحيحٌ يُعْمَلُ بهمِا في منطوقِهمَا، ومفهومُ أحدهما لا يقاومُ [صريح]

(6)

الآخرِ.

هذا وفي سنن أبي داودَ

(7)

أنهُ قالَ سلمةُ في حديثهِ: قالَ عمرٌو (في الحقوقِ) يريدُ أن عمرَو بنَ دينارِ [راوي الحديث]

(8)

عن ابنِ عباسٍ خصَّ الحكمَ بالشاهدِ واليمينِ [بالحقوقِ]

(9)

. [واليمين في الحقوق دون الحدود ونحوها]

(10)

.

(1)

في (أ): "المنزلة".

(2)

انظر: "نصب الراية"(4/ 101)، و "الاستذكار"(22/ 52، 56).

(3)

سورة الطلاق: الآية 2.

(4)

سورة البقرة: الآية 282.

(5)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2669، 2670)، ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس.

قلت: وأخرجه أحمد (5/ 211)، وأبو داود رقم (3621)، والترمذي رقم (2996)، وابن ماجه (2322)، وعزاه إلى النسائي المنذري في "المختصر"(5/ 234 رقم 3474).

(6)

في (أ): "منطوق".

(7)

في "السنن، رقم (3609).

(8)

في (أ): "الراوي".

(9)

في (أ): "في الحقوق".

(10)

زيادة من (أ).

ص: 86

قالَ الخطابيُّ

(1)

: وهذا خاصُّ بالأموالِ دونَ غيرِها؛ [فإنَّ]

(2)

الراوي وقفَه عليها، والخاصُّ لا يعدَّى بهِ محلَّه، ولا يقاسُ عليهِ غيرهُ، [واقتضاءُ] العمومِ منهُ غيرُ جائزٍ، لأنهُ حكايةُ فعلٍ، والفعلُ لا عمومَ لهُ اهـ.

والحقُّ أنهُ لا يخرجُ من الحكمِ

(3)

بالشاهدِ واليمينِ إلَّا الحدَّ والقصاصَ للإجماعِ أنَّهما لا يثبتانِ بذلكَ.

* * *

(1)

في "معالم السنن" حاشية لسنن أبي داود (4/ 33).

(2)

في (أ): "قال".

(3)

في (أ): "الشر".

ص: 87

[الباب الثاني] باب الدعاوى والبيِّنات

الدعاوى جمعُ دعوى، وهي اسمُ مصدرٍ من ادَّعى [شيئًا]

(1)

إذا زعمَ أنهُ لهُ [حقًّا]

(2)

، سواء كان حقًّا أوْ باطلًا، والبيِّناتُ: جمعُ بيِّنةٍ وهيَ الحجَّةُ الواضحةُ، سُميّتْ الحجةُ بيِّنةً لوضوحِ الحقِّ وظهورِه بها.

‌لا تُقبل دعوى إلَّا ببيِّنة

1/ 1327 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يُعْطَى الناسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رجَال وَأمْوَالَهُمْ، وَلَكِن اليَمِين عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

. [صحيح]

- وَللْبَيْهقِيِّ

(4)

بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنكَرَ". (عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: لو يُعْطَى الناسُ بدعْواهُم لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهم، ولكنَّ اليمين على المدَّعى عليهِ. متفقٌ عليهِ. وللبيهقي) [أي من

(1)

في (أ): "الشيء".

(2)

في (أ): "حق".

(3)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (4552) و (2514) و (2668)، ومسلم رقم (1711).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3619)، والترمذي رقم (1342)، والنسائي (8/ 248)، وأبو يعلى رقم (2595).

وعبد الرزاق في "مصنفه"(15193)، والشافعي (2/ 181)، والطبراني (11224) و (11225) و (11223)، والبيهقي (10/ 252)، والبغوي في "شرح السنة"(2501) من طرق.

(4)

في "السنن الكبرى"(10/ 252).

ص: 88

حديثِ،

(1)

ابن عباس (بإسنادٍ صحيحِ: البيِّنةُ على المدَّعي واليمينُ على مَنْ أنْكرَ).

وفي البابِ عن ابن عمرَ عند ابن حِبَّانَ

(2)

، وعنْ عمرِو بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ عندَ الترمذيِّ

(3)

. والحديثُ دالُّ على أنهُ لا يُقْبَلُ قولُ أحدٍ فيما يدَّعِيْهِ لمجرَّدِ دعْواهُ، بلْ يحتاجُ إلى البيِّنةِ أوْ تصديقِ المدَّعَى عليهِ، فإن طلبَ يمينَ المدَّعى عليهِ فلهُ ذلكَ، وإلى هذا ذهبَ سلفُ الأمَّةِ وخلفُها. قالَ العلماءُ: والحكمةُ في كونِ البيِّنةِ على المدَّعي أن جانبَ المدَّعي ضعيفٌ لأنهُ يدَّعي خلافَ الظاهرِ، فكُلِّفَ الحجةَ القويةَ وهي البيِّنةُ، فيقوى بها [ضعفَ المدَّعي]

(4)

، وجانبُ المدَّعى عليه قويُّ لأنَّ الأصلَ فراغُ ذمته فاكْتُفِيَ منهُ باليمينِ، وهيَ حجةٌ ضعيفةٌ.

‌القرعة بين الخصوم في اليمين

2/ 1328 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ في الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(5)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عرضَ على قومٍ اليمينَ فأسرعُوا، فأمرَ أنْ يُسْهَمَ بينَهم في اليمينِ أيّهم يحلفُ. رواهُ البخاريُّ). يفسِّرهُ ما رواهُ أبو داودَ

(6)

، والنسائيُّ

(7)

منْ طريقِ أبي رافعٍ عنْ أبي هريرةَ أن رجلَيْنِ اختصمَا في متاع ليسَ لواحدٍ منْهما بينةٌ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"استَهِمَا على اليمينِ ما كانَ أحبَّا ذلكَ أو كرِهَا". قالَ الخطابيُّ

(8)

: ومعنَى الاستهام هنا الاقتراعُ، يريدُ أنهَّما يقترعانِ فأيُّهما خرجتْ

(1)

في (أ): "عن".

(2)

عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص"(4/ 208).

(3)

في "السنن" رقم (1341)، وهو حديث صحيح. انظر:"الإرواء"(8/ 265، 267).

(4)

في (أ): "ضعفه".

(5)

في "صحيحه" رقم (2674).

(6)

في "السنن" رقم (3616).

(7)

في "السنن الكبرى"(3/ 487 رقم 6001/ 3).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2346).

(8)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(5/ 286).

ص: 89

لهُ القرعةُ حلفَ وأخذَ ما ادَّعى، ورُوِيَ مثلُه عنْ عليّ بن

(1)

أبي طالبٍ عليه السلام وهوَ أنهُ أتِيَ بنعلٍ وُجِدَ في السوقِ يباعُ فقالَ رجلٌ: هذا نعلي لم أبعْ ولم أهبْ، ونَزَعَ علَى خمسةٍ يشهدونَ، وجاءَ آخرُ يدَّعيهِ يزعمُ أنهُ نعلُه، وجاءَ بشاهِدْينِ. [قال الراوي]

(2)

: فقالَ عليٌّ رضي الله عنه: إنَّ فيهِ قضاءً وصُلْحًا، وسَوفَ أبيِّنُ لكمْ ذلكَ، أما صلْحهُ أن يُبَاعَ النعلُ فيقسمَ على سبعةِ أسهمٍ لهذا خمسةٌ، ولهذَا اثنانِ، وإنْ لم يصْطَلِحا فالقضاءُ أن يحلفَ أحدُ الخصمينِ أنهُ ما باعهُ ولا وهبهُ، وأنهُ نعلُه فإنْ تشاحَحتُما

(3)

أيُّكما يحلفُ فإنهُ يقرعُ بينَكُما على الحلِف، فأيُّكما قرعَ حلفَ. انتهَى كلامُ الخطابيِّ.

‌غضب الله على من أكل مال غيره بالباطل

3/ 1329 - وَعَنْ أَبي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيهِ الْجَنةَ"، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

. [صحيح].

(وعنْ أبي أمامةَ الحارثيِّ رضي الله عنه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: منِ اقتطعَ حقَ امرئٍ مسلمٍ بيمينهِ فقدْ أوجبَ اللهُ لهُ النارَ، وحرَّم عليهِ الجنةَ. فقالَ لهُ رجلٌ: وانْ كانَ شيئًا يسيرًا يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: وانْ كانَ قضيبًا منْ أراكٍ. رواهُ مسلمٌ).

(1)

ذكره الخطابي في "معالم السنن"(4/ 39).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

المشاحَّة: الضِّنَّة، وتشاحَّا على الأمر: لا يريدان أن يفوتهما، وتشاحَّ القوم في الأمر: شحَّ بعضهم على بعض حَذَرَ فوتِه. القاموس المحيط 289.

(4)

في "صحيحه" رقم (218/ 137).

قلت: وأخرجه مالك (2/ 227)، وأحمد (5/ 260)، والدارمي (2/ 266)، والنسائي (8/ 246)، والطبراني في "الكبير" رقم (796) و (797)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2507)، والبيهقي (10/ 179) من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن مَعْبَدِ بن كعب، عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبي أمامة، به.

• وَأخرجه مسلم رقم (219/ 137)، وابن ماجه رقم (2324)، والدارمي (2/ 266) والدولابي في "الكنى والأسماء"(1/ 12)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 186)، والطبراني في "الكبير" رقم (799) من طريقين عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن كعب، به.

ص: 90

الحديثُ دليلٌ على شدةِ الوعيدِ لمنْ حلفَ ليأخذَ حقًّا لغيرهِ، أو يسقطَ عنْ نفسهِ حقًّا، فإنهُ يدخلُ تحتَ الاقتطاعِ لحقِّ المسلمِ، والتعبيرُ بحقِّ المسلمِ يدخلُ فيهِ ما ليسَ بمالٍ شرعًا كجِلْدِ الميتةِ ونحوِه. وذِكْرُ المسلمِ خرجَ مخرجَ الغالبِ، وإلا فالذميُّ مثلُه في هذَا الحكمِ. وقيلَ: ويحتملُ أن هذهِ العقوبةَ تختصُّ بمنِ اقتطعَ بيمينهِ حقَّ المسلم لا حقَّ الذميِّ، وإنْ كانَ محرَّمًا فلَه عقوبةٌ أخرى، وإيجابُ النارِ وتحريمُ الجنةِ مقيَّدٌ بما إذا لم يتبْ ويتخلَّصْ منَ الحقِّ الذي أخذَه باطلًا، ثمَّ المرادُ باليمينِ اليمينُ الفاجرةُ، وإنْ كانتْ مطلقةً في الحديثِ فقدْ قَيَّدَها الحديثُ الآتي:

4/ 1330 - وَعَنِ الأَشْعَتِ بْنِ قَيسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْريء مُسْلِم هُوَ فيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيهِ غَضْبَانُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

وهوَ قولُه: (وعن الأشعثِ)[بن قيس الأشعث]

(2)

بشينٍ معجمةٍ ساكنةٍ، فعينٍ مهملةٍ مفتوحةٍ، فمثلثةٍ، هو أبو محمدٍ (ابن قيسٍ) بن معدِيكربَ الكنديِّ، قدمَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في وفدِ كنْدَةَ، وكانَ رئيسَهُم [وذلكَ]

(3)

في سنةِ عشرٍ، وكانَ [رئيسًا في الجاهليةِ]،

(4)

، مُطَاعًا في قومهِ، وجيهًا في الإسلامِ، وارتدَّ عن الإسلامِ بعدَ موتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ رجعَ إلى الإسلامِ في خلافةِ أبي بكر رضي الله عنه، وخرجَ للجهادِ معَ سعدِ بن أبي وقاصٍ، وشهدَ القادسيةَ وغيرهَا، ثمَّ سكنَ الكوفةَ، ومات بها سنةَ اثنتينِ وأربعينَ، وصلَّى عليهِ الحسنُ بنُ عليّ عليه السلام (أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: منْ حلفَ على يمينٍ يقتطعُ بها مالَ امِريء مسلمٍ هوَ فيها فاجرٌ لقيَ الله وهوَ عليهِ غضبانُ. متفقٌ عليهِ). والمرادُ بكونهِ فاجرًا أنْ يكونَ متعمِّدًا عالمًا أنه غيرُ محقٍّ، وإذا كانَ الله تعالى عليهِ غضبانَ حرمَهُ [جنته]

(5)

، وأوجبَ عليهِ عذابَه.

5/ 1331 - وَعَنْ أبي مُوسى رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا في دَابَّةٍ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا نِصفَيْنِ. رَوَاهُ

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (7183)، ومسلم في "صحيحه" رقم (220/ 138).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "الجنة".

ص: 91

أَحَمْدُ

(1)

، وَأَبُو دَاوُدَ

(2)

، وَالنَّسَائِيِّ

(3)

، وَهذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. [ضعيف]

(وعنْ أبي موسى رضي الله عنه أن رجلينِ اختصمَا في دابه ليسَ لواحد منهما بينةٌ، فقضَى بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَهما نصفينِ. رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائيُّ، وهذا لفظهُ. وقال: إسنادة جيدٌ). قالَ الخطابيُّ

(4)

: يشبهُ أنْ يكونَ هذا [البعيرُ أو الدابةُ كانتْ]

(5)

في أيديهمِا معًا، فجعلهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَهما لاستوائِهما في الملكِ باليدِ، ولولا ذلكَ لم يكونا بنفسِ الدَّعْوى يستحقانِه لوْ كانَ الشيءُ في يدِ أحدِهما.

وقدْ رَوَى أبو داودَ

(6)

عقيبَهُ حديثًا فقالَ: "ادَّعَيا بعيرًا في عهدِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبعثَ كلُّ واحدٍ منهما بشاهدينِ، فقسمهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَهما نصفينِ". قالَ الخطابيُّ

(7)

: وهوَ مرويٌّ بالإسنادِ الأولِ إلَّا أن في الحديثِ المتقدِّمِ لم يكنْ لواحدٍ منهما بينةٌ، وفي هذا أن [كلَّ]

(8)

واحدٍ منْهما [قدْ جاءَ بشاهدينِ]

(9)

، فاحتملَ أنْ تكونَ [القضيةُ]

(10)

واحدةَ إلَّا أن [الشهاداتِ]

(11)

لمَّا تعارضت [تهاترتْ]

(12)

فصارا كمنْ لا بيِّنةَ له، وحكمَ بالشيءِ بينَهما نصفينِ لاستوائِهمِا في اليدِ، ويحتملُ أنْ يكونَ البعيرُ في يدِ غيرِهما، فلمَّا أقامَ كلُّ واحدٍ [منْهما شاهدينِ]

(13)

على دعواهُ نُرعَ الشيءُ منْ يدِ المدَّعى عليهِ، ودفعهُ إليهما، وقد اختلفَ العلماءُ في الشيءِ يكونُ في يدِ الرجلِ يتداعاهُ اثنانِ يقيمُ كلُّ واحدٍ منْهما ببينةٍ، فقالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ وإسحاقُ بنُ راهويْه: يقرعُ بينَهما فمنْ خرجتْ لهُ القرعةُ صارَ لهُ، وكانَ الشافعيُّ يقولُ بهِ قديمًا، ثمَّ قالَ في الجديدِ: فيهِ

(1)

في "الفتح الرباني"(15/ 217 رقم 34).

(2)

في "السنن"(3613).

(3)

في "السنن"(8/ 248).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2330)، والبيهقي (10/ 254، 257)، وهو حديث ضعيف، انظر الكلام عليه بتوسع في "الإرواء" رقم (2656).

(4)

في "معالم السنن"(4/ 37 رقم 3613 - مع سنن أبي داود).

(5)

في (أ): "الحيوان".

(6)

في "السنن" رقم (3615).

(7)

في "معالم السنن"(4/ 38 رقم 3615 - مع سنن أبي داود).

(8)

في (أ): "ككل".

(9)

في (أ): "ببينة".

(10)

في (أ): "القصة".

(11)

في (أ): "الشهادتان".

(12)

في (أ): "تهاترتا".

(13)

في (أ): "البينة".

ص: 92

قولانِ: أحدُهما يُقْضَى بهِ بينَهما نصفينِ، وبهِ قالَ أصحابُ الرأي، وسفيانُ الثوري، والقولُ الثاني يقرعُ بينَهما فأيُّهما خرجَ سهمهُ حلفَ: لقدْ شهدَ شهودُه بحقٍّ ثمَّ يقْضَى بهِ له، وقالَ مالكٌ: لا أحكم بهِ لواحدٍ منهما إنْ كانَ في يدِ غيرِهما، وحُكِيَ عنهُ أنهُ قالَ: هوَ لأَعْدَلهِما شهودًا، وأشهرِهما [صلاحًا]

(1)

، وقالَ الأوزاعيُّ: يؤخذُ بأكثرِ البيِّنتينِ عددًا، وحكيَ عن الشعبيِّ أنهُ قالَ: هوَ بينَهما على حصصِ الشهودِ، اهـ كلامُ الخطابيِّ. وفي المنار

(2)

[للمفتي]

(3)

أن القرعةَ ليسَ هذا محلَّها، وإنَّما وظيفتُها حيثُ تعذرَ التقريبُ إلى الحقيقةِ منْ كلِّ وجهٍ، [وكونُ]

(4)

المدَّعى هنا [غير]

(5)

مشتركًا أحدُ [المحتملاتِ]

(6)

فلا وجْهَ لإبطالهِ بالقرعةِ، واختارَ قسمةَ المدَّعي، وهوَ الصوابُ في هذهِ الصورةِ [كما هو مذهب الهادوية]

(7)

.

‌هل تغلظ اليمين بالزمان والمكان

6/ 1332 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هذا بيَمِينٍ آثمةٍ تبوأَ مقعدَه منَ النارِ". رواهُ أحمدُ

(8)

، وأبو داودَ

(9)

، والنسائيُّ

(10)

، وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ"

(11)

. [صحيح]

(1)

في (ب): "الصلاح".

(2)

للمقبلي (2/ 293).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في (أ): "ويكون".

(5)

زيادة من (أ).

(6)

في (أ): "الاحتمالات".

(7)

زيادة من (أ).

(8)

في "المسند"(3/ 244).

(9)

في "السنن" رقم (3246).

(10)

في "السنن الكبرى"(3/ 491 رقم 6018/ 1).

(11)

في "صحيحه" رقم (4368).

قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 176)، و (7/ 398)، ومالك (2/ 727)، والشافعي في "ترتيب المسند"(2/ 73)، وابن ماجه رقم (2325)، والحاكم (4/ 396) وصحَّحه ووافقه الذهبي.

• وله شاهد من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح عند أحمد (2/ 329، 518)، وابن ماجه رقم (2326)، والحاكم (4/ 297) وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

قلت: الحسن بن يزيد ثقة لم يخرجا له ولا أحدهما.

والخلاصة: أن الحديث صحيح، والله أعلم.

ص: 93

وعن جابرٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: من حَلَفَ على منبري هذا بيمينٍ آثمة تبوَّأ مقعده من النار. رواه أحمد وأبو داودَ والنسائيُّ وصحَّحه ابن حبان)، وأخرجَ

(1)

النسائيُّ برجالٍ ثقاتٍ منْ حديثِ أبي أمامةَ مرفُوعًا: "مَنْ حلفَ عندَ منبري هذا بيمينٍ كاذبةٍ، يستحلُّ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ فعليهِ لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، لا يقبلُ اللهُ منهُ صرْفًا ولا عدْلًا". والحديثُ دليلٌ على عظمةِ إثمِ منْ حلفَ على منبرهِ صلى الله عليه وسلم كاذِبًا. واختَلَفَ العلماءُ في تغليظِ الحلفِ بالمكانِ والزمانِ هلْ يجوزُ للحاكم أوْ لا. والحديثُ لا دليلَ فيهِ على أحدِ القولينِ، إنَّما فيهِ عظمةُ إثمِ مَنْ حلفَ على منبرهِ صلى الله عليه وسلم. وذهبت الهادويةُ والحنفيةُ والحنابلةُ إلى أنهُ لا تغليظَ بزمانٍ ولا مكانٍ، وأنهُ لا يجبُ على الحالِفِ الإجابةُ إلى ذلكَ. وذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ يجبُ التغليظُ في الزمانِ والمكانِ، قالُوا: ففي المدينةِ على المنبرِ، وفي مكةَ بينَ الركنِ والمقامِ، وفي غيرهما في المسجدِ الجامعٍ، وكأنَّهم يقولونَ في الزمانِ ينظرُ إلى الأوقاتِ الفاضلةِ كبعدَ العصرِ، وليلةَ الجمعةِ ويومَها، ونحوَ ذلكَ. احتجَّ الأولونَ بإطلاقِ أحاديثِ:"اليمينُ على المدَّعى عليهِ"

(2)

، وبقولهِ:"شاهِدَاكَ أوْ يمينُه"

(3)

. واحتجَّ الجمهورُ بحديثِ جابرٍ، وحديثِ أبي أمامةَ، وبفعلِ عمرَ وعثمانَ وابنِ عباسٍ وغيرِهم منَ السلفِ. واستدلُّوا للتغليظِ بالزمانِ بقولهِ تعالَى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ}

(4)

. قالَ المفسرونَ

(5)

: هي صلاةُ العصرِ. وقالَ آخرونَ: يستحبُّ التغليظُ في الزمانِ والمكانِ ولا يجبُ. وقيلَ: هوَ موضعُ اجتهادٍ للحاكمِ إذا رآه [حسنًا]

(6)

ألزمَ بهِ.

‌الثلاثة الذين لا يكلِّمهم الله يوم القيامة

7/ 1333 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِمْ، وَلَا

(1)

في "السنن الكبرى"(3/ 492 رقم 6019/ 2) ورجاله ثقات.

(2)

سبق تخريجه حديث رقم (1/ 1327) من كتابنا هذا.

(3)

تقدم تخريجه في شرح الحديث رقم (9/ 1326) من كتابنا هذا.

(4)

سورة المائدة: الآية 106.

(5)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 353).

(6)

في (أ)"صلاحًا".

ص: 94

يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابْ أَليمٌ: رجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلاةِ فَمنعَه مِن ابْنِ السّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لأَخَدَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ اِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَّى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ثلاثةٌ لا يكلِّمُهُمُ اللهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظرُ إليهمْ)، هذا كنايةٌ عن غضبِه تعالَى، وإشارةٌ إلى حِرْمانِهِمْ من رحمتهِ، (ولا يزكِّيهمْ) أي: لا يطهِّرُهم عنْ أدناسِ الذنوبِ بالمغفرةِ، (ولهمْ عذابٌ أليمٌ: رجلٌ على فضلِ ماءٍ بالفلاة فمنعه من ابن السبيلِ، ورجلٌ بايعَ رجلًا بسلعةٍ بعدَ العصرِ، فحلفَ لهُ باللهِ لأخذَها بكذَا وكذَا وصدَّقَة وهوَ على غيرِ ذلكَ، ورجلٌ بايعَ إمامًا لا يبايعُه إلَّا للدُّنيا، فإن أعطاهُ منْها وفَّى، وإنْ لم يُعْطِه منْها لم يفِ. متفقٌ عليهِ).

قولُه: "على فضلِ ماءٍ"، أي على ماءٍ فاضلٍ عنْ كفايتهِ، فهذَا منعُ ما لا حاجة إليه مَنْ هوَ محتاجٌ لهُ، وتقدَّمَ الكلامُ عليهِ في كتابِ البيعِ. وقولُه:"فصدَّقهُ" أي: المشتري، وضميرُ "هوَ" للأَخذ، مصدرُ قولِه: لأخذَها، لدلالةِ فعلهِ عليهِ، مثلُ:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}

(2)

، أي: والأخذُ على غيرِ ما حلفَ عليهِ، فهذَا ارتكبَ أمْرينِ عظيمينِ: الحلفَ باللهِ، والكذبَ في قيمةِ السلعةِ، وخصَّ بعدَ العصرِ لشرفِ الوقتِ وهوَ منْ أدلةِ مَنْ غلَّظَ بالزمانِ. وقولُه:"بايعَ إمامًا لا يبايعهُ إلَّا للدنيا"، أي لما يعطِيهِ منْها. والوعيدُ يحتملُ أن يكون لمجموعِ ما ذكرَ منَ المبايعةِ لأجلِ الدنيا، فإنَّها نيةٌ غيرُ صالحةٍ، ولعدمِ الوفاءِ بالخروجِ عن الطاعةِ، وتفريقِ

(1)

أخرجه البخاري (2358)، (2672)، و (7212)، ومسلم (108).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3474)، وابن ماجه رقم (2207)، و (2870)، وابن منده في "الإيمان"(622) و (625)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 330) و (8/ 160)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2516) من طرق عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، به.

• وأخرجه البخاري رقم (2369) و (7446)، ومسلم رقم (174/ 108)، وابن منده في "الإيمان" رقم (626)، والبيهقي في السنن الكبرى" (6/ 152) و (10/ 177، 178)، والبغوي رقم (1669) و (2516) من طرق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح عن أبي هريرة، به.

(2)

سورة المائدة: الآية 8.

ص: 95

الجماعةِ. والأصلُ في بيعةِ الإمامِ أنْ يقصدَ بها إقامةَ الشريعةِ [والعملَ]

(1)

بالحقِّ، ويقيمَ ما أمرَ اللهُ بإقامتهِ، ويهدمَ ما أمرَ اللهُ بهدمهِ.

ووقعَ في البخاريِّ

(2)

: "ورجلٌ حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ بعدَ العصرِ، ليقتطعَ بها مالَ رجلٍ مسلمٍ"، فيكونُ مَنْ توعَّدَ بهذا النوعِ منَ الوعيدِ أربعةٌ. وفي مسلمٍ

(3)

مثلُ حديثِ أبي هريرةَ قالَ: وشيخٌ زانٍ، وملِكٌ كذَّابٌ، وعائلٌ مستكبرٌ". وأخرجَ أيضًا منْ حديثِ أبي ذرٍّ

(4)

مرفُوعًا: "ثلاثة لا يكلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ: المنانُ الذي لا يعطي شيئًا إلَّا مِنَّةً، والمنفقُ سلعتَه بالحلفِ الفاجرِ، والمسبلُ إزارَه"، فيحصلُ منْ مجموعِ الأحاديثِ تسعُ خصالٍ إنْ حملْنا المنفقَ سلعته [بالحلف الكاذبِ]

(5)

، والذي حلفَ بعدَ العصرِ لقدْ أَعْطِيَ كذَا وكذَا، شيئًا واحدًا، وإنْ جعلناهما شيئينِ كما هوَ الظاهرُ، فإنَّ المنفقَ سلعتهَ بالكذبِ أعمُّ منَ الذي يحلفُ لقدْ أُعْطِيَ فتكونُ عشرًا.

‌اليد مرجحة للشهادة الموافقة لها

8/ 1334 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا في نَاقَةٍ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نُتِجَتْ هذ النَّاقَةُ عِنْدِي، وَأَقَامَا بَيِّنَةً، فَقَضى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ هِيَ في يَدِهِ

(6)

. [إسناده ضعيف]

(وعنْ جابرٍ رضي الله عنه أن رجلَيْنِ اختصَما في ناقةٍ، فقالَ كلُّ واحدٍ منْهما نُتِجَتْ هذهِ الناقة عندي، وأقاما) أي: كلُّ واحدٍ [منهما]

(7)

(بيِّنةً، فقضَى [بها]

(8)

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمن هيَ في يدهِ). سيأتي مَنْ أخرجَهُ، وأخرجَ الذي بعدَه. وقدْ أخرجَ هذا

(1)

في (ب): "ويعملَ".

(2)

في "صحيحه" رقم (2676 و 2677).

(3)

في "صحيحه" رقم (172/ 107).

(4)

في "صحيحه"(1/ 102 رقم 000/ 106).

(5)

في (أ): "بالكذب".

(6)

أخرجه الدارقطني في "السنن"(4/ 209) رقم (21) وفيه يزيد بن نعيم: لا يعرف حاله وإسناده ضعيف.

(7)

زيادة من (أ).

(8)

زيادة من (ب).

ص: 96

البيهقيُّ

(1)

، ولم يضعِّفْ إسنادَه. وأخرجَ نحوَه عن الشافعيِّ

(2)

إلَّا أن فيهِ: "تداعيا دابةَ"، ولم يضعِّفْ إسناده أيضًا. والحديثُ دليل على أن اليدَ مرجِّحةٌ للشهادةِ الموافقةِ لها. وقدْ ذهبَ إلى هذا الشافعيُّ ومالكٌ وغيرُهما. قالَ الشافعيُّ: يُقَالُ لهما قدِ استويتُما في الدَّعْوى والبيِّنةِ وللذي هوَ في يدهِ سببٌ بِكَيْنُونيَّتِهِ في يدهِ هوَ أقْوى منْ سَبَبِكَ فهوَ لهُ الفضلُ قوةُ سببهِ، وذكرَ هذا الحديثَ. وذهبَ الهادويةُ وجماعةٌ منَ الآلِ وابنُ حنبلٍ إلى أنَّها ترجَّحُ بيِّنةُ الخارج وهوَ مَنْ لم يكنْ في يدهِ، قالُوا: إذْ شُرِعَتْ لهُ - وللمنكر - اليمينُ، ولقولِه صلى الله عليه وسلم:"البينةُ على المدَّعي"

(3)

فإنه يقْتَضِي أنهُ لا تفيدُ بينةُ المنكرِ. ويُرْوَى عنْ عليٍّ عليه السلام أنهُ قالَ: "مَنْ كانَ في يدهِ شيءٌ فبيِّنتُه لا تعملُ لهُ شيئًا". ذكرهُ في البحرِ، وأُجِيْبَ عنْ ذلكَ بأنَّ حديثَ جابرٍ خاصٌّ، وحديثَ:"البينةُ على المدَّعي" عامّ، والخاصُّ مخصَّصٌ مقدَّمٌ، وأثرُ عليّ عليه السلام لم يصحَّ، وعلى صِحَّتِهِ فمعارَضٌ بما سبقَ. وعنِ القاسمِ أنهُ يقسَم بينَهما، لأنَّ اليدَ مقوِّيةٌ لِبيِّنةِ الداخلِ فسارتْ بيِّنةُ الخارجِ. ويُرْوَى عنهُ كقولِ الشافعي. وللحنفيةِ تفصيلٌ لم يقمْ عليهِ دليل.

‌ردُّ اليمين على طالب الحق

9/ 1335 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالبِ الْحَقِّ. رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ

(4)

، وَفي إِسْنَادِهِمَا ضَعْفٌ. [ضعيف]

(1)

البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 256).

(2)

في "ترتيب المسند"(2/ 180 رقم 637).

(3)

سبق تخريجه بحديث رقم (1/ 1327).

(4)

في "السنن"(4/ 213 رقم 34).

قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 184)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 100) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، وردهُ الذهبي قال: لا أعرف محمدًا وأخشى أن يكون الحديث باطلًا.

وقال الحافظ في "التلخيص"(4/ 209):

"رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وفيه محمد بن مسروق لا يعرف، وإسحاق بن الفرات مختلف فيه. ورواه تمام في "فوائده" من طريق أخرى عن نافع.

وقد ضعَّفه الألباني في "الإرواء"(8/ 268 رقم 2642).

ص: 97

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ردَّ اليمينَ على [طالب]

(1)

الحقَ. رواهُما) أي: هذَا والذي قبلَه (الدارقطنيُّ، وفي إسنادِهما ضَعْفٌ). وجه ضعف هذا الحديث أن مداره على محمد بن مسروقٍ عنْ إسحاقَ بن الفراتِ، ومحمدٌ لا يُعْرَفُ، وإسحاقُ مختلَفٌ فيهِ كما قال المصنفُ. قالَ الذهبيُّ في الكاشفِ

(2)

: إنَّ إسحاقَ بن الفراتِ قاضي مصرَ ثقةٌ معروفٌ. قالَ البيهقيُّ: الاعتمادُ في هذا البابِ على أحاديثِ القسامةِ، فإنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم لأولياءِ الدمِ: تحلفون؟ فأَبَوْا، فقال: تحلف يهودُ"

(3)

، وهوَ حديثٌ صحيحٌ، وساقَ الرواياتِ في القَسَامةِ، وفيها ردُّ اليمينِ، قالَ: فهذهِ الأحاديثُ هيَ المعتمدَةُ في ردِّ اليمينِ على المدَّعي إذا لم يحلفْ المدَّعَى عليهِ.

قلت: وهذَا منهُ قياسٌ إلَّا أنهُ قدْ ثبتَ [عندَهم]

(4)

أن القسامةَ على خلافِ القياسِ، [وثبتَ أنهُ]

(5)

لا يُقَاسُ علَى ما خالفَ القياسَ. وقدِ استُدِلَّ بحديثِ الكتابِ علَى ثبوتِ ردِّ اليمينِ على المدَّعي، والمرادُ به أنَّها تجبُ اليمينُ على المدَّعي ولكنْ إذا لم يحلفْ المدَّعَى عليهِ. وذهبَ الشافعي وآخرونَ إلى أنهُ إذا نَكَلَ المدَّعَى عليهِ فإنهُ لا يجبُ بالنكولِ شيءٌ إلَّا إذا حلفَ المدَّعي. وذهبَ الهادويةَ وجماعةٌ إلى أنهُ يثبتُ الحقُّ بالنكولِ منْ دونِ تحليفِ للمدَّعي. وقالَ الميؤيدُ: لا يحكمُ بهِ ولكنْ يُحْبَسُ حتَّى يحلفَ أوْ يقرَّ. استدلَّ الهادويةُ بأن النكولَ كالإقرارِ. ورُدَّ أنهُ مجرَّدُ تمرُّدٍ عنْ حقٍّ معلومٍ، وجوابهُ عليهِ وهوَ اليمينُ فيحبسُ لهُ حتَّى يوفِّيهُ أو يُسْقِطَه بالإقرارِ، واستدلُّوا أيضًا بأنهُ حكمَ بهِ عمرُ وعثمانُ وابنُ عباسٍ وأبو موسَى، وأُجِيْبَ [بأن ذلك ليس بحجة؛ إذ هو فعل صحابي]

(6)

، نعمْ لو صحَّ حديث ابن عمر كان الحجة فيه.

‌الاعتبار بالقيافة في ثبوت النسب

10/ 1336 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ

(1)

في (أ): "صاحب".

(2)

(1/ 64 رقم 314).

(3)

في "السنن الكبرى"(8/ 117، 124).

(4)

في (أ): "عند أهل الأصول".

(5)

زيادة من (ب).

(6)

في (ب): بعدم حجة أفعالهم.

ص: 98

مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ. فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ إِلَى مُجَزِّزٍ

(1)

الْمُدْلِجِيِّ؟ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: هَذِهِ الأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"، مُتّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ مسرورًا، تبرقُ) بفتحِ المثناةِ الفوقيةِ، وضمِّ الراءِ (أساريرُ وجْهِهِ)، هي الخطوطُ التي في الجبهةِ، واحدُها سِرٌّ وسَرَرَ

(3)

، وجمعُها أسرارٌ وأسرَّةٌ، وجمْعُ الجمعِ أساريرُ، أي تضيءُ وتستنيرُ منَ الفرحِ والسرورِ. (فقالَ: ألم تري إلى مجزِّزٍ) بضمِّ الميمِ، وفتحِ الجيمِ، ثمَّ زاي مشددةٍ مكسورةٍ، ثمَّ زايٍ أُخْرَى، اسمُ فاعلٍ لأنهُ كانَ في الجاهليةِ إذا أَسَرَ أسيرًا جزَّ ناصيته وأطلقَه، (المدلجيِّ) بضمِّ الميمِ وبالدالِ المهملةِ، وجيمٍ بزنةِ مخرجٍ، نسبةً إلي بني مدلجِ بن مُرَّةَ بن عبدِ منافِ بن كنانةَ (نظَرَ آنِفًا) أي الآنَ (إلى زيدِ بن حارثةَ، وأسامةَ بن زيد فقالَ: هذهِ الأقدام بعضها منْ بعضٍ. متفقٌ عليهِ). في روايةٍ للبخاريِّ

(4)

أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ألمْ تَرَيْ أن مُجَزِّزًا لمُدلِجيَّ دخلَ فرأى أسامةَ وزيدًا، وعليهمَا قطيفةٌ قدْ غطيا رؤوسَهما وبدتْ أقدامُهما فقالَ: إنَّ هذهِ الأقدامَ بعضُها منْ بعضٍ". واعلمْ أن الكفارَ كانُوا يقدحونَ في نسب أسامةَ لكونهِ [كانَ]

(5)

أسودَ شديدَ السوادِ، وكانَ زيدٌ أبيضَ كذَا قالَه أبو داودَ

(6)

. وأمٍّ أسامةَ هيَ أمُّ أيمنَ

(7)

كانتْ حبشيةً سوداءَ. ووقعَ في الصحيحِ

(8)

أنَّها كانتْ حبشيةً

(1)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة"(4679)، و"الاستيعاب"(2550)، و"الإصابة"(5/ 575 رقم 7747).

(2)

أخرجه البخاري رقم (6770)، ومسلم رقم (1459).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2129)، والنسائي (6/ 184)، والدارقطني (4/ 240)، وأحمد (6/ 82)، وأبو داود في "السنن" رقم (2267)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (4102).

(3)

في هامش المخطوط (ج): "كذا في البدر مفرده "سر"، وفي الصِّحاح أن مفرده "سِرر" كعنب وجمعه "أسرار" وجمع الجمع "أسارير"، وفيه لغة "سرار" وجمعه أسرة مثل: حمار وأحمرة" اهـ.

(4)

في "صحيحه" رقم (6771).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

في "السنن"(2/ 699).

(7)

انظر ترجمتها في: "أسد الغابة"(7/ 35 رقم 6769)، و"الإصابة"(10921)، و"الاستيعاب"(3298).

(8)

في "صحيح البخاري"(12/ 57).

ص: 99

وصيفةً لعبدِ اللهِ والدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ويقالُ كانتْ منْ سبي الحبشةِ الذينَ قدِمُوا زمنَ الفيلِ، فصارتْ لعبدِ المطلب، فوهبَها لعبدِ اللهِ والدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وتزوجتْ قبلَ زيدِ عُبَيْدًا الحبشيَّ فولدتْ لهُ أَيمنَ فَكُنِّيَتْ بهِ، واشتهرتْ بِكُنيتِها، واسمُها بَرَكَةُ. والحديثُ دليل على [اعتبارِ القيافةِ]

(1)

في ثبوتِ النسبِ. وهيَ: مصدرُ قافَ قيافةً، والقائفُ الذي يتتبعُ الآثارَ ويعرفُها ويعرفُ [شِبْهَ]

(2)

الرجلِ بأبيهِ وأخيهِ [ونحوهما]

(3)

. وإلى اعتبارها في ثبوتِ النسبِ ذهبَ مالكٌ والشافعيُّ وجماهيرُ العلماءِ مستدلين بهذا الحديثِ. ووجْهُ دلالتِه [على العمل بها]

(4)

ما عُلِمَ منْ أن التقريرَ منهُ صلى الله عليه وسلم حجةٌ [شرعية]

(5)

، لأنُه أحدُ أقسامِ السنةِ [النبوية]

(6)

.

وحقيقةُ التقريرِ أَنْ يَرَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فعلًا منْ فاعلٍ، أو يسمعَ قولًا منْ قائلٍ، أو يعلمُ بهِ، وكانَ ذلكَ الفعلُ منَ الأفعالِ التي لا يعلمُ تقدّمَ إنكارها منه صلى الله عليه وسلم كمضيِّ كافرٍ إلى كنيسةٍ، أو معَ عدمِ القدرةِ [على إنكار ذلك الفعل أو القول كما]

(7)

كانَ يشاهدهُ منْ كفارِ مكةَ منْ عبادةِ الأوثانِ، وأذاهُم للمسلمينَ، ولم ينكرهُ، كانَ ذلكَ تقريرًا دالًا على جوازهِ، فإنِ استبشرَ بهِ فأوضحَ كما في هذهِ القصةِ فإنهُ استبشرَ بكلامِ مجزَّزٍ في

(8)

إثباتِ نسبِ أسامةَ [إلى زيدٍ]

(9)

، فدلَّ ذلكَ على تقريرِ كونِ القيافةِ طريقًا إلى معرفةِ الأنسابِ. [واستدل للعمل بها]

(10)

بما رواهُ

(11)

مالكٌ عنْ سليمانَ بن يسارٍ "أن عمرَ بنَ الخطاب كانَ يليطُ أولادَ الجاهليةِ بمنِ ادَّعاهُم في الإسلامِ، فأَتَى [ذات يوم رجلان إليه]

(12)

كلاهُما يدَّعي

(1)

في (أ): "العمل بالقيافة واعتبارها".

(2)

في (أ): "بهاشبه".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

زيادة من (أ).

(7)

في (ب): "كالذي".

(8)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6770)، ومسلم رقم (1459). وقد تقدم تخريجه كاملًا برقم (10/ 1336).

(9)

في (أ): "من أبيه".

(10)

زيادة من (أ).

(11)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 740 رقم 22)، وعبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 360، 361)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 263). وذكره ابن عبد البر في "الاستذكار"(22/ 181 رقم 1418).

(12)

في (أ): "رجلان إلى عمر رضي الله عنه ".

ص: 100

ولدَ امرأةٍ فدَعا قائِفًا فنظرَ إليهِ القائفُ فقالَ: لقدِ اشتركَا فيهِ، فضربَهُ عمرُ بالدرَّةِ، ثمَّ دَعَا المرأةَ فقالَ: أخبريني خبَرِك، فقالتْ: كانَ هذَا -[لأحدِ]

(1)

الرجُلينِ - يأتيني في إبلٍ [لأهلِها]

(2)

فلا يفارقُها حتَّى يظنَّ أنهُ قد استمرَّ بها حملٌ ثمَّ ينصرفُ عنْها فأهريقتْ عليهِ دمًا ثم خلفَ عليها [هذَا - يعني]

(3)

الآخرَ - فلا أدري منُ أيِّهِمَا هوَ، فكبَّر القائفُ، فقالَ عمرُ للغلامِ: فإلى أيِّهما شئتَ فانتسبْ"، فقضَى عمرُ بمحضَرٍ الصحابةِ بالقيافةِ منْ غيرِ إنكارٍ منْ أحدٍ منْهم، فكانَ كالإجماعِ تَقْوى بهِ أدلةُ القيافةِ.

قالُوا [أيضًا]

(4)

: وهوَ مَرْويٌّ عن ابن عباسٍ

(5)

وأنسِ

(6)

بن مالكٍ، ولا مخالفَ لهما منَ الصحابةِ رضي الله عنهما، ويدلُّ [عليهِ]

(7)

حديثُ اللِّعانِ، وقولُه صلى الله عليه وسلم:"إنْ جاءتْ بهِ على صفةِ كذَا وكذا فهوَ لفلانٍ، أو على صفةِ كذَا وكذَا فهوَ لفلانٍ"

(8)

، فجاءتْ بهِ على الوصفِ المكروهِ، فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمانُ لكانَ لي ولها شأن"

(9)

. فقوله: فهوَ لفلانٍ، إثباتٌ للنسبِ بالقيافةِ، وإنَّما منعت الأيمانُ عنْ إلحاقهِ بمنْ جاءَ علَى صفتِه.

وذهبتِ الهادوية والحنفيةُ إلى أنهُ لا يعملُ بالقيافةِ في إثباتِ النسبِ، والحكمُ في الولدِ المتنازَع فيهِ أنْ يكونَ للشريكَيْنِ أوِ المشتريَيْنِ أو الزَّوجيْنِ. وللهادويةِ في الزَّوجينِ تفاصيلُ معروفةٌ في الفروعِ. وتأوَّلُوا حديثَ مجزَّزٍ هذا وقالُوا: ليسَ منْ بابِ التقريرِ لأنَّ نسبَ أسامةَ كانَ معلُومًا إلى زيدٍ، وإنَّما كانَ يقدحُ الكفارُ في نسبِه لاختلافِ اللَّونِ بينَ الولدِ وأَبِيْهِ، والقيافةُ كانتْ منْ أحكامِ الجاهليةِ، وقدْ جاءَ الإسلامُ بإِبطَالِها ومَحْوِ آثارِها، فسكوتُه صلى الله عليه وسلم عن الإنكارِ على مجزَّزٍ ليسَ تقريرًا لفعلِه، واستبشارُه إنَّما هوَ لإلزامِ الخصْمِ الطاعنِ في نسبِ

(1)

في (أ): "يعني أحد".

(2)

في (أ): "لأهله".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

انظر: "الاستذكار"(22/ 181، 195).

(6)

أخرجه البيهقي في "السنن"(10/ 264، 265).

(7)

في (أ): "على العمل بها".

(8)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (4745).

(9)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (4747).

ص: 101

أسامةَ بما [يقولُه]

(1)

ويعتمدُه، فلا حجَّةَ في ذلكَ.

قلتُ: ولا يخْفَى أن هذا الجوابَ مبنيٌّ على أنهُ قدْ سبقَ صلى الله عليه وسلم إنكارٌ للقيافةِ، وإلحاقُ النسبِ بها، كتقَدُّمِ إنكارِه مضيِّ كافرٍ إلى كنيسةٍ، وهذا لا دليلَ عليهِ، بلِ الدليلُ قائمٌ على خلافهِ، وهو قولهُ صلى الله عليه وسلم في قصةِ اللِّعانِ بما سمعتَ، ثمَّ فعلُ الصحابةِ منْ بعدهِ.

وقولُهم: ثبوتِ النسبِ بهِ، منَ الأدلةِ على عدمِ إنكارِه صلى الله عليه وسلم، وأما قولُه:"الولدُ للفراشِ"

(2)

، فذلكَ فيما إذا عُلِمَ الفراشُ، فإنهُ معلومٌ أن الحكمَ بهِ مقدَّمٌ قطْعًا، وإنَّما القيافةُ عندَ عدمهِ، ثمَّ الأصحُّ عندَ القائلينَ بالإلحاقِ أنهُ يكفي قائفٌ واحدٌ، وقيلَ: لا بدَّ منِ اثنينِ.

وحديثُ البابِ دالُّ على الاكتفاءِ بالواحدِ.

* * *

(1)

في (أ): "يقويه".

(2)

أخرجه البخاري رقم (6750) و (6818)، ومسلم رقم (1458)، وأحمد (2/ 239، 280، 386، 409)، والنسائي (6/ 180)، وابن ماجه رقم (2006) كلهم عن أبي هريرة.

ص: 102

[الكتاب السابع عشر] كتاب العتق

العِتْقُ الحريةُ، يُقَالُ: عتقَ عِتْقًا بكسرِ العينِ وبفتحِها فهوَ عتيقٌ وعاتِقٌ. وفي (النجم الوهَّاجِ): العتقُ إسقاطُ المُلكِ منَ الآدميِّ تقرُّبًا للهِ، وهوَ مندوبٌ وواجبٌ في الكفاراتِ، وقدْ حثَّ الشارعُ عليهِ كما قالَ تعالَى:{فَكُّ رَقَبَةٍ}

(1)

، فُسِّرتْ بعتقِها من الرقِّ. والأحاديثُ في فضلهِ كثيرةٌ منْها:

‌الترغيب في العتق

1/ 1337 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرِئٍ "مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرًا مُسْلِمًا، إسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا منه مِنَ النَّارِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(عنْ أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرئٍ مسلمٍ أعتقَ أمرأ مسلِمًا، استنقذَ اللهُ بكلِّ عضْوٍ) بكسرِ العينِ وضمِّها (منة عُضْوًا منَ النارِ. متفقٌ عليهِ). وتمامُه في البخاريِّ: "حتَّى [فرجهَ بفرجِهِ]

(3)

فيهِ [دليل]

(4)

"أنهُ إذا كانَ المعتِقُ والمعتَقُ مسلمينِ أعتقَه اللهُ منَ النارِ"

(5)

. وفي قولهِ: "استنقذَه" ما يشعرُ بأنهُ بعدَ استحقاقهِ لها واشتراطِ [إسلامِهِ]

(6)

لأجلِ هذَا الأجرِ، وإلَّا فإنَّ عِتْقَ

(1)

سورة البلد: الآية 13.

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2517)، ومسلم في "صحيحه" رقم (24/ 1509).

(3)

في (أ): "فرحه بفرحه".

(4)

زيادة من (أ).

(5)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6715)، ومسلم في "صحيحه" رقم (22/ 1509).

(6)

في (أ): "الإسلام".

ص: 103

الكافرِ يصحُّ، وقولُهم: لا قُرْبةَ لكافرٍ، ليسَ المرادُ أنهُ لا ينفذُ منهُ ما منْ شأنهِ أنْ يتقرَّبَ بهِ كالعتقِ والهبةِ والصدقةِ وغيرِ ذلكَ، إنَّما المرادُ أنهُ لا يثابُ عليها، وإلَّا فهيَ نافذةٌ منهُ لكنْ لا نجاةَ لهُ بسببهِ منَ النارِ. وفي تقييدِ الرقبةِ المعتقة بالإسلامِ أيضًا دليلٌ على أن هذهِ الفضيلةَ لا تُنَالُ إلَّا بعتقِ المسلمةِ، وإنْ كانَ في عتقِ الكافرةِ فضلٌ، لكنْ لا يبلغُ ما وعدَ بهِ هُنا من الأجرِ. ووقعَ في روايةِ مسلمٍ

(1)

: "إرْبٌ" عوضَ عضوٍ، وهوَ بكسرِ الهمزةِ وإسكانِ الراءِ فموحدةٍ، العضوُ. وفيهِ أن عتقَ كاملِ الأعضاءِ أفضلُ منْ عتقِ ناقصِها، فلا يكونُ خَصْيًا ولا فاقدَ غيرِه منَ الأعضاءِ، والأَغْلى ثمنًا أفضلُ كما يأتي. وعِتقُ الذكرِ أفضلُ منْ عتقِ الأنثى كما يدلُّ لهُ:

2/ 1338 - وَللترْمِذِيِّ

(2)

، وَصَحّحَهُ، عَنْ أُمَامَةَ رضي الله عنه:"وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَينِ مُسْلِمَتَينِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النارِ". [صحيح]

قولُه: (وللترمذِيِّ وصحَّحه عنْ أبي أمامةُ: وأيُّما امرئٍ مسلمٍ أعتقَ امرأتينِ مُسلمتينِ كانتا فكاكَه منَ النارِ)، فعتقُ المرأةِ أجرْهُ على النصفِ منْ عتْقِ الذَّكرِ، فالرجلُ إذا أعتقَ امرأةً كانتْ فكاكَ نصفِه منَ النارِ، والمرأةُ إذا أعتقتِ المرأة كانتْ فكاكَها منَ النارِ كما دلَّ لهُ مفهومُ هذا ومنطوقُ:

3/ 1339 - وَلأَبي دَاوُدَ

(3)

مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ رضي الله عنه: "وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النارِ". [صحيح]

(ولأبي داودَ منْ حديثِ كعب بن مُرَّةَ: وأيُّما امرأةٍ مسلمةٍ أعتقتِ امرأةً مسلمةً كانتْ فِكاكَها منَ النارِ)، وبهذا والذي قبلَه استدلَّ منْ قالَ عِتقُ الذكَرِ أفضلُ. ولما في الذَّكَرِ منَ المعاني العامةِ والمنفعةِ التي لا توجدُ في الإناثِ منَ الشهادةِ

(1)

في "صحيحه" رقم (21/ 1509).

(2)

في "السنن" رقم (1547). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وهو حديث صحيح.

(3)

في "السنن" رقم (3967).

قلت: وأخرجه ابن ماجه في "السنن" رقم (2522).

وهو حديث صحيح.

ص: 104

والجهادِ والقضاءِ وغيرِ ذلكَ مما يختصُّ [بالرجال]

(1)

، إما شرْعًا أو عُرفًا، ولأنَّ في الإمَاءِ مَنْ تضيعُ [بالعتقِ]

(2)

ولا يُرْغَبُ فيها بخلافِ العبدِ. وقالَ آخرونَ: عِتْقُ الإناثِ أفضلُ لأنهُ يكونُ ولدُها حُرًّا، سواءٌ تزوَّجَها حرٌّ أو عبدٌ. وقولُه في روايةٍ:"حتى فرجَهُ بفرجِهِ" استشكَلَهُ ابنُ العربي

(3)

قال: لأنَّ المعصية التي [تتعلقُ]

(4)

بالفرجِ هي الزّنَى، والزّنَى كبيرةٌ لا تكفَّرُ إلَّا بالتوبةِ إلَّا أنْ يقالَ إنَّ العتقَ يُرَجَّحُ عندَ الموازنةِ بحيثُ تكونُ حسناتُ العتقِ راجحةً توازي سيئةَ الزّنَى، معَ أنهُ لا اختصاصَ لهذَا بالزّنَى، فإنَّ اليدَ يكونُ بها القتلُ، والرّجلُ يكونُ بها الفرارُ منَ الزحفِ وغيرُ ذلكَ.

فائدة: في "النجمِ الوهاجِ" أنه أعتقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم

(5)

ثلاثًا وستينَ نسمةً عددَ سنيِّ عمرِه، وعدَّ أسماءَهم قالَ: وأَعْتَقَتْ عائشةُ سبعًا وستينَ، وعاشتْ كذلكَ، وأعتقَ أبو بكرٍ كثيرًا، وأعتقَ العباسُ سبعينَ عبدًا. رواهُ الحاكمُ

(6)

، وأعتقَ عثمانُ وهوَ محاصَرٌ عشرينَ، وأعتقَ حكيمُ بنُ حزامٍ مائةً مطوَّقينَ بالفضةِ، وأعتقَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ ألفًا، واعتمرَ ألفَ عُمرةٍ؟ وحجَّ ستينَ حَجَّةً، وحبسَ ألفَ فرسٍ في سبيلِ اللهِ، وأعتقَ ذو الكُلاعِ الحميريُّ في يومٍ واحدٍ ثمانيةَ آلافِ عبدٍ، وأعتقَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ ثلاثينَ ألفِ نسمةٍ. انتهى.

‌عتق الأغلى أفضل من عتق الأدنى

4/ 1340 - وَعَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ بِاللهِ، وَجِهَادٌ في سَبِيلِهِ"، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَال: "أَغْلاهُ ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(7)

. [صحيح]

(1)

في (أ): "بالرجل".

(2)

في (ب): "بإعتاقها".

(3)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(5/ 148).

(4)

في (أ): "تعلق".

(5)

فلينظر من أخرجه؟!.

(6)

في "المستدرك"(3/ 321) من حديث عليٌّ بن عبد الله بن عباس، وعلي لم يدرك جده العباس.

(7)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2518)، ومسلم في "صحيحه" رقم (136/ 84).

ص: 105

(وعنْ أبي ذرٍّ رضي الله عنه قالَ: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أيُّ العملِ أفضلُ؟ قالَ: إيمانٌ باللهِ، وجهادٌ في سبيلهِ. قلتُ: فأيُّ الرِّقابِ أفضل؟ قالَ: أغلاهَا)، رُوِيَ بالعينِ المهملةِ والغينِ المعجمةِ، (ثمنًا، وأنفسُها عندَ أهلِها. متفقٌ عليهِ). دلَّ على أن الجهادَ أفْضَلُ أعمالِ البِرِّ بعد الإيمان، وقدْ تقدَّمَ في كتابِ الصَّلاةِ أنّ الصّلاةَ في أولِ وقتِها أفضلُ الأعمالِ على الإطلاقِ. وتقدَّم الجمعُ بينَ الأحاديثِ هنالكَ. ودلَّ على أن الأغْلَى ثمنًا أفضلُ منَ الأَدنَى قيمةً. قالَ النوويُّ

(1)

: محلُّه واللهُ أعلمُ فيمنْ أرادَ أنْ يعتقَ رقبةً واحدةً، أما لو كانَ معَ شخصٍ ألفُ درهمٍ مثلًا فأرادَ أنْ يشتريَ بها رقابًا يعتقُها فوجدَ رقبةً نفيسةً ورقبتينِ مفضولَتينِ قالَ: فثنتانِ أفضلُ بخلافِ الأُضحيةِ، فإنَّ الواحدةَ السمينةَ أفضلُ، لأنَّ المطلوبَ في العِتْق فكُّ الرقبةِ، وفي الأُضحيةِ طيبُ اللحمِ، انتهَى. والأَوْلى أن هذا [لا يُوخَذُ قاعدةً]

(2)

كليةً بلْ يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ، فإنهُ إذا كانَ شخصٌ بمحلِّ عظيمِ منَ العلمِ والعملِ، وانتفاعِ المسلمينَ بهِ فعتقُه أفضلُ منْ عتقِ جماعةٍ ليسَ فيهمْ هذهِ [السماتُ]

(3)

، فيكونُ الضابطُ اعتبارَ الأكثرِ نَفْعًا. وقولُه:"وأنفسُها عندَ أهلِها"، أي ما كانَ [اغتباطُهم]

(4)

بها أشدَّ، وهوَ الموافقُ لقولِه تعالَى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}

(5)

.

‌من أعتق حظه من عبد عتق عليه كل العبد وضمن لشريكه نصيبه

5/ 1341 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلِ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(6)

. [صحيح]

(1)

في شرحه لمسلم (2/ 79).

(2)

في (أ): "ليس بقاعدة".

(3)

في (أ): "الخصال".

(4)

في (أ): "محبتهم لها".

(5)

سورة آل عمران: الآية 92.

(6)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2522)، ومسلم في "صحيحه" رقم (1/ 1501) قلت: وأخرجه أحمد (2/ 112)، وأبو داود رقم (3940)، والترمذي رقم (1346)، والنسائي (7/ 319)، وابن ماجه رقم (2528)، وابن الجارود (970)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 106)، والدارقطني (4/ 123 رقم 756)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 274).

ص: 106

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أعتقَ شِرْكًا لهُ في عبدٍ فكانَ لهُ مالٌ يبلغُ ثمنَ العبدِ قُوِّمَ قيمةَ عدلٍ) بفتح العينِ، أي: لا زيادةٌ فيهِ ولا نقصٌ، (فأعْطَى شركاءَه حِصَصَهُم، وعتقَ عليهِ العيدُ، وإلَّا) يكنْ لهُ مالٌ يبلغُ ثمنَ العبدِ (فقدْ عتق) بفتحِ العينِ المهملةِ (منهُ ما عتقَ) بفتحِ العينِ، ويجوزُ ضمُّها (متفقٌ عليه). دلَّ الحديثُ على أن مَنْ لهُ حِصةٌ في عبدٍ إذا أعتقَ حِصَّته فيهِ وكانَ موسِرًا، لزمَهُ تسليمُ حصةِ [شريكهِ]

(1)

بعدَ [تقويمِ حصةِ الشريكِ تقويمُ مثلهِ]

(2)

، وعُتِقَ العبدُ جميعهُ. وقد أجمعَ العلماءُ أن نصيبَ المعتِقِ يعتقُ بنفسِ [الإعتاقِ]

(3)

.

ودلَّ [الحديث]

(4)

على أنهُ لا يعتقُ نصيبُ شريكهِ إلَّا معَ يسارِ المعتِقِ لا معَ إعسارهِ، لقولهِ في الحديث:"وإلَّا"، أي: وإن لا يكون لهُ مالٌ "فقدْ عتقَ منهُ ما عَتَقَ"، وهي حِصَّتُه. وظاهرُ الحديث تبعيضُ العتقِ، إلَّا أنهُ وقعَ في هذَا اللفظ نزاع بين أئمة العلم، فقال ابن وضَّاح: ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رواه أيوبُ عنْ نافعٍ، قالَ: قالَ نافعٌ: "وإلا فقدْ عتقَ منهُ ما عتقَ"، ففصلَه الراوي من الحديث [ولم يجعله من كلامِ النبي صلى الله عليه وسلم]

(5)

، وجعلَه [منْ قولِ نافعٍ]

(6)

، قالَ أيوبُ مرةً: لا أدري هوَ منَ الحديثِ أوْ هوَ شيءٌ قالَه نافعٌ. وقالَ غيرُه: قدْ رواهُ مالكٌ

(7)

وعبيدُ اللهِ العمريُّ فوصلَاهُ بكلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، [وجَعلاهُ منهُ]

(8)

. قالَ [القاضي]

(9)

عياضٌ

(10)

: وما قالَه مالكٌ وعبيدُ اللهِ العمريُّ أَوْلَى وقدْ جوَّداه، وهما في نافعٍ أثبتُ منْ أيوبَ [عندَ أهلِ هذا الشأنِ]

(11)

، كيفَ وقدْ شكَّ أيوبُ فيهِ كما ذكرْنا. وقدْ رجَّحَ الأئمةُ روايةَ مَنْ أثبتَ هذهِ الزيادةَ منْ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قالَ الشافعيُّ: لا أحسبُ عالمًا في الحديثِ [يتشكَّكُ]

(12)

في أن مالكًا أحفظُ لحديثِ نافعٍ منْ أيوبَ، لأنهُ كانَ ألزمَ به، حتَّى لو تساوَيا وشكَّ أحدُهما في

(1)

في (أ): "الشريك".

(2)

في (أ): "تقويمها تقويم عدل".

(3)

في (أ): "العتق".

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

من "الموطأ"(2/ 772 رقم 1).

(8)

زيادة من (ب)

(9)

زيادة من (ب).

(10)

ذكره النووي في شرحه لمسلم (10/ 139).

(11)

في (أ): "عن أئمة الحديث".

(12)

في (أ): "يشك".

ص: 107

شيءٍ ولم يشكَّ فيهِ صاحبُه كانَ الحجةُ معَ مَنْ لم يشكَّ. هذَا وللعلماءِ في المسألةِ أقوالٌ: أقواها ما وافقَه هذا الحديثُ وهوَ أنه لا يُعْتَقُ نصيبُ الشريكِ إلَّا بدفعِ القيمةِ، وهوَ المشهورُ [منْ مذهبِ]

(1)

مالكٍ، وبهِ قالَ أهلُ الظاهرِ، وهوَ قولٌ للشافعيِّ. وقالتِ الهادويةُ وآخرونَ: إنهُ يعتقُ العبدُ جميعهُ، وإنْ لم يكنْ للمعتقِ مالٌ فإنهُ يستسعي العبدَ في حصةِ الشريكِ مستدلّينَ بقوله:

6/ 1342 - ولَهُمَا

(2)

عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيهِ وَاسْتُسْعِيَ غَيرَ مَشْقُوقٍ عَلَيهِ"، وَقِيلَ: إِنَّ السِّعَايَةَ مُدْرَجَةٌ في الْخَبَرِ. [صحيح]

(ولهَمُا) أي: الشيخينِ (عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه: وإلَّا قُوِّمَ - العبدُ - عليهِ واستُسعيَ غيرَ مشقوقٍ عليهِ، [وقد]

(3)

قيلَ: إنَّ السعايةَ مدرجةٌ في الخبرِ). فإنهُ ظاهرٌ أنهُ إذا لم يكنْ للشريكِ مالٌ قُوِّمَ العبدَ واستُسعيَ في [قيمةِ]

(4)

حصةِ [الشريكِ]

(5)

، وأجيبَ بأنَّ ذِكرَ السعايةِ ليستْ منْ كلامِهِ صلى الله عليه وسلم بلْ مُدْرَجَةٌ منْ بعضِ الرواةِ في الخبرِ، كما أشارَ إليهِ المصنفُ. قالَ ابنُ العربيِّ

(6)

: واتفقُوا على أن ذكرَ الاستسعاء ليسَ منْ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، [وأنهُ]

(7)

منْ قولِ قتادةَ. قالَ النسائيُّ

(8)

: بلغني أن همَّامًا رواهُ فجعلَ هذا الكلامَ أعني الاستسعاء منْ قولِ قتادةَ. وكذا قالَ الإسماعيليُّ

(9)

: إنَّما هوَ منْ قولِ قتادةَ مدرَجٌ علَى ما روى همَّام، وجزم ابن المنذر والخطابي بأنه من فتيا قتادة. وقد ورد جمع ما ذكر من إدراجِ السعايةِ باتفاقِ الشيخين على رفْعهِ، فإنَّهما في أعلَى درجاتِ التصحيحِ. وقدْ رَوَى السعايةَ في الحديثِ سعيدُ بنُ أبي عروبةَ عنْ قتادةَ وهوَ أعرفُ بحديثِ قتادةَ لكثرةِ ملازمتهِ له، [ولكثرةِ]

(10)

أخْذِه عنهُ منْ همَّامٍ وغيرِه وهشام وشعبة، وإن كانا أحفظ من

(1)

في (أ): "عن".

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2527)، ومسلم في "صحيحه" رقم (3/ 1503).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في (أ): "قدر".

(5)

في (أ): "شريكه".

(6)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(5/ 157).

(7)

في (أ): "وإنما هو".

(8)

انظر: "سنن النسائي الكبرى"(3/ 180، 187) لترى ألفاظ الناقلين لخبر ابن عمر، وخبر أبي هريرة.

(9)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(5/ 157).

(10)

في (أ): "وكثرة".

ص: 108

سعيد، فإنهُ كانَ أكثرَ ملازمةً لقتادةَ منهما وما رَوَياهُ لا ينافي روايةَ سعيدٍ، لأنهَّمَا اقتصرا في روايةِ الحديثِ على بعضهِ، وأما إعلالُ روايةِ سعيدِ بن أبي عروبةَ بأنهُ اختلطَ فمردودٌ لأنَّ روايتَه في الصحيحينِ

(1)

قبلَ الاختلاطِ، فإنهُ فيهما منْ روايةِ يزيدَ بن زُرَيْعٍ وروايتهُ عنْ سعيدٍ قبلَ اختلاطِه ثمَّ رواهُ البخاريُّ

(2)

منْ روايةِ جريرِ بن حازمٍ لمتابعتهِ لهُ لينفي عنهُ التفرُّدَ، ثمَّ أشارَ إلى أن غيرَهُما تابَعَهُما ثمَّ قالَ: اختصرَه شعبةُ كأنهُ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ تقديرهُ: إنَّ شعبةَ أحفظُ الناسِ لحديثِ قتادةَ فكيفَ لم يذكرِ الاستسعاءَ؟ فأجابَ بأنَّ هذَا لا يؤثرُ فيهِ ضَعفًا لأنهُ أوردَه مختصَرًا، وغيرُه ساقَه بتمامهِ والعددُ الكثيرُ أَوْلَى بالحفظ منَ [الواحدِ]

(3)

.

قلتُ: وبهذَا تعرفُ المجازفةَ في قولِ ابن

(4)

العربيِّ، اتفقُوا على أن ذِكْرَ الاستسعاءِ ليسَ من [قولٍ

(5)

النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وبعدَ تقرُّر هذا لكَ فقدْ عرفتَ تعارضَ كلامِ هؤلاءِ الأئمةِ الحفاظِ في هذهِ الزيادةِ، ولا كلامَ أنَّها قدْ رُوَيتْ مرفوعةً والأصلُ عدمُ الإدراجِ حتَّى يقومَ عليهِ دليلٌ ناهضٌ. وقدْ تقاومتِ الأدلةُ هنا ولكنَّه عضدَ القولَ برفعِ زيادةِ السِّعايةِ إليه صلى الله عليه وسلم أن الأصلَ عدمُ الإدراجِ، ومعَ ثبوتِ رفْعِها فقدْ عارضتْ روايةَ:"وإلَّا فقدْ عتقَ منه ما عتقَ". وقد جُمِعَ بينَهما بوجهينِ، الأولُ: أن معنَى قولهِ: وإلا فقدْ عتقَ منهُ ما عتقَ، أي بإعتاقِ مالكِ الحصةِ حصتَه وحصةُ شريكه يعتق بالسعايةِ، فيعتقُ العبدُ بعدَ تسليمِ ما عليهِ، ويكونُ كالمكاتبِ وهذا هوَ الذي جزمَ بهِ البخاريُّ، ويظهرُ أن ذلكَ يكونُ باختيارِ العبدِ لقولهِ غيرَ مشقوقٍ عليهِ، فلو كانَ ذلكَ على جهةِ [اللزوم]

(6)

بأنْ يكلَّفَ العبدُ الاكتسابَ والطلبَ حتَّى يحصلَ ذلكَ لحصلَ لهُ غايةُ المشقةِ، وهوَ لا يلزمُ في الكتابةِ ذلكَ عندَ الجمهورِ لأنَّها غيرُ واجبةٍ، فهذَا مثلُها، وإلى هذا [الجمع]

(7)

ذهبَ البيهقيُّ

(8)

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2527).

ومسلم في "صحيحه" رقم (4/ 1503).

(2)

في "صحيحه" رقم (2526).

(3)

في (أ): "واحد".

(4)

في "عارضة الأحوذي"(6/ 97).

(5)

في (أ): "كلام".

(6)

في (أ): "الإكراه له".

(7)

زيادة من (ب).

(8)

في "السنن الكبرى"(10/ 282، 284).

ص: 109

[وقالَ: لا تبقَى ببنَ الحديثينِ معارضةٌ أصْلًا]

(1)

، وهوَ كما قالَ: إلَّا أنهُ يلزمُ منهُ أنهُ يبقَى الرقّ في حصَّةِ الشريكِ إذا لم يخترِ العبدُ السِّعايةَ. ويحملُ حديثُ أبي المليحِ

(2)

عنْ أبيهِ أن رجلًا أعتقَ شقصًا له في غلامٍ فذكرَ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "ليسَ لله شريك". وفي رواية: فأجاز

(3)

عتقه. وأخرجه النسائي

(4)

بإسناد قوي. ومثله ما أخرج

(5)

أحمد بإسنادٍ حسنِ منْ حديثِ سَمُرَةَ أن رجلًا أعتقَ شقصًا في مملوكِ فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "هوَ كلُّه فليسَ للهِ شريكٌ"، [فيُحمل ذلك]

(6)

على الموسِرِ فتندفعُ المعارضةُ.

وأما ما أخرجه أبو داودَ

(7)

منْ طريقِ ملقامَ عنْ أبيهِ: "أن رجلًا أعتقَ [نصيبَه في مملوكِ]

(8)

فلم يضمنْه النبيُّ صلى الله عليه وسلم " وإسنادُه حسنٌ، [فيُحمل]

(9)

في حقِّ المُعسِرِ. ويدلُّ لهُ ما أخرجَهُ النسائيُّ

(10)

عن ابن عمرَ رضي الله عنهما بلفظِ: "منْ أعتقَ عبْدًا ولهُ فيهِ شركاءُ، ولهُ وفاءٌ فهوَ حرٌّ، ويضمنُ نصيبَ شركائِه بقيمتهِ لما أساءَ منْ مشاركتِهم، وليسَ على العبدِ شيءٌ" فقالَ: ولهُ وفاءٌ، [فإنه دال على ما ذكره من وجه الجمع باعتبار الإيسار والإعسار في العتق وعدمه]

(11)

، والثاني منْ وجْهَي الجمعِ: أن المرادَ بالاستسعاءِ أن العبدَ يستمرُّ في خدمةِ سيِّدهِ الذي لم [يعتقه ويبقى رقيقًا]

(12)

بقدرِ حصَّته. ومعنَى غيرُ مشقوقٍ عليهِ: أنهُ لا [يكلِّفهُ]

(13)

سيدُه منَ الخدمةِ فوقَ طاقته، ولا فوقَ حصَّتهِ منَ الرقِّ،

(1)

في (أ): في الجمع بين الحديثين وقال تبقى بينهما معارضة.

(2)

و

(3)

أخرجه أبو داود في "السنن رقم (3933).

وهو حديث صحيح. انظر: "الإرواء"(5/ 358، 359).

(4)

في "السنن الكبرى"(3/ 186 رقم 4970/ 1) و (4971/ 2) و (3/ 4972).

(5)

في "مسنده"(5/ 74، 75).

قلت: وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 273).

(6)

زيادة من (أ).

(7)

في "السنن" رقم (3948).

(8)

في (أ): "عبدًا وله فيه".

(9)

في (ب): "فهو".

(10)

في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(6/ 99 رقم 7675).

قلت: وأخرجه البيهقى في "السنن الكبرى"(10/ 276).

(11)

زيادة من (أ).

(12)

في (ب): "يعتق".

(13)

في (ب): "يكلف".

ص: 110

وقيل: أنهُ [يتعدَّى]

(1)

هذا الجمعُ ما أخرجَهُ الطبرانيُّ

(2)

والبيهقيُّ

(3)

منْ حديثِ رجلٍ منْ بني عذرةَ: "أن رجلًا منْهم أعتقَ مملوكًا لهُ عندَ موتهِ، وليسَ لهُ مالٌ غيرهُ، فأعتقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُلُثَهُ وأمرهُ أنْ يسعَى في الثلُثينِ".

قلت: قدْ يقولُ منِ اختارَ هذا [الوجْهَ

(4)

منَ] الجمعِ أن المرادَ منْ أمْرهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يسعَى في الثلثينِ يسعَى علَى مواليهِ بقدرِ ثلثي رقبتهِ منَ الخدمةِ، لأنهُ الذي بقيَ رقًّا لهُم. وإيضاحُ الجمعِ بينَ الأحاديثِ أن قولَه صلى الله عليه وسلم:"لا شريكَ للهِ" فيما إذا كانَ مالكُ الشقصِ غنيًا فهوَ في حُكْمِ المالكينِ فيعتقُ العبدَ كلَّه، ويسلِّمُ قيمةَ [حصة شركائه]

(5)

، ويحملُ حديثُ السعايةِ على ما إذا كانَ العبدُ قادِرًا عليها كما يرشدُ إليه قولُه صلى الله عليه وسلم: غيرَ مشقوقٍ عليه"، ويحمل حديثُ: "وإلَّا فقدْ عتقَ منهُ ما عتقَ" على ما إذا كانَ المعتِقُ فقيرًا، والعبدُ لا قدرةَ لهُ على السِّعاية، واعلمْ أن هذا كلَّه فيما إذا كانَ المعتِقُ يملكُ بعضَ العبدِ، وأما إذا كانَ يملكُه كلَّه فأعتقَ بعضَه فجمهورُ العلماءِ يقولونَ: يُعتقُ كلُّه. وقالَ أبو حنيفةَ [والظاهرية]

(6)

: يعتقُ منهُ ذلكَ القدرِ الذي عتقَ، ويسعَى في الباقي، وهوَ قولُ طاوسٍ وحمادٍ. وحجةُ الأوَّليْنَ حديثُ أبي المليحِ وغيرُه، والقياس على عتقِ الشقصِ؛ فإنهُ إذا سَرَى إلى ملكِ الشريكِ فبالأَوْلَى إذا لم يكن شريكٌ. وحجةُ الآخرينَ أن السببَ في حقِّ الشريكِ هوَ ما [يدخله]

(7)

علَى شريكِه [من الضَّرَر]

(8)

، فإذا كانَ العبدُ لهُ جميعهُ لم يكنْ ضررٌ فلا قياسَ، ولا يخْفَى أنهُ رأي في مقابلةِ النصِّ.

(1)

في (ب): "يبعد".

(2)

في "الأوسط"(2/ 324 رقم 2111).

(3)

في "السنن الكبرى"(4/ 178).

قلت: وأخرجه مسلم (3/ 78، 79، 5/ 97) ولم يسق لفظه. وأبو داود رقم (3957)، وأحمد (3/ 305، 369)، والنسائي (1/ 353 و 2/ 230) كلهم عن جابر.

وهو حديث صحيح.

انظر: "الإرواء (3/ 315 رقم 833).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (ب): "ما هو لشركائه".

(6)

في (ب): "وأهل الظاهر".

(7)

في (ب): "يدخل".

(8)

في (ب): "بالضرر".

ص: 111

‌من ملك ذار رحم محرم عتق عليه

7/ 1343 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَجْزي) بفتحِ حرفِ المضارَعةِ أي لا يكافئُ (ولدٌ والدَه إلَّا أنْ يجدَه مملوكًا فيشتريَه، فيعتقَه. رواهُ مسلمٌ). فيهِ دليلٌ على أنهُ لا يعتقُ عليهِ بمجردِ الشراءِ، وأنهُ لا بدَّ منَ الإعتاقِ بعدَه، وإلى هذا ذهبَ الظاهريةُ. وذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ يعتقُ بنفسِ الشراءِ، وتأوَّلُوا قولُه فيعتقَه بأنهُ لما كانَ شراؤُه تسببَ [عنهُ العتقُ نُسِبُ]

(2)

إليهِ العتقُ مجازًا، ولا يَخْفَى أن الأصلَ الحقيقةُ إلَّا أنهُ صَرَفَهُ عن الحقيقةِ حديثُ سَمُرَةَ الآتي، وفيهِ تعليقُ الحريةِ بنفسِ الملكِ كما يأتي. وإنَّما كانَ عتقُه جزاءً لأبيهِ لأنَّ العتقَ أفضلُ ما مَنَّ بهِ أحدٌ على أحدٍ لتخليصهِ بذلكَ منَ الرقِّ فيكملُ لهُ أحوالُ الأحرارِ منَ الولايةِ والقضاءِ والشهادةِ بالإجماعِ. والحديثُ نصٌّ في عتقِ الوالدِ، ومثلُه قولُ منْ عدا داودَ في حقِّ الأمِّ [في قول بالقياس]

(3)

.

8/ 1344 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمِ مَحْرَمِ فَهُوَ حُرٌّ". رَوَاهُ أحْمَدُ

(4)

، وَالأَرْبَعَةُ

(5)

، وَرَجّحَ جَمعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. [صحيح]

(1)

في "صحيحه" رقم (25/ 1510).

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 230، 376، 445)، وأبو داود رقم (5137): والبخاري في "الأدب المفرد"(10)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 109)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 289) من طرق عن سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن أبي شيبة (8/ 539) ومن طريقه مسلم رقم (1510)، وابن ماجه رقم (3659)، والبغوي في "شرح السنة"(2425)، والترمذي رقم (1906).

والبيهقي في "السنن"(10/ 289) من طريق عبد الرحيم بن منيب. ثلاثتهم عن جرير بن عبد الحميد عن سهيل بن أبي صالح به.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في "مسنده"(5/ 15 و 20).

(5)

أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (3949). =

ص: 112

(وعنْ سمرةَ بن جندبٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ ملكَ ذا رحمٍ محرَّمٍ فهوَ حرٌّ). رواهُ أحمدُ والأربعةُ، ورجحَ [جماعة وقفه]

(1)

. وأخرجَهُ أبو داودَ

(2)

مرفُوعًا منْ روايةِ حمادٍ. وموقوفًا منْ روايةٍ

(3)

شعبةَ وقالَ: شعبةُ أحفظُ منْ حمادٍ، فالوقفُ حينئذٍ أرجحُ. وأخرجهُ

(4)

أيضًا منْ طريقِ [سعيد]

(5)

عنْ قتادةَ أن عمرَ [بنَ الخطابِ]

(6)

"قالَ: مَنْ ملكَ - الحديثَ" فوقَفَهُ على عمرَ. قالَ أبو داودَ

(7)

: لم يحدِّثْ بهذَا الحديثِ إلَّا حمادُ وقدْ شكَّ فيهِ. قالَ ابنُ المديني

(8)

: هو حديثٌ منكَرٌ. وقالَ البخاريُّ

(9)

: لا يصحُّ. ورواهُ ابنُ ماجهْ

(10)

، والنسائيُّ

(11)

، والترمذيُّ

(12)

والحاكمُ

(13)

منْ طريقِ ضمرةَ عن الثوريِّ، عنْ عبدِ اللهِ بن دينارٍ، عن ابن عمرَ. قالَ النسائيُّ

(14)

: حديثٌ منكرٌ. وقالَ الترمذيُّ

(15)

: لم يتابعْ

= والترمذي في "السنن" رقم (1365).

وابن ماجه في "السنن" رقم (2524).

والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(4/ 63 رقم 4580) وهو حديث صحيح.

(1)

في (ب): "جمع من الحفاظ أنه موقوف".

(2)

في "السنن" رقم (3949)، وهو حديث صحيح.

(3)

في "السنن" رقم (3948)، وإسناده ضعيف.

(4)

في "السنن" رقم (3950) وهو موقوف لأن قتادة لم يسمع من عمر فإن مولده بعد وفاة عمر بنيف وثلاثين سنة.

(5)

في (أ) و (ب): "شعبة" والصواب ما أثبتناه من السنن.

(6)

زيادة من (ب).

(7)

في "السنن"(4/ 260).

قلت: وأخرجه الطيالسي في "منحة المعبود"(1/ 245 رقم 1205)، وابن الجارود رقم (973)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 109)، والبيهقي في "السنن"(10/ 289)، و"الحاكم"(2/ 214).

وهو حديث صحيح لغيره. وصححه الألباني في "الإرواء"(6/ 169 رقم 1746).

(8)

نقله عنه الزيلعي في "نصب الراية"(3/ 279).

(9)

نقله عن الزيلعي في "نصب الراية"(3/ 279).

(10)

في "السنن" رقم (2525).

(11)

عزاه إليه المزي في "الأطراف"(5/ 451).

(12)

تعليقًا (3/ 647).

(13)

في "المستدرك"(2/ 214). قلت: ضمرة بن ربيعة ثقه ثبت.

(14)

نقله عنه المزي في "الأطراف"(5/ 451).

(15)

في "السنن"(3/ 647).

ص: 113

ضمرةُ عليهِ وهوَ خطأٌ. قالَ الطبرانيُّ

(1)

: وهم في هذا الإسنادِ، والمحفوظُ بهذَا الإسنادِ:"نَهَى عنْ بيعِ الولاءِ وعنْ هِبَتهِ". وردَّ الحاكمُ

(2)

هذا وقالَ: إنهُ رُوِيَ منْ طريقِ ضمرةَ الحديثين بالإسنادِ الواحدِ، وصحَّحهُ ابنُ حزمٍ

(3)

، وعبدُ الحقِّ

(4)

، وابنُ القطانِ

(5)

، وقالُوا: ضمرةُ بنُ ربيعةَ لا يضرُّ تفرُّدهُ لأنهُ ثقةٌ لم يكن في الشامِ رجلٌ يشبههُ. قلتُ: فقدْ رفعهُ ثقةٌ فإرسالُ غيره لهُ لا يضرُّ كما كَرَّرْنَاهُ.

والحديثُ دليلٌ على أن مَنْ ملكَ منْ بينَهُ وبينَه رحامةٌ محرمةٌ للنكاحِ فإنهُ يعتقُ عليهِ، وذلكَ، كالآباءِ [وإنْ عَلَوْا]

(6)

، والأولادِ [وإنْ سَفُلُوا]

(7)

، والإخوةُ وأولادُهم، [والأخوالُ والأعمامُ لا أولادهم]

(8)

، وإلى هذا ذهب الهادويةُ والحنفيةُ مستدلينَ بالحديثِ. وذهبَ الشافعيُّ إلى أنهُ لا يعتقُ إلَّا الآباءُ والأبناءُ للنصِّ في الحديثِ الأولِ عن الآباءِ، وقياسًا للأبناءِ عليهم، [وبناءً]

(9)

منهُ على عدمِ صحةِ هذا الحديثِ، وزادَ مالكٌ الإخوةُ والأخواتُ قياسًا على الآباءِ، وذهبَ داودُ إلى أنهُ لا يعتقُ أحدٌ بهذَا السببِ لظاهرِ حدب أبي هريرةَ الماضي، فيشْتريَه فيعتقه، فلا يعتقُ أحدٌ إلَّا بالإعتاقِ عنده. وهذَا الحديثُ كما عرفتَ قدْ صححهُ أئمةٌ، فالعملُ بهِ متعيّنٌ، وظاهرُه أن مجرَّدَ الملكِ سببٌ للعتقِ فيكونُ قرينةً لحملِ "فيعتقَه" على المعنَى المجازي كما قالَه الجمهورُ، فلا يكونُ حجةٌ لداودَ.

‌حكم التبرع في المرض حكم الوصية

9/ 1345 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمَالِيكَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُم، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَرَّأَهُمْ أثْلَاثًا، ثُمّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(10)

. [صحيح]

(1)

لم أعثر على كلام الطبراني الآن

(2)

في "المستدرك"(2/ 214).

(3)

في كتابه "المحلَّى بالآثار"(8/ 195).

(4)

و

(5)

نقله عنها الزيلعي في "نصب الراية"(3/ 279).

والخلاصة حديث ضمرة صحيح، صححه الألباني في "الإرواء"(6/ 170، 171).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

في (أ): "هذا".

(10)

في "صحيحه" رقم (56/ 1668). =

ص: 114

(وعنْ عمرانَ بن حصينٍ رضي الله عنه أن رجلًا أعتقَ ستةَ مماليكَ عندَ موتهِ لم يكنْ لهُ مالٌ غيرَهم، فدعا بهمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فجزَّأَهم أثلاثًا، ثمَّ أقرعَ بينَهم، فأعتقَ اثنينِ، وأرقَّ أربعةً، وقالَ له قولًا شديدًا)، وهوَ ما رواهُ النسائيُّ

(1)

، وأبو داودَ

(2)

أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لوْ شهدتَه قبلَ أنْ يدفَنَ لم يدفنْ في مقابرِ المسلمينَ"(رواهُ مسلمٌ).

دلَّ الحديثُ على أن حكمَ التبرعِ في المرضِ حكمُ الوصيةِ، ينفذُ منَ الثلثِ، وإليهِ ذهبَ مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ. وإنَّما اختلفُوا هل تعتبرُ القيمةُ أوِ العددُ منْ غيرِ تقويمٍ، فقالَ مالكٌ: يعتبرُ التقويمُ، فإذا كانُوا ستَّةَ أعْبُدٍ أعتقَ الثلثَ بالقيمةِ، سواءً كانَ الحاصلُ منْ ذلكَ اثنينِ منْهم أوْ أقلَّ أوْ أكثرَ. وذهبَ البعضُ إلى أن المعتبرَ العددُ منْ غيرِ تقويمٍ فيعتقُ اثنانِ من مسألةِ الستةِ الأعبدِ، ويكون تعين المعتق بالقرعة على هذين القولين. وخالفتِ الهادويةُ والحنفيةُ وذهبُوا إلى أنهُ يعتقُ منْ كلِّ عبدٍ ثلثَه، ويسعَى كلُّ واحدٍ في ثلثي قيمتهِ للورثةِ، قالُوا: وهذَا الحديثُ [أحاديٌّ]

(3)

خالفَ الأصولَ، وذلكَ لأنَّ السيدَ قدْ أوجبَ لكلّ واحدٍ منْهمُ العتقَ، فلو كانَ لهُ مالٌ لنفذَ العتقُ في الجميع [بِالإِجماعِ]

(4)

. وإذا لم يكنْ لهُ مالٌ وجبَ أنْ ينفذَ لكلّ واحدٍ بقدرِ الثلثِ الجائزِ تصرُّف السيدِ فيهِ، وَرُدَّ بأنَّ الحديثَ الأحاديَّ منَ الأصولِ فكيفَ يُقَالُ إنهُ خالفَ الأصولَ، ولو سلمَ فمنِ الأصولِ أنهُ لا يدخلُ ضرَرًا على الغيرِ، وقدْ أدخلتُم الضررَ على الورثةِ وعلى العبيدِ المعتقينَ، وإذا جمعَ العتقُ في شخصينِ كما في مسألةِ الحديثِ حصلَ الوفاءُ بحقِّ العبدِ وحق الواردِ، ونظيرُ مسألةِ العبدِ لوْ أوصَى بجميعِ التركةِ فإنهُ يقفُ ما زادَ على الثلثِ على إجازةِ الورثةِ اتفاقًا، ثمَّ إذا أريدَ القسمةَ تعيَّنتِ الأنصباء بالقرعةِ اتفاقًا.

= قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3958)، والترمذي رقم (1364)، والنسائي (4/ 64 رقم 1958)، وابن ماجه رقم (2345)، والطيالسي في "منحة المعبود"(1/ 282 رقم 1434)، البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 285).

(1)

في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(8/ 200).

(2)

في "السنن" رقم (3960) بإسناد صحيح.

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (ب).

ص: 115

‌يصح تعليق العتق

10/ 1346 - وَعَنْ سَفِينَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا لأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أَعْتِقُكَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا عِشْتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

وَأَبُو دَاوُدَ

(2)

، وَالنَّسَائِيُّ

(3)

، وَالْحَاكِمُ

(4)

. [حسن]

(وعنْ سفينةَ رضي الله عنه) بالسينِ المهملةِ، ففاءٍ فمثناةٍ تحتيةٍ، فنونٍ، (قالَ: كنتُ

مملُوكًا لأمِّ سلمةَ فقالتْ: أعتقكَ واشترطتُ عليكَ أنْ تخدمَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما عشتَ.

رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ، والحاكمُ). الحديثُ دليلٌ على صحةِ اشتراطِ الخدمةِ على العبدِ المعتَقِ، وأنهُ يصحُّ تعليقُ العتقِ بشرطٍ، فيقعُ بوقوعِ الشرطِ. ووجهُ دلالتهِ أنهُ علمَ أنهُ النبي صلى الله عليه وسلم قررَ ذلكَ؛ إذِ الخدمة لهُ. ورُوِيَ عنْ عمرَ أنهُ أعتقَ رقيقَ الإمارةِ وشرطَ عليهمْ أنْ يخدمُوا الخليفةَ بعدَه ثلاثَ سنينَ. قالَ في نهايةِ المجتهدِ: ولم يختلفُوا على أن العبدَ إذا أعتقَه سيِّدُه على أنْ يخدمَه سنينَ أنهُ لا يتمُّ عِتْقُهُ إلَّا بخدمتهِ. وبهذا قالتِ الهادويةُ والحنفيةُ.

‌الولاء لمن أعتق

11/ 1347 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

في حَدِيثٍ طَوِيل. [صحيح]

(1)

في "المسند"(5/ 221) و (6/ 319).

(2)

في "السنن" رقم (3932).

(3)

نسبه المنذري إلى النسائي.

(4)

في "المستدرك"(3/ 606) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2526)، وابن الجارود رقم (976)، والبيهقي (10/ 291) وهو حديث حسن لأن سعيد بن جهمان وثقه أحمد وابن معين، وتكلم فيه البخاري والساجي فمثله يحسن حديثه إذا لم يخالف، والله أعلم.

(5)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5097) و (5279).

ومسلم في "صحيحه" رقم (173/ 1075) و (14/ 1504).

قلت: وأخرجه النسائي (6/ 162)، والبيهقي في "السنن"(6/ 161)، والبغوي رقم (1611). ومالك في "الموطأ"(2/ 562).

ص: 116

(وعنْ عائشةَ رضي الله عنها أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: إنَّما الولاءُ لمن أعتقَ. متفقٌ عليهِ). في حديثٍ تقدَّم في البيعِ في قصةِ بريرةَ، وتقدمَ شرحه بما فيهِ كفايةٌ، وأفادتْ كلمةُ "إنَّما" الحصرَ، وهوَ إثباتُ الولاءِ لمنْ ذكرَ ونفيهُ عمنْ عدَاهُ، فاستدلَّ بهِ على أنهُ لا وَلَاءَ بالإسلامِ خلافًا للهادويةِ والحنفيةِ.

‌عدم صحة بيع الولاء ولا هبته

12/ 1348 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الوَلاءُ لُحْمَةْ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ". رَوَاهُ

(1)

الشَّافِعِيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(2)

وَالْحَاكمُ

(3)

،

(1)

في "ترتيب المسند"(2/ 72، 73).

(2)

في "صحيحه" رقم (4950).

(3)

في "المستدرك"(4/ 341).

وقال الحاكم صحيح الإسناد ورده الذهبي مشنعًا عليه بقوله: (قلت: بالدبوس) قال الألباني في "الإرواء"(6/ 110): وعلته محمد بن الحسن وهو الشيباني ويعقوب بن إبراهيم وهو أبو يوسف القاضي وهما صاحبا أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لم يخرج لهما شيئًا وضعفهما غير واحد من الأئمة وأوردهما الذهبي في "الضعفاء". وقال البيهقي (10/ 292) عقب الحديث: قال: أبو بكر بن زياد النيسابوري: هذا الحديث خطأ، لأن الثقات لم يرووه هكذا وإنما رواه الحسن مرسلًا).

ثم ساق البيهقي إسناده إلى الحسن به مرفوعًا.

قال الألباني: وإسناده هذا المرسل صحيح. وهو مما يقوي الموصول الذي قبله على ما يقتضيه بحثهم في المرسل من علوم الحديث، فإن طريق الموصول غير طريق المرسل، ليس فيه راوٍ واحد مما في المرسل فلا أرى وجهًا لتخطئته بالمرسل، بل الوجه أن يقوى أحدهما بالآخر. لا سيما وقد جاء موصولًا من طرق أُخرى عن عبد الله بن دينار به.

فلا بد من ذكرها حتى تتبين الحقيقة.

ثم أخذ الألباني يسرد في الطريق عن عبد الله بن دينار ولكنها لا تصح لأنها مخالفة لرواية الجماعة. ثم قال الألباني: ويشهد له حديث علي رضي الله عنه أخرجه البيهقي (10/ 294) بسند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال البخاري إلى العباس النرسي، وأما الحسن بن سفيان فهو الفسوي، حافظ مشهور ثبت وأما أبو الوليد فهو حسان بن محمد بن أحمد القزويني الأموي النيسابوري الحافظ الفقيه الشافعي أحد الأعلام، له ترجمة في "تذكرة الحفاظ"(103، 105) وهذا إسناد قوي كالشمس وضوحًا ومع ذلك سكت عنه البيهقي ثم ابن التركماني.

• وله شاهد آخر عن عبد الله بن أبي أوفى ولا يصح.

• وله شاهد موقوف عن عبد الله بن مسعود أخرجه الدارمي (2/ 398) بسند صحيح عنه.=

ص: 117

وَأَصْلُهُ في الصَّحِيحَيْنِ

(1)

بِغَيْرِ هذَا اللَّفْظِ. [حسن]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الولاءُ لحمةٌ) في القاموسِ بضمِّ اللامِ وفتحِها في النسبِ والثوبِ، (كلحمةِ النسبِ لا يباعُ ولا يُوهَبُ. رواهُ الشافعيُّ، وصحَّحهُ ابن حبانَ والحاكمُ، وأصلُه في الصحيحينِ بغيرِ هذَا اللفظِ). يريدُ أن فيهما بلفظِ: "نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنْ بيعِ الولاءِ وعنْ هبتهِ"، أخرجَهُ البخاريُّ

(2)

منْ حديثِ عبدِ اللهِ بن دينارٍ عن ابن عمرَ، وأخرجَهُ مسلمٌ

(3)

منْ هذهِ الطريقِ، وقالَ الترمذيُّ

(4)

بعدَ تخريجهِ: حسنٌ صحيحٌ.

ومعنَى تشبيههِ بلحمةِ النسبِ أنهُ يجري الولاءُ مَجْرَى النسبِ في الميراثِ كما تخالطُ اللحمةُ سُدَى الثوبِ حتَّى يصيرَ كالشيءِ الواحدِ كما يفيدُه كلامُ النهايةِ.

والحديثُ دليلٌ على عدمِ صحةِ بيعِ الولاءِ ولا هبتهِ؛ فإنَّ ذلكَ أمرٌ معنويٌّ كالنسبِ لا يتأتَّى انتقالُه كالأبوَّةِ والأخوَّةِ لا يَتَأَتَّى انتقالُهما، وقدْ كانُوا في الجاهليةِ ينقلونَ الولاء بالبيعِ وغيرِه فنَهى عنه الشارع، وعليهِ جماهيرُ العلماءِ. ورُوِيَ عنْ بعضِ السلفِ جوازُ بيعهِ، وعنْ آخرينَ منْهم جوازُ هبتهِ وكأنَّهم لم يطَّلِعُوا على الحديثِ أو حملُوا النَّهْيَ على التنزيهِ، وهوَ خلافُ أصْلِهِ.

* * *

= وخلاصة القول أن الحديث حسن من طريق عليّ ومرسل الحسن البصري وموقوف ابن مسعود، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2535).

ومسلم في "صحيحه" رقم (16/ 1506).

(2)

في "صحيحه"رقم (2535).

(3)

في "صحيحه" رقم (16/ 1506).

(4)

في "السنن" رقم (1236) وقال: حسن صحيح.

ص: 118

[الباب الأول] باب المدبَّر، والمكاتَب، وأم الولد

المدبَّرُ اسمُ مفعولٍ، وهوَ الرقيقُ الذي عُلِّقَ عتقُه بموتِ مالكِه، سُمِّي بذلكَ لأنَّ مالكَه دبَّرَ أمر دنياهُ وأمر آخرتِه، أما دنياهُ فاستمرارُ انتفاعِه بخدمةِ عبدهِ، وأما آخرتُه فتحصيلُ ثوابِ العتقِ. والمكاتَبُ اسمُ مفعولٍ، وهو الرقيق الذي وقعتْ عليهِ الكتابةُ، وحقيقةُ الكتابةِ تعليقُ عتقِ المملوكِ على أدائِه مالًا أو نحوَه منْ مالكٍ أو نحوِه، وهيَ على خلافِ القياسِ عندَ مَنْ يقولُ إنَّ العبدَ لا يملكُ. وأمُّ الولدِ تقدّم ذكرُها في كتابِ البيعِ.

‌يباع المكاتب لحاجة السيد

1/ 1349 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنيِّ؟ "، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. وَفي لَفْظٍ لِلْبُخَارِي

(2)

: فَاحْتَاجَ. وَفي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ

(3)

: وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَبَاعَهُ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَيم، فَأعْطَاهُ، وَقَالَ:"اقْضِ دَينَكَ". [صحيح]

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2534).

ومسلم رقم (58/ 997). قلت: وأخرجه النسائي في "المجتبى"(5/ 69، 70).

وأبو داود رقم (3955)، وابن ماجه رقم (2513).

(2)

في "صحيحه"رقم (2141).

(3)

في "السنن الكبرى"(3/ 192 رقم 5004/ 8).

والخلاصة: أن الحديث صحيح، والله أعلم.

ص: 119

(عنْ جابرٍ رضي الله عنه أن رجلًا من الأنصار) اسمهُ "مذكور" كما في روايةٍ مسلمٍ. وتقدَّم في البيعِ منْ روايةٍ أبي داودَ والنسائيُّ أن اسمهُ مذكور، واسمُ غلامِه أبو يعقوبَ (أعتق غلامًا لهُ) وهو يعقوبُ كما في مسلم (عنْ دُبُرٍ) بضمِّ الدالِ المهملةِ وبضمِّ الموحدةِ وسكونِها (لم يكنْ له مالٌ غيرَه، فبلغَ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: مَنْ يشتريهِ منيِّ؟ فاشتراهُ نعيمُ بنُ عبدِ اللَّهِ بثمانمائةِ درهمٍ. متفقٌ عليهِ. وفي لفظِ البخاريِّ: فاحتاجَ. وفي روايةٍ النسائيِّ

(1)

: وكانَ عليهِ دينٌ فباعَه بثمانمائةِ درهمٍ فأعطاهُ وقالَ: اقضِ دَيْنَكَ). الحديثُ دليل على شرعية التدبيرِ، وهو متفقٌ على مشروعيتهِ.

واختلفَ العلماءُ هلْ ينفذُ منْ رأسِ المالِ أوْ منَ الثلثِ، فذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ ينفذُ منَ الثلثِ، وذهبَ جماعة منَ السلفِ والظاهريةُ إلى أنهُ ينفذُ منْ رأسِ المالِ. استدلَّ الجمهورُ بقياسهٍ على الوصيةِ بجامعِ أنهُ مال ينفذُ بعدَ الموتِ، وبحديثِ ابن

(2)

عمرَ مرفوعًا: "المدبَّرُ منَ الثلثِ"، ورُدَّ الحديثُ بأنهُ جزمَ أئمةُ الحديثِ بضعفِه وإنكارِه، وأنَّ رفْعَهُ باطلٌ، وإنَّما هوَ موقوفٌ على ابن عمرَ كما قالَه البيهقيُّ

(3)

: [الصحيحُ أنهُ موقوفٌ]

(4)

. ورَوَى البيهقيُّ

(5)

عنْ أبي قلابةَ مرسلًا: "أن رجلًا أعتقَ عبدًا عنْ دُبُرٍ، فجعلَه النبي صلى الله عليه وسلم من الثلثِ". وأخرجَ

(6)

عنْ عليٍّ كذلكَ موقُوفًا. واستدلَّ الآخرونَ بالقياسِ علَى الهبةِ ونحوِها مما يخرجُه الإنسانُ منْ مالهِ في حياتهِ، ودليلُ الأولينَ أولى لتأيدِ القياسِ بالمرسلِ والموقوفِ، ولأنَّ قياسَه على الوصيةِ أَوْلَى منَ القياسِ على الهبةِ. وفي الحديثِ دليل على جوازِ بيعِ المدبرِ لحاجتهِ لنفقتهِ، أوْ لقضاء دينهِ. وذهبَ طائفة إلى عدمِ جوازِ بيعهِ مطلقًا مستدلينَ بقولهِ تعالَى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}

(7)

. وردَّ بأنهُ عامٌّ [خصَّصَهُ]

(8)

[حديثُ الكتابِ]

(9)

.

(1)

في "السنن الكبرى"(3/ 192 رقم 5004/ 8).

(2)

أخرجه البيهقيُّ مرفوعًا وموقوقًا في "السنن الكبرى"(10/ 314)، والدارقطني في "السنن"(4/ 138 رقم 49) وهو حديث موضوع.

(3)

في "السنن الكبرى"(10/ 314).

انظر: "الضعيفة" رقم (164)، وانظر:"نصب الراية" للزيلعي (3/ 284، 285).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في "السنن الكبرى"(10/ 314).

(6)

في "السنن الكبرى"(10/ 314).

(7)

سورة المائدة: الآية 1.

(8)

في (أ): "مخصوص".

(9)

في (أ): "بحديث الباب".

ص: 120

وذهبَ آخرونَ منْهمُ الشافعيُّ وأحمدُ إلى جوازِ بيعهِ مطلقًا، مستدلِّينَ بحديثِ جابرٍ، وتشبيهه بالوصيةِ، فإنهُ إذا احتاجَ الموصي باعَ ما أوصَى بهِ، وكذلكَ معَ استغنائِه. قالُوا: والحديثُ ليسَ فيهِ قصرُ البيعِ على الحاجةِ والضرورةِ،، وإنَّما الواقعُ جزئيٌّ منْ جزئياتِ صورِ جوازِ بيعهِ، وقياسُه على الوصيةِ يؤيدُ اعتبارَ الجوازِ المطلَقِ، والظاهرُ هو القولُ الأوَّلُ.

‌المكاتب إذا لم يفِ بما كوتب عليه فهو عبد

2/ 1350 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِي عَلَيهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّلَاثَةِ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(1)

. [حسن]

(وعنْ عمروِ بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: المكاتِبُ عبدٌ ما

(1)

في "السنن"(4/ 242 رقم 3926) وعنه البيهقيُّ في "السنن الكبرى"(10/ 324) من طريق أبي عتبة إسماعيل بن عياش: حدثني سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، به.

قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات، وعمرو بن شعيب فيه الخلاف المشهور، وإسماعيل بن عياش ثقة في الشاميين، وهذا منه، فإن سليمان بن سليم شامي أيضًا.

وقد تابعه جماعة بمعناه.

(منهم): حجاج بن أرطاة عن عمرو به بلفظ:

"أيما عبد كوتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق"، أخرجه ابن ماجه رقم (2519)، والبيهقي (10/ 324)، وأحمد (2/ 178، 206، 209).

و (منهم): عباس الجريري ثنا عمرو بن شعيب به، ولفظه:

"أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق، فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار، فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد".

أخرجه أبو داود رقم (3927)، والبيهقي (10/ 324)، وأحمد (2/ 184)، والحاكم (2/ 218) وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

و (منهم): يحيى بن أبي أنيسة عن عمرو بن شعيب بلفظ:

"من كاتب عبده على مائة أوقية فأداه إلا عشرة أواق. أو قال: عشرة دراهم ثم عجز فهو رقيق".

أخرجه الترمذي رقم (1260) وقال: حديث حسن غريب، ويحيى هذا ضعيف.

لكن الحديث يقوى بالمتابعات المتقدمة.

والخلاصة: أن الحديث حسن، والله أعلم. وقد حسَّنه الألباني في "الإرواء" رقم (1674).

ص: 121

بقي عليهِ منْ مكاتبتهِ درهمٌ. أخرجَه أبو داودَ بإسنادٍ حسنن، وأصلُه عندَ أحمدَ والثلاثةِ، وصححَة الحاكمُ). ورُوِيَ منْ طرقٍ كلُّها لا تخلُو عنْ مقالٍ. قالَ الشافعيُّ في حديثٍ عمروِ بن شعيب: لا أعلمْ أحدًا رَوَى هذا إلَّا عمروُ بنُ شعيبٍ، ولم أرَ مَنْ رضيتُ منْ أهلِ العلَمِ يثبتُه. وعلى هذا فُتْيَا المفتينَ. والحديثُ دليَلٌ على أن المكاتِبَ إذا لم يفِ [بما كُوتِبَ عليهِ]

(1)

فهوَ عبدٌ، لهُ أحكامُ [الرق]

(2)

، وإلى هذا ذهبَ الجمهورُ، الهادويةُ والحنفيةُ والشافعيُّ، ومالكٌ، وفي المسألةِ خلافٌ فروي عنْ عليٍّ عليه السلام أنهُ يعتقُ إذا أدَّى شرط ما كتب عليه. ويُرْوَى عنهُ أنهُ يُعْتَقُ بقدرِ ما أدَّى، ودليلهُ ما أخرجه النسائيُّ

(3)

منْ طريق عكرمةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "يودَى المكاتبُ بحصةِ ما أدَّى ديةَ حرٍّ، وما بقىَ ديةُ عبدٍ". قالَ البيهقيُّ

(4)

: قالَ أبو عيسَى فيما بلغني عنهُ: سألتُ البخاري عنْ هذَا الحديثِ فقالَ: رَوَى بعضُهم

(5)

هذا الحديثَ عنْ أيوب عن عكرمةَ عنْ على. قال البيهقي: فاختلفَ [على]

(6)

عكرمةَ فيهِ، وروايةُ عكرمةَ عنْ عليٍّ مرسلةٌ، ورواية عكرمة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلةٌ، ورُوِيَ عنْ عليٍّ رضي الله عنه منْ طرقٍ مرفوعًا وموقُوفًا.

قلت: فقدْ ثبتَ لهُ أصلٌ إلا أنهُ قدْ عارضَه حديثُ الكتابِ. وقولُ الجمهورِ دليلهُ الحديثُ، وإنْ كانَ ما خلتْ طرقُه عنْ قادحٍ، إلَّا أنهُ أيدتْهُ آثارٌ سلفيةٌ عن الصحابةِ، ولأنهُ أخذَ بالاحتياطِ في حق السيِّدِ، فلا يزولُ ملكُه إلا بما قدْ رضي بهِ منْ تسليمِ ما عندَ عبدِه، فالأقربُ كلامُ الجمهورِ.

‌المكاتب كالحر إذا كان معه ما كوتب عليه

3/ 1351 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ

(1)

في (أ): "بحال الكتابة".

(2)

في (ب): "المماليك".

(3)

في "السنن"(8/ 45 رقم 4809).

(4)

في "السنن الكبرى"(10/ 326).

(5)

أخرجه الترمذي (3/ 560) معلقًا، ووصله أبو داود (4581)، والنسائي (8/ 45/ رقم 4809)، وأحمد (1/ 260، 292، 363)، والبيهقي (10/ 325)، والحاكم (2/ 218)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (982).

قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي.

والخلاصة: أن الحديث صحيح. وقد صحّحه الألباني في "الإرواء"(1726).

(6)

في (أ): "عن".

ص: 122

لأِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤدِّي فَلْتَحْتَجِب مِنْهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

، وَالأَرْبَعَةُ

(2)

، وَصَحّحَهُ الترْمذِيُّ

(3)

. [حسن]

(وعنْ أُمِّ سلمةَ رضي الله عنها قالتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذا كانَ لإحداكنُّ مكاتَبٌ، وكانَ عندَه ما يؤدِّي فلتحتجبْ منهُ. رواهُ أحمدُ، والأربعةُ، وصحَّحهُ الترمذيُّ). وهوَ دليلٌ على مسألتينِ:

الأولى: أن المكاتَبَ إذا صارَ معهُ جميعُ مالِ [المكاتبةِ]

(4)

فقدْ صارَ لهُ ما للأحرارِ [فتحتجِبُ]

(5)

منهُ سيدتُه إذا كانَ مملُوكًا لامرأةِ، وإنْ لم يكنْ قد سلمَ ذلكَ، وهوَ معارضٌ بحديثِ عمروِ بن شعيبِ، وقدْ جمعَ بينَهما الشافعيُّ

(6)

فقالَ: هذا خاصٌّ بأزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهوَ احتجابهنَّ عن المكاتبِ، وإنْ لم يكنْ قدْ سلمَ مالَ الكتابةِ إذا كانَ واحدًا لهُ، وإلا منعَ منْ ذَلكَ كما منعَ سودةَ

(7)

منْ نظرِ ابن

(1)

في "المسند"(289/ 6، 308، 311).

(2)

أخرجه أبو داود في "السنن"(3928). وابن ماجه في "السنن"(2520)، والترمذي في "السنن" (1261). وقال: حديث حسن صحيح.

وأخرجه النسائي بنحوه في "السنن الكبرى"(3/ 198 رقم 5029/ 2) ورقم (5030/ 3).

(3)

في "السنن" رقم (1261).

قلت: وأخرجه الحاكم (2/ 219) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. كذا قال، ونبهان مولى أم سلمة، وأورده الذهبي في "ذيل الضعفاء"، "وقال ابن حزم: مجهول"، قاله الألباني في "الإرواء" (6/ 183).

قلت: قال ابن حجر في "التقريب" عنه (2/ 297): "مقبول".

وقال الذهبي في "الكاشف"(3/ 175): "ثقة". وذكره ابن حبان في "الثقات"(5/ 486)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(8/ 502) وسكت عنه، فالحديث قابل للتحسين.

وقد حسنه الشيخ عبد القادر في "جامع الأصول"(8/ 93) بشواهده.

وأما المحدث الألباني فقد ضعفه في "الإرواء"(1769) لما تقدم عن حال "نبهان "عنده وقال: "ومما يدل على ضعف هذا الحديث عمل أمهات المؤمنين على خلافه، وهن اللاتي خوطبن به فيما زعم راويه! وقد صح ذلك عن بعضهن كما يأتي بيانه".

(4)

في (أ): "الكتابة".

(5)

في (أ): "فلتحتجب".

(6)

في "بدائع المنن"(2/ 45).

(7)

أخرجه البخاري رقم (2053) ورقم (2218)، ومسلم رقم (36/ 1457)، ومالك في "الموطأ"(2/ 739 رقم 20)، وأحمد في "المسند"(6/ 129، 200، 337)، وأبو داود في "السنن" رقم (2237)، والنسائي (6/ 180 رقم 3484)، وابن ماجه رقم (2004)، والدارمي مختصرًا (2/ 152).

ص: 123

زمعةَ إليها مع أنهُ قدْ قالَ: "الولدُ للفراشِ"

(1)

.

قلتُ: ولكَ أن تجمعَ بينَ الحديثين أن المرادَ أنهُ قِنٌّ إذا لم يجدْ ما بقيَ عليهِ ولو كانَ درهمًا. وحديثُ أمِّ سلمةَ في مكاتب واجدٍ لجميعِ مالِ الكتابةِ، ولكنهُ لم يكنْ قدْ سلَّمهُ. وأما حديثُ أمِّ سلمةَ

(2)

أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ لها: "إذا كاتبتْ إحداكنَّ عبدَها فليرَها ما بقيَ عليهِ شيءٌ منْ [كتابتهِ]

(3)

، فإذا قضَاها فلا تكلِّمْهُ إلا منْ وراءِ حجابٍ". فإنهُ حديث ضعيفٌ لا يُقَاوِمُ حديثَ الباب.

المسألةُ الثانيةُ: دلَّ [الحديث]

(4)

بمفهومه أنهُ يجوزُ لمملوكِ المرأةِ النظرُ إليها ما لم يكن يكاتبْها ويجد مالَ الكتابةِ، وهوَ الذي دلَّ لهُ منطوقُ قولهِ تعالَى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}

(5)

في سورةِ النورِ، وفي سورةِ الأحزابِ

(6)

. ويدلُّ لهُ أيضًا قولُه صلى الله عليه وسلم لفاطمةَ عليه السلام لما تقنَّعتْ بثوبٍ وكانتْ إذا قنعتْ رأسهَا لم يبلغْ رِجْليهَا، وإذا غطتْ رجلَيها لم يبلغْ رأسها، فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"ليسَ عليكِ بأسٌ إنما هو أبوكِ وغلامُكِ" أخرجه أبو داودَ

(7)

، وابنُ مردويهْ

(8)

، والبيهقي

(9)

منْ حديثٍ أنسٍ، وأخرجَ عبدُ الرزاقِ

(10)

عنْ مجاهدٍ. قالَ: كانَ العبيدُ يدخلونَ على أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يريدُ مماليكهنَّ. وفي تيسيرِ البيانِ للموزعيِّ أنَّ رؤيةَ المملوكِ لمالِكَتِه هو المنصوصُ، أي للشافعيِّ. وذكرَ الخلافَ لبعضِ الشافعيةِ وردَّه، وهوَ خلافُ ما نقلْنا عنهُ فيما يأتي، فيحتملُ أن ذلكَ قوله. وإلى ما أفاده مفهوم الحديث ذهمبَ أكثرُ العلماءِ منَ السلفِ، وهوَ قولٌ للشافعيِّ. وذهبتِ الهادويةُ وأبو حنيفةَ إلى أن

(1)

أخرجه البخاري في (6818).

ومسلم في "صحيحه" رقم (37/ 1458)، والترمذي رقم (1157)، والنسائي (6/ 180 رقم 3482، 3483)، وابن ماجه (1/ 647 رقم 2006)، وأحمد في "المسند"(2/ 239، 280، 386، 409، 466)، والدارمي (2/ 152).

(2)

أخرجه النسائيُّ في "السنن الكبرى" بنحوه (3/ 198 رقم 5033/ 6).

(3)

في (أ): "للكتابة".

(4)

زيادة من (أ).

(5)

سورة النور: الآية 31.

(6)

سورة الأحزاب: الآية 50.

(7)

في "السنن" رقم (4106).

(8)

عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 183).

(9)

في "السنن الكبرى"(7/ 95).

(10)

عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 183).

ص: 124

المملوكَ كالأجنبيِّ. قالُوا: يدل له صحةُ تزويجِها إياهُ بعدَ العتقِ، وأجابُوا عن هذا الحديثِ بأنهُ مفهومٌ لا يعملُ بهِ. وعن الآيةِ بأنَّ المرادَ بما ملكتْ أيمانُهنَّ المملوكاتُ منَ الإماءِ للحرائرِ، وخصَّهنَّ بالذكرِ رفْعًا لتوهُّم مغايرتِهنَّ للحرائرِ في قولهِ تعالى:{أَوْ نِسَائِهِنَّ}

(1)

؛ إذِ الإماءُ لَسْنَ منْ نسائِهن. ولا يخْفَى ضعفُ هذا وتكلُّفهُ، والحقُّ [أحق]

(2)

بالاتِّباعِ.

4/ 1352 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُوْدَى الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الْحُرِّ، وَبَقَدْرِ مَا رقَّ مِنْهُ دِيَةَ الْعَبْدِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(3)

، وَأَبُو دَاوُدَ

(4)

، وَالنَّسَائِي

(5)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: يُودَى) بضمِّ حرفِ المضارَعةِ مبنيٌّ للمجهولِ من ودَاهُ يديهِ (المكاتبُ بقدرِ ما عتِقَ منهُ ديةَ الحرِّ، وبقدرِ ما رق منهُ ديةَ العبده رواهُ أحمدُ، وبو داود، والنسائيُّ). سقطَ هذا الحديثُ بشرحهِ منَ الشرح، وهوَ دليلٌ على أن للمكاتبِ حكمَ الحرِّ في قدْر ما سلَّمهُ منْ [مال الكتابة]

(6)

، فتبعضُ ديتُه إنْ قتلَ [وكذلكَ]

(7)

الحدُّ وغيرُه منَ الأحكامِ التي تنصَّفُ، وهذا قولُ الهادويةِ. وذهبَ عليٌّ عليه السلام وشريحٌ إلى أنهُ يعتقُ كلُّه إذا سلَّمَ قِسْطًا منْ مالِ الكتابةِ، وعنْ عليٍّ عليه السلام روايةُ مثلِ كلامِ الهادويةِ. واستدل مَنْ قالَ لا تتبعَّضُ أحكامُه بأنهُ عبدٌ ما بقيَ عليه درهمٌ لحديثِ ابن عمرَ:"المكاتبُ عبدٌ ما بقيَ عليهِ درهمٌ"

(8)

، إلَّا أنهُ موقوفٌ. وقدْ رفعَه ابنُ قانعٍ، وأعل بالانقطاعِ، وأخرجَه منْ

(1)

سورة النور: الآية 31.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في "المسند"(1/ 260، 292، 263).

(4)

في "السنن" رقم (4581).

(5)

في "السنن"(8/ 45 رقم 4809).

قلت: وأخرجه الترمذي في "السنن"(3/ 560) معلقًا.

والطيالسي في "منحة المعبود"(1/ 245 رقم 209)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (982)، والحاكم (2/ 218)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 326) وهو حديث صحيح.

وقد صححه الألباني في "الإرواء" رقم (1726) وقد تقدم.

(6)

في (ب): "كتابته".

(7)

في (أ): "وكذا".

(8)

تقدم تخريجه في كتابنا هذا برقم (2/ 1350).

ص: 125

طريقِ عمروِ بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدّهِ أبو داود

(1)

، والنسائي

(2)

. لكنْ قالَ الشافعيُّ: لم أرَ مَنْ رضيتُ منْ أهلِ العلمِ يثبتُه كما تقدَّمَ. وقدْ أخرجَ أبو داودَ

(3)

والترمذيُّ

(4)

والنسائيُّ

(5)

منْ حديثٍ عليٍّ عليه السلام وابنِ عباسٍ مرفوعينِ بلفظِ: "المكاتبُ يعتقُ بقدْرِ ما أدَّى، ويرثُ ويقامُ عليهِ الحا بقدْرِ ما عُتقَ". ولا علةَ لهُ، وهوَ يؤيدُ حديثَ الكتابِ. ولعلَّه هوَ وإنَّما اختلفَ لفظُه. وتقدَّمَ الخلافُ في المسألةِ وبيانِ الراجحِ.

‌تركة الرسول صلى الله عليه وسلم

-

5/ 1353 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ - أَخِي جُوَيْرَيةَ أُمّ الْمُؤمِنِينَ رضي الله عنها قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(6)

. [صحيح]

‌ترجمة عمرو بن الحارث

(وعنْ عمروِ بن الحارثِ)

(7)

وهوَ عمروُ بنُ الحارثِ بن أبي ضرارٍ بكسرِ الضادِ المعجمةِ، وراءٍ خفيفةٍ، عدادُه في أهلِ الكوفةِ، رَوَى عنهُ أبو وائلٍ شقيقُ بنُ سلمةَ وغيرُه [قاله المصنف في التقريب]

(8)

. (أخي جويريةَ أمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها قالَ: ما تركَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عندَ موتهِ درهمًا، ولا دينارًا، ولا عبْدًا، ولا أَمَةً، ولا شيئًا إلا بَغْلَتَه البيضاءَ، وسلاحَه، وأرضًا جعلَها صدقةً. رواهُ البخاريُّ).

(1)

و

(2)

تقدم تخريجه في كتابنا هذا في شرح الحديث (2/ 1350).

(3)

في "السنن" رقم (4582) عن ابن عباس.

(4)

في "السنن" رقم (1259) من حديث ابن عباس. وقال: حديث حسن.

(5)

في "السنن الكبرى"(3/ 196 رقم 5021/ 1) عن ابن عباس، ورقم (5022/ 2) عن علي.

(6)

في "صحيحه" رقم (4461).

(7)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (5816)، و "أسد الغابة" رقم (3896)، و "الاستيعاب" رقم (1927) و"تقريب التهذيب"(2/ 67) و"التاريخ الكبير"(6/ 308).

(8)

زيادة من (أ).

ص: 126

الحديثُ دليل على ما كانَ عليهِ صلى الله عليه وسلم منْ تنزههِ عن الدُّنيا وأدناسِها وأعراضِها، وخلوِّ قلبِه وقالَبِه عن الاشتغالِ بها، لأنهُ متفرِّغٌ للإقبالِ على تبليغِ ما أُمِرَ بهِ، وعبادةِ مولاهُ، والاشتغالِ بما يقربُه إليهِ وما يرضَاه. وقولهُ:"ولا عبدًا ولا أَمَةً"، وقدْ قدَّمنا أنهُ صلى الله عليه وسلم أعتقَ ثلاثًا وستين رقبةً فلم يمتْ وعندَه مملوكٌ، والأرضُ التي جعلَها صدقةً، قالَ أبو داودَ

(1)

: كانتْ نخلُ بني النضيرِ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خاصةً له أعطاهُ اللَّهُ إيَّاها فقالَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}

(2)

، فأعطَى أكثرَها المهاجرينَ، وبقيَ منْها صدقةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمةَ. ولأبي داودَ

(3)

أيضًا منْ طريقِ ابن شهابٍ: كانتْ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثلاثُ صفايا: بنو النضير، وخيبرُ، وفدكُ. فأما بنو النضيرِ فكانتْ حَبْسًا لنوائِبه، وأما فدَكُ فكانتْ حَبْسًا [لأبناءِ]

(4)

السبيلِ، وأما خيبرُ فجزَّأَها بينَ المسلمينَ ثمَّ قسمَ جزءًا لنفقةِ أهلِه، وما فضلَ منهُ جعلَه في فقراءِ المهاجرينَ.

6/ 1354 - وَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتهِ". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ

(5)

، وَالْحَاكِمُ

(6)

بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَرَجّحَ

(7)

جَمَاعَةٌ وَقْفَهُ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه. [ضيف]

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّما أمةٍ وَلَدَتْ منْ سيِّدِها فهيَ حرَّةٌ بعدَ موتِه. أخرجَه [ابنُ ماجهْ]

(8)

والحاكمُ بإسنادٍ ضعيف)؛ إذْ في سندهِ

(1)

في "السنن" رقم (2965)، وهو حديث صحيح.

(2)

سورة الحشر: الآية 7.

(3)

في "السنن" رقم (2967)، وهو حديث صحيح.

(4)

في (أ): "ابن".

(5)

في "السنن" رقم (2515).

(6)

في "المستدرك"(2/ 19) وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وردَّه الذهبي بقوله: حسين متروك.

(7)

في "السنن الكبرى"(10/ 346).

قلت: وأخرجه أحمد (1/ 303، 317، 320)، والدارقطني (4/ 130)، والدارمي (2/ 257) وإسناده ضعيف جدًّا. وللحديث متابعات ضعيفة لا تقوِّي الحديث، فهو ضعيف.

انظر: "الإرواء" رقم (1771).

(8)

في (أ): "أبي حاتم".

ص: 127

الحسينُ بنُ عبدِ اللَّهِ الهاشميُّ ضعيفٌ جدًّا. (ورجَّح جماعةٌ وقْفَه على عمرَ رضي الله عنه). الحديثُ دالٌّ على حريةِ أمِّ الولدِ بعدَ وفاةِ سيِّدِها، وعليهِ دلَّ الحديثُ الأوَّلُ حيثُ قالَ: ولا أمةٍ، فإنهُ صلى الله عليه وسلم تُوفِّيَ وخلَّفَ ماريَّةَ القبطيةَ أمَّ إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، وتوفيتْ في أيامِ عمرَ، فدلَّ أنَّها عتقتْ بوفاتِه صلى الله عليه وسلم، ولأَجْلِ هذا الحكمِ ذكرَ المصنفُ الحديثَ الأولَ. وتقدَّمَ الكلامُ في أمِّ الولدِ مستوفَى في كتابِ البيعِ.

7/ 1355 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا في سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَارِمًا في عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا في رَقَبَتِهِ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

، وَصَحّحَهُ

(2)

الْحَاكِمُ. [ضعيف]

(وعنْ سهلِ بن حنيفٍ رضي الله عنه أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ أعانَ مجاهِدًا في سبيلِ اللَّهِ، أوْ غارِمًا في عُسرتهِ)، الغارمُ الذي يلتزمُ ما ضمنَه ويكفل له ويؤذيهِ، قالهُ في النهايةِ، (أوْ مكاتبًا في رقبتهِ، أظلَّه اللَّهُ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه. رواة أحمدُ، وصحَّحَهُ الحاكمُ).

فيهِ دليلٌ على عِظَمِ أجر هذهِ الإعانةِ لمنْ ذكرَ، وذُكِرَ هنا لأجلِ المكاتبِ. وقدْ قالَ تعالَى في المكاتب:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}

(3)

.

وقدْ أخرجَ النسائيُّ

(4)

منْ حديثٍ عليٍّ رضي الله عنه مرفُوعًا أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "في الآيةِ ربعُ الكتابة"

(5)

. قالَ النسائيُّ

(6)

: أي الصوابُ وقْفُه. قالَ الحاكمُ

(7)

في روايةٍ الرفعِ: صحيحُ الإسنادِ.

(1)

في "المسند"(3/ 487).

(2)

في "المستدرك"(2/ 89، 90) جاء به الحاكم كشاهد لحديث عمر بن الخطاب، وسكت عليه الذهبي، وهو حديث ضعيف.

(3)

سورة النور: الآية 33.

(4)

في "السنن الكبرى"(3/ 198، 199 رقم 1/ 5034 ورقم 5035/ 2).

(5)

الآية ليس فيها تعرض لمقدار ما يعطى، إنما فيها الأمر بالمساعدة فقط. ولهذا صوَّب وقفه.

(6)

لم أجدها في "السنن الكبرى" عقب الحديث.

(7)

في "المستدرك"(2/ 397) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وعبد الله بن حبيب هو أبو عبد الرحمن السلمي وقد أوقفه أبو عبد الرحمن عن علي في رواية أخرى.

وقال الذهبي: هذا حديث صحيح، وروي موقوفًا.

ص: 128

وقدْ فسَّرَ

(1)

قولَه تعالَى: {وَفِي الرِّقَابِ}

(2)

بإعانةِ المكاتبينَ. وأخرجَ ابنُ جريرٍ

(3)

وغيرُه

(4)

عنْ عليٍّ عليه السلام أنهُ قالَ: أمرَ اللَّهُ تعالى السيِّدَ أنْ يدعَ الربعَ للمكاتبِ منْ ثمنهِ، وهذا تعليمٌ منَ اللَّهِ تعالى وليسَ بفريضةٍ، ولكنْ فيهِ أجرٌ.

* * *

(1)

ذكره ابن جرير في "تفسيره"(2/ 98).

(2)

سورة البقرة: الآية 177، وسورة التوبة: الآية 60.

(3)

في "جامع البيان"(10/ 129، 132).

(4)

في "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (251، 253).

ص: 129

[الكتاب الثامن عشر] كتاب الجَامع

أي الجامعُ لأبوابٍ ستةٍ: الأدب، والبرِّ والصلةِ، والزهدِ والورعِ، والترهيبِ منْ مساوئ الأخلاقِ، والترغيبِ في مَكارمِ الأخلاقِ، والذكرِ والدعاءِ. الأولُ:

[الباب الأول] باب الأدب

‌حقوق المسلم على المسلم

1/ 1356 - عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَفتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ"، رَوَاهُ مُسْلِمُ

(1)

. [صحيح]

(عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: حقُّ المسلمِ علَى المسلمِ ستٌّ: إذا لقيتَه فسلِّمْ عليْهِ، وإذا دعاكَ فأجِبْه، وإذا استنصحَكَ فانصحْه، وإذا عطسَ فحمدَ اللَّهَ فشمِّتْهُ) بالسينِ المهملةِ والشينِ المعجمةِ، (وإذا مرض فعدْه، وإذا ماتَ فاتبعْهُ. رواهُ مسلمٌ)، وفي روايةٍ

(2)

لهُ: خمسٌ، أسقطَ مما عدَّه هنَا: "وإذا استنصحكَ

(1)

في "صحيحه" رقم (5/ 2162).

(2)

أي لمسلم في "صحيحه" رقم (4/ 2162).

قلت: وأخرجه البخاري (1240)، وأبو داود (5530).

ص: 131

فانصحْه". والحديثُ دليلٌ على أن هذهِ حقوقُ المسلم على المسلم، والمرادُ بالحقِّ ما لا ينبغي تركُه، ويكونُ فِعلُه إما واجبًا أو مندُوبًا ندْبأ مؤكَّدًا شبيهًا بالواجبِ الذي لا ينبغي تركُه، ويكونُ استعمالُه في المعنيينِ منْ بابِ استعمالِ المشتركِ في معنيَيْهِ، فإنَّ الحقَ يستعملُ في معنَى الواجبِ، كذا ذكرهُ ابنُ الأعرابيِّ.

فالأوُلىَ منَ الستِّ: السلامَ عليهِ عندَ ملاقاتِه لقولهِ: "إذا لقيتَه فسلِّمْ عليهِ"، والأمرُ دليلٌ على وجوب الابتداءِ بالسلامِ، إلَّا أنهُ نقلَ ابنُ عبدِ البرّ

(1)

وغيرهُ أن الابتداءَ بالسلامِ سنةٌ، وَأنَّ ردَّه فرضٌ. وفي صحيح مسلمٍ

(2)

مرفُوعًا: الأمرُ بإفشاءِ السلامِ، وأنهُ سببٌ للتحابِّ. وفي الصحيحينِ

(3)

: "أن أفضلَ الأعمالِ إطعامُ الطعامِ، وتقرأ السلامَ على مَنْ عرفتَ ومَنْ لم تعرفْ"، قالَ عمارٌ: ثلاثٌ مَنْ جمعَهنَّ فقدْ جمعَ الإيمانَ: إنصافٌ منْ نفسِكَ، وبذلُ السلامِ للعالَمِ، والإنفاقُ منَ الإِقْتَارِ. ويا لها منْ كلماتٍ ما أجمعَها للخيرِ. والسلامُ اسمٌ منْ أسماءِ

(4)

اللَّهِ تعالَى، فقولُه: السلامُ عليكم أي اسم الله عليكم، أي أنتُم في حفظِ اللَّهِ كما يُقَالُ: اللَّهُ معَكَ، واللَّهُ يصحبُكَ. وقيلَ: السلامُ بمعنى السلامةِ، أي: سلامةُ اللَّهُ ملازِمة لكَ. وأقلُّ السلامِ أنْ يقولَ السلامُ عليكْم، وإنْ كانَ المسلَّمُ عليهِ واحدًا يتناولُه وملائكتهُ، وأكملُ منهُ أنْ يزيدَ ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه، ويجزيهِ السلامُ عليكَ، وسلامٌ عليكَ بالإفرادِ والتنكيرِ، فإنْ كانَ المسلَّمُ عليهِ واحدًا أوجبَ الردُّ عليهِ

(1)

في "التمهيد"(5/ 288، 289).

(2)

رقم (93/ 54).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5193)، والترمذي رقم (2688) وقال: حسن صحيح.

وابن ماجه رقم (3692).

(3)

أخرجه البخاري رقم (28)، ومسلم رقم (63/ 39)، والنسائي (8/ 107).

(4)

كما في الحديث الذي أخرجه البزار كما في "كشف الأستار"(1999)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 29): رواه البزار بإسنادين، والطبراني بأسانيد؛ وأحدهما رجاله رجال الصحيح.

من حديث ابن مسعود عن النبي قال صلى الله عليه وسلم: "السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه في الأرض فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مرَّ بقوم فسلَّم عليهم فردُّوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم".

ص: 132

عينًا، وإنْ كانَ المسلَّمُ عليهمْ جماعةً فالردُّ فرضُ كفايةٍ في حقهم. ويأتي قريبًا حديثُ

(1)

: "يجزئُ عن الجماعةِ إذا مروا أنْ يسلِّمَ أحدُهم، وهذا هو سنةُ الكفايةِ، ويشترطُ كونُ الردِّ على الفورِ، وعلى الغائبِ في ورقةٍ أو رسولٍ. وبأتي حديثُ

(2)

: "أنهُ يسلِّمُ الراكبُ على الماشي، والماشي على القاعدِ، والقليلُ على الكثيرِ". ويُؤْخَذُ منْ مفهومِ قولِه: حقُّ المسلمِ على المسلم أنهُ ليسَ للذميِّ حقٌّ في ردِّ السلامِ، وما ذكرَ معهُ. ويأتي

(3)

حديثُ: "لا تبدؤُوا اليهودَ والنصارَى بالسلامِ"، ويأتي الكلامُ.

وقولُه: "إذا لقيتَه" يدلُّ أنهُ لا يسلِّمُ عليهِ إذا فارقَه لكنَّه قدْ ثبتَ حديثُ: "إذا قعدَ أحدُكم فليسلِّمْ، وإذا قامَ فلْيسلِّمْ، [وليستِ]

(4)

الأُولى بأحقَّ منَ الآخرةِ"

(5)

، فلا يعتبرُ مفهومُ إذا لقيتَه، ثمَّ المرادُ بلقيه وإنْ لم يطلْ بينَهما الافتراقُ لحديثِ أبي داودَ

(6)

: "إذا لقيَ أحدُكم صاحبُه فليسلِّمْ عليهِ، فإنْ حالَ بينَهما شجرةٌ أو جدارٌ ثمَّ لقيهُ فليسلِّمْ عليه". وقالَ أنسٌ

(7)

: كانَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يتماشونَ، فإذا لقيتْهم شجرةٌ أوْ أكَمةٌ تفرَّقُوا يمينًا وشمالًا، فإذا الْتَقَوْا من ورائِها يسلِّمُ بعضُهم على بعضٍ.

الثانيةُ: "وإذا دعاكَ فأجِبْه"، ظاهرُه عمومُ [حقيةِ]

(8)

الإجابةِ في كلِّ دعوةٍ يدعُوه بها، وخصَّها العلماءُ بإجابةِ دعوةِ الوليمةِ ونحوِها، والأَوْلَى أنْ يُقَالَ: إنَّها في دعوةِ الوليمةِ واجبةٌ وفيما عَدَاها مندوبةٌ لثبوتِ الوعيدِ على مَن لم يجبِ في الأُولى دونَ الثانيةِ.

والثالثةُ: قولُه: "وإذا استنصَحَكَ" أي طلبَ مِنْكَ النصيحةَ "فانصحْهُ"، دليل

(1)

برقم (8/ 1363) من كتابنا هذا.

(2)

برقم (7/ 1362) من كتابنا هذا.

(3)

برقم (9/ 1364) من كتابنا هذا.

(4)

في (أ): "فليست".

(5)

أخرجه أبو داود رقم (5208)، والترمذي رقم (2706)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(369)، والبخاري في "الأدب المفرد"(1008). وأحمد (2/ 230، 287، 439). ورواية رزبن في "جامع الأصول"(6/ 593).

وهو حديث حسن.

(6)

في "السنن"(5200)، وهو حديث صحيح.

(7)

أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد"(8/ 34).

(8)

في (أ): "حقيقة".

ص: 133

على وجوب نصيحةِ مَنْ يستنصحُ، وعدمِ الغشِّ لهُ، وظاهرهُ أنها لا يجبُ نصيحةٌ إلا عندَ طَلَبِها. [والنصحُ]

(1)

بغيرِ طلبٍ مندوبٌ، لأنهُ منَ الدلالةِ على الخيرِ والمعروفِ.

الرابعةُ: قولُه: "وإذا عطسَ فحمِدَ اللَّهَ فشمِّتْهُ" بالسينِ المهملةِ والشينِ المعجمةِ، قال ثعلبٌ: يقالُ [شمتُّ]

(2)

العاطسَ [وسمَّتهُ]

(3)

إذا دعوتُ لهُ بالهدَى، وحسنِ السَّمْتِ المستقيمِ، قالَ: والأصلُ فيهِ السينُ المهملةُ، فقلبتْ شينًا معجمةً. فيهِ دليلٌ على وجوبِ التشميتِ للعاطسِ الحامدِ. وأما الحمدُ على العُطاسِ فما في الحديثِ دليلٌ على وجوبهِ، قالَ النووي

(4)

: إنهُ متفقٌ علَى استحبابهِ. وقدْ جاءَ كيفيةُ الحمدِ، وكيفيةُ تشميت العاطس، وكيفيةُ جوابِ العاطسِ، فيما أخرجَهُ البخاري

(5)

منْ حديثٍ أبي هريرةَ عنهُ صلى الله عليه وسلم: "إذا عطسَ أحدُكم فليقلْ الحمدُ للَّهِ، وليقلْ لهُ أخوهُ أو صاحبُه: يرحمُكَ اللَّهُ، وليقلْ هوَ: يهديْكُم اللَّهُ ويصلحُ بالَكُمْ". وأخرجَه أبو داودَ

(6)

وغيرهُ بإسنادٍ صحيحِ. وفيهِ زيادةٌ منْ حديثٍ أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "إذا عطسَ أحدُكم فليقلْ: الحمدُ للَّهِ على كلِّ حالٍ، وليقلْ لهُ أخوهُ أو صاحبُه: يرحمُكَ اللَّهُ، ويقولُ هو: يهدْيكُم اللَّهُ ويُصْلِحُ بالَكُمْ"، أي شأنَكُم. وإلى هذا الجوابِ ذهبَ الجمهورُ. وذهبَ الكوفيونَ إلى أنهُ يقولُ: يغفرُ اللَّهُ لنا ولكمُ. [بدليل ما]

(7)

أخرجَهُ الطبرانيُّ

(8)

عن ابن مسعودٍ، وأخرجَهُ البخاري في الأدبِ المفردِ

(9)

[بلفظ: يغفر الله لنا ولكم]

(10)

. وقيلَ: يتخيَّرُ أي اللفظينِ [أحب]

(11)

. وقيلَ: يجمعُ بينَهما. وإلى جواب التشميت بما ذكرَ ذهبتِ الظاهريةُ وابنُ العربيِّ، وأنهُ يجبُ

(1)

في (أ): "والنصيح".

(2)

في (أ): "سمته".

(3)

في (أ): "شمتهُ".

(4)

في "الأذكار"(ص 427).

(5)

في "صحيحه" رقم (6224).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5033)، والنسائي (232) في "اليوم والليلة".

(6)

في "السنن" رقم (5033).

(7)

زيادة من (أ).

(8)

في "الكبير والأوسط" كما في "مجمع الزوائد"(8/ 57) وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.

(9)

رقم (933/ ث 213) بإسناد صحيح عن ابن عمر.

(10)

زيادة من (أ).

(11)

زيادة من (أ).

ص: 134

على كلِّ سامِعٍ. ويدلُّ لهُ ما أخرجَهُ البخاري

(1)

منْ حديثٍ أبي هريرةَ: "إذا عطسَ أحدُكم وحمدَ اللَّهَ كانَ حقًّا على كلِّ مسلمٍ يسمعهُ أنْ يقولَ: يرحمُكَ اللَّهُ"، وكأنهُ مذهبُ أبي داود صاحبِ السننِ، فإنهُ أخرجَ عنهُ ابن عبد البر بسندٍ جيِّدٍ أنهُ كانَ في سفينةٍ فسمعَ عاطِسًا على الشطِّ [حمد الله]

(2)

، فاكترَى قاربًا بدرهمٍ حتَّى جاءَ إلى العاطسِ فشمَّتهُ، ثمَّ رجعَ، فَسُئِلَ عنْ ذلكَ فقالَ لعلَّهُ يكونُ مجابَ الدعوةِ، فلمَّا رقدُوا سمعُوا قائلًا يقولُ لأهلِ السفينةِ إنَّ أبا داودَ اشتَرى الجنةَ من اللَّهِ بدرهمٍ انتهَى

(3)

. ويحتملُ أنهُ إنَّما أرادَ طلبَ الدعوةِ كما قالَه ولم يكنْ يراهُ واجبًا، قالَ النووي

(4)

: ويُستحبُّ لمنْ حضَر مَنْ عطَس فلمْ يحمدْ أنْ يذكِّرَهُ الحمدَ ليحمدَ فيشمِّتَه وهوَ منْ باب النصحِ والأمرِ بالمعروفِ. ومنْ آدابِ العاطسِ ما أخرجَهُ الحاكمُ

(5)

والبيهقي

(6)

منْ حديثٍ أبي هريرةَ مرفوعًا: "إذا عطسَ أحدُكم فليضعْ كفَّيْهِ على وجْهِهِ، وليخفضْ بها صوتَه"، وأن يزيدَ بعدَ الحمدِ للَّهِ كلمةَ ربِّ العالمينَ، فإنهُ أخرجَ الطبراني

(7)

منْ حديثٍ ابن عباسٍ مرفوعًا: "إذا عطسَ أحدُكم فقالَ: الحمدُ للَّهِ قالتَ الملائكةُ: ربِّ العالمينَ، فإذا قالَ: ربِّ العالمينَ قالتِ الملائكةُ: رحمكَ اللَّهُ"، وفيهِ ضعْفٌ. ويشرعُ أنْ يشمِّتَهُ ثلاثا إذا كرَّرَ العُطاسَ، ولا يزيدُ عليها لما أخرجَه أبو داودَ

(8)

[من حديث]

(9)

أبي هريرةَ

(1)

في "الأدب المفرد"(928) وفي "صحيحه" رقم (6226).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

بما أن أبا داود قد سمع العاطس وهو في السفينة فلم يشمته وهو فيها وفي إمكانه أن يسمعه صوته كما أسمعه ذاك عطاسه من غير إجهاد وكيف يستحق الجنة في مقابلة ذلك الدرهم الذي أنفقه في غير مصلحة وهل الجنة ثمنها درهم؟ ألا أن ثمنها الإيمان والعمل الصالح وتطهير النفوس وحسن الخلق.

(4)

"الأذكار"(ص 432).

(5)

في "المستدرك"(4/ 264). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

(6)

أخرجه البيهقي في "الأدب"(322) بنحوه.

(7)

كما في "مجمع الزوائد"(8/ 57) وقال الهيثمي: فيه عطاء بن السائب وقد اختلط.

(8)

في "السنن" رقم (5034)، وهو حديث حسن.

(9)

في (ب): "عن".

ص: 135

مرفُوعًا: "إذا عطسَ أحدُكم فليشمِّتْهُ جليسُه، فإنْ زادَ على ثلاثِ فهوَ مزكومٌ، ولا يشمَّتُ بعدَ ثلاثٍ". قالَ ابنُ أبي جمرةَ: في الحديثِ دليلٌ على عِظَم نعمةِ اللَّهِ تعالى على العاطسِ، يؤخذُ ذلكَ مما رتبَ عليهِ منَ الخيرِ، وفيهِ إشارةٌ إلى عظمةِ أفضلِ،

(1)

اللَّهِ تعالى علَى عَبْدِهِ، فإنهُ أذهبَ عنهُ الضررَ بنعمةِ العُطَاسِ، ثمَّ شرعَ لهُ الحمدَ الذي يثابُ عليهِ، ثمَّ الدعاءَ بالخيرِ لمنْ يشمِّتهُ بعدَ الدعاءِ منهُ لهُ بالخيرِ، ولما كانَ العاطسُ قدْ حصلَ لهُ بالعطاسِ نعمةٌ ومنفعةٌ بخروج الأبخرةِ المحتقنةِ في دماغهِ التي لو بقيتْ فيهِ أحدثتْ أدواءَ عَسِرةً شُرعَ لهُ حمدُ اللهِ على هذهِ النعمةِ معَ بقاءِ أعضائه على هيئتِها والتئامِها بعدَ هذهِ الزلزلةِ التي هيَ للبدنِ كزلزلةِ الأرضِ.

ومفهومُ الحديثِ أنهُ لا يشمتُ غيرُ المسلمِ كما عرفتَ. وقدْ أخرجَ أبو داودَ

(2)

والترمذيُّ

(3)

وغيرُهما

(4)

بأسانيدَ صحيحةٍ منْ حديثٍ أبي موسَى قالَ: كانَ اليهودُ يتعاطسونَ عندَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يرجونَ أنْ يقولَ لهم: يرحمُكم اللَّهُ، فيقولُ:"يهديكمُ الله ويصلحُ بالَكُم"، ففيهِ دليلٌ على أنهُ يقالُ لهم ذلكَ ولكنْ إن حمد الله.

الخامسةُ: قولُه: "وإذا مرضَ فعدْهُ"، فيه دليلٌ على وجوبِ عيادةِ المسلم للمسلمِ، وجزمَ البخاريُّ بوجوبِها. قيلَ: يحتملُ أنَّها فرضُ كفايةٍ. وذهبَ الجمهورُ إلى أنَّهّا مندوبةٌ. ونقلَ النوويُّ الإجماعَ على عدمِ الوجوبِ. قالَ المصنفُ: يعني على الأعيانِ. وإذا كانت حقًّا للمسلمِ على المسلمِ فسواءٌ فيهِ منْ يعرفُه ومَنْ لا يعرفُه، وسواءٌ القريبُ وغيرهُ، وهوَ عامٌّ لكل مرضٍ، وقد استثنَى منهُ الرمدَ ولكنَّه قدْ أخرجَ أبو داودَ

(5)

منْ حديثٍ زيدِ بن أرقمَ: "قالَ: عادني

(1)

في (أ): "نعمة".

(2)

في "السنن" رقم (5038).

(3)

في "الأدب" رقم (2740) وقال: حسن صحيح.

(4)

وأخرجه البخاري في "الأدب" رقم (940).

وحديث أبي موسى صحيح، والله أعلم.

(5)

في "السنن" رقم (3102). وقال: حديث زيد بن أرقم هذا حديث حسن، قاله المنذري.

وذكر بعضهم عيادة المضمر عليه. وقال: هذا الحديث ردٌّ لما يعتقده عامة الناس أنه لا يجوز عندهم زيارة من مرض من عينيه. وزعموا أن ذلك لأنهم يرون في بيته ما لا يراه هو. وقال: حالة الإغماء أشد من حالة الرمد. وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم جابرًا وهو مغمى عليه - وبقي في داره حتى أفاق، وفعله صلى الله عليه وسلم هو الحجة.

ص: 136

رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منْ وجعِ بعيني" وصحَّحَهُ الحاكمُ

(1)

، وأخرجَهُ البخاريُّ

(2)

في الأدبِ المفردِ، وظاهرُ العبارةِ ولوْ في أولِ المرضِ إلَّا أنهُ أخرجَ ابنُ ماجهْ

(3)

منْ حديثِ أنسٍ: "كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يعودُ إلا بعدَ ثلاثٍ"، وفيهِ راوٍ متروكٌ. ومفهومهُ كما عرفتَ دالٌّ على [أنهُ لا يعادُ الذميُّ]

(4)

، إلَّا أنهُ قدْ ثبتَ أنهُ صلى الله عليه وسلم

(5)

عادَ خادمهُ الذميَّ، وأسلمَ ببركةِ عيادتِه صلى الله عليه وسلم، وكذلكَ

(6)

زارَ عمَّهُ أبا طالبٍ في مرضِ موتهِ وعرضَ عليهِ كلمةَ الإسلامِ.

السادسةُ: قولُه: "وإذا ماتَ فاتبعْهُ"، دليلٌ على وجوب تشييعِ جنازةِ المسلمِ معروفًا كانَ أوْ غيرَ معروفٍ.

‌انظر لمن هو دونك تعرف نعمة الله

2/ 1357 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اتْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيكُمْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(7)

. [صحيح]

(1)

في "المستدرك"(1/ 341).

(2)

رقم (532).

قلت: وأخرجه أحمد (4/ 375) وقال الحافظ ابن حجر: سند أحمد جيد.

(3)

في "السنن"(1437).

• وقال في الزوائد: في إسناده مسلمة بن علي. قال فيه البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة: منكر الحديث، ومن منكراته حديث:(كان لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث أيام).

قال أبو حاتم: هذا منكر باطل. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة واتفقوا على تضعيفه.

قال السنديّ: قلت: لكن الأحاديث ذكرها السخاوي في "المقاصد الحسنة".

وقال: يتقوى بعضها ببعض. وكذلك أخذ به بعض التابعين.

(4)

زيادة من (ب).

(5)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5656)، وأبو داود في "سننه" رقم (3095).

(6)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5656) عن سعيد بن المسيب عن أبيه لما حُضرَ أبو طالب جاءه النبي صلى الله عليه وسلم.

(7)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(6490) بنحوه ومسلم في "صحيحه" رقم (9/ 2963).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2513) وقال: هذا حديث صحيح، وابن ماجه رقم (4142).

ص: 137

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انظُروا إلى مَنْ هوَ أسفلَ منكمْ، ولا تنظُروا إلى مَنْ هوَ فوقَكم، فهو أجْدَرُ) بالجيمِ والدالِ المهملةِ فراء [أي]

(1)

أحقُّ (أنْ لا تزدَرُوا) تحتَقِروا (نعمةَ اللَّهِ عليكمْ). [علةٌ للأمرِ والنهي معًا]

(2)

(متفقٌ عديهِ). الحديثُ إرشادُ للعبدِ إلى ما يشكرُ بهِ النعمةَ.

والمرادُ بمنْ هوَ أسفلَ منَ الناظرِ في الدنيا فينظرُ إلى المبتلَى بالأسقامِ، وينتقلُ منهُ إلى ما فضلَ بهِ عليهِ منَ العافيةِ التي هي أصلُ كلِّ إنعامٍ، وينظرُ إلى مَنْ في خَلْقِهِ نقصٌ منْ عَمَى أو صممٍ أوْ بَكَمٍ، وينتقلُ إلى ما هوَ فيهِ منَ السلامةِ عنْ تلكَ العاهاتِ التي تجلبُ الهمَّ والغمَّ، وينظرُ إلى مَنِ ابتُلِيَ بحب الدنيا وجمع حطامها والامتناعِ عما يجبُ عليه منَ الحقوقِ فيعلم أنهُ قدْ فضلَ [منها عليه من الحقوق فيعلم أنه قد فضل عليه]

(3)

بالإقلالِ، [وأنعمَ]

(4)

عليهِ بقلةِ تبعةِ الأموالِ في الحالِ والمآلِ، وينظرُ إلى منِ ابتُلِيَ بالفقر المدقعِ أو [بالدَّيْنِ]

(5)

المفظِع [ويعلمُ]

(6)

ما صارَ إليهِ منَ السلامةِ منَ الأمريْنِ وتقرُّ بما أعطاهُ ربُّه العَيْنُ، وما منْ مبتلَى في الدنيا بخيرٍ أو شرٍّ إلا ويجدُ مَنْ هو أعظمُ منهُ بليةً فيتسلَّى بهِ ويشكرُ ما هوَ فيهِ مما يرى غيرَه ابُتلي بهِ، وينظرُ مَنْ هوَ فوقَه في الدينِ فيعلمُ أنهُ منَ المفرِّطينَ، فبالنظرِ الأولِ يشكرُ ما للَّهِ عليهِ منَ النعمِ، وبالنظرِ الثاني يستحْيي منْ مولاهُ ويقرعُ بابَ المتابِ بأناملِ الندمِ فهوَ بالأولِ مسرورٌ بنعمة اللَّهِ [عليه من النعم]

(7)

، وفي الثاني منكسرُ النفسِ حياءً منْ مولاهُ.

وقدْ أخرجَ مسلمٌ

(8)

منْ حديثٍ أبي هريرةَ مرفُوعًا: "إذا نظرَ أحدُكم إلى مَنْ فضلَ عليهِ في المالِ والخلقِ فلينظرْ إلى مَنْ هوَ أسفلَ منهُ".

‌البر حسن الخلق

3/ 1358 - وَعَنِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

زيادة من (أ).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في (أ): "المدين".

(6)

في (أ): "فليعلم".

(7)

زيادة من (أ).

(8)

في "صحيحه" رقم (2963).

ص: 138

عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْم، فَقَالَ:"الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، والإِثْمُ مَا حَاكَ في صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

‌ترجمة النواس

(وعنِ النواسِ)

(2)

بفتحِ النونِ، وتشديدِ الواوِ، وسينٍ مهملةٍ (ابن سمعانَ)، بفتحِ السينِ المهملةِ وكسْرِها، وبالعينِ المهملةِ. وردَ أبوه سمعانُ [الكلابيُّ]

(3)

على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وزوَّجه ابنته، وهي التي تعوَّذتْ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. سكنَ النواسُ الشامَ وهوَ معدودٌ منْهم. وفي صحيحِ مسلمٍ [نسبتُه]

(4)

إلى الأنصارِ: قالَ المازريُّ [والقاضي]

(5)

عياضٌ: المشهورُ أنهُ كلابيٌّ، ولعلَّه حليفُ الأنصارِ (قالَ: سألتُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن البرِّ والإثمِ، فقالَ: البرِّ حسن الخلقِ، والإثمُ ما حاكَ في صدْرِكَ، وكرِهتَ أنْ يطَّلعَ عليهِ الناسُ. أخرجَه مسلمٌ). قالَ النوويُّ

(6)

: قال العلماءُ: البر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى الصدقة، وبمعنى اللطف والمبرَّة، وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعات، وهذه الأمور هي [مجامع]

(7)

حسنُ الخلقِ.

قال القاضي

(8)

عياض: حسن الخلق مخالقةُ الناسِ بالجميلِ، والبِشْرِ والتوددِ لهم، والإشفاقِ عليهم، واحتمالِهم، والحلم عنْهم، والصبرِ عليهم في المكارهِ، وتركِ الكِبْرِ والاستطالةِ عليهم، ومجانبةِ الغلظةِ والغضبِ والمؤاخذةِ. وحكَى فيهِ خلافًا هلْ هوَ غريزةٌ أو مكتَسبٌ؟ والصحيحُ أنهَّ منهُ ما هوَ غريزةٌ، ومنهُ ما هوَ مكتَسَبٌ بالتخلُّقِ والاقتداءِ بغيرهِ. [و]

(9)

قالَ الشريفُ في التعريفاتِ

(10)

: [قيلَ]

(11)

: حسنُ

(1)

في "صحيحه"(14/ 2553).

(2)

انظر ترجمته في: "الاستيعاب" رقم (2695)، "الإصابة" رقم (8845) و"أسد الغابة" رقم (5314)، و"التاريخ الكبير"(7/ 126).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (أ): "نسبه".

(5)

زيادة من (ب).

(6)

ذكره النووي في شرح مسلم" (16/ 111).

(7)

في (أ): "تجامع".

(8)

ذكره النووي في "شرح مسلم"(16/ 111).

(9)

زيادة من (ب).

(10)

في "التعريفات"(ص 109). ونقله الغزالي في "الإحياء"(3/ 53).

(11)

زيادة من (ب).

ص: 139

الخلقِ هيئةٌ راسخةٌ تصدرُ عنْها الأفعالُ المحمودةُ بسهولةٍ [وُيسر]

(1)

منْ غيرِ حاجةٍ إلى [تكلُّف و]

(2)

إعمالِ فكرٍ وروَّيةٍ، انتهَى. قيلَ: ويجمعُ حسنَ الخلقِ قولُه:

"طلاقةُ الوجْهِ وكفُّ الأذى

وبَذْلُكَ المعروفِ حسنُ الخلقِ"

(3)

.

وقولُه: "والإثمُ ما حاكَ في صدركَ، وكرهتَ أنْ يظَلعَ عليهِ الناسُ"، [أي: تحركَ الخاطرُ في صدْرِكَ، وترددتَ]

(4)

هلْ تفعلُه [أو لا تفعلهُ، فلم ينشرح له الصدر لخشية اللَّوم من الله تعالى، أو من الناس، ولم يحصل الطمأنينة في فعله]

(5)

لكونه [إثمًا]

(6)

[لا لومَ فيهِ، أو تتركُه خشيةَ اللَّومِ عليهِ منَ اللَّهِ سبحانه وتعالى ومنَ الناسِ، لو فعلْتَه فلمْ ينشرحْ بهِ الصدرُ، ولَا حصلتِ (الطمأنينةُ بفعلهِ خوفَ كونِه ذنبًا)]

(7)

، ويفهمُ منهُ أنهُ ينبغي تركُ ما ترددَ إباحته [أو حظره]

(8)

. وفي معناهُ حديثُ: "دعْ ما يريبكَ إلى ما لا يريبكَ"، أخرجَهُ البخاريُّ

(9)

منْ حديثٍ الحسنِ بن علي. وفيهِ دليلٌ على أن الله تعالَى قدْ جعلَ للنفسِ إدراكًا لما لا يحلُّ فعلُه وزاجرًا عنْ فعلهِ [بمجرد النفس]

(10)

.

‌لا يتناجى اثنان دون الثالث

4/ 1359 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حَتى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(11)

. [صحيح]

(1)

في (ب): وتيسَّر.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

ويؤيد هذا البيت الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (144/ 2626) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".

(4)

في (أ): (أي تردد في صدرك)، والمثبت من (ب).

(5)

و

(6)

زيادة من (أ).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

زيادة من (أ).

(9)

أخرجه الترمذي رقم (2518)، والنسائي (8/ 327)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 13) و (4/ 99)، والدارمي (2/ 245)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2032). وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي. وكذلك صحَّحه ابن حبان رقم (512 - موارد) وقد وهم المؤلف رحمه الله تعالى بعزوه للبخاري من حديث الحسن بن علي.

(10)

زيادة من (أ).

(11)

البخاري رقم (6290)، ومسلم رقم (37/ 2184).

ص: 140

(وعنِ ابن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذا كنتمُ ثلاثةً فلا يتناجي اثنانِ)[دون الثالث]

(1)

. المناجاةُ: المشاورةُ والمسارَّةُ ([دونَ الآخرِ]

(2)

، حتى تختلطوا بالناسِ)، وعلَّلَه بقولهِ:(منْ أجلِ أن ذلكَ يحزنُه. متفقٌ عليه. واللفظُ لمسلمٍ). فيهِ النَّهْيُ عنْ تناجي الاثنينِ إذا كانَ معَهما ثالثٌ، لا إذا كانُوا أكثر من ثلاثةٍ لانتفاءِ العلَّةِ التي نصَّ عليها، وهيَ أنهُ يحزنُه انفرادُه وإيهامُ أنهُ ممنْ لا يؤهلُ للسرِّ، أو يوهمهُ أن التناجي منْ أجلهِ. ودلَّت العلةُ على أنَّهم إذا كانُوا أربعةً فلا نهيَ عن انفرادِ اثنينِ بالمناجاةِ لفقدِ العلةِ. وظاهرُ الحديث عام لجميعِ الأحوالِ في سفر وحضر. وإليهِ ذهب ابنُ عمرَ

(3)

ومالكٌ وجماهيرُ العلماءِ، وادَّعى بعضُهم

(4)

نسخَه ولا دلَّيَلَ عليهِ. وأما الآياتُ في سورةِ المجادلةِ

(5)

فهيَ في نهي اليهودِ عن التناجي كما أخرجَهُ عبدُ بنُ حميدٍ (4)، وابنُ المنذر

(6)

عنْ مجاهدٍ في قولهِ تعالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} الآية، قالَ: اليهودُ. وأخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ

(7)

عنْ مقاتلٍ بن حيانَ قالَ: "كانَ بينَ اليهودِ وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم موادعة، فكانُوا إذا مرَّ بهمْ رجلٌ منْ أصحاب رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جلسُوا يتناجونَ بينَهم حتَّى يظنَّ المؤمنُ أنَّهم يتناجون بقتلِه، أَو بما [يكرهه]

(8)

، فإذا [رآهم]

(9)

المؤمنُ خشيَهم فتركَ طريقَه عليهم فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن النَّجْوى، فلم ينتَهوا فأنزلَ اللَّهُ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} .

‌من جلس في مكان مباح فهو أحق به

5/ 1360 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(10)

. [صحيح]

(1)

زيادة من (أ).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

ذكره الحافظ في "الفتح"(11/ 63).

(4)

كما في "الدر المنثور"(8/ 79).

(5)

سورة المجادلة: الآية 9.

(6)

كما في "الدر المنثور"(8/ 79).

(7)

كما في "الدر المنثور"(8/ 80).

(8)

في (ب): "يكره".

(9)

في (ب): "رأى".

(10)

أخرجه البخاري رقم (6270).

ومسلم رقم (28/ 2177).

ص: 141

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما قَالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يقيمُ الرجلَ الرجلَ منْ مجلسِه ثمَّ يجلسُ فيهِ، ولكنْ تفسَّحوا وتوسَّعوا. متفقٌ عليهِ). وفي لفظٍ [لمسلمٍ]

(1)

: "لا يقيمنَّ" بصيغةِ النَّهي مؤكَّدًا، فلفظُ الخبرِ في هذا الحديثِ الذي أَتَى بهِ المصنفُ في معنَى النَّهْي، وظاهرُه التحريمُ، فمنْ سبقَ إلى موضعٍ مباحٍ منْ مسجدٍ أو غيرهِ لصلاةٍ أو غيرِها منَ الطاعاتِ فهوَ أحقُّ بهِ، ويحرمُ على غيرِه أنْ يقيمَهُ منهُ، إلا أنهُ قدْ أفادَ حديثُ:"منْ قامَ منْ مجلسِه ثمَّ رجعَ إليهِ فهوَ أحقُّ بهِ"، أخرجَهُ مسلمٌ

(2)

: أنهُ إذا كانَ قدْ سبق فيهِ حق لأحدٍ [بقعودِه]

(3)

فيهِ منْ مصلٍّ أو غيرهِ، ثمَّ فارقَه [لأيِّ حاجةٍ]

(4)

، ثمَّ عادَ إليه وقد قعدَ فيهِ أحدُ كان لهُ أنْ يقيمَه منهْ، وإلى هذا ذهب الهادويةُ والشافعيةُ. وقالت الشافعية: لا فرقَ في المسجدِ بينَ أنْ يقومَ ويتركَ فيهِ سجادةً أو نحوَها أوْ لا، فإنهُ أحقُّ بهِ. قالُوا: وإنَّما يكونُ أحقَّ بهِ في تلكَ الصلاةِ وحدَها دونَ غيرِها. والحديثُ يشملُ مَنْ قعدَ في موضعٍ مخصوصٍ لتجارةٍ أو حرفةٍ أو غيرِهِما، [قالُوا: وكذلكَ]

(5)

منِ اعتادَ في المسجدِ محلًا يدرسُ فيهِ فهوَ أحقُّ بهِ، [قالَ المهديُّ]

(6)

: إلى العشيِّ. [وقالَ الغزاليُّ]

(7)

: إلى الأبدِ ما لمْ يضربْ. وأما إذا قامَ القاعدُ منْ محلِّه لغيرِه فظاهرُ الحديثِ جوازهُ، ورُوِيَ عن ابن عمرَ أنهُ كانَ إذا قامَ لهُ الرجلُ منْ مجلسِه لا يقعدُ فيهِ، وحُمِلَ على أنهُ تركَه تورُّعًا لجوازِ أنه قامَ له حياءً منْ غيرِ طيبِة نفسٍ.

‌لعق الأصابع والصحفة

6/ 1361 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(8)

. [صحيح]

(1)

في (أ): "مسلم".

(2)

في "صحيحه" رقم (2179).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4853)، وابن ماجه رقم (3717).

(3)

في (أ): "يتعوده".

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "كذا".

(6)

في (أ): "قيل".

(7)

في (أ): "وقيل".

(8)

أخرجه البخاري رقم (5456)، ومسلم رقم (2031)"129".

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3847)، وابن ماجه رقم (3269).

ص: 142

(وعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذا أكلَ أحدُكم طعَامًا فلا يمسحْ يدَه حتَّى يلْعقَها) بنفسِه، (أو يُلْعِقَها) غيرَه. الأولُ بفتح حرف المضارعَةِ منْ لعقَ، والثاني [بضمِّه]

(1)

من ألعقَ [رباعي والأول ثلاثي]

(2)

(متفقٌ عليهِ). والحديثُ دليلٌ على عدمِ [تعيينِ]

(3)

غسلِ اليدِ منَ الطعامٍ، وأنهُ يجزئُ مسحُها، وفيهِ دليل على أنهُ يجبُ لعقُ اليدِ أو إلعاقُها الغيرَ، وعلَّلهُ في الحديثِ:"بأنهُ لا يدري في أيِّ طعامِه البركةُ" كما أخرجَهُ مسلمٌ

(4)

أنهُ صلى الله عليه وسلم: "أمرَ بلعقِ الأصابعِ والصحفةِ وقالَ: "إنكمُ لا تدرونَ في أيٍّ البركةُ"، "وكذلكَ أمرَ صلى الله عليه وسلم بالتقاطِ اللقمةِ [من الأرض]

(5)

ومسْحِها وأكْلِها" كما في روايةٍ

(6)

لمسلمٍ أيضًا بلفظٍ: "إذا وقعتْ لقمةُ أحدِكم فلْيُمِطْ ما بها منَ الأذى، وليأكلْها، ولا يدعْها للشيطانِ". وهذهِ الأمورُ منَ اللعقِ والإلعاقِ، ولعقِ الصحفةَ، وأكلِ ما يسقطُ، ظاهرُ الأوامر وجوبها. وإلى هذا ذهبَ أبو محمدِ بن حزمٍ، وقالَ: إنَّها فرضٌ. والبركةُ هي النماءُ والزيادةُ والخيرُ، والمرادُ هنا ما يحصلُ بهِ التغذيةُ وتسلمُ عاقبتُه من أذَى والتقوى علَى طاعةِ اللَّهِ وغيرِ ذلكَ. وهذهِ البركةُ قدْ تكونُ في لعق اليد، أو لعقِ الصحفةِ، أوْ أكْلِ ما [سقط على الأرض، وإذا]

(7)

كانَ علَّلَ أكْلَ الساقطِ بأنهُ لا يدعُها للشيطانِ. والمرادُ منْ قولهِ يدَه هوَ أصابعُ يدهِ الثلاثِ كما وردَ أنهُ

(8)

صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاثِ أصابعَ ولا يزيدُ الرابعةَ والخامسةَ إلا إذا احتاجَهما، بأنْ يكونَ الطعامُ غيرَ مشتدٍّ أو نحو ذلك. وقدْ أخرجَ سعيدُ بنُ منصورٍ

(9)

: "أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أكلَ أَكَلَ بخمسٍ" وهوَ مرسلٌ. وفي الحديث دلالةٌ على أنهُ لا بأسَ بإلعاقِ الغيرِ أصابعَه منْ زوجةٍ وخادمٍ وولدٍ وغيرِهم، فإنْ تنجستِ اللقمةُ الساقطةُ فيزيلُ ما فيها منْ نجاسةٍ إنْ أمكنَ، وإلا أطعَمَها حيوانًا، ولا يدعُها للشيطانِ كما [قاله]

(10)

(1)

في (أ): "بضمها".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في "صحيحه" رقم (2033).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

في "صحيحه" رقم (2033).

(7)

في (ب): "ما يسقط من لقمةٍ وإنْ".

(8)

أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (131 و 132/ 2032).

(9)

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(8/ 782 رقم 4517) عن الزهري.

(10)

في (ب): "ذكره".

ص: 143

النوويُّ

(1)

بناءً على جوازِ إطعامِ [الحيوان الطعام]

(2)

المتنجس، وهو إجْماعُ الأمة خلَفًا عنْ سلفٍ. وتقدَّم الكلامُ في ذلكَ.

‌يسلِّم الصغير الكبير

7/ 1362 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِيُسَلِّمِ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكثِيرِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

، وَفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ

(4)

: "وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي". [صحيح]

(وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ليسلِّمِ الصغير علَى الكبيرِ، والمارُّ على القاعد، والقليلُ على الكثير. متفقٌ عليه. [وفي رواية لمسلمٍ) منْ روايةٍ أبي هريرةَ]

(5)

: (والراكبُ على الماشي)، بلْ هوَ في البخاريِّ. وقالَ المصنفُ: إنهُ لم يقعْ تسليمُ الصغيرِ على الكبيرِ في صحيحِ مسلمٍ، فيشكلُ جعل الحديثِ منَ المتفقِ عليهِ. وظاهرُ الأمرٍ الوجوبُ. وقالَ المازريُّ

(6)

: إنهُ للندبِ. قالَ: فلوْ تركَ المأمورُ بالابتداءِ فبدأَ الآخرُ كانَ المأمورُ تارِكًا للمستحَبِّ والآخرُ فاعلًا للسنةِ.

قلتُ: والأصلُ في الأمرِ الوجوبُ، وكأنهُ صرفَه عنهُ الاتفاقُ على عدمِ وجوب البداءةِ بالسلام. والحديثُ فيهِ شرعية ابتداءِ السلامِ منَ الصغيرِ على الكبيرَ. قالَ ابنُ بطالٍ

(7)

عن المهلَّبِ: وإنَّما شُرعَ للصغيرِ أنْ يبتدئَ الكبيرَ لأجلِ حقِّ الكبيرِ، ولأنهُ أُمِرَ بتوقيرهِ والتواضعِ لهُ. ولو تعارضَ الصغرُ المعنويُ والحسيُّ كأنْ يكونُ الأصغرُ أعلمَ مثلًا. قالَ المصنفُ: لم أرَ فيهِ نقلًا، والذي يظهرُ اعتبارُ السنِّ لأنَّ الظاهرَ تقديمُ الحقيقةِ على المجازِ. وفيهِ شرعيةُ ابتداءِ المارِّ بالسلامِ

(1)

في "المجموع شرح المهذب".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6231)، ومسلم رقم (2160).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5197) و (5199)، والترمذي (2704) و (2705).

(4)

في "صحيحه" رقم (2160).

(5)

في (أ): "ولمسلم".

(6)

ذكره الحافظ في "الفتح"(11/ 16).

(7)

ذكره الحافظ في "الفتح"(11/ 17).

ص: 144

للقاعدِ. قال المازريُّ

(1)

: لأنهُ قدْ يتوقعُ القاعدُ منهُ الشرَّ، ولا سيِّما إذا كانَ راكِبًا، فإذا ابتدأَه بالسلامِ أمِنَ منهُ، وأنسَ إليهِ، أو لأنَّ في التصرفِ في الحاجاتِ امتهانًا فصارَ للقاعدِ مزيةٌ فأمرَ [المارَّ]

(2)

بالابتداءِ، أو لأنَّ القاعدَ يشقُّ عليهِ مراعاةُ المارِّينَ معَ كثرتِهم فسقطتِ البداءةُ عنهُ للمشقةِ عليهِ، وفيهِ شرعيةُ ابتداءِ القليلِ بالسلامِ على الكثيرِ. وذلك لفضيلةِ الجماعةِ، أوْ لأنَّ الجماعةَ لو ابتدؤُوا لخِيفَ على الواحدِ الزهوُّ فاحتيطَ لهُ، لو مرَّ جمعٌ كثيرٌ على جمع قليلٍ، أو مرَّ الكبيرُ على الصغيرِ: قالَ المصنفُ: لم أرَ فيه نصًا. واعتبرَ النوويُّ

(3)

المرورَ فقالَ: الواردُ يبدأُ سواءٌ كانَ صغيرًا أو كبيرًا. وذكرَ الماورديُّ

(4)

أن منْ مشَى في الشوارعِ المطروقةِ كالسوقِ أنهُ لا يسلِّم إلا على البعضِ لأنهُ لو سلَّم على كلِّ منْ لقي لتشاغلَ به على المهمِّ الذي خرجَ لأجلهِ، وخرجَ بهِ عن العرفِ. وفيهِ شرعيةُ ابتداءِ الراكبِ على الماشي، وذلكَ لأنَّ للراكبِ مزيةً على الماشي، فعوَّضَ الماشيَ بأنْ يبدأهُ الراكبُ بالسلامِ احتياطًا على الراكبِ منَ الزهوِّ لو حازَ الفضيلتينِ، وأما إذا تلاقَى راكبانِ أو ماشيانِ فقدْ تكلَّم فيها المازريُّ

(5)

فقالَ: يبدأُ الأَدْنَى [منهما]

(6)

على الأعلَى قدْرًا في الدينِ إجلالًا لفضلِه، لأنَّ فضيلةَ الدينِ مرغَّبٌ فيها في الشرعِ، وعلَى هذَا لو التقَى راكبانِ ومركوبُ أحدِهما أعلَى في الجنسِ منْ مركوبِ الآخرِ كالجملِ والفرسِ فيبدأُ راكبُ الفرسِ، أو يُكْتَفَى بالنظرِ إلى أعلاهُما قدْرًا في الدينِ، فيبدأُ الذي [هوَ]

(7)

فوقَه، والثاني أظهرُ، كما لا ينظرُ إلى مَنْ يكونُ أعلاهُما قدْرًا منْ وجهةِ الدنيا إلَّا أنْ يكونَ [سلطانًا]

(8)

يُخْشى منهُ، وإذا تساوى المتلاقيانِ منْ كلِّ جهةٍ فكلٌّ منْهما مأمورٌ بالابتداءِ، وخيرُهما الذي يبدأُ بالسلامِ كما ثبتَ في حديثٍ

(9)

المتهاجرَيْنِ.

وقَدْ أخرجَ البخاريُّ في الأدبِ المفردِ

(10)

بسندِ صحيحٍ منْ حديثٍ جابرٍ:

(1)

ذكره الحافظ في "الفتح"(11/ 17).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

ذكره الحافظ في "الفتح"(11/ 17).

(4)

انظر: "الأذكار" للنووي (ص 409).

(5)

ذكره الحافظ في "الفتح"(11/ 16).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6077)، ومسلم في "صحيحه" رقم (2560).

(10)

رقم (994 ث 229).

ص: 145

(الماشيانِ إذا اجتمَعا فأيُّهما بدأَ بالسلامِ فهوَ أفضلُ". وأخرجَ

(1)

الطبرانيُّ بسندٍ صحيحٍ عن الأغرِّ المزنيِّ قالَ: قالَ لي أبو بكر: لا يسبقكَ أحدٌ بالسلام. وأخرجَ الترمذيُّ

(2)

منْ حديثٍ أبي أمامةَ مرفُوعًا: "أنَّ أَوْلَى الناسِ باللَّهِ مَنْ بدأَ بالسلامِ؛ وقالَ: حسن. [وأخرج]

(3)

الطبراني

(4)

[في]

(5)

حديثٍ: "قلْنا يا رسولَ اللَّهِ، إنا نلتقي فأيُّنا يبْدأُ بالسلامِ؟ قالَ: أطوعُكم للَّهِ تعالَى".

8/ 1363 - وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَبُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ

(6)

، وَالْبَيْهَقِي

(7)

. [صحيح]

(وعنْ عليٍّ رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يجزئُ عن الجماعةِ إذا مرُّوا أنْ يسلِّمَ أحدُهم، ويجزئ عن الجماعةِ أنْ يردَّ أحدُهم. رواة أحمدُ، والبيهقيُّ). فيهِ أنهُ يجزئُ تسليمُ الواحدِ عن الجماعةِ ابتداءً وردًّا. قالَ النوويُّ

(8)

: يُسْتَثْنَى منْ العموم بابتداء السلامِ منْ كانَ يأكلُ، أوْ يشربُ أوْ يجامعُ، أوْ كانَ في الخلاءِ، أوْ في الحمام، أوْ نائمًا، أوْ ناعِسًا، أو مصليًا

(9)

، أو مؤذِّنًا ما دامَ متلبّسًا بشيءٍ مما ذُكِرَ، إلَّا أَنَّ السلامَ على مَنْ كانَ في الحمامِ إنَّما كُرِهَ إذا لم يكنْ عليهِ إزارٌ، وإلَّا فلا كراهةَ، وأما السلامُ حالَ الخطبةِ في الجمعةِ [فيكرهُ]

(10)

للأمرِ بالإنصاتِ، فلو

(1)

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 32): رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح.

(2)

في "السنن"(2694) وقال: حسن.

قلت: وأخرجه أبو داود (5197)، وقال الحافظ: هذا حديث حسن، وابن حبان (911).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

كما في "مجمع الزوائد" للهيثمي (8/ 32) وقال: وفيه من لم أعرفهم.

(5)

في (أ): "من".

(6)

لم أعثر عليه.

(7)

في "السنن الكبرى"(9/ 49).

قلت: وأخرجه أبو داود في "السنن" رقم (5215)، وهو حديث حسن رجاله رجال الصحيح. انظر:"الفتوحات الربانية"(5/ 305).

(8)

في "الأذكار"(ص 451).

(9)

في هذا نظر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلَّم عليه وهو في الصلاة فيرد بالإشارة ولم ينكر ذلك.

(10)

زيادة من (ب).

ص: 146

سلَّمَ لم [يجبِ الردُّ عليهِ]

(1)

عندَ مَنْ قالَ [الإنصاتُ واجبٌ]

(2)

. [ويجبُ عندَ]

(3)

مَنْ قالَ بأنهُ سنةٌ، وعلَى الوجهينِ لا ينبغي أنْ يردَّ أكثرُ منْ واحدٍ. وأما المشتغلُ بقراءةِ القرآنِ فقالَ الواحديُّ

(4)

: الأَوْلَى تركُ السلامِ عليهِ، فإنْ سلَّم [عليه أحد]

(5)

كفاهُ الردُّ بالإشارةِ وإنْ ردَّ لفظًا استأنفَ الاستعاذةَ وقرأَ. قالَ النوويُّ

(6)

: فيهِ نظرٌ، والظاهرُ أنهُ يُشْرَعُ السلامُ عليهِ ويجبُ عليهِ الردُّ. ويندبُ

(7)

السلامُ على مَنْ دخلَ بيتًا [وإن لم يكن]

(8)

فيهِ أحدٌ لقوِله تعالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}

(9)

الآيةَ. وأخرجَ البخاريُّ

(10)

في الأدبِ المفردِ، وابنُ أبي شيبةَ

(11)

بإسنادٍ حسنِ عن ابن عمرَ رضي الله عنه: "يستحبُّ إذا لم يكنْ في البيتِ أحدٌ أنْ يقولَ السلامُ علينا وعلَى عبادِ اللَّهِ الصالحين". وأخرجَ الطبرانيُّ

(12)

عن ابن عباسٍ نحوَه. فإنْ ظَنَّ المارُّ أنهُ إذا سلَّم على القاعدِ لا يردُّ عليهِ فإنهُ يتركُ ظنَّه ويسلِّمُ، فلعلَّ ظنَّه يخطئ وإنْ لم يردَ عليهِ سلامه ردتْ عليهِ الملائكةُ كما وردَ ذلكَ، وأما مَنْ قالَ لا يسلِّم على مَنْ ظنَّ أنهُ لا يردُّ عليهِ لأنهُ يكونُ سببًا لتأثيمِ الآخرِ فهوَ كلامٌ غيرُ صحيحٍ، لأنَّ المأموراتِ الشرعيةَ لا تُتْرَكُ لمثلِ هذَا، ذكرَ [معناهُ]

(13)

النوويُّ

(14)

، وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ

(15)

: لا ينبغي أنْ يسلِّمَ عليهِ الأنَّ توريطَ المسلمِ في المعصيةِ أشدُ منْ مصلحةِ السلامِ عليهِ، وامتثالُ حديثٍ الأمرِ بالإفشاءِ يحصلُ

(1)

في (أ): "يستحق ردًا".

(2)

في (أ): "بوجوب الإنصات كما في الظاهر".

(3)

في (أ): "وأما".

(4)

"الأذكار"(ص 401).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

"الأذكار"(ص 401).

(7)

انظر: "الأذكار"(ص 410).

(8)

زيادة من (أ).

(9)

سورة النور: الآية 61.

(10)

رقم (1055 ث 261) وفي ذيله أخرجه ابن أبي شيبة بسند حسن عنه.

(11)

في "مصنفه" رقم (5886).

(12)

لم أجده عند الطبراني، ولعله الطبري، فقد أخرجه في "جامع البيان"(10/ ج 18/ 174، 175)، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (2/ 401) وزاد السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 227) نسبته لعبد الرزاق، وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(13)

زيادة من (ب).

(14)

"الأذكار"(ص 411).

(15)

ذكره الحافظ في "الفتح"(11/ 20).

ص: 147

معَ غيرِ هذَا

(1)

. فإنْ قيلَ: هلْ يحسنُ أنْ يقولَ: "ردُّ السلامِ فإنهُ واجبٌ"، قيلَ: نعمْ فإنهُ منَ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكرِ فيجبُ، فإنْ لم يجبْ حَسُنَ أن يحلِّلَه منْ حقِّ الردِّ.

‌هل يُبدأُ الذمي بالسلام

9/ 1364 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبْدَأُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

. [صحيح]

(وعنه) أي عن علي (رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تبدأوا اليهودَ والنَّصَارَى بالسلامِ، وإذا لقيتُموهُم في طريقِ فاضْطَّرُوهُم إلى أضيقِه. أخرجَه مسلمٌ). ذهبَ الأكثرُ إلى أنهُ لا يجوزُ ابتداءُ اليهودِ والنَّصارى بالسلامِ. وهوَ الذي دلَّ عليهِ الحديثُ؛ إذْ أصلُ النَّهي التحريمُ. وحُكِيَ عنْ بعضِ الشافعيةِ أنهُ يجوزُ الابتداءُ لهم بالسلامِ، ولكنْ يقتصِر على قولِ: السلامُ عليكمُ، ورُوِيَ ذلكَ عن ابن عباسٍ وغيرهِ، وحَكى القاضي عياضٌ عنْ جماعةٍ جوازَ ذلكَ لكنْ للضرورةِ والحاجةِ، وبهِ قالَ علقمةُ والأوزاعيُّ. ومنْ قالَ لا يجوزُ يقولُ: إنْ سلَّم على ذميٍّ ظنَّه مُسلمًا، ثم بانَ لهُ أنهُ يهوديٌّ فينبغي له أنْ يقولَ لهُ: رُدَّ عليَّ سلامي. ورُوِيَ عن ابن عمرَ

(3)

أنهُ فعلَ ذلكَ والغرضُ منهُ أنْ يوحِشَه ويظهرَ لهُ أنهُ ليسَ بينَهما ألفةٌ. وعنْ مالكٍ أنهُ لا يُسْتَحَبُّ أنْ يستردَّه، واختارَه ابنُ العربيِّ

(4)

، فإنِ ابتدأَ الذميُّ

(1)

الإصرار على عدم رد السلام معصية، فالذي ينبغي إلقاء السلام عليه تذكيرًا له بالواجب وعساه يجيب. يرشد إلى ذلك قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} - إلى قوله تعالى - {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].

(2)

في "صحيحه" رقم (2167).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5205)، والترمذي رقم (2700) كلهم من حديث أبي هريرة وهو الصواب.

(3)

ذكره النووي في "الأذكار"(ص 455)، قال: قال الحافظ لم يذكر المصنف من خرَّجه وقد وجدته في جامع ابن وهب، وأخرجه البيهقيُّ في "شعب الإيمان"، "الفتوحات الربانية"(5/ 344).

(4)

انظر: "الأذكار"(ص 405).

ص: 148

مسلِّمًا بالسلامِ ففي الصحيحينِ

(1)

عنْ أنسٍ مرفُوعًا: "إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتابِ فقولُوا: وعليكم". وفي صحيحِ

(2)

البخاريِّ عن ابن عمرَ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذا سلَّمَ عليكمْ اليهودُ [فقولوا: وعليكم]

(3)

، فإنَّما يقولُ أحدُهم السامُ عليكَ فقل وعليكَ". وإلى هذهِ الروايةِ بإثباتِ الواوِ ذهبَ طائفة منَ العلماءِ، واختارَ بعضُهم حذفَ الواوِ لئلَّا يقتضي التشريكَ، وقدْ قدَّمْنَا ذلكَ، وما ثبتَ بهِ النصُّ أَوْلَى بالاتباعِ. قالَ الخطابيُّ: عامةُ المحدِّثينَ يروونَ هذا الحرفَ وعليكمْ بالواوِ، وكانَ ابنَ عيينةَ يرويهِ بغيرِ واو، قالَ الخطابيُّ: وهذا هوَ الصَّوابُ.

قلت: وحيثُ ثبتتِ الروايةُ بالواوِ وبغيرها فالوجهانِ جائزانِ. وفي قولهِ: "فقولُوا وعليكَ"، ما يدلُّ على إيجاب الجوابِ عليهمْ في السلامِ. وإليهِ ذهبَ [عامة]

(4)

العلماءِ، ويُرْوَى عنْ آخرينَ أَنهُ لا يردُّ عليهمْ. والحديثُ يدفعُ ما قالُوهُ. وفي قولهِ:"فاضْطّرُّوهم إلى أضْيَقِهِ"، دليل على وجوب ردّهم عن وسطِ الطرقاتِ إلى أضيقِها. وتقدَّم فيهِ الكلامُ.

10/ 1365 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ لَهُ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ ويُصْلِحُ بَالَكُمْ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(5)

. [صحيح]

(وعنهُ) أي عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه (عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: إذا عطسَ أحَدُكْم فليقلْ الحمدُ للَّهِ، وليقلْ لهُ أخُوهُ: يرحمُكَ اللَّهُ، فإذا قالَ يرحمُكَ اللَّهُ فليقلْ: يهديْكُمُ اللَّهُ ويصلحُ بالَكُمْ. أخرجَه البخاريُّ) تقدَّم فيهِ الكلامُ، ولو أَتَى بهِ المصنفُ بعدَ أولِ حديثٍ في البابِ لكانَ الصوابُ.

(1)

أخرجه البخاري رقم (6258)، ومسلم رقم (2163).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5257)، وابن ماجه (3697).

(2)

لم أعثر عليه عند البخارى، بل أخرجه مسلم في "صحيحه"(2164).

ومالك في "الموطأ"(2/ 960)، وأبو داود رقم (5306)، والترمذي رقم (1603) عن ابن عمر رضي الله عنه.

(3)

زيارة من (أ).

(4)

في (أ): "جماعة من".

(5)

تقدم في شرح الحديث (1/ 1356) من كتابنا هذا.

ص: 149

‌الكلام على الشرب قائمًا

11/ 1366 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَشْرَبَن أَحَدُكُمْ قَائِمًا"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وعنهُ) أي عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه (قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يشربنَّ أحدُكم قائمًا. أخرجَهُ مسلمٌ)، وتمامُه:"فمنْ نسيَ فليستقئْ" من القيءِ، وأخرجَهُ أحمدُ

(2)

منْ وجهٍ آخرَ عنْ أبي هريرةَ "أنهُ صلى الله عليه وسلم رأَى رجلًا يشربُ قائمًا فقالَ: مه، فقالَ: لِمهْ؟ فقالَ: أيسرُّكَ أنْ يشربَ معكَ الهرُّ؟ قالَ: لا، قالَ: قدْ شربَ معكَ مَنْ هَو شرٌّ منهُ الشيطانُ". وفيهِ راوٍ لا يُعْرَفُ، ووثَّقهُ يحيى بنُ معينِ. والحديثُ دليلٌ على تحريمِ الشربِ قائمًا، لأنهُ الأصلُ في النَّهْي

(3)

وإليهِ ذهبَ ابنُ حزمٍ. وذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ خلافُ الأَوْلَى، وآخرونَ إلى أنهُ مكروهٌ، كأنَّهم صرفُوه عنْ ذلكَ لما في صحيحِ مسلمٍ

(4)

منْ حديثٍ ابن عباسٍ: "سَقَيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منْ زمزمَ فشربَ وهوَ قائمٌ"، وفي صحيحِ البخاريِّ

(5)

: "أن عليًا رضي الله عنه شربَ قائِمًا، وقالَ: رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كما رأيتموني فعلتُ"، فيكونُ فعلُه صلى الله عليه وسلم بيانًا لكونِ النَّهي ليسَ للتحريمِ. وأما قولُه:"فليستقئْ" فإنهُ [نقل اتفاقَ]

(6)

العلماءِ على أنهُ ليسَ على مَنْ شربَ قائمًا أنْ يستقيءَ، وكأنَّهم حملُوا الأمرَ أيضًا على الندبِ.

‌يبدأ باليمين في التنعل

12/ 1367 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأ بِالشِّمَالِ، وَلْتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا

(1)

في "صحيحه" رقم (116/ 2026).

(2)

في "المسند"(17/ 109 رقم 19)"الفتح الرباني".

(3)

النهي هنا لا يصح أن يكون للتحريم، لأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائمًا. فالحكم النهي صرف من التحريم إلى الكراهة، والله أعلم.

(4)

في "صحيحه" رقم (117)(2027) من حديث أبي هريرة وهو الصواب خلافًا للمخطوط عن علي رضي الله عنه.

(5)

في "صحيحه" رقم (5615).

(6)

في (أ): "اتفق".

ص: 150

تُنْعَلُ، وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنهُ) أي عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه (قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذا انتعلَ أحدُكم فليبدأْ باليمينِ، وإذا نزعَ)[أي نَعْلَه]

(2)

(فليبدأْ بالشمالِ. ولتكنِ اليمينُ أوّلَهما تُنعلُ، وآخرَهما تُنزعُ). أخرجَهُ مسلمٌ إلى قوله بالشمالِ، وأخرجَ باقيه مالكٌ

(3)

، والترمذي

(4)

، وأبو داود

(5)

. [ظاهرُ]

(6)

الأمرِ على الوجوبُ، ولكنَّه قد ادّعى [القاضي]

(7)

عياضٌ الإجماعَ على أنهُ للاستحبابِ. قالَ ابنُ العربيِّ

(8)

: البداءةُ باليمينِ مشروعةٌ في جميعِ الأعمالِ الصالحةِ، لفضلِ اليمينِ حِسًا في القوةِ، وشرْعًا في الندبِ إلى تقديمِها. قالَ الحليميُّ

(9)

: إنَّما [يندب البدأ]

(10)

بالشّمالِ عندَ الخلعِ لأنَّ اللُّبْسَ كرامة لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمين أكرم من اليسرى بدئ فيها باللبس، وأُخِّرتْ في النزعِ لتكونَ الكرامةُ لها أدومَ، وحصتُها منْها أكثرُ. وقالَ ابنُ عبدِ البرّ

(11)

: منْ بدأَ في الانتعالِ باليُسرى أساءَ لمخالفةِ السنةِ، ولكنْ لا يحرمُ عليه لبسُ نعليهِ. وقالَ [غيرهُ]

(12)

: ينبغي أنْ ينزع النعلُ منَ اليُسرى، ويُبْدَأَ باليمينِ، فلعل ابن عبدِ البرّ يريدُ أنهُ لا يُشْرَعُ لهُ الخلْعُ إذا بدأَ باليُسْرَى، ثم يستأنفُ لُبْسهَما على الترتيبِ المشروعِ لأنهُ قدْ فاتَ محلُّه. وهذا الحديثُ لا يدل على استحبابِ الانتعالِ لأنهُ قالَ إذا انتعلَ أحدُكم، ولكنَّه يدلُّ على مشروعيته ما

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5856).

وأخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (67/ 2097).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في "الموطأ"(2/ 916 رقم 15).

(4)

في "السنن" رقم (1779).

(5)

في "السنن" رقم (4139).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3616).

(6)

في (أ): "دلَّ".

(7)

زيادة من (ب).

(8)

ذكره الحافظ في "فتح الباري"(10/ 311).

(9)

ذكره الحافظ في "فتح الباري"(10/ 312).

(10)

في (ب): "يبدأ".

(11)

في "الاستذكار"(26/ 197 رقم 39208).

(12)

في (أ): "بعضهم".

ص: 151

أخرجَهُ مسلمٌ

(1)

: "استكثرُوا منَ النِّعالِ، فإنَّ الرجلَ لا يزالُ راكِبًا ما انتعلَ"، أي يُشْبهُ الراكبَ في خفةِ المشقةِ، وقلةِ النَّصَبِ، وسلامةِ الرجل منْ أَذَى الطريقِ، فإنَّ الأمَرَ إذا لم يُحْمَلْ على الإيجابِ فهوَ للاستحبابِ.

‌النهي من المشي في نعل واحدة

13/ 1368 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ في نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَلْينْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا"، مُتّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وعنهُ) أي عنْ علي رضي الله عنه (قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يمشِ أحدُكم في نعلٍ واحدةٍ، ولْيُنعِلْهما) بضمِّ حرفِ المضارعَةِ منْ أنعلَ كما ضبطَه النوويُّ، وضميرُ التثنيةِ للرجلينِ، وإنْ لم يجرِ لهما ذكرٌ [فإنهُ قد ذكرَ]

(3)

ما يدلُّ عليهما منَ النعلِ (جميعًا، أو ليخْلَعْهما) أي النعلينِ. وفي روايةٍ للبخاريِّ

(4)

: "أو ليحفِهما جميعًا"، وهوَ للقدمينِ (جميعًا. متفقٌ عليهِ) ظاهرُ النهي التحريمُ عن المشي في نعلٍ واحدةٍ. وحملهُ الجمهورُ على الكراهةِ، كأنهم جعلُوا القرينةَ حديثَ الترمذيِّ

(5)

عنْ عائشةَ قالتْ: "ربَّما انقطعَ شسعُ نعل رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فمشَى في النعلِ الواحدةِ حتَّى يُصْلِحهَا"، إلَّا أنهُ رجَّحَ البخاريُّ

(6)

وقْفَهُ [على عائشة من فعلها]

(7)

. وقدْ ذكرَ رزينٌ

(8)

عنْها قالتْ: "رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ينتعلُ قائمًا، ويمشي في نعلٍ واحدٍ". واختلفُوا في علةِ النَّهْي، فقالَ قومٌ

(9)

: علَّتُه أن النعالَ شُرِعتْ لوقايةِ الرِّجْلِ عمَّا يكونُ في الأرضِ منْ شوكٍ ونحوِه، فإذا انفردتْ إحدَى الرِّجْلَيْنِ احتاجَ الماشي أنْ

(1)

في "صحيحه" رقم (66/ 2096).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5855).

ومسلم في "صحيحه" رقم (68/ 2097)، كليهما من حديث أبي هريرة وهو الصواب.

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في "صحيحه" رقم (5855).

(5)

في "السنن" رقم (1777).

(6)

كما في "فتح الباري"(10/ 310).

(7)

زيادة من (أ).

(8)

كما في "جامع الأصول"(10/ 653) وهي رواية ضعيفة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الانتعال قائمًا، وعن المشي في نعل واحد.

(9)

ذكره ابن حجر في "فتح الباري"(10/ 310).

ص: 152

يتوقَّى لإحدَى رجليهِ ما لا يتوقَّى للأُخرى، فيخرجُ لذلكَ عنْ سجيةِ مِشْيَتِهِ، ولا يأمنُ معَ ذلكَ العثارَ. وقيلَ إنَّها مِشيةُ الشيطانِ. وقالَ البيهقيُّ

(1)

: الكراهةُ لما في ذلكَ منَ الشهرةِ في الملابسِ. وقدْ وردَ في روايةٍ لمسلمٍ

(2)

: "إذا انقطعَ شسعُ أحدِكم فلا يمشِ في نعلٍ واحدةٍ حتَّى يصلِحَها". وتقدَّم ما [يعارضُه]

(3)

منْ حديثٍ عائشةَ فيحملُ على الندبِ. وقدْ ألحقَ بالنعلينِ كلَّ لباسٍ شَفْعِ كالخفين. وقد أخرجَ ابنُ ماجهْ

(4)

منْ حديثٍ أبي هريرةَ: "لا يمشِ أحدُكمْ في نعلٍ واحدةٍ، ولا خفٍّ واحدٍ"، وهوَ عندَ مسلمٍ

(5)

منْ حديثٍ جابرٍ، وعندَ أحمدَ

(6)

منْ حديثٍ أبي سعيدٍ، وعندَ الطبرانيِّ

(7)

منْ حديثٍ ابن عباسٍ

(8)

. وقالَ الخطابيُّ

(9)

: وكذَا إخراجُ اليدِ الواحدةِ منَ الكُمِّ دونَ الأُخْرى، [والتردي على أحد المنكبين دون الأخرى]

(10)

.

قلتُ: ولا يخْفَى أنَّ هذا منْ بابِ القياسِ، ولم تُعْلَم العِلَّةُ حتَّى يلحقَ بالأصلِ، فالأَوْلَى الاقتصارُ على محلِّ النصِّ، [والله أعلم]

(11)

.

‌لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خُيلاء

14/ 1369 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ

(1)

ذكره ابن حجر في "فتح الباري"(10/ 310).

(2)

في "صحيحه" رقم (69/ 2098).

(3)

في (أ): "عارضه".

(4)

في "السنن" رقم (3617)، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 154 رقم 1261/ 3617):"هذا إسناد صحيح رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي ولم يذكروا فيه الخف فلذلك أوردته، وروَوه من حديث جابر كرواية ابن ماجَهْ، ورواه الترمذي في "الجامع" من حديث عائشة مرفوعًا وموقوفًا وصحَّح كونه موقوفًا اهـ.

(5)

في "صحيحه" رقم (71/ 2099).

(6)

و

(7)

أورده الهيثمي في "المجمع"(5/ 139) وقال: "رواه الطبراني وعبد الله بن أحمد وجادة عن كتاب أبيه وقال: ضرب عليه أبي ولم يحدثنا به، ورجال أحمد رجال الصحيح وكذلك رجال الطبراني إلا أن عبد الله نقل عن أبيه أنه ضرب على الحديث من أجل الحسن بن ذكوان، قلت: وهو من رجال الصحيح.

(8)

زيادة من (أ): وهي مكررة [لا يمشي أحدكم في نعلٍ واحدةٍ ولا خُفٍّ واحد، وهو عند مسلم من رواية جابر].

(9)

ذكره ابن حجر في "فتح الباري"(10/ 311).

(10)

زيادة من (ب).

(11)

زيادة من (أ).

ص: 153

إِلَى مَنْ جَرّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وعنِ ابن عمرَ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا ينظرُ اللَّهُ إلى مَنْ جرَّ ثوبَه خيَلَاءَ) بضمِّ الخاءِ المعجمةِ، والمدِّ، البطرُ والكبرُ (متفقٌ عليهِ). نفيُ [نظرِ اللَّهِ بنفي]

(2)

رحمتِه، أي لا يرحمُ اللَّهُ مَنْ جرَّ ثوبَه خُيلاءَ، سواءٌ كانَ منَ النساءِ أوِ الرجالِ. وقد فهمتْ ذلكَ أمُّ سلمةَ رضي الله عنهما فقالتْ عندَ سماعِها الحديثَ منهُ صلى الله عليه وسلم: فكيفَ تصنعُ النساءُ بذيولهنَّ؟ فقالَ صلى الله عليه وسلم: "يزدْنَ فيهِ شبرًا". [قالتْ]

(3)

: إذًا تنكشفُ أقدامُهنَّ، قالَ: " [فيرخينَهُ]

(4)

ذِراعًا ولا تزدنَ عليهِ" أخرجَهُ النسائيُّ

(5)

، والترمذيُّ

(6)

. والمراد بالذراعِ ذراعُ اليدِ وهوِ شبرانِ باليدِ المعتدِلَةِ، والمرادُ جرُّ الثوب على الأرضِ وهوَ الذي [يدلُّ]

(7)

لهُ حديثُ البخاري

(8)

: "ما أسفلَ منَ الكعبيَنِ منَ الإزارِ في النارِ". وتقييدُ الحديثِ بالخيلاءِ دالُّ بمفهومهِ أنهُ لا يكونُ مَنْ جرَّه غيرَ خُيلاء داخلًا في الوعيدِ. وقدْ صرَّح بهِ ما أخرجَ البخاريُّ

(9)

وأبو داودَ

(10)

والنسائيُّ

(11)

أنهُ قالَ أبو بكرٍ رضي الله عنه لما سمعَ هذا الحديثَ: "إنَّ إزاري يسترخي إلَّا أنْ أتعاهدَه، فقالَ لهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنكَ لستَ ممنْ يفعلُه خُيلاءَ"، وهوَ دليلٌ على اعتبارِ المفاهيمِ منْ هذا النوعِ. وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(12)

: إن من جرَّه لغيرِ الخيلاء مذمومٌ، قالَ النووي

(13)

: مكروهٌ، وهذا نصُّ الشافعيِّ. وقدْ صرَّحتِ السنةُ أنَّ أحسنَ الحالاتِ أنْ يكونَ إلى نصفِ الساقِ كما أخرجَهُ الترمذيُّ

(14)

، والنسائيُّ

(15)

عنْ عبيدِ بن خالدِ قالَ: "كُنتُ أمشي وعليَّ بردٌ أجرُّه،

(1)

أخرجه البخاري رقم (5791)، ومسلم في "صحيحه" رقم (42/ 2085).

(2)

في (أ): "النظر منه تعالى عبارة عن نفي".

(3)

في (أ): "فقالت".

(4)

في (ب): "فترخينهن".

(5)

في "السنن"(8/ 209).

(6)

في "السنن" رقم (1731). وقال الترمذي: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح.

(7)

في (أ): "دل".

(8)

في "صحيحه" رقم (5787).

(9)

في "صحيحه" رقم (5784).

(10)

في "السنن" رقم (4085).

(11)

في "السنن"(8/ 208).

(12)

في "التمهيد"(3/ 246).

(13)

في "شرح النووي"(13، 14/ 287 - ط المعرفة).

(14)

في "الشمائل"(58/ 113) بإسناد ضعيف.

(15)

في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(7/ 223، 224). =

ص: 154

فقالَ لي رجلٌ: ارفعْ ثوبَكَ فإنهُ أبقَى وأنقَى، فنظرتُ فإذا هوَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: إنَّما هيَ بردةٌ ملحاءُ، فقاكَ: ما لكَ فيَّ أسوةٌ، فنظرتُ فإذا إزارهُ إلى نصفِ ساقَيْهِ". وأما ما هوَ دونَ ذلكَ فإنهُ لا حرجَ على فاعلهِ إلى الكعبينِ، وما [دونَ]

(1)

الكعبينِ فهوَ حرامٌ إنْ كانَ للخيلاءِ، وإنْ كانَ لغيرِها فقالَ النوويُّ وغيرهُ: إنهُ مكروهُ. وقد يتجهُ أنْ يقالَ إنْ كانَ الثوبُ على قدرِ لابسهِ لكنَّه يسدلُه فانْ كانَ لا عنْ قصدٍ كالذي وقعَ لأبي بكرٍ رضي الله عنه فهوَ غيرُ داخلٍ في الوعيدِ، وإنْ كانَ الثوبُ زائدًا على قَدْرِ لابسِه فهوَ ممنوعٌ منْ جهةِ الإسرافِ، محرَّم لأجلِه، ولأجلِ التشبهِ بالنساءِ، ولأجلِ أنهُ لا يأمنُ أنْ تعلق بهِ النجاسةُ. وقالَ ابنُ العربيِّ

(2)

: لا يجوزُ للرجلِ أنْ يجاوزَ بثوبهِ كعبَه ويقول: لا أجرُّهُ خيلاء، لأنَّ النّهي قدْ تناولَه لفظًا، ولا يجوزُ لمنْ يتناولُه اللفظُ أنْ يخالِفَه إذْ صارَ حكمهُ أنْ يقولَ لا أمتثلُه، لأنَّ تلكَ العلةَ ليستْ فيَّ، فإنَّها دعْوى غيرُ مسلَّمةٍ بلْ إطالةُ ذيلهِ [يستلزم الخيلاء]

(3)

دالةٌ علَى تكبُّرِهِ اهـ. وحاصلُه أن الإسبالَ يستلزمُ جرَّ الثوب، وجرُّ الثوبِ يستلزمُ الخُيلاء، ولوْ لمْ يقصدْه اللابسُ. وقدْ أخرجَ ابنُ منيعٍ

(4)

عن ابن عمرَ في أثناء حديثٍ رفعَه: "إياكَ وجرَّ الإزارِ، فإنَّ جرَّ الإزارِ منَ المخيلةِ". وقدْ أخرجَ الطبرانيُّ

(5)

منْ حديثٍ أبي أمامةَ، وفيهِ قصةٌ لعمروِ بن زرارة الأنصاريِّ:"إنَّ اللَّهَ لا يحبّ المسبلَ". والقصةُ أن أبا أمامةَ قالَ: "بينَما نحنُ معَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لحقَنا عمروُ بنُ زرارةَ [الأنصاريُّ]

(6)

في حُلَّةِ إزارٍ ورداءٍ قدْ أسبلَ، فجعلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يأخذُ بناحيةِ ثوبهِ ويتواضعُ للَّهِ، ويقولُ: عبدُك وابنُ عبدكَ وأَمَتِكَ. حتى سمعَها عمروُ فقالَ: يا رسُولَ اللَّهِ، إني حمشُ الساقينِ فقالَ: يا عمرُو، إنَّ اللَّهَ قدْ أحسنَ كلَّ شيءٍ خَلَقه، إنَّ اللَّهَ لا يحبُّ المسبلَ". وأخرجَهُ

(7)

[الطبراني]

(8)

عنْ عمروِ بن

= وأخرج الحديث أحمد في "المسند"(5/ 364) من طريقين، والطيالسي رقم (1190) من طرق.

(1)

في (أ): "تحت".

(2)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 264).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

عزاه إليه ابن حجر في "الفتح"(10/ 264).

(5)

و

(6)

ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 124). وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات.

(7)

زيادة من (ب).

(8)

في (ب)"الطبري".

ص: 155

زرارةَ وفيهِ: "وضربَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أربعَ أصابعَ تحتَ ركبةِ عمروٍ وقالَ: يا عمرُو، وهذا موضعُ الإزارِ، ثمَّ ضربَ بأربعِ أصابعَ تحت الأربعِ ثم قالَ: يا عمرُو وهذَا موضعُ الإزارِ" الحديثُ، ورجالُه ثقاتٌ. وحكمُ غيرِ الثوبِ والإزارِ حكْمُهما، وكذلكَ لما سألَ شعبةُ محاربَ بنَ دثارٍ قالَ شعبةُ: أذكرَ الإزارَ؟ قالَ: ما خصَّ إزارًا ولا قميصًا. ومقصودُه أن التعبيرَ بالثوبِ يشملُ الإزارَ وغيرَه. وأخرجَ أهل السننِ

(1)

إلَّا الترمذيَّ عن ابن عمرَ عنْ أبيهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الإسبالُ في الإزارِ والقميصِ والعمامةِ، منْ جرَّ شيئًا منها خُيلاء لم ينظرِ اللَّهُ إليهِ يومَ القيامةِ"، وإنْ كانَ في إسناده عبدُ العزيزِ بنُ أبي روادَ، وفيهِ مقالٌ، قالَ ابنُ بطالٍ

(2)

: وإسبالُ العمامةِ المرادُ بهِ [إرسالُ]

(3)

العذبةِ زائدًا على ما جرتْ بهِ العادةُ. وأخرجَ النسائيُّ

(4)

منْ حديثٍ عمروِ بن أميةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "أرخَى طرفَ عمامتِه بينَ كتفيهِ"، وكذلكَ تطويلُ [أكمامِ]

(5)

القميصِ زيادةً على المعتادِ كما يفعلُه بعضُ أَهلِ الحجازِ إسبالٌ محرَّمٌ. وقدْ نقلَ [القاضي]

(6)

عياضٌ

(7)

عن العلماءِ كراهةَ كلِّ ما زادَ على العادةِ وعلَى المعتادِ في اللباسِ منَ الطولِ والسَّعةِ.

قلت: وينبغي أنْ يُرَادَ بالمعتادِ ما كانَ في عصرِ النبوةِ.

‌لا يأكل ولا يشرب بشماله

15/ 1370 - وَعَنْهُ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأَكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيطَانَ يَكْلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(8)

. [صحيح]

(1)

أبو داود رقم (4094)، وابن ماجه رقم (3576)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(5/ 358 قم 6768)، وهو حديث صحيح.

(2)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 263).

(3)

في (أ): "إسبال".

(4)

في "السنن"(8/ 211) رقم (5346)، وهو حديث صحيح.

(5)

في (أ): "الأكمام في".

(6)

زيادة من (ب).

(7)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 263).

(8)

في "صحيحه" رقم (2020).

قلت: وأخرجه الترمذي في "الأطعمة"(1800)، وأبو داود رقم (3776).

ص: 156

(وعنهُ) أي ابن عمرَ رضي الله عنهما (أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: إذا أكلَ أحدُكم فليأكلْ بيمينهِ، وإذا شربَ فليشربْ بيمينهِ، فإنَّ الشيطانَ يأكلُ بشمالهِ، ويشربُ بشمالهِ. أخرجَهُ مسلمٌ). الحديثُ دليلٌ على تحريمِ الأكلِ والشربِ بالشمالِ، فإنهُ علَّلَهُ بأنهُ فعلُ الشيطانِ وخُلُقُهُ. [والمسلمُ]

(1)

مأمورٌ بتجنبِ طريقِ أهلِ الفسوقِ فضلًا عن الشيطانِ. وذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ يُسْتَحَبُّ الأكلُ باليمينِ والشربُ بِها لا أنهُ بالشمالِ محرَّمٌ. وقد زادَ نافعٌ: الأخذُ والإعطاءُ.

‌لا يحل مجاوزة الحد في أي شيء

16/ 1371 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبِسْ، وَتَصَدَّقْ في غَيرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةِ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

، وَأَحْمَدُ

(3)

، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ

(4)

. [حسن]

(وعنْ عمروِ بن شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّه قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كلْ واشربْ، والبسْ وتصدَّقْ في غيرِ سَرَفٍ ولا مَخِيْلَةٍ) بالخاءِ المعجمةِ، ومثناةٍ تحتيةٍ، وزنُ عظيمةٍ، التكبرُ (أخرجَهُ أحمدُ، وأبو داودَ، وعلَّقهُ البخاريِّ). دلَّ على تحريم الإسرافِ في المأكلِ والمشْربِ والملْبَسِ والتصدقِ. وحقيقةُ الإسرافِ مجاوزةُ الحدِّ في كلِّ فعلٍ، أو قولٍ، وهوَ في الإنفاقِ أَشْهَرُ. والحديثُ مأخوذٌ منْ قول الله تبارك وتعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}

(5)

، وفيه تحريمُ الخُيَلَاءِ والكِبْرِ.

قالَ عبدُ اللطيفِ البغداديُّ

(6)

: هذا الحديثُ جامعٌ لفضائلِ تدبيرِ الإنسانِ نفسهِ، وتدبيرُ مصالحِ النفسِ والجسدِ في الدُّنيا والآخرةِ، فإنَّ السرَفَ في كلِّ شيءٍ مضر بالجسدِ، ومضر بالمعيشةِ، ويؤدي إلى الإتلافِ، فيضرُّ بالنفسِ إذا كانتْ

(1)

في (أ): "المؤمن".

(2)

لم أعثر عليه عند أبي داود. وقد أخرجه ابن ماجه رقم (3605)، والنسائي (5/ 79 رقم 2559).

(3)

في "المسند"(2/ 181، 182).

(4)

في "صحيحه"(10/ 252)، وهو حديث حسن.

(5)

سورة الأعراف: الآية 31.

(6)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(10/ 253).

ص: 157

تابعةً للجسدِ في أكثرِ الأحوالِ، والمخيلةُ تضرُّ بالنفسِ حيثُ تُكْسِبُها العُجْبَ، وتضرُّ بالآخرةِ حيثُ يُكْسِبُ الإثمَ، وبالدنيا حيثُ يكسبها المقْتَ منَ الناسِ.

وقد علَّق البخاريِّ

(1)

عن ابن عباسٍ: "كلْ ما شِئْتَ واشربْ ما شئْتَ ما أخطأتْكَ [اثنتانَ]

(2)

: سرفٌ ومَخِيْلَةٌ".

* * *

(1)

في "صحيحه" تعليقًا (10/ 252).

(2)

في (أ): "خصلتان".

ص: 158

[الباب الثاني] باب البر والصلة

البِرُّ بكسرِ الموحدةِ التوسُّعُ في فعلِ الخيرِ. والبَرُّ بفتحِها المتوسعُ في الخيراتِ، وهو منْ صفاتِ اللَّهِ تعالى. والصلةُ بكسرِ الصادِ المهملةِ مصدرُ وصله كوعدهَ عِدَةً. في النهايةِ تكرَّرَ في الحديثِ صلةُ الأرحامِ، وهيَ كنايةٌ عن الإحسانِ إلى الأقربينَ منْ ذوي النسبِ والأصهارِ، والتعطفِ عليهم، والرفقِ بهم، والرعايةِ لأحوالِهم، وكذلكَ إنْ بعدوا وأساءُوا، وضدُّ ذلكَ قطيعةُ الرحمِ. اهـ.

‌يبارك الله في العمر بصلة الرحم

1/ 1372 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزِقْهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يبْسَطَ) أي يبسطُ اللَّهُ (لَهُ في رِزْقِهِ) أي يوسعُ لهُ فيهِ، (وَأَنْ يُنْسَأَ) مثلُه مغير صيغة بالسينِ المهملةِ مخففةً، أي يؤخرُ لهُ (في أَثَرِهِ) بفتحِ الهمزةِ والمثلثةِ فراء، أي أَجَلِه، (فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ). وأخرجَ الترمذيُّ

(2)

عنْ أبي هريرةَ: "أنَّ صلةَ الرحمِ محبَّةٌ في الأهلِ، مثراةٌ في المالِ، منسأةٌ في الأجلِ". وأخرجَ أحمدُ

(3)

عنْ عائشةَ رضي الله عنها مرفُوعًا: "صلةُ الرحمِ وحسنُ الجوارِ يعمرانِ الديارَ، ويزيدانِ في

(1)

في "صحيحه" رقم (5985).

(2)

في "السنن" رقم (1979) وقال: حديث غريب.

(3)

(5) في المسند (19/ 53 رقم 60 - الفتح الرباني).

ص: 159

الأعمارِ". وأخرجَ أبو يَعْلَى

(1)

منْ حديثٍ أنسٍ مرفُوعًا: "إنَّ الصدقةَ وصلةَ الرحمِ يزيدُ اللَّهُ بهما في العمرِ، ويدفعُ بهما مِيْتَةَ السوء"، وفي سندهِ ضعفٌ. قالَ ابنُ التينِ

(2)

: ظاهرُ الحديثِ أي حديثٍ البخاريِّ معارِضٌ لقولِه تعالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}

(3)

قالَ: والجمعُ بينَهما منْ وجهينِ: أحدِهما أن الزيادةَ كنايةٌ عن البركةِ في العمرِ بسببِ التوفيقِ للطاعةِ، وعمارةِ وقتهِ بما ينفعُه في الآخرةِ، وصيانتِهِ عن تضييعِه في غيرِ ذلكَ، ومثلُ هذا ما جاءَ [أَنَّ]

(4)

النَّبيَّ

(5)

صلى الله عليه وسلم تقاصرَ أعمارَ أمتهِ بالنسبةِ إلى منْ مضى منَ الأممِ، فأعطاهُ اللَّهُ ليلةَ القدرِ. وحاصلهُ أن صلةَ الرحمِ تكونُ سببًا للتوفيقِ للطاعةِ، والصيانةِ عن المعصيةِ، فيبقَى بعدهَ الذكر الجميلُ فكأنهُ لم يمتْ. ومنْ جملةِ ما يحصلُ لهُ منَ التوفيقِ العلمُ الذي ينتفعُ بهِ مَنْ بعدَه بتأليفٍ ونحوِه، والصدقةُ الجاريةُ عليهِ، والخلفُ الصالحُ. وثانيهمَا: أن الزيادةَ على حقيقتِها، وذلكَ بالنسبةِ إلى علمِ الملكِ الموكَّلِ بالعمرِ، والذي في الآيةِ بالنسبةِ إلى علمِ اللَّهِ كأن يُقالَ للملَكِ مثلًا: إنَّ عمُرَ فُلانِ مِائةٌ إنْ

(1)

في المسند رقم (1349/ 4104) بإسناد ضعيف جدًّا لضعف صالحٍ بن بشير المري ولضعف يزيد بن أبان الرقاشي.

• وأورده الهيثمي في "المجمع"(151): وقال رواه أبو يعلى وفيه صالح المري وهو ضعيف.

(2)

ذكره الحافظ في الفتح (10/ 416).

(3)

سورة الأعراف: الآية 34.

(4)

في (أ): "عن".

(5)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 321 رقم 15).

• قال الزرقاني في "شرح الموطأ"(2/ 218، 219): "قال ابن عبد البر: هذا أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد في غير الموطأ لا مسندًا ولا مرسلًا

وليس منها حديث منكر، وما لا يدفعه أصل. قال السيوطى: ولهذا شواهد من حيث المعنى مرسلة. وذكر له شاهدين.

أحدهما: عن علي بن عروة مرسلًا.

والثاني: عن مجاهد مرسلًا أيضًا.

• وقال الباجي في "المنتقى"(2/ 89): يحتمل أن يريد أنه رأى أعمار سائر الأمم أطول فخاف أن لا تبلغ أمته من العمل في قصر أعمارها ما بلغه غيرها من الأمم في طول أعمارها فتفضل الله تبارك وتعالى على هذه الأمة بليلة القدر وهي تقتضي اختصاص هذه الأمة بهذه الليلة" اهـ.

ص: 160

وصلَ رحِمهُ، وإنْ قَطَعَها فستُّونَ، وقدْ سبق في علمِهِ تعالى أنَّهُ يَصِلُ أوْ يَقْطعُ، فالذي في علمِ اللَّهِ لا يتقدمُ ولا يتأخرُ، والذي في علمِ الملَكِ هوَ الذي يمكنُ فيهِ الزيادةُ والنقصُ وإليهِ الإشارة بقولِه تعالَى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}

(1)

؛ فالمحو والإثباتُ بالنسبهِ إلى ما في علمِ الملكِ وما في أمِّ الكتابِ، وأما الذي في علمِ اللَّهِ سبحانه فلا محوَ فيهِ ألبتةَ. ويقالُ لهُ القضاءُ المبرَمُ، ويقال للأولِ القضاءُ المعلَّقُ، انتهى. والوجهُ الأولُ أَلْيَقُ؛ فإنَّ الأثرَ ما يَتْبَعُ الشيءَ فإذا أخِّر حَسُنَ أنْ يحملَ على الذكرِ الحسنِ بعدَ فَقْدِ المذكورِ، ورجَّحه الطيبي

(2)

، وأشارَ إليهِ في الفائقِ

(3)

. ويؤيدهُ ما أخرجَهُ الطبراني

(4)

في الصغيرِ بسندٍ ضعيفٍ عنْ أبي الدرداءِ قالَ: ذُكِرَ عندَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ وصلَ رحِمَهُ أُنْسِئَ لهُ في أجلهِ؟ فقالَ: "إنهُ ليسَ زيادةً في العمر، قالَ تعالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، ولكنَّ الرجلَ تكونُ لهُ الذريةُ الصالحةُ يدعونَ لهُ منْ بعدِه"، وأخرجَهُ في الكبيرِ

(5)

مرفوعًا منْ طريقٍ أُخْرَى. وجزم

(6)

ابنُ فَوْرَكِ بأنَّ المرادَ بزيادةِ العمرِ نفيُ الآفاتِ عنْ صاحبِ البرِّ في فهمهِ وعقلهِ. وقالَ غيرهُ: في أعمَّ منْ ذلكَ، وفي وجود البركة في عمله ورزقِه. ولابنِ القيمِ في كتابِ الداءِ والدواءِ

(7)

كلامٌ [يقضي]

(8)

بأنَّ مدةَ حياةِ العبدِ وعمرِه هي مهْمَا كانَ قلبهُ مقِبلًا على الله تعالى، ذاكرًا لهُ، مطيعًا غيرَ عاصٍ فهذهِ هيَ عمرهُ [وحياته]

(9)

، ومتى أعرض القلبُ عن اللَّهِ تعالَى، واشتغلَ بالمعاصي ضاعتْ عليهِ أيامُ حياةِ عمرهِ، فعلَى هذا أنهُا ينسأُ لهُ في أَجلهِ، أي يعمرُ اللَّهُ قلبَه بذكرِه وأوقاتهِ بطاعتهِ. ويأتي تحقيقُ صلةِ الرحمِ.

(1)

سورة الرعد: الآية 39.

قلت: وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، فإنها ذكرت في الآيات الكونية فتأمل.

ويجب أن تفهم آيات القرآن مجتمعة لا مفرقة.

(2)

و

(3)

ذكرهما الحافظ في "الفتح"(10/ 416).

(4)

عزاه إليه الهيثمي في "المجمع"(8/ 153).

وقال: ليس في إسناده متروك ولكنهم ضعفوا.

(5)

عزاه الهيثمي إلى الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين" رقم (2858)، وكذلك في مجمع الزوائد (8/ 153).

(6)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 416).

(7)

ص 90، 91.

(8)

في (أ): "يقتضي".

(9)

زيادة من (أ).

ص: 161

‌عقوبة قاطع الرحم

2/ 1373 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ" يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

في شرح قوله: (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ - يعني قاطعَ رحمٍ - متفقٌ عليهِ). وأخرجَ أبو داودَ

(2)

منْ حديثٍ أبي بُكْرةَ يرفعهُ: "ما منْ ذنبٍ أجدرُ أنْ يعجِّلَ اللَّهُ لصاحبهِ العقوبةَ في الدنيا معَ ما ادخرَ اللَّهُ لهُ في الآخرةِ منْ قطيعةِ الرحمِ". وأخرجَ البخاريُّ في الأدب المفردِ

(3)

منْ حديثٍ أبي هريرةَ [يرفعهُ]

(4)

: "إن أعمالَ أمتي تُعْرَضُ عشيةَ الخميَس ليلةَ الجمعةِ، فلا يقبلُ عملَ قاطعِ رحمٍ". وأخرجَ فيهِ

(5)

منْ حديثٍ ابن أبي أَوْفَى: "إنَّ الرحمةَ لا تنزلُ على قومٍ فيهم قاطعُ رحمٍ". وأخرجَ الطبراني

(6)

منْ حديثٍ ابن مسعودٍ: "إنَّ أبوإبَ السماءِ مغلقةٌ دونَ قاطعِ الرحمِ". واعلمْ أنهُ اختلفَ العلماءُ في [حدِّ]

(7)

الرَّحِمِ التي تجبُ صلتُها، [ويحرم قطعها]

(8)

، فقيلَ: هيَ الرحمِ التي يحرمُ النكاحُ بينهَما، بحيثُ لوْ كانَ أحدُهما ذكرًا حرمُ على الآخرِ. فعلَى هذا لا يدخلُ أولادُ الأعمامِ، ولا أولادُ الأخوالِ. واحتجَّ هذا القائلُ بتحريمِ الجمعِ بينَ المرأةِ وعمَّتِها وخالتِها في النكاحِ لما يؤدي إليهِ منَ التقاطعِ. وقيلَ: هوَ مَنْ كانَ متصلًا

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5984)، ومسلم في "صحيحه" رقم (2556).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1909).

(2)

في السنن رقم (4902).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1513)، وابن ماجه رقم (4211).

وقال الترمذي: حديث صحيح.

(3)

رقم (61) عن أبي هريرة مرفوعًا.

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 484)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 151): رواه أحمد ورجاله ثقات. وخلاصة القول: أن الحديث ضعيف.

(4)

في (أ): "مرفوعًا".

(5)

في "الأدب المفرد" رقم (63) عن ابن أبي أوفى، وهو حديث ضعيف.

(6)

عزاه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 151) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود. وهو حديث ضعيف.

(7)

في (أ): "حقيقة".

(8)

زيادة من (أ).

ص: 162

بميراثٍ. ويدلُّ عليهِ قولُه

(1)

صلى الله عليه وسلم: "أدناكَ أدناك". وقيلَ مَنْ كانَ بينَه وبينَ الآخرِ قرابةٌ سواءٌ كانَ يرثُه أَوْ لا. ثمَّ صلةُ الرحمِ كما قالَ القاضي عياضٌ: درجات بعضُها أرفعُ منْ بعضٍ، وأدْناها تركُ المهاجرةِ، وصلتُها بالكلام ولو بالسلامِ، ويختلفُ ذلكَ باختلافِ القدرةِ والحاجةِ، فمنْها واجبٌ، ومنْها مستحبٌ، فلو وصلَ بعضَ الصلةِ ولم يصلْ غايتَها لم يُسَمَّ قاطعًا، ولو قصرَ عما [يقدرُ]

(2)

عليهِ وينبغي لهُ: لم يسمَّ واصلًا. قالَ القرطبيُّ

(3)

: الرحمُ التي توصلُ عامةٌ وخاصةٌ، فالعامةُ رحمُ الدينِ، وتجبُ صلتُها بالتوادُدِ، والتناصحِ، والعدلِ، والإنصافِ، والقيامِ بالحقوقِ الواجبةِ والمستحبَّةِ. والرحمُ الخاصةُ تزيدُ بالنفقةِ على القريبِ وتَفَقُّدِ حالِه، والتغافلِ عنْ زلَّتهِ. وقالَ ابنُ جمرةَ

(4)

: المعنَى الجامعُ إيصالُ ما أمكنَ منَ الخيرِ، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرِّ بحسبِ الطاقةِ، وهذا في حقّ المؤمنينَ. وأما الكفارُ والفساقُ [فتجبُ]

(5)

المقاطعةُ لهم إذا لم تنفعِ الموعظةُ.

واختلفَ العلماءُ أيضًا بأيِّ شيءٍ تحصلُ القطيعةُ للرحمِ، فقالَ الزينُ العراقيُّ: تكونُ بالإساءةِ إلى الرحمِ، [وقالَ]

(6)

غيرهُ: [تكونُ]

(7)

بتركِ الإحسانِ لأن الأحاديثَ آمرةٌ بالصلةِ، ناهيةٌ عن القطيعةِ، ولا واسطةَ بينَهما، والصلةُ نوعٌ منَ الإحسانِ كما فسرَّها بذلكَ غيرُ واحدٍ، والقطيعةُ ضدُّها، وهيَ تركُ الإحسانِ. وأما ما أخرجَهُ الترمذيُّ

(8)

منْ قولهِ صلى الله عليه وسلم: "ليسَ الواصلُ بالمكافئِ، ولكنَّ الواصلَ الذي إذا [قُطِعَتْ]

(9)

رحمهُ وصلَها"؛ فإنهُ ظاهرٌ في أن الصلةَ إنَّما هيَ ما كانَ

(1)

وهو جزء من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم رقم (2/ 2548)، وابن ماجه رقم (3658).

(2)

في (أ): "يجب".

(3)

ذكره الحافظ في فتح الباري (10/ 418).

(4)

ذكره الحافظ في "فتح الباري"(10/ 418).

(5)

في (أ): "يجب".

(6)

في (أ): "وقيل".

(7)

في (أ): "تكوين".

(8)

في "السنن": (1908) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

قلت: أخرجه البخاري رقم (5991)، وأبو داود رقم (1697)، وأحمد في "المسند" رقم (6524) و (6785) و (6817) وانظر رقم (6700) شاكر.

(9)

في (أ): "قطعهُ".

ص: 163

للقاطِع صلةَ رحمهِ، وهذا على روايةٍ قُطِعَتْ بالبناءِ للفاعلِ، وهي روايةٌ، فقالَ ابنُ العربيِّ في شرحِه: المرادُ الكاملةُ في الصلةِ. وقالَ الطيبيُّ

(1)

: معناهُ ليسَ حقيقةُ الواصلِ، ومنْ يعتدُّ بصلتِه مَنْ يكافئ صاحبَه بمثل [فعلِه]

(2)

، ولكنَّ مَنْ يتفضلُ على صاحبهِ، قالَ المصنفُ: لا يلزم مِنْ نفي الوصلِ ثبوتُ القطع، فهمْ ثلاثُ درجاتٍ: مواصل، ومكافئٌ، وقاطعٌ، فالواصلُ هوَ الذي يتفضلُ ولا يُتَفَضَّلُ عليهِ، والمكافئُ الذي لا يزيدُ في الإعطاءِ على ما يأخذُه، والقاطعُ [هو]

(3)

الذي لا يُتَفَضَّلُ عليهِ، ولا يَتَفَضَّلُ. قالَ الشارحُ: وبالأَوْلى أن من تفضل عليهِ ولا يَتَفضَّلُ أنهُ قاطعٌ. قالَ المصنفُ: وكما تقعُ المكافأةُ بالصلةِ مِنَ الجانبيْنِ كذلكَ تقعُ بالمقاطعةِ من الجانبين، فمنْ بدأَ فهوَ القاطعُ، فإنْ جُوزِيَ سُمِّيَ مَنْ جازاهُ مكافِئًا.

‌النهي عن عقوق الوالدين

3/ 1374 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرّمَ عَلَيكُمْ: عُقُوقَ الأُمّهَاتِ، وَوَأدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعّا وَهَاتِ. وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

. [صحيح]

(وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِن اللَّهَ حَرّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمُّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). الأمهاتُ جمعُ [أمهةٍ]

(5)

لغةً في الأمِ، ولا تطلقُ إلَّا على مَنْ يعقلُ بخلافِ أمِّ فإنَّها تعمُّ. وإنَّما خُصَّتِ الأمُّ هنا إظهارًا لعِظَمِ حقِّها، وإلَّا فالأبُ محرَّمٌ عقوقُه، وضابطُ العقوقِ المحرَّمِ كما نقلَ خلاصتَه عن البُلقيني، وهوَ أنْ يحصلَ منَ الولدِ للأبوْينِ أوْ أحدهما إيذاءٌ ليسَ بالهيِّنِ عرفًا، فيخرجُ منْ هذا ما إذا حصلَ منَ الأبوينِ أمرٌ أو نَهْيٌ فخالفَهما بما لا يعدُّ في العرفِ مخالفتُه

(1)

ذكره الحافظ في "فتح الباري"(10/ 423).

(2)

في (أ): "ما فعله".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

أخرجه البخاري رقم (5975)، ومسلم (3/ 1341 رقم 12/ 593).

(5)

في (أ): "أمه".

ص: 164

عقوقًا، فلا يكونُ ذلكَ عقوقًا، وكذلِكَ لو كانَ مثلًا على الأبوينِ دينٌ للولدِ، أو حقٌّ شرعي فرافعُه إلى الحاكمِ فلا يكونُ ذلكَ عقوقًا كما وقعَ منْ بعضِ أولاد الصحابةِ شكايةُ الأبِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في احتياجهِ [لِمَالِهِ]

(1)

، فلمْ يعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم شكايتَه عقوقًا.

قلتُ: في هذا تأملٌ، فإنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم:"أنتَ ومالُكَ لأبيكَ"

(2)

دليلٌ على نهيهِ عنْ منعِ أبيهِ عنْ مالهِ، وعنْ شكايتِه، ثمَّ قالَ صاحبُ الضابطِ: فعلَى هذا، العقوقُ أنْ يؤذيَ الولدُ أحدَ أبويْهِ بما لو فعلَه معَ غيرِ أبويْهِ كانَ محرَّمًا منْ جملةِ الصغائرِ، فيكونُ في حقِّ الأبويْنِ كبيرةً، أو مخالفةَ الأمرِ أو النهْي فيما يدخلُ فيهِ الخوفُ على الولدِ منْ فواتِ نفسهِ، أو عضوٍ منْ أعضائِه في غيرِ الجهادِ الواجبِ عليهِ، أوْ مخالفتَهما في سفرٍ يشقُّ عليهمَا وليسَ بفرضٍ على الولدِ، أو في غيبةٍ طويلةٍ فيما ليسَ لطلبِ علمٍ نافع أو كسبٍ، أوْ تركِ تعظيمِ الوالدينِ، فإنهُ لو قدمَ عليهِ أحدَهما ولم يقمْ [إليهِ]

(3)

أو قطَّبَ في وجههِ، فإنَّ هذا وإنْ لم يكنْ في حقِّ الغيرِ معصيةً، فهوَ عقوق في حقِّ الأبوينِ. قولُه:"ووأدَ البناتِ" بسكونِ الهمزة هوَ دفنُ البنتِ حية، وهوَ محرَّم، وخصَّ البناتِ لأنهُ الواقعُ منَ العربِ، فإنَّهمْ كانوا يفعلونَ ذلكَ في الجاهليةِ كراهة لهنَّ. يقالُ: أولُ مَنْ فعلَه قيسُ بنُ عاصم التميمي

(4)

، وكانَ منَ العربِ مَنْ يقتلُ أولادَه مطلقًا خشيةَ الفاقةِ والنفقةِ. وقولُه:

(1)

في (أ): "إلى ماله".

(2)

وهو حديث صحيح ورد من حديث عبد الله بن عمرو، وجابر، وابن مسعود، وابن عمر، وسمرة.

• أما حديث عبد الله بن عمر فقد أخرجه أحمد (2/ 179، 204، 214)، وأبو داود (2291)، وابن ماجه رقم (2292)، وابن الجارود في "المنتقى"(959) بسند حسن.

• وأما حديث جابر فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2291)، والطحاوي بـ (شرح معاني الآثار" (4/ 158) بسند صحيح. والطبراني في "الأوسط" رقم (3534).

• وأما حديث ابن مسعود فقد أخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (10019) وفي "الأوسط" رقم (57) و"الصغير"(1/ 8).

• وأما حديث ابن عمر أخرجه البزار رقم (1259).

• وأما حديث سمرة فقد أخرجه البزار رقم (1260)، والطبراني في "الأوسط" رقم (7088)، والطبراني في "الكبير" رقم (6961).

(3)

في (أ): "عليه".

(4)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 406).

ص: 165

"منعًا وهاتِ" المنعُ مصدرٌ منْ منعَ يمنعُ، والمرادُ منعُ ما أمرَ اللَّهُ تعالى به أنْ لا يمنعَ، وهاتِ فعلُ أمرٍ مجزومٌ، والمرادُ به النَهيُ عنْ طلبِ ما لا يستحقُّ طلبَه. وقولُه:"وكرهَ لكم قيلَ وقالَ" يروى بغيرِ تنوينٍ حكايةَ للفظِ الفعلِ: ورُوِيَ منونًا وهي في رواية البخاريِّ

(1)

، قيلًا وقالًا، على بالنقلِ منَ الفعليةِ إلى الاسميةِ والأولُ أكثرُ. والمرادُ بهِ نقلُ الكلام الذي [يسمعهُ]

(2)

إلى غيرهِ، فيقولُ: قيلَ كذَا وكذَا بغيرِ تعيينِ القائلِ، وقالَ فلان كذَا وكذَا، وإنَّما نَهَى عنهُ لأنهُ منَ الاشتغالِ بما لا يعني المتكلِّم، ولكونهِ قدْ يتضمنُ الغيبةَ والنميمةَ والكذبَ لا سيَّما معَ الإكثارِ منْ ذلكَ قلَّما يخلو عنهُ، قالَ المحبُّ الطبريُّ: فيهِ ثلاثةُ أوْجْهٍ:

أحدُها: أنَّهما مصدرانِ للقولِ، تقولُ: قلتُ قولًا وقيلًا. وفي الحديث الإشارةُ إلى كراهةِ كثرةِ الكلامِ.

ثانيها: إرادةُ حكايةِ أقاويلِ الناسِ، والبحثُ عنْها لتخبرَ عنْها فيقول قالَ فلانٌ كذَا، وقيلَ لهُ كذا. والنهيُ عنهُ إما للزجرِ عن الاستكثار [منهُ]

(3)

، وإما لما يكرهه المحْكَى عنهُ.

ثالثُها: أن ذلكَ حكايةُ الاختلافِ في أمورِ الدينِ كقولِه: قالَ فلانٌ كذا، وقال فلانٌ كذَا. ومحل كراهةِ ذلكَ في أنْ يكثرَ [منهُ]

(4)

بحيثُ لا يأمنْ منَ الزللِ، وهوَ في حقِّ منْ ينقلُ بغيرِ تثبتِ في نقلهِ لما يسمعُه ولا يحتاطُ لهُ، ويؤيدُ هذا الحديثَ الصحيحَ:"كفَى بالمرءِ إثمًا أن يحدِّثَ بكلِ ما سمعَ"، أخرجه مسلمٌ

(5)

.

قلتُ: ويحتملُ إرادةُ كلٍّ منَ الثلاثةِ. وقولُه: "وكثرةُ السؤالِ" هوَ السؤالُ للمالِ أو عن المشكلاتِ منَ المسائلِ، أو مجموعُ الأمريْنِ وهوَ أَوْلَى. وتقدَّمَ في الزكاة تحريمُ مسألة المالِ، وقدْ نَهَى عن الأغلوطاتِ. أخرجَهُ أبو داودَ

(6)

، وهي المسائلُ التي يغلطُ بها العلماءُ ليزلُّوا، فينتجَ بذلكَ شرٌّ وفتنةٌ. وإنَّما نهَى عنْها

(1)

انظر "الفتح": (10/ 407) وقال: "ووقع في رواية الكشميهني هنا: قيلًا وقالًا.

(2)

في (أ): "يستمعه".

(3)

في (أ): "عنه".

(4)

في (أ): "عنه".

(5)

في "صحيحه" في المقدمة رقم (5/ 5).

(6)

في "السنن" رقم (3656)، وهو حديث ضعيف.

ص: 166

لكونها غيرَ نافعةٍ في الدين، ولا يكادُ أنْ يكونَ إلَّا فيما لا ينفعُ. وقدْ ثبتَ عنْ جمع منَ السلفِ كراهة تكلُّفِ المسائلِ التي [يستحيلُ]

(1)

وقوعُها عادةً، أوْ يندرُ وقوعُها جدًّا لما في ذلكَ منَ التنطعِ، والقولُ بالظنِّ الذي لا يخلُو صاحبُه عن الخطأِ. وقيلَ: كثرةُ السؤالِ عنْ أخبارِ الناسِ، وأحداثِ الزمانِ، وكثرةِ سؤالِ إنسانٍ معينٍ عنْ تفاصيلِ حالِه وكانَ مما يكرهُه المؤوِّلُ. وقولُه:"وإضاعةُ المالِ" المتبادرُ منَ الإضاعةِ ما لم يكنْ لغرضٍ دينيٍ ولا دنيويٍ، وقيلَ هوَ الإسرافُ في الإنفاقِ. وقيدَه بعضُهم [بالإنفاقِ في الحرام]

(2)

. ورجَّحَ المصنفُ أنهُ ما أُنفِقَ في غير وجهه المأذونِ فيه شرعًا، سواءٌ كانتْ دينيةً أو دنيويةً، لأنَّ اللَّهَ تعالَى جعلَ المالَ قيامًا لمصالحِ العبادِ، وفي التبذيرِ تفويتُ تلكَ المصالحِ، إما في حقِّ صاحبِ المالِ، أو في حقِّ غيرِه. قالَ: والحاصلُ أن في كثرةِ الإنفاقِ ثلاثةَ وجوهٍ:

الأولُ: [الإنفاقُ]

(3)

في الوجوهِ المذمومةِ شرْعًا، ولا شكَّ في تحريمهِ.

والثاني: الإنفاقُ في الوجوهِ المحمودةِ شرْعًا، ولا شكَّ في كونهِ مطلوبًا ما لم يفوِّتْ حقّا آخرَ أهمَّ منْ ذلكَ المنفقِ فيهِ.

الثالثُ: الإنفاقُ في المباحاتِ، وهوَ منقسمٌ إلى قسمينِ، أحدِهما أن يكونَ على وجهٍ يليقُ بحالِ المنفقِ، وبقدرِ مالهِ فهذا ليسَ بإضاعةٍ ولا إسرافٍ، والثاني أنْ يكونَ فيما لا يليقُ عُرْفًا، فإنْ كانَ لدفعِ مفسدةٍ إما حاضرةً أو متوقعةً فذلكَ ليسَ بإسرافٍ، وإنْ لم يكنْ كذلكَ فالجمهورُ على أنهُ إسرافٌ، قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ

(4)

: ظاهرُ القرآنِ أنهُ إسرافٌ وصرَّحَ بذلكَ القاضي

(5)

حسينٌ فقالَ في كتاب قسمِ الصدقاتِ: هوَ حرامٌ، وتبعُه الغزاليُّ

(6)

، وجزمَ بهِ الرافعيُّ

(7)

في الكلام على الغارمِ، وقالَ الباجيُّ

(8)

منَ المالكيةِ: إنهُ يحرمُ استيعابُ جميعِ المالِ بالصدقةِ. قالَ: ويُكْرَهُ كثرةُ [الإنفاق]

(9)

في مصالح الدُّنيا، ولا بأسَ بهِ إذا وقعَ نادرًا

(1)

في (أ): "تستحيل".

(2)

في (أ): "أن في الإنفاق المحرم".

(3)

زيادة من (ب).

(4)

ذكرهم الحافظ في "الفتح"(10/ 408).

(5)

و

(6)

و

(7)

ذكرهم الحافظ في "الفتح"(10/ 408).

(8)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 408).

(9)

في (ب): "إنفاقه".

ص: 167

لِحَادثٍ كضيفٍ أو عيدٍ أو وليمةٍ. والاتفاقُ على كراهةِ الإنفاقِ في البناءِ الزائدِ على قدْرِ الحاجةِ، ولا سيَّما [إذا]

(1)

انضافَ إلى ذلكَ المبالغةُ في الزخرفةِ، وكذلكَ احتمالُ الغبنِ الفاحش في المبايعاتِ بلا سببٍ. وقالَ السبكيُّ

(2)

في الحلبياتِ: وأما إنفاقُ المالِ في الملاذِّ المباحةِ فهوَ موضعُ اختلافٍ، وظاهرُ قولِه تعالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}

(3)

، أن الزائدَ الذي لا يليقُ بحال المنفقِ إسرافٌ. ومَنَ بذلَ مالًا كثيرًا في عرَضٍ يسيبر فإنهُ يعدُّهُ العقلاءُ مضيِّعًا، انتهى. وقدْ تقدَّم الكلامُ في الزكاةِ على التصدُّق بجميعِ المالِ بما فيهِ كفايةٌ.

‌برُّ الوالدين من رضى الله

4/ 1375 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بن العَاصِ رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رِضى اللَّهِ في رِضى الوالدَين، وَسَخَطُ اللَّهِ في سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(4)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(5)

، وَالْحَاكِمُ

(6)

. [حسن]

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رِضا اللَّهِ في رِضا الولدَين، وَسَخطُ اللَّهِ في سَخَطِ الْوَالِدَين. أَخْرَجَة التِّرْمِذِيُّ وَصَحَحَة ابْن حِبّانَ، وَالْحَاكِمُ). الحديثُ دليلٌ على وجوبِ رضى الولدِ لوالديْهِ، وتحريمِ إِسخاطِهما؛ فإنَّ الأولَ فيهِ مرضاةُ اللَّهِ، والثاني: فيهِ سخطُه، فيقدَّمُ رضاهُما على فعلِ ما

(1)

في (ب): "إن".

(2)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 409).

(3)

سورة الفرقان: الآية 67.

(4)

في "السنن" رقم (1899).

(5)

في "صحيحه" رقم (429).

(6)

في "المستدرك"(4/ 151، 152) وصحَّحه ووافقه الذهبي مع أن الذهبي قال في الميزان أن عطاء والد يعلى: "لا يعرف".

قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (2)، والبغوي في "شرح السنة"(3423).

وقد أورده المحدث الألباني في "الصحيحة" رقم (516) وقال: إن الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن بمجموع طرقه

".

ص: 168

يجبُ عليهِ مِنْ فروضِ الكفايةِ كما في حديث ابن عمرَو

(1)

: "أنهُ جاءَ رجلٌ [يستأذِنُ رسول الله]

(2)

صلى الله عليه وسلم في الجهادِ فقالَ: أحيٌّ والداكَ؟ قالَ: نعمْ، قالَ: ففيهِمَا فجاهدْ". وأخرجَ أبو داودَ

(3)

منْ حديثٍ أبي سعيدٍ: "أن رجلًا هاجرَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منَ اليمنِ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إني قدْ هاجرتُ، قالَ: هلْ لكَ أهلٌ باليمنِ؟ فقالَ: أبوايَ، قالَ: أذِنا لكَ؟ قالَ: لا، قالَ: فارجعْ فاستأذنْهما، فإنْ أذِنَا لكَ فجاهدْ، وإلا فبرَّهُما". وفي إسنادِه مختلَفٌ فيهِ، وكذلكَ غيرُ الجهادِ منَ الواجباتِ، وإليهِ ذهبَ جماعةٌ من العلماءِ كالأميرِ الحسين ذكرَهُ في الشفاءِ، والشافعيِّ فقالُوا: يتعيَّنُ تركُ الجهادِ إذا لم يرضَ الأبوانِ، إلا فرضَ العينِ كالصلاةِ [الواجبة]

(4)

، فإنَّها تقدَّمُ وإنْ لم يرضَ بها الوالدان بالإجماعِ. وذهبَ الأكثرُ إلى أنهُ يجوزُ فعلُ فرضِ الكفايةِ والمندوبِ وإنْ لم يرضَ الأبوانِ ما لم يتضرَّرْ بسببِ فقدِ الولدِ، وحملُوا الأحاديثَ على المبالغةِ في حقِّ الوالدينِ وأنهُ يتبعُ رضَاهُما في ما لم يكنْ في ذلكَ سخطُ اللَّهِ كما قالَ تعالَى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}

(5)

. قلتُ: الآيةُ إنَّما هيَ فيما إذا حملاهُ على الشركِ ومثلُه غيرُه منَ الكبائرِ. وفيهِ دلالةٌ على أنهُ يطيعُهما في ترك فرضِ الكفايةِ والعينِ، لكنَّ الإجماعَ خصَّص فرضَ العينِ، وأما إذا تعارضَ حقُّ الأبِ وحقُّ الأمِّ، فحقُّ الأمّ [أقدم]

(6)

لحديثِ البخاريِّ

(7)

: "قالَ رجلٌ يا

(1)

أخرجه البخاري رقم (3004)، ومسلم رقم (2549)، وأحمد (2/ 188) و (2/ 193، 197، 221)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 25)، والبغوي في شرح السنة" رقم (2638)، والنسائي (6/ 10)، والترمذي رقم (1671)، والحميدي رقم (585) من طرق.

(2)

في (ب): "يستأذنه صلى الله عليه وسلم ".

(3)

في "السنن" رقم (2530).

قلت: وأخرجه أحمد في "المسند"(3/ 75، 76)، وأورده الهيثمي في "المجمع"(8/ 137، 138) وقال: إسناده حسن. قلت: فيه درَّاج أبي السمح ضعيف. والحاكم (2/ 103، 104)، والبيهقي (9/ 26)، وصحَّحه الحاكم، ولكن الذهبي تعقبه فقال: درَّاج واه.

ولكن للحديث شواهد منها حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، وغيره فهو به حسن.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

سورة لقمان: الآية 5.

(6)

في (أ): الأقدم، والمثبت من (ب) و (ج).

(7)

في "صحيحه" رقم (5971) من حديث أبي هريرة.

ص: 169

رسولَ اللهِ مَنْ أحقُّ بحسنِ صحبتي؟ قالَ: أمكَ ثلاثَ مراتٍ، ثمَّ قالَ: أبوكَ"، فإنهُ دل على تقديمِ رضَا الأمِّ على رضَا الأبِ، قالَ ابنُ بطالٍ

(1)

: مقتضاهُ أنْ يكونَ للأمِّ ثلاثةُ أمثالِ ما للأبِ، قالَ: وكأن ذلكَ لصُعوبةِ الحملِ ثمَّ الوضعِ ثمَّ الرضاعِ.

قلتُ: وإليهِ الإشارةُ بقولِه تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}

(2)

، ومثلُها:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}

(3)

.

قالَ القاضي عياضٌ

(4)

: ذهبَ الجمهورُ إلى أن الأمَّ تُفَضَّلُ على الأب في البرِّ، ونقلَ الحارثُ المحاسبيُّ الإجماعَ على هذَا. واختلفُوا في الأخِ والجدَ مَنْ أحقُّ ببرِّه منْهما؟ [فقالَ]

(5)

القاضي

(6)

: الأكثرُ الجدُّ، [وبه جزم الشافعي]

(7)

. ويقدَّم من أدلى بسببين على من أدلى بسببٍ، ثم القرابةُ منْ ذوي الرحمِ، ويقدَّم منْهم المحارِمُ على مَنْ ليسَ بمحرَمٍ، ثم العصباتُ، ثمَّ المصاهرةُ، ثم الولاءُ، ثم الجارُ. وأشارَ ابنُ بطالٍ إلى أن الترتيبَ حيثُ لا يمكنُ البرُّ دفعةً واحدةً. ووردَ في تقديمِ الزوجِ ما أخرجهَ أحمدُ والنسائيُّ، وصحَّحُه الحاكمُ منْ حديثِ عائشةَ:"سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناسِ أعظمُ حقًّا على المرأةِ؟ قالَ: زوجُها، قلتُ: فعلَى الرجلِ؟ قالَ: أُمُّه". ولعلَّ مثلَ هذا مخصوصٌ بما إذا حصلَ التضررُ مع الوالدين؛ فإنهُ يقدَّمُ حقهما على حقِّ الزوجِ جَمْعًا بينَ الأحاديثِ.

‌حق الجار أن يحبَّ له ما يحب لنفسه

5/ 1376 - وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمِنُ عَبْدٌ حتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(8)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أو لأخيه - مَا يُحِبُ لِنَفْسِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). الحديثُ وقعَ في لفظِ مسلمِ بالشكِّ

(1)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 402)

(2)

سورة الأحقاف: الآية 15.

(3)

سورة لقمان: الآية 14.

(4)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 402).

(5)

في (أ): "قال".

(6)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 402).

(7)

في (ب): "جزم به الشافعية".

(8)

البخاري رقم (13)، ومسلم رقم (71/ 45).

ص: 170

في قوله لأخيهِ أو لجارهِ، ووقعَ في البخاريِّ لأخيهِ بغيرِ شكٍّ. الحديثُ دليلٌ على عِظَم حقِّ الجارِ والأخِ، وفيه نفيُ الإيمانِ عمنْ لا يحبُّ لهما ما يحبُّ لنفسِه. وتأوَّله العلماءُ بأنَّ المرادَ نفُي كمالِ الإيمانِ [عمن لا يحب لهما]

(1)

، إذْ قدْ عُلِمَ منْ قواعد [الشريعةِ]

(2)

أن مَنْ لم يتصفْ بذلكَ [لا يخرجُ]

(3)

عن الإيمانِ، وأطلقَ المحبوبَ، ولم يعيِّنْ. وقدْ عيَّنه ما في روايةِ النسائيِّ

(4)

في هذا الحديثِ بلفظِ: "حتَّى يحبَّ لأخيهِ منَ الخيرِ ما يحبُّ لنفسهِ"، قالَ العلماءُ: والمرادُ: منَ الطاعاتِ والأمورِ المباحةِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وهذا قدْ يعدُّ منَ الصعبِ الممتنعِ، وليسَ كذلكَ؛ إذْ معناهُ لا يكملُ إيمانُ أحدكم حتى يحبَّ لأخيهِ في الإسلامِ ما يحبُّ لنفسِه مِنَ الخيرِ، والقيامُ بذلكَ يحصلُ بِأنْ يحبَّ لهُ مثلَ حصولِ ذلك منْ جهةٍ لا يزاحمُه فيها، بحيثُ لا تنقصُ النعمةُ على أخيه شيئًا منَ النعمةِ عليهِ، وذلك [سهلٌ]

(5)

على القلبِ السليمِ، وإنَّما يعسرُ على القلبِ الدغلِ. عافانا اللهُ وإخوانَنا أجمعينَ. اهـ. هذا على روايةِ الأخِ. وروايةُ الجارِ عامةٌ للمسلمِ، والكافرِ، [والفاسقِ]

(6)

، والصديقِ، والعدوِّ، والقريبِ، والأجنبيِّ، والأقربِ جِوارًا والأبعدِ، فمنِ اجتمعتْ فيهِ الصفاتُ الموجبةُ لمحبةِ الخيرِ لهُ فهوَ في أعلى المراتبِ، ومَنْ كانَ فيهِ أكثرُها فهوَ لاحقٌ بهِ وهلمَّ جرًّا إلى الخصلةِ الواحدةِ، فيعطَى كلُّ ذي حق حقه بحسبِ حالِه. وقد أخرجَ الطبراني

(7)

منْ حديثِ جابرٍ: "الجيرانُ ثلاثةٌ: جارٌ لهُ حق وهوَ المشركُ لهُ حق الجوارِ، وجارٌ لهُ حقانِ وهوَ المسلمُ لهُ حقُّ الجوارِ، وحقُّ الإسلامِ، وجارٌ لهُ ثلاثةُ حقوقٍ جارٌ [مسلمٌ]

(8)

له رحمٌ، لهُ حقُّ الإسلامِ، والرحمِ، والجوارِ". وأخرجَ البخاريُّ في الأدبِ المفردِ

(9)

والترمذي، وحسنه عن عبد اللهِ بن عمرو أنه ذبحَ شاةً فأهدَى منها لجارهِ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في (أ): "الشرع".

(3)

في (أ): "لا يخرجه".

(4)

في "السنن"(8/ 115 رقم 5018).

(5)

في (أ): "يسهل".

(6)

زيادة من (ب).

(7)

رواه البزار عن شيخه عبد الله بن محمد الحارثي وهو وضاع - كما في "مجمع الزوائد"(8/ 164).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

رقم (105). =

ص: 171

اليهوديِّ. فإنْ كانَ الجارُ أخًا أحبَّ لهُ ما يحبُّ لنفسِه، وإنْ كانَ كافرًا أحب لهُ الدخولَ في [الإسلام أولًا]

(1)

معَ ما يحب لنفسه [مَنْ المنافعِ بشرطِ الإيمانِ]

(2)

. قال الشيخُ محمدُ بنُ أبي جمرةَ

(3)

: حفظُ حقِّ الجارِ منْ [كمالِ]

(4)

الإيمانِ، والإضرارُ بهِ منَ الكبائرِ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"منْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يؤذي جارهَ"

(5)

. قالَ: ويفترقُ [الحالُ]

(6)

في ذلكَ بالنسبةِ إلى الجارِ الصالحِ وغيرِهِ. والذي يشملُ الجميعَ إرادةُ الخيرِ، وموعظتُه بالحسنَى، والدعاءُ له بالهدايةِ، وتركُ الإضرارِ لهُ إلا في الموضعِ الذي يحلُّ لهُ الإضرارُ به بالقولِ والفعلِ. والذي يخصُّ الصالحَ هوَ جميعُ ما تقدَّمَ وغيرُ الصالحِ كفُّه عن الأذَى، وأمرهُ بالحسنَى على حسبِ مراتبِ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ. والكافرُ يعرضُ الإسلام عليهِ والترغيبُ فيهِ برفقٍ، والفاسقُ يعظُه بما يناسبُه بالرفقِ، ويسترُ عليهِ زَللَه، وينهاهُ بالرفقِ فإن نفعَ وإلا هجرهُ قاصِدًا التأديب بذلكَ معَ إعلامِه بالسببِ ليكفَّ. ويقدِّمُ عندَ التعارضِ مَنْ كانَ أقربَ إليهِ بابًا كما في حديثِ عائشةَ:"قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ إن لي جاريْنِ، فإلى أيّهما أُهدي؟ قالَ: إلى أقربهما بابًا" أخرَجهُ البخاريُّ

(7)

. والحكمةُ فيهِ أن الأقربَ بابًا يرى ما يدخلُ بيتَ جارهِ منْ هديةٍ وغيرَها، فيتشوَّفُ إليها بخلافِ الأبعدِ. وتقدَّمَ أن حدَّ الجارِ

(8)

أربعونَ دارًا منْ كلِّ جهةٍ، وجاءَ عن عليٍّ عليه السلام

(9)

: "منْ سمعَ النداءَ فهوَ جارٌ"، وقيلَ (9): منْ صلَّى معكَ صلاةَ الصبحِ في المسجدِ فهوَ جارٌ.

= قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5152)، والترمذي رقم (1943).

وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو حديث صحيح.

(1)

في (ب): "الإيمان".

(2)

زيادة من (ب).

(3)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 442).

(4)

في (أ): "إكمال".

(5)

أخرجه البخاري رقم (6018)، ومسلم رقم (75/ 47).

وأبو داود رقم (5154) من حديث أبي هريرة.

(6)

في (أ): "الجار".

(7)

في "صحيحه" رقم (6020). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5155).

(8)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (109 ث 31) عن الحسن بإسناد حسن.

(9)

ذكر ذلك الحافظ في "الفتح"(10/ 447).

ص: 172

‌أعظم الذنوب أن تجعل لله ندًّا

6/ 1377 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَي الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًا وَهُوَ خَلَقَكَ"، قُلْتُ: ثُمّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأكُلَ مَعَكَ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ"

(1)

، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا) هوَ الشبهُ ويقالُ لهُ: نِدٌّ ونديدٌ (وَهُوَ خَلَقَكَ. قالَ قُلْتُ: ثمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بحَلِيلَةِ) بفتحِ الحاءِ المهملةِ الزوجةِ (جَارِكَ. مُتفَقٌ عَلَيْهِ) قالَ تعالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

(3)

، قالَ تعالَى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}

(4)

، والآيةُ الأُخْرَى:{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}

(5)

، وقولُه: أنْ تزانيَ بِحَليلةِ جاركَ، أي بزوجَتهِ التي تَحلُّ لهُ، وعبَّر بِتزَاني لأنَّ معناهُ تزني بها برضَاها. وفيهِ فاحشةُ الزنَى وإفسادُ المرأةِ على زوجِها، واستمالةُ قلبِها إلى غيرِه، وكلُّ ذلك فاحشةٌ عظيمةٌ، وكونُها حليلةَ الجارِ أعظمُ، لأنَّ الجارَ يتوقعُ منْ جارهِ الذبَّ عنهُ، وعن حريمهِ، ويأمنُ بوائقَه، ويركنُ إليهِ. وقدْ أمرَ اللَّهُ تعالَى برعايةِ حقِّه، والإحسانِ إليهِ، فإذا قابلَ هذَا بالزنا بامرأتِه وإفسادِها عليهِ معَ تمكنهِ منْها على وجْهٍ لا يتمكنُ [منها]

(6)

غيرهُ، كانَ غايةً في القُبحِ. والحديثُ دليلٌ أن أعظمَ المعاصي الشركُ، ثمَّ القتلُ بغيرِ حقٍّ، وعليهِ نصَّ الشافعيُّ، ثم تختلفُ الكبائرُ باختلافِ مفاسدِها الناشئةِ عنها.

‌من الكبائر أن يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه

7/ 1378 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

(1)

زيادة من (أ).

(2)

البخاري رقم (6001)، ومسلم رقم (141/ 86).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2310)، والترمذي رقم (3182)، والنسائي (7/ 89)، وأحمد (1/ 280، 421، 424، 462) و (6/ 284، 285).

(3)

سورة البقرة: الآية 22.

(4)

سورة الأنعام: الآية 151.

(5)

سورة الإسراء: الآية 31.

(6)

في (ب): "منه".

ص: 173

"مِنْ الْكَبَائرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ"، قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيُسُبُّ أُمَّهُ فَيسُبُّ أُمَّهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنَ الْكَبَائِرِ شَتمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيسُبُّ أُمَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). قولُه: شتمُ الرجلِ والديهِ، أي يتسببُ إلى شتمِهمَا، فهوَ منَ المجازِ المرسلِ استعمال للسبب في المسيِّبَ [عنه]

(2)

. وقدْ بينَّه صلى الله عليه وسلم بجوابهِ عمنْ سأَله بقولهِ: (نعمْ)، وفيهِ تحريمُ التسببِ إلى أذيةِ الوالدينِ وشتمِهما، ويأثمُ الغيرُ بسبِّهِ لهمَا. قالَ ابنُ بطالٍ: هذا الحديثُ أصلٌ في سدِّ الذرائعِ. ويُؤخَذُ منهُ أنهُ إنْ آلَ أمرهُ إلى محرَّم حرمَ عليهِ الفعلُ، وإن لم يقصدِ المحرَّمَ، وعليهِ دلَّ قولُه تعالَى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}

(3)

. واستنبطَ منهُ الماورديُّ

(4)

[في الحديث]

(5)

تحريمَ بيعِ الثوبِ الحريرِ إلى منْ يتحققُ منهُ لبسهُ، والغلامُ الأمردُ إلى منْ يتحققُ منهُ فعلُ الفاحشةِ، والعصيرُ [إلى من]

(6)

يتخذُه خمرًا. وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ يعملُ بالغالبِ، لأنَّ الذي يسبُّ أبا الرجلِ قدْ لا يجازيهِ بالسبِّ لكنَّ الغالبَ المجازاةُ.

‌بماذا يزول التهاجر بين الأخوين

8/ 1379 - وَعَنْ أَبي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ: يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هذَا، ويُعْرِضُ هذَا، وَخَيرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(7)

. [صحيح]

(1)

أخرجه البخاري رقم (5973)، ومسلم (146/ 90).

قلت: وأخرجه الترمذى رقم (1902)، وأحمد (2/ 164).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

سورة الأنعام: الآية 108.

(4)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 404).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

في (ب)"ممّن".

(7)

أخرجه البخاري رقم (6077) وطرفه في رقم (6237)، ومسلم رقم (2560). =

ص: 174

(وعن أَبي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هذَا، وَيُعْرِضُ هذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأ بِالسّلَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). نفيُ الحلِّ دالٌّ على التحريمِ، فيحرمُ هجرانُ المسلمِ فوقَ ثلاثةِ أيامٍ. ودلَّ مفهومُه على جوازهِ في ثلاثَة أيامٍ. وحكمةُ جوازِ ذلكَ في هذهِ المدةِ أنَّ الإنسانَ مجبولٌ على الغضبِ، وسوءِ الخلقِ، ونحوِ ذلكَ فَعُفيَ لهُ هجرُ أخيهِ ثلاثةَ أيامٍ، ليذهبَ ذلكَ العارضُ تخفيفًا على الإنسانِ، ودفعًا للإضرارِ بهِ، ففي اليومِ الأولِ يسكنُ غضبهُ، وفي الثاني يراجعُ نفسَه، وفي الثالثِ يعتذرُ، وما زادَ على ذلكَ كانَ قطعًا لحقوقِ الأخوَّةِ. وقد فسَّر معنَى الهجرِ [بقَوْلِه]

(1)

"يلتقيانِ - إلى آخرهِ"، وهوَ الغالبُ منْ حالِ المتهاجريْنِ عندَ اللقاءِ. وفيهِ دلالةٌ على زوالِ الهجْرِ لهُ بردِّ السلامِ، وإليهِ ذهبَ الجمهورُ ومالكٌ والشافعيُّ. واستدلَّ لهُ بما رواهُ الطبرانيُّ

(2)

منْ طريقِ زيدِ بن وهبٍ عن ابن مسعودٍ في أثناءِ حديثٍ موقوفٍ وفيهِ: "ورجوعهُ أنْ يأتيَ فيسلِّمَ عليهِ". وقالَ أحمدُ

(3)

وابنُ القاسمِ

(4)

: إنْ كانَ يؤذيهِ تركُ الكلامِ، فلا يكفيهِ ردُّ السلامِ بلْ لا بدَّ منْ الرجوعِ إلى الحالِ الذي كانَ بينَهما. وقيلَ: ينظرُ إلى حالِ المهجور، فإنْ كانَ خطابُه بما زادَ على السلامِ عند اللقاءِ مما [تطيبُ]

(5)

بهِ نفسه، ويزيلُ علةَ الهجرِ كانَ منْ تمامِ الوصلِ وتركِ الهجرِ، وإنْ كانَ لا يحتاجُ إلى ذلكَ كفى السلامُ. وأما فوقَ اليومِ الثالثِ فقالَ ابنُ عبد البرِّ

(6)

: أجمعُوا على أنهُ يجوزُ الهجْرُ فوقَ [ثلاثٍ]

(7)

لمنْ كانتْ مُكالمتُهُ تجلبُ نقصًا على المُخاطبِ لهُ في دينهِ، أو مضرَّةً تحصُلُ عليهِ في نفسهِ أو دنياهُ، فربَّ هجْرٍ جميلٍ خيرٌ من مخالطةٍ مؤذيةٍ. وتقدَّمَ الكلامُ في هجرِ منْ يأتي ما يلامُ عليهِ شرْعًا. وقدْ

= قلت: وأخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 906، 907)، وأبو داود رقم (4911)، والترمذي رقم (1932) وقال: حديث حسن صحيح.

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في الكبير (9/ 205 رقم 8904) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 67). وقال: "ورجاله رجال الصحيح غير عصمة بن سليمان وهو ثقة".

(3)

و

(4)

ذكرهما الحافظ في "الفتح"(10/ 496).

(5)

في (أ): "يطيب".

(6)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 496).

(7)

في (أ): "الثلاث".

ص: 175

وقعَ منَ السلفِ التهاجرُ بينَ جماعةٍ منْ أعيانِ [الصحابةِ]

(1)

والتابعينِ [وتابعيهم]

(2)

. وقدْ عدَّ الشارحُ جماعةً [منْ أولئكَ]

(3)

يستنكرُ صدورَه منْ أمثالِهم، وأقامُوا عليهِ، ولهمْ أعذارٌ إنْ شاءَ اللَّهُ. والحملُ على السلامةِ متعيَّنٌ، والعبادُ مظنةُ المخالفةِ. وأما قولُ الذهبيِّ

(4)

إنهُ لا يُقْبَلُ جرحُ الأقرانِ بعضَهمِ على بعضٍ سيِّما السلفُ قالَ: وحدُّهم رأسُ ثلاثمائةٍ منَ الهجرةِ، فقدْ بينَّا اختلَالَ ما قالَ في ثمراتِ النظرِ

(5)

في علمِ الأثرِ، وقد نقلَ في الشرح قضايا كثيرةً لا يحسنُ ذكرُها؛ إذْ طيُّ ما لا يحسنُ ذكرُه لا يحسنُ نشرُه.

‌كل معروف صدقة

9/ 1380 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(6)

. [صحيح]

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ). المعروفُ ضدُّ المنكرِ. قالَ ابنُ أبي جمرة: اسمُ المعروفِ [اسم لما]

(7)

عرفَ بأدلةِ الشرعِ أنهُ منْ أعمالِ البرِّ، سواءٌ جرتْ بهِ العادةُ أمْ لا، فإنْ قارنتْه النيةُ أُجِرَ صاحبُه جزمًا، وإلا ففيهِ احتمالٌ. والصدقةُ هي ما يعطيهِ المتصدقُ للَّهِ تعالَى فيشملُ الواجبةَ والمندوبةَ، والإخبارُ بأنَّهُ صدقةٌ منْ بابِ التشبيهِ البليغِ، وهوَ إخبارٌ بأنَّ لهُ حكمَ الصدقةِ في الثوابِ، وأنهُ لا يحتقرُ الفاعلُ شيئًا منَ المعروفِ، ولا يبخلُ بهِ. وفي الحديثِ: "إنَّ كلَّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ، والأمرُ بالمعروفِ [صدقةٌ]

(8)

، والنهيُ عن المنكرِ صَدَقةٌ". وقال صلى الله عليه وسلم:"في بُضع أحدِكمْ صَدَقةٌ، والإمساكُ عن الشرِّ صدقةٌ"

(9)

، وغيرُ ذلكَ

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في (أ): "أو الصحابة".

(3)

في (أ): "منهم بأسمائهم".

(4)

في "ميزان الاعتدال"(1/ 111).

(5)

مخطوط. جامع المكتبة الغربية مجاميع (3) المكتبة التيمورية (381).

(6)

في "صحيحه" رقم (6021).

(7)

في (ب): "ما".

(8)

زيادة من (ب).

(9)

وهو جزء من حديث أخرجه مسلم رقم (53/ 1006)، وأبو داود رقم (5243)، وأحمد في "المسند"(5/ 167، 168) من حديث أبي ذر.

ص: 176

منَ الأعمال الصالحةِ. ولفظُ كلِّ معروف عامٌّ. وقدْ أخرجَ الترمذيُّ

(1)

، وحسَّنهُ مرفُوعًا منْ حديثِ أبي ذرٍّ: "تبسُّمكَ في وجْهِ أخيكَ صدقةٌ لكَ، وأمْرُكَ بالمعروفِ ونهيُكَ عن المنكرِ صدقةٌ لكَ، وإرشادكَ الرجلَ في أرضِ الضلالةِ صدقةٌ لكَ، وإماطتُك الحجرَ والشوكَ والعظمَ عن الطريقِ لكَ صدقةٌ، وإفراغُك منْ دلوكَ في دلْوِ أخيكَ [صدقةٌ]

(2)

. وأخرجَهُ ابنُ حبانَ

(3)

في صحيحهِ.

وفي الأحاديثِ إشارةٌ إلى أن الصدقةَ لا تنحصرُ فيما هو أصلُها، وهوَ ما أخرجَه الإنسانُ منْ مالهِ متطوِّعًا، فلا تختصُّ بأهلِ اليسارِ، بلْ كلُّ واحد قادرٌ على أن يفعلَها في أكثرِ الأحوالِ منْ غيرِ مشقةٍ، فإنَّ كلَّ شيءٍ يفعلُه الإنسانُ، أوْ يقولُه منَ الخيرِ يكتبُ لهُ بهِ صدقةٌ.

10/ 1381 - وَعَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"

(4)

. [صحيح].

(وَعَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحْقِرَن مِنَ الْمَعْروفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) بإسكانِ اللامِ، ويقالُ: طليقٍ، والمرادُ سهل منبسطٌ.

11/ 1382 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا طَبَخْتَ مَرقَةً فَأَكْثِر مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ"

(5)

، أَخْرَجَهُما مُسْلِمٌ

(6)

. [صحيح]

(وَعَنْهُ) أي أبي ذرٍّ (قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا طَبَخْتَ [مَرَقًا]

(7)

فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ. أَخْرَجَهُما مُسْلِمٌ). [في الحديثين]

(8)

الحثُّ على [فعل]

(9)

المعروفِ

(1)

في "السنن" رقم (1956). وقال: هذا حديث حسن وغريب.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

رقم (474)، ورقم (529).

قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (891)، وأحمد (5/ 168) من طريق أُخرى.

والخلاصة: أن الحديث صحيح. انظر: "الصحيحة"(572).

(4)

في "صحيحه" رقم (2626).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1833).

(5)

في "صحيحه" رقم (142/ 2625).

(6)

في "صحيحه" رقم (38/ 2699).

(7)

في (ب): "مرقة".

(8)

زيادة من (أ).

(9)

زيادة من (ب).

ص: 177

ولو بطلاقةِ الوجْهِ [والبِشْرِ]

(1)

، والابتسامِ في وجْهِ مَنْ يلاقيهِ منْ إخوانِهِ. وفيهِ الوصيةُ بحقِّ الجارِ وتعاهدهِ، ولو بمرقةٍ تهديْها إليهِ.

‌الترغيب في التفريج عن المسلم والتيسير عليه

12/ 1383 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَفَّسَ) لفظُ مسلمٍ: مَنْ فرَّجَ (عَنْ مُسْلِمٍ كُربةً مِنْ كُرَب الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ [عَنْهُ]

(3)

كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِر يَسَّرَ الله عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). هذا ليسَ في مسلمٍ كما قالَ الشارحُ، وقدْ أخرجَه غيرهُ

(4)

، (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَه اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخيهِ. أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). [هذا حديث جليل عظيم القدر]

(5)

، وفيه مسائلُ:

الأُولى: فضيلةُ منْ فرَّجَ [عن المسلمِ]

(6)

كربةً منْ كربِ الدنيا، وتفريجُها إما بإعطائِه منْ مالهِ إنْ كانتْ كُرْبَتُهُ منْ حاجةٍ، أو بذلِ جاههِ في طلبِه لهُ منْ غيرهِ، أوْ قرضِه، وإنْ كانتْ كربتُه منْ ظلم ظالمٍ لهُ فرَّجَها بالسعي في رفْعِها عنهُ، أو تخفيفِها، وإنْ كانتْ كربةُ مرضٍ أَصَابَهُ أعانه على الدواءِ إنْ كانَ لديهِ، أو على

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في "صحيحه" رقم (38/ 2699).

(3)

في (أ): "عليه".

(4)

أخرجه أبو داود رقم (4946)، والترمذي رقم (1930)، وابن ماجه رقم (225)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (534) مختصرًا، والحاكم (4/ 383).

قلت: وهم الشارح حينما قال عن هذا الحديث أنه ليس في مسلم.

(5)

في (ب): "الحديث".

(6)

في (أ): "على مسلم".

ص: 178

[طبيبٍ]

(1)

ينفعُه، وبالجملةِ تفريجُ الكربِ بابٌ واسعٌ فإنهُ يشملُ إزالةَ كل ما ينزلُ بالعبدِ أوْ تخفيفه.

الثانيةُ: التيسيرُ على المُعسرِ هوَ أيضًا منْ تفريجِ الكرب، وإنَّما خصُّه لأنهُ أبلغُ وهو [يشمل الإنظار للغريم]

(2)

في الدَّينِ، أو إبراؤُه لهُ منهُ، أوْ غير ذلكَ؛ فإنَّ الله تعالى ييسِّرُ عليهِ أمورَه، ويسهِّلُها لهُ لتسهيلهِ لأخيه فيما عندَه. والتيسيرُ لأمورِ الآخرةِ بأنْ يهوِّنَ عليهِ المشاق فيها، ويرجحَ وزنَ الحسناتِ ويلقى في قلوبِ مَنْ لهمْ عندَهُ حق يجبُ استيفاؤهُ منه في الآخرِة المسامحةُ وغيرُ ذلكَ، ويؤخذُ منهُ أن مَنْ عسَّر على معسِر عسَّر عليهِ، ويؤخذُ منهُ أنّهُ لا بأسَ على مَنْ عسَّر على موسِر لأنَّ مطْلَه ظلمٌ يحلُّ عرضُه وعقوبتُه.

الثالثةُ: منْ سترَ مسلمًا اطّلعَ منهُ على ما لا ينبغي إظهارهُ منَ الزلَّاتِ والعثراتِ، فإنهُ مأجورٌ [بستره عنه]

(3)

بما ذكرهُ منْ سترهِ في الدنيا والآخرةِ، فيسترُه في الدنيا بأنْ لا يأتي زلَّةً يكرهُ اطلاعَ غيرِه عليها، وإنْ أتاهَا لم يُطلعِ اللهُ عليها أحدًا، وسترُه في الآخرةِ بالمغفرةِ لذنوبِه، وعدمِ إظهارِ قبائحِه، وغيرِ ذلكَ. وقد حثَّ رحمه الله على السترِ للمسلمِ ققالَ في حقِّ ماعزٍ:"هلَّا سترتَ عليهِ بردائِكَ يا هزالُ"

(4)

. قالَ العلماءُ: وهذا السترُ مندوبٌ لا واجبٌ، فلو رفعهُ إلى السلطان كان جائزًا له، ولا يأثمُ به. قلتُ: ودليله أنه صلى الله عليه وسلم لم يلم هزالًا، ولا أبانَ لهُ أنهُ آثمٌ، بلْ حرَّضَهُ على أنهُ كانَ ينبغي لهُ سترهُ، فإنْ علمَ أنهُ تابَ وأقلعَ حرُمَ عليهِ ذكرُ ما وقعَ منهُ، ووجبَ عليهِ سترهُ، وهوَ في حقِّ منْ لا يُعْرَفُ بالفسادِ والتمادي في الطغيانِ، وأما مَنْ عُرِفَ بذلكَ فانهُ لا يستحبُّ السترُ عليهِ، بَلْ يرفعُ أمرُه إلى مَنْ لهُ الولايةُ إذا لم يخفْ منْ ذلكَ مفسدةَ، وذلكَ لأنَّ الستر عليهِ يغريهِ على الفسادِ، ويجزئه على أذيةِ العبادِ، ويجرئُ غيرهَ منْ أهلِ الشرِّ والعِنادِ، وهذا بعدَ انقضاءِ فعلِ المعصيةِ. فأما إذا رآهُ وهو فيها فالواجبُ المبادرةُ لإنكارِها، والمنعُ منْها معَ القدرةِ على ذلكَ. ولا يحل تأخيرُه لأنهُ منْ بابِ إنكارِ المنكرِ لا يحلُّ

(1)

في (أ): "طلب ما".

(2)

في (ب): "إنظاره لغريمه".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

أخرجه أبو داود رقم (4377)، وهو حديث ضعيف.

ص: 179

تركُه معَ الإمكانِ، وأما إذا رآهُ يسرقُ مالَ زيدٍ فهلْ يجبُ عليهِ إخبارُ زيدٍ بذلكَ أو سترُ السارقِ؟ الظاهرُ أنهُ يجبُ عليهِ إخبارُ زيدٍ، وإلا كانَ مُعيِنًا للسارقِ بالكتْمِ منهُ على الإِثْمِ، واللَّهُ تعالَى يقولُ:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

(1)

. وأما جرحُ الشهودِ والرواةِ والأمناءِ على الأوقافِ والصدقاتِ وغير ذلكَ فإنهُ منْ بابِ نصيحةِ المسلمينَ الواجبةِ على كل من اطلعَ عليها، وليسَ منَ الغيبةِ المحرَّمةِ، بلْ مِنَ النصيحةِ الواجبةِ، وهوَ مجمعٌ عليهِ.

الرابعةُ: الإخبارُ بأنَّ اللَّهَ تعالى في عونِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أخيهِ؛ فإنهُ دالٌّ على أنهُ تعالَى يتولَّى إعانةَ مَنْ أعانَ أخاهُ وهوَ يدلُّ على أنهُ يتولَّى عونَه في حاجةِ أخيه التي يسعَى فيها، وفي حوائجِ نفسهِ، فينالُ منْ عونِ اللَّهِ ما لمْ يكنْ ينالُه بغيرِ إعانتِه وإنْ كانَ تعالَى هوَ المعينُ لعبدهِ في أمورِهِ لكنْ إذا كانَ في عونِ أخيهِ زادتْ [إعانةُ اللَّهِ]

(2)

، فيؤخذُ منهُ أنهُ ينبغي للعبدِ أنْ يشتغلَ بقضائه حوائجِ أخيهِ، ويقدمها على حاجةِ نفسهِ، لينالَ منَ اللَّهِ تعالى كمالَ الإعانةِ في [حاجته]

(3)

.

وهذهِ الجملُ المذكورةُ في الحديثِ دلَّتْ على أنهُ تعالَى يجازي العبدَ منْ جنسِ فعلِه، فمنْ سترَ سترَ عليهِ، ومنْ يسَّرَ يسَّرَ عليهِ، ومنْ أعانَ أُعِيْنَ. ثمَّ إنهُ تعالَى بفضِله وكرمِه جعلَ الجزاءَ في الدارينِ في حقِّ الميسرِ على المعسرِ، والساترِ للمسلمِ، وجعلَ تفريجَ الكربةِ يجازي بهِ يومِ القيامةِ كأنهُ لعظائمِ يومِ القيامةِ أُخِّرَ جَزاءُ تفريجِ الكربةِ، ويحتملُ أنْ يفرجَ عنه في الدُّنيا أيضًا لكنَّهُ طُوِيَ في الحديثِ وذكرَ ما هوَ أهمُّ.

‌الدال على الخير كفاعله

13/ 1384 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

. [صحيح]

(1)

سورة المائدة: الآية 2.

(2)

في (أ): "إعانته تعالى".

(3)

في (ب): "حاجاته".

(4)

في "صحيحه" رقم (1893).

قلت: وكذلك أخرجه الترمذي رقم (2671)، وأحمد في "مسنده"(5/ 272).

ص: 180

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). دلَّ الحديثُ على أن الدلالةَ على الخيرِ يؤجَرُ بها الدالُّ عليهِ كأجْرِ فاعلِ الخيرِ، وهوَ مثلُ حديثِ:"منْ سنَّ سنةً حسنةً في الإسلامِ، كانَ لهُ أجرُها، وأجرُ منْ عملَ بها"

(1)

. والدلالةُ تكونُ بالإشارةِ على الغيرِ بفعلِ الخيرِ، وعلى إرشادِ ملتمسِ الخيرِ على أنهُ يطلبَهُ منْ فلانٍ، والوعظُ والتذكيرُ، وبالتأليف للعلوم النافعةِ. ولفظُ خيرٍ [يشملُ]

(2)

الدلالةَ على خيرِ الدُّنيا والآخرةِ، فللهِ درُّ الكلامِ النبويّ ما أشملَ معانيه: وأوضحَ مبانيهِ، ودلالتَه على خيرِ الدنيا والآخرةِ.

‌من استعاذ وسأل بالله أعيذ وأعطي

14/ 1385 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِن لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ"، أَخْرَجُه الْبَيْهَقيُّ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَألَكُمْ باللهِ فَأعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ. [رواه]

(4)

الْبَيْهَقيُّ). وقدْ أخرجَه أبو داودَ

(5)

وابنُ حبانَ

(6)

في صحيحهِ، والحاكمُ

(7)

[وصحَّحه]

(8)

وفيهِ زيادةُ: "ومنِ استجارَ باللَّهِ فأجيرُوه، ومنْ أتى إليكمْ معروفًا فكافِئُوه، فإنْ لم تجدُوا فادعُوا لهُ، حتَّى تعلمُوا أنكُم قدْ كافأْتموهُ".

(1)

أخرجه مسلم رقم (15/ 1017)، والنسائي (5/ 76 رقم 2554)، وأحمد في "المسند"(4/ 357، 359، 360، 361).

(2)

في (أ): "تشمل".

(3)

في "السنن الكبرى"(4/ 199).

(4)

في (ب): "أخرجه".

(5)

في "السنن" رقم (1672) و (5109).

(6)

في "صحيحه"(8/ 199 رقم 3408).

(7)

في "المستدرك"(1/ 412، 2/ 63، 64) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

قلت: وهو حديث صحيح.

(8)

زيادة من (أ).

ص: 181

وفي روايةٍ

(1)

: "فإنْ عجزْتُم عنْ مكافأتهِ فادعُوا لهُ حتَّى تعلمُوا أنْ قدْ شكرتُم، فإنَّ الله يحبُّ الشاكرينَ". وأخرجَ الترمذيُّ

(2)

وقالَ: حسنٌ غريبٌ: "منْ أعطَى عطيةً فوجدَ فليجْزهِ، فإنْ لم يجدْ فليثنِ فإنَّ منْ أثنَى فقدْ شكرَ، ومنْ كتَم فقدْ كفرَ، ومنْ تحلَّى بباطلٍ فهوَ كلابسِ ثوبي زورٍ".

والحديثُ دليلٌ على أنهُ منِ استعاذَ باللهِ عنْ أيِّ أمرٍ طُلبَ منهُ غيرُ واجبٍ عليهِ، فإنهُ يعاذُ بترك ما طُلِبَ منهُ أنْ يفعلَ، وأنهُ يجبُ إعطاءُ من يسأل بالله، وإن كان قد ورد أنه لا يسأل بالله إلا الجنة فمن سأل من المخلوقين بالله شيئًا وجب إعطاؤه إلا أن يكون منهيًا عن إعطائه. وقد أخرج الطبراني بسند رجاله رجالُ الصحيحِ إِلا شيخَه - وهوَ ثقةٌ على كلامٍ فيهِ - منْ حديثِ أبي موسَى

(3)

الأشعريِّ أنهُ سمعَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ملعون منْ سألَ بوجهِ اللَّهِ، وملعونٌ منْ سُئِلَ بوجهِ اللَّهِ ثمَّ منعَ سائلَه ما لم يسألْ هُجْرًا" بضمِّ الهاءِ، وسكونِ الجيمِ، أي أمرًا قبيحًا لا يليقُ، ويحتملُ ما لم يسألْ سؤالَا قبيحًا أي بكلامِ يقبحُ، ولكنَّ العلماءَ حملُوا هذا الحديثَ علَى الكراهةِ، ويحتملُ أنهُ يرادف بهِ المضطر ويكونُ ذكرهُ هنا أن منعَه معَ سؤالهِ باللهِ تعالى أقبحُ وأفظعُ، ويحملُ لعنُ السائلِ على ما إذا ألحَّ في [المسألةِ]

(4)

حتَّى أضجرَ المسؤولَ.

ودلَّ الحديثُ علَى وجوبِ المكافأةِ للمحسنِ، إلا إذا لم يجدْ فإنهُ كافأه بالدعاءِ، وأجزأَه إنْ علمَ أنهُ قدْ طابتْ نفسُه أو لم تطبْ بهِ وهو ظاهرُ الحديثِ.

* * *

(1)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 412)، والنسائي (5/ 82)، والبيهقي (4/ 199).

(2)

في "السنن" رقم (2034).

(3)

وهو حديث حسن. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 153): رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن على ضعف في بعضه مع توثيق.

(4)

في (أ): "السؤال".

ص: 182

[الباب الثالث] باب الزهد والورع

‌معنى الزهد والورع وما قيل فيهما

الزهدُ هوَ قلةُ الرغبةِ في الشيءِ، وإنْ شئتَ قلتَ الرغبةِ عنهُ، وفي اصطلاح أهلِ الحقيقةِ: بغضُ الدنيا والإعراضُ عنْها، وقيلَ: تركُ راحةِ الدنيا لراحةِ الآخَرةِ، [وقيل: ترك نعيم الدنيا وشهواتها لنعيم الآخرة ولذاتها]

(1)

، وقيلَ: أنْ يخلُوَ قلبُك مما خلتْ منهُ يدُك، وقيلَ: بذلُكَ ما تملكُ ولا تؤثرُ ما تدرُكَ. وقيلَ تركُ الأسَفِ على معدومٍ، ونفيُ الفرح بمعلوم، قالَه المناويُّ في تعريفاتِه، وأخرجَ الترمذيُّ

(2)

وابنُ ماجه

(3)

منْ حديثِ أَبي ذرٍّ مرفُوعًا: "الزهادةُ في الدُّنيا ليستْ بتحريمِ الحلالِ، ولا إضاعةِ المالِ، ولكنَّ الزهادةَ في الدنيا أنْ لا يكون بما في يدك أوثقُ منكَ بما في يدي الله، وأنْ تكونَ في ثوابِ المصيبةِ إذا أنتَ أصبْتَ بها أرغبَ منك فيها لو أنها بقيتْ لكَ"، انتَهى. فهذا [تفسير الزهادة في الحديث والورع في التعريفات للمناوي]

(4)

. والورعُ تجنب الشبهاتِ خوفَ الوقوعِ في محرَّمٍ. وقيلَ: تركُ ما يريبكَ، ونفيُ ما يعيبُكَ، وقيلَ: الأخذُ بالأوثقِ، وحملُ النفسِ على الأشقِّ. وقيلَ: النظرُ في المطعمِ واللباسِ، وتركُ ما بهِ باسٌ، وقيلَ: تجنبُ الشبهاتِ، ومراقبة الخطراتِ.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في "السنن" رقم (2340). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأبو إدريس الخولاني اسمه عائذ الله بن عبد الله وعمرو بن واقد منكر الحديث.

(3)

في "السنن" رقم (4100).

وهو حديث ضعيف، والله أعلم.

(4)

في (ب): " [التفسير النبويُّ يقدم على كلِّ تفسير] ".

ص: 183

‌الحلال بيِّن والحرام بيِّن

1/ 1386 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْه إِلَى أُذُنَيْهِ: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُن كثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ: كَالرَّاعِي يَرْعى حَوْلَ الْحِمى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيه، أَلَا وَإنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإنَّ حمِى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِن في الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلبُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ - وَأَهْوَى النّعْمَان بِإصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: إِن الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ)، ويُرْوَى مُشَبَّهاتٌ بضمِّ الميمِ وتشديدِ الموحدةِ، ومُشبَهات [بضمّها أيضًا]

(2)

وتخفيفِ الموحدةِ، (لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ) بالهمزةِ منَ البراءةِ، أي: حصلَ لهُ البراءُ منَ الذمِّ الشرعيِّ، وصانَ عرضَه منْ ذمِّ الناسِ (لِدِينهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ)، أي يُوشكُ أنْ يقعَ فيهِ، وإنَّما حذفَهُ لدلالةِ ما بعدَه عليهِ؛ إذْ لوْ كانَ الوقوعُ في الشبهاتِ وقوعًا في الحرامِ لكانتْ منْ قسمِ الحرامِ البيِّنِ، وقدْ جعلَها قسمًا برأسِه، وكما يدلُّ له التشبيهُ بقولِه:(كَالرَّاعِي يرعي حَوْلَ الْحِمي، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيه، أَلَا وَإن لِكُل مَلِك حِمَي، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محَارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كلُّهُ، وإذا فسدت فسد الجسدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلبُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). أجمع الأئمةُ على عظمِ شأنِ

(1)

أخرجه البخاري رقم (52).

ومسلم في "صحيحه" رقم (107/ 1599).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3329)، (3330)، والترمذي رقم (1205)، والنسائي (7/ 241)، وابن ماجه رقم (3984).

• انظر تحقيقنا لرسالة: "تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام".

(2)

زيادة من (ب).

ص: 184

هذا الحديثِ، وأنهُ منَ الأحاديثِ التي تدورُ عليها قواعدُ الإسلامِ. قالَ جماعةٌ: هوَ ثلثُ الإسلامِ؛ فإنَّ دَوَرَانَهُ عليهِ وعلى حديثِ: "إنما الأعمالُ بالنياتِ"

(1)

، وعلى حديثِ:"مِنْ حسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعْنِيْهِ"

(2)

. قالَ أبو داودَ

(3)

: إنهُ يدورُ على أربعةِ، هذه [ثلاثة، والرابع]

(4)

حديثُ: "لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يحبَّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسهِ"

(5)

. وقيلَ [الرابع]

(6)

حديثُ: "ازهدْ في الدنيا يحبُّكَ اللَّهُ، وازهدْ فيما في أيدي النّاسِ يُحبُّكَ الناسُ"

(7)

. وقولُه: "الحلالُ بيِّنٌ" أي قدْ بيَّنه اللَّهُ ورسولُه إما بالإعلامِ بأنهُ حلالٌ نحوَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}

(8)

الآية، وقولُه تعالَى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}

(9)

، أو سكتَ عنهُ تعالَى ولم يحرِّمهُ فالأصلُ حِلُّه، أوْ بما أخبرَ عنهُ رسولُهُ صلى الله عليه وسلم بأنَّهُ حلالٌ، أو امتنَّ اللَّهُ تعالى به ورسُولُهُ فإنهُ لازمٌ حِلُّه. قولُه:"والحرامُ بيِّنٌ" أي بيَّنه اللَّهُ تعالى لنا في كتابِه، أو على لسانِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم نحوَ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}

(10)

، أوْ بالنَّهْي عنهُ نحوَ:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}

(11)

ونحوه، والإخبارُ عن الحلالِ بأنهُ بَيّنٌ إعلامٌ بحلِّ الانتفاعِ، بهِ في وجوهِ النفعِ، كما أن الإخبارَ بأنَّ الحرامَ بَيِّنٌ إعلامٌ باجتنابهِ.

(1)

أخرجه البخاري رقم (1).

ومسلم رقم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمذي رقم (1647)، والنسائي (1/ 59، 60).

(2)

أخرجه الترمذي رقم (2318)، وابن ماجه رقم (3976) عن أبي هريرة.

• وأخرجه الترمذي رقم (2319)، ومالك في "الموطأ"(2/ 903) عن علي بن الحسين مرسلًا.

(3)

ذكره النووي في "شرح مسلم"(11/ 27).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

أخرجه البخاري رقم (13) ومسلم (45)، والنسائي (8/ 115)، والترمذي رقم (2517) من حديث أنس بن مالك.

(6)

زيادة من (أ).

(7)

أخرجه ابن ماجه رقم (4102) من حديث سهل بن سعد، وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده خالد بن عمرو وهو ضعيف متفق على ضعفه واتهم بالوضع. وأورد له العقيليّ هذا الحديث وقال: ليس له أصل من حديث الثوري. لكن قال النووي عقب هذا الحديث: رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة. انظر: مصباح الزجاجة (3/ 269).

(8)

سورة المائدة: الآية 96.

(9)

سورة الأنفال: الآية 69.

(10)

سورة المائدة: الآية 3.

(11)

سورة البقرة: الآية 188.

ص: 185

وقولُه: "وبينهَما مشتبهاتٌ، لا يعلمهنَّ كثيرٌ منَ الناسِ"، المرادُ بها التي لم يعرفْ حِلَّها ولا حرمتهَا، فصارتْ مترددةَ بينَ الحلِّ والحرمةِ عندَ الكثيرِ منَ الناسِ، وهمُ الجهالُ فلا يعرفُها إلا العلماءُ بنصٍّ، فما لم يوجدْ فيهِ شيءٌ منْ ذلكَ اجتهدَ فيهِ العلماءُ وألحقوهُ بأيّهما بقياسٍ أو استصحابٍ أو نحوِ ذلكَ؛ فإنْ خفيَ دليلُه فالورعُ تركُه ويدخلُ تحتَ:"فمنِ اتقى الشبهاتِ فقدِ استبرأ"، أي: أخذَ البراءةِ "لدينهِ وعرضِه"، فإذا لم يظهرْ للعالمِ دليلُ تحريمهِ ولا [حلِّه]

(1)

فإنهُ يدخلُ في حكمِ الأشياء قبلَ ورودِ الشَّرعِ، فمنْ لا يثبتُ للعقلِ حكمًا يقولُ لا حكمَ فيها بشيءٍ، لأن الأحكامَ شرعيةٌ، والفرضُ أنهُ لم يُعْرَفُ فيها حكمٌ شرعيٌّ ولا حكمٌ للعقلِ. والقائلونَ بأنَّ العقلَ حاكمٌ لهم في ذلكَ ثلاثةُ أقوالٍ: التحريمُ، والإباحةُ، والوقفُ. وإنما اختُلِفَ في [المشتَبِهاتِ]

(2)

هلْ هيَ مما اشتبهَ تحريمُه، أو ما اشتبهَ بالحرامِ الذي قدْ صحَّ تحريمهُ؟ رجحَ المحققونَ الأخيرَ، ومثَّلُوا ذلكَ بما وردَ في حديثِ عقبةَ بن الحارثِ الصحابيِّ

(3)

الذي أخبرتْه أمةٌ سوداءٌ بأنَّها أرضعتْه، وأرضعتْ زوجتَه، فسألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عنْ ذلكَ فقالَ له صلى الله عليه وسلم:"كيفَ وقدْ قيلَ"؛ فقدْ صحَّ تحريمُ الأختِ منَ الرضاعةِ شرْعًا قطعًا، وقد التبستْ عليهِ زوجتهُ بهذَا الحرامِ المعلومِ، ومثلُه التمرةُ التي وجدَها صلى الله عليه وسلم في الطريقِ فقالَ: "لولا أني أخافُ [أنها]

(4)

منَ الزكاةِ [أو منَ الصدقةِ]

(5)

لأكلْتُها"

(6)

؛ فقدْ صحَّ تحريمُ [الصدقة]

(7)

عليهِ، ثمَّ والتبستْ هذهِ التمرةُ بالحرامِ المعلومِ. وأما ما التبسَ هلْ حرَّمه اللَّهُ علينا أم لا؟ فقدْ وردتْ أحاديثُ دالةٌ على أنهُ حلالٌ، منها حديثُ سعدِ بن أبي وقاصٍ

(8)

: "إنَّ مِنْ أعظمِ الناسِ إثمًا في المسلمينَ مَنْ سألَ عنْ

(1)

في (أ): "تحليله".

(2)

في (أ): "المشبهات".

(3)

أخرجه البخاري (9/ 152 رقم 5104)، والطيالسي في "المسند"(ص 190 رقم 1337).

وأحمد في "المسند"(4/ 7)، والدارمي (2/ 157، 158)، وأبو داود (4/ 27 رقم 3603)، والترمذي 31/ 457 رقم 1151). والنسائي (6/ 109)، والبيهقي (7/ 463).

(4)

في (أ): "أن يكون".

(5)

زيادة من (ب).

(6)

أخرجهُ مسلم رقم (164/ 1071).

(7)

في (أ): "الزكاة".

(8)

أخرجه البخاري رقم (7289)، ومسلم رقم (2358)، وأبو داود في "السنن" رقم (4610) عن سعد بن أبي وقاص بلفظ:"إن أعظم المسلمين جرمًا .. ".

ص: 186

شيءٍ لم يحرَّمْ فحرُمَ منْ أجلِ مسألته"؛ فإنهُ يفيدُ أنهُ كانَ قبلَ سؤالهِ حلالًا، ولما اشتبَهَ عليه سألَ عنهُ، فحرمَ منْ أجلِ مسألتهِ، ومنْها أحاديث: "ما سكتَ اللهُ عنهُ فهوَ مما عُفِيَ عنْه"

(1)

لهُ طرقٌ كثيرةٌ، ويدلُّ لهُ قولُه تعالَى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}

(2)

. فكلُّ ما كانَ طيبًا ولم يثبت تحريمهُ فهوَ حلالٌ وإن اشتَبَهَ علينا تحريمهُ، والمرادُ بالطيبِ ما أحلَّه اللهُ تعالى على لسانِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أو سكتَ عنهُ، والخبيثُ ما حرَّمهُ وإنْ عدَّتْهُ النفوسُ طَيِّبًا، كالخمرِ فإنهُ أحدُ الأَطْيَبَيْنِ في لسانِ العربِ في الجاهليةِ. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(3)

: إن الحلالَ الكسبُ الطيبُ وهوَ الحلالُ المحضُ، وأنَّ المتشابهَ عندنَا في حيّز الحلالِ بدلائلَ ذكَرْناها [في غيرِ هذا الموضعِ]

(4)

. ذكرهَ صاحبُ تنضيد [التمهيدِ]

(5)

في الترغيبِ في الصدقةِ نقلَه عنهُ السيدُ محمدُ بنُ إبراهيمَ الوزير، وقدْ حقَّقْنَا أنهُ منْ قسمِ الحلالِ البينِ في رسالتِنا المسمَّاةِ: القولُ المبينُ. وقالَ الخطابيُّ

(6)

: ما شككتَ فيهِ فالأَوْلَى اجتنابُه، وهوَ على ثلاثةِ أحوالٍ: واجبٍ، ومستحبٍّ، ومكروهٍ، فالواجبُ اجتنابُ ما يستلزمُ المحرَّمَ، والمندوبُ اجتنابُ معاملةِ منْ غلبَ على مالهِ الحرامُ، والمكروهُ اجتنابُ الرخصةِ المشروعةِ اهـ. قالَ في الشرحِ: وقدْ ينازعُ في المندوبِ، فإنهُ إذا كانَ الأغلبُ الحرامَ فالأولى أنْ يكونَ واجبَ الاجتنابِ، وهوَ الذي بنى عليهِ الهادويةُ في معاملةِ الظالمِ فيما لم يظنَّ تحريْمَهُ، لأنَّ الذي غلبَ عليهِ الحرامُ يظنُّ فيهِ التحريمُ اهـ. وقدْ أوضحْنا هذا في حواشي ضوءِ النهارِ. وقسَّمَ الغزاليُّ

(7)

الورعَ أقسامًا: ورعَ الصدِّيقينَ، وهوَ تركُ ما لم يكنْ بينته واضحةً على حلّه، وورعُ المتقينَ، وهوَ ما لا شبهةَ فيهِ ولكنْ يخافُ أنْ يجرَّ إلى الحرامِ،

(1)

وهو جزء من حديث أخرجه الحاكم (2/ 375) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

قلت: فيه رجاء بن حيوه قال فيه ابن معين: صويلح، وقال أبو زرعة: لا بأس به.

• وأورد الحديث الهيثمي في "المجمع"(7/ 55) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.

والخلاصة: أن الحديث حسن.

(2)

سورة الأعراف: الآية 157.

(3)

كما في "فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر"(7/ 172).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "المذهب".

(6)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(4/ 293).

(7)

انظر: "الأحياء"(2/ 94 - 96).

ص: 187

وورعُ الصالحينَ وهوَ تركُ ما [لم]

(1)

يتطرقْ إليهِ احتمالُ التحريم بشرطِ أنْ يكونَ لذلكَ الاحتمالِ موقعٌ، وإلا فهوَ ورعُ الموسوَسينَ. وقدْ بوَّبَ لهُ البخاريُّ

(2)

فقالَ: (بابُ مَنْ لم يرَ الوسواسَ في الشبهاتِ) كمن يمتنعُ منْ أكلِ الصيدِ خشيةَ أنْ يكونَ انفلتَ منْ إنسانٍ، وكمنْ تركَ شراءَ [ما]

(3)

يحتاجُ إليهِ منْ مجهولٍ لا يدري أمالُه حرامٌ أم حلالٌ، ولا علامةَ تدلُّ على ذلكَ التحريمِ، وكمنْ تركَ تناولَ شيء لخبرٍ وردَ فيهِ متفقٌ على ضعفهِ، ويكونُ دليلُ إباحتِه قويًا وتاويلُه ممتنعٌ أو مستبعدٌ، والكلامُ في الحديثِ متسعٌ وفي هذا كفايةٌ. قولهُ:"لكلِّ ملكٍ حِمًى" إخبارٌ عما كانتْ عليهِ ملوكُ العربِ وغيرُهم، فإنهُ كانَ لكلِّ واحدٍ حِمَى يحميهِ منَ الناسِ ويمنعُهم عنْ دخولِه، فمنْ دخلَه أوقعَ بهِ العقوبةَ، ومنْ أرادَ نجاةَ نفسِه منَ العقوبةِ لم يقرْبهُ خوفًا منَ الوقوعِ فيهِ، وذكرَ هذا كضربِ المثلِ للمخاطبين، ثمَّ أعلمَهُم أن حمى الله تعالَى [هو]

(4)

الذي حرَّمه على العبادِ. وقولُه: "ومنْ وقعَ في الشبهاتِ إلخ"، أي: منْ وقعَ فيها فقدْ حامَ حولَ الحمى فيقربُ ويشرع أنْ يقعَ فيهِ. وفيهِ إرشادٌ إلى البعدِ عنْ ذرائعِ الحرامِ وإن كانتْ غيرَ محرَّمةٍ، فإنهُ يخافُ منَ الوقوعِ فيها الوقوعُ [في الحرام]

(5)

، فمنِ احتاطَ لنفسهِ لا يقربُ الشبهاتِ لئلَّا يدخلَ في المعاصي: ثم أخبرَ صلى الله عليه وسلم منبِّهًا مؤكَّدًا أن في الجسدِ مضغةً، وهي القطعةُ منَ اللحمِ سُمِّيتْ بذلكَ لأنَّها تمضغُ في الفمِ لصغَرِها، وأنَّها معَ صِغَرِها عليها مدارُ [صلاحِ الجسدِ]

(6)

وفسادِه، فإنْ صلحتْ صلُحَ وإنْ فسدتْ فسدَ. [ثم قال: ألا وهي القلب]

(7)

. وفي كلامِ الغزاليِّ

(8)

أنهُ لا يرادُ بالقلبِ هذه المضغةُ؛ إذْ هيَ موجودةٌ للبهائمِ مدركَةٌ بحاسةِ البصرِ، بلِ المرادُ من القلبِ لطيفةٌ ربانيةٌ روحانيةٌ لها بهذا القلبِ الجسمانيِّ تعلُّقٌ، وتلك اللطيفةُ هي حقيقةُ الإنسانِ وهيَ المدرِكَةُ العارِفةُ منَ الإنسانِ، وهوَ المخاطَبُ والمعاقَبُ والمطالَبُ، ولهذهِ اللطيفةِ علاقةٌ معَ القلبِ الجسمانيِّ، وذكرَ أن جميعَ الحواسِّ والأعضاءِ أجنادٌ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في "صحيحه"(4/ 294) الباب (5).

(3)

في (أ): "مما".

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في (ب): "فيه".

(6)

في (أ): "كله في صلاحه وفساده".

(7)

زيادة من (أ).

(8)

انظر: "الإحياء"(3/ 5).

ص: 188

مسخَّرةٌ للقلبِ، وكذلكَ الحواس الباطنةُ [في حكمِ الخدمِ والأعوانِ]

(1)

، وهوَ المتصرفُ فيها والمردُّ لها، وقد خُلِقَتْ مجبولةً علَى طاعةِ القلبِ لا تستطيعُ لهُ خلافًا ولا تمردًا؛ فإذا أمرَ العينَ بالانفتاحِ انفتحتْ، وإذا أمرَ الرِجْلَ بالحركةِ تحركتْ، وإذا أمرَ اللسانَ بالكلامِ [وجزمَ بهِ تكلَّم]

(2)

، وكذَا سائرُ الأعضاءِ. وتسخيرُ الأعضاءِ والحواسِ للقلب يشبهُ منْ وجهٍ تسخيرَ الملائكةِ للَّهِ تعالَى، فإنَّهم جُبِلُوا على طاعتِه لا يستطيعون لهُ خلافًا، وإنَّما يفترقانِ في شيءٍ وهو أن الملائكةَ [عاملة]

(3)

بطاعتِها الله تعالى وامتثالِهَا، والأجفانُ تطيعُ القلبَ بالانفتاحِ والانطباقِ على سبيل التسخيرِ، ولا خيرَ لها من نفسها ومن طاعتها للقلب وإنما افتقرَ القلبُ إلى الجنودِ منْ حيثُ افْتِقَارِه إلى المركب والزادِ لسفرهِ إلى اللهِ تعالَى، وقطعِ المنازلِ إلى لقائهِ، فلأجْلِه تعالى خُلِقَتِ القَلوب، قالَ اللَّهُ تعالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}

(4)

، وإنما مركَبُه البدنُ وزادهُ العلمُ، وإنما الأسبابُ التي توصِلُه إلى الزادِ وتمكنهُ منَ التزوُّدِ منهُ هوَ العملُ الصالحُ، ثمَّ أطالَ في هذا المعنَى بما يحتملُ مجلدةً لطيفة، وإنَّما أشرْنا إلى كلامِه ليعلمَ مقدارَ الكلام النبويّ، وأنهُ بحرٌ قطراتُه لا تنزفُ، وأما كون القلب محلَّ العقلِ، أو محله الدماغ فليستْ منْ مسائلِ علمِ الآثارِ حتَّى يشتغلَ بذكرِها وذكرِ الخلافِ فيها.

‌التحذير من حب الدنيا

2/ 1387 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي

(5)

. [صحيح]

(وَعَنْ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تَعِسَ)، في القاموسِ أنه كسمِعَ ومنَعَ، وإذا خاطبتَ قلتَ: تعسَ كمنعَ، وإذا حكيتَ قلتَ: تعِسَ كفرِحَ

(6)

، وهوَ الهلاكُ والعثارُ، والسقوطُ والشرُّ، والبعدُ، والانحطاطُ، (عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ

(1)

في (أ): "كالخدم للقلب".

(2)

في (أ): "تكلمت".

(3)

في (أ): "عالمة".

(4)

سورة الذاريات: الآية 56.

(5)

في "صحيحه" رقم (2886) و (2887).

(6)

في القاموس المحيط ص 688: قلت: تَعَسْتَ

قلت: تعس كسمِع.

ص: 189

وَالْقَطِيفَةِ)، الثوبُ الذي لهُ خملٌ (إنْ أُعطِيَ رَضِيَ، وَإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضىَ. أَخْرَجَهُ الْبخَارِيُّ). المراد بعبدِ الدينارِ والدرهمِ منِ استعبدتْه الدنيا بطلبِها، وصارَ كالعبدِ لها تصرف فيهِ تصرفَ المالكِ لينالَها، وينغمسُ في شهواتِها [ومطالبها]

(1)

، وذكرُ الدينارِ والقطيفةِ مجردُ مثالٍ، وإلا فكلُّ منِ استعبدتْه الدنيا في أيِّ أمرٍ، وشغلتْه عما أمرَ اللَّهُ تعالَى، وجعلَ رضَاهُ وسخطَه متعلقًا بنيلِ ما يريدُ أو عدمِ نيلهِ، فمنَ الناسِ مَنْ [يستعبده]

(2)

حبُّ الإماراتِ، ومنْهم منْ [يستعبدُه]،

(3)

حبُّ الصورِ، ومنْهم منْ يستعبدُه حبُّ الأطيان.

واعلمْ أن المذمومَ منَ الدنيا كلُّ ما يبعدُ العبدَ عن اللَّهِ تعالَى، ويشغلُه عنْ واجبِ طاعتهِ وعبادتِه، لا ما يعينُه على الأعمالِ الصالحةِ، فإنهُ غيرُ مذمومٍ، وقد يتعينُ طلبُه ويجبُ عليهِ تحصيلُه. وقولُه:"رضيَ" أي عن اللَّهِ تعالى بما نالَه منْ حُطامِها، "وإنْ لم يُعْطَ لمْ يرض" أي عن اللَّهِ تعالَى، ولا عنْ نفسهِ، فصارَ ساخِطًا، فهذا هو الذي تعسَ لأنهُ أدارَ رضَاه على مولاهُ، وسخطَه على نيلِ الدنيا وعدمِه. والحديثُ نظيرُ قولهِ تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}

(4)

الآية.

‌الحث على الزهد في الدنيا

3/ 1388 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيِّ فَقَالَ: "كُنْ في الدْنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِر الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(5)

. [صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيَّ) يُرْوَى بالإفرادِ والتثنيةِ،

(1)

في (أ): "ومطلبها".

(2)

في (أ): "تستعبده".

(3)

في (أ): "تستعبده".

(4)

سورة الحج: الآية 11.

(5)

في "صحيحه" رقم (6416).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2333)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 369)، وأحمد (2/ 24/ 41)، وابن ماجه رقم (4114) وابن حبان رقم (698).

ص: 190

وهوَ بكسرِ الكافِ مَجْمَعُ العضُدِ والكتِفِ (فَقَالَ: كنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْن عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِر الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

الغريبُ هو مَنْ لا مسكنَ لهُ يأويهِ، ولا سكنَ يأنسُ بهِ، ولا بلدَ يستوطنُ فيهِ كما قيلَ في المسيحِ بن مريم سعدُ المسيحِ يسيحُ، لا ولدَ يموتُ، ولا بناءَ يخربُ. وعطفَ أوْ عابر سبيلِ منْ عطفِ الترقي و"أوْ" ليستْ [للشكِ]

(1)

بلْ للتخييرِ أوِ الإباحةِ. والأمرُ للإرشادِ، والمعنَى: قدِّرْ نفسَك ونزِّلْها منزلةَ مَنْ هوَ غريبٌ، أو عابرُ سبيلِ. ويحتملُ أنْ [يكون]

(2)

أوْ للإضرابِ، والمعنى: بلْ كنْ في الدنيا كأنكَ عابرُ سبيلٍ، لأنَّ الغريبَ قدْ يستوطنُ بلدًا بخلافِ عابرِ السبيلِ، فهمُّه قطعُ المسافةِ إلى مقصدهِ، والمقصدُ هنا إلى اللهِ:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} .

قالَ ابنُ بطالٍ

(3)

: لما كانَ الغريبُ قليلَ الانبساطِ إلى الناسِ، بلْ هوَ مستوحشٌ منْهم لا يكادُ يمرُّ بمنْ يعرفُه فيأنسُ بهِ، فهوَ ذليلٌ في نفسِه، خائفٌ، وكذلكَ عابرُ السبيلِ لا ينفذُ في سفرهِ إلا بقوتِه وتخفيفِه منَ الأثقالِ غيرَ متشبثٍ بما يمنعهُ عنْ قطعِ سفرهِ، معهُ زادهُ وراحلتهُ، يبلغانِه إلى ما يعنيهِ منْ مقصدهِ. وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى الزهدِ في الدنيا، وأخذِ البُلغةِ منْها والكفافِ، فكما لا يحتاجُ المسافرُ إلى أكثرَ مما يبلِّغُه إلى غايةِ سفرهِ [فكذلك]

(4)

المؤمنُ لا يحتاجُ في الدنيا إلى أكثرِ ممَّا يبلِّغُهُ المحل. وقولُه: "وكانَ ابنُ عمرَ إلخ" قالَ بعضُ العلماءِ

(5)

: كلامُ ابن عمرَ متفرعٌ منَ الحديثِ المرفوعِ، وهوَ متضمنٌ لنهايةِ تقصيرِ الأمل من الدنيا، وأن العاقل إذا أمسَى ينبغي لهُ أنْ لا ينتظرَ الصباحَ، وإذا أصبحَ ينبغي لهُ أنْ لا ينتظرَ المساءَ، بلْ يظنُ أن أجلَه قد يدركُه قبلَ ذلكَ. وفي كلامِه الإخبارُ بأنهُ لا بدَّ للإنسانِ منَ الصحةِ والمرضِ، فَيغْتَنِمُ أيامَ صحتهِ، وينفقُ ساعاتِهِ [في الخير وفيما]

(6)

يعودُ عليهِ نفعُه، فإنهُ لا يدري متَى ينزلُ بهِ مرضٌ يحولُ بينَه وبينَ فعلِ الطاعاتِ، ولأنهُ إذا مرضَ كُتِبَ لهُ ما كانَ يعملُ صحيحًا،

(1)

في (أ): "لذلك".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 234).

(4)

في (أ): "كذلك".

(5)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 235).

(6)

زيادة من (أ).

ص: 191

فقدْ أخذَ منْ صحتِه لمرضهِ حظَّه منَ الطاعاتِ. وقولُه: "مِنْ حياتِكَ لموتِكَ"، أي: خذْ منْ أيامِ الصحةِ والحياة والنشاطِ لموتك بتقديمِ ما ينفعكَ بعدَ الموتِ، وهوَ نظيرُ حديثِ:"بادِرُوا بالأعمالِ سبعًا، ما تنتظرونَ إلا فقرًا منسيًا، أو غنًى مُطْغيًا، أو مرضًا مفسِدًا، أوْ هرَمًا مفندًا، أو موتًا مجهِزًا، أو الدجالَ، فإنهُ شرُّ منتظرٍ، أو الساعةَ والساعةُ أدْهى وأمرُّ"، أخرجَهُ الترمذيُّ

(1)

، والحاكمُ

(2)

منْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

‌يحرم التشبه بالكفار في زيٍّ وغيره

4/ 1389 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(3)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(4)

[صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. أَخْرَجَهُ

أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ). الحديثُ [فيهِ ضعيف]

(5)

، ولهُ شواهدُ عندَ جماعةٍ منْ أئمةِ الحديثِ عنْ جماعةٍ منَ الصحابةِ [تخرجهُ عن الضعفِ]

(6)

، ومنْ شواهدِه ما أخرجه أبو يعلَي

(7)

مرفُوعًا منْ حديثِ ابن مسعودٍ: "منْ رضيَ عملَ قومٍ كانَ منْهم". والحديثُ دالٌّ على أن منْ تشبَّه بالفسَّاقِ كانَ منْهم، أو بالكفارِ أو

(1)

في "السنن" رقم (2306)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفهُ من حديث الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث محرز بن هارون، وقد روى بشر بن عمر وغيره عن محرز بن هارون هذا. وقد روى معمر هذا الحديث عمَّن سمع سعيدًا المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه قال: تنتظرون.

(2)

في "المستدرك"(4/ 516)، من حديث أبي هريرة وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي ولفظه:"بادروا بالأعمال ستًا قبل طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، ودابة الأرض، وخويصة أحدكم، وأمر العامة".

(3)

في "السنن" رقم (4031) بسند حسن.

(4)

لم أعثر عليه عند ابن حبان.

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 50، 92)، وعبد بن حميد رقم (848)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 313)، وغيرهم. وهو حديث صحيح.

(5)

زيادة من (ب)، والضعيف هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان. انظر:"الإرواء"(5/ 109).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

لم أعثر عليه في "المسند" المطبوع، والله أعلم.

ص: 192

بالمبتدِعَةِ في أيِّ شيءٍ [كان]

(1)

ممَّا يختصون بهِ منْ ملبوسٍ أو مركوبٍ أو هيئةٍ، قالُوا: فإذا تشبَّه بالكافرِ في زيٍّ، واعتقدَ أنْ يكونَ بذلكَ مثلَه كفرَ، فإنْ لم يعتقدْ ففيهِ خلافٌ بينَ [الفقهاءِ]

(2)

منْهم مَنْ قالَ: يكفرُ وهوَ ظاهرُ الحديثِ، ومنْهم منْ قالَ: لا يكفرُ ولكنْ يؤدَّبُ.

‌حفظ الله أن تحفظ حدوده

5/ 1390 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلامُ، احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ"، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

(3)

، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. [صحيح]

(وَعَنْ ابْنِ عَبَاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[يَوْمًا]

(4)

، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، احْفَظِ الله يَحْفَظكَ) بالجزم جوابُ الأمرِ، (احْفَظِ الله تَجِدْهُ) مثلُه (تُجَاهَكَ)، في القاموسِ وجِاهكَ وتُجاهَكَ مِثْلَيْنِ: تلقاءَ وجهِكَ، (وَإِذَا سَأَلْتَ)[حاجةً منْ حوائجِ الداريْنِ]

(5)

(فَاسْأَلِ الله)، [فإنَّ بيدِه أمورَهما]

(6)

، (وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ) وتمامُه: "واعلمْ أنّ الأمَّة لوِ اجْتمعتْ على أنْ ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلَّا بشيءٍ قدْ كَتَبه اللَّهُ لكَ، وإن اجتمعُوا على أنْ يضرُّوكَ لم يضرُّوكَ إلا بشيءٍ قدْ كتبه اللَّهُ عليكَ، جفَّتِ الأقلامُ، وطُويَتِ الصُّحفُ". وأخرجَهُ أحمدُ

(7)

عن ابن عباسٍ بإسنادٍ حسنٍ بلفظِ: "كنتُ رديفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا غلامُ أو يا غليِّمُ، ألا أعلمُكَ كلماتٍ ينفعُكَ اللَّهُ بهنَّ؟ فقلتُ: بلى، قال: "احفظِ اللَّهَ يحفظْكَ، احفظِ اللَّهَ تجدْه [أمامَكَ]

(8)

، تعَرَّفْ إلى اللَّهِ في الرخاءِ يعرفْكَ في الشدةِ، وإذا سألتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعنتَ فاستعنْ باللَّهِ، قد جفَّ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في (أ): "العلماء".

(3)

في "السنن" رقم (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال.

وانظر: "السنة" لابن أبي عاصم ومعه "ظلال الجنة" رقم (316).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

في (أ): "تجاهك".

(7)

في "المسند"(1/ 307): بسند منقطع ولكن الحديث صحيح بطرقه وشواهده.

(8)

في (أ): "تجاهك".

ص: 193

القلمُ بما هوَ كائنٌ، فلوْ أن الخَلْقَ جميعًا أرادوا أنْ ينفعوكَ بشيءٍ لمْ يقضِهِ اللَّهُ تعالى لمْ يقدروا عليهِ، وإنْ أرادوا أن يضروكَ بشيءٍ لم يكتبْهُ اللَّهُ عليكَ لمْ يقدروا عليه، واعلمْ أنَّ في الصبرِ على ما تكرهُ خير كثير، وأنَّ النصرَ معَ الصبرِ، وأنَّ الفرجَ معَ الكربةِ، وأنّ معَ العسرِ يسرًا". ولهُ ألفاظٌ

(1)

أُخَرُ، وهو حديثٌ جليلٌ أفردَهُ بعضُ علماءِ الحنابلةِ بتصنيفٍ مفردٍ

(2)

، فإنَّهُ اشتملَ على وصايا جليلةٍ. والمرادُ منْ قولِهِ:(احفظِ اللَّهَ) أيْ حدوده وأوامره بالامتثال ونواهيه. وحِفْظُ ذلكَ هو الوقوفُ عندَ أوامرِه بالامتثالِ، وعندَ نواهيهِ بالاجتنابِ، وعندَ حدودِهِ أنْ لا يتجاوزَها، ولا يتعدّى ما أمرَ بهِ إلى ما نُهِيَ عنهُ، فيدخلُ في ذلكَ فِعلُ الواجباتِ كلِّها، وتركُ المنهياتِ كلِّها. وقال الله تعالى:{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}

(3)

، وقال:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ}

(4)

. فسَّر العلماءُ الحفيظَ بالحافظِ لأوامرِ اللَّهِ تعالى، وفُسِّرَ بالحافظِ لذنوبهِ حتَّى [يتوب]

(5)

منْها، فأمْرُه صلى الله عليه وسلم اللَّهِ يدخلُ فيهِ كلُّ ما ذُكِرَ وتفاصيلُها واسعةٌ. وقولهُ: "تجدْه [أمامكَ]

(6)

"، وفي [اللفظِ الآخرِ]

(7)

: (يحفْظكَ)، والمعنَى متقارِبٌ، أي تجدْه أمامَكَ بالحفظِ لكَ منْ شرورِ الداريْنِ جزاءً وِفَاقًا منْ بابِ:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}

(8)

؛ يحفظه في دنياه [من]

(9)

غشيان الذنوبِ عن كلِّ أمرٍ مَرْهوبٍ، ويحفظُ ذريتَهُ من بعدِه كما قال تعالى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}

(10)

، وقولُه:(فاسأل اللَّهَ) أمرٌ بإفراد اللَّهِ تعالى بالسؤالِ وإنزالِ الحاجاتِ بهِ وحدَه. وأخرجَ الترمذيُّ

(11)

مرفُوعًا: "سلُوا اللَّهَ منْ فضله فإنه يحبُّ أنْ يُسْأَلَ". وفيهِ منْ حديثِ أبي هريرةَ مرفُوعًا: "مَنْ لا يسألِ اللَّهَ يغضبْ عليهِ"

(12)

، وفيهِ:

(1)

انظر: "صحيح الجامع الصغير"(6/ 300).

(2)

وهي: "نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس"، للإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي.

(3)

سورة التوبة، الآية 112.

(4)

سورة ق: الآية 32.

(5)

في (أ): "يرجع".

(6)

في (أ): "تجاهك".

(7)

في (أ): "لفظ".

(8)

سورة البقرة: الآية 40.

(9)

في (ب): "عن".

(10)

سورة الكهف: الآية 82.

(11)

في "السنن" رقم (3571).

(12)

أخرجه الترمذي رقم (3373)، عن أبي هريرة بلفظ:"من لم يسأَل الله يغضب عليه".

وقال: روى وكيع وغير واحد عن أبي المليح هذا الحديث ولا نعرفه إلا من هذا الوجه. =

ص: 194

"إنَّ اللَّهَ يحبُّ الملحِّينَ في الدعاءِ"

(1)

، وفي حديثٍ آخرَ:"يسألُ أحدُكم ربَّه حاجتَه كلَّها حتى شِسْعَ نعلِه إذا انقطعَ"

(2)

. وقدْ بايعَ النبيَّ

(3)

صلى الله عليه وسلم جماعةٌ منْ الصحابةِ على أنْ لا يسأَلُوا الناسَ شيئًا، منهمْ: الصِّدِّيقُ، وأبو ذرِّ، وثوبانُ، فكان أحدُهم يسقطُ سوطُه، أو يسقطُ خطامُ ناقتِه، فلا يسألْ أحدًا أنْ يناولَه. وإفرادُ اللَّهِ بطلبِ الحاجاتِ دونَ خلقِه يدلُّ لهُ العقلُ [والسمعُ]

(4)

، فإنَّ السؤالَ بذلٌ لماءِ الوجهِ وذلٌّ، ولا يصلحُ ذلك لغير الله، لأنهُ القادرُ على كلِّ شيءٍ، الغنيُّ مطلقًا، والعبادُ بخلافِ هذا. وفي صحيحِ مسلمٍ

(5)

عنْ أبي ذرٍّ رضي الله عنه حديثٌ قدسيٌّ فيهِ: "يا عبادي لو أن أوَّلكُم وآخرَكُم، وإنْسَكُم وجِنَّكُم، قامُوا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألتَه، ما نقصَ ذلكَ مما عندي إلَّا كما ينقُصُ المِخْيَطُ إذا غُمِسَ فيْ البحرِ". وزادَ في الترمذيِّ

(6)

وغيرهِ: "وذلكَ بأنِّي جوادٌ واجِدٌ ماجِدٌ أفعَلُ ما أريدُ، عطائي كلامٌ، وعذابي كلامٌ، إذا أردتُ شيئًا فإنَّما أقولُ لهُ كنْ فيكونُ". وقولُه: (إذا استعنتَ فاستعنْ باللَّهِ)، مأخوذٌ منْ قول الله تبارك وتعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

(7)

، أي نفردُكَ بالاستعانةِ. أمرهُ صلى الله عليه وسلم أن [يستعينَ]

(8)

بالله وحدَه [في كلِّ أمورهِ] أي،

(9)

إفراده تعالى بالاستعانةِ [على ما يريدهُ. وفي إفرادهِ تعالَى بالاستعانةِ فائدتان]

(10)

: فالأولى أنْ العبدَ عاجِزٌ عن

= • وذكره صاحب "المشكاة" رقم (2238 - 16).

وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (658). وهو حديث حسن.

(1)

أورده ابن قيم الجوزية في "الجواب الكافي"(ص 9 - 10)، عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة به.

(2)

أخرجه الترمذي رقم 3612، وابن حبان في "صحيحه" رقم (866)، والبزار في "مسنده" رقم (3135 - كشف). وذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 150) وقال: رجاله رجال الصحيح غير سيار بن حاتم وهو ثقة.

(3)

أخرجه مسلم رقم (108/ 1043) من حديث أبي إدريس الخولاني.

(4)

في (أ): "الشرع".

(5)

في "صحيحه" رقم (2577).

(6)

في "السنن" رقم (2495) وقال: حديث حسن.

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (4257)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(1/ 263).

(7)

سورة الفاتحة: الآية 5.

(8)

في (ب): "يستعان".

(9)

زيادة من (ب).

(10)

زيادة من (ب).

ص: 195

الاستقلالِ بنفسهِ في عملِ الطاعاتِ، [والثانيةُ أنهُ لا معينَ لهُ على مصالحِ دينهِ ودنياهُ]

(1)

إلا اللَّهُ عز وجل، فمنْ أعانَه اللَّهُ فهوَ المعانُ، ومَنْ خذلَه فهوَ المخذولُ. وفي الحديثِ الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم "احرصْ على ما ينفعُكَ، واستعنْ باللَّهِ ولا تعجزْ"

(2)

. وعلَّمَ صلى الله عليه وسلم

(3)

العبادَ أنْ يقولُوا في خُطبة [الحاجةِ]

(4)

: "الحمدُ للَّهِ نستعينُه"، وعلَّم معاذًا

(5)

أنْ يقولَ دُبُرَ الصلاةِ: "اللهمَّ أعني على ذكرِكَ، وشكرِكَ، وحسنِ عبادتِكَ"؛ فالعبدُ أحوجُ إلى مولاهُ في طلبِ إعانتهِ في فعلِ المأموراتِ، وتركِ المحظوراتِ، والصبرِ على المقدوراتِ. قال يعقوبُ صلى الله عليه وسلم في الصبرِ على المقدورِ:{وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}

(6)

. وما ذكرَ منْ هذهِ الوصايا النبويةِ لا ينافي القيامَ بالأسبابِ، فإنَّها مِنْ جملةِ سؤالِ اللَّهِ، والاستعانةِ

(1)

زيادة من (ب).

(2)

أخرجه مسلم رقم (2664)، والنسائي (621) في "عمل اليوم والليلة"، وابن ماجه رقم (79).

(3)

أخرجه أبو داود رقم (2118)، والترمذي رقم (1105)، والنسائي (6/ 89). وابن ماجه رقم (1892)، وابن الجارود رقم (679)، والحاكم (2/ 182 - 183)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 178)، والبيهقي (7/ 146)، والدارمي (2/ 142). وأحمد (1/ 392 - 393، 432)، والطيالسي (ص 45 رقم 338) من حديث ابن مسعود، وزاد الطيالسي عن شعبة قال: قلت لأبي إسحاق: هذه خطبة النكاح وفي غيرها؟ قال: في كل حاجة. وقال الألباني في كتابه "خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه " ص 12" "وردت هذه الخطبة المباركة عن ستة من الصحابة وهم: عبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، ونبيط بن شريط، وعائشة رضي الله عنهم، وعن تابعي واحد، هو الزهري رحمه الله ثم تكلم عليها على هذا النسق". وقال في الخاتمة (ص 31): "وقد تبين لنا من مجموعة الأحاديث المتقدمة، أن هذه الخطبة تفتح بها جميع الخطب، سواء كانت خطبة نكاح أو خطبة جمعة أو غيرها، فليست خاصة بالنكاح كما قد يظن، وفي بعض طرق حديث ابن مسعود التصريح بذلك كما تقدم، وقد أيد ذلك عمل السلف الصالح فكانوا يفتتحون بهذه الخطبة ثم ذكر بعضًا منهم

" اهـ.

(4)

في (أ): "النكاح".

(5)

أخرجه أبو داود رقم (1522)، والنسائي في "السنن"(3/ 53)، وفي "عمل اليوم والليلة" رقم (109).

والحاكم في "المستدرك"(1/ 273) وابن حبان في "صحيحه" رقم (2021)، وهو حديث صحيح.

(6)

سورة يوسف: الآية 18.

ص: 196

بهِ، فإنَّ مَنْ طلبَ رزقَه بسببٍ منْ أسبابِ المعاشِ المأذونِ فيها فرُزق منْ جهتِه فهوَ منهُ تعالَى، وإنْ حُرِمَ فهوَ لمصلحة لا يعلمُها، ولو كُشِفَ الغطاءُ لعَلِمَ أن الحرمانَ خيرٌ منَ العطاء. والكسبُ الممدوحُ المأجورُ فاعلُه هوَ ما كانَ [بسبب مأذون فيه شرعًا، وكان]

(1)

لطلبِ الكفايةِ لهُ ولمنْ يعولُه، أوِ الزائدِ على ذلكَ إذا كان يعدُّه [لغرض صحيح]

(2)

[محتاجٍ، أو صلةِ رحمٍ، أو إعانةِ طالبِ علمٍ، أو نحوِه]

(3)

منْ وجوهِ الخيرِ لا [لغيرِ ذلكَ]

(4)

، فإنهُ يكونُ منَ الاشتغال بالدنيا، وفتحِ بابِ محبَّتِها الذي هوَ رأسُ كلِّ خطيئةٍ. وقدْ وردَ في الحديثِ:"كسبُ الحلالِ فريضةٌ"، أخرجَهُ الطبراني

(5)

، والبيهقي

(6)

، والقضاعي

(7)

عن ابن مسعودٍ [مرفوعًا]

(8)

، وفيهِ عبادُ بنُ كثير ضعيفٌ. ولهُ [حديث]

(9)

شاهدٌ منْ حديثِ أنسٍ عندَ الديلميِّ

(10)

: "طلبُ الحلالِ واجبٌ". ومنْ حديثِ ابن عباسٍ مرفوعًا: "طلبُ الحلالِ جهادٌ"، رواهُ القضاعيُّ

(11)

، ومثلُه في الحليةِ

(12)

عن ابن عمرَ. قالَ العلماءُ: الكسبُ الحلالُ مندوبٌ، أوْ واجبٌ إلا للعالمِ المشتغلِ بالتدريسِ، والحاكمِ المستغْرَقَةِ أوقاتهُ في إقامةِ الشريعةِ، ومنْ كانَ منْ أهلِ الولاياتِ العامةِ كالإمامِ [الأعظمِ]

(13)

، فتركُ الكسبِ [بهمْ]

(14)

أَوْلَى لما فيهِ منَ الاشتغالِ عن القيامِ بما [هم فيهِ]

(15)

، ويُرزَقُونَ منَ الأموالِ المعدةِ للمصالحِ.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (أ): "كصلة الرحم وطالب العلم أو نحو ذلك".

(4)

في (أ): "للتكثر".

(5)

كما في "المجمع"(10/ 291) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال الهيثمي، وفيه عباد بن كثير الثقفي وهو متروك.

(6)

في "شعب الإيمان" رقم (8741)، وقال أبو عبد الله: تفرَّد به عباد بن كثير عن الثوري وبلغني عن محمد بن يحيى أنه قال: لم أكره ليحيى بن يحيى شيئًا قط غير رواية هذا الحديث.

(7)

في "مسند الشهاب" رقم (121).

(8)

زيادة من (أ).

(9)

زيادة من (أ).

(10)

"مسند الفردوس" رقم (3919).

(11)

في "مسند الشهاب" رقم (82)، وفيه ليث بن أبي سُليم ضعيف.

(12)

والخلاصة: أن الحديث ضعيف بجميع طرقه المتقدمة، والله أعلم.

(13)

زيادة من (أ).

(14)

في (أ): "لهم".

(15)

في (أ): "إليهم".

ص: 197

‌كيف يكون العبد محبوبًا من الناس

6/ 1391 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ، وَأَحَبّنِي النَّاسُ، فَقَالَ:"ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ

(1)

، وَغَيْرُهُ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. [ضعيف]

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلِ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ، وَأَحَبّنِي النَّاسُ، فَقَالَ: ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يحِبَّكَ النَّاسُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ). فيهِ خالدُ بنُ عمرَ القرشيُّ مجمَعٌ على تركهِ، [وقد]

(2)

نُسِبَ إلى الوضعِ. وقدْ أخرجه أبو نعيمِ في الحليةِ منْ حديثِ مجاهدٍ عنْ أنسٍ برجالٍ ثقاتٍ، إلا أنهُ لم يثبتْ سماعُ مجاهدٍ منْ أنسٍ، وقدْ رُويَ مرسلًا. وقدْ حسَّنَ النوويُّ الحديثَ [كأنهُ]

(3)

(1)

في "السنن" رقم 4102. وقال البوصيري في "الزوائد" (3/ 268 - 269) رقم (1452/ 4102): "هذا إسناد ضعيف. خالد بن عمرو قال أحمد وابن معين: أحاديثه موضوعة، وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث.

وقال ابن حبان: كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات، لا يحل الاحتجاج بخبره، ثم غفل فذكره في الثقات، وضعفه أبو داود والنسائي.

وقال ابن عدي: عامة أحاديثه - أو كلها - موضوعة.

قلت: وأورد له العقيلي - (2/ 10 - 11) - هذا الحديث بهذا الإسناد.

وقال: ليس له أصل من حديث الثوري، انتهى.

• وأورده ابن الجوزي في "العلل المتناهية" من طريق خالد بن عمرو وضعف الحديث.

• وقال النووي عقب هذا الحديث: رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.

• وقال الحافظ عبد العظيم المنذري في كتاب الزهد من الترغيب - (4/ 56):

وقد حسَّن بعض مشايخنا إسناده وفيه بعد لأنه من رواية خالد بن عمرو. وقد ترك واتُّهم ولم أر من وثقه، لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة ولا يمنع كون راويه ضعيفًا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله. وقد تابعه عليه محمد بن كثير الصنعاني عن سفيان ومحمد هذا قد وُثق على ضعفه وهو أصلح حالًا من خالد، والله أعلم".

والخلاصة: أن الحديث ضعيف.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (ب).

ص: 198

لشواهدهِ. الحديثُ دليلُ على شرفِ الزهدِ [في الدنيا]

(1)

وفضلهِ، وأنهُ يكونُ سببًا لمحبةِ اللَّهِ تعالى لعبدهِ، ولمحبةِ الناسِ لهُ، لأنَّ مَنْ زهِدَ فيما هوَ عندَ العبادِ أحبُّوه لأنها جُبِلَت الطباع على استثقالِ مَنْ أنزلَ [بالمخلوقينَ حاجاتِه]

(2)

، وطمعَ فيما في أيديهمْ. وفيهِ أنهُ لا بأسَ بطلبِ محبةِ العبادِ، والسعي فيما يكسبُ ذلكَ، بلْ هو مندوبٌ إليهِ كما قالَ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيدهِ لا تؤمِنُوا حتَّى تحابوا"

(3)

، وأرشد صلى الله عليه وسلم[العباد]

(4)

إلى إفشاء السلام، فإنه من جوالب المحبة، وإلى التهادي ونحو ذلك.

7/ 1392 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِن الله يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيِّ الْخَفِيَّ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

. [صحيح]

(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، النقي، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). فسَّرَ العلماءُ محبةَ اللَّهِ تعالى لعبدهِ [بأنَّها إرادتهُ]

(6)

الخيرَ لهُ، وهدايتهُ ورحمتهُ [ولطفه]

(7)

، ونقيضُ ذلكَ بُغضُ اللهِ تعالى. والتقيُّ وهوَ الآتي بما يجبُ عليهِ المجتنِبُ لما يحرمُ عليهِ. [ومراتب التقوى متفاوتة]

(8)

. والغِنَى هوَ غِنَى النفسِ، فإنهُ الغِنَى المحبوبُ إليه تعالى، قالَ صلى الله عليه وسلم:"ليسَ الغِنَى بكثرةِ العرضِ، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النفسِ"

(9)

.

وأشارَ عياضٌ إلى أنَّ المرادَ بهِ غِنَى المالِ وهوَ محتملٌ، والخفيُّ بالخاءِ المعجمةِ والفاءِ، أي: الخاملُ المنقطعُ إلى عبادةِ اللَّهِ، والاشتغالِ بأمورِ نفسِه، وضَبَطَهُ بعضُ رواةِ مسلمٍ بالحاءِ المهملةِ، ذكرَهُ القاضي عياضٌ. والمرادُ بهِ الوصولُ للرحمِ اللطيفِ بهم وبغيرِهم منَ الضعفاءِ. وفيهِ دليلٌ على تفضيلِ الاعتزالِ وتركِ الاختلاطِ بالناسِ.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في (أ): "حاجته بالمخلوقين".

(3)

أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (93/ 54) من حديث أبي هريرة.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في "صحيحه" رقم (11/ 2965).

(6)

في (أ): "بإرادة".

(7)

زيادة من (أ).

(8)

زيادة من (أ).

(9)

أخرجه البخاري رقم (6446)، ومسلم في "صحيحه" رقم (120/ 1051) من حديث أبي هريرة.

ص: 199

‌من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

8/ 1393 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

، وَقَالَ: حَسَنٌ. [صحيح].

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ) أي: [ما لا](2) يهمُّه، مِنْ عناهُ يعنيه ويعنوه، [إذا]

(2)

أهمَّهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ و [حسَّنه]

(3)

. هذا الحديثُ منْ جوامعِ [الكلام النبوي]

(4)

يعمُّ الأقوالَ [والأفعال]

(5)

، كما رُوِيَ أن في صُحُفِ إبراهيمَ عليه السلام: منْ عدَّ كلامَهُ منْ عملهِ قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيهِ، ويعمُّ الأفعالَ فيندرجُ [تحته]

(6)

تركُ التوسُّعِ في الدُّنيا

(7)

، وطلبُ المناصبِ والرياسةِ، وحبُّ [المَحمدةِ و]

(8)

الثناءِ، [وغيرُ]

(9)

ذلكَ مما لا يحتاجُ إليهِ المرءُ في إصلاحِ دينهِ و [كفاية]

(10)

دنياهُ. وأما اشتغالُ العلماءِ بالمسائلِ الفرضيةِ فقيلَ إنهُ ليسَ منَ الاشتغالِ بما لا يعني، بلْ هوَ مما يؤجرونَ فيهِ لأنَّهم لما عرفُوا منَ الأحاديثِ النبويةِ أنهُ في آخرِ الزمانِ يقلُّ العلمُ، ويفشو الجهلُ، اجتهدُوا في ذلكَ لما يأتي منَ

(1)

في "السنن" رقم (2317) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه.

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3976).

• وأخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 953) عن علي مرسلًا، وكذلك الترمذي رقم (2318)، وقال: "وهكذا رَوَى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك مرسلًا. وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، وعلي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (ب): "وقال".

(4)

في (ب): "الكلم النبوية".

(5)

زيادة من (أ).

(6)

في (ب): "فيه".

(7)

لما أنْ توسَّع الأجانب في الدنيا وشؤون العمران امتلكوا البحار وبطونها، والأرض وهواءها، وامتلكونا فيما امتلكوه، فأصبحنا لا أمر لنا ولا نهي في بلادنا، وأصبحنا ممنوعين من الجهر بالحق والصدع بالدعوة الدينية، وكان الواجب أن نسبقهم في علوم الحياة فإن الله يقول:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ويقول سبحانه وتعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].

(8)

زيادة من (ب).

(9)

في (أ): "نحو".

(10)

في (ب): "وكفايته من دنياه".

ص: 200

الزمان، ومنْ يأتي منَ العبادِ المحتاجينَ إلى معرفةِ الأحكامِ معَ عجْزِهِمْ عن البحثِ، فإنْهم أتعبُوا القرائحَ، وخرَّجُوا التخاريجَ، وقدَّرُوا التقاديرَ. والأعمالُ بالنياتِ.

قلتُ: لا يَخْفَى أنْ تخريجَ التخريج، وتقديرَ التقاديرِ ليسَ منَ العلمِ المحمودِ، لأنَّ غالبها أقوالٌ خرجتْ منْ أقوالِ المجتهدينَ، وليست أقوالًا لهمْ ولا أقوالًا لمنْ يخرجُها، ولا احتياجَ إليها. والعملُ بها مشكلٌ؛ إذْ ليستْ لقائلٍ؛ إذِ القائلُ بها ليسَ [بمجتهدٍ]

(1)

ضرورةً فلا يقلدُ لأنهُ إنَّما يقتَدُ مجتهدٌ عدلٌ، والفرضُ أن المخرجينَ ليسُوا مجتهدينَ. وأما تقديرُ التقاديرِ فإنهُ قسمٌ منَ التخاريجِ إذْ غالبُ ما يقدرُ أنهُ يجابُ عنهُ بأقوالِ المخرجينِ. وفي كلامِ عليٍّ عليه السلام: العلمُ نقطةٌ [كثَّرها]

(2)

الجُهَّالُ. بل هذهِ الموضوعاتُ في التخاريجِ كانتْ مضرَّةً للنظر في الكتاب والسنةِ؛ إذْ شغلتِ الناظرين عن النظرِ فيهمَا، [ونيلِ]

(3)

بركتِهمَا، فقطعُوا الأَعمارَ في تقريرِ تلكَ التخاريج. وقد أشبعَ الكلامَ على ذلكَ، وعلى ذمِّ الاشتغالِ بهِ طوائفُ منْ أئمة التحقيقِ، وإنْ كانَ الاشتغالُ بها قدْ عمَّ كل فريقٍ.

‌النهي عن كثرة الأكل

9/ 1394 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مَلأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًا مِنْ بَطْنِهِ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(4)

وَحَسَّنَهُ. [صحيح]

(وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيَكرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مَلأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ)، وأخرجَهُ ابنُ حِبَّانَ

(5)

في صحيحهِ، وتمامُه: "بحسب ابن آدمَ أكلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ فاعلًا لا محالةَ (وفي لفظِ ابن ماجهْ)

(6)

:

(1)

في (أ): "مجتهد".

(2)

في (أ): "كثره".

(3)

في (أ): "ونقل".

(4)

في "السنن" رقم (2380) وقال: حسن صحيح.

(5)

رقم (5236).

(6)

في "السنن" رقم (3349).

قلت: وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 121)، والطبراني في "الكبير"(20/ 272 - 273 رقم 644، 645)، وأحمد (4/ 132)، وابن المبارك في "الزهد" رقم (603)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (4048)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (1340) و (1341) من طرق

ص: 201

فإنْ غلبتِ ابنَ آدمَ نفسُه [فثلثٌ](1) لطعامِه، و [ثلثٌ](1) لشرابهِ، و [ثلثٌ]

(1)

لنفَسِه". الحديثُ دليلٌ على ذمِّ التوسعِ في المأكولِ والشبَعِ والامتلاءِ، والإخْبارُ عنهُ بأنهُ [شرٌّ لما فيهِ]

(2)

منَ المفاسدِ الدينيةِ والبدنيةِ، فإنَّ فضولَ الطعامِ مجلبَةُ [السقام]

(3)

، ومثبِّطةٌ عن القيامِ بالأحكامِ، وهذا الإرشادُ إلى جعلِ الأكلِ ثلثَ ما يدخلُ المعدةَ مِنْ أفضلِ ما يرشد إليه سيدُ الأنامِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يخفُّ على المعدة، ويستمدُّ منه البدنُ الغذاءَ، وتنتفعُ به القِوى، ولا يتولَّدُ عنهُ شيءٌ منَ الأدْواءِ. وقدْ وردَ منَ الكلامِ النبوي شيءٌ كثيرٌ في ذمِّ الشِّبعِ، [فقد أخرج]

(4)

البزار

(5)

[بإسنادينِ أحدِهما رجالُه ثقاتٌ مرفوعًا]

(6)

بلفظِ: "أكثرُ الناسِ شَبَعًا في الدنيا أكثرُهم جُوعًا يومَ القيامةِ"، قالَهُ صلى الله عليه وسلم لأبي جحيفةَ لما تجشأَ فقالَ:"ما ملأتُ بطني منذُ ثلاثينَ سنةً". وأخرجَ الطبرانيُّ

(7)

بإسنادٍ حسنٍ: "أهلُ الشبعِ في الدنيا همْ أهل الجوعِ غدًا في الآخرة"، زادَ البيهقي

(8)

: الدنيا سجنُ المؤمنِ وجنةُ الكافرِ. وأخرجَ الطبراني

(9)

بسندٍ جيدٍ أنهُ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا عظيمَ البطنِ فقالَ بأُصبَعِهِ: "لوْ كانَ هذا في غيرِ هذا لكانَ خيرًا لكَ". وأخرجَ البيهقيُّ

(10)

واللفظُ لهُ، [وأخرجه]

(11)

(1)

في (ب): "فثلثًا".

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (ب): "للأسقام"

(4)

في (أ): "فأخرج".

(5)

رقم (3669 - كشف) وأورده في "مجمع الزوائد"(10/ 323) وقال: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات.

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (3478)، وقال: حديث غريب، وابن ماجه رقم (3350)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5646). والخلاصة: أن الحديث ضعيف. وانظر: "مجمع البحرين"(7/ 67 - 68 رقم 4055).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

كما في "مجمع الزوإئد"(10/ 250). قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه يحيى بن سليمان الجفري، قال الذهبي: ما علمت به بأسًا وبقية رجاله ثقات".

وهو حديث حسن.

(8)

في "شعب الإيمان" رقم (5645).

(9)

كما في "مجمع الزوائد"(5/ 31)، قال الهيثمي: رواه الطبراني وأحمد (4/ 339) ورجال الجميع رجال الصحيح غير أبي إسرائيل الجشمي وهو ثقة.

قلت: وأخرجه الحاكم (4/ 317) وصححه، ووافقه الذهبي. والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (5666).

(10)

في "شعب الإيمان" رقم (5670).

(11)

زيادة من (ب).

ص: 202

الشيخانِ مختصرًا: "ليؤتينَّ يومَ القيامةِ بالعظيمِ الطويلِ الأكُولِ الشروب فلا يزنُ عندَ اللَّهِ جناحَ بعوضةٍ، اقرؤُوا إنْ شئتُم:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}

(1)

. وأخرجَ ابنُ أبي الدنيا

(2)

: "أنهُ صلى الله عليه وسلم أصابَهُ جوعٌ يومًا، فعمدَ إلى حجرٍ فوضَعَهُ على بطنِه [الشريف]

(3)

، ثمَّ قال: ألا رُبَّ نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا، جائعةٍ عاريةٍ يومَ القيامةِ، ألا رُبَّ مُكرمٍ لنفسِه وهوَ لها مُهينٌ، ألا رُبَّ مُهينٍ لنفسِه وهوَ لها مُكرِمٌ". وصحَّ حديثُ

(4)

: "منَ الإسرافِ أنْ تأكلَ كلَّ ما اشتهيتَ". وأخرجَ البيهقي

(5)

[بإسناد]

(6)

فيهِ ابنُ لهيعةَ عنْ عائشةَ: "رآني النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقدْ أكلتُ في اليوم مرتينِ فقال: يا عائشةُ أما تحبينَ أنْ لا يكونَ لكِ شغلٌ إلا جوفَكِ، الأكلُ في اليومِ مرتينِ منَ الإسرافِ، واللَّهُ لا يحبُّ المسرفينَ". وصحَّ [حديث]

(7)

: "كلُوا واشربُوا والبسُوا في غيرِ إسرافٍ ولا مخيلةٍ"

(8)

. وأخرجَ ابنُ أبي الدنيا

(9)

والطبرانيُّ

(10)

: "سيكونُ رجالٌ منْ أمتي يأكلونَ ألوانَ الطعامِ، ويشربونَ ألوانَ

(1)

سورة الكهف: الآية 105.

(2)

عزاه إليه المنذري في "الترغيب والترهيب"(3/ 73 رقم 3167).

قلت: وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" رقم (1461)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم 8701) وفي إسناده سعيد بن سنان الكندي. قال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك. "ميزان الاعتدال"(2/ 143).

والخلاصة: فالحديث ضعيف جدًّا، والله أعلم.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

أخرجه ابن ماجه رقم (3352)، والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (5721)، وفيه نوح بن ذكوان: ضعيف.

وهو حديث موضوع، انظر:"الضعيفة" رقم (241).

(5)

في "شعب الإيمان" رقم (5640) وفي رواية ثانية رقم (5665) وقال: في إسناده ضعف.

(6)

في (أ): بسند.

(7)

زيادة من (أ).

(8)

أخرجه النسائي (5/ 79)، وابن ماجه رقم (3605)، وهو حديث حسن.

(9)

في "الغيبة والنميمة" رقم (10).

(10)

في "الوسط" رقم (2372)، وفي "الكبير" رقم (7513)، وفي إسنادهما أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم ضعيف.

قلت: وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(5/ 1956)، والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (5669). والخلاصة: أن الحديث ضعيف.

ص: 203

الشرابِ، ويلبسونَ ألوانَ الثيابِ، ويتشدَّقونَ في الكلامِ، فأولئكَ شِرارُ أمتي". وقالَ لقمانُ لابنِه

(1)

: يا بنيَّ إذا امتلأتِ المعدةِ نامتِ الفكرةُ، وخرستِ الحكمةُ، وقعدتِ الأعضاءُ عن العبادةِ، وفي الخلوّ عن الطعامِ فوائدُ، وفي الامتلاءِ مفاسدُ، ففي الجوعِ صفاءُ القلبِ، وإيقادُ القريحةِ، ونفاذُ البصيرةِ، والشبعُ يورثُ البلادةَ، ويعمي القلبَ، ويكثرُ البخارَ في المعدةِ والدماغِ، كشبهِ السكرِ حتَّى يحتويَ على معادنِ الفكرِ، فيثقل القلبُ بسببهِ عن الجريانِ في الأفكارِ، ومنْ فوائدِه كسرُ شهوات المعاصي كلّها، والاستيلاءُ على النفسِ الأمارةِ بالسوءِ، فإنَّ منشأ المعاصي كلِّها الشهواتُ والقُوى، ومادةُ القُوى الشهواتُ، والشهواتُ [لا محالةَ]

(2)

الأطعمةُ فتقليلُها يضعفُ كلَّ شهوةٍ وقوةٍ، وإنَّما السعادةُ كلُّها في أنْ يملكَ الرجلُ نفسَه، والشقاوةُ كلُّها في أنْ تملكَه نفسُه. قالَ ذُو النونِ

(3)

: ما شبعتُ قطُّ إلا عصيتُ، أو هممتُ بمعصيةٍ. وقالتْ عائشةُ

(4)

رضي الله عنها: أولُ بدعةٍ حدثَتْ بعدَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشبعُ، إنَّ القومَ لما شبعتْ بطونُهم جمحتْ بهم نفوسُهم إلى الدنيا. ويقالُ: الجوعُ خزانةٌ منْ خزائنِ الله تعالى، وأولُ ما يندفع بالجوعِ شهوةُ [الفرج]

(5)

، وشهوةُ الكلامِ فإنَّ الجائعَ لا تتحركُ له شهوة فضولِ الكلامِ [فيتخلصُ]

(6)

من آفاتِ اللسانِ، ولا تتحركُ عليهِ شهوةُ الفرجِ، فيتخلصُ منَ الوقوعِ في [الحرام]

(7)

. ومنْ فوائِده قِلَّةُ النومِ؛ فإنَّ مَنْ أكلَ كثيرًا شربَ كثيرًا، فنام طويلًا، وفي كثرةِ النومِ خسرانُ الداريْنِ، [وفواتُ]

(8)

كلِّ منفعةٍ دينيةٍ ودنيوية. [وقد]

(9)

عدَّ الغزاليُّ في الإحياءِ

(10)

عشرَ فوائدَ لتقليلِ الطعامِ، وعدَّ عشرَ مفاسدَ [للتوسعِ منهُ]

(11)

، فلا ينبغي للعبدِ أن يعوِّدَ نفسَه ذلكَ، فإنَّها تميلُ بهِ

(1)

ذكره الغزالي في "الإحياء"(3/ 84).

(2)

في (أ): "من".

(3)

ذكره الغزالي في "الإحياء"(3/ 86).

(4)

قال المنذري في "الترغيب والترهيب" رقم (3162): "رواه البخاري في كتاب "الضعفاء"، وابن أبي الدنيا في كتاب "الجوع".

(5)

في (أ): "الجماع".

(6)

في (أ): "فيندفع ويتخلص".

(7)

في (أ): "المحظور".

(8)

في (أ): "فوت".

(9)

زيادة من (أ).

(10)

(3/ 80 - 89).

(11)

في (أ): "لتكثيره".

ص: 204

إلى الشَّرَهِ، ويصعبُ تداركُها وليُرْضِها منْ أولِ الأمرِ على السدادِ، فإنَّ ذلكَ أهونُ لهُ منْ أن يجرئَها على الفسادِ وهذا أمرٌ لا يحتملُ الإطالةَ؛ إذْ هوَ منَ الأمورِ التجريبيةِ التي قدْ جرَّبها كلُّ إنسانٍ، والتجربةُ منْ أقسامِ البرهانِ.

‌دليل على قبول توبة من أخطأ

10/ 1395 - وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَنِي آدمَ خَطَّاءٌ، وَخَيرُ الْخَطَّائِينَ التَّوابُونَ". أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

، وابْنُ مَاجَهْ

(2)

، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ. [حسن]

(وَعَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: كلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاء وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَابُونَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْن مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌ). [خطَّاؤون كثيرو الخطأ، إذ هو صيغة مبالغةٍ]

(3)

. والحديثُ دالٌّ على أنهُ لا يخلو من الخطيئةِ إنسانٌ لما جُبلَ عليهِ هذا النوعُ منَ الضعفِ، وعدمِ الانقيادِ لمولاهُ في فعل ما إليهِ دعاهُ وتركِ ما عنهُ [نهاه]

(4)

، ولكنهُ تعالَى بلطفِه فتحَ بابَ التوبةِ لعبادِه، وأخبرَ أن خيرَ الخطائينَ التوابونَ الكثيرونَ للتوبةِ على قدرِ كثرةِ الخطأِ. وفي الأحاديثِ أدلةٌ على أن العبدَ إذا عصَى وتابَ تابَ اللَّهُ عليهِ، [ولا]

(5)

يزالُ كذلكَ، ولنْ يهلكَ على اللَّهِ إلا هالكٌ. وقدْ خُصَّ منْ هذا العمومِ يحيى

(6)

بنُ زكريا، فإنهُ وردَ أنهُ ما همَّ بخطيئةٍ. ورُوِيَ أنهُ لقيهُ إبليسُ ومعهُ معاليقُ منْ كلِّ شيءٍ، فسألَهُ عنْها فقالَ: هي الشهواتُ التي أصيبُ بها [بني]

(7)

آدمَ، فقالَ: هلْ لي فيها شيءٌ؟ قالَ: ربَّما شبعتَ فشغلناكَ عن الصلاةِ والذكرِ، قالَ: هلْ غيرُ ذلكَ؟ قالَ لا، قالَ: للَّهِ عليَّ أنْ لا

(1)

في "السنن" رقم (2499) وقال: هذا حديث غريب.

(2)

في "السنن" رقم (4251)، وهو حديث حسن.

(3)

في (ب): "أي كثير الخطأ وهو صيغة مبالغة".

(4)

في (أ): "نهى".

(5)

في (أ): "ولن".

(6)

حقيقة أن الشيطان يفتن بني آدم عن الواجبات بالشهوات، ولكن ما نسب لزكريا وقول الشيطان له من أمور الغيب التي لا تعرف إلا من الوحي ولم نعرف ذلك من طريق صحيح انظر:"الإحياء"(3/ 33).

(7)

في (أ): "بنو".

ص: 205

أملأَ بطني منْ طعامٍ أبدًا، فقالَ إبليسُ:[للهِ]

(1)

عليَّ أنْ لا أنصحَ مسلِمًا أبدًا.

‌فضل الصمت وقلة الكلام

11/ 1396 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصَّمْتُ حِكْمَةٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلَهُ" أخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ

(2)

بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَ أنهُ مَؤقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الْحَكيمِ. [موقوف]

(وعنْ أنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلَهُ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، [وَصَحَّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ]

(3)

مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ)، وسببُه أنَّ لقمانَ دخلَ على داودَ عليه السلام فرآهُ يسردُ دِرْعًا لم يكنْ رآه قبلَ ذلكَ، فجعلَ يتعجَّبُ مما رأى فأرادَ أنْ يسأله عنْ ذلكَ فمنعتْه [حكمتُه]

(4)

عنْ ذلكَ، فتركَ ولم يسألْهُ فلما فرغَ داود قام ولبسَها ثمَّ قالَ: نعمَ الدرعُ للحربِ، فقالَ لقمانُ: الصمتُ حكمةٌ - الحديثَ. وقيلَ: ترددَ إليهِ سنةً وهوَ يريدُ أنْ يعلمَ ذلكَ ولم يسألْه. وفيهِ دليلٌ على حسنِ الصمتِ، ومدْحِه، والمرادُ بهِ عنْ فضولِ الكلامِ. وقدْ وردتْ عِدَّةُ أحاديثَ دالةٍ على مدحِ الصمتِ، ومدحَهُ العقلاءُ والشعراءُ، وفي الحديثِ

(5)

: "منْ

(1)

في (أ): "الله".

(2)

رقم (5027). وقال البيهقي: غلط في هذا عثمان بن سعيد هذا، والصحيح رواية ثابت رقم (5026) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالوية نا إسحاق بن الحسن بن ميمون نا عفان نا حماد بن سلمة نا ثابت عن أنس أن لقمان كان عند داود وهو يسرد الدرع فجعل يفتله هكذا بيده فجعل لقمان يتعجّب (ويريد أن يسأله) فتمنعه حكمته أن يسأل، فلما فرغ منها ضمها على نفسه وقال: نعم درع الحرب هذه.

فقال لقمان: إن الصمت من الحكم وقليل فاعله، كنت أريد أن أسألك فسكتٌ حتى كفيتني. هذا هو الصحيح عن أنس أن لقمان قال: الصمت حكم وقليل فاعله.

قلت: وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 168)، وابن حبان في "روضة العقلاء" ص 41 بسند صحيح إلى أنس. وانظر:"فيض القدير"(4/ 240).

(3)

في (أ): "وقيل إنه".

(4)

في (أ): "الحكمة".

(5)

أخرجه الترمذي رقم (2501)، من حديث عبد الله بن عمرو، وأحمد (2/ 159)، وابن المبارك في "الزهد" رقم (385)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" رقم (10).

وقال النووي في "الأذكار" رقم (888) بعد عزوه للترمذي: إسناد ضعيف.

ص: 206

صمتَ نجَا". وقال عقبةُ

(1)

: قلتُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ما النجاةُ؟ قالَ: "أمسكْ عليكَ لسانَكَ" الحديثَ. وقال صلى الله عليه وسلم: "من تكفَّلَ لي بما بينَ لحييهِ ورجليهِ أتكفلُ لهُ بالجنةِ"

(2)

. وقالَ معاذٌ رضي الله عنه لهُ صلى الله عليه وسلم: أنُؤَاخَذُ بما نقولُ؟ قالَ: "ثكلتكَ أمُّكَ، وهلْ يَكُبُّ الناسَ على مناخِرِهِم [في النار]

(3)

إلَّا حصائدُ ألسِنتهم"

(4)

. وقالَ صلى الله عليه وسلم: "منْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليقلْ خيرًا أو ليصمتْ"

(5)

.

والأحاديثُ واسعةٌ جدًّا [في حسن الصمت]

(6)

، والآثارُ عن السلفِ، واعلمْ أن فضولَ الكلامِ لا تنحصرُ، بلِ المهمُّ محصورٌ في كتابِ اللهِ تعالى حيثُ قالَ:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} الآية

(7)

. وآفاتُه لا تنحصرُ فعدَّ منْها الخوضَ في الباطلِ، وهوَ الحكايةُ للمعاصي من مخالطةِ النساءِ، ومجالسِ الخمرِ، ومواقفِ الفساقِ، وتنعُّم الأغنياء، وتجبُّرِ الملوكِ ومراسِمهم المذمومةِ، وأحوالِهم المكروهةِ؛ فإنَّ كلَّ ذلكَ مما لا يحلُّ الخوضُ فيهِ فهذا حرامٌ. ومنها الغيبةُ والنميمةُ وكفَى بهمَا هلاكًا في الدينِ، ومنْها المِراءُ والمجادلةُ والمِزاحُ، ومنْهَا الخصومةُ والسبُّ والفحشُ وبذاءةُ اللسانِ، والاستهزاءُ بالناس، واللعن والسخريةُ، والكذبُ. وقدْ عدَّ الغزاليُّ في الإحياءِ

(8)

عشرينَ آفةً، وذكرَ في كلِّ آفةٍ كلامًا بسيطًا حسنًا، وذكرَ علاجَ هذهِ الآفاتِ.

* * *

(1)

وهو حديث حسن. أخرجه الترمذي (2406) وقال: حسن.

وابن أبي الدنيا في "الصمت" رقم (2)، وأحمد (5/ 259)، وفي "الزهد" رقم (82)،

والبيهقي في "الشعب"(805)، وفي "الزهد"(134)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 9).

(2)

أخرجه البخاري في (6474)، والترمذي رقم (2408).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

أخرجه الترمذي رقم (2616)، وابن حبان رقم (1569 - موارد) من حديث جابر، وهو حديث صحيح.

(5)

أخرجه البخاري رقم (6018)، ومسلم رقم (47)، وأبو داود رقم (5154).

(6)

زيادة من (أ).

(7)

سورة النساء: الآية 114.

(8)

(3/ 107 - 162).

ص: 207

[الباب الرابع] باب الترهيب من مساوئ الأخلاق

‌ذمُّ الحسد وذكر مساويه

7/ 1397 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

. [حسن بشواهده]

- وَلابْنِ مَاجَهْ

(2)

مِنْ حَدِيثِ أنَسٍ نحوُهُ. [ضعيف]

(عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارَ الْحَطَبَ. أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَلابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ). إياكُم ضميرٌ منصوبٌ على التحذيرِ، والمحذَّرُ منهُ الحسدُ. وفي [ذم]

(3)

الحسدِ أحاديثُ وآثارٌ كثيرةٌ. ويُقالُ

(4)

: كانَ أولَ ذنبِ عُصِيَ اللهُ بهِ الحسدُ، فإنهُ أمرَ إبليسَ بالسجودِ لآدمَ فحسدَه فامتنعَ عنهُ فعصَى الله تعالى فطردَه، [وتولَّدَ منْ طردِه كلُّ بلاءٍ وفتنةٍ عليهِ وعلى العبادِ]

(5)

.

(1)

في "السنن" رقم (4903)، والحديث حسن بشواهده.

قلت: وأخرجه البيهقي في "الشعب" رقم (6608).

(2)

في "السنن" رقم (4210).

قلت: وأخرجه البيهقي في "الشعب" رقم (6610)، وقال في "الزوائد": فيه عيسى بن أبي عيسى وهو ضعفيف. قلت: وهو حديث ضعيف.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

انظر: الإحياء (3/ 188 - 189).

(5)

زيادة من (ب).

ص: 208

والحسدُ لا يكونُ إلَّا على نعمةٍ، فإذا أنعمَ اللهُ على [أخيكَ]

(1)

نعمةً فلكَ فيها حالتانِ، إحداهُما أن تكرهَ تلكَ النعمةَ وتحبَّ زوالَها، وهذهِ الحالةُ تُسَمَّى حسدًا، والثانيةُ أنْ لا تحبَّ زوالَها، ولا تكرهَ وجودَها ودوامَها، ولكنَّكَ تريدُ لنفسكَ مثلَها فهذا يسمَّى غِبْطَةً، فالأولُ حرامٌ على كلِّ حالٍ إلا نعمةً على كافرٍ أو فاجرٍ، وهوَ يستعينُ بها على [الفسادِ و]

(2)

تهييج الفتنةِ وإفسادِ ذاتِ البينِ [والصلح]

(3)

وإيذاءِ العبادِ، فهذهِ لا يضركَ كراهتُك لها، ومحبتُك زوالَها فإنكَ لم تحبَّ زوالَها منْ حيثُ [أنها]

(4)

نعمةٌ بل منْ حيثُ هي آلةٌ للفسادِ والبغي ووجْهُ تحريمِ الحسدِ معَ ما عُلِمَ منَ الأحاديثِ أنهُ [تَسَخُّطٌ لقدرِ]

(5)

اللهِ تعالَى [وحكمتِه في تفضيلِ بعضِ عبادِه على بعض، ولذا قيل]

(6)

:

ألا قلْ لمنْ كانَ لي حاسِدًا

أتدري على مَنْ أسأتَ الأدبْ

أسأتَ على اللهِ في فعلِه

لأنكَ لم ترضَ لي ما وهبْ

[فجازاك عني بأن زادني

وسدَّ عليك وجوه الطلب]

(7)

ثمَّ الحاسدُ إنْ وقعَ لهُ [الخاطرُ بالحسدِ فدفعَهُ]

(8)

وجاهدَ نفسَه [في دفعه]

(9)

فلا إثمَ عليهِ، بلْ لعلّهُ مأجورٌ في [مدافعته]

(10)

. فإنْ [سعَى في زوالِ]

(11)

نعمةِ المحسود، [أو سعى في إزالتها]

(12)

فهوَ باغٍ [على أخيه]

(13)

، وإنْ لم يسعَ ولم يظهرْه، فإن كان لمانع العجزِ فإنْ كانَ بحيثُ لو أمكنَه لفعلٍ فهو مأزورٌ، وإن كان لمانع التقوى فقد يعذرَ لأنهُ لا يستطيعُ دفعَ الخواطرِ النفسانيةِ فيكفيهِ في مجاهدِتها أنْ لا يعملَ بها، ولا يعزمَ على العمل بها. وفي الإحياءِ

(14)

: فإنْ كانَ بحيثُ لو أُلقِيَ الأمرُ إليهِ ورُدَّ إلى اختيارِه لسعَى في إزالةِ النعمةِ فهوَ حسد حسدًا مذمومًا،

(1)

في (أ): "العبد".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في (أ): "هي".

(5)

في (أ): "كراهة لنعمه".

(6)

في (أ): "على المحسود وقد أحسن القائل في قوله".

(7)

زيادة من (أ).

(8)

زيادة من (أ).

(9)

زيادة من (ب).

(10)

في (ب): "مدافعة نفسه".

(11)

في (أ): "فإن أزال".

(12)

زيادة من (أ).

(13)

زيادة من (أ).

(14)

(3/ 191).

ص: 209

وإنْ كانَ تردعه التقْوى [عنْ إزالةِ ذلكَ]

(1)

فيعفَى عنهُ ما يجدُه في نفسِه منِ ارتياحِه إلى زوالِ النعمةِ عنْ محسودِه مهْمَا كانَ كارهًا لذلكَ منْ نفسِه بعقلِه ودِينه، وهذا التفصيلُ يشيرُ إليهِ ما أخرجَهُ عبدُ الرزاقِ

(2)

مرفوعًا: "ثلاثٌ لا يسلمُ مِنهنَّ أحدٌ: الطِّيَرةُ، والظنُّ، والحسدُ، قيلَ: فما المخرجُ منْها يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: إذا تَطيّرت فلا ترجعْ، وإذا ظننتَ فلا تُحقّقُ، وإذا حسدتَ فلا تبغِ".

وأخرجَ أبو نعيمٍ

(3)

: "كلُّ ابن آدمَ حسودٌ ولا يضرُ حاسدًا حسدُه ما لم يتكلَّم باللسانِ أو يعملْ باليدِ". وفي معناهُ أحاديثُ

(4)

لا تخلو عن مقالٍ. وفي الزواجرِ

(5)

لابن حجر الهيتميِّ: أن الحسدَ مراتبٌ، وهي إما محبةُ زوالِ نعمةِ الغيرِ وإنْ لم تنتقلْ إلى الحاسدِ، وهذا غايةُ الحسدِ، أو معَ انتقالِها إليهِ أوِ انتقالِ مِثْلِهَا إليه، [وإلَّا]

(6)

أحبَّ زوالَها لئلَّا يتميزُ عليهِ أو لا مع محبةِ زوالِها، وهذا الأخيرُ هوَ المعفوُّ عنهُ منَ الحسدِ إنْ كانَ في الدُّنيا، والمطلوبُ إنْ كانَ في الدِّينِ [انتهَى]

(7)

. وهذا القسمُ الأخيرُ يسمَّى غيرةً، فإنْ كانَ في الدينِ فهوَ المطلوبُ وعليهِ حُمِلَ ما رواهُ الشيخانِ منْ حديثِ

(8)

ابن عمرَ أنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا حسدَ إلا في اثنتينِ: رجلٌ آتاهُ اللَّهُ القرآنَ، فهوَ يقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، ورجلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا، فهوَ ينفقُ منهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ". والمرادُ أنهُ يغارُ ممنِ اتصفَ بهاتينِ الصِّفتينِ فَيُقْتَدَى بهِ محبةً للسلوكِ في هذا المسلكِ، ولعلَّ تسميتَه حسدًا مجازٌ.

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في "المصنف"(10/ 403 رقم 19504).

وقال ابن حجر في "الفتح"(10/ 213): وهذا مرسل أو معضل. ثم ذكر له شواهد.

فانظرها إن شئت، وأظنها لا ترفع من قوته.

(3)

في "أخبار أصفهان"(1/ 227)، عن أنس بلفظ:"كل بني آدم حسود وبعض الناس في الحسد أفضل من بعض، فلا يضر حاسد حاسدًا ما لم يتكلم بلسان أو يعمل به باليد".

(4)

انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 524 - 530 رقم 4251 - 4264)، تحت عنوان:"الترهيب من الحسد وفضل سلامة الصدر".

(5)

(1/ 57 - 58).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5025)، ومسلم في "صحيحه" رقم (267/ 815).

ص: 210

والحديثُ دليلٌ على تحريمِ الحسدِ، وأنهُ من الكبائرِ فإنه إذا أكل الحسنات فقد أحبطها ولا تحبط إلا كبيرة. ونسبةُ الأكلِ إليهِ مجازٌ منْ بابِ الاستعارةِ. وقولُه: كما تأكلُ النارُ الحطبَ تحقيقٌ لذهابِ الحسناتِ بالحسدِ كما يذهبُ الحطبُ بالنارِ، ويتلاشَى جرمُه. واعلمْ أن دواءَ الحسدِ الذي يزيلُه عن القلبِ [معرفةُ]

(1)

الحاسدِ أنهُ لا يضرُّ بحسدهِ المحسودَ في الدينِ ولا في الدُّنيا، وأنهُ يعودُ وبالُ حسدِه عليهِ [في الدارينِ]

(2)

؛ إذْ لا تزولُ نعمةٌ بحسدٍ قطُّ وإلا لم تبقَ للَّهِ تعالى نعمةٌ [على أحدٍ]

(3)

حتَّى نعمةُ الإيمانِ، لأنَّ الكفارَ يحبونَ زوالَه عن المؤمنينَ، بلِ المحسودُ يتمتعُ بحسناتِ الحاسدِ لأنهُ مظلومٌ منْ جهته إذا أطلقَ لسانَه بالانتقاصِ والغيبةِ وهتكِ السترِ، فيلقَى الله تعالى مفلِسًا منَ الحسناتِ، محرُومًا منْ نعمةِ الآخرةِ كما حرمَ سلامة الصدرِ في الدنيا، وسكون القلبِ والاطمئنانِ [في الدنيا]

(4)

، فإذا تأملَ العاقلُ هذا عرفَ أنهُ جرَّ لنفسِه بالحسدِ كلَّ غمٍّ ونكدٍ في [الدنيا والآخرة]

(5)

.

‌جهاد النفس أعظم من جهاد العدو

2/ 1398 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الشدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(6)

. [صحيح]

(1)

في (أ): "أن يعرف".

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (أ): "لأحد".

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "الدارين".

(6)

البخاري في "صحيحه" رقم (6114)، ومسلم رقم (2609).

قلت: وأخرج مالك (2/ 98، 99)، وأحمد (2/ 236)، والبغوي في شرح السنة" رقم (3581)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (1212). كلهم عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة.

• وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" رقم (20287)، ومن طريقه أحمد (2/ 268)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 235)، عن معمر، ومسلم رقم (108/ 2609) من طريق شعيب والزبيدي ثلاثتهم عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.

• وأخرجه الطيالسي في "المسند" رقم (2525)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (3582)، من طريق مسدد، كلاهما عن أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن أبي حازم عن أبي هريرة.

ص: 211

(وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ) بضمِّ الصادِ المهملةِ، وفتح الراءِ، وبالعينِ المهملةِ على زنةِ هُمَزَةٍ صيغةُ مبالغةٍ، أي: كثيرُ الصرعِ لغيره، (إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ. مُتفَقٌ عَلَيْهِ). المرادُ بالشديدِ هُنا شدةُ القوةِ المعنويةِ، وهيَ مجاهدةُ النفسِ وإمساكُها عندَ الشرّ، ومنازعتُها للجوارحِ للانتقامِ ممنْ أغضَبها، فإنَّ النفسَ في حكمِ الأعداءِ الكثيرينَ وغلبتها عما تشتهيهِ في حُكمِ مَنْ هوَ شديدُ القوةِ في غلبةِ الجماعةِ الكثيرين فيما يريدونه منهُ، وفيهِ إشارةٌ إلى أن مجاهدةَ النفسِ أشدُّ منْ مجاهدةِ العدوِّ، لأنهُ صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملكُ نفسَه عندَ الغضبِ أعظمَ الناسِ قوةً. وحقيقةُ الغضبِ حركةُ النفسِ إلى خارجِ الجسدِ لإرادةِ الانتقام. والحديثُ فيه إرشادٌ إلى أن مَنْ أغضبَه أمرٌ، وأرادتِ النفسُ المبادرةَ إلى الانتقامِ ممنْ [أغضَبه]

(1)

أنْ يجاهِدَها ويمنعَها عما طلبتْ، والغضبُ غريزةٌ في [الإنسانِ]

(2)

، فمهما قصدَ أو نُوزعَ في غرضٍ اشتعلتْ نارُ الغضبِ وثارتْ، حتَّى يحمرَّ الوجهُ والعينانِ، [وينتفخ الودجان، ويحمر البدن غالبًا]

(3)

[منَ الدمِ]

(4)

، لأنَّ البشرةَ تحكي لونَ ما وراءَها، وهذا إذا غضبَ على مَنْ دونَه واستشعرَ القدرةَ عليهِ، وإنْ [كانَ ممنْ]

(5)

فوقَه تولَّدَ منهُ انقباضُ الدمِ منْ ظاهرِ الجلدِ إلى جوفِ القلبِ، فيصفرُّ اللونُ خوفًا، وإنْ [غضب]

(6)

على [من هو نظيره] ومثله،

(7)

تردَّدَ الدمُ بينَ [انقباضٍ وانبساطٍ]

(8)

، فيحمرُّ ويصفرُّ، والغضبُ يترتبُ عليهِ تغيرُ الباطنِ والظاهرِ تغيرِ اللونِ والرعدةِ في الأطرافِ، وخروجِ الأفعالِ على غيرِ ترتيبٍ، واستحالةِ الخلقةِ حتَّى لو رأى الغضبانُ نفسَه حالةَ [غضبِه]

(9)

لسكَنَ غضبُه حياء منْ قبحِ صورتِه، واستحالةِ خِلْقتِه، هذا [في]

(10)

الظاهرِ، وأما في الباطنِ [فقبحُه]

(11)

أشدُّ منَ الظاهرِ لأنهُ [يولدُ حِقْدًا]

(12)

في القلبِ، وإضمارُ السوءِ على اختلافِ أنواعِه، بلْ قبحُ باطِنِه

(1)

في (أ): أغضبها.

(2)

في (أ): النفس.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "غضب عليها".

(6)

في (أ): "كانَ".

(7)

في (ب): "النظير".

(8)

في (أ): "الانقباض والانبساط".

(9)

في (أ): "الغضب".

(10)

في (أ): "بغير".

(11)

في (أ): "بقبحه".

(12)

في (أ): "يتولد منه حقد".

ص: 212

متقدِّمٌ على تغيُّرِ ظاهرِه، فإنَّ تغيُّرَ الظاهرِ ثمرةُ تغيُّرِ الباطنِ، فيظهرُ علَى اللسانِ الفحشُ والشتْمُ، ويظهرُ في الأفعالِ بالضربِ والقتلِ وغيرِ ذلكَ منَ المفاسدِ.

وقدْ وردَ في الأحاديثِ دواءُ هذا الداءِ. فأخرجَ ابنُ عساكرَ

(1)

موقُوفًا: "الغضبُ منَ الشيطانِ، والشيطانُ خُلِقَ منَ النارِ، والماءُ يطفىُء النارَ، فإذا غضبَ أحدُكم فليغتسلْ"، وفي روايةٍ

(2)

: "فليتوضأ". وأخرجَ ابنُ أبي الدنيا

(3)

مرفوعًا: إذا غضبَ أحدُكم فقالَ: أعوذُ باللَّهِ من الشيطان سكنَ غضبُه. وأخرجَ أحمدُ

(4)

: مرفوعًا: " [إذا غضبَ أحدُكم فليسكتْ". وأخرجَ أحمدُ

(5)

، وأبو داودَ

(6)

، وابنُ حبانَ

(7)

]

(8)

: "إذا غضبَ أحدُكم فليجلسْ، فإذا ذهبَ عنه الغضبُ وإلَّا فليضطجِعْ". وأخرجَ أبو الشيخِ

(9)

مرفوعًا: "الغضبُ منَ الشيطانِ، فإذا وجده أحدُكم قائمًا فليجلسْ، وإن وجدَه جالِسًا فليضطجعْ". والنَّهيُ [في الغضبِ]

(10)

متوجهٌ إلى الغضبِ [في]

(11)

غيرِ الحقِّ. وقدْ بوَّبَ البخاريُّ

(12)

: (بابُ ما يجوزُ

(1)

عزاه إليه ابن حجر الهيتمي في "الزواجر"(1/ 52).

(2)

قلت: وأخرجه أحمد (4/ 226)، وأبو داود (4784). وهو حديث حسن.

عند أبي داود في "السنن" رقم (4784).

(3)

في "العفو وذم الغضب" بإسناد صحيح. قاله العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(3/ 175).

(4)

في "المسند" رقم (2556) و (2136) و (3448)، من حديث ابن عباس وإسناده صحيح، قاله أبو الأشبال.

قلت: وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 131). وقال: رواه أحمد والبزار وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.

(5)

في "المسند"(5/ 152).

(6)

في "السنن" رقم (4783).

(7)

في "الإحسان" رقم (5688)!! وقال: حديث صحيح. رجاله ثقات رجال الصحيح إلا أن فيه انقطاعًا، لأن أبا حرب بن أبي الأسود لا يعرف له سماع من أبي ذر. قال في "التهذيب" (12/ 69): أبو حرب بن أبي الأسود الدؤلي البصري روى عن أبيه وأبي ذر والصحيح عن أبيه لكن وصله أحمد (5/ 152)، عن أبي معاوية عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبي الأسود عن أبي ذر. وهذا سند صحيح على شرط مسلم.

(8)

زيادة من (ب).

(9)

عزاه إليه الهيتمي في "الزواجر"(1/ 52).

(10)

زيادة من (أ).

(11)

في (أ): "على".

(12)

في "صحيحه"(10/ 516 رقم 75).

ص: 213

منَ الغضب والشدةِ لأمرِ اللَّهِ). وقدْ قالَ تعالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}

(1)

. وذكرَ خمسةَ

(2)

أحاديثَ في كلِّ منْها غضبُه صلى الله عليه وسلم في أسبابٍ مختلفةٍ مرجعه إلى أن كلَّ ذلكَ كانَ لأمرِ اللَّهِ تعالى، وإظهارِ الغضبِ [فيه]

(3)

منهُ صلى الله عليه وسلم، ليكونَ أَوْكَدَ. وقدْ ذكرَ تعالَى في قصة موسَى وغضبِه [لما عُبِدَ العجلُ]

(4)

، وقال:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}

(5)

.

‌الظلم ظلمات يوم القيامة

3/ 1399 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(6)

. [صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. مُتفَقٌ عَلَيْهِ). الحديثُ منْ أدلةِ تحريمِ الظلمِ، [وهو قبيح شرعًا وعقلًا]

(7)

، وهوَ يشملُ جميعَ أنواعِه سواءٌ كانَ في نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ في [حقِّ مؤمنٍ، أو كافرٍ، أو فاسقٍ]

(8)

. والإخبارُ عنهُ بأنهُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ فيهِ [ثلاثةُ أقوالٍ]

(9)

: قيلَ هوَ على ظاهرهِ فيكونُ ظلماتٍ على صاحبِه لا يهتدي يومَ القيامةِ سبيلًا حيثُ يسعَى نورُ [المؤمنينَ يومَ القيامةِ]

(10)

بينَ أيديهمْ وبأيمانِهم. وقيلَ: إنه أُريدَ بالظلماتِ الشدائدُ، [وبه فُسِّرَ]

(11)

قولُه تعالَى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}

(12)

، أي: منْ شدائدِهما. وقيل: إنهُ كنايةٌ عن النكالِ والعقوباتِ.

(1)

سورة التوبة: الآية 73.

(2)

وهذه الأحاديث في "صحيحه" رقم (6109 و 6110 و 6111 و 6112 و 6113).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

سورة الأعراف: الآية 154.

(6)

أخرجه البخاري رقم (2447)، ومسلم رقم (2579).

قلت: وأخرجه الترمذي (2030)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر.

(7)

زيادة من (أ).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

في (أ): "تأويلات".

(10)

في (أ): "المتقين".

(11)

في (أ): "كما".

(12)

سورة الأنعام: الآية 63.

ص: 214

‌التحذير من الشح

4/ 1400 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اتقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"، أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ جَابِرِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) في الشحِّ، وفي التفرقةِ بينَه وبينَ البخلِ أقوالٌ: فقيلَ في تفسيرِ الشُحِّ، إنهُ أشدُّ منَ البخلِ وأبلغُ في المنعِ منَ البخلِ. وقيلَ: هوَ البخلُ معَ الحرصِ. وقيلَ: البخلُ في بعضِ الأمورِ، والشحُّ عامٌّ. وقيلَ: البخلُ بالمالِ خاصةً، والشحُّ بالمالِ، والمعروفِ، وقيلَ: الشحُّ الحرصُ على ما ليسَ عندَه والبخلُ بما عندَه. وقيل: (فإنهُ أهلكَ مَنْ كانَ قبلَكُم) يحتملُ أنْ يريدَ الهلاكَ الدنيويَّ المفسَّرَ بما بعدَه في تمامِ الحديثِ، وهوَ قولُه:"حملَهم على أنْ سفكُوا دماءهم، واستحلُّوا محارِمَهُم"

(2)

، وهذا هلاكٌ دنيويٌّ. والحاملُ لهمْ هوَ شحُّهم على حفظِ المالِ وجمعِه، وازديادِه وصيانتِه عنْ ذهابِه في النفقاتِ، فضمُّوا إليهِ مالَ الغيرِ صيانةً لهُ، ولا يُدْرَكُ مالُ الغيرِ إلا [بالحرب]

(3)

[والغصبيةِ]

(4)

المفضيةِ إلى القتلِ، واستحلالِ المحارمِ، ويحتملُ أنْ يرادَ بهِ الهلاكُ الأُخرويُّ فإنهُ يتفرعُ عما اقترفوهُ منِ ارتكابِ هذهِ المظالمِ، والظاهرُ حملُه على الأمريْنِ. واعلمْ أن الأحاديثَ

(5)

في ذمِّ الشحِّ والبخلِ كثيرةٌ والآياتُ القرآنيةُ: {الَّذِينَ [يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}

(6)

، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}

(7)

، {وَلَا يَحْسَبَنَّ]

(8)

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ

(1)

في "صحيحه" رقم (2578).

(2)

وهو تمام الحديث المتقدم أعلاه.

(3)

في (أ): "بالجور".

(4)

في (أ): "والمعصية".

(5)

انظرها في: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 358 - 367 رقم 3830 - 3855) تحت عنوان: "الترهيب من البخل والشح، والترغيب في الجود والسخاء".

(6)

سورة النساء: الآية 37.

(7)

سورة محمد: الآية 38.

(8)

زيادة من (ب).

ص: 215

خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}

(1)

، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

(2)

. وفي الحديث: "ثلاثٌ مهلِكاتٌ: شحٌّ مطاعٌ، وهوىً متَّبعٌ، وإعجابُ كل ذي رأيٍ برأيِه". أخرجَهُ الطبرانيُّ في الأوسطِ

(3)

. وفيهِ زيادةٌ وفي الدعاءِ النبوي: "اللهمَّ إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ - إلى قولهِ - والبخلِ"، أخرجَهُ الشيخانِ

(4)

. وقالَ صلى الله عليه وسلم: "شرُّ ما في الرجلِ شحٌّ هالِعٌ وجُبْنٌ خالِعٌ"، أخرجَهُ البخاريُّ في التاريخِ

(5)

، وأبو داودَ

(6)

عنْ أبي هريرةَ مرفُوعًا. [والآثارُ]

(7)

فيهِ كثيرةٌ.

فإن قلتَ: وما حقيقةُ البخلِ المذمومِ وما منْ أحدِ إلَّا وهوَ يرى نفسَه أنهُ غيرُ بخيلٍ، وَيرَى غيرَه بخيلًا، وربَّما صدرَ فعلٌ منْ إنسانٍ فاختلفَ فيهِ الناسُ فيقولُ جماعةٌ: إنهُ بخيلٌ ويقولُ أخرونَ: ليس بخيلَا، فماذا حدُّ البخلِ الذي يوجِبُ الهلاكَ، وما حدُّ البذلِ الذي يستحقُّ به العبدُ صفةَ السخاوةِ وثوابَها.

قلتُ: السخاءُ هوَ أنْ يؤديَ ما أوجبَ اللَّهُ عليهِ، والواجبُ واجبانِ: واجبُ الشرعِ، وهوَ ما فرضَهُ اللَّهُ تعالَى منَ الزكاةِ والنفقاتِ لمنْ يجبُ عليهِ إنفاقُه وغيرُ ذلكَ، وواجبُ المروءةِ والعادةِ. والسخِيُّ هوَ الذي لا يمنعُ واجبَ الشرعِ ولا واجبَ العادة والمروءةِ، فإنْ منعَ واحدًا منْهما فهوَ بخيلٌ لكنَّ الذي يمنعُ واجبَ الشرعِ [أشد بخلًا]

(8)

، فمنْ أعْطَى زكاةَ ماله مثلًا ونفقةَ عيالِه بطيبةِ نفسِه، ولا يتيممُ الخبيثَ منْ مالِه في حقِّ اللَّهِ، فهوَ السخي، والسخاءُ في المروءةِ أنْ يتركَ

(1)

سورة آل عمران: الآية 180.

(2)

سورة الحشر: الآية 9.

(3)

رقم (5754) عن ابن عمر.

قلت: وأورده الهيثمي في "المجمع"(1/ 91) وقال: فيه ابن لهيعة وهو لا يعرف.

• ورقم (5452) عن أنس قلت: وأخرجه البزار رقم (81)، والعقيلي (3/ 447)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 343)، والقضاعي في "مسنده"(1/ 215)، من حديث أنس.

• وهذا الحديث ذكره الألباني في "الصحيحة" رقم (1802)، وذكر له طرقًا وشواهد ثم قال: وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن على أقل الدرجات إن شاء الله تعالى.

(4)

البخاري رقم (5109 - البغا)، ومسلم رقم (1365)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(5)

(6/ 8).

(6)

في "السنن" رقم (2511)، وهو حديث صحيح.

(7)

في (أ): "والأثر".

(8)

في (ب): "أبخل".

ص: 216

المضايقةَ والاستقصاءَ في المحقَّراتِ [وغيرها]

(1)

، فإنَّ ذلكَ مُسْتَقْبَحٌ، ويختلفُ استقباحُه باختلافِ الأحوالِ والأشخاصِ، وتفصيلُه يطولُ فمنْ أرادَ استيفاءَ ذلكَ راجعَ الإحياءَ للغزاليِّ

(2)

رحمه الله. واعلمْ أن البُخْلَ داءٌ لهُ دواءٌ، وما أنزلَ اللَّهُ منْ داءٍ إلَّا ولهُ دواءٌ، وداءُ البخلِ سببهُ أمرانِ: الأولُ حبُّ الشهواتِ التي لا يُتَوصَّلُ إليها إلَّا بالمالِ وطولِ الأملِ، والثاني: حبُّ ذاتِ المالِ والشغفُ بهِ وببقائِه لديْهِ، فإنَّ الدنانيرَ مثلًا رسولٌ ينال بها الحاجاتُ والشهواتُ فهوَ محبوبٌ لذلكَ، ثمَّ صارَ محبُوبًا لنفسِه لأنَّ الموصِلَ إلى اللذاتِ لذيذٌ، فقدْ تُقضى الحاجاتُ والشهواتُ، وتصيرُ الدنانيرُ عندَه هيَ المحبوبةُ، وهذَا غايةُ الضلالِ، فإنهُ لا فرقَ بينَ الحَجَرِ والذهبِ إلَّا منْ حيثُ أنها تُقْضَى بهِ الحاجاتُ، فهذَا سببُ حبِّ المالِ، ويتفرعُ منهُ الشحُّ وعلاجُه بضدِّهِ، فعلاجُ الشهواتِ القناعةُ باليسيرِ، وبالصبرِ، وعلاجُ [حب المال و]

(3)

طولِ الأمل [الإكثارُ منْ]

(4)

ذكرِ الموتِ، وذكرِ موتِ الأقرانِ، والنظر في [ذلك]

(5)

طولِ تعبهم في جَمْعِ المالِ، ثمَّ ضياعِه بعدَهم، وعدمَ نفعِه لهم. وقدْ يشحُّ بالمالِ شفقةً على مَنْ بعدَه منَ الأولادِ، وعلاجُه أنْ يعلمَ أن اللَّهَ هوَ الذي خلقَهم فهو يرزقُهم، وينظرُ في نفسِه فإنهُ ربَّما لم يخلِّفْ لهُ أبوهُ فَلْسًا، ثمَّ ينظرُ ما أعدَّه اللَّهُ تعالى لمنْ تركَ الشحَّ وبذلَ ماله في مرضاةِ اللَّهِ تعالى، وينظرُ في آياتِ القرآنِ المجيد الحاثَّةِ على الجودِ المانعةِ عن البخلِ، ثمَّ ينظرُ في عواقبِ البخلِ في الدنيا، فإنهُ لا بدَّ لجامعِ المال،

(6)

منْ آفاتٍ تُخْرجُهُ على رُغْمِ أنفهِ [وذل أمره]

(7)

، فالسخاءُ خيرٌ كلُّه ما لم يخرجْ إلى حدِّ الإسرافِ المنْهيِّ عنهُ. وقدْ أدَّبَ الله تعالى عبادَه أحسنَ الآدابِ فقالَ:

(1)

زيادة من (أ).

(2)

(3/ 259 - 262)، واعلم أن في "الإحياء" فوائد كثيرة لكن فيه مواد مذمومة فاسدة من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد،

وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وتُرَّهاتهم.

وانظر: "إحياء علوم الدين في ميزان العلماء والمؤرخين" علي حسن علي عبد الحميد.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (ب): "ذكر".

(6)

في (أ): "الأموال وكانزها".

(7)

زيادة من (أ).

ص: 217

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}

(1)

، فخيارُ الأمورِ أوسطُها. وخلاصتُه أنهُ إذا وجدَ العبدُ المالَ أنفقَه في وجوهِ المعروفِ [بالتي هيَ أحسنُ]

(2)

، ويكونُ بما عند اللهِ أوثقُ منهُ بما هوَ لديْهِ، وإنْ لم يكنْ لديهِ مالٌ لزمَ القناعةَ والتكفُّفَ وعدمَ الطمعِ.

‌ذمُّ الرياء

5/ 1401 - وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكُمْ الشرْك الأَصْغَرُ: الرِّيَاءُ"، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ

(3)

حَسَنٍ. [حسن]

([وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه)

(4)

]

(5)

هوَ محمودُ بن لبيدٍ بن رافع الأنصاريُّ الأشهليُّ، وُلدَ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وحدَّثَ عنهُ أحاديثَ. قالَ البخاريُّ: لهُ صحبة. وقالَ أبو حاتم: لا نعرف لهُ صحبة. وذكرهُ مسلم في التابعينَ. قالَ ابنُ عبدِ البرّ: والصوابُ قولُ البخاريّ، وهوَ أحدُ العلماءِ، ماتَ سنةَ ستٍّ وسبعينِ. (قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكَ الأصْغَرَ)، كأنهُ قيلَ: وما هوَ؟ فقالَ صلى الله عليه وسلم: (الرِّيَاءُ. أَخْرَجَه أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ).

الرياءُ مصدرُ راءَى فاعَل، ومصدَرهُ يأتي على بناءِ مفاعلة وفعالٍ، وهوَ

(1)

سورة الفرقان: الآية (67).

(2)

في (أ): "والخير".

(3)

في "المسند"(5/ 429) ورجاله رجال الصحيح.

قلت: وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" رقم (4831)، وقال الطبراني: رواه أحمد والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث محمود بن لبيد. وله رواية ورجاله ثقات.

ورواه الطبراني من رواية محمود بن لبيد عن رافع بن خديج كما في تخريج الإحياء (5/ 1971 رقم 3111).

وانظر: "مجمع الزوائد"(1/ 102) و (10/ 222). والخلاصة: أن الحديث حسن.

(4)

انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (7838)، و"أسد الغابة" رقم (4780)، و"الاستيعاب" رقم (2385)، و"التاريخ الكبير"(7/ 402)، و"الجرح والتعديل"(8/ 289)، و"شذرات الذهب"(1/ 112).

(5)

زيادة من (ب).

ص: 218

مهموزُ العينِ لأنهُ منَ الرؤيةِ، ويجوزُ تخفيفُها بقلْبِها ياءً، و [حقيقة الرياء]

(1)

لغةً [هو]

(2)

أنْ يرَى غيرَه خلافَ ما هوَ عليهِ، وشرْعًا أنْ يفعلَ الطاعةَ ويتركَ المعصيةَ معَ ملاحظةِ غيرِ اللَّهِ تعالى، أو يخبرُ بها، أوْ يحبُّ أنْ يطَّلعَ عليها لمقصدٍ دنيويٍّ منْ مالٍ أو [غيره، والكلُ محرم]

(3)

. وقدْ ذمَّه اللَّهُ في كتابِه، وجعلَه منْ صفاتِ المنافقينَ في قولِهِ تعالى:{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}

(4)

، وقالَ:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

(5)

، [{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) - إلى قولِه - الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)}

(6)

]

(7)

. ووردَ فيهِ من الأحاديثِ الكثيرةِ الطيبةِ الدالةِ على عظمةِ عقابِ المرائي، فإنهُ في الحقيقة عابدٌ لغيرِ اللَّهِ، وفي الحديثِ القدسيِّ:"يقولُ اللَّهُ تعالَى: منْ عملَ عملًا أشركَ فيهِ غيري فهوَ لهُ كلُّه، وأنا منه بريءٌ، أنا أغْنَى الأغنياءِ عن الشركِ"

(8)

. واعلمْ أن

(1)

في (ب): "حقيقتُه".

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (ب): "نحوه".

(4)

سورة النساء: الآية 142.

(5)

سورة الكهف: الآية 110.

(6)

سورة الماعون: الآيات 4 - 6.

(7)

زيادة من (ب).

(8)

• أخرجه أحمد (2/ 301)، وفي "الزهد"(ص 57)، عن محمد بن جعفر و (2/ 301) أيضًا عن روح و (2/ 435)، عن يحيى القطان ثلاثتهم عن شعبة عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة.

• وأخرجه الطيالسي رقم (2559) عن ورقاء، ومسلم رقم (2985)، من طريق روح بن القاسم، وابن ماجه رقم (4202) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، ثلاثتهم عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه عن أبي هريرة.

• وأخرجه البغوي في "شرح السنة" رقم (4136)، من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ورقم (4137)، من طريق أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وله شواهد:

الأول: من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري، أخرجه الترمذي رقم (3154)، وابن ماجه رقم (4203).

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحافظ في "الإصابة"(4/ 86): سنده صالح.

الثاني: من حديث شداد بن أوس أخرجه الطيالسي رقم (1120).

الثالث: من حديث محمود بن لبيد أخرجه أحمد (5/ 428، 429)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (4135).

والخلاصة: أن الحديث صحيح، والله أعلم.

ص: 219

الرياء يكونُ بالبدنِ وذلك بإظهارِ النحولِ والاصفرارِ ليوهمَ بذلكَ شدةَ الاجتهادِ والحزنِ على أمر الدينِ وخوفِ الآخرةِ، وليدلَّ بالنحولِ على قلةِ الأكلِ، [وبتشعثِ الشعرِ]

(1)

ودرنِ [الثوبِ يوهِمُ]

(2)

أن همَّه بالدينِ ألهاهُ عنْ ذلكَ، وأنواعُ هذا واسعةٌ، وهوَ ليرى أنهُ منْ أهلِ الدين [والصلاح]

(3)

، ويكونُ [الرياء]

(4)

بالقولِ بالوعظِ في المواقفِ وبذكرِ حكاياتِ الصالحينَ ليدلَّ على عنايتهِ بأخبارِ السلفِ، وتبحُّرِه في العلمِ، ويتأسفُ على مقارفةِ النّاسِ للمعاصي والتأوُّه من ذلك، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ بحضْرَةِ الناس، والرياءُ بالقولِ لا تنحصرُ [أبوابهُ]

(5)

، وقد تكونُ المراءاةُ بالأصحاب والأتباع والتلاميذِ فيقالُ فلانُ متبوعٌ، قُدْوَةٌ، والرياءُ بابٌ واسعٌ، إذا عرفتَ ذلكَ فبعضُ أَبوابِ الرياءِ أعظمُ منْ بعضٍ لاختلافهِ باختلافِ أركانِه، وهيَ ثلاثةٌ: المراءى بهِ، والمراءَى لأجْلهِ، ونفسُ قصدِ الرياءِ [فقصْدُ الرياءِ]

(6)

لا يخلو منْ أنْ يكونَ مجرَّدًا عنْ قصدِ الثوابِ، أو مصحُوبًا بإرادتِه، والمصحوبُ بإرادةِ الثوابِ لا يخلُو [عنْ]

(7)

أنْ تكونَ إرادةُ الثوابِ أرجحُ أوْ أضْعَفُ أو متساوية، فكانتْ صورٌ أربع: الأولَى أنْ لا يكونَ قصدُ الثوابِ بلْ فعلُ الصلاةِ مثلًا ليراهُ غيرُه، وإذا انفردَ [لم]

(8)

يفْعلها، وأخرجَ الصدقةَ لئلَّا يقالَ إنهُ بخيلٌ، وهذا أغلظُ أنواعِ الرياءِ وأخبثُها، وهوَ عبادةٌ [للعباد]

(9)

. الثانيةُ: قصدُ الثوابِ لكنْ قَصْدًا ضعيفًا بحيثُ إنهُ لا يحملُه على الفعلِ إلا [الرياء]

(10)

، ولكنَّه قصدَ الثوابَ فهذا الذي قبْلَه. والثالثة: تساوي القصْدانِ بحيثُ لم يبعثْه على [العمل]

(11)

إلا مجموعُهُما، ولو خلَى عنْ كلِّ واحدٍ منْهما لم يفعلْه، فهذَا تساوى صلاحِ قصدِه وفسادِه، فلعلَّه يخرجُ رأسًا برأسٍ لا لهُ ولا عليهِ. الرابعةُ: أنْ يكونَ اطلاعُ الناسِ مرجّحًا ومقوِّيًا لنشاطِه، ولو لم يكنْ لما تركَ العبادةَ.

(1)

في (أ): "ويوهم بشعثه".

(2)

في (أ): "ثوبه".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

في (أ): "من".

(8)

في (ب): "لا".

(9)

في (أ): "للغير".

(10)

في (ب): "مراءاة العباد".

(11)

في (ب): "الفعل".

ص: 220

قال الغزاليُّ

(1)

: والذي نظنُّه - والعلمُ عندَ اللَّهِ - أنهُ لا يحبطُ أصلُ الثوابِ ولكنَّهُ ينقصُ ويُعَاقَبُ على مقدارِ قصدِ الرياءِ، ويثابُ على مقدارِ قصدِ الثواب. وحديثُ:"أنا أَغْنَى الأغنياءِ عن الشركِ"

(2)

محمولٌ على ما إذا تساوَى القصدانِ، أوْ كان قصدَ الرياءِ أرجحُ. وأما المراءَى بهِ وهوَ الطاعاتُ فينقسم إلى الرياءِ بأصولٍ العباداتِ، وإلى الرياءِ بأوصافها، وهوَ ثلاثُ درجات: الرياءُ بالإيمانِ، وهوَ إظهارُ كلمةِ الشهادةِ، وباطنُه مكذِّبُ فهوَ مخلَّد في النارِ في الدركِ الأسفلِ منها، وفي هؤلاء أنزلَ اللَّهُ تعالَى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}

(3)

الآية. وقريبٌ منْهم الباطنيةُ الذينَ يُظْهِرونَ الموافقةَ في الاعتقادِ ويبطنونَ خلافَه، ومنْهمُ الرافضةُ [أهل التُّقْيةِ]

(4)

الذينَ يظهرونَ لكل فريقٍ أنَّهم منهمْ تُقْيَةً. وإلى الرياء بالعباداتِ كما قدمنا، وهذا إذا كان الرياءُ في أصلِ المقصِدِ، وأما إذا عرضَ الرياءُ بعدَ الفراغِ منْ فعلِ العبادةِ لم يؤثرْ فيهِ إلَّا إذا ظهرَ العملُ للغيرِ وتُحُدِّثَ بهِ. وقدْ أخرجَ الديلمي

(5)

مرفُوعًا: "إنَّ الرجلَ يعمل عملًا سِرًا [فيكتبُه الله عندَه]،

(6)

سِرًّا، فلا يزالُ بهِ الشيطانُ حتَّى يتكلَّمَ بهِ فيُمْحَى منَ السرِّ ويكتبُ علانيةً، فإنْ عادَ تكلَّمَ الثانيةَ مُحِيَ منَ السرِّ والعلانيةِ وكُتِبَ رياءً".

وأما إذا قارنَ باعِثُ الرياءِ باعِثَ العبادةِ ثمَّ ندمَ في أثناءِ العبادةِ فأوجبَ [البعضُ]

(7)

منَ العلماءِ الاستئنافَ لعدمِ انعقادِها. وقالَ بعضُهم: يلغُو جميعَ ما فعلَه إلا التحريمَ. وقالَ بعضهم: يصحُّ لأنَّ النظرَ إلى الخواتمِ كما لو ابتدأ بالإخلاصِ وصحبَه الرياءُ منْ بعدِه. قال الغَزاليُّ

(8)

: والقولانِ الآخرانِ خارجانِ عنْ [قياسِ]

(9)

الفقهِ. وقدْ أخرجَ الواحديُّ

(10)

في أسبابِ النزولِ جوابَ جندبِ بن

(1)

انظر: "الإحياء"(3/ 302 - 305).

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

(3)

سورة المنافقون: الآية 1.

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في "الفردوس" رقم (722) من حديث أبي هريرة. وعزاه الزبيدي للديلمي عن أبي الدرداء ولفظه عند البيهقي في "شعب الإيمان" رقم (6813 و 6864)، عن بقية موقوفًا بخلاف لفظ الديلمي.

والخلاصة: أن الحديث ضعيف، والله أعلم.

(6)

في (أ): "فيكتب عند الله".

(7)

في (أ): "بعض".

(8)

انظر: "الإحياء"(3/ 309).

(9)

في (أ): "القياس".

(10)

في "أسباب النزول"(ص 299).

ص: 221

زهيرٍ لما قالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إني أعملُ العملَ وإذا اطُّلِعَ عليهِ سرَّني، فقالَ صلى الله عليه وسلم: لا شريكَ للَّهِ في عبادتِه. وفي روايةٍ: "إنَّ اللَّهَ لا يقبلُ ما شُورِكَ فِيهِ"، رواهُ ابنُ عباس

(1)

. ورُوِيَ عنْ مجاهدٍ

(2)

أنهُ جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: إني أتصدَّقُ وأصلُ الرحمَ، ولا أصنعُ ذلكَ إلَّا للَّهِ، فيُذْكَرُ ذلكَ منِّي فيسرني وأُعجَبُ بهِ فلمْ يقلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لهُ شيئًا حتَّى نزلتِ الآيةُ يعني قولَه تعالَى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

(3)

، ففي الحديثِ دلالةٌ على أن السرورَ بالاطلاعِ على العملِ رياءٌ، ولكنَّه يعارضُه ما أخرجَهُ الترمذيُّ

(4)

منْ حديثِ أبي هريرةَ، وقالَ: حديثٌ غريبٌ قالَ: "قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ بينا أنا في بيتي في [صلاتي]

(5)

؛ إذْ دخلَ عليَّ رجلٌ فأعجبني الحالُ التي رآني [عليها]

(6)

فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لكَ أجرانِ". وفي الكشافِ

(7)

منْ حديثِ جندب أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: "لكَ أجرانِ أجرُ السرِّ، وأجرُ العلانيةِ"، وقدْ يرجِّحُ هذا الظاهرَ قولُه تعالَى:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}

(8)

، فدلَّ على أن محبةَ الثناءِ منْ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا تنافي الإخلاصَ، ولا تُعَدُّ منَ الرياءِ. [ويُتَأوَّلُ]

(9)

الحديثُ الأوّلُ بأنَّ المرادَ بقولِه: "إذا اطُّلِعَ عليهِ سرَّني" لمحبتهِ للثناءِ عليهِ فيكونُ الرياءُ في محبتِه الثناءَ على

(1)

أخرج ابن منده وأبو نعيم في "الصحابة" وابن عساكر كما في "فتح القدير"(3/ 318) من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال: كان جندب بن زهير إذا صلَّى أو صام أو تصدَّق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لقالة الناس، فلا يريد به الله فنزلت الآية، قلت: وهذا إسناد مظلم كله كذابون، فالحديث باطل.

(2)

ذكره الواحدي في "أسباب النزول"(ص 299) بدون سند.

(3)

سورة الكهف: الآية 110.

(4)

في "السنن"(4/ 594 رقم 2384) وعزاه إليه العراقي في "تخريج الإحياء"(3/ 308) من رواية ذكوان عن أبي هريرة وقال الترمذي: غريب، وقال: إنه رُوي عن أبي صالح وهو ذكر أنه مرسل.

(5)

في (أ): أصلي.

(6)

في (أ): فيها.

(7)

(2/ 404).

(8)

سورة التوبة: الآية 99.

(9)

في (أ): "ويتناول".

ص: 222

العملِ، وإنْ لم يخرجِ العملُ عنْ كونِه خالِصًا، وحديثُ أبي هريرةَ ليسَ فيهِ تعرُّضٌ [لمحبته]

(1)

الثناءَ منَ المطَّلِعِ عليهِ، وإنَّما هوَ مجرّدُ محبةٍ لما يصدرُ عنْه وعَلِمَ بهِ غيرُه، ويحتملُ أنْ يرادَ بقولِه فيعجبني أي يعجبُه شهادةُ الناسِ لهُ بالعملِ الصالحِ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"أنتمُ شهداءُ اللهِ في الأرضِ".

قالَ الغزالي

(2)

: أما مجردُ السرورِ باطلاع الناسِ إذا لم يبلغْ أمرُه بحيثُ يؤثّرُ في العملِ فبعيدٌ أنْ يفسِدَ [في]

(3)

العبادةَ.

‌خصال النفاق

6/ 1402 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "آيَة المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائتُمِنَ خَانَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

. [صحيح]

- ولَهُمَا

(5)

مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو: "وَاذَا خَاصَمَ فَجَرَ".

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آيَة الْمنَافِقِ)[أي علامةُ نفاقِه]

(6)

(ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا ائْتُمِنَ خَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وقد ثبتَ عندَ الشيخينِ منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بن عمرو رابعةٌ وهيَ: وإذا خاصمَ فجرَ). والمنافقُ مَنْ يظهرُ الإيمانَ ويبطنُ الكفرَ. وفي الحديثِ دليلٌ على أن منْ كانتْ فيهِ خَصْلَةٌ منْ هذهِ كانتْ فيهِ خصلةٌ منَ النفاقِ، فإنْ كانتْ فيهِ هذهِ كلُّها فهو منافقٌ [كامل النفاق]

(7)

وإنْ كانَ موقِنًا مصدّقًا بشرائعِ [الإسلامِ]

(8)

[لحديث: وإن صلَّى

(1)

لمحبته.

(2)

"الإحياء"(3/ 306 - 307).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (33)، ومسلم رقم (59)، وزاد مسلم في رواية له:"وإن صلَّى وصام وزعم أنه مسلم".

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2631).

(5)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (34)، ومسلم رقم (58).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4688)، والنسائي (8/ 116)، والترمذي رقم (2632).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (أ).

(8)

في (أ): "الدين".

ص: 223

وصام، وزعم أنه مسلم]

(1)

. وقدِ استشكلَ الحديثُ بأنَّ هذه الخصالَ قدْ توجدُ في المؤمنِ المصدقِ القائم [بشرائعِ الدينِ] ولما كانَ كذلك اختلفَ]

(2)

العلماءُ في معنى الحديث. قالَ النوويُّ

(3)

: قالَ المحققونَ: والأكثرونَ - وهوَ الصحيحُ المختارُ - إنَّ هذهِ الخصالَ هي خصالُ المنافقينَ، فإذا اتصفَ بها أحدٌ منَ [المصدِّقينَ]

(4)

أشبهَ [المنافقَ]

(5)

، فيطلقُ عليهِ اسمُ النفاقِ مجازًا، فإنَّ النفاقَ هوَ إظهارُ ما يبطنُ خلافَه، وهوَ موجودٌ في صاحبِ هذِه الخصالِ، ويكونُ نفاقُه في حقِّ مَنْ حدَّثَهُ، ووعدَهُ، وأْتَمَنهُ، وخاصَمهُ، وعاهدَه منَ الناسِ، لا أنهُ منافقٌ في الإسلامِ، وهوُ يبطنُ الكفرَ، وقيلَ: إنَّ هذا كانَ في حقِّ المنافقينَ الذينَ كانُوا في أيامِه صلى الله عليه وسلم[تحدَّثوا]

(6)

بإيمانهم فكذبُوا، وأتُمِنُوا على دينهم فخانُوا، ووعِدُوا في الدينِ بالنصرِ فأخلفُوا وفجرُوا في خصوماتِهم. وهذا قولُ سعيدٍ بن جبيرٍ

(7)

، وعطاءٍ بن أبي رباحٍ

(8)

، [ورجعَ إليهِ الحسنُ

(9)

بعدَ أنْ كانَ على خلافِه، وهوَ مرويٌ عن ابن عباسٍ]

(10)

، وابنِ عمرَ وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قالَ القاضي (9) عياضٌ: وإليهِ مالَ كثيرٌ منَ الفقهاءِ. وقالَ الخطابيُّ (9) عنْ بعضِهم إنهُ وردَ الحديثُ في رجلٍ معيَّنٍ، وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يواجِهُهُم بصريحِ القولِ، فيقولُ فلانٌ منافقٌ وإنما يشيرُ إشارةً.

وحَكَى الخطابيُّ

(11)

أن معناهُ التحذيرُ للمسلمِ أنْ يعتادَ هذهِ الخصالَ التي يخافُ عليهِ منْها أنْ تفضيَ بهِ إلى حقيقةِ النفاقِ، وأيدَ هذا القولَ بقصةِ ثعلبةَ الذي [أنزل الله تعالى]

(12)

فيهِ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا [فِي قُلُوبِهِمْ]

(13)

إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، فإنهُ آلَ بهِ خُلْفُ الوعدِ والكذبِ إلى الكفرِ، فيكونُ الحديثُ للتحذيرِ منَ التخلقِ بهذهِ [الخلالِ]

(14)

التي تؤولُ بصاحِبها إلى النفاقِ الحقيقيِّ الكاملِ.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في (أ): "بالشرائع فاختلف".

(3)

في "شرح صحيح مسلم"(2/ 47).

(4)

في (أ): "المؤمنين".

(5)

في (أ): "المنافقين".

(6)

في (أ): "يتحدثون".

(7)

و

(8)

و

(9)

ذكرها النووي في شرحه (2/ 47 - 48).

(10)

زيادة من (ب).

(11)

انظر النووي (2/ 48).

(12)

في (ب): "قال".

(13)

زيادة من (ب).

(14)

في (ب): "الأخلاق".

ص: 224

‌النهي عن سب المسلم وقتاله

7/ 1403 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوق، وَقِتَالُهُ كفْرٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سِبَابُ)[بكسرِ السينِ المهملةِ مصدرُ سبَّه]

(2)

(المُسْلِمُ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كفْرٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). السبُّ لغةً: الشتمُ والتكلمُ في أعراضِ الناسِ [بما لا يعني كالسباب]

(3)

، الفسوقُ مصدرُ فسقَ، وهوَ لغةً: الخروجُ، وشرْعًا: الخروجُ منْ طاعةِ اللهِ. وفي مفهوم قولِه: "المسلمُ"، دليلٌ على جوازِ سبِّ الكافرِ، فإنْ كانَ معاهِدًا فهوَ أذيةٌ وقدْ نُهِيَ عنْ أذيَّتِهِ، فلا يُعْمَلُ بالمفهومِ في حقِّه، وإنْ كانَ حربيًا جازَ سبُّه إذْ لا حرمةَ لهُ، وأما الفاسقُ فقد اختلفَ العلماءُ في جوازِ سبِّهِ بما هوَ مرتكبٌ لهُ منَ المعاصي، فذهبَ الأكثرُ إلى جوازِهِ، لأنَّ المرادَ بالمسلمِ في الحديثِ الكاملِ الإسلامُ، والفاسقُ ليسَ كذلكَ، وبحديثِ:(اذكُروا الفاسق بما فيهِ كي يحذرَه الناسُ)، وهوَ حديثٌ ضعيفٌ، وأنكرهُ أحمدُ

(4)

، وقالَ البيهقيُّ

(5)

: ليسَ بشيءٍ، فإنْ صحَّ حُمِلَ على فاجرٍ معلِنٍ بفجورِهِ، أو يأتي بشهادةٍ أوْ يعتمدُ عليهِ فيحتاجُ إلى بيانِ حالهِ لئلَّا يقعَ الاعتمادُ عليهِ، انتهَى كلامُ البيهقيِّ؛ ولكنهُ أخرجَ الطبرانيُّ

(6)

في الأوسطِ [والصغيرِ]

(7)

بإسنادٍ حسنٍ رجالُه موثوقونَ، وأخرجَهُ في الكبيرِ أيضًا منْ حديثِ معاويةَ بن حيدةَ قالَ: خَطَبَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: "حتَّى متَى ترعوونَ عنْ ذكرِ الفاجرِ، اهتكوهُ

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6044)، ومسلم رقم (64).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1983)، والنسائي (7/ 121 و 122) وابن ماجه رقم (69).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

ذكر ذلك ابن عدي في "الكامل"(2/ 595).

(5)

في "شعب الإيمان"(7/ 109 رقم 9666).

(6)

في "الأوسط" رقم (4372)، وفي "الصغير" رقم (598)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 149) وقال:"رواه الطبراني في الثلاثة وإسناد الأوسط" و"الصغير" حسن رجاله موثقون واختلف في بعضهم اختلاف لا يضر".

(7)

زيادة من (ب).

ص: 225

حتَّى يحذرَه الناسُ". وأخرجَ البيهقيُّ

(1)

منْ حديثِ أنسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ: "مَنْ ألقَى جلبابَ الحياءِ فلا غيبةَ لهُ". وأخرجَ مسلمٌ

(2)

: "كلُّ أمتي معافَى إلا المجاهرونَ" وهمُ الذينَ جاهَرُوا بمعاصِيْهم، فهتكُوا ما سترَ اللَّهُ عليهم، فيتحدثون بها بلا ضرورةَ ولا حاجةَ. والأكثرُ يقولون بأنهُ يجوزُ أنْ يُقَالَ للفاسقِ يا فاسقُ، يا مفسِدُ، وكذَا في غيبتِه بشرطِ قصدِ النصيحةِ لهُ أو لغيرِه، لبيانِ حالِه أو للزجرِ عنْ صنيعهِ، لا لقصدِ الوقيعةِ فيهِ فلا بدَّ منْ قصدٍ صحيحٍ إلا أن يكونَ جوابًا لمنْ يبدأُه بالسبِّ، فإنهُ يجوزُ لهُ الانتصارُ لنفسهِ لقولِه تعالَى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}

(3)

، ولقولِه صلى الله عليه وسلم:"المتسابَّانِ ما قالا فعلَى البادي ما لم يعتدِ المظلومُ"، أخرجَهُ مسلم

(4)

. ولكنهُ لا يجوزُ أنْ يعتديَ ولا يسبَّه بأمرٍ كذبٍ. قالَ العلماءُ: وإذا انتصرَ المسبوبُ استوفَى ظلامتَه، وبرئَ الأولُ منْ حقِّهِ، وبقيَ عليهِ إثمُ الابتداءِ، والإثمُ المستَحقُّ للهِ تعالَى. وقيلَ: يرتفع عنه الإثمُ، ويكونُ على البادئِ اللومُ والذمُّ لا الإثمُ. ويجوزُ في حالِ الغضبِ للهِ تعالَى لقولِه صلى الله عليه وسلم ذرٍّ:"إنكَ امرؤٌ فيكَ جاهليةٌ"

(5)

، وقولُ عمرَ

(6)

في قصةِ حاطبٍ: دعني أضربْ عُنُقَ هذا المنافقِ، وقولُ أُسَيْدِ

(7)

لسعدٍ: إنما أنتَ منافقٌ تجادلُ عن المنافقين. ولم ينكرْ صلى الله عليه وسلم هذهِ الأقوالَ، وهيَ بمحضرِه. وقولُه صلى الله عليه وسلم:(وقتالُه كفرٌ) دالٌّ على أنهُ يكفرُ مَنْ يقاتلُ المسلمَ بغيرِ حقٍّ، وهوَ ظاهرٌ فيمنِ استحلَّ قتلَ

(1)

في "شعب الإيمان"(7/ 108 رقم 9664)، وقال:"فهذا إن صحَّ في الفاسق المعلن بفسقه وفي إسناده ضعف، والله أعلم".

(2)

في "صحيحه"(4/ 2291 رقم 2990)، بل والبخاري في "صحيحه" رقم (6069) من حديث أبي هريرة.

(3)

سورة الشورى: الآية 41.

(4)

في "صحيحه"(4/ 2000 رقم 68/ 2587).

(5)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(1/ 84 رقم 22، 30)، ومسلم في "صحيحه"(3/ 1282 رقم 1661)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2402).

(6)

أخرجه البخاري (7/ 304 رقم 3983)، ومسلم في "صحيحه"(4/ 1941 رقم 161/ 2494) من حديث علي.

(7)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(7/ 431 - 435 رقم 4141).

ص: 226

المسلمِ أو قاتلَه حالَ إسلامِه. وأما إذا كانتِ المقاتلةُ لغيرِ ذلكَ [فأطلق عليه]

(1)

الكفر مجازًا ويرادُ بهِ كفرُ النعمةِ والإحسانِ وأخوةِ الإسلامِ، لا كفرُ الجحودِ، وسمَّاهُ كفرًا لأنهُ قد يؤولُ به إلى الكفر لما يحصلُ منَ المعاصي منَ الرينِ على القلبِ حتى يعمَى عن الحقِّ فقدْ [تصير]

(2)

كفرًا، أو إنهُ فِعلٌ كفعلِ الكافرِ الذي يقاتلُ المسلمَ.

‌التحذير من الظن لأنه أكذب الحديث

8/ 1404 - وَعَن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإن الظَّنَّ أكذَبُ الْحَدِيثِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الْحَدِيثِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). المرادُ بالتحذيرِ التحذيرُ منَ الظنِّ بالمسلمِ شرًا نحوَ: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} ، والظنُّ هوَ ما يخطرُ بالنفسِ منَ التجويزِ المحتملِ للصحةِ والبطلانِ، فيحكمُ بهِ ويعمل عليهِ، كذا فسَّرَ الحديثَ في مختصرِ النهايةِ. وقالَ الخطابيُّ: المرادُ التهمةُ ومحلُّ التحذيرِ. والنَّهيُ إنَّما هوَ عن التهمةِ التي لا سببَ لما يوجِبُها كمن اتُّهم بالفاحشةِ ولم يظهرْ عليهِ ما يقتضي ذلكَ. قال النوويُّ: والمرادُ التحذيرُ منْ تحقيقِ التهمةِ والإصرارِ عليها، وتقرُّرِها في النفس دونَ ما يعرضُ ولا يستقرُّ، فإنَّ هذا لا يكلَّفُ بهِ كما في الحديثِ: "تجاوزَ اللَّهُ عما [تحدثتْ]

(4)

بهِ الأمةُ أنفسَها ما لم تتكلمْ أو تعملْ"

(5)

، ونقلَه عياضٌ عنْ سفيانَ. والحديثُ واردٌ في حقِّ مَنْ لم يظهرْ منهُ شر ولا فُحْشٌ ولا فجورٌ، ويقيدُ إطلاقَه حديثُ:"احترِسُوا منَ الناسِ بسوءِ الظنِّ"

(6)

أخرجَهُ الطبرانيُّ في الأوسطِ (6)،

(1)

في (ب): "فإطلاق".

(2)

في (ب): "يصير".

(3)

أخرجه البخاري رقم (6066)، ومسلم رقم (28/ 2563).

قلت: وأخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 907، 908)، وأحمد (2/ 465 و 517)، وأبو داود رقم (4917)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (3533)، والبيهقي (6/ 85)، و (8/ 333)، و (10/ 231).

(4)

في (أ): "تحدث".

(5)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6664)، ومسلم في "صحيحه" رقم (127).

(6)

رقم (598 و 9458) وقال: لم يرو هذا الحديث عن أنس إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به بقية.=

ص: 227

والبيهقي

(1)

والعسكريُّ

(2)

منْ حديثِ أنسٍ مرفُوعًا. قالَ البيهقيُّ: تفرَّدَ بهِ بقيةٌ. وأخرجَ الديلميُّ

(3)

عنْ عليٍّ رضي الله عنه موقوفًا: "الحَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ". وأخرجَهُ القُضَاعيُّ

(4)

مرفُوعًا منْ حديثِ عبدِ الرحمنِ بن عائذٍ مرسلًا، وكلُّ طرقِه ضعيفةٌ، وبعضُها يقوِّي بعضًا، ويدلُّ على أن لها أصلًا. وقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم:"أخوكَ البكريُّ ولا تأمنْه"، أخرجَهُ الطبراني في الأوسطِ

(5)

عنْ عمرَ، وأبو داودَ

(6)

عنْ عمرِو بن [العاص]

(7)

. وقدْ قسَّمَ الزمخشريُّ

(8)

الظنَّ إلى واجبٍ ومندوبٍ وحرامٍ ومباحٍ، فالواجبُ حُسْنُ الظنِّ باللهِ، والحرامُ سوءُ الظنّ بهِ تعالَى، وبكلِّ مَنْ ظاهرُه العدالةُ منَ المسلمينَ، وهوَ المرادُ بقولِه صلى الله عليه وسلم:"إياكم والظنَّ"، الحديثَ. والمندوبُ حسنُ الظنّ بمنْ ظاهرُه العدالةُ منَ المسلمينَ، والجائزُ مثلُ قولِ أبي بكرٍ لعائشةَ: إنما هو أخوك أو أُختكِ لما وقعَ في قلبه أن الذي في بطنِ امرأتِه أنثى. ومنْ ذلكَ

= قلت: وليس كما قال، فقد أخرجه تمام في "فوائده" رقم (692) من طريق إبراهيم بن طهمان عن أبان بن عياش، عن أنس به. وأبان متروك.

(1)

في "السنن الكبرى"(10/ 129). وقال البيهقي (9/ 256): "لا يحتج بما يتفرد به بقية فكيف بما يخالف فيه". وانظر كلام ابن عدي في بقية هذا (2/ 504). وانظر: "فيض القدير"(1/ 181 - 182).

(2)

في "الأمثال" من طريقين.

والخلاصة: أن الحديث ضعيف جدًّا، والله أعلم.

(3)

في "مسند الفردوس" كما في "فيض القدير"(3/ 412 رقم 3815).

(4)

في "مسند الشهاب"(1/ 48 رقم 24)، فيه علي بن الحسين بن بندار، قال ابن النجار: ضعيف. واتَّهمه ابن طاهر بالوضع. وأبو تقي قال أبو حاتم والنسائي: ليس بشيء. والوليد بن كامل، ضعَّفه أبو حاتم والأزدي وقال البخاري في "التاريخ الصغير" (2/ 194): عنده عجائب. وعبد الرحمن بن عائذ تابعي، وهو حديث ضعيف جدًّا.

(5)

رقم (3774) وقال: لا يروى هذا الحديث عن عمر إلا بهذا الإسناد تفرد به إسماعيل بن أبي أويس.

قلت: وأخرجه العقيلي (2/ 72)، في ترجمة زيد بن عبد الرحمن وقال: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به.

وقال الهيثمي في "المجمع"(3/ 215): رواه الطبراني في "الأوسط" من طريق زيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه وكلاهما ضعيف.

(6)

لم أعثر عليه!!

(7)

في (ب): "العفواء".

(8)

في "الكشاف"(4/ 14 - 15).

ص: 228

سوءُ الظنِّ بمن اشتهرَ بينَ الناسِ بمخالطةِ الريبِ، والمجاهرةِ بالخبائثِ، فلا يحرمُ سوءُ الظنِّ بهِ لأنهُ قدْ دلَّ على نفسهِ، ومن سترَ على نفسِه لم يُظَنَّ بهِ إلا خيرٌ، ومنْ دخلَ في مداخلِ السوءِ اتُّهِم، ومنْ هتكَ نفسَه ظننا بهِ السوءَ.

والذي يميزُ الظُّنونَ التي يجبُ اجتنابُها عما سواها أن كلَّ ما لا تُعْرَفُ لهُ أمارةٌ صحيحةٌ وسببٌ ظاهرٌ كانَ حرامًا واجبَ الاجتنابِ، وذلك كأهل السترِ والصلاح ومنْ آنست منهُ الأمانة في الظاهرِ، ومقابله بعكسِ ذلكَ. ذكرَ معناهُ في الكشافِ

(1)

. وقولُه: "فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث"، سمَّاه حديثًا لأنهُ حديثُ نفسٍ، وإنَّما كانَ الظنُّ أكذبَ الحديثِ لأنَّ الكذبَ لمخالفته الواقعَ منْ غيرِ استنادِ إلى أمارةٍ، وقبحُه ظاهرٌ لا يحتاجُ إلى إظهارهِ، وأما الظنُّ فيزعمُ صاحبُه أنهُ استندَ إلى شيءٍ فيخفَى على السامعِ كونُه كاذِبًا بحسبِ الغالبِ [فكان]

(2)

أكذبَ الحديثِ.

‌من ضيَّع من استرعاه الله أو خانهم حرَّم الله عليه الجنة

9/ 1405 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيتِهِ، إلَّا حَرّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنْ مَعقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ عَبدٍ يَستَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إلَّا حَرّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ). أخرجَهُ البخاريُّ منْ روايةِ الحسنِ، وفيهِ قصةٌ، وهي: أن عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ زيادٍ عادَ معقلَ بنَ يسارٍ في مرضِه الذي ماتَ فيهِ، وكانَ عبيدُ اللهِ عاملًا على البصرةِ في إمارةِ معاويةَ وولدِهِ يزيدَ. أخرجه الطبرانيُّ

(4)

في الكبير منْ وجهٍ آخرَ

(1)

في "الكشاف"(4/ 14 - 15).

(2)

في (أ): وكان.

(3)

أخرجه البخاري رقم (7150)، ورقم (7151)، ومسلم (3/ 1460 رقم 21/ 142).

قلت: وأخرجه الطبراني في "الكبير"(50/ 207 رقم 474)، والبيهقي (9/ 41)، والبغوي في "الجعديات" رقم (3261)، وفي "شرح السنة" رقم (2478)، والطيالسي رقم (929)، والدارمي (2/ 324)، من طرق.

(4)

(20/ 408 رقم 476).

ص: 229

عن الحسنِ قالَ: قدمَ علينا عبيدُ اللَّهِ بنُ زيادٍ أميرًا أمَّرهُ علينا معاويةُ غُلامًا سَفِيهًا يسفكُ الدماءِ سَفْكًا شديدًا، وفيها معقلُ المزنيُّ فدخلَ عليهِ ذاتَ يومٍ فقالَ لهُ: انتهِ عما أراكَ تَصْنعُ فقال لهُ: وَمَا أَنتَ وَذَاكَ؟ ثم خرج إلى المسْجِدِ فقُلنَا لهُ: مَا كنتَ تصنعُ بكلامِ هذا السفيهِ على رؤوسِ الناسِ؟ فقالَ: إنهُ كانَ عندي علمٌ فأحببتُ أنْ لا أموتَ حتَّى أقولَ بهِ على رؤوسِ الناسِ، ثمَّ مرضَ فدخلَ عليهِ عبيدُ اللهِ يعودُه فقالَ لهُ معقلُ بنُ يسارٍ: إني أحدِّثُكَ حديثًا سمعتُه منْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ما منْ عبدٍ يسترعيهِ اللهُ رعيَّةً فلم يُحِطْها بنصيحةٍ لم يرحْ رائحةَ الجنةِ". ولفظُ روايةِ المصنِّفِ أحدُ روايتي مسلمٍ. وأخرجَ مسلمٌ

(1)

: "ما مِنْ أميرٍ يلي أمرَ المسلمينَ، لا يجتهدُ لهم، ولا ينصحُ لهم إلا لم يدخلْ معهمُ الجنةَ". ورواهُ الطبرانيُّ

(2)

، وزادَ: كنُصْحِه لنفسِه. وأخرجَ الطبرانيُّ

(3)

بإسنادٍ حسنٍ: "ما منْ إمامٍ ولا والٍ باتَ ليلةً سوداءَ غاشًّا لرعيتِه إلا حرَّم اللَّهُ عليهِ الجنةَ، وعَرْفُها يوجدُ يومَ القيامةِ منْ مسيرةِ سبعينَ عامًا". وأخرجَ الحاكمُ

(4)

وصحَّحَهُ منْ حديثِ أبي بكرٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ وُلِّيَ منْ أمرِ المسلمينَ شيْئًا فأمَّرَ عليهمْ أحدًا محاباةً فعليهِ لعنةُ اللَّهِ، لا يقبلُ اللَّهُ منهُ صرْفًا ولا عدْلًا حتَّى يدخلَه جهنَّمَ". وأخرجَ أحمدُ

(5)

والحاكمُ

(6)

أيضًا وصحَّحهُ منْ حديثِ ابن عباسٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من استعملَ رجلًا على عصابةٍ وفيهمْ منْ هوَ أرْضَى للهِ منهُ، فقدْ خانَ اللَّهَ ورسولَه

(1)

في "صحيحه" (1/ 126 /

/ 142) و (3/ 1460 رقم 22/ 142).

(2)

كما في "مجمع الزوائد"(5/ 213).

(3)

كما في "مجمع الزوائد"(5/ 212 - 213) وقال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه ثابت بن نعيم الهوجي ولم أعرفه، بقية رجال الطريق الأول ثقات. وفيه الثانية محمد بن عبد الله بن مغفل ولم أعرفه، وهو حديث حسن.

(4)

في "المستدرك"(4/ 93) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: بكر - بن فنيس - قال الدارقطني: متروك.

(5)

لم يخرجه أحمد.

(6)

في "المستدرك"(4/ 92/ 93) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ولم يورده الذهبي في "التلخيص"، وفي إسناده: حسين بن قيس الرَّحبي ولقبه: حنش.

قال أحمد: متروك، وقال البخاري: لا يكتب حديثه. وقال السعدي: أحاديثه منكرة جدًّا، "ميزان الاعتدال"(1/ 546)، وهو حديث ضعيف، والله أعلم.

ص: 230

والمؤمنينَ"، وفي إسنادِه واهٍ، إلَّا أن ابنَ نُمَيْرٍ وثَّقَهُ، وحسَّنَ لهُ الترمذيُّ أحاديثَ.

والراعي هوَ القائمُ بمصالحِ مَنْ يرعاهُ.

وقولُه: (يومَ يموتُ) مرادُه أنهُ يدركُه الموتُ وهوَ غاشٌّ لرعيتِه غيرَ تائبٍ منْ ذلكَ. والغِشُّ بالكسرِ ضدُّ النصحِ، ويتحققُ غِشُّهُ بظلمِه لهمْ بأخذِ أموالِهم، وسفْكِ دمائِهم، وانتهاكِ أعراضِهم، واحتجابِه عنْ خلتهم وحاجتهم، وحبْسهِ عنْهم ما جعلَه اللَّهُ لهم منْ مالِ اللهِ سبحانَه المعيَّنِ للمصارِف، وتركِ تعرِيفهم بما يجبُ عليهمْ منْ أمرِ دينهم ودنياهُم، وإهمالِ الحدودِ، وردعِ أهلِ الفسادِ، وإضاعةِ الجهادِ وغيرِ ذلكَ مما فيهِ مصالحُ العبادِ. ومنْ ذلك توليتُه لمنْ لا يحوطُهم، ولا يراقبُ أمرَ اللَّهِ فيهم، وتوليتُه منْ غيره أرضَى لله تعالى معَ وجودِه. والأحاديثُ دالةٌ على تحريمِ الغِشِّ وأنهُ من الكبائرِ لورودِ الوعيدِ عليهِ بعينِه، فإنَّ تحريمَ الجنةِ هو وعيدُ الكافرينَ في القرآنِ كما قال تعالى:{فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}

(1)

، وهوَ على رأي مَنْ يقولُ بخلودِ أهلِ الكبائر في النارِ واضحٌ، وقدْ حمَلَهُ مَنْ لا يَرَى خلودَ أهلِ الكبائرِ في النارِ على الزجرِ والتغليظِ.

قال ابنُ بطالٍ: هذا وعيدٌ شديدٌ على أئمةِ الجورِ، فمنْ ضَيَّعَ من استرْعَاه اللهُ، أو خانَهم، أوْ ظلَمَهُم فقدْ توجَّه إليهِ الطلبُ بمظالمِ العبادِ يومَ القيامةِ، فكيفَ يقدِرُ على التحلُّلِ منْ ظلمِ أمةٍ عظيمةٍ. ومعنَى:{حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} أي أنفذَ [عليهِ]

(2)

الوعيدَ، ولمْ يُرْضِ عنهُ المظلومينَ.

‌أمر الوالي بالرفق برعيته

10/ 1406 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُم مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتي شَيئًا فَشَقَّ عَلَيهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيهِ"، أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا

(1)

سورة المائدة: الآية 72.

(2)

في (أ): "إليه".

(3)

في "صحيحه" رقم (1828).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 62 و 93 و 260)، والنسائي في "السنن الكبرى" رقم (8873) وهو حديث صحيح.

ص: 231

فَشَق عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ. أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). شقَّ عليهمْ أدخلَ عليهمْ المشقةَ، أي المضرةَ. والدعاءُ عليهِ منْهُ صلى الله عليه وسلم بالمشقةِ جزاءٌ مِنْ جِنْسِ الفعلِ، وهوَ عامٌّ لمشقةِ الدنيا والآخرةِ، وتمامُه:"ومَنْ ولي منْ أمرِ أمتي شيئًا فرفقَ بهم فارفقْ بهِ". ورواهُ أبو عوانة

(1)

في صحيحهِ بلفظِ: "ومنْ ولي منْهم شيئًا فشقَّ عليهمْ فعليهِ بهلةُ اللَّهِ، [فقالوا]

(2)

: يا رسولَ اللهِ، وما بهلةُ اللَّهِ؟ قال: لعنةُ الله".

والحديثُ دليلٌ على أنهُ يجبُ على الوالي تيسيرُ الأمورِ على منْ وَليَهم، والرفقُ بهمْ، ومعاملتُهم بالعفوِ والصفحِ وإيثارِ الرخصةِ على العزيمةِ في حقِّهم، [لئلا]

(3)

يدْخِلَ عليهمُ المشقةَ، ويفعلُ بهم ما يحبُ أنْ يفعلَ بهِ اللهُ.

‌النهي عن ضرب الوجه

11/ 1407 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ"، مُتَّفَق عَلَيْهِ

(4)

. [صحيح]

(وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا قَاتَلَ أحَدُكُمْ) أي غَيْرَه كما يدلُّ لهُ فاعلُ، (فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ. مُتفَقٌ عليهِ). وفي روايةٍ: "إذا ضربَ أحدُكم

(5)

"، وفي روايةِ: "فلا يلطمنَّ الوجْهَ"

(6)

، الحديثَ. وهوَ دليل على تحريمِ ضرب الوجْهِ، وأنهُ يُتَّقَى فلا يُضْرَبُ ولا يُلْطَمُ، ولو في حدٍّ منَ الحدودِ الشرعيةِ، ولوَ في الجهادِ، وذلكَ لأنَّ الوجْهَ لطيفٌ يجمعُ المحاسنَ، وأعضاؤهُ لطيفة نفيسة، وأكثرُ الإدراكِ بها فقدْ يبطلُها ضربُ الوجهِ، وقدْ ينقصُها، وقدْ يشينُ الوجهَ، والشَّيْنُ فيهِ فاحشٌ لأنهُ بارزٌ ظاهرٌ لا يمكنُ ستْرُهُ، ومتَى أصابَهُ ضرب لا يسلمُ غالِبًا منْ شَيْنٍ وهذا النَّهْيُ عامُّ لكلِّ ضربٍ ولطمٍ منْ تأديبٍ وغيرِه.

(1)

في "مسنده"(4/ 412).

(2)

في (أ): "قالوا".

(3)

في (أ). "وأن لا".

(4)

البخاري في "صحيحه"(5/ 182 رقم 2559)، ومسلم في "صحيحه" رقم (112/ 2612).

(5)

لمسلم في "صحيحه" (4/ 2016 رقم (

) / 2612).

(6)

لمسلم في "صحيحه"(4/ 2016 رقم (114/ 2612).

ص: 232

‌النهي عن الغضب

12/ 1408 - وَعَنْهُ رضي الله عنه أن رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ:"لَا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا، وَقَالَ:"لَا تَغْضَبْ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

(وعَنْهُ) أي أبي هريرةَ (أن رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أوَصْنِي، قَالَ: لَا تَغضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ). جاءَ في روايةِ أحمدَ تفسيرُه بأنهُ جاريةُ بالجيمِ ابنُ قدامةَ، وجاءَ في حديثٍ [آخر]

(2)

أنهُ سفيانُ بنُ عبدِ اللَّهِ الثقفيُّ قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، قلْ لي قولًا أنتفعُ بهِ وأقْلِلْ، قالَ:"لا تغضبْ، ولكَ الجنةُ". ووردَ عنْ آخرينَ منَ الصحابةِ

(3)

مثلُ ذلكَ. والحديثُ نهيٌ عن الغضبِ، وهوَ كما قالَ الخطابي

(4)

نهيٌ عن اجتنابِ أسبابِ الغضبِ، [وعدم]

(5)

التعرضِ لما يجلبهُ. وأما نفسُ الغضبِ فلا يتأتى النَّهْيُ عنهُ لأنهُ أمرٌ جِبِلِّيٌّ. وقالَ غيرُه: وقعَ النهيُ [عمَّا]

(6)

كانَ من قبيلِ ما يكتسَبُ فيدفعُه بالرياضةِ. وقيلَ: [هوَ]

(7)

نهيٌ عما ينشأُ عنهُ الغضبُ وهوَ الكِبْرُ لكونِه يقعُ عندَ مخالفةِ أمرٍ يريدُه فيحملُه الكبرُ علَى الغضبِ، والذي يتواضعُ حتَّى [تذهبَ]

(8)

عنهُ عِزَّةُ النفسِ يسلَمُ منْ شرِّ الغضبِ، وقيلَ: معناهُ لا تفعلْ ما يأمرُكَ بهِ الغضبُ. قيلَ: وإنَّما اقتصرَ صلى الله عليه وسلم على هذهِ اللفظة لأنَّ السائلَ كانَ غضُوبًا، وكانَ صلى الله عليه وسلم يفتي كلَّ أحدٍ بما هوَ أَوْلَى بهِ.

(1)

في "صحيحه" رقم (6116).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

(منها): ما أخرج أحمد (5/ 373) عن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني، قال:"لا تغضب".

قال: ففكرت حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 69)، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

والخلاصة: أن الحديث حسن.

(ومنها): ما أخرج أحمد (2/ 175) عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يباعدني من غضب الله عز وجل؟ قال: "لا تغضب". وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 69) وقال: رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة وهو لين الحديث، وبقية رجاله ثقات.

والخلاصة: أن الحديث حسن.

(4)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 520).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

في (أ): "كما".

(7)

في (أ): "هي".

(8)

في (أ): "يذهب".

ص: 233

قالَ ابنُ التينِ

(1)

: جمعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قولِه: "لا تغضبْ" خيرَ الدنيا والآخرةِ، لأنَّ الغضبَ يؤُولُ إلى التقاطعِ، ومنعِ الرفقِ، ويؤولُ إلى أن يؤذيَ الذي غضبَ عليهِ بما لا يجوزُ فيكونُ نَقْصًا في دينِه، انتَهى. ويحتملُ أنْ يكونَ منْ بابِ التنبيهِ بالأعْلَى على الأدْنى، لأنَّ الغضبَ ينشأ عن النفسِ والشيطانِ، فمنْ جاهدَهما حتَّى يغلبَهُما مع مَا في ذلكَ منْ شدةِ المعالجةِ كانَ لقهرِ نفسِه عنْ غيرِ ذلكَ بالأَوْلَى. وتقدَّمَ كلامٌ يتعلَّقُ بالغضبِ وعلاجِه.

‌لا يحل لمن ولي شيئًا من الأموال العامة أن يأخذ فوق حاجته

13/ 1409 - وَعَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ الله بِغَيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ الْقِيَامَةِ"، أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُّونَ في مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْم الْقِيَامَةِ. أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

الحديثُ دليلٌ على أنهُ يحرمُ على مَنْ لم يستحقَّ شيئًا منْ مالِ اللَّهِ بأنْ لا يكونَ منَ المصارِفِ التي عيَّنَها الله تعالَى أنْ يأخذَه ويتملَّكَه، وأنَّ ذلكَ منَ المعاصي الموجبةِ للنارِ.

وفي قولِه يتخوضُونَ دلالةٌ على أنهُ يقبحُ توسُّعُهم منهُ زيادةً على ما يحتاجونَ، فإنْ كانُوا منْ ولاةِ الأموالِ أُبِيْحَ لهم قدْر ما يحتاجونَه لأنفسِهم منْ غيرِ زيادةٍ. وقدْ تقدَّم [من]

(3)

الكلامُ في ذلكَ.

‌تحريم الظلم

14/ 1410 - وَعَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: "يَا عِبَادي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا"، أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

. [صحيح]

(1)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 520).

(2)

في "صحيحه"(6/ 217 رقم 3118).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في "صحيحه" رقم (55/ 2577) قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم=

ص: 234

(وَعَنْ أبي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَروِيهِ عَنْ رَبِّهِ تعالى) منَ الأحاديثِ القدسيةِ (قَالَ) الربُّ تبارك وتعالى: (يَا عِبَادي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)، وأخبرَ [بأنهُ]

(1)

لا يفعلُه في كتابِه بقولِه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}

(2)

، (وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا. أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). التحريم لغةً: المنعُ عن الشيءِ، وشرْعًا: ما يستحقُّ فاعلُه العقابَ. وهذا غيرُ صحيحٍ إرادتُه في حقِّه تعالَى، بلِ المرادُ بهِ أنهُ تعالَى منزَّهٌ متقدِّسٌ عن الظلمِ، وأطلقَ عليهِ لفظَ التحريمِ لمشابهتِه الممنوعَ بجامعِ عدمِ الشيءِ، والظلمُ مستحيلٌ في حقِّه تعالَى، لأنَّ الظلمَ في عُرْفِ اللغةِ التصرفُ في غيرِ الملكِ، أوْ مجاوزةُ الحدِّ، وكلاهُما محالٌ في حق الله تعالَى، لأنهُ المالكُ للعالم كلِّه، المتصرفُ بسلطانِه في دِقِّهِ وجُلِّهِ. وقولُه:(فلا تَظَالَمُوا) تأكيدٌ لقولِه: وجعلته بينَكم محرَّمًا. والظلمُ قبيحٌ عقلًا أقرَّه الشارعُ، وزادَه قُبْحًا، وتوعدَ عليهِ بالعذابِ، وقال:{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}

(3)

وغيرُها.

‌الغيبةُ وتغليظ النهي عنها

15/ 1411 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ "، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"ذِكرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إنْ كانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

. [صحيح]

= (490)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 125، 126)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 241) من طرق عن أبي مهر عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر.

• وأخرجه الترمذي رقم (2495)، وابن ماجه رقم (4257)، من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر.

• وأخرجه الطيالسي رقم (463)، وأحمد (5/ 160) ومسلم (

/ 2577) من طريق همام، عن قتادة، عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبى عن أبي ذره.

(1)

في (أ): "أنهُ".

(2)

سورة فصلت: الآية 46.

(3)

سورة طه: الآية 111

(4)

في "صحيحه"(4/ 1002 رقم 2589).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4874)، والترمذي رقم (1934)، والدارمي (2/ 297)، =

ص: 235

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟) بكسرِ الغينِ المعجمةِ (قالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، [قالَ]

(1)

: أَفَرَأَيْتَ إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَانْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَهَتَّهُ) بفتحِ الموحدةِ، وفتحِ الهاءِ، من البهتانِ، (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). الحديثُ كأنهُ سِيقَ لتفسيرِ الغيبةِ المذكورةِ في قولِه تعالَى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}

(2)

. ودلَّ الحديثُ علَى حقيقةِ الغيبةِ. قالَ في النهايةِ

(3)

: هيَ أنْ تذكرَ الإنسانَ في غيبتهِ بسوءٍ، وإنْ كانَ فيهِ. وقال النوويُّ

(4)

في الأذكارِ تبعًا للغزاليِّ: ذكرُ المرءِ بما يكْرَهُ سواءٌ كانَ في بدنِ الشخصِ أوْ دينِه [أو دنياهُ]

(5)

، أو نفسِه أو خُلُقِهِ، أو خلقه، أوْ مالِه، أوْ والدِه، أوْ ولدِه، أو زَوْجِهِ، أو خادمِه، أوْ حركتِه، أو طلاقتِه، أو عبوستِه، أوْ غيرِ ذلكَ مما يتعلَّقُ بهِ ذكرُ سوءٍ، سواءٌ ذُكِرَ باللفظِ، أو بالرمزِ، أوْ بالإشارةِ.

قالَ النوويُّ

(6)

: ومَنْ ذلكَ التعريضُ في كلامِ المصنفينَ كقولِهم: قالَ من يدَّعي العلمَ، أو بعضُ مَنْ يُنْسَبُ إلى الصلاحِ، أوْ نحوُ ذلكَ مما يُفْهِمُ السامعَ المرادَ بهِ، ومنهُ قولُهم عندَ ذكرِه: اللَّهُ يعافينا، اللَّهُ يتوبُ علينا، نسألُ الله السلامةَ، ونحوَ ذلكَ [فكلُّ ذلكَ]

(7)

منَ الغيبةِ. وفي قوله: "ذِكْرُكَ أخاكَ بما يكرهُ" شاملٌ لذكرِه في غيبتهِ وحضرتِه، وإلى هذا ذهبَ طائفةٌ، ويكونُ الحديثُ بيانًا لمعناها الشرعيِّ. وأما معناها لغة: فاشتقاقها من الغيب يدل على أنها لا تكون إلا في الغيبة. ورجح جماعة أن معناهَا الشرعيَّ موافِقٌ لمعناها اللغويّ، ورَوَوْا في ذلكَ حديثًا مسندًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:"ما كرهتُ أنْ تواجِهَ بهِ أخاكَ فهوَ غيبةٌ"

(8)

،

= وأحمد (2/ 384، 386)، من طريقين عن العلاء به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيحٍ، والبغوي رقم (3561) من طريق عثمان بن عمر عن شعبة عن العلاء به مختصرًا، وأحمد (2/ 230، 458) عن محمد بن جعفر عن شعبة عن العلاء به.

(1)

في (أ): "قيل".

(2)

سورة الحجرات: الآية 12.

(3)

(3/ 399).

(4)

في "الأذكار"(ص 526).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

"في الأذكار"(ص 526).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

أخرج ابن أبي الدنيا في "الصمت" رقم (214)، وفي "الغيبة" رقم (80) عن هشام بن حسان الأزدي البصري قال:"الغيبة أن يقول الرجل ما هو فيه مما يكره". وإسناده صحيح. =

ص: 236

فيكونُ هذا إن ثبتَ مخصِّصًا لحديثِ أبي هريرة، وتفاسيرُ العلماءِ دالةٌ على هذَا ففسَّرها بعضُهم بقولِه: ذِكْرُ العيبِ بظهر الغيبِ، وآخرُ بقولِه: هيَ أنْ تذكرَ الإنسانَ منْ خَلْفِه بسوءٍ وإنْ كانَ فيهِ. نعمْ ذكرُ العيب في الوجْهِ حرامٌ لما فيهِ منَ الأذَى وإنْ لم يكنْ غيبةً. وفي قولِه: (أخاكَ) أي أخُ الدينِ، دليلٌ على أن غيرَ المؤمنِ تجوزُ غيبتُه، وتقدَّم الكلامُ في ذلكَ. قالَ ابنُ المنذرِ: في الحديثِ دليلٌ على أن مَنْ ليسَ بأخٍ كاليهوديِّ والنصرانيِّ وسائرِ أهلِ المللِ، ومَنْ قدْ أخرجَتْه بدعتُه عن الإسلامِ لا غيبةَ له. وفي التعبيرِ عنهُ بالأخِ جذبٌ للمغتاب عنْ غيبتِه لمنْ يغتابُ لأنهُ إذا كانَ أخاهُ فالأَوْلَى الحنوُّ عليهِ، وطيُّ مساويهِ، والتأولُ لمعايبهِ لا نشرُها بذكرِها. وفي قولِه:"بما يكْرَهُ" ما يشعرُ بهِ بأنهُ إذا كانَ لا يكرهُ ما يُعابُ بهِ كأهلِ الخلاعةِ [والمجونِ]

(1)

، فإنهُ لا يكونُ غيبةً. وتحريمُ الغيبةِ معلومٌ منَ الشرعِ ومتفقٌ عليهِ. وإنما اختلفَ العلماءُ هلْ هوَ منَ الصغائرِ أو من الكبائرِ؟ فنقلَ القرطبي

(2)

الإجماعَ على أنَّها منَ الكبائر. وقد استدلَّ لكبرِها بالحديثِ الثابت: "إن دماءَكُم، وأعراضَكم، وأموالَكم، عليكُم حرامٌ"

(3)

. وذهبَ الغزاليُّ وصاحبُ العمدةِ منَ الشافعيةِ إلَى أنَّها منَ الصغائرِ. قالَ [الأوزاعيُّ]

(4)

: لم أرَ مَنْ صرَّحَ أنَّها منَ الصغائرِ غيرُهما، وذهبَ المهدي إلى أنَّها محتملةُ بناءً على أن ما لم يقطعْ بكبرِه فهوَ محتملٌ كما تقولُه المعتزلةُ، قالَ الزركشيُّ: والعجبُ ممنْ يعدُّ

= • هشام بن حسان هو أبو عبد الله أكثر كلامه ما أسنده عن أستاذه الحسن البصري، لزمه عشر سنين وأدرك الأئمة الأعلام واقتبس عنهم الأقضية والأحكام، فسمع محمد بن سيرين، وقتادة، وعكرمة، وهشام بن عروة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومائة. انظر ترجمته في: "حلية الأولياء"(6/ 269 - 277).

(1)

وفي (أ): "والمجنون".

(2)

في تفسيره (16/ 337).

(3)

• أخرجه البخاري رقم (105)، و (1741) و (3197) و (4406) و (4662) و (5550) و (7078) و (7447)، ومسلم رقم (1679)، وأبو داود رقم (1948)، وابن ماجه رقم (233)، وابن خزيمة رقم (2952)، وأحمد (5/ 37، 39، 49)، والبيهقي (5/ 140، 165 - 166)، والبغوي رقم (1965)، من طرق عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة.

• وأخرجه البخاري رقم (67)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(9/ 50) من طريقين عن بشر بن المفضل، عن ابن عون، عن ابن سيرين به.

(4)

كذا في (أ) و (ب)، وفي الفتح (10/ 470):"الأذرعي".

ص: 237

أكَل الميتةِ كبيرةً، ولا يعدُّ الغيبةَ كذلكَ، واللَّهُ أنزَلهما منزلةَ أكْلِ لحمِ الآدميِّ، أي: ميتًا. والأحاديثُ

(1)

في التحذيرِ منَ الغيبةِ واسعةٌ جدًّا دالةٌ على شدةِ تحريمها.

واعلمْ أنهُ قد استثنَى العلماءُ منِ الغيبةِ أمورًا ستةً:

الأول: التظلمُ، فيجوزُ أنْ يقولَ المظلومُ فلانٌ ظلمني وأخذَ مالي، أوْ أنهُ ظالمٌ، ولكنْ إذا كانَ ذكرُه لذلكَ شكاية لمن له قدرةٌ على إزالتها أو تخفيفِها، ودليلُه قولُ هندٍ عندَ شكايتها عليه صلى الله عليه وسلم مِنْ أبي سفيانَ إنهُ رجلٌ شحيحٌ.

الثاني: الاستعانةُ على تغييرِ المنكرِ بذكرهِ لمنْ يظنُّ قدرتَه على إزالتِه، فيقولُ: فلانٌ فعلَ كذَا، في حقِّ مَنْ لم يكنْ مجاهِرًا بالمعصيةِ.

الثالث: الاستفتاءُ، بأنْ يقولَ للمفتي: فلانٌ ظلمني بكذَا فما [طريقي]

(2)

إلى الخلاصِ عنهُ، ودليلُه أنهُ لا يعرفُ الخلاصَ عما يحرُم عليهِ إلا بذكرِ ما وقعَ منهُ.

الرابع: التحذيرُ للمسلمينَ منَ الاغترارِ به، كجرحِ الرواةِ والشهودِ، ومنْ يتصدَّرُ [للتدريسِ]

(3)

والإفتاءِ معَ عدمِ الأهليةِ، ودليلهُ قوله صلى الله عليه وسلم:"بئسَ أخو العشيرةِ"

(4)

، وقولُه صلى الله عليه وسلم:"أما معاويةُ فصعلوكٌ"

(5)

، وذلك أنَّها جاءتْ فاطمةُ بنتُ

(1)

أخرج البخاري في "صحيحه"(67)، ومسلم رقم (1679)، عن أبي بكرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: "إن دماءَكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت".

• وما أخرجه مسلم رقم (2564)، والترمذي رقم (1927)، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل المسلم على المسلم حرام دمُهُ وعرضُهُ وماله".

• وما أخرجه أبو يعلى في مسنده (4689) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تدرون أربى الربا عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

• وما أخرجه أحمد (6/ 189)، وأبو داود رقم (4875)، والترمذي رقم (2503) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبُك من صفيةكذا وكذا. قال بعض الرواة: تعني قصيرة، فقال:"لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته". قالت: وحكيتُ له إنسانًا فقال: "ما أحب أني حكيتُ إنسانًا وأنَّ لي كذا وكذا".

(2)

في (أ): "طريقتي".

(3)

في (أ): "بالتدريس".

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (3132)، وأحمد في "مسندهِ"(6/ 158)، والترمذي رقم (1996)، وأبو داود رقم (4792).

(5)

أخرجه مسلم (2/ 1119 رقم 47/ 1480)، وابن ماجه رقم (1869). بلفظ: "أما معاوية=

ص: 238

قيسٍ تستأذنُه صلى الله عليه وسلم وتستشيرُه، وتذكرُ أنهُ خطبَها معاويةُ بنُ أبي سفيانَ وخطبَها أبو جهمٍ فقال:"أما معاويةُ فصعلوكٌ لا مالَ لهُ، وأما أبو جهمٍ فلا يضعُ عصاهُ عن عاتقِه، ثمَّ قالَ: انكحي فلانًا"، الحديث.

الخامس: ذكرُ منْ جاهرَ بالفسقِ أو بالبدعةِ كالمكَّاسينَ، وذوي الولايات الباطلة، [فيجوزُ ذكرُهم]

(1)

بما يجاهرونَ بهِ دونَ غيرِه، وتقدَّمَ دليلُه في حديثِ:"اذكروا الفاجرَ".

السادس: التعريفُ بالشخصِ بما فيه مِنَ العيبِ كالأعورِ والأعرجِ والأعمشِ، ولا يرادُ بهِ نقصُه وغيبتُه، وجَمَعَها ابنُ أبي شريفٍ:

الذمُ ليسَ بغيبةٍ في ستةٍ

متظلم ومعرِّفٍ ومحذِّر

ولمظهرٍ فسقًا ومستفتٍ ومَنْ

طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ

‌النهي عن أسباب البغض بين المسلمين

16/ 1412 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أخُو الْمُسْلِمِ: لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يُحَقرُهُ، التقْوَى هَا هُنَا - ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ، ثَلَاثَ مَرّاتٍ - بِحَسَبِ امْرِئ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُل الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنْهُ) أي أبي هريرةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشوا) بالجيمِ والشينِ المعجمةِ، (وَلَا تَبَاغَضوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبْغِ) بالغينِ المعجمةِ منَ البغيَ، وبالمهملةِ منَ البيعِ (بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضِ، وَكونُوا عِبَادَ اللهِ) مَنْصوبٌ على

= فرجل ترب لا مال له".

وأخرجه أحمد في "مسند"(6/ 412)، بلفظ:"وأما معاوية فصعلوك لا مال له".

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في "صحيحه"(4/ 986 رقم 32/ 2564).

ص: 239

النداءِ، (إخْوانًا، الْمُسْلِمُ أَخو الْمُسْلِم، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ) بفتحِ حرفِ المضارَعَةِ، وسكونِ الحاءِ المهملةِ، وبالقافِ، فراءٍ. قالَ القاضي عياضٌ: ورواهُ بعضُهم: لا يُخفرُه بضمِّ الياءِ وبالخاءِ المعجمةِ وبالفاءِ، أي: لا يغدرُ بعهدِه ولا ينقضُ أمانه. قالَ: والصوابُ الأولُ: (التَّقْوَى هَاهُنَا ويشِيرُ إِلَي صَدْرِهِ ثَلاثِ مَراتٍ. بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ المُسْلِمَ. كل الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرضُهُ. أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). الحديثُ اشتملَ على أمورٍ نهَى عنْها الشارعُ.

الأولُ: التحاسدُ وهوَ تفاعلٌ يكونُ بينَ اثنينِ. فهو نَهَى عنْ حسد كلِّ واحدٍ منْهما صاحبَه منَ الجانبيْنِ، ويُعْلَمُ منهُ النَّهْيُ عن الحسدِ منْ جانب واحدٍ بطريقِ الأوْلَى، لأنهُ إذا نُهِيَ عنهُ معَ مَنْ يكافِئُه ويجازيهِ بحسدِه لا معَ أنهُ منْ بابِ:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}

(1)

، فهوَ معَ عدمِ ذلكَ أوْلَى بالنَّهْي. وتقدَّمَ تحقيقُ الحسدِ.

الثاني: النَّهْيُ عن المناجشةِ [في البيعِ، وقد تقدم في كتاب]

(2)

البيعِ، ووجْهُ النهي عنْها أنَّها منْ أسبابِ العداوةِ والبغضاءِ، وقدْ رُوِيَ بغيرِ هذَا اللفظِ في الموطأ

(3)

بلفظِ: "ولا تنافسُوا" منَ المنافسةِ، وهيَ الرغبةُ في الشيءِ، ومحبةُ الانفرادِ بهِ. ويُقَالُ: نافستُ في الشيءِ منافسة ونَفَاسًا إذا رغبتُ فيهِ، والنَّهيُ [عنها]

(4)

نهيٌ عن الرغبةِ في الدُّنيا وأسبابِها وحظوظِها [كما قال: يا خاطب الدنيا الدنيَّة إنها يسرك الرد وقراره الأوجه]

(5)

.

الثالث: النَّهيُ عن التباغضِ وهوَ تفاعلٌ، وفيه أما في "تحاسدُوا" منَ]

(6)

النهيَ عن التقابلِ في المباغضةِ، والانفرادِ بها بالأولَى، وهوَ نهيٌ عنْ تعاطي أسبابِه، لأنَّ البغضَ لا يكونُ إلَّا عنْ سبب، [والنهي]

(7)

متوجهٌ إلى [البغض]

(8)

لغيرِ اللَّهِ تعالى، فأما ما كانتْ للهِ فهيَ واجبةٌ، فإنَّ البغضَ في اللَّهِ، والحبَّ في اللَّهِ منَ الإيمانِ، بلْ وردَ في الحديثِ حصرُ الإيمانِ عليهمَا.

(1)

سورة الشورى: الآية 40.

(2)

في (ب): "وتقدَّم تحقيقها في".

(3)

2/ 907 - 908 رقم 15).

(4)

في (أ): "هنا".

(5)

زيادة من (أ).

(6)

في (أ): "مبالغة في ".

(7)

في (ب): "والذم".

(8)

في (ب): "البغاضة".

ص: 240

الرابع: النهيُ عن التدابرِ. قالَ الخطابيُّ

(1)

: أي لا تهاجَرُوا فيهجرَ أحدُكم أخاهُ، مأخوذٌ منْ توليةِ الرجلِ للآخرِ دُبُرَهُ إذا أعرضَ عنهُ حينَ يراهُ. وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(2)

: قيلَ للإعراضِ تدابرٌ لأنَّ منْ أبغضَ أعرضَ، ومَنْ أعرضَ ولَّى دُبُرَهُ، والمحبُّ بالعكسِ. وقيلَ: معناهُ لا يستأثرْ أحدُكم على الآخرِ، وسمَّى المستأثِرَ مستدبرًا لأنهُ يولِّي دُبُرَهُ حينَ يستأثرُ بشيءٍ دونَ الآخرِ: وقال المازري

(3)

: معنَى التدابرِ المعاداةِ، تقولُ دابرتُه أي عاديتُه، وفي الموطأِ عن الزهريِّ: التدابرُ الإعراضُ عن السلامِ [يعرض]

(4)

عنهُ بوجْههِ، وكأنهُ أخذَهُ منْ بقيةِ الحديث، وهيَ:"يلتقيانِ فيعرضُ هذا، ويعرضُ هذا، وخيرُهُما الذي يبدأ بالسلامِ"

(5)

، فإنهُ يفهمُ منهُ أن صدورَ السلامِ منْهما أوْ منْ أحدِهِما يرفعُ الإعراضَ.

الخامس: النهيُ عن البغي إنْ كانَ بالغينِ المعجمةِ، وإنْ كانَ بالمهملةِ فعنْ بيعِ بعضٍ على بعضٍ، وقدْ تقدَّم في كتابِ البيعِ. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: تضمَّنَ الحديثُ تحريمَ بُغْضِ المسلم، والإعراضِ عنهُ، وقطيعتهِ بعدَ صحبته بغيرِ ذنب شرعيٍّ، والحسدِ لهُ [بما]

(6)

أَنعمَ اللَّهُ تعالى عليهِ، ثمَّ أمرَ أنْ يعامِلَه معاملةَ الأخِ [من النسب]

(7)

، ولا يبحثُ عن معايبه، ولا فَرْقَ في ذلكَ بينَ الحاضِرِ والغائبِ، والحيِّ والميِّتِ، وبعدَ هذهِ المناهي الخمسةِ حثَّهم بنولِه:"وكونُوا عبادَ اللَّهِ إخْوانًا" فأشارَ بقولِه عبادَ اللَّهِ إلى أن منْ حقِّ العبوديةِ لله تعالى الامتثالَ لما أمروا به، قالَ القرطبيُّ

(8)

: المعنَى كونُوا [كإخوانِ]

(9)

النَّسَبِ في الشفقةِ والرحمةِ والمحبةِ، والمواساةِ والمعاونةِ، والنصيحةِ، وفي روايةٍ لمسلم

(10)

زيادةٌ: "كما أمركم اللَّهُ" بهذهِ الأمورِ فإنَّ أمرَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمرٌ منهُ تعالَى: [{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ

(1)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 482).

(2)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 482).

(3)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 483).

(4)

في (ب): "يدبر".

(5)

أخرجه البخاري رقم (6237)، ومسلم رقم (2560)، والترمذي رقم (1932)، وأبو داود (4911)، ومالك في "الموطأ"(2/ 907)، وهو حديث صحيح.

(6)

في (ب): "ما".

(7)

في (أ): "النسيب".

(8)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 483).

(9)

في (أ): "إخوان".

(10)

في "صحيحه" (4/ 986 رقم (

) / 2563).

ص: 241

رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}

(1)

]

(2)

. وزادَ المسلمُ حثًا على [أخوةِ]

(3)

أخيه المسلمِ بقولِه: "المسلمُ أخُو المسلمِ"، وذكرَ منْ حقوقِ الأخوَّةِ أنَّهُ لا يظلمُه، وتقدَّم تحقيقُ الظلمِ وتحريمُه والظلمُ محرَّمٌ في حق الكافرِ أيضًا، وإنَّما خصَّ المسلمَ لشرفِه. "ولا يخذُلُه" والخذلانُ تركُ الإعانةِ والنصرِ، ومعناهُ إذا استعانَ بهِ في دفعِ أي ضُرٍّ، أو جَلْبِ أي نفع أعانَهُ، "ولا يحقرُه" لا يحتقرُه ولا يتكبَّرُ عليهِ ويستخفُّ بهِ. ويُرْوَى:"ولا يحتقرُه" وهوَ بمعناهُ. وقولُه: "التقوى هاهُنا" إخبارٌ بأنَّ عمدةَ التَّقْوى ما يحلُّ في القلب منْ خشيةِ اللَّهِ تعالى وعظمته ومراقبتِه وإخلاصِ الأعمالِ لهُ. [كما]

(4)

دلَّ حديثُ مسلمٍ: "إنَّ اللَّهَ لا ينظرُ إلى أجسامِكُم، ولا إلى صورِكُم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِكم"

(5)

، أي: أن المجازاةَ والمحاسبةَ إنَّما تكونُ على ما في القلبِ دونَ الصورةِ الظاهرةِ، والأعمالِ البارزةِ، فإنَّ عُمدَتَها النياتُ، ومحلَّها القلبُ. وتقدَّم أن في الجسدِ مضغةً إذا صلُحتْ صَلُحَ الجسدُ، وإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ. وقولُه:(بحسبِ امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقرَ أخاهُ) أي يكفيهِ أنْ يكونَ منْ أهلِ الشرِّ بهذهِ الخصلةِ وحدَها. وفي قولِه: (كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ)[إخبارٌ]

(6)

بتحريمِ الدماءِ والأموالِ والأعْراضِ، هذا هو معلومٌ منَ الشرعِ عِلْمًا قَطْعيًا.

‌استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم من منكرات الأخلاق

17/ 1413 - وَعَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ الأخْلاقِ وَالأَعْمَالِ، والأَهْوَاءِ، وَالأَدْواءِ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(7)

، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(8)

. وَاللَّفْظُ لَهُ. [صحيح]

(1)

سورة النساء: الآية 64.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (ب): "وعليه".

(5)

أخرجه مسلم رقم (2564)، وأحمد (2/ 539)، وابن ماجه رقم (4143)، والبغوي في "شرح السنة"(14/ 340 رقم 4150).

(6)

في (أ): "أخبر".

(7)

في "السنن" رقم (3591) وقال: حديث حسن غريب.

(8)

في "المستدرك"(1/ 532)، ووافقه الذهبي. =

ص: 242

(وَعَنْ قُطْبَةَ) بضمِّ القافِ وسكونِ الطاءِ المهملةِ، وفتحِ الموحدةِ (ابن مالكٍ) يُقَالُ لهِ التغلبيُّ بالمثناةِ الفوقيةِ، والغينِ المعجمةِ. ويقالُ الثعلبيُّ بالمثلثةِ والعينِ المهملةِ (قَالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقول: اللَّهمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ وَالأَدْوَاء أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَه الْحَاكِمُ، وَاللَّفْظ لَهُ). التجنيبُ المباعدةُ، أي باعدْني. والأخلاقُ جمعُ خُلُقٍ، قالَ القرطبيُّ

(1)

: الأخلاقُ أوصافُ الإنسانِ التي يعامِلُ بها غيرَه، وهيَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فالمحمودةُ على الإجمالِ أنْ [تكونَ]

(2)

معَ غيرِكَ على نفسِكَ فتنتصفَ [منْها، ولا تنتصفَ]

(3)

لها، وعلى التفصيلِ العفوُ، والحلمُ، والجودُ، والصبرُ، وتحمُّلُ الأذَى، والرحمةُ، والشفقةُ، وقضاءُ الحوائجِ، والتودُّدُ، ولينُ الجانبِ، ونحوُ ذلكَ. والمذمومةُ ذلكَ وهيَ منكراتُ الأخلاقِ التي سألَ صلى الله عليه وسلم ربَّه أنْ يجنبهُ إيَّاهَا في هذا الحديثِ. وفي قولِه:"اللَّهمَّ كما حسَّنْتَ خَلْقي فحسِّنْ خُلُقِي"، أخرجَهُ أحمدُ

(4)

، وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ

(5)

. وفي دعائِه صلى الله عليه وسلم في الافتتاحِ: "واهدني لأحسنِ الأخلاقِ، لا يهدي لأحسنها سواكَ، واصرفْ عني سيِّئهَا، لا يصرفُ سيّئَها غيرُكَ"

(6)

. ومنكراتُ الأعمالِ ما يُنْكَرُ شرْعًا أوْ عادةً، ومنكراتُ الأهواءِ هي جمعُ هوًى، والهوَى هو

= قلت: وأخرجه الطبراني في "الكبير" (19/ 19 رقم

/ 36)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (960) وهو حديث صحيح.

(1)

ذكره الحافظ في "الفتح"(10/ 456).

(2)

في (أ): "يكون".

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في "المسند"(1/ 403).

(5)

في "صحيحه" رقم (959)، وسنده حسن.

قلت: وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(9/ 9 رقم 109/ 5075) و (9/ 112 رقم 215/ 5181)، والطيالسي (1/ 256 رقم 1271).

وذكره الهيثمي في "المجمع"(10/ 173)، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح غير عوسجة بن رماح وهو ثقة.

وللحديث شاهد من حديث عائشة أخرجه أحمد (6/ 68، 155) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 173) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

والخلاصة: أن الحديث صحيح بشاهده، والله أعلم.

(6)

أخرجه النسائي في "السنن"(2/ 129 رقم 896).

والدارقطني في "السنن"(1/ 298) وأبو داود في "السنن"(760) من حديث جابر، وهو حديث صحيح. وقد صحَّحه الألباني في "صحيح النسائي" رقم (861).

ص: 243

ما تشتهيهِ النفسُ منْ غيرِ نظرٍ إلى مقصدٍ يحمل عليهِ شرْعًا. ومنكراتُ الأدواءِ جمعُ داء، وهيَ الأسقامُ المنفردةُ التي كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوذُ منْها كالجذامِ والبرصِ، والمهلكةِ كذاتِ الجنبِ، وكانَ صلى الله عليه وسلم يستعيذُ منْ سيءِ الأسقامِ

(1)

.

‌تشديد الرسول صلى الله عليه وسلم في المراء

18/ 1414 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ"، أَخْرَجَ الترْمِديُّ

(2)

بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. [ضعيف]

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُمَارِ) منَ الممارةِ المجادلةُ (أَخَاكَ، [وَلَا تُمَازِحْهُ])

(3)

منَ المزحِ، (وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخلِفَهُ. أَخْرَجَه التِّرمِذِيُّ بسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٍ) لكنَّ في معناهُ أحاديثَ سيَّما في المراءِ، فإنهُ رَوَى الطبرانيُّ

(4)

أن جماعةً منَ الصحابةِ قالُوا: "خرجَ علينا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونحنُ نتمارَى في شيءٍ منْ أمرِ الدينِ، فغضِبَ غضَبًا شديدًا لم يغضبْ مثله، ثمَّ [انتهرنا]

(5)

وقالَ: أبهذَا يا أمَّةَ محمدٍ أُمِرْتُمْ؟ إنما هلكَ مَنْ كانَ قبلَكُم بمثلِ هذَا، ذرُوا المراءَ لقلةِ خيرِه، ذرُوا المراءَ فإن المؤمنَ لا يماري، ذرُوا المراءَ فإنَّ المماري قدْ تمتْ خسارتُه، ذروا المراءَ، كفَى إثْمًا أنْ لا تزالَ مماريًا، ذرُوا المراءَ فإنَّ المماري لا

(1)

أخرج الطبراني في "الصغير"(1/ 114)، والحاكم (1/ 530) عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: "اللَّهمَّ إني أعوذ بك من العجز والكسل، والبخل والهرم، والقسوة والغفلة، والذلَّة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر والشرك والنفاق، والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم، والجنون، والبرص والجذام، وسيء الأسقام".

وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 143): رجاله رجال الصحيح. وفي الصحيح بعضه. وقال ابن حجر في "المستدرك".

(2)

في "السنن" رقم (1993) وقال: هذا: هو حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعبد الملك عندي هو ابن بشير.

وهو حديث ضعيف. وقد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (6274).

(3)

في (أ)"ولا تمارق من المزح".

(4)

في "الكثير" كما في "مجمع الزوائد"(1/ 156) و (7/ 259) وقال: "فيه كثير بن مروان وهو ضعيف جدًّا".

(5)

في (أ): "انتهزنا".

ص: 244

[أشفعُ]

(1)

لهُ يومَ القيامةِ، ذرُوا المراءَ فأنا زعيمٌ بثلاثةِ أبياتٍ في الجنة ورياضِها أسفلِها وأوسطِها وأعلاهَا لمنْ تركَ المراءَ وهو صادقٌ، ذرُوا المراءَ فإنهُ أولُ ما نهاني عنهُ ربي بعدَ عبادةِ الأوثانِ". وأخرجَ الشيخانِ

(2)

مرفُوعًا: "إنَّ أبغضَ الرجالِ إلى اللَّهِ الألدُّ الخصِمُ"، أي الشديدُ الخصومةِ أي الذي يُحِجُّ صاحبَه. وحقيقةُ المراءِ طعنُكَ في كلامِ غيرِك لإظهارِ خللٍ فيهِ لغيرِ غرضٍ سوى تحقيرِ قائله وإظهارِ مزيَّتِكَ عليهِ. والجدالُ هوَ ما يتعلقُ بإظهارِ المذاهبِ وتقريرِها. والخصومةُ لجاجٌ في الكلامِ ليستوفي بهِ مالًا أو غيرَه، ويكونُ تارةً ابتداءً وتارةً اعتراضًا، [والمِراءُ]

(3)

[أن]

(4)

لا يكونَ [إلا اعتراضًا]

(5)

، والكلُّ قبيحٌ إذا لم يكنْ لإظهارِ الحقِّ وبيانِه، وإدحاضِ الباطلِ وهدمِ أركانِه.

وأما مناظرةُ أهلِ العلم للفائدةِ وإنْ لم تخلُ عن الجدالِ فليستْ داخلةً في النَّهْي. وقدْ قالَ تعالَى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(6)

، وقدْ أجمعَ عليهِ المسلمونَ سلفًا وخلَفًا. وأفادَ الحديثُ النَّهيَ عن ممازحةِ الأخِ، والمزاحُ الدعابةُ. والمنهيُّ عنهُ ما يجلبُ الوحشةَ أوْ كانَ بباطلٍ، وأما ما فيهِ بسطُ الخلُقِ، وحسنُ التخاطبِ، وجبرُ الخاطرِ فهوَ جائزٌ. فقدْ أخرجَ الترمذيُّ

(7)

من حديثِ أبي هريرةَ: "أنَّهم قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنكَ لتداعِبُنا قالَ: إنِّي لا أقولُ إلَّا حقًّا". وأفادَ الحديثُ النَّهْيَ عنْ إخلافِ الوعدِ. وتقدَّمَ أنهُ منْ صفاتِ المنافقينَ - وظاهرُه التحريمُ - وقدْ قيَّدهُ حديثُ: "أنْ تعدَه وأنتَ مضمِرٌ لخلافِه". وأما إذا وعدتَه وأنتَ عازِمٌ على الوفاءِ فعرضَ مانعٌ فلا يدخلُ تحتَ النَّهي.

(1)

في (أ): "يشفع".

(2)

أخرجه البخاري رقم (2457) و (4523) و (7188)، ومسلم رقم (2668).

قلت: وأخرجه الترمذى رقم (2976)، والنسائي (8/ 247 - 248)، وأحمد (6/ 55، 63، 205)، والبيهقي (10/ 108)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (2499)، من طرق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة.

(3)

في (أ): "والمراد".

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في (أ): "الاعتراض".

(6)

سورة العنكبوت: الآية 46.

(7)

في "السنن" رقم (1990)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

قلت: وأخرجه في "الشمائل" وأحمد (2/ 360)، والبغوي في "شرح السنة"(3602)، وهو حديث صحيح.

ص: 245

‌سوء الخلق يفسد كل خير

19/ 1415 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ في مُؤْمِنٍ: البُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

، وفي سَنَدِهِ ضَعْفٌ. [ضعيف]

(وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤمِنٍ، الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ. وقدْ ذمَّه الله تعالى في كتابِه:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}

(2)

، بلْ ذمَّ مَنْ لم يأمرِ الناسَ بالبحث على خلافِه فقالَ تعالَى:{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}

(3)

، جعلَه منْ صفاتِ الذينَ يُكَذِّبُونَ بالدين. وقالَ في الحكايةِ عنِ الكفارِ إنَّهم قالُوا وهمْ في طبقاتِ النارِ:[لم نكن من المصلين]

(4)

{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}

(5)

.

وإنَّما اختلفَ العلماءُ في المذمومِ منهُ، وقدَّمْنا كلامَهُم في ذلكَ. وحدَّهُ بعضُهم بأنهُ في الشرعِ منعُ الزكاةِ: والحقُّ أنهُ منعُ كلِّ واجبٍ، فمنْ منعَ ذلكَ كانَ بخيلًا ينالُه العقابُ، قال الغزاليُّ

(6)

: وهذا الحدُّ غيرُ كافٍ فإنَّ مَنْ يردَّ اللحمَ والخبزَ إلى القصابِ والخبازِ لنقصِ وزنِ حبةٍ يُعَدُّ بخيلًا اتفاقًا، وكذَا من يضايقُ عياله في لقمةٍ أو تمرةٍ أكلُوها من ماله بعدَ ما سلَّم لهم ما فرض القاضي لهمْ، وكذا من بين يديه رغيفٌ فحضرَ من يظنُّ أنهُ يشاركُه فأخفاهُ يعدُّ بخيلًا. اهـ. قلت: هذا في البخيلِ عُرفًا لا من يستحقُّ العقابَ فلا يردُّ

(1)

في "السنن" رقم (1962) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صدقة بن موسى. قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(282). في مسنده صدقة بن موسى. ضعفه ابن معين، والنسائي وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، ويكتب حديثه، وقال ابن حبان: كان شيخًا صالحًا، إلا أن الحديث لم يكن من صتاعته، فكان إذا روى قلب الأخبار حتى خرج عن حد الاحتجاج به، انظر: المجروحين (1/ 369)، و"الميزان"(2/ 312)، "التاريخ الكبير"(4/ 297)، "الضعفاء" للعقيلي (741)، "الجرح والتعديل"(4/ 432)، والخلاصة: أنّ الحديث ضعيف.

(2)

سورة النساء: الآية 37.

(3)

سورة الماعون: الآية 3.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

سورة المدثر: الآية 44.

(6)

في "الإحياء"(3/ 259).

ص: 246

نقْضًا. وأما حسنُ الخلقِ فقدْ تقدَّم القولُ فيهِ، وسوءُ الخلقِ ضدُّه. وقدْ وردتْ فيهِ أحاديثُ دالَّةٌ على أنهُ ينافي الإيمانَ، فأخرجَ

(1)

الحاكمُ: "سوءُ الخلقِ يفسدُ العملَ كما يفسدُ الخلُّ العسلَ"، وأخرجَ ابنُ منده

(2)

: "سوءُ الخلقِ شُومٌ، وطاعةُ النساءِ ندامةٌ، وحسنُ الملكةِ نماءٌ". وأخرجَ الخطيبُ

(3)

: "إنَّ لكلِّ شيءٍ توبةً إلا صاحبَ سوءِ الخلقِ، فإنهُ لا يتوبُ صاحبه منْ ذنبٍ إلا وقعَ فيما هو شرٌّ منهُ"، وأخرجَ الصابوني

(4)

: "ما منْ ذنبٍ إلا ولهُ عندَ اللَّهِ توبةٌ إلا سوءُ الخلقِ فإنهُ لا يتوبُ صاحبُه منْ ذنبٍ إلا وقعَ إلى ما هوَ شرٌ منهُ". وأخرجَ الترمذيُّ

(5)

وابنُ ماجهْ

(6)

:

(1)

أخرجه الحاكم في "الكنى والألقاب" من حديث ابن عمر كما في "تخريج أحاديث الإحياء"(4/ 1578).

قلت: وأخرجه ابن حبان في "المجروحين"(3/ 51) من حديث أبي هريرة والبيهقي في "الشعب"(6/ 247 - 248 رقم 8536) من حديث ابن عباس وأبي هريرة وضعفهما.

وقال ابن السبكي (6/ 332): لم أجد له إسنادًا.

قلت: والخلاصة أن الحديث موضوع.

(2)

عزاه إليه صاحب "كشف الخفاء"(1/ 559 رقم 1510) عن الربيع الأنصاري.

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 502)، وأبو داود (5162)، والطبراني (4451) بلفظ:"حسن الملكة نماء، وسوء الخلق شؤم" في سنده عثمان بن زمز قال الحافظ: مجهول، لم يخرج له إلا الترمذي. انظر:"التقريب"(2/ 8)، "التهذيب"(7/ 116) وفي سنده جهالة ولد رافع الذي لم يسم.

• وقوله: "حسن الملكة نماء" أي الرفق بالمماليك والعفو عنهم والتعهد لمهماتهم من الأمور التي ينتج عنها البركة وبالعكس سوء الخلق والصنيع من المماليك.

(3)

عن عائشة وفيه محمد بن إبراهيم التيمي وثقوه إلا أحمد فقال: في حديثه شيء، يروي أحاديث منكرة. "فيض القدير"(2/ 510 رقم 2416).

(4)

أخرجه في الأربعين التي جمعها عن عائشة، قال الزين العراقي: إسناده ضعيف وقضيتُه تصرف المؤلف أن هذا مما لم يخرجه أحد من المشاهير الذين وضع لهم الرموز وإلا لما أبعد النجعة وهو ذهول، فقد خرجه الطبراني عن عائشة بلفظ:"ما من شيء إلا وله توبة إلا صاحب سوء خلقٍ فإنه لا يتوب من ذنب إلا عاد في شر منه".

وأخرجه الطبراني في "الصغير" كما في "مجمع الزوائد"(8/ 25)، وقال الهيثمي: فيه عمرو بن جميع وهو كذاب. وأخرجه الأصبهاني في "ترغيبه"(1198).

(5)

في "السنن" رقم (1946) بلفظ: "لا يدخل الجنة سيء الملكة".

(6)

في "السنن" رقم (3691) بلفظ: "لا يدخل الجنة سيء الملكة".

ص: 247

"لا يدخلُ الجنةَ سيءُ الخلُقِ". والأحاديثُ

(1)

في البابِ واسعةٌ، ولعلَّهُ يحملُ المؤمنَ في الحديثِ على كامل الإيمانِ، وأنهُ خرجَ مخْرَجَ [الزجر]

(2)

والتحذيرِ، وأرادَ إذا تركَ [إخراجَ الزكاةِ]

(3)

مستحِلًّا لتركِ واجبٍ قطعيٍّ.

‌انتصاف المرء لنفسه

20/ 1416 - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُسْتَبّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ. أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). دَلَّ الحديثُ على جوازِ مجازاةِ منِ ابتدَأ الإنسانَ بالأذيةِ بمثلِها، وأنَّ إثمَ ذلكَ عائدٌ على البادي، لأنهُ المتسببُ لكلِّ ما قالَهُ المجيبُ، إلَّا أنْ [يعتديَ]

(5)

المجيبُ في أذيتِه بالكلامِ اختص بهِ إثمٌ ذلكَ، لأنهُ إنما أذنَ لهُ في [المجازاة]

(6)

مثلَ ما عُوقِبَ بهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}

(7)

، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}

(8)

.

(1)

منها: ما أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2018) عن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا"، وهو حديث حسن بشواهده.

(ومنها): ما أخرجه الحاكم (1/ 60)، وأبو يعلى في "مسنده" رقم (4166) وذكره ابن حجر في "المطالب العالية" رقم (2541)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لَيبلِّغُ العبد بحسن خلقه درجة الصوم والصلاة".

(ومنها): ما أخرجه الترمذي رقم (2002)، وأبو داود رقم (4799) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول:"إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقًا"، وهو حديث صحيح.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (أ) الواجب "كالزكاة ونحوه".

(4)

في "صحيحه" رقم (2587).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4894)، والترمذي رقم (1981)، وهو حديث صحيح.

• المستبَّان: اللذان يشتم بعضهما بعضًا بالألفاظ الخشنة والقبيحة.

(5)

في (أ): "يتعدى".

(6)

زيادة من (أ).

(7)

سورة الشورى: رقم 40.

(8)

سورة البقرة: رقم 194.

ص: 248

هذا وعدمُ المكافأةِ والصبرُ [هو الأَولى والأفضل]

(1)

، فقدْ ثبتَ: "أن رجلًا سبَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه[بحضرتِه]

(2)

صلى الله عليه وسلم فسكتَ أبو بكرٍ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدٌ، ثمَّ أجاب أبو بكرٍ

(3)

فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ: إنهُ لما سكتَ أبو بكرٍ كانَ ملكٌ يجيبُ عنهُ، فلمَّا انتصفَ لنفسِه حضرَ الشيطانُ. هذا اللفظ [أو نحوه]

(4)

"، قالَ تعالَى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}

(5)

.

‌النهي عن مضارَّة المسلم

21/ 1417 - وَعَنْ أَبي صِرْمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّهُ اللهُ، وَمَنْ شَاقَّ مُسْلِمًا شَق اللهُ عَلَيهِ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(6)

، وَالتِّرْمِذيُّ

(7)

، وَحَسَّنَهُ. [حسن]

(وَعَنْ أبي صِرمَةَ) بكسرِ الصادِ المهملةِ، وسكونِ الراءِ، اشتُهِرَ بكُنيتِه، واختُلِفَ في اسمِه اختلافًا كثيرًا، وهوَ منْ بني مازنِ بن النجارِ، شهدَ بدرًا وما بعدَها منَ المشاهدِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّهُ اللهُ، وَمَنْ شَاقَّ مُسْلِمًا [شَقَّ]

(8)

اللهُ عليهِ. أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والتَّرمِذِيُّ، وَحَسَنَهُ)، أي: مَنْ أدخلَ على مسلمٍ مضرةً في مالِه أوْ نفسِه أو عِرْضِه بغير حقٍّ ضارَّهُ اللَّهُ، أي: جازاهُ منْ جنسِ فعلِه، وأدخلَ عليهِ المضرَّةَ. والمشقةَ المنازعةُ، أي: مَنْ نازعَ مسلِمًا ظُلْمًا وتعدِّيًا أنزلَ اللَّهُ عليهِ [المضرة]

(9)

والمشقةَ جزاءً وفاقًا. والحديثُ تحذير [من]

(10)

أذَى المسلمِ بأيِّ شيءٍ.

(1)

في (ب): "والاحتمالُ أفضلُ".

(2)

في (أ): "بمحضر النبي".

(3)

أخرجه أبو داود رقم (4896)، مرسلًا، ورقم (4897)، متصلًا عن ابن المسيِّب وهو حديث ضعيف مرسل.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

سورة الشورى: الآية 42.

(6)

في "السنن" رقم (3635).

(7)

في "السنن" رقم (1941)، وقال: حديث حسن غريب.

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2342)، والبيهقي (6/ 70)، وأحمد (3/ 453) وفيه "لؤلؤة"، قال الحافظ في "التقريب": مقبولة: يعني عند المتابعة. والخلاصة: أن الحديث حسن.

(8)

في (أ): "شاقه".

(9)

زيادة من (أ).

(10)

في (ب): "عن".

ص: 249

‌المسلم ليس بذيئًا ولا فاحشًا

22/ 1418 - وَعَنْ أَبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الله يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ"، أَخْرَجَهُ الترْمِذِيُّ

(1)

، وَصَحّحَهُ. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله يبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ. أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ [وَصَحَّحَه])

(2)

. البغضُ ضدُّ المحبةِ، وبغضُ اللَّهِ عبدَه إنزالُ العقوبةِ بِهِ، وعدمُ إكرامهِ إياهُ، والبذيُّ فعيلٌ منَ البذاءِ، وهوَ الكلامُ القبيحُ الذي ليسَ منْ صفاتِ المؤمنِ [كما دلَّ لهُ الحديثُ الآتي]

(3)

.

23/ 1419 - وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رَفَعَهُ: "لَيسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ" وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(4)

، وَرَجّحَ الدَّارَقُطْنيُّ

(5)

وَقْفَهُ. [صحيح]

[(وَلَهُ) أي للترمذيِّ (مِنْ حَدِيثِ] ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ. [أخرجه الترمذي]

(6)

وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَه الْحَاكِمُ،

(1)

في "السنن" رقم (2002)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

قلت: وأخرجه الطبراني في "الكبير"(405)، وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 64) وقال: رجاله ثقات.

• وأخرجه أحمد (5/ 202)، وهو حديث صحيح.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في "المستدرك"(1/ 12)، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.

(5)

ذكر ذلك المناوي في "فيض القدير"(5/ 360).

قلت: وأخرجه البزار رقم (101)، من طريق عبد الرحمن بن مفراء عن الحسن بن عمرو به. وأخرجه ابن أبي شيبة (11/ 18)، وأحمد (1/ 404، 405)، والبخاري في "الأدب المفرد"(312)، والترمذي رقم (1977)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (3555) والخطيب في "تاريخه"(5/ 339)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 235)، و (5/ 58)، والبيهقي في "السنن"(10/ 243)، و"شعب الإيمان" رقم (5149)، كلهم من طريق محمد بن سابق عن إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود.

وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

والخلاصة: أن الحديث صحيح، والله أعلم.

(6)

زيادة من (أ).

ص: 250

وَرَجّحَ الدَّارَقطنيُّ وَقْفَهُ). الطعنُ السبُّ، يقالُ: طعن في عرضِه، أي سبَّه. واللعَّانُ: اسمُ فاعلٍ للمبالغةِ بزنةِ فعَّالٍ، أي: كثيرُ اللعنِ، ومفهومُ الزيادةِ غيرُ مرادٍ، فإنَّ اللعنَ محرَّمٌ قليلُه وكثيرُه. والحديثُ إخبارٌ بأنهُ ليسَ منْ صفاتِ المؤمنِ [الكاملِ الإيمانِ]

(1)

السبُّ واللعنُ، إلَّا أنهُ [يُسْتَثْنَى]

(2)

منْ ذلكَ لعنُ الكافرِ، وشاربِ الخمرِ، ومَنْ لَعَنهُ اللَّهُ ورسولُه.

‌النهي عن سبِّ الأموات

24/ 1420 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوا إلَى ما قَدَّمُوا"، أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تَسبُّوا الأَمْوَاتَ [فقد]

(4)

أَفْضَوْا إلَى ما قَدَّمُوا. أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ). سبُّ الأمواتِ عامُّ للكافرِ وغيرِه، وتقدَّم. وعلَّلهُ صلى الله عليه وسلم بإفضائِهم إلى ما قدَّموا منْ أعمالِهم، وصارَ أمرُهم إلى اللَّهِ عز وجل. وقدْ مرَّ الحديثُ بلفظِه [في آخرِ]

(5)

الجنائزِ [والكلامُ عليهِ]

(6)

.

25/ 1421 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(7)

. [صحيح]

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في (أ)"استثنى".

(3)

في "صحيحه" رقم (1393).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4899)، ورواه ابن حبان رقم (3021)، والنسائي (4/ 53)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(923)، والبيهقي (4/ 75)، والبغوي في (شرح السنة" (1509)، من طريق شعبة عن الأعمش به.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في (أ): "وشرحه في".

(6)

زيادة من (ب).

(7)

أخرجه البخاري رقم (6056)، والحميدي رقم (443)، والترمذي رقم (2026)، وأحمد (5/ 397، 404)، والبيهقي (10/ 247)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (3569)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (876).

والبخاري في "الأدب المفرد"(322)، كلهم من طريق سفيان بن عيينة والثوري كلاهما عن منصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث عن حذيفة.

وأخرجه مسلم رقم (105) و (169) من طريق إسحاق بن إبراهيم عن جرير عن منصور =

ص: 251

(وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّة قَتَّاتٌ)[متفق عليه]

(1)

. [القتات]

(2)

بقافٍ ومثناةٍ فوقيةٍ، وبعدَ الألفِ مثناةٌ وهوَ النمامُ، وقدْ رُوِيَ بلفظِه [(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)]

(3)

. وقيلَ إنَّ بينَ القتاتِ والنمَّامِ [فرْقًا]

(4)

؛ فالنمَّامُ الذي يحضرُ القضية فيبلغها، والقتاتُ الذي يتسمعُ منْ حيثُ لا يعلمُ بهِ ثمَّ ينقلُ ما سمعَه، وحقيقةُ النميمةِ نقلُ كلامِ الناسِ بعضُهم إلى بعضٍ للإفسادِ بينَهم. قالَ الغزاليُّ

(5)

: إنَّ حدَّها كشفُ ما يُكْرهُ كشفُه سواءٌ كرهَهُ المنقولُ إليهِ، أو المنقولُ عنهُ، [أوْ ثالثٌ]

(6)

، وسواءٌ كانَ الكشفُ بالرمزِ [أو الإشارة]

(7)

، أو بالكتابةِ، [أو بالإيماءِ]

(8)

. قالَ: فحقيقةُ النميمةِ إفشاءُ السرِّ وهتكُ الستر [عمَّا يُكْرَهُ كشفُه]

(9)

، فلو رآهُ يُخْفِي مالًا لنفسِه فذكرهُ فهوَ نميمة، كذَا قالَه.

قلتُ: ويحتملُ أنَّ مثلَ هذا لا يدخلُ في النميمةِ بلْ يكونُ منْ إفشاءِ السرِّ، وهوَ محرَّمٌ أيضًا. ووردَ في النميمةِ عِدَّةُ أحاديثَ أخرجَ الطبرانيُّ

(10)

مرفُوعًا: "ليسَ مِنَّا ذو حسدٍ ولا نميمةٍ، ولا كهانةٍ ولا أنا منْهُ". ثمَّ تلا قوله تعالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}

(11)

الآية. وأخرجَ أحمدُ

(12)

: "خيارُ عبادِ اللَّهِ الذينَ إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ،

= عن إبراهيم عن همام بن الحارث عن حذيفة.

وأخرجه أحمد (5/ 382)، و (389 و 402)، ومسلم رقم (105، 170)، وأبو داود رقم (4871)، والبيهقي (866)، والبغوي في "شرح السنة"(3570) من طريق الأعمش.

وأحمد (5/ 392)، والطبراني في "الكبير"(3021)، من طريق الحكيم بن عتيبة والطبراني في "الصغير" رقم (561)، من طريق إبراهيم بن المهاجر ثلاثتهم عن إبراهيم النخعي به. والخلاصة: أن الحديث صحيح، والله أعلم.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (أ): "فرق".

(5)

ذكره في "الإحياء"(3/ 156).

(6)

في (أ): "أو غيرهما".

(7)

زيادة من (أ).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

زيادة من (ب).

(10)

كما في "مجمع الزوائد"(8/ 91)، وقال: رواه الطبراني وفيه سليمان بن سلمة الخبائري، وهو متروك. وهو حديث ضعيف.

(11)

سورة الأحزاب: الآية 58.

(12)

في "المسند"(4/ 227). =

ص: 252

وشرُّ عبادِ اللَّهِ المشَّاؤونَ بالنميمةِ، الباغونَ للبُرَآءِ العيبَ، يحشرُهم اللَّهُ في وجوه الكلابِ". وغيرُ هذا منَ الأحاديثِ

(1)

.

وقدْ تجبُ النميمةُ كما إذا سمعَ شخصًا يتحدَّثُ بإرادةِ إيذاءِ إنسانٍ [أو ضرِّه]

(2)

ظُلْمًا وعُدْوانًا، فيحذِّرُهُ منهُ، فإنْ أمكنَ تحذيرُه بغيرِ منْ سمعَهُ منهُ وإلا [ذَكَرَ لهُ ذلكَ]

(3)

. والحديثُ دليلٌ على عِظَمِ ذنب النميمةِ. قالَ الحافظُ المنذريُّ

(4)

: أجمعتِ الأمةُ على أن النميمةَ محرَّمةٌ، وأنَّها منْ أعظمِ الذنوبِ عندَ اللَّهِ، وفي كلام للغزاليِّ

(5)

ما يدلُّ على أنَّها لا تكونُ كبيرةً إلا معَ قَصْدِ الإفسادِ.

‌من كفَّ غضبه كفَّ الله عنه عذابه

26/ 1422 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ

(6)

في الأَوْسَطِ. [ضعيف جدًّا]

- وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا

(7)

. [ضعيف]

= قلت: وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 93): رواه أحمد، وفيه شهر بن حوشب وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت وفيه يزيد بن ربيعة وهو متروك.

وأخرجه ابن أبي الدنيا رقم (118) و (257).

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 21): رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط"، وفيه صالح بن بشير المري، وهو ضعيف.

(1)

انظر هذه الأحاديث في: "الترغيب والترهيب"(3/ 481 - 483) رقم (4152 - 4154).

كلها ضعيفة.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (أ): "وجب ذكره".

(4)

في "الترغيب والترهيب"(3/ 481 - 482).

(5)

"الإحياء"(3/ 156).

(6)

رقم (1320)، وأورده الهيثمي في "المجمع"(8/ 70)، وقال: وفيه عبد السلام بن هلال وهو ضعيف.

وأخرجه العقيلي في "الضعفاء"(2/ 4) عن شيخ المصنف.

وأورده المحدث الألباني في "الضعيفة" رقم (1916) وقال: ضعيف جدًّا.

(7)

في "ذم الغضب" عن أبي هريرة وعن ابن عمر، ورمز السيوطي لضعفه، ونقل المناوي أن العراقي حسن إسناده. انظر:"فيض القدير"(6/ 217 رقم 8998).

ص: 253

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ. أَخْرَجَه الطَّبَرَانيُّ [في الأوْسَطِ]

(1)

، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيا). تقدَّمَ الكلامُ في الغضبِ مرارًا. وهذا الحديثُ في فضلِ مَنْ كَفَّ غضبَه، ومنعَ نفسَه منْ إصدارِ ما يقتضيهِ الغضبُ، ولا يكونُ ذلكَ إلا بالحلمِ والصبرِ، وجهادِ النفسِ، وهو أمرٌ شاقٌّ، ولذا جعلَ اللهُ جزاءَه كفَّ عذابه عنهُ، وقدْ قالَ تعالَى في صفاتِ المؤمنينَ:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}

(2)

.

27/ 1423 - وَعَنْ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خَبٌّ، وَلَا بَخِيلٌ، ولَا سَيءُ الْمَلَكَةِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(3)

، وَفَرّقَهُ حَدِيثَيْنِ، وفي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. [ضعيف]

(وَعَنْ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)[منْ أولِ الأمرِ]

(4)

(خَبٌّ) بالخاءِ المعجمةِ، مفتوحةً وبالموحدةِ، الخدَّاعُ، (وَلَا بَخيلٌ)[تقدَّم](4)[الكلامُ على البخيلِ]

(5)

، (وَلَا سَيِّءُ الْمَلَكَةِ)، وهوَ مَنْ يتركُ ما يجبُ عليهِ منْ حقِّ المماليكِ، أو تجاوز الحدِّ في عقوبَتهِم [وتأديبهم]

(6)

، [ومثلُه تركهُ لتأديبِهم بالآداب الشرعيةِ]

(7)

منْ تعليمِ فرائضِ اللَّهِ وغيرِها، وكذلكَ البهائمُ سوءُ الملكة [فيها]

(8)

يكونُ بإهمالِها عن [الإطعامِ]

(9)

، وتحميلِها ما لا تطيقه من الأحمال، والمشقةِ عليها [بالسير]

(10)

والضربِ العنيفِ وغيرِ ذلكَ.

(أخْرَجَهُ التِّرمَذِيُّ، وَفَرّقَهُ حَدِيثَيْنِ. وفي إِسْنادِهِ ضَعْفٌ)، ولكنْ لهُ شواهدُ كثيرةٌ وقدْ مضَى كثيرٌ منْها.

(1)

زيادة من (ب).

(2)

سورة الشورى: الآية 37.

(3)

في "السنن" رقم (1963) وقال: هذا حديث حسن غريب.

وأخرج الترمذي القسم الثاني من الحديث رقم (1946)، وقال: هذا حديث غريب وقد تكلم أيوب السختياني وغير واحد في فرقد السبخي من قِبَل حِفظه، وهو حديث ضعيف.

(4)

زيادة من (ب).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

زيادة من (أ).

(7)

في (أ): "ومثل ترك تأديبهم بأدب الشريعة".

(8)

زيادة من (أ).

(9)

في (أ): "الطعام والشراب".

(10)

في (أ): "في السير".

ص: 254

‌لا يحل تسمُّع حديث من يكره سماع حديثه

28/ 1424 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَسَمَّعَ حَدِيثَ قَومٍ وَهُم لَهُ كَارِهُونَ، صُبَّ في أُذُنَيهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ"، يَعْنِي: الرَّصَاصُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَسَمّعَ حَدِيثَ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، صُبَّ في اُذنَيْهِ الآنُكُ) بفتحِ الهمزةِ والمدِّ، وضمِّ النونِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَعْني الرَّصاصِ) هوَ مدرجٌ في الحديثِ [من الراوي]

(2)

تفسيرًا [لما قبلَه]

(3)

، (أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ)[هكذا]

(4)

في نسخِ بلوغِ المرامِ. تسمَّع بالمثناةِ الفوقيةِ وتشديدِ الميمِ، ولفظُ البخاريِّ: منِ استمعَ. والحديثُ دليلٌ على تحريمِ استماعِ حديثِ منْ يكرهُ [سماعَ]

(5)

[حديثهِ]

(6)

، ويُعْرَفُ بالقرائنِ أو التصريحِ. ورَوَى البخاريُّ في الأدبِ المفردِ

(7)

منْ روايةِ سعيدٍ المقبريِّ قالَ: مررتُ على ابن عمرَ ومعَهُ رجلٌ يتحدثُ فقمتُ إليهما، فلطم [في]

(8)

صدري وقالَ: إذا وجدتَ اثنينِ يتحدثانِ فلا تقمْ معهُما حتَّى تستأذنَهم. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ

(9)

: لا يجوزُ لأحدٍ أن يدخلَ على المتناجينَ في حالِ لَناجيهمَا. قالَ المصنفُ: ولا ينبغي للداخلِ عليهِمَا القعودُ [عندَهمَا]

(10)

، ولو تباعدَ عنْهما إلَّا بإذنهما، لأنَّ [افتتاحهما]

(11)

الكلامَ سِرًّا [وليس عندَهما]

(12)

[أحدٌ]

(13)

دلَّ على أنَّهما لا يريدانِ الاطلاع [عليه]

(14)

. وقدْ يكونُ لبعضِ الناسِ قوةُ فهمٍ إذا سمعَ بعضَ الكلامِ استدلَّ بهِ على باقيهِ، فلا بدَّ لهُ

(1)

في "صحيحه" رقم (7042).

قلت: وأخرجه الحميدي (531)، وأحمد (1/ 216، 359)، والطبراني في "الكبير"(11855) و (11960)، والبيهقي (7269)، والبغوي في "شرح السنة"(3818).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (أ): "له".

(4)

في (أ): "وكذا".

(5)

في (أ): "سماعه".

(6)

زيادة من (ب).

(7)

رقم (1166).

(8)

زيادة من (أ).

(9)

في "التمهيد"(15/ 292).

(10)

في (أ): معهما.

(11)

في (أ): افتتاح.

(12)

زيادة من (أ).

(13)

زيادة من (أ).

(14)

في (أ): "على حديثهما".

ص: 255

منْ معرفةِ الرضَا [منهما]

(1)

، فإنهُ قدْ يكونُ في الإذنِ حياءٌ منه، وفي الباطنِ الكراهةُ. [ويلحقُ]

(2)

باستماع الحديثِ استنشاقُ الرائحةِ، ومسُّ الثوبِ، واستخبارُ صغارِ أهلِ الدارِ ما يقولُ الأَهلُ والجيرانُ منْ كلامٍ، أوْ ما يعملونَ منَ الأعمالِ، وأما لو أخبرَهُ عدلٌ عنْ منكر جازَ له أنْ يهجمَ ويستمعَ الحديثَ لإزالةِ المنكرِ.

‌العاقل يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب الناس

29/ 1425 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ"، أَخْرَجَهُ

(3)

الْبَزَّارُ بِإِسْنادٍ حَسَنٍ. [ضعيف جدًّا]

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ). طُوبَى مصدرٌ من الطيبِ، أو اسمُ شجرةٍ في الجنةِ يسيرُ الراكبُ في ظِلِّها مائةَ عامٍ لا يقطعُها. والمرادُ أنَّها لمنْ شغلَه النظرُ في عيوبِه، وطلبَ إزالتَها، أو السترَ عليها عن الاشتغالِ بذكرِ عيوبِ غيرِه، [والتعرف]

(4)

لما يصدرُ منْهم منَ العيوبِ، وذلكَ بأنْ يقدِّمَ النظرَ في عيبِ نفسِه إذا أرادَ أنْ يعيبَ غيرَه، فإنهُ يجدُ مِنْ نفسِه ما يردعُه عنْ ذكرِ غيرِه.

‌التحذير من التعاظم في النفس

30/ 1426 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ في مَشْيَتِهِ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيهِ غَضْبَانٌ"، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ

(5)

، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. [حسن]

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في (أ): "فيلحق".

(3)

أخرجه الديلمي في "الفردوس" عن أنس. وأخرجه العسكري عنه أيضًا وعدَّه من الحكم والأمثال. وأخرجه أبو نعيم من حديث الحسين بن علي. والبزار من حديث أنس أوله وآخره. والطبراني والبيهقي وسطه. وقال الحافظ العراقي: كلها ضعيفة. "فيض القدير" للمناوي (4/ 281 رقم 5306) ورمز السيوطي لحسنه. وحكم عليه الألباني في ضعيف الجامع رقم (3646) بأنه ضعيف جدًّا وهو كما قال الألباني.

(4)

في (أ): "التعريف".

(5)

في "المستدرك"(1/ 60) وصحَّحه ووافقه الذهبي. =

ص: 256

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ فِي مَشْيَتِهِ، لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ). تفاعلَ يأتي بمعنَى فعلَ، مثلَ توانيتُ بمعنى ونيتُ، وفيهِ مبالغةٌ، وهوَ المرادُ هنا، أي: مَنْ عظَّمَ نفسَه إما باعتقادٍ أنهُ يستحقُّ منَ التعظيمِ فوقَ ما يستحقُّه غيرُه ممنْ لا يعلمُ استحقاقَهُ الإهانةَ. ويحتملُ هنا أن تعاظَمَ بمعنَى تعظَّمَ مشددةً، أي اعتقدَ في نفسِه أنهُ عظيمٌ كتكبَّرَ اعتقدَ أنهُ كبيرٌ، أو يكونُ تفعَّل بمعنَى استفعل أي طلبَ أنْ يكونَ عظيمًا، وهذا يلاقي معنَى تكبَّرَ والكبر كما قال المهدي في كتابِ تكملةِ الأحكامِ: هوَ اعتقادُ أنهُ يستحقُّ منَ التعظيمِ فوقَ ما يستحقُّه غيرُه ممنْ لا يعلمُ استحقاقَه الإهانةَ. وقد أخرجَ مسلمٌ

(1)

، والحاكمُ

(2)

، والترمذيُّ

(3)

من حديثِ ابن مسعودٍ أنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَدخلُ الجنةَ مَنْ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الرجلَ يحبُّ أنْ يكونَ ثوبَه حسنًا، ونعلُه حسنًا، قالَ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُ الجمالَ، الكِبْرُ بطرُ الحقِّ، وغمطُ الناسِ"، قيلَ: هوَ أن يتكبَّرَ عن الحقِّ فلا يراهُ حقًّا، وقيلَ: أن يتكبَّرَ عن الحقِّ فلا يقبلُه. وقالَ النوويُّ: معناهُ الارتفاعُ عن الناس واحتقارُهم ودفعُ الحقِّ وإنكارُه ترفُّعًا وتجبُّرًا. وجاءَ في روايةِ الحاكمِ

(4)

: "ولكنَّ الكبرَ منْ بطرَ الحقَّ وازدَرى الناسَ". بطر الحقِّ دفْعُه وردُّه، وغمطُ الناسِ بفتْحِ المعجمةِ، وسكونِ الميمِ، وبالطاءِ المهملةِ، احتقارُهم وازدراؤُهم. هكذَا جاءَ مفسَّرًا عندَ الحاكم، [قالهُ المنذريُّ]

(5)

. ولفظُه (مَنْ) رُوِيتْ بالكسرِ لميمِها على أنها حرفُ جرٍّ وبفتحِها على أنَّها موصولةٌ، والتفسيرُ النبويُّ دلَّ على أنهُ ليسَ مِنْ قبيلِ الاعتقادِ وإنَّما هوَ [بمعنى]

(6)

عدمِ الامتثالِ [للحق]

(7)

تعززًا وترفُّعًا، واحتقارًا للناس. قالَ ابنُ حجرٍ في الزواجرِ

(8)

: الكِبْرُ إما باطنٌ وهوَ خلق في النفس، واسم الكبر بهذا أحق،

= قلت: وأخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(1/ 98) وقال الهيثمي: رواه أحمد (2/ 118)، ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث حسن.

(1)

في "صحيحه" رقم (147/ 91).

(2)

في "المستدرك"(1/ 26).

(3)

في "السنن" رقم (1999).

(4)

في "المستدرك"(1/ 26).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (أ).

(8)

(1/ 75).

ص: 257

وإما ظاهرٌ وهو أعمالٌ تصدُرُ مِنَ الجوارحِ، وهيَ ثمراتُ ذلكَ الخلُقِ، وعندَ ظهورِها يُقَالُ تكبَّرَ، وعندَ عدمِها يقالَ كِبرَ، فالأصلُ هوَ خلُقُ النفسِ الذي هوَ الاسترواحُ والركونُ إلى رؤيةِ النفسِ فوقَ المتكبَّرِ عليهِ، فهوَ يستدعي متكبَّرًّا عليهِ ومُتكَبِّرًا بهِ، وبهِ فارقَ العُجْبَ فإنهُ لا يستدعي غيرَ المعجَبِ بهِ، حتَّى لو فرضَ انفرادَه دائمًا أمكنَ أنْ يقعَ منهُ العُجْبُ دونَ الكِبْرِ، فالعجبُ مجردُ استعظامُ الشيءِ، فإنْ صحبَهُ مَنْ يَرَى أنهُ فوقَه كانَ [تكبُّرًا]

(1)

اهـ. والاختيالُ في المِشْيَةِ هوَ [من]

(2)

التكبرِ وعطفُه عليهِ منْ عطفِ أحدِ نوعي الكبرِ على الآخرِ، كأنهُ يقولُ مَنْ جَمَعَ بينَ نوعينِ منْ أنواعِ هذا الكِبْرِ يستحقُّ الوعيدَ، ولا يلزمُ منهُ أن أحدَهما لا يكونُ بهذِه المثابة لأنهُ قدْ ثبتتْ الأحاديثُ

(3)

في ذمِّ الكِبْرِ مُطْلقًا. والحديثُ [وغيرُه]

(4)

دالٌّ على تحريمِ الكبرِ وإيجابهِ لغضبِ اللَّهِ تعالَى.

‌العجلة من الشيطان

31/ 1427 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "العَجَلَةُ مِنَ الشَّيطَانِ"، أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(5)

وَقَالَ: حَسَنٌ. [ضعيف]

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْعَجَلَة مِنَ الشَّيْطَانِ.

(1)

في (أ): كبيرًا.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

(منها): ما أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (3485)، والنسائي (8/ 206)، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة".

(ومنها): ما أخرجه الترمذي في "السنن" عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم"، وهو حديث حسن.

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في "السنن" رقم (2012)، وقال: هذا حديث غريب وقد تكلَّم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عباس بن سهل وضعفه من قبل حفظه، والأشج بن عبد القيس اسمه المنذر بن عائذ.

وهو حديث ضعيف، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي" رقم (346).

ص: 258

أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ [وقَالَ: حَسَنٌ)]

(1)

. العجلةُ السرعةُ في الشيءِ، وهيَ مذمومةٌ فيما كانَ المطلوبُ فيهِ الأناةُ، محمودةٌ فيما يُطْلَبُ تعجيلُه منَ المسارعةِ إلى الخيراتِ ونحوها. وقدْ يُقَالُ: لا منافاةَ بينَ الأناةِ [والمسارعة]

(2)

، فإنْ سارعَ بِتُؤَدَةٍ وتأنٍّ فيتمُّ لهُ الأمرانِ، والضابطُ أن خِيارَ الأمورِ أوسطُها.

‌الشؤم سوء الخلق

32/ 1428 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشؤمُ سُوءُ الخُلُقِ"، أخْرَجَهُ أَحْمَدُ

(3)

وفي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. [ضعيف]

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الشّؤمُ سُوءُ الْخلُقِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ). الشؤمُ ضدُّ اليُمْنِ وتقدَّمَ الكلامُ على حقيقةِ سوءِ الخلُقِ، وأنهُ الشؤمُ، وأنَّ كلَّ ما يلحقُ منَ الشرورِ فسببهُ سوءُ الخُلُقِ. وفيهِ إشعارٌ بأنَّ سوءَ الخلُقِ وحسنها اختيارٌ مكْتَسَبٌ للعبدِ. وتقدَّمَ تحقيقُهُ.

‌النهي عن اللعن

33/ 1429 - وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكونُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَومَ الْقِيَامَةِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّعَّانِينَ [لَا يَكُونُونَ]

(5)

شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) تقدَّمَ الكلامُ في اللعنِ قريبًا. والحديثُ إخبارٌ بأنَّ كثيري اللعنِ ليسَ لهم عندَ اللَّهِ تعالى قبولُ شفاعةٍ يومَ

(1)

في (أ): "وحسنه".

(2)

في (أ): "والسرعة".

(3)

في "مسنده"(6/ 85).

وأخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (4360)، وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 25) وقال: وفيه أبو بكر بن أبي مريم. وهو ضعيف.

والخلاصة: أن الحديث ضعيف، والله أعلم.

(4)

في "صحيحه" رقم (2589).

قلت: وأخرجه أبو داود (4907) بلفظ: "لا يكونُ اللعَّانونَ شفعاء ولا شهداء".

(5)

في (أ): "لا يكونوا".

ص: 259

القيامةِ، أي: لا يشفعونَ حينَ يشفعُ المؤمنونَ في إخوانهم. ومعنَى: ولا شهداءَ قيلَ: لا يكونونَ يومَ القيامةِ شهداءَ على تبليغِ الأممِ رسلهم إليهم الرسالاتِ، وقيلَ: لا يكونونَ شهداء في الدنيا، ولا تُقْبَلُ شهادتُهم لفسقهم، لأنَّ إكثارَ اللعنِ منْ أدلةِ التساهلِ في [أمور]

(1)

الدينِ، وقيلَ: لا يرزقونَ الشهادةَ وهي القتلُ في سبيلِ اللَّهِ؛ (فيومَ القيامةِ) متعلِّقٌ بشفعاءَ وحدَه على الأخيرينِ، ويحتملُ عليهما أنْ يتعلَّقَ بهما ويرادُ أن شهادتَه لما لم تقبلْ في الدنيا لم يكتبْ لهُ في الآخرةِ ثوابُ مَنْ شهدَ بالحقِّ، وكذلكَ لا يكونُ لهُ في الآخرةِ ثوابُ الشهداءِ.

‌ذكر الذنب لمجرد التعيير قبيح يوجب العقوبة

34/ 1430 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَيّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتى يَعْمَلَهُ"، أَخْرَجَهُ التِّرمِذِيُّ

(2)

، وَحَسَّنَهُ، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ. [موضوع]

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في "السنن" رقم (2505)، وقال:"حديث حسن غريب وليس إسناده بمتصل، خالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل".

وتعقبه الألباني في "الضعيفة"(1/ 214)، بقوله:"أنَّى له الحُسن، فإنه مع هذا الانقطاع فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني -، كذبه ابن معين، وأبو داود كما في "الميزان". ثم ساق له هذا الحديث.

ولهذا أورده الصغاني في "الموضوعات" ص 6 ومن قبله ابن الجوزي، ذكره من طريق ابن أبي الدنيا ثم قال:"لا يصح محمد بن الحسن كذاب".

وتعقبه السيوطي في "اللآلئ"(2/ 293) بقوله: أخرجه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن غريب، وله شاهد".

قلت: ثم ذكر الشاهد، وهو من طريق الحسن قال:"كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب تاب إلى الله منه، لم يمت حتى يبتليه الله به" وهو مع أنه ليس مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم، فإن في سنده صالح بن بشير المري، وهو ضعيف كما في "التقريب" فلا يصح شاهدًا لضعفه وعدم رفعه" اهـ.

قلت: وله شاهد أخرجه الترمذي رقم (2506)، بإسنادين. وقال: هذا حديث حسن

غريب. أما الإسناد الأول ففيه عمر بن إسماعيل بن مجالد وهو كذاب هالك.

وأما الإسناد الثاني ففيه أمية بن القاسم، وصوابه القاسم بن أمية الحذاء البصري، قال ابن =

ص: 260

(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ) مَنْ عابَه بهِ، (لم يَمُتْ حَتى يَعْمَلَهُ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسّنَهُ، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ) كأنهُ حسَّنَهُ الترمذيُّ لشواهدِه فلا يضرُّ انقطاعُه. وكأنَّ مَنْ عَيَّرَ أخاهُ أي عابَهُ منَ العارِ، وهوَ كلُّ شيءٍ يذم بهِ عيبٌ كما في القاموسِ

(1)

يُجَازَى بسلبِ التوفيقِ حتَّى يرتكبَ ما عيَّرَ أخاهُ بهِ، وذاكَ إذا صحبهُ إعجابهُ بنفسِه بسلامته مما عيَّرَ بهِ أخاهُ. وفيهِ أن ذِكْرَ الذنبِ لمجردِ التعييرِ قبيحٌ يوجبُ العقوبةَ، وأنهُ لا يُذْكَرُ عيبُ الغيرِ إلا للأمورِ الستةِ التي سلفتْ مَعَ حسنِ القصدِ فيها.

‌ويل لمن يكذب ليضحك القوم

35/ 1431 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، ثُمّ وَيْلٌ لَهُ"، أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ

(2)

، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. [حسن]

= حبان في "المجروحين"(2/ 213): "شيخ يروي عن حفص بن غياث المناكير الكثيرة، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد"، ثم روى له هذا الحديث وقال: "وهذا لا أصل له من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فتعقبه الحافظ ابن حجر في "التهذيب"(7/ 277) بقوله: "كذا قال، وشهادة أبي زرعة وأبي حاتم له أنه صدوق أولى من تضعيف ابن حبان له".

وقد تعقب العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي الحافظ ابن حجر في قوله هذا في تعليقه على "الفوائد المجموعة" للشوكاني ص 265، فقال:"بل الصواب تتبع أحاديثه، فإن وجد الأمر كما قال ابن حبان ترجح قوله، وبان أن هذا الرجل تغيرت حاله بعد أن لقيه الرازيان".

والخلاصة: أن الحديث موضوع، والله أعلم.

(1)

المحيط (ص 574).

(2)

أخرجه أبو داود رقم (4990)، والترمذي رقم (2315)، وقال حديث حسن، والبيهقي في "الشعب" رقم (4831)، وفي "السنن الكبرى"(10/ 196)، وأحمد (5/ 2، 3، 5) وله شاهد من حديث عطية عن أبي سعيد الخدري يرفعه، بنحوه. أخرجه أحمد (3/ 38) وعطية ضعيف.

والخلاصة: أن الحديث حسن.

ص: 261

(وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أبيهِ عَنْ جَدِّهِ) معاويةَ بن حَيدةَ [تقدمَ]

(1)

. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَيْلٌ لِلَّذِي يحَدِّث فَيَكْذِب لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، ثمّ وَيْلٌ لَهُ. أَخْرَجَه الثلَاثَة، وإسْنَادُهُ قَوِيٌ)، وحسَّنهُ الترمذيُّ، وأخرجَهُ البيهقيُّ. والويلُ الهلاكُ، ورفْعُه علَى أنهُ مبتدأٌ خبرُه الجارُّ والمجرورُ، وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأنهُ منْ بابِ سلامٌ عليكمُ، وفي معناهُ الأحاديثُ الواردةُ في تحريمِ الكذبِ على الإطلاقِ مثلُ حديثِ:"إياكُم والكذبَ؛ فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجورِ، والفجورُ يهدي إلى النار" سيأتي. وأخرجَ ابنُ حبانَ في صحيحهِ

(2)

: "إياكم والكذبَ؛ فإنهُ مَعَ الفجورِ وهما في النارِ"، ومثلُه عندَ الطبرانيِّ

(3)

. وأخرجَ أحمدَ

(4)

منْ حديثِ ابن لهيعةَ: "ما عملُ أهلِ النارِ؟ قالَ الكذبُ. فإنَّ العبدَ إذا كذبَ فجرَ، وإذا فجرَ كفرَ، وإذا كفرَ دخلَ النارَ". وأخرجَ البخاريُّ

(5)

أنهُ قالَ صلى الله عليه وسلم الحديثِ الطويلِ ومِنْ جُمْلَتِه قولُه: "رأيتُ الليلةَ رجلينِ أتياني قالا لي: [الرجل]

(6)

الذي رأيته يُشَقُّ شدقُه فكذابٌ يكذبُ الكذبةَ تُحْمَلُ عنهُ حتَّى تبلغَ الآفاقَ" في حديثِ رؤياهُ صلى الله عليه وسلم. والأحاديثُ

(7)

في البابِ كثيرة. والحديثُ دليل على تحريمِ الكذبِ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

رقم (5734).

قلت: وأخرجه أحمد (1/ 7)، عن روح بن عبادة.

وأخرجه الطيالسي ص 3، وابن ماجه رقم (3849)، والبخاري في "الأدب المفرد"(724) من طرق عن شعبة به.

(3)

كما في "مجمع الزوائد"(1/ 93) قال الهيثمي: رواه الطبراني في "الكبير" وإسناده حسن.

(4)

لم أجده في المسند؟!

(5)

في "صحيحه" رقم (1386، 2791، 7047).

(6)

زيادة من (أ).

(7)

(منها): ما أخرجه ابن ماجه في "السنن" رقم (4184) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق، فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار".

(ومنها): ما أخرجه أحمد (2/ 352، 264) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة والمراء، وإن كان صادقًا".

(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (33)، ومسلم رقم (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر".

ص: 262

لإضحاكِ القومِ، وهذا تحريمٌ خاصٌّ. ويحرمُ على السامعينَ استماعه إذا علموهُ كذِبًا، لأنهُ إقرارٌ على المنكرِ بلْ يجبُ عليهم [الإنكار أو الانصراف]

(1)

منَ الموقف. وقدْ عُدَّ الكذبُ منَ الكبائرِ. قالَ الروياني منَ الشافعيةِ: إنهُ كبيرةٌ ومن كذب قصدًا رُدَّت شهادته وإن لم يضر بالغير، لأن الكذب حرامٌ بكلِّ حالٍ. وقالَ المهدي عليه السلام: إنهُ ليسَ بكبيرةٍ، ولا يتمُّ له نفي كبرِه على العمومِ، فإنَّ الكذبَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم[والإضرار]

(2)

بمسلم [أو معاهدٍ]

(3)

كبيرةٌ. وقسمَ الغزالي

(4)

الكذبَ في الإحياءِ إلى: واجبٍ، ومُبَاحٍ، ومحرَّم. وقالَ: إنَّ كلَّ مقصدٍ محمودٌ يمكنُ التوصلُ إليهِ بالصدقِ والكذبِ جميعًا فالكذبُ فيهِ حرامٌ. وإنْ أمكنَ التوصلُ إليهِ بالكذبِ وحدَه فمباحٌ إنْ أنتجَ تحصيلَ ذلكَ المقصودِ، وواجبٌ إنْ وجبَ تحصيلُ ذلكَ وهوَ إذا كانَ فيهِ عصمةُ مَن يجبُ إنقاذُه، وكذا إذا خشي على الوديعةِ منْ ظالمٍ وجبَ الإنكارُ والحلفُ، وكذَا إذا كانَ لا يتمُّ مقصودُ حربٍ أوْ إصلاحٍ ذاتِ البينِ أو استمالةِ قلبِ المجني عليهِ إلا بالكذبِ فهو مباحٌ، وكذا إذا وقعتْ منهُ فاحشةٌ كالزنَى وشربِ [الخمرِ وسأله السلطانُ]

(5)

فله أنْ يكذبَ ويقولُ: ما فعلتُ (؟)، ثمَّ قال: وينبغي أنْ [تقابلَ]

(6)

مفسدةُ الكذبِ بالمفسدةِ المترتبةِ على الصدقِ، فإنْ كانتْ مفسدةُ الصدقِ أشدَّ فلهُ الكذبُ، وإنْ [كانتْ]

(7)

بالعكسِ أو شكَّ فيها حَرُمَ الكذبُ، وإنْ تعلَّقَ بنفسِه استحبَّ أنْ لا يكذبَ، وإنْ تعلَّقَ بغيرِه لم [تحسن]

(8)

المسامحةُ بحقِّ الغيرِ. والحزمُ تركُه حيثُ أبيحَ. واعلمْ أنهُ يجوزُ الكذبُ اتفاقًا في ثلاثِ صورٍ كما أخرجَهُ مسلمٌ

(9)

في الصحيح. قالَ ابنُ شهابٍ: لم أسمعْ يرخَّصُ في شيءٍ مما يقولُ الناسُ كذبٌ إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاحِ بينَ الناسِ، وحديثِ الرجلِ امرأتَه، وحديثِ المرأةِ زوجَها. قالَ القاضي عياضٌ

(10)

: لا

(1)

في (ب): "النكير أو القيام".

(2)

في (ب): "أو لإضرار".

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في "الإحياء"(3/ 137 - 139).

(5)

في (أ): "يسأله ظالم".

(6)

في (أ): "يقابل".

(7)

في (أ): "كان".

(8)

في (أ): "يحسن".

(9)

في "صحيح مسلم بشرح النووي"(16/ 157 - 158).

(10)

في "صحيح مسلم بشرح النووي"(16/ 158).

ص: 263

خلافَ في جوازِ الكذبِ في هذِه الثلاثِ الصورِ. وأخرجَ ابنُ النجارِ

(1)

عن النوَّاسِ بن سمعانَ مرفُوعًا: "الكذبُ يكتبُ على ابن آدمَ إلا في ثلاثٍ: الرجلُ يكونُ بينَ الرجلينِ ليصلحَ بينَهما، والرجلُ يحدِّثُ امرأتَه ليرضيَها [بذلك]

(2)

، والكذبُ في الحرب"، [واعلم أن ذلك لحكمة الاجتماع ومصلحته]

(3)

.

وانظرْ في حكمةِ اللهِ ومحبَّتِه لاجتماعِ القلوب كيفَ حرَّمَ النميمةَ وهيَ صدقٌ لما فيها منْ إفسادِ القلوب، وتوليدِ العداوةِ، والوَحشةِ، وأباحَ الكذبَ وإنْ كانَ حرامًا إذا كانَ لجمعِ القلوبَ، وجلبِ المودةِ، وإذهابِ العداوةِ.

‌من اغتاب أخاه فليتحلَّل منه

36/ 1432 - وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ"، رَوَاهُ الْحَارِثُ

(4)

بْنُ أبي أُسَامَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. [ضعيف]

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَهُ أنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ. رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أبي أُسَامَةَ بِإسْنَادٍ ضَعِيفٍ)، وأخرجَهُ ابنُ أبي شيبةَ في مسندهِ،

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده"(6/ 454)، والترمذي مختصرًا رقم (1939) وقال: هذا حديث لا نعرفه من حديث أسماء إلا من حديث ابن خثيم. وذكره صاحب الكنز رقم (8265)، وعزاه إلى الطبراني وأحمد وأبي نعيم في "الحلية" والبيهقي وابن جرير (3/ 634) عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "أيها الناس: ما يحملكم أن تتابعوا بالكذب كما تتابعُ الفراشُ في الناس، كل الكذب يكتب على ابن آدم

"، وانظر "الصحيحة" رقم (545).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 97)، وعزاه إلى البيهقي عن أنس بسند ضعيف.

• وذكره في "الفتح الكبير"(2/ 319) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن أنس وهو في "الإحياء"، وعزاه العراقي إلى ابن أبي الدنيا في "الصمت"، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" من حديث أنس بسند ضعيف (9/ 1616).

كما ذكره ابن عبد البر في كتاب "بهجة المجالس" عن حذيفة رضي الله عنه (1/ 3) وفي الآداب الشرعية قال عبد الله بن المبارك لسفيان بن عيينة: التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبت، قال سفيان: بل تستغفر مما قلت فيه، فقال ابن المبارك: لا تؤذه مرتين.

ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وفيه عنبسة بن عبد الرحمن: متروك (1/ 73).

ص: 264

والبيهقيُّ

(1)

في شعبِ الإيمانِ، وغيرُهما بألفاظٍ مختلفةٍ منْ حديثِ أنسٍ. وفي [أسانيدهما]

(2)

ضعفٌ. ورُوِيَ منْ طريقٍ أُخْرى بمعناهُ، [وأخرجه]

(3)

الحاكِمُ

(4)

منْ حديثِ حذيفةَ والبيهقي

(5)

قالَ: وهوَ أصحُّ، ولفظُه قالَ:"كانَ في لساني ذرَبٌ على أهلي، فسألتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: أينَ أنتَ منَ الاستغفارِ يا حذيفةُ؟ إني لأستغفرُ اللَّهَ في كلِّ يومٍ مائةَ مرةٍ". وهذا الحديثُ لا [دليل فيه نصًّا]

(6)

أنهُ لأجلِ الاغتيابِ، بلْ لعلَّهُ لدفعِ ذَرَبِ اللسانِ. الحديثُ دليلٌ أن الاستغفارَ يكفي منَ المغتابِ لمنِ اغتابهُ ولا يحتاجُ إلى الاعتذارِ منهُ. وفصَّلتِ الهادويةُ والشافعيةُ فقالُوا: إذا علمَ المغتابُ وجبَ الاستحلالُ منهُ، وأما إذا لم يعلمْ فلا، ولا يُسْتَحَبُّ أيضًا لأنهُ يجلب [العداوة]

(7)

والوحشةَ وإيغارَ الصَّدْرِ، إلَّا أنهُ أخرجَ البخاريُّ

(8)

منْ حديثِ أبي هريرةَ مرفُوعًا: "مَنْ كَانتْ عندَه مظلمةٌ لأخيهِ في عِرْضِهِ أو شيءٍ [فليستحلل]

(9)

منهُ اليومَ قبلَ أنْ لا يكونَ لهُ دينارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ لهُ عملٌ صالحٌ أُخِذَ منهُ بقدرِ مظلمتِه، وإنْ لم يكنْ له حسناتٌ أُخِذ منْ سيِّئَاتِ صاحبهِ فَحُمِلَ عليهِ". وأخرجَ نحوَه البيهقيُّ

(10)

منْ حديثِ أبي موسَى، وهوَ دالٌّ على أنهُ يجبُ الاستحلالُ وإنْ لم يكنْ قدْ علمَ، إلَّا أنهُ يحملُ على مَنْ بَلَغَهُ ويكونُ حديثُ أنسٍ فيمنْ لم يعلمْ ويُقَيَّدْ بهِ إطلاقُ حديثِ البخاريِّ.

‌الخصومة مذمومة ولو في الحق

37/ 1433 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ

(1)

(5/ 317 رقم 6786).

(2)

في (أ): "إسنادها".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في "المستدرك"(2/ 511)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

(5)

في "الشعب"(5/ 317 رقم 678). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3817)، والنسائي (450)، وابن السني (364)، من طريق النسائي وفي "الزوائد": في إسناده أبو المغيرة البجلي، مضطرب الحديث عن حذيفة. قال الذهبي في الكاشف.

(6)

في (أ): "نص فيه".

(7)

زيادة من (أ).

(8)

في "صحيحه" رقم (3534).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2419).

(9)

في (ب): "فليتحللُه".

(10)

في "شعب الإيمان" رقم (7467).

ص: 265

الرِّجَالِ إِلَى الله الأَلَدُّ الْخَصِمُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلى اللهِ الألَدُّ الْخَصِمُ) بفتحِ الخاءِ المعجمةِ، وكسرِ الصادِ المهملةِ (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). الألدُّ مأخوذٌ منْ لديدي الوادي، [وهما]

(2)

جانباهُ، والخصِمُ شديدُ الخصومةِ الذي يحجُّ مخاصِمَهُ، وجهُ الاشتقاق [أنهُ]

(3)

كلما احتجَّ عليهِ بحجةٍ أخذَ في جانبٍ آخرَ. وقدْ وردتْ أحاديثُ في ذمِّ الخصومةِ كحديثِ: "مَنْ جادلَ في خصومةٍ بغيرِ علمٍ لم يزلْ في سخطِ اللَّهِ حتَّى ينزعَ"

(4)

، تقدَّم [تخريجه]

(5)

. وأخرجَ الترمذيُّ

(6)

[وقالَ: غريبٌ]

(7)

منْ حديثِ ابن عباسٍ مرفُوعًا: "كفَى بكَ إثمًا أنْ لا تزالَ مخاصِمًا". وظاهرُ إطلاقِ الأحاديثِ أن الخصومةَ مذمومةٌ ولوْ كانتْ في حقٍّ. قالَ النوويُّ في الأذكارِ: فإنْ قُلتَ لَا بُدَّ للإنْسَانِ منَ الخُصومةِ لاستيْفاءِ حقِّهِ. فالجوابُ ما أجابَ بهِ الغزاليُّ

(8)

أن الذمَّ إنَّما هوَ [لمنْ]

(9)

خاصَمَ بباطل، وبغيرِ علمٍ، كوكيلِ القاضي، فإنهُ يتوكلُ قبلَ أنْ يعرفَ الحقَّ في أيِّ جانبٍ.

ويدخلُ في الذمِّ مَنْ يطلبُ حقًّا لكنْ لا يقتصرُ على قدْرِ الحاجةِ، بلْ يظهرُ

(1)

في "صحيحه" رقم (2668).

قلت: وأخرجه البيهقي (10/ 108)، وأحمد (6/ 55، 63، 205)، والبخاري رقم (2457)، (4523)، و (7188)، والترمذي رقم (2976)، والنسائي (8/ 247 - 248)، والبغوي (2499)، من طرق عن ابن جريج به.

(2)

في (أ): "أن".

(3)

في (أ): "أن".

(4)

أخرجه أبو داود رقم (3597)، والحاكم (4/ 99، 383)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 91): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ورجالهما رجال الصحيح غير محمد بن منصور الطوسي وهو ثقة.

(5)

زيادة من (ب).

(6)

في "السنن" رقم (1994)، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وهو حديث ضعيف، انظر: الضعيفة (4096).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

ذكره في "الإحياء"(3/ 118).

(9)

في (أ): "فيمن".

ص: 266

اللَّدَدَ والكذبَ لإيذاءِ خصْمِه، وكذلكَ مَنْ يحملُه على الخصومةِ محضُ العِنَادِ لقهرِ خصْمِهِ وكسرِه، ومثلُه مَنْ [يخلُط]

(1)

الخصومةَ بكلماتٍ تؤذي وليسَ إليها ضرورةٌ في التوصُّلِ إلى غرضِه، فهذا هوَ المذمومُ، بخلافِ المظلومِ الذي ينصرُ حجَّتَه بطريقِ الشرعِ منْ غيرِ لَدَدٍ وإسرافٍ وزيادةِ لجاجٍ على الحاجةِ، منْ غيرِ قصدِ عنادٍ ولا إيذاءٍ، ففعلُه هذا ليسَ مذمُومًا، ولا حَرامًا، لكنَّ الأَوْلَى تركُه ما وجدَ إليهِ سبيلًا.

وفي بعضِ كتبِ الشافعيةِ أنَّها تُرَدُّ شهادةُ مَن يكثرُ الخصومةَ لأنها تنقصُ المروءةَ، لا لكونِها معصيةً.

* * *

(1)

في (أ): "يخالط".

ص: 267

[الباب الخامس] باب الترغيب في مكارم الأخلاق

‌معنى الصدق والكذب والبر والفجور

1/ 1434 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى الْبِرِّ، وَإن الْبِرَّ يَهْدي إلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذابًا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكمْ بِالصِّدْقِ، فَإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي)[بفتح حرفِ المضارَعَةِ]

(2)

(إلَى الْبِرِّ، وَإنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُل يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإيَّاكمْ وَالْكَذِبَ، فَإنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَإنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَال الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). الصدقُ ما طابقَ الواقعَ، والكذبُ ما خالفَ الواقعَ، هذهِ حقيقتُهما عندَ الجمهورِ [منَ الهادويةِ وغيرِهم]

(3)

، والهدايةُ الدلالةُ الموصلةُ إلى المطلوبِ، والبرُّ بكسرِ الموحدةِ أصلُه التوسُّعُ في فعلِ

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6094)، ومسلم رقم (2607).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4989)، والترمذي (1971)، ومالك في "الموطأ"(2/ 989 رقم 16).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (ب).

ص: 268

الخيراتِ، وهوَ اسمٌ جامعٌ للخيراتِ كلِّها، ويطلقُ على العملِ الصالح الخالصِ. وقالَ ابنُ بطالٍ: قولُهُ: "وإنَّ البِرَّ" إلى آخرِه مصداقُه قولُه تعالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)}

(1)

. وقالَ: قولُهُ: "وما يزالُ الرجلُ يصدقُ" إلى آخرِه المرادُ يتكررُ منهُ الصدقُ حتَّى يستحقَّ اسمَ المبالغةِ، وهوَ الصِدِّيقُ. وأصلُ الفجورِ الشقُّ، فهوَ شقُّ الديانةِ، وَيُطْلَقُ على الميلِ إلى الفسادِ، وعلَى الانبعاثِ في المعاصي، وهوَ اسمٌ جامعٌ للشرِّ. وقولُه:"وما يزالُ الرجلُ يكذبُ" هوَ كما مرَّ في قولهِ: "وما يزالُ الرجلُ يصدقُ" في أنهُ إذا تكررَ منهُ الكذبُ استحقَّ اسمَ المبالغةِ وهوَ الكذَّابُ، وفي الحديثِ إشارةٌ إلى أن مَنْ تحرَّى الصدقَ في أقوالِه صارَ سجيةً له، ومَنْ تَعمَّدَ الكذبَ وتحرّاهُ صارَ لهُ سجيةً، وأنهُ بالتدرُّبِ والاكتسابِ [تثبت]

(2)

صفاتُ الخيرِ والشرِّ. والحديثُ دليلٌ على عظمةِ شأنِ الصدقِ، وأنهُ ينتهي بصاحبِه إلى الجنة، ودليلٌ على عظمةِ قُبْحِ الكذب، وأنهُ ينتَهي بصاحبِه إلى النارِ، وذلكَ مِن غيرِ [ما لصاحبِهمَا في]

(3)

الدنيا، فإنَّ الصدوقَ مقبولُ الحديثِ عندَ الناسِ، [مرغوب إليه]

(4)

، مقبولُ الشهادةِ عندَ الحكَّامِ، محبوبٌ مرغوبٌ في أحاديثِه، والكذوبَ بخلافِ هذا كلِّه.

‌النهي عن الظن

2/ 1435 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الْحَدِيثِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ)[بالنصب محذَّرٌ منهُ]

(6)

، (فإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). تقدم بيانُ معناهُ، وأنهُ تحذيرٌ منْ أنْ يحققَ ما ظنَّهُ. وأما نفسُ الظنِّ [فقدْ]

(7)

يهجمُ على القلبِ فيجبُ دفعُه والإعراضُ عن العملِ [به]

(8)

.

(1)

سورة الانفطار: الآية 13.

(2)

في (ب): "تستمر".

(3)

في (أ): "مع ما يصاحبهما".

(4)

زيادة من (أ).

(5)

أخرجه البخاري رقم (6064)، ومسلم رقم (2563)، وأبو داود رقم (4917)، والترمذي رقم (1988)، ومالك في "الموطأ"(2/ 908).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

في (أ): "فهو".

(8)

في (ب): "عليه".

ص: 269

‌حقوق الجلوس على قوارع الطرقات

3/ 1436 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسُ بالطُّرُقَاتِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ:"فَأمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ"، قَالُوا: وَمَا حَقَّهُ؟ قَالَ: "غَضُّ الْبَصَرِ، وَكفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي سَعِيدِ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إيّاكُمْ وَالْجُلُوسُ بالطُّرقاتِ) بضمتينِ جمعُ طريقِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فإذَا أَبَيْتُمْ)، أي: امتنعتُم عنْ تركِ الجلوسِ على الطرقاتِ، (فَأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ) عنِ المحرماتِ، (وَكَفُّ الأذَى) عنِ المارِّينَ بقولٍ أو فعلٍ، (وَرَدُّ السّلَامِ) إجابتُه على مَنْ [سلَّم]

(2)

عليكمْ من المارِّينَ، إذِ السلامُ يسنُّ ابتداءً للمارِّ لا للقاعدِ، (والأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). قالَ القاضي عياضٌ

(3)

: فيهِ دليلٌ على أنَّهم فهِمُوا أنَّ الأمرَ ليسَ للوجوبِ، [وإنما هو]

(4)

للترغيبِ [فيما]

(5)

هو الأَوْلَى؛ إذْ لو فهمُوا الوجوبَ لم يراجعُوا. قالَ المصنفُ: ويحتملُ أنَّهم رَجَوْا وقوعَ النسخِ تخفيفًا لما شَكَوْا منَ الحاجةِ إلى ذلكَ. وقدْ زيدَ في أحاديثِ حقِّ الطريقِ على هذهِ الخمسةِ المذكورةِ، زادَ أبو داودَ

(6)

: وإرشادُ ابنِ السبيلِ، وتشميتُ العاطسِ [إذا حمِدَ اللهَ]

(7)

. وزادَ سعيدُ بنُ منصورٍ

(8)

: وإغاثةُ الملهوفِ، وزادَ البزارُ

(9)

: والإعانةُ علَى الحمْلِ،

(1)

أخرجه البخاري رقم (2465)، ومسِلم رقم (2121).

قلت: وأخرجه البغوي في "شرح السنة" رقم (3338)، وأبو داود رقم (4815).

(2)

في (ب): "رده".

(3)

ذكره في "الفتح"(11/ 12).

(4)

في (ب): "أنه".

(5)

في (أ): "في".

(6)

في "السنن" رقم (4816).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

لم يطبع الكتاب بعد فيما أعلم.

(9)

في "كشف الأستار"(2/ 425 رقم 2019).

ص: 270

وزادَ الطبرانيُّ

(1)

: وأعينُوا المظلومَ، واذكُروا اللَّهَ كثيرًا. وزاد أبو داود وكذا في مراسيل يحيى بن يعمر: وتهدوا الضالة. وزاد في حديث أبي طلحة: حسن الكلام. وزاد في حديث البراء عند أحمد والترمذي: وأفشوا السلام. قال السيوطيُّ في التوشيحِ: فاجتمعَ منْ ذلكَ ثلاثةَ عشرَ أدبًا، وقدْ نَظَمَهَا شيخُ الإسلامِ ابنُ حجرٍ رحمه الله. قال المصنف رحمه الله وقد نظمتها في أربعةِ أبياتٍ:

جمعتُ آدابَ منْ رامَ الجلوسَ على الـ

ــــطريقِ منْ قولِ خيرِ الخلقِ إنسانًا

افشِ السلامَ وأحسنْ في الكلامِ وشمـ

تْ عاطِسًا وسلامًا رُدَّ إحسانًا

في الحملِ عاونْ ومظْلُومًا أعِنْ وأغِثْ

لهفانَ اهدِ سبيلًا واهدِ حَيْرانًا

بالعرفِ مرْ وانهَ عنْ نكْرٍ وكفَّ أذَى

وغضَّ طَرْفًا وأكثرْ ذِكرَ مَوْلانا

والحكمةُ في النَّهي عنِ الجلوسِ في الطرقاتِ أنهُ لجلوسِه يتعرَّضُ للفتنةِ، فإنهُ قدْ ينظرُ إلى الشهواتِ ممنْ يخافُ الفتنةَ على نفسِه [منَ النظرِ إليهنَّ]

(2)

معَ مرورهنَّ، وفيهِ التعرُّضُ للزومِ [حقوقِ اللَّهِ]

(3)

والمسلمينَ، ولوْ كانَ قاعدًا في منزلِه لما عرفَ ذلكَ، ولا لزمتْه الحقوقُ [التي في الجالس على الطريق]

(4)

[التي قدْ لا يقومُ بها]

(5)

. ولما طلَبُوا الإذْنَ في البقاءِ في مجالسِهم، وأنهُ لا بدَّ لهم منْها عرَّفَهُم بما يلزمُهُم منَ الحقوقِ، وكلُّ ما [ورد]

(6)

منَ الحقوقِ قدْ وردتْ بهِ الأحاديثُ [مفرقةً]

(7)

تقدَّمَ بعضُها ويأتي بعضُها.

‌من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين

4/ 1437 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(8)

. [صحيح]

(1)

عزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 62) إلى الطبراني وقال: فيه أبو بكر بن عبد الرحمن الأنصاري تابعي لم أعرفه وبقية رجاله وثقوا.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (أ)"واجب عليه لله تعالى".

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

زيادة من (أ).

(7)

في (أ)"متفرقة".

(8)

أخرجه البخاري رقم (71) وطريقه البغوي في "شرح السنة" رقم (131) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 19) عن سعيد بن عفير. والبخاري رقم (7312)، عن إسماعيل بن =

ص: 271

(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). الحديثُ دليلٌ على [عظمةِ]

(1)

شأن [التفقهِ]

(2)

في الدينِ، وأنهُ لا يُعطَاهُ إلا مَنْ أرادَ اللَّهُ [بهِ]

(3)

خيرًا عظيمًا كما يرشدُ إليهِ التنكيرُ، ويدلُّ لهُ المقامُ. والفقهُ في الدينِ تعلُّمُ قواعدِ الإسلامِ، ومعرفةُ الحلالِ والحرامِ، ومفهومُ الشرطِ أنَّ مَنْ لم يتفقَّهْ في الدينِ لم يردِ اللَّهُ بهِ خيرًا. وقدْ وردَ هذا المفهومُ منطوقًا في روايةِ أبي يَعْلَى:"ومَنْ لم يفقهْ لم يبالِ اللَّهُ بهِ"

(4)

.

وفي الحديثِ دليلٌ ظاهرٌ على شرفِ الفقهِ في الدينِ والمتفقِّهينَ فيهِ على سائرِ العلومِ والعلماءِ، والمرادُ بهِ معرفةُ الكتابِ والسنَّةِ.

‌فضل حسن الخلق

5/ 1438 - وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ

= أبي أويس، والطحاوي في "مشكل الآثار"(2/ 278) عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 18) من طريق سحنون. أربعتهم عن ابن وهب، به.

• وأخرجه البخاري رقم (3116) عن حبان بن موسى، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، به.

• وأخرجه أحمد (4/ 101)، والدارمي (1/ 73، 74)، من طريق عبد الوهاب بن أبي بكر، عن الزهري، به.

• وأخرجه مالك (2/ 900، 901)، وأحمد (4/ 92، 93، 95، 96، 97، 98 و 99 و 104)، ومسلم رقم (98/ 1037)، وابن ماجه رقم (221)، والدارمي (1/ 74)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(2/ 278، 279، 280)، والطبراني في "الكبير"(19/ رقم 729، 782، 783، 784، 785، 786، 787، 792، 797، 810، 815، 860، 864، 868، 869، 871، 904، 906، 911، 912، 918، 929)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (346)، و (954)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 18، 19)، من طرق عن معاوية.

(1)

في (أ): "عظم".

(2)

في (أ): "الفقه والعلم".

(3)

في (أ): له.

(4)

في "المسند"(13/ 371 رقم 28/ 7381).

وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 183)، وقال:"رواه أبو يعلى وفي الصحيح منه: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، وفيه الوليد بن محمد الموقري وهو ضعيف".

ص: 272

شَيء في الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ"، أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

وَالتّرْمِذِيُّ

(2)

وَصَحّحَهُ. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ). وتقدَّم الكلامُ في [حقيقة حسن الخلق]

(3)

بما لا يحتاجُ فيهِ إلى الإعادةِ لقربِ عهدهِ.

‌الحياء من الإيمان

6/ 1439 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ مِنَ الإيمَانِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

. [صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). الحياءُ في اللغةِ تغيُّرٌ وانكسارٌ يلحقُ الإنسانَ منْ خوفِ ما يُعابُ بهِ. وفي الشرعِ خُلُقٌ يبعثُ على اجتنابِ القبيحِ، ويمنعُ منَ التقصيرِ في حقِّ ذي الحقِّ، والحياءُ وإنْ كانَ قدْ يكونُ غريزةً فهو في استعمالِه على وِفقِ الشرعِ يحتاجُ إلى اكتسابٍ وعلمٍ ونيةٍ، فلذلكَ كانَ منَ الإيمانِ. وقدْ يكونُ كَسْبِيًّا، ومعنَى كونِه منَ الإيمانِ

(1)

في "السنن" رقم (4799).

(2)

في "السنن" رقم (2002).

قلت: وأخرجه ابن حبان رقم (5693)، وأحمد (6/ 442، 446، 448، 451)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (3496) وهو حديث صحيح، والله أعلم.

(3)

في (ب): "حقيقته".

(4)

أخرجه البخاري رقم (24) وفي "الأدب المفرد" رقم (602)، وأبو داود رقم (4795)، والنسائي (8/ 121)، وابن منده في "الإيمان" رقم (176)، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، به وأخرجه مسلم رقم (36)، والترمذي رقم (2615)، وابن ماجه رقم (58)، وابن منده رقم (174)، والحميدي رقم (625)، وأحمد (2/ 9)، من طريق سفيان بن عيينة، والبخاري في "صحيحه" رقم (6118) وفي "الأدب المفرد" رقم (602)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (3594)، وابن منده رقم (176)، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" رقم (73) من طريق عبد العزيز الماجشون. وابن منده رقم (176) من طريق شعيب بن أبي حمزة. والطبراني في "الصغير"(1/ 263) من طريق قرة بن عبد الرحمن، أربعتهم عن الزهري به.

ص: 273

أنَّ المستحي ينقطعُ بحيائهِ عنِ المعاصي فيصيرُ كالإيمانِ القاطعِ بينَه وبينَ المعاصي. وقالَ [ابن قتيبة]

(1)

: معناهُ أنَّ الحياءَ يمنعُ صاحِبَه منِ ارتكابِ المعاصي كما يمنعُ الإيمانُ، فسُمِّيَ إيمانًا كما يُسَمَّى الشيءُ باسمِ ما قامَ مقامَه، والحياءُ مركَّبٌ منْ جُبْنٍ وعِفَّةٍ. وفي الحديثِ:"الحياءُ خيرٌ كلُّه، ولا يأتي إلا بخيرٍ"

(2)

. فإنْ قلت: الحياءُ قدْ يمنعُ صاحِبَه عنْ إنكارِ المنكرِ، وهوَ إخلالٌ ببعضِ ما يجبُ فلا يتمُّ عمومُ:"إنهُ لا يأتي إلا بخيرٍ".

قلتُ: قدْ أُجِيبَ عنهُ بأنَّ المرادَ منَ الحياءِ في الأحاديثِ الحياءُ الشرعيُّ، والحياءُ الذي ينشأُ عنهُ تركُ بعضِ ما يجبُ ليسَ حياءً شرعيًا بلْ هوَ عجزٌ ومهانةٌ، وإنَّما يُطْلَقُ عليهِ الحياءُ لمُشَابَهَتِه الحياءَ الشرعيَّ، وبجوابٍ آخرَ وهوَ أنّ مَنْ كانَ الحياءُ منْ خُلُقِه فالخيرُ عليهِ أغلبُ، أو أنهُ إذا كانَ الحياءُ من خُلُقِهِ كانَ الخيرُ فيهِ بالذاتِ فلا ينافيهِ حصولُ التقصيرِ في بعضِ الأحوالِ. قالَ القرطبيُّ في المفهمِ شرحُ مسلمٍ: وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قدْ جُمِعَ لهُ النوعانِ منَ الحياءِ المكتَسبِ والغريزيِّ، وكانَ في الغريزيِّ أشدَّ حياءً منَ العذراءِ في خِدْرِها، وكانَ في المكتسب في الذُّرْوَةِ العلْيا صلى الله عليه وسلم.

‌إذا لم تستح فاصنع ما شئت

7/ 1440 - وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ممَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَةِ الأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ). لفظُ الأُولى ليسَ في

(1)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(1/ 74). في (أ): "القتيبي".

(2)

أخرجه البخاري رقم (6117)، ومسلم رقم (60/ 37)، من حديث عمران بن حصين.

(3)

في "صحيحه" رقم (3483).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (4183)، وأبو داود رقم (4797)، وأحمد (5/ 273).

ص: 274

البخاريِّ بلْ في سُنَنِ أبي داودَ

(1)

، ووقعَ في حديثِ حذيفةَ:"إنَّ آخرَ ما تعلَّقَ بهِ أهلُ الجاهليةِ مِنْ كلامِ النبوةِ الأُولى -إلى آخرِه" أخرجَهُ أحمدُ

(2)

، والبزارُ

(3)

. والمرادُ منَ النبوةِ الأُولى ما اتفقَ عليهِ الأنبياءُ ولمْ يُنْسَخْ كما نُسِخَتْ شرائِعهُم، لأنهُ أمرٌ أطبقتْ عليهِ العقولُ. وفي قولِه:"فَاصْنَعْ ما شِئْتَ" قولانِ:

الأولُ: أنهُ بمعنى الخبرِ، أي صنعتَ ما شئتَ، وعبَّر عنهُ بلفظِ الأمر للإشارةِ إلى أنَّ الذي يكفُّ الإنسانَ عنْ مواقعة الشرِّ هوَ الحياءُ، فإذا تركَه توفرتْ دواعيهِ على مواقعةِ الشرّ حتَّى كأنهُ مأمورٌ بهِ، أوِ الأمرُ فيهِ للتهديدِ أي اصنعْ ما شئتَ فإنَّ اللَّهَ مجازيكَ على ذلكَ.

الثاني: أنَّ المرادَ انظرْ إلى ما تريدُ فعله فإنْ كان مما لا يستحى منهُ فافعلْه، وإنْ كانَ مما يُسْتَحَى منهُ فدعْه، ولا تبالِ بالخلْقِ.

‌المؤمن القوي خير من الضعيف

8/ 1441 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى الله مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلِّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِالله وَلَا تَعْجَزْ، وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، ولَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

. [صحيح]

(1)

في "السنن" رقم (4797).

(2)

في "المسند"(5/ 273).

(3)

كما في "كشف الأستار"(2/ 429 رقم 2028). وقال: قد اختلفوا عن ربعي فقال أبو مالك هكذا، وقال منصور: عن ربعي عن أبي مسعود.

قلت: وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 27). وقال: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح.

(4)

أخرجه مسلم (4/ 2052 رقم 34 - 2664).

قلت:

• وأخرجه أحمد (2/ 366، 370)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(623، 624)، والطحاوي (260، 261) من طريق محمد بن عجلان عن ربيعة بن عثمان عن الأعرج عن أبي هريرة. =

ص: 275

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفي كُلٍّ)[مَنْ القويِّ والضعيفِ]

(1)

(خَيْرٌ) لوجودِ الإيمانِ [في القوي والضعيفِ]

(2)

(احْرِصْ) مِنْ حَرَصَ [يحرِصُ](1) كضربَ يضرِبُ، ويقالُ: حرِصَ كسمِعَ (على ما يَنْفَعُكَ) في دينكَ ودنياكَ، (وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ) عليهِ (وَلَا تَعْجَزْ) بفتحِ الجيم وكسرِها، (وَإنْ اصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلتُ كَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، ولَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). المرادُ منَ القويِّ قويُّ عزيمةِ النفسِ في الأعمالِ الأخرويةِ، فإنَّ صاحِبَها أكثرُ إقدامًا في الجهادِ، وإنكارِ المنكَرِ، والصبرِ على [تحمل]

(3)

الأذَى في ذلكَ، واحتمالِ المشاقِ في ذاتِ اللَّهِ تعالى، والقيامِ بحقوقِهِ منَ الصلاةِ والصومِ وغيرهما. والضعيفُ بالعكس منْ [ذلك كله]

(4)

، إلا أنهُ لا يخلو عنِ الخيرِ لوجودِ الإيمانِ فيهِ، ثم أمرهُ بالحِرْصِ على طاعةِ اللهِ تعالى وطلبِ ما عندَه وعلى طلب الاستعانة به تعالى [في كلِّ أمورِه](3)؛ إذْ حرصُ العَبْدِ بغيرِ إعانةِ اللَّهِ لا [تنفعُه]

(5)

[كما قال]

(6)

:

إذا لم يكنْ عونٌ منَ اللَّهِ للفتَى

فأكثُر ما يجني عليهِ اجتهادُه

ونهاهُ عنِ العجزِ، وهوَ التساهلُ في الطاعاتِ، وقدِ استعاذَ منهُ صلى الله عليه وسلم بقولِه:"اللهمَّ إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، ومنَ العجزِ والكسلِ" وسيأتي. ونهاهُ بقولِه إذا أصابهُ شيءٌ منْ حصولِ ضررٍ أو فواتِ نفعٍ عنْ أنْ يقولَ "لو". قالَ بعضُ العلماءِ: هذا إنَّما هوَ لمنْ قاله معتقِدًا ذلكَ حتْمًا، وأنهُ لو فعلَ ذلكَ لم يصِبْه قطعًا، فأما مَنْ ردَّ ذلكَ إلى مشيئةِ اللَّهِ، وأنهُ لا يصيبُه إلَّا ما شاءَ اللهُ فليسَ مِنْ هذَا. واستدلَّ لهُ بقولِ أبي بكرٍ رضي الله عنه لرسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الغارِ:"ولوْ أنَّ أحدَهم رفعَ رأسَهُ لرآنا، وسكوتُه صلى الله عليه وسلم"

(7)

قالَ القاضي عياضٌ

(8)

: وهذا لا حجةَ فيهِ لأنهُ

= • وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(10/ 296)، والخطيب في "تاريخه"(12/ 223)، من طريق ابن عيينة عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة.

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في (أ): "فيهما".

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (أ): "هذا".

(5)

في (أ): "ينفعه".

(6)

زيادة من (أ).

(7)

أخرج البخاري (7/ 257 رقم 3922) و (8/ 325 رقم 4663).

(8)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(13/ 228).

ص: 276

إنَّما أخبرَ عن أمرٍ مستقبلٍ، وليسَ فيهِ [دعْوى لردِّ قَدرِه]

(1)

بعدَ وقوعِه.

قالَ: وكذَا جميعُ ما ذَكرهُ البخاريُّ [في الصحيح]

(2)

في بابِ ما يجوزُ منَ اللّوِ كحديثِ: لولا حدَثانُ قومِكِ بالكفرِ"

(3)

الحديثَ. "ولو كنتُ راجمًا بغيرِ بيِّنةٍ"

(4)

الحديث. "ولولا أنْ أشقَّ على أمتي"

(5)

، وشبيهُ ذلكَ؛ [فكلُّهُ]

(6)

مستقبلٌ، [ولا اعتراضَ فيهِ على قَدَرٍ]

(7)

، فلا كراهيةَ فيهِ لأنهُ إنَّما أخبرَ عنِ اعتقادِه فيما كانَ يفعلُ لولا المانعُ، [وعما هوَ في قدرتِه. فأما]

(8)

ما ذهبَ فليسَ في قدرتِه.

قالَ القاضي عياض

(9)

: فالذي عندي في معنَى الحديثِ أنَّ النَّهْيَ على ظاهرِه وعمومِه لَكنْ نَهْيُ تنزيهٍ. ويدلُّ عليهِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطانِ".

قالَ النوويُّ

(10)

: وقدْ جاءَ من استعمالِ لو في الماضي [الحديث]

(11)

قولُه صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلتُ منْ أمري ما استدبرتُ ما سُقْتُ الهدْي"

(12)

، وغيرُ ذلكَ. فالظاهرُ أنَّ النّهيَ إنما هو عنْ إطلاقِ ذلكَ فيما لا فائدةَ فيهِ فيكونُ نهيُ تنزيهٍ لا تحريمٍ، وأما ما قالَهُ تأسُّفًا على ما فات منْ طاعةٍ اللَّهِ، وما هوَ متعذِّرٌ عليهِ منْ ذلكَ [ونحوِ هذا]

(13)

فلا بأسَ بهِ، وعليهِ يُحملُ أكثرُ الاستعمالِ [الموجودِ]

(14)

في الأحاديثِ.

(1)

في (ب): "رد قدر".

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في "صحيحه"(1508 - البغا).

(4)

في "صحيحه" رقم (7239) بلفظ: "لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام، فإنَّ قريشًا استقصرت بناءهُ وجعلت له خلفًا".

(5)

في "صحيحه" رقم (7239) ورقم (7240).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

في (أ): "وأما".

(9)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(13/ 228)، وذكره النووي في "شرح مسلم"(16/ 216).

(10)

ذكره النووي في "شرحه لمسلم"(16/ 216).

(11)

زيادة من (أ).

(12)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2/ 594 رقم 1568 - البغا) من حديث جابر بن عبد الله.

(13)

زيادة من (ب).

(14)

زيادة من (ب).

ص: 277

‌عدم التواضع يؤدي إلى البغي

9/ 1442 - وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحى إلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا، حَتى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أحَدٍ"، أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). التواضعُ عدمُ الكبرِ، وتقدَّمَ تفسيرُ التكبر. وعدمُ التواضع يؤدي إلى البغي، لأنهُ يَرَى لنفسِه مزيةً على الغيرِ فيبغي عليهِ [بقولهِ أوْ فعلِه]

(2)

، ويفخرُ عليهِ ويزدريهِ. والبغيُ والفخرُ مذمومانِ. ووردتْ أحاديثُ في [سرعةِ]

(3)

عقوبةِ البغي منْها عنْ أبي بكرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ ذَنبٍ أجدرُ أوْ أحقَّ منْ أنْ يعجِّلَ اللهُ لصاحبهِ العقوبةَ في الدنيا معَ ما يدخرُ لهُ في الآخرةِ منَ البغي، وقطيعةِ الرحمِ" أخرجَهُ الترمذيُّ

(4)

، والحاكمُ

(5)

، وصحَّحاهُ. وأخرجَهُ ابنُ ماجهْ

(6)

. وأخرجَ البيهقيُّ

(7)

: "ليسَ شيءٌ مما عُصِيَ اللهُ بهِ هوَ أسرعُ عقوبةً منَ البغي".

10/ 1443 - وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ رَدّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(8)

، وَحَسّنَهُ. [حسن]

(1)

في "صحيحه" رقم (64/ 2865).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4895)، وابن ماجه رقم (4214).

(2)

في (أ)"بقول أو فعل".

(3)

في (أ)"شرعية".

(4)

في "السنن" رقم (2511).

(5)

في "المستدرك"(2/ 356) وصحَّحه، ووافقه الذهبي.

(6)

في "السنن"(4211).

قلت: وأخرجه أحمد (5/ 36، 38)، وأبو داود رقم (4902)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 234)، والطيالسي رقم (880)، والخلاصة: فهو حديث صحيح.

(7)

في "شعب الإيمان"(4/ 217 رقم 4842).

(8)

في "السنن" رقم (1931) وقال: حديث حسن.

قلت: وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(6/ 111 رقم 7635).

ص: 278

(وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ رَدّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ رَدَّ اللَّه عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيًّ، وَحَسّنَهُ).

11/ 1444 - وَلأَحْمَدَ

(1)

مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نحوُهُ. [صحيح]

(وَلأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ [نَحْوَهُ])

(2)

. في الحديثينِ دليلٌ على فضيلةِ الردِّ على منِ اغتابَ أخاهُ عندَه، وهوَ واجبٌ لأنهُ منْ بابِ الإنكارِ للمنكرِ، ولِذَا وردَ الوعيدُ على تركِهِ كما أخرجَه أبو داود

(3)

، وابنُ أبي الدنيا

(4)

: "ما منْ مسلمٍ يخذلُ مسلِمًا في موضعٍ ينتهك فيهِ حرمتُه، ويُنْتَقَصُ منْ عِرْضِهِ إلا خذلَه اللهُ في موطنٍ يحبُّ فيهِ نُصْرَتَهُ، وما من مسلم ينصر امرءًا مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته". وأخرجَ أبو الشيخِ: "مَنْ رَدّ عنْ عرضِ أخيهِ ردَّ اللهُ [عنهُ]

(5)

النارَ يومَ القيامةِ"، وتلا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}

(6)

. وأخرجَ أبو داودَ

(7)

وأبو الشيخ [أيضًا]

(8)

: "مَنْ حمَى [عن]

(9)

عِرْضَ أخيهِ في الدنيا بعثَ اللهُ لهُ ملَكًا يومَ القيامةِ يحميهِ منَ النارِ". وأخرجَ الأصبهانيُّ

(10)

: "منِ اغْتِيبَ عندَه أخوهُ فاستطاعَ نصرتَه فنصرَهُ، نصرَهُ اللَّهُ في الدُّنيا والآخرةِ، وإنْ لم ينصرْهُ أذلَّهُ اللهُ في

(1)

في "المسند"(6/ 449، 450).

وهو حديث صحيح. انظر الكلام عليه بتفصيل طيب في "غاية المرام" رقم (431) للمحدث الألباني.

(2)

في (أ): "مثله".

(3)

في "السنن" رقم (4884).

(4)

في "الغيبة والنميمة" رقم (104)، وفي "الصمت" رقم (243).

قلت: وأخرجه أحمد (4/ 30)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 167 - 168) وهو حديث حسن بشواهده.

(5)

في (أ): "عليه".

(6)

سورة الروم: الآية 47.

(7)

في "السنن" رقم (4883).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

زيادة من (أ).

(10)

في "ترغيبه" رقم (2207) وفيه إياس بن أبي عباس متروك.

قلت: وأخرجه البغوي في "شرح السنة"(13/ 107)، وابن أبي الدنيا في "الغيبة" رقم (106) وذكره ابن حجر في "المطالب العالية"(2706) وعزاه للحارث وأبي يعلى. وهو حديث ضعيف جدًا، والله أعلم.

ص: 279

الدنيا والآخرةِ". بلْ وردَ في الحديثِ أنَّ المستمعَ للغيبةِ أحدُ المغتابِيْنَ، فمنْ حضرَ الغيبةَ وجبَ عليه أحدُ أمورٍ: الردُّ عنْ عرضِ أخيهِ ولو بإخراجِ منِ اغتابَ إلى حديثٍ آخرَ، أو القيامِ عنْ [موقفِ]

(1)

الغيبةِ، أو الإنكارِ بالقلبِ، أو الكراهةِ للقولِ. وقدْ عدَّ بعضُ العلماءِ السكوتَ [على الغيبة]

(2)

كبيرةً لورودِ هذا الوعيدِ، ولدخولِه في وعيدِ مَنْ لم يغيِّرِ المنكرَ، ولأنهُ أحدُ المغتابينَ حكْمًا وإن لم يكنْ مغتابًا لغةً وشرْعًا.

‌الصدقة لا تنقص المال

12/ 1445 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًا، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ للهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلَّا عِزًا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إلَّا رَفَعَهُ الله (تَعَالَى). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). فَسَّرَ العلماءُ [عدمَ]

(4)

النقصِ بمعنيينِ:

الأولُ: أنهُ يبارِكُ لهُ فيهِ ويدفعُ عنهُ الآفاتِ، فيجبرُ [نقصَ]

(5)

الصورةِ بالبركةِ الخفية.

والثاني: أنهُ يحصلُ بالثوابِ الحاصلِ عن الصدقةِ جبرانُ نقصِ عَيْنِها، فكأنَّ الصدقةَ لم تنقصِ المالَ لما يكتبُ اللَّهُ منْ مضاعفةِ [الحسنةِ]

(6)

إلى عشرِ أمثالِها إلى أضعافٍ كثيرةٍ.

قلتُ: والمعنَى الثالثُ أنهُ تعالَى يخلفُها بِعَوضٍ يظهرُ بهِ عدمُ نقصِ المالِ، بلْ

(1)

في (أ): "موقع".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في "صحيحه" رقم (2588).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2029)، ومالك (2/ 1000) مرسلًا. وقال: لا أدري أيرفع هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "بنقص".

(6)

في (أ): "الحسنات".

ص: 280

ربَّما زادتْه، ودليلُه قولُه تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}

(1)

، وهوَ مجرَّبٌ محسوسٌ، وفي قولِه:"وما زادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلا عزًا"، حثٌّ على العفوِ عنِ المسيءِ، وعدم مجازاتهِ على إساءتِه وإنْ كانتْ جائزةً، قالَ تعالَى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}

(2)

. وفيهِ أنهُ يجعلُ اللَّهُ تعالى للعافي عِزًا وعظمةً في القلوبِ لأنَّه [بالانتصافِ]

(3)

يظنُّ أنهُ يُعَظِّمُ ويصانُ جانبُه، ويهابُ ويظنُّ أنَّ الإغضاءَ والعفوَ لا يحصلُ بهِ ذلكَ فأخبرَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بأنهُ [يزدادُ]

(4)

بالعفو عزًّا. وفي قولهِ: "وما تواضعَ أحدٌ للَّهِ"، أي لأجلِ ما أعدَّه اللَّهُ للمتواضعينَ، "إلًّا رفعهُ اللَّهُ" دليلٌ على أنَّ التواضعَ سببٌ للرفعةِ في الدارينِ لإطلاقِه. وفي الحديثِ حثٌّ على الصدقةِ، وعلى العفوِ، وعلى التواضعِ، وهذهِ منْ أمهاتِ مكارمِ الأخلاقِ.

13/ 1446 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السّلَامَ، وَصِلُوا الأرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(5)

وَصَحّحَهُ. [صحيح]

(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الأرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطِّعَامَ، وَصلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ). الإفشاءُ لغةً الإظهارُ، والمرادُ نشرُ السلامِ علَى مَنْ [يعرفُه](6) وعلى منْ لا [يعرفُه]

(6)

. وأخرجَ الشيخانِ

(7)

منْ حديثِ عبدِ اللهِ بن عمرَ أنَّ رجلًا سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ قالَ: "تُطْعِمُ الطعامَ، وتقرأُ السلامَ على مَنْ عرفْتَ ومَنْ لمْ تعرفْ". ولا بدَّ في السلام أنْ يكونَ بلفظٍ مسمعٍ لمنْ [يردُّ]

(8)

عليهِ، وقدْ أخرجَ البخاريُّ في الأدبِ المفردِ

(9)

بسندٍ صحيحٍ عنِ ابنِ

(1)

سورة سبأ: الآية 39.

(2)

سورة الشورى: الآية 40.

(3)

في (أ): "بالاتصاف".

(4)

يراد.

(5)

أخرجه الترمذي رقم (2485) وقال: صحيح، وهو كما قال.

(6)

في (أ): "تعرفه".

(7)

أخرجه البخاري رقم (12)، ومسلم (39).

قلت: وأخرجه النسائي (8/ 107).

(8)

في (أ): ترد.

(9)

رقم (1005)(ث 235).

ص: 281

عمرِ: "إذا سلَّمتَ فأسمعْ، فإنَّها تحيةٌ منْ عندِ اللَّهِ". قال النوويُّ

(1)

: أقلُّه أنْ يرفعَ صوتَهُ بحيثُ يسمعُ المسلَّمُ عليهِ، فإنْ لم يسمعْه لم يكنْ آتيًا بالسنةِ فإنْ شكَّ استظهرَ. وإنْ دخلَ مكانًا فيهِ أيقاظٌ ونيامٌ فالسنةُ ما ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ

(2)

عنِ المقدادِ قالَ: "كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يجيءُ منَ الليلِ، فيسلِّمُ تسليمًا لا يوقِظُ نائمًا، ويسمعُ اليقظانَ، فإن لقيَ جماعةً سلم عليهمْ جميعًا، ويكرهُ أنْ يخصَّ أحدَهم بالسلام، لأنهُ يولِّدُ الوحشةَ. ومشروعيةُ السلامِ لجلبِ التحابِّ والألفةِ، فقدْ أخرجَ مسلمٌ

(3)

منْ حديثِ أبي هريرة مرفوعًا: "ألا أدُّلكمُ على ما تحابُّونَ بهِ؟ أفشُوا السلامَ بينَكم". ويُشْرَعُ السلامُ عندَ القيامِ منَ الموقفِ، كما يشرعُ عندَ الدخولِ لما أخرجَهُ النسائيُّ

(4)

منْ حديثِ أبي هريرةَ مرفُوعًا: "إذا قعدَ أحدُكم فليسلِّمْ، وإذا قامَ فليسلِّمْ، فليستِ الأُولَى أحقُّ منَ الآخرةِ". [وتُكْرهُ أوْ تَحرُمُ]

(5)

الإشارةُ باليدِ أو [الرأسِ]

(6)

لما أخرجَهُ النسائيُّ

(7)

بسندٍ جيِّدٍ عنْ جابرٍ مرفُوعًا: "لا تسلِّمُوا تسليمَ اليهودِ، فإنَّ تسليمَهم بالأكفِّ والرؤوسِ"، إلا أنهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذلكَ حالَ الصلاةِ [فقدْ]

(8)

وردتْ أحاديثُ [بأنهُ]

(9)

صلى الله عليه وسلم كانَ يردُّ على مَنْ يسلِّمُ عليهِ وهوَ يصلِّي بالإشارةِ. وقدْ قدَّمنا تحقيقَ ذلكَ في شرحِ الحديث العشرين بابِ شروطِ الصلاةِ في الجزءِ الأولِ. وجُوِّزَتْ الإشارةُ بالسلامِ علَى مَنْ بَعُدَ عنْ سماعِ

(1)

في "شرحه لصحيح مسلم"(14/ 14).

(2)

في "صحيحه" رقم (174/ 2055).

(3)

في "صحيحه" رقم (54).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5193)، والترمذي رقم (2688). وقال: حسن صحيح وأخرجه ابن ماجه رقم (3692). وهو حديث صحيح.

(4)

في "عمل اليوم والليلة"(369).

قلت: أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(1008)، وأبو داود رقم (5208)، والترمذي رقم (2706)، وأحمد (2/ 230، 287، 439).

(5)

في (أ): "ويكره أو يحرم".

(6)

في (أ): "بالرأس".

(7)

في "عمل اليوم والليلة" رقم (340)، وفيه عنعنة أبي الزبير عن جابر، وقول ثور بن يزيد: حدث أبو الزبير وهي تشعر أنه لم يسمعه منه.

وقد جاء نحوه عند الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وسنده ضعيف. قاله د. حماده. والخلاصة فالحديث ضعيف، والله أعلم.

(8)

في (أ): "وقد".

(9)

في (أ): "أنه".

ص: 282

لفظِ السلامِ. قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ

(1)

: وقدْ يستَدِلُّ بالأمرِ بإفشاءِ السلامِ مَنْ قَالَ بوجوبِ الابتداءِ بالسلامِ، ويُرَدُّ عليهِ أنهُ لو كانَ الابتداءُ فرضَ عينٍ على كلِّ أحدٍ كانَ فيهِ حرجٌ ومشقةٌ، والشريعةُ على التخفيفِ والتيسيرِ، فيحملُ على الاستحبابِ اهـ. قالَ النوويُّ

(2)

: في التسليمِ علَى مَنْ لم يعرفْ إخلاصُ العملِ للهِ تعالَى، واستعمالُ التواضعِ، وإفشاءُ السلامِ الذي هوَ شعارُ الأمةِ [المحمَّديةِ]

(3)

.

وقالَ ابنُ بطالٍ

(4)

: في مشروعيةِ السلامِ على غيرِ معروفٍ استفتاحُ المخاطبةِ للتأنيسِ، ليكونَ المؤمنونَ كلُّهم إخوةً فلا يستوحشُ أحدٌ منْ أحدٍ. وتقدَّمَ الكلامُ على صلةِ الأرحامِ مستوفَى، وعلى إطعامِ الطعامِ، فيشملُ مَنْ يجبُ عليهِ إنفاقُه، ويلزمُه إطعامُه ولو عُرْفًا أو عادةً، وكالصَّدقةِ على السائلِ للطعامِ وغيرِه، فالأمرُ محمولٌ على فعلِ ما هوَ أَوْلَى منْ تركِه [ليشملَ]

(5)

الواجبَ والمندوبَ. والأمرُ بصلاةِ الليلِ في قولِه: "وصلُّوا بالليلِ"، قدْ وردَ تفسيرهُ بصلاةِ العشاءِ، والمرادُ بالناسِ اليهودُ والنَّصارى، [فإنهم لا يصلُّون تلك الساعة]

(6)

، ويُحتملُ أنهُ أُرِيدَ ذلك وما يشملُ نافلةَ الليلِ. وقولُه:"تدخلُوا الجنةَ بسلامٍ"، إخبارٌ بأنَّ هذهِ الأفعالَ منْ أسبابِ دخولِ الجنةِ، وكأن بِسبَبِهَا يحصلُ لفاعِلها التوفيقُ، وتجنبُ ما يوبِقُها منَ الأعمالِ، وحصولُ الخاتمةِ الصالحةِ.

‌الدِّين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم

14/ 1447 - وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحةُ -ثَلَاثًا-"، قُلْنَا: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، ولأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(7)

. [صحيح]

(1)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 19).

(2)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 21).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 21).

(5)

في (أ): "فيشمل".

(6)

زيادة من (أ).

(7)

في "صحيحه" رقم (55).

قلت: وأخرجه النسائي (7/ 156)، وأبو داود رقم (4944)، والترمذي رقم (1926).

وقال: حديث حسن صحيح.

• انظر ترجمته في: "الإصابة" رقم (838)، والوافي بالوفيات (10/ 4908) و"الإكمال"(4/ 88).

ص: 283

‌ترجمة تميم الداري

(وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه) هوَ أبو رُقَيَّةَ تميمُ بنُ أوسِ بنِ خارجةَ، نُسِبَ إلى جَدِّهِ دارٍ، ويقالُ الديريُّ نسبةً إلى ديرٍ كانَ فيهِ قبلَ الإسلامِ، وكانَ نصرانيًا، وليسَ في الصحيحينِ والموطأِ داريٌّ ولا ديريٌّ إلا تميمٌ، أسلمَ سنةَ تسعٍ، كانَ يختمُ القرآنَ في رَكعةٍ، وكانَ ربما ردَّدَ الآيةَ الواحدةَ الليلَ كلَّه إلى الصباحِ

(1)

، سكنَ المدينةَ ثمَّ انتقلَ منْها إلى الشامِ، ورَوَى عنهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في خطبته قصةَ الجسَّاسةِ والدجالِ

(2)

، وهي مَنْقَبةٌ لهُ وهي داخلةٌ في روايةِ الأكابرِ عنِ الأصاغرِ، وليسَ لهُ في صحيحِ مسلمٍ إلا هذا الحديثُ وليسَ لهُ في البخاري شيءٌ (قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الدِّينُ النَّصِيحَةُ ثَلَاثًا) أي قَالَها ثلاثًا (قُلْنَا: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أي مَنْ يستحقُّها (قَالَ: للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). هذا [الحديثُ]

(3)

جليلٌ. قالَ العلماءُ: إنهُ أحدُ الأحاديثِ الأربعةِ التي يدورُ عليها الإسلامُ. قالَ النوويُّ

(4)

: ليسَ الأمرُ كما قالُوه بلْ عليهِ مدارُ الإسلامِ، قالَ الخطابيُّ

(5)

: النصيحةُ كلمةٌ جامعةٌ معناها حيازةُ الحظِ للمنصوحِ لهُ، ومعنَى الإخبارِ عنِ الدينِ بها أن عماد الدين وقوامُه النصحيةُ. قالُوا: والنصحُ للَّهِ الإيمانُ بهِ ونفيُ الشريك عنهُ، وتركُ الإلحادِ في صفاتِه، ووصْفِه تعالى بصفاتِ الكمالِ والجلالِ كلِّها، وتنزيههِ تعالَى عنْ جميعِ أنواعِ النقائصِ، [وتقديسه تعالى عن الشر وإرادته]

(6)

، والقيامِ بطاعتهِ، واجتنابِ معاصيهِ، والحبِّ فيهِ، والبعضِ فيهِ، وموالاةِ مَنْ أطاعَهُ، ومعاداةِ منْ عصاهُ، وغيرِ ذلِكَ مما يجبُ

(1)

ذكر ابن حجر في "الإصابة"(1/ 488) وقال: كان كثير التهجُّد قام ليلة بآية حتى أصبح وهي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ

} [الجاثية: 21].

وقال: رواه البغوي في "الجعديات" بإسناد صحيح إلى مسروق، قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم! فذكره.

(2)

أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (119/ 2942).

(3)

في (أ): "حديث".

(4)

انظر: "صحيح مسلم شرح النووي"(2/ 37).

(5)

ذكره النووي في "شرح مسلم"(2/ 37 - 38).

(6)

زيادة من (أ).

ص: 284

لهُ تعالَى. قالَ الخطابيُّ: وجميعُ هذهِ الأشياءِ راجعةٌ إلى العبدِ في نصيحةِ نفسِه، واللَّهُ تعالَى غنيٌّ عنْ نُصْحِ الناصحِ، والنصيحةُ لكتابِه الإيمانُ بأنهُ كلام الله تعالى، [وأنه من عنده]

(1)

، وتحليلُ ما حلَّلَه، وتحريمُ ما حرَّمهُ، والاهتداءُ بما فيهِ، والتدبرُ لمعانيهِ، والقيامُ بحقوقِ تلاوتِه، والاتعاظُ بمواعظِه، والاعتبارُ بزواجرِه، والمعرفةُ لهُ. والنصيحةُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تصديقُه بما جاءَ بهِ، واتباعُه فيما أمرَ بهِ ونَهَى عنهُ، وتعظيمُ حقِّه وتوقيرُه [واحترامه]

(2)

حيّا وميِّتًا، ومحبةُ مَنْ أمرَ بمحبتِه منْ آله وصحبهِ، ومعرفةُ سنتهِ [النبوية]

(3)

، والعملُ بها ونشرُها، والدعاءُ إليها، والذبُّ عنْها. والنصيحةُ لأئمة المسلمينَ إعانتُهم على الحقِّ وطاعتُهم فيهِ، وأمرُهم به [والعمل به]

(4)

، وتذكيرُهم لحوائج العبادِ، ونصحُهم في الرفقِ والعدلِ، [وترك الباطل والظلم، وإزالة العسف والجور]

(5)

.

قالَ الخطابيُّ

(6)

: ومنَ النصيحةِ لهم الصلاةُ خلفَهم، [والجهادُ معهُم]

(7)

، وتعداد أسبابِ الخيرِ في كلِّ منَ الأقسامِ هذه لا تنحصرُ. قيلَ: وإذا أريدَ بأئمةِ المسلمينَ العلماءُ: فنصْحُهم بقبولِ أقوالِهم، وتعظيمِ حقِّهم، والاقتداءِ بهم، ويُحْتَملُ أنهُ يحملُ عليهما الحديثُ فهوَ حقيقةٌ فيهمَا. والنصيحةُ لعامةِ المسلمينَ بإرشادهم إلى مصالِحهم في [دنياهمُ وأُخْراهُم]

(8)

، وكفُّ الأَذى عنْهم، وتعليمُهم ما جهلوهُ، وأمْرهُم بالمعروفِ، ونَهْيهُم عنِ المنكرِ ونحوُ ذلكَ، والكلامُ على كلِّ قسم يحتملُ الإطالةَ، [وفي هذا]

(9)

كفايةٌ، وقدْ بسطْنا الكلامَ عليهِ في شرحِ الجامعِ الصغيرِ. قالَ ابنُ بطالٍ

(10)

: في الحديثِ دليلٌ على أنَّ النصيحةَ تُسَمَّى دِيْنًا وإسلامًا، وأنَّ الدينَ [يقع]

(11)

علَى العملِ. كما [يقع]

(12)

على القولِ، قالَ:

(1)

زيادة من (أ).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

ذكره النووي في "شرح مسلم"(2/ 37 - 38).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

في (أ)"الدين والدنيا".

(9)

في (أ)"وفيما ذكرنا النووي".

(10)

ذكره النووي في "شرح مسلم"(2/ 39).

(11)

في (أ): "يطلق".

(12)

في (أ): "يطلق".

ص: 285

والنصيحةُ فرضُ كفايةٍ يجزئُ فيها مَنْ قَامَ بها، وتسقطُ عنِ الباقينَ، والنَّصيحةُ لازمةٌ على قدرِ الطاقةِ البشريةِ إذا علمَ الناصحُ أنهُ يقبلُ نصحُهُ، ويطاعُ أمرُه، وأَمِنَ على نفسِه المكروهَ، فإنْ خَشيَ أذىً فهوَ في [حلٍّ و]

(1)

سَعَةٍ، واللهُ أعلمُ.

‌حُسن الخلق من أسباب دخول الجنة

15/ 1448 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوَى الله وَحُسْنُ الْخُلُقِ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(2)

، وَصحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(3)

. [إسناده حسن]

(وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ). الحديثُ دليلٌ على عظمةِ تقْوى اللَّهِ، وحسنِ الخلقِ. وتقوى اللهِ هيَ الإتيانُ [بالطاعاتِ]

(4)

، واجتنابُ المقبحاتِ، فمنْ أتَى بها وانتهَى عنِ المنهياتِ فهيَ مِنْ أعظمِ أسبابِ دخولِ الجنةِ. وأما حسنُ الخلُقِ [فتقدَّم]

(5)

الكلامُ فيهِ.

‌ممَّا يساعد على جلب التحابُب

16/ 1449 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ". أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى

(6)

، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(7)

. [حسن]

(وَعَنْهُ)[أي أبي هريرة]

(8)

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ. أخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحّحَهُ الحَاكِمُ). أي لا يتمُّ لكمْ شمولُ الناسِ بإعطاءِ المالِ لكثرةِ الناسِ وقلَّةِ المالِ، فهوَ

(1)

زيادة من (أ).

(2)

في "السنن" رقم (2004)، وقال: هذا حديث صحيح غريب.

(3)

في "المستدرك"(4/ 324) ووافقه الذهبي. قلت: وهو حسن الإسناد.

(4)

في (أ): "بالواجبات".

(5)

في (أ): "فقد تقدم".

(6)

في "مسنده"(11/ 428 رقم 710/ 6550).

(7)

في "المستدرك"(1/ 124).

(8)

زيادة من (ب).

ص: 286

غيرُ داخلِ في [مقدورِ]

(1)

البشرِ، ولكنْ عليكمُ أنْ تسعُوهُم ببسطِ الوجْهِ والطلاقةِ، ولينِ الجانبِ، وخفضِ الجناحِ، ونحوِ ذلكَ مما يجلبُ التحابَّ بينَكُم، فإنهُ مرادٌ للَّهِ، وذلكَ فيما عدا الكافرَ، ومَنْ أمرَ بالإغلاظِ عليهِ.

‌المؤمن مرآة آخيه

17/ 1450 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أخِيهِ الْمُؤْمِنِ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. [حسن]

(وَعَنْهُ)[أي أبي هريرة]

(3)

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ مِرآةُ أخِيهِ الْمؤمِنِ. أَخْرَجَهُ أَبو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ). أي المؤمنُ لأخيهِ المؤمنِ كالمرآةِ التي ينظرُ فيها وجهَهُ، فالمؤمنُ يطلعُ أخاهُ على ما فيهِ منْ عيبٍ، وينبهُه على إصلاحِه، ويرشدهُ إلى ما يزينُه عندَ مولاهُ تعالَى، وإلى ما يزينُه عندَ عبادِه، وهذا داخلٌ في النصيحةِ.

‌مخالطة الناس والصبر على أذاهم

18/ 1451 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصبِرُ

(1)

في (أ): "قدرة".

(2)

في "السنن" رقم (4918)، وهو حديث حسن.

قلت: وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(10/ 25)، وأورده الهيثمي في "المجمع"(8/ 22)، وقال:"رواه أبو يعلى، والبزار وزاد: "وحسن الخلق"، وفيه عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف.

وأورده الحافظ في "المطالب العالية"(2/ 387 رقم 2539) بزيادة "وحسن الخلق" وعزاه إلى ابن أبي شيبة ثم قال: "عبد الله بن سعيد، به" وعزاه إلى أبي يعلى. وأخرجه البزار رقم (1977 - كشف) ورقم (1978) ورقم (1979) من طرق. في الحديث رقم (1978)، طلحة لين الحديث قاله البزار. قلت: بل هو متروك. وأما الحديث رقم (1979) رجاله ثقات. والخلاصة: أنَّ الحديث حسن.

(3)

زيادة من (ب).

ص: 287

عَلَى أَذَاهُمْ"، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ

(1)

بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيُّ

(2)

إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ. [صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المؤمن الَّذي لا يُخَالِطُ النَّاسَ ولا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرمذيِّ إلَّا أنَّهُ لَمْ يُسَمَّ الصَّحَابِيَّ).

فيهِ أفضليةُ مَنْ يخالطُ الناسَ مخالطةً يأمرُهم فيها بالمعروفِ وينهاهُم عنِ المنكرِ، ويحسنُ معاملتَهم فإنهُ أفضلُ منَ الذي يعتزلُهم ولا يصبرُ على المخالطةِ، والأحوالُ تختلفُ باختلافِ الأشخاصِ والأحوالِ والأزمانِ، ولكلِّ حالٍ مقالٌ، ومَنْ رجَّحَ العُزلةَ فلهُ على فضلِها أدلةٌ. وقدِ استوفَاها الغزاليُّ في الإحياءِ

(3)

[وغيرِه]

(4)

.

19/ 1452 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمّ كَمَا حَسّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي"، رَوَاهُ أحْمَدُ

(5)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(6)

. [صحيح بشاهده]

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمْ كَمَا حَسّنْتَ خَلْقِي) بفتحِ

(1)

في "السنن" رقم (4032) ولفظه: "المؤمنُ الذي يخالِطُ النَّاسَ، ويصبرُ على أذاهُم، أعظَمُ أجرًا من المؤمن الذي لا يخالطُ الناس، ولا يصبر على أذاهم".

(2)

في "السنن" رقم (2507) وقال: قال ابن عدي: كان شعبة يرى أنه ابن عمر.

ولفظه: "المسلمُ إذا كانَ يخالط الناسَ، ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالطُ الناسَ ولا يصبر على أذاهُم".

والخلاصة: أنَّ الحديث صحيح، انظر الكلام عليه في "الصحيحة" رقم (939).

(3)

(2/ 224 - 236).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في "مسنده"(1/ 403).

(6)

في "صحيحه"(3/ 239 رقم 959).

قلت: وأخرجه الطيالسي (1/ 256)، وابن سعد (1/ 377)، وأبو يعلى (9/ 9 رقم 109/ 5075)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 173) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح غير عوسجة بن رماح وهو ثقة.

وللحديث شاهد من حديث عائشة أخرجه أحمد (6/ 86، 155)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 173) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

والخلاصة: أن الحديث صحيح بشاهده، والله أعلم.

ص: 288

الخاءِ المعجمةِ، وسكونِ اللامِ (فحسِّنْ خُلُقي) بضمِّها وضمِّ اللامِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان).

قدْ كانَ صلى الله عليه وسلم منْ أشرفِ العبادِ خَلْقًا وخُلُقًا، [وسؤالهُ]

(1)

ذلكَ اعترافًا بالمِنَّةِ، وطَلبًا لاستمرارِ النعمةِ، وتعليمًا للأمةِ.

* * *

(1)

في (أ): "فسؤاله".

ص: 289

[الباب السادس]: باب الذكر والدعاء

الذكرُ مصدرُ ذَكرَ، وهوَ ما يجري على اللسانِ والقلبِ، والمرادُ بهِ ذكرُ اللَّهِ تعالى. (والدعاءُ) مصدرُ دعا وهوَ الطلبُ، ويقال على الحثِّ على [فعلِ]

(1)

الشيءِ نحوَ: دعوتُ فلانًا، استعنتُه، ويُقَالُ: دعوتُ فلانًا، [استغثت به]

(2)

، ويُطْلَقُ على العبادةِ وغيرِها.

واعلم أنَّ الدعاءَ ذكرُ اللَّهِ تعالى وزيادةٌ، فكلُّ حديثٍ في فضلِ الذكرِ يصدقُ عليهِ، وقدْ أمرَ اللَّهُ تعالَى عبادَهُ بدعائِه فقالَ:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}

(3)

، وأخبرَهُم بأنهُ قريبٌ [مجيب دعوة الداع]

(4)

فقالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}

(5)

، وسمَّاهُ مخَّ العبادةِ، ففي الحديثِ عندَ الترمذيِّ

(6)

منْ حديثِ أنسٍ مرفُوعًا: "الدعاءُ مخُّ العبادةِ".

وأخبرَ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللَّهَ تعالَى يغضبُ على منْ لم يدْعُه، [فإنهُ أخرج]

(7)

البخاريُّ في الأدبِ المفردِ

(8)

منْ حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "من لم يسألِ اللَّهِ يغضبْ

(1)

زيادة من (ب).

(2)

في (ب): "سألته".

(3)

سورة غافر: الآية 60.

(4)

في (ب): "يجيب دعاءهم".

(5)

سورة البقرة: الآية 186.

(6)

في "السنن" رقم (3371) وقال: حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، وهو حديث ضعيف.

وقد ضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي" رقم (669)، وفي "ضعيف الجامع الصغير" وزيادته (3003).

(7)

في (أ): "فأخرج".

(8)

رقم (658) وهو حديث حسن، انظر:"الصحيحة" رقم (2654).

ص: 290

عليهِ"، وأخبرَ صلى الله عليه وسلم أن [الله]

(1)

يحبُّ أنْ يُسْأَلَ فأخرجَ الترمذيُّ

(2)

منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ مرفُوعًا: "سلُوا اللَّهَ منْ فضْلِه فإنهُ يحبُّ أنْ يُسْأَلَ". والأحاديثُ في الحثِّ عليهِ كثيرةٌ، وهوَ يتضمنُ حقيقةَ العبوديةِ والاعترافَ بغِنَى الربِّ تعالى، وافتقارَ العبدِ، وقدرتُه تعالَ وعجزُ العبدِ وإحاطتُه تعالَى بكلِّ شيءٍ علْمًا. فالدعاءُ يزيدُ العبدَ قُرْبًا منْ ربِّه تعالى واعتِرافًا بحقِّه، ولِذَا حثَّ صلى الله عليه وسلم على الدعاءِ وعلَّمَ اللَّهُ عبادَه دعاءَه بقولِه:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}

(3)

الآيةَ ونحوَها. وأخبرَنا بدعواتِ رُسُلِهِ [وأنبيائهم]

(4)

وتضرُّعِهم [فقال]

(5)

أيوبُ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

(6)

. وقالَ زكريا عليه السلام: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا}

(7)

، وقالَ:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}

(8)

، وقالَ أبو البشرِ:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}

(9)

الآيةَ. وقالَ يوسفُ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [الآية بتمامها]

(10)

، إلى قولهِ

(11)

: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}

(12)

. وقالَ يونسُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}

(13)

، ودعا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم في مواقفَ لا تنحصرُ عندَ لقاءِ [الأعداء]

(14)

وغيرِها، ودعواتُه في الصباحِ

(15)

، والمساءِ

(16)

،

(1)

في (ب): "أنه تعالى".

(2)

في "السنن" رقم (3571) وقال الترمذي: "هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث وحماد ليس بالحافظ وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون صحيحًا" اهـ.

قلت: وحكيم بن جبير أشد ضعفًا من ابن واقد فقد اتهمه الجوزجاني بالكذب، وإذا كان الأصح أن الحديث حديثه، فهو حديث ضعيف جدًا.

(3)

سورة البقرة: الآية 286.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

سورة الأنبياء: الآية 83.

(7)

سورة الأنبياء: الآية 89.

(8)

سورة مريم: الآية 5.

(9)

سورة الأعراف: الآية 23.

(10)

زيادة من (أ).

(11)

زيادة من (ب).

(12)

سورة يوسف: الآيات 1 - 10.

(13)

سورة الأنبياء: الآية 87.

(14)

زيادة من (ب).

(15)

و

(16)

(منها): ما أخرجه مسلم رقم (2691)، وأبو داود، (5091)، والترمذي رقم (3462)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 518) وصحَّحه على شرط مسلم، وأخرجه البخاري رقم (6405).

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله =

ص: 291

والصلوات

(1)

، وغيرِها معروفةٌ. فالعجبُ منَ الاشتغالِ بذكرِ الخلافِ بينَ مَنْ قالَ التفويضُ والتسليمُ أفضلُ منَ الدعاءِ، فإنَّ قائلَ هذا ما ذاقَ حلاوةَ المناجاةِ لربِّهِ، ولا تضرُّعَه واعترافَه بحاجتِه وذنبه.

واعلمْ أنهُ قدْ وردَ منْ حديثِ أبي سعيدٍ عندَ أحمدَ

(2)

[مرفوعًا]

(3)

: "إنهُ لا يضيعُ الدعاءَ بلْ لا بدَّ منْ إحدَى خلال ثلاثٍ: إما أنْ يعجِّلَ لهُ دعوتَه، وإما أنْ [يدَّخِرَها له]

(4)

في الآخرةِ، وإمَّا أنْ يصرفَ عنهُ منَ السوءِ مثلَها"، وصحَحهُ الحاكمُ

(5)

. وللدعاءِ شرائطُ، ولقبولِه موانعُ قدْ أودعْناها أوائلَ الجزءِ الثاني من التنويرِ شرحِ الجامعِ الصغيرِ

(6)

، وذكرْنا فائدةَ الدعاءِ معَ سبقِ القضاءِ.

= وبحمده مئة مرة، لم يأت أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه".

(ومنها): ما أخرجه الترمذي رقم (3388)، وأبو داود رقم (5068)، وابن ماجه رقم (3868)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(8)، وابن حبان في "الإحسان" (964) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا أصبح يقول: "اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت، وإليك النشور". وإذا أمسى قال: "اللهم بك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير".

(1)

(منها): ما أخرجه مسلم رقم (52/ 399) عن عمر، وأبو داود رقم (775)، والترمذي رقم (242) عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا:"أنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانَك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرَك".

(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (794)، ومسلم رقم (484)، وأبو داود رقم (877)، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللَّهمَّ ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي".

(ومنها): ما أخرجه مسلم رقم (483)، وأبو داود رقم (878)، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده:"اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجلّه، أوله وآخره، وعلانيته وسره".

(2)

في "مسنده"(3/ 18) بلفظ: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث

".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

في (أ): "يؤخرها إلى".

(5)

في "المستدرك"(1/ 493)، ووافقه الذهبي.

(6)

هو كتاب للأمير الصنعاني ولا يزال مخطوطًا، وبحوزتي صورة له. وانظر:"فيض القدير"(2/ 44 رقم 1281).

ص: 292

‌فضل ذكر الله

1/ 1453 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ"، أَخْرَجَهُ ابنُ مَاجَهْ

(1)

، وَصَحَّحَهُ

(2)

ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ الْبُخُارِيُّ

(3)

تَعْلِيقًا. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللهُ تَعَالَي: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرّكَتْ بي شَفَتَاهُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا) وهُوَ في البخاريِّ

(4)

بلفظِ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يقولُ اللهُ عز وجل: أنا عندَ ظنَّ عبدي بي، وأنا معَهُ إذا ذكرني؛ فإنْ ذكرَني في نفسِه ذكرْتُه في نفسي، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منْهم، وإنْ تقرَّبَ إليَّ شِبْرًا تقربتُ إليهِ ذِرَاعًا، وإنْ تقرَّبَ إليَّ ذِراعًا تقربتُ إليهِ باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً".

وهذهِ معيةٌ خاصةٌ تفيدُ عظمةَ ذكرِه تعالَى، وأنهُ معَ ذاكرِه برحمتِه ولُطْفِهِ وإعانتِهِ والرِّضَا بحالِه. وقالَ ابنُ أبي جمرةَ

(5)

: معناهُ أنا معَهُ بحسبٍ ما قصدَه منْ ذكرِه لي ثمَّ قالَ: يحتملُ أنْ يرادَ الذكرُ بالقلبِ، أوْ باللسانِ، أو بهمَا معًا، أو بامتثالِ الأمرِ واجتنابِ النَّهي. قالَ: والذي تدلُّ عليهِ الأخبارُ أنَّ الذكرَ على نوعينِ، أحدِهما مقطوعٍ لصاحبهِ بما تضمنُه هذا الخبرُ، والثاني على خطرٍ قالَ: والأولُ مستفادٌ منْ قولِه تعالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}

(6)

، والثاني منَ الحديث الذي فيهِ:"مَنْ لم تنْهَهُ صلاتُه عنِ الفحشاءِ والمنكرِ لم يزددْ منَ اللَّهِ إلا بُعْدًا"

(7)

، لكنْ إنْ كانَ في حالِ المعصيةِ يذكرُ اللَّه [لخوفٍ]

(8)

ووجلٍ فإنهُ يُرْجَى لهُ.

(1)

في "السنن" رقم (3792).

(2)

في "صحيحه" رقم (812).

(3)

في "صحيحه" رقم (13/ 499 رقم الباب 43) تعليقًا، وهو حديث صحيح.

(4)

في "صحيحه" رقم (7405).

قلت: وأخرجه مسلم رقم (2675)، والترمذي رقم (3603)، وابن ماجه رقم (3822). وأحمد (3/ 138)، وهو حديث صحيح.

(5)

ذكره الحافظ في "الفتح"(13/ 386).

(6)

سورة الزلزلة: الآية 7.

(7)

ذكره الطبري في "تفسيره"(11/ 155) بلفظ قال علي: وحدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى صلاةً

". وذلك من عدة طرق كلها عن الحسن.

(8)

في (أ): "بخوف".

ص: 293

‌ذكرُ اللَّه ينجي من عذابه

2/ 1454 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَل رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ الله مِنْ ذِكْرِ الله"، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ

(1)

، والطَّبَرَانيُّ

(2)

بِإِسْنَادٍ حَسَنِ. [صحيح]

(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ عَمَلًا أَنْجى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، والطَّبرانيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ). الحديثُ منْ أدلَّةِ فضلِ الذكرِ، وأنهُ من أعظم أسباب النجاة من مخاوف عذاب الآخرة، وهو أيضًا منَ المُنجياتِ منْ عذابِ الدنيا ومخاوفها، ولذا يُقرن الله تعالى الأمر بالثبات لقتال الأعداء وجهادِهم بالأمرِ بذكرِه، قال [عزَّ قائلًا كريمًا]

(3)

: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}

(4)

، وغيرُها منَ الآياتِ القرآنية، والأحاديثِ الواردةِ في مواقفِ الجهادِ.

3/ 1455 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلسًا يَذْكُرُونَ الله إلَّا حَفَّتْهُم الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

.

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا حَفَّتْهُم الْمَلائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. أَخْرَجَهُ

(1)

في "المصنف": (10/ 300 رقم 9501).

(2)

عزاه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 73)، وقال: رجاله رجال الصحيح.

قلت: وأخرجه أحمد في "المسند"(5/ 239)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 73)، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، إلا أن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش لم يدرك معاذًا.

وكذلك أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(1/ 394 رقم 519)، والعقيلي في "الضعفاء"(4/ 46).

والخلاصة: أنّ الحديث صحيح، والله أعلم.

(3)

زيادة من (أ).

(4)

سورة الأنفال: الآية 45.

(5)

في "صحيحه"(4/ 2074 رقم 38/ 2699).

ص: 294

مُسْلِمٌ). دلَّ على فضيلةِ مجالسِ الذِّكرِ والذَّاكرينَ، [وعلى]

(1)

فضيلةِ الاجتماعِ على الذِّكرِ. وأخرجَ البخاريُّ

(2)

: "إنَّ للَّهِ ملائكةً يطوفونَ في الطرقِ يلتمسونَ أهلَ الذِّكرِ، فإذا وجدُوا قومًا يذكرونَ اللَّهَ تعالَى تنادَوْا هلُمُّوا إلى حاجتِكُم، قالَ: فيحفُّونَهم بأجنحَتِهم إلى السماءِ الدُّنْيا"، الحديثَ. وهذَا منْ فضائلِ مجالسِ الذكرِ تحضرُها الملائكةُ بعدَ التماسِهم لها. والمرادُ بالذكرِ: التسبيحُ [والتهليل والتكبير]

(3)

والتحميدُ وتلاوةُ القرآنِ ونحوُ ذلكِ. وفي حدِيثِ البزَّارِ

(4)

: "إنّهُ تعالَى يسألُ ملائكتَه ما يصنعُ العبادُ؟ وهوَ أعلمُ بهمْ، فيقولونَ: يعظِّمونَ آلاءَك، ويتلونَ كتَابَكَ، ويصلُّونَ على نبيِّكَ، ويسألونكَ لآخِرَتِهِمْ ودنياهُم". والذِّكرُ حقيقةً في ذكرِ اللِّسانِ، ويُؤْجَرُ عليهِ الناطقُ، ولا يُشْتَرطُ استحضارُ معناهُ، وإنَّما يُشْتَرَطُ أنْ لا يقصدَ غيرَه، فإنِ انضافَ إلى الذكرِ باللسانِ الذكرُ بالقلبِ فهوَ أكملُ، وإنِ انضافَ إليهمَا استحضارُ معنَى الذكرِ، وما اشتملَ عليهِ منْ تعظيمِ اللهِ تعالَى ونفي النقائصِ عنهُ، ازدادَ كمالًا، فإنْ وقعَ ذلكَ في عملٍ صَالحِ [مما فرضَ]

(5)

منْ صلاةِ أو جهادٍ [أوْ غيرِهما]

(6)

فكذلكَ، فإنْ صحَّ التوجُّهُ وأخلصَ للَّهِ تعالى فهوَ أبلغُ في الكمال. وقالَ الفخرُ الرازيُّ

(7)

: المرادُ بذكرِ اللِّسانِ الألفاظُ الدالةُ على التسبيحِ والتحميدِ [والتمجيدِ]

(8)

. والذكرُ بالقلبِ التفكرُ في أدلَّةِ الذاتِ والصفاتِ، وفي أدلَّةِ التكاليفِ منَ الأمرِ والنَّهْي حتَّى يطَّلعَ على أحكامِه، وفي أسرارِ مخلوقاتِ اللَّهِ، والذكرُ بالجوارحِ هوَ أنْ تصيرَ مستغرقةً [بالطاعاتِ]

(9)

، ومنْ ثمَّةَ سمَّى اللَّهُ تعالى الصلاةُ ذِكْرًا في قولِه:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}

(10)

. وذكرَ بعضُ العارفينَ أنَّ الذِّكرَ علَى سبعةِ أنحاءٍ: فذكرُ العينين بالبكاءِ، وذكرُ الأذنينِ

(1)

في (ب): "و".

(2)

في "صحيحه" رقم (6408).

(3)

زيادة من (أ).

(4)

رقم (3062 - كشف) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 77)، وقال: رواه البزار من طريق زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النميري وكلاهما وثق على ضعفه فعاد هذا إسناده حسن" اهـ.

(5)

زيادة من (ب).

(6)

في (أ): "أو صوم أو نحو ذلك".

(7)

في "تفسيره"(4/ 143 - 144).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

زيادة من (ب).

(10)

سورة الجمعة: الآية 9.

ص: 295

بالإصغاءِ، وذكرُ اللسانِ بالثناءِ، وذكرُ اليدينِ بالعطاءِ، وذكرُ البدنِ بالوفاءِ، وذكرُ القلبِ بالخوفِ والرجاءِ، وذكرُ الروحِ بالتسليمِ والرضاءِ، ووردَ في الحديثِ ما يدلُّ على أنَّ الذكرَ أفضلُ الأعمالِ جميعِها، وهوَ ما أخرجَهُ الترمذيُّ

(1)

، وابنُ ماجهْ

(2)

، وصحَّحَه الحاكمُ

(3)

منْ حديثِ أبي الدرداءِ مرفُوعًا: "ألا أخبِرُكُم بخيرِ أعمالِكم، وأزكَاها عندَ مليككُم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٌ لكمْ منْ إنفاقِ الذهبِ والورِقِ، وخيرٌ لكمْ منْ أنْ تلْقَوْا عدوَّكم فتضربُوا أعناقَهم، ويضربُوا أعناقَكُم؟ قالُوا: بلَى، قالَ: ذِكْرُ اللَّهِ". ولا [تعارضُه]

(4)

أحاديثُ فضلِ الجهادِ، وأنهُ أفضلُ منَ الذكرِ، لأنَّ المرادَ بالذكرِ الأفضل منَ الجهادِ ذكرُ اللسانِ والقلبِ والتفكرِ في المعنَى، واستحضارِ عظمةِ الله تعالى، فهذَا أفضلُ منَ الجهادِ، والجهادُ أفضلُ منَ الذكرِ باللسانِ فقطْ. قالَ ابنُ العربيِّ: أنه ما مِنْ عملٍ صالحٍ إلا والذكرُ مشترطٌ في تصحيحِهِ، فمنْ لم يذكرِ اللَّهَ عندَ صدقتِهِ، أو صيامِه، [أو صلاته، أو حجه]

(5)

، فليس عملُه كاملًا، فصارَ الذكرُ أفضلَ الأعمالَ منْ هذهِ الحيثيةِ، ويشيرُ إليهِ حديثُ:"نيةُ المؤمنِ خيرٌ مِنْ عَمَلِهِ".

‌يطلب ممن جلس مجلسًا أن يذكر الله

4/ 1456 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(6)

وَقَالَ: حَسَنٌ. [حسن]

(1)

في "السنن" رقم (3377).

(2)

في "السنن" رقم (3790).

(3)

في "المستدرك"(1/ 496).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 446)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 73)، وقال:"رواه أحمد وإسناده حسن"، وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" رقم (519). والخلاصة: أنَّ الحديث صحيح، والله أعلم.

(4)

في (أ): "يعارضه".

(5)

زيادة من (أ).

(6)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(6/ 185 - 186 رقم 5942)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 255)، وقال أبو نعيم:"هذا حديث غريب من حديث أبي حازم وسهل، لم يكتبه إلا من هذا الوجه". وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 61) وقال: "رواه الطبراني في "الكبير"، ورجاله موثقون، إلا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي، لم أر من ذكر له ترجمة". =

ص: 296

(وَعَنْهُ) أي أبي هريرة (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ)، "فَإنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وإن شَاءَ غفرَ لهمْ". وأخرجَهُ أحمدُ

(1)

بلفظِ: "ما جلسَ قومٌ مجلِسًا لم يذكرُوا اللَّهَ تعالَى فيهِ إلَّا كانَ عليهمْ تِرَةً، وما مِنْ رجلٍ يمشي طريقًا فلمْ يذكرِ اللَّهِ تعالَى إلَّا كانَ عليهِ تِرَةً، وما مِنْ رجل أوَى إلى فراشِه فلم يذكرِ اللَّهَ إلَّا كانَ عليهِ تِرَةً". وفي روايةٍ

(2)

: "إلَّا كانَ حسرةً يومَ القيامةِ، وإنْ دخلوا الجنةَ للثوابِ". والتِرةُ بمثناةٍ فوقيةٍ مكسورةٍ فراءٍ، بمعنَى الحسرةِ، وقالَ ابنُ الأثيرِ

(3)

: هي النقصُ. والحديثُ دليلٌ على وجوبِ الذكرِ [للهِ]

(4)

، والصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المجلسِ، [لورودِ الوعيد علَى ترك ذلك]

(5)

، سيِّما معَ تفسيرِ التِّرةِ بالنارِ أو العذابِ فقدْ فُسِّرتْ بهِمَا، فإنَّ التعذيبَ لا يكونُ إلا لتركِ واجبٍ، أو فعلِ محظورٍ. وظاهرهُ أنَّ الواجبَ هوَ الذكرُ لله تعالى، والصلاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم معًا. وقدْ عُدَّتْ مواضعُ الصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم فبلغتْ ستةً وأربعينَ موضِعًا، قالَ أبو العاليةِ

(6)

: معنَى صلاةِ اللَّهِ على نبيهِ ثناؤه

= ونسبه المتقي الهندي في "الكنز"(3/ 419) رقم (7237) إلى الطبراني في "الكبير".

• ويشهد له حديث أنس عند القضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 119 رقم 147) وحديث النواس بن سمعان فيه أيضًا رقم (148)، وإسناداهما ضعيفان.

والخلاصة: إنَّ الحديث ضعيف.

وانظر: "فيض القدير" للمناوي (6/ 291 رقم 9295)، و"كشف الخفاء"(2/ 430 - 431 رقم 2836) و"المقاصد الحسنة" رقم (1260) وغيرها.

(1)

في "السنن" رقم (3380). وقال: حديث حسن صحيح.

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4856)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(404)، وأحمد (2/ 432)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (591)، والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (546). والخلاصة: فهو حديث حسن، والله أعلم.

في "مسنده"(2/ 432).

(2)

في "مسنده"(2/ 463) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 79): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

قلت: وأخرجه ابن حبان في "الإحسان"(590)، والحاكم (1/ 550).

(3)

في "النهاية"(1/ 189).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (أ).

(6)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 155، 156).

ص: 297

عليهِ عندَ ملائكتِه، ومعنَى صلاةِ الملائكةِ عليهِ الدعاءُ لهُ بحصولِ الثناءِ والتعظيمِ، [وفيها]

(1)

أقوالٌ أُخَرُ هذا أجودُها. وقالَ غيرُه: الصلاةُ منهُ تعالَى على رسولِه صلى الله عليه وسلم تشريفٌ وزيادةُ تَكْرِمَةٍ، [والصلاة]

(2)

على مَنْ دونَ النبيِّ رحمةٌ، فمعنَى قولِنا: اللَّهمَّ صلِّ على محمدٍ: عظِّمْ محمدًا، والمرادُ بالتعظيمِ إعلاءُ ذِكْرِهِ، وإظهارُ دينهِ، وإبقاءُ شريعتِه في الدنيا وفي الآخرةِ بإحرازِ مثوبتِه، وتشفيعُه في أمته، والشفاعةُ العظْمَى للخلائقِ أجمعينَ في المقامِ المحمودِ، ومشاركةُ الآلِ والأزواجِ بالعطفِ يرادُ بهِ في حقِّهم التعظيمُ اللائقُ بهمْ، وبهذَا يظهرُ وجهُ اختصاصِ الصلاةِ بالأنبياءِ استقلالًا دونَ غيرِهم، ويتأيدُ هذا بما أخرَجَهُ الطبرانيُّ

(3)

منْ حديثِ ابنِ عباسٍ يرفعُه: "إذا صليتُم عليَّ، فصلُّوا على أنبياءِ اللَّهِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالَى بعثَهم كما بعثَني"، فجعلَ العِلَّةَ البعثَة فتكونُ مختصةَ بمنْ بعثَ. وأخرجَ ابنُ أبي شيبةَ

(4)

بسندٍ صحيحٍ عنِ ابنِ عباسِ: "ما أعلمُ الصلاةَ تنبغي لأحد على أحدٍ إلَّا علَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم". وحكَى القولَ بهِ عنْ مالكٍ

(5)

وقالَ: ما تعبَّدنا بهِ. قالَ القاضي عياضٌ

(6)

: عامةُ أهلِ العلمِ على الجوازِ قالَ: وأنا أميلُ إلَى قولِ مالكٍ، وهوَ قولُ المحققينَ منَ المتكلمينَ والفقهاءِ. قَالُوا: يذكرُ غيرُ الأنبياءِ بالترضي -[لا بالصلاة]

(7)

، [والغُفرانِ]

(8)

، والصلاةُ على غيرِ الأنبياءِ يعني استقلالًا لم تكنْ منَ الأمرِ بالمعروفِ، وإنما حدثتْ في دولةِ بني هاشمٍ يعني العبيديينَ، وأما الملائكةُ [عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام]

(9)

فلا أعلمُ فيهِ حديثًا، وإنَّما يؤخذُ

(1)

في (أ): "فيه".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

ضعيف الإسناد، لضعف موسى بن عبيدة. وأخرجه الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"(ص 46 رقم 45)، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صلُّوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني" وإسناده واه جدًا. عمر بن هارون هو البلخي: متروك، وشيخه موسى بن عبيدة مثله أو أقل منه ضعفًا.

قاله الألباني في تحقيق "فضل الصلاة على النبي".

(4)

في "مصنفه"(2/ 519).

(5)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 170).

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 519).

(7)

زيادة من (أ).

(8)

زيادة من (ب).

(9)

زيادة من (أ).

ص: 298

ذلكَ منْ حديثِ ابنِ عباسٍ

(1)

، لأنَّ اللهُ سمَّاهُم رسلًا. وأما المؤمنونَ فقالتْ طائفةٌ: لا تجوزُ استقلالًا، وتجوزُ تِبْعًا فيما وردَ بهِ النصُّ كالآلِ والأزواجِ والذريةِ، ولم يذكرْ في النصِّ غيرَهم، فيكونُ ذلكَ خاصًا، ولا يقاسُ عليهمُ الصحابةُ ولا غيرُهم، وقدْ بيَّنا أنهُ يدْعَى للصحابةِ ونحوِهم بما ذكره اللهُ تعالى منْ أنهُ رضيَ عنْهم وبالمغفرةِ كما أمرَ بها رسولُه في قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

(2)

. وأما الصلاةُ عليهمْ استقلالًا فلم تردْ، والمسألةُ فيها خلافٌ معروفٌ، فقالَ بجوازِه البخاريُّ

(3)

، ووردتْ أحاديثُ بأنهُ صلى الله عليه وسلم صلَّى على آلِ سعدِ بنِ عبادةَ. [كما]

(4)

أخرجَهُ أبو داودٍ

(5)

، والنسائيُّ

(6)

، بسندٍ جيِّدٍ، ووردَ أنهُ صلى الله عليه وسلم

(7)

صلَّى على آلِ أبي أَوْفَى، فمنْ قالَ بجوازِها استقلالًا على سائِرِ المؤمنينَ فهذَا دليلُه. ومِنْ أدلَّتهِ أنَّ اللَّهَ تعالَى قالَ:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ}

(8)

، ومَنْ منعَ قالَ: هذا وردَ منَ اللَّهِ ومِنْ رسولِه صلى الله عليه وسلم ولم يردِ الإذنُ لنا. وقالَ ابنُ القيِّم

(9)

: يُصَلَّى على غيرِ الأنبياءِ والملائكةِ، وأزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وذريَّتِهِ، وأهلِ طاعتِه على سبيلِ الإجمالِ، ويُكْرَهُ في غيرِ الأنبياءِ لشخصٍ مفردٍ بحيثُ يصيرُ شِعَارًا، لا سيَّما إذا تركَ في حقِّ مِثله أو أفضلَ منهُ كما تفعلُه الرافضةُ، فلو اتفقَ وقوعُ ذلكَ مفردًا في بعضِ الأحايينِ منْ غيرِ أنْ يتخذَ شعارًا لم يكنْ فيهِ بأسٌ. اختلفُوا أيضًا في السلامِ على غيرِ الأنبياءِ بعدَ الاتفاقِ على مشروعيتِه في تحيةِ الحيِّ فقيلَ: يُشْرَعُ مُطْلَقًا، وقيلَ: تِبْعًا، ولَا يفردُ بواحدٍ لكونِه صارَ شِعَارًا للرافضةِ. ونقلَه النوويُّ

(10)

عنِ [الشيخ محمدٍ]

(11)

الجوينيِّ.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة فى "مصنفه"(2/ 519).

(2)

سورة محمد: الآية 19.

(3)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 170 - 171).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

لم أعثر عليه.

(6)

لم أعثر عليه.

(7)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6259).

وأبو داود في "السنن" رقم (1590)، والنسائي (5/ 30 رقم 2459).

(8)

سورة الأحزاب: الآية 43.

(9)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 170).

(10)

في "الأذكار"(209 - 211)، وذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 170 - 171).

(11)

زيادة من (ب).

ص: 299

قلتُ: هذا التعليلُ بكونِه صار شِعَارًا لا ينهضُ على المنعِ، والسلامُ علَى الموتَى قدْ شرَعه اللَّهُ على لسانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"السلامُ عليكمْ دارَ قومٍ مؤمنينَ"

(1)

، وكان ثابِتًا في الجاهليةِ كما قالَ الشاعرُ:

عليكَ سلامُ اللَّهِ قيسَ بنَ عاصمٍ

ورحمتُه ما شاءَ أنْ يترحَّمَا

فما كانَ قيسٌ موتُه موتُ واحدٍ

ولكنَّه بنيانُ قومٍ تهدَّما

‌فضل الذكر بعد الصبح وبعد المغرب

5/ 1457 - وَعَنْ أَبي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، عَشْرَ مَرَّاتِ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي أيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَالَ: لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ عَشرَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). زادَ مسلمٌ

(3)

: "لهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، وفي لفظٍ

(4)

: "مَنْ قَالَ ذلكَ في يومٍ مائةَ مرةٍ، كانتْ لهُ عِدْلُ عشرِ رقابٍ، وكُتِبَتْ لهُ مائةُ حسنةٍ، ومُحِيَتْ عنهُ مائةُ سيئةٍ، وكانتُ لهُ حِرْزًا منَ الشيطانِ يومَه ذلكَ حتَّى يمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاءَ بهِ إلَّا أحدٌ عملَ أكثرَ منْ ذلكَ".

وأخرجَ أحمدُ

(5)

منْ طريقِ عبدِ اللَّهِ بنِ يعيشٍ عنْ أبي أيوبَ وفيهِ: "مَنْ قَالَ

(1)

أخرجه مسلم رقم (249)، ومالك في "الموطأ"(1/ 28)، والنسائي (1/ 93، 95)، وابن خزيمة في "صحيحه"(6)، والبيهقي في "السنن"(1/ 82 - 83)، والبغوي في شرح السنة" (151)، وأحمد (2/ 300، 408)، وابن ماجه رقم (4306).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6404)، ومسلم في "صحيحه" رقم (2693)، قلت: وأخرجه الترمذي رقم (3553)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(120 - 121)، وأحمد (5/ 418).

(3)

في "صحيحه" رقم (2693).

(4)

عند مسلم في "صحيحه"(4/ 2070) رقم (28/ 2691) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

في "مسنده"(5/ 415).

ص: 300

إذَا صلَّى الصبحَ: لا إله إلَّا اللَّهُ " فذكرهُ بلفظِ: "عشرُ مرات كُنَّ كعدلِ أربعِ رقابٍ، وكُتِبَ لهُ بهِنَّ عشرُ حسناتٍ، ومحيَ عنهُ بِهِنَّ عشرَ سيئاتٍ، ورُفِعَ لهُ بهنَّ عشرُ درجاتٍ، وكُنَّ لهُ حِرْزًا منَ الشيطانِ حتَّى يمسيَ، وإذا قالَها بعدَ المغربِ فمثلُ ذلكَ"، وسندُه حسنٌ. وأخرجَهُ جعفرُ

(1)

في الذكرِ عنْ أبي أيوبَ رفعَهُ: "قال: مَنْ قالَ حينَ يصبحُ فذكرَ مثلَه". لكنْ زادَ: يُحْيِي ويُمِيتُ وقالَ: تعدلُ عشرَ رقابٍ، وكانَ لهُ مسلحةٌ منْ أولِ نهارِه إلى آخرهِ، ولم يعملْ يومئذٍ عملًا يقهرهنَّ، وإنْ قال [مثلَ]

(2)

ذلكَ حينَ يمسي فمثلُ ذلكَ". وذكرَ العشرَ الرقابِ في بعضِها، والأربعَ في بعضِها كأنهُ باعتبارِ [الذاكرينَ]

(3)

في استحضارِ [هم]

(4)

معاني الألفاظِ [بالقلوبِ]

(5)

، وإمحاضِ التوجهِ والإخلاصِ لعلَّامِ الغيوبِ، فيكونُ اختلافُ مراتبِهم باعتبارِ ذلكَ وبحسبهِ كما قال القرطبيُّ

(6)

.

‌فضل التسبيح والتحميد مائة مرة

6/ 1458 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرّةٍ حُطّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(7)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرّةٍ، [حُطَّتْ]

(8)

عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

[معنَى]

(9)

سبحانَ اللَّهِ تنزيههُ عن كل ما لا يليقُ بهِ منْ نقصٍ، فيلزمُ نفيُ الشريكِ، والصاحبِ، والولدِ، وجميعِ الرذائل. والتسبيحُ يُطْلَقُ على جميعِ ألفاظِ الذِّكرِ، ويطلقُ على صلاةِ النافلةِ، ومنهُ صلاةُ التسبيحِ خُصَّتْ بذلكَ لكثرةِ التسبيحِ

(1)

ذكر ابن حجر في "الفتح"(11/ 205).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

في (أ): "الذكر".

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "بالقلب".

(6)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 205).

(7)

أخرجه البخاري رقم (6405)، ومسلم رقم (2691).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (3466)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(826)، ومالك في "الموطأ"(1/ 209)، وابن ماجه رقم (3812)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (1262).

(8)

في (أ): "حطَّ".

(9)

في (أ): "يعني".

ص: 301

فيها. [وفي الحديث دلالة أنه يُكفِّرُ بهذا]

(1)

الذِّكرِ الخطايا، وظاهرُه ولو كبائرُ، والعلماءُ يقيدونَ ذلكَ بالصغائر، ويقولونَ: لا تُمْحَى الكبائرُ إلا بالتوبةِ. وقدْ أوردَ على هذا سؤالٌ، وهوَ أنهُ يدلُّ على أنَّ التسبيحَ أفضلُ منَ التهليلِ فإنهُ قالَ في التهليلِ:"إنَّ مَنْ قالَ مائةَ مرةٍ في يومٍ مُحِيَتْ عنهُ مائةُ سيئة" كما قدَّمناهُ، وهُنَا قالَ: حُطَّتْ عنهُ خَطاياهُ ولو كانتْ مثلَ زبدِ البحرِ. والأحاديثُ دالةٌ على أنَّ التهليلَ أفضلُ، فقدْ أخرجَ الترمذيُّ

(2)

، والنسائيُّ

(3)

، وصحَّحهُ ابنُ حِبَّانَ

(4)

والحاكمُ

(5)

منْ حديثِ جابرٍ مرفُوعًا: "أفضلُ الذكرِ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وأفضلُ ما قلتُ أنا والنبيونَ منْ قبلي: لا إلهَ إلا اللَّهُ"، وهيَ كلمةُ التوحيدِ والإخلاصِ، [وهيَ اسمُ اللَّهِ الأعظمِ]

(6)

، ومعنَى التسبيح داخلٌ فيها، [فإنه]

(7)

التنزيهُ عما لا يليقُ بالله عز وجل، وهوَ داخلٌ في لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ، إلخَ. وفضائلُها عديدةُ. وأُجيبَ عنهُ بأنهُ انضافَ إلى ثوابِ التهليلِ معَ التكفيرِ ثلاثةُ أمورٍ: رفعُ الدرجات، وكَتْبُ الحسناتِ، وعِتْقِ الرقابِ. والعِتْقُ يتضمنُ تكفيرَ جميعِ السيئاتِ، فإنَّ مَنْ أعتقَ رقبةً أعتق اللَّهُ بكلِّ عضوٍ منْها عضوًا منهُ في النارِ كما سلفَ. وظاهرُ الأحاديثِ أنَّ هذهِ الفضائلَ لكلِّ ذاكرٍ. وذكرَ القاضي

(8)

[عياض]

(9)

عنْ بعضِ العلماءِ أنَّ الفضلَ الواردَ في مثلِ هذهِ الأعمالِ الصالحةِ والأذكارِ إنَّما هوَ لأهلِ الفضلِ والدينِ والطهارةِ منَ الجرائمِ العظامِ، وليسَ مَن أصرَّ على شهواتِه وانتهكَ دينَ اللَّهِ وحرماتِه بلا حقٍّ، بالأفاضل المطهرينَ في ذلكَ، ويشهدُ لهُ قولُه تعالَى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}

(10)

الآية.

(1)

في (ب): "فيه أنه تُكفَّرَ بهذا".

(2)

الجزء الأول منه في "السنن" رقم (3383). وقال: حديث حسن غريب.

(3)

في "عمل اليوم والليلة"(831).

(4)

في "صحيحه"(846).

(5)

والحاكم في "المستدرك"(1/ 503)، وصحَّحه ووافقه الذهبي. أما الجزء الثاني من الحديث؛ فقد أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3585)، وقال: حديث غريب وحماد بن أبي حميد ليس بالقوي عند أهل الحديث.

(6)

زيادة من (ب).

(7)

في (أ): "فإن".

(8)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 208).

(9)

زيادة من (أ).

(10)

سورة الجاثية: الآية 21.

ص: 302

‌فضل تكرار القول بكلمات الحديث

7/ 1459 - وَعَن جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ قُلْتُ بعدكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَاءَ نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ جوَيْرِيةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ [لي]

(2)

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ قُلْتُ بعدكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ) بكسرِ التاءِ خطابٌ لهَا (مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَاءَ نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ. أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). عَدَدَ خَلْقِهِ مَنصوبٌ صفةُ مصدرٍ محذوفٍ تقديرُه أسبِّحهُ تسبيحًا، ومثلُه أخواتُه وخلقُه شاملٌ [لما في]

(3)

السماواتِ والأرضِ وفي الدنيا والآخرةِ. ورضاءَ نفسِه: أي عددَ مَنْ رضي الله عنهم منَ النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ، ورضاهُ عنْهم لا ينقضي ولا ينقطعُ، وزنةُ عرشِه: أي زنةُ ما لا يعلمُ قدرَ وزنهِ إلا اللهُ. ومدادُ كلماتِه: بكسرِ الميمِ، هو ما تمدُّ بهِ الدواةُ كالحبرِ، والكلماتُ: هيَ معلوماتُ اللَّهِ ومقدوراتُه، وهيَ لا تنحصرُ، وهي لا تتناهى، ومدادُها هوَ كلُّ مدَّةٍ يكتبُ بها معلومٌ أو مقدورٌ، وذلكَ لا ينحصرُ، فمتعلقهُ غيرُ منحصرٍ كما قالَ اللهُ تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}

(4)

الآيةَ. الحديثُ دليلٌ علَى فضلِ هذهِ الكلماتِ، وأنَّ قائلَها يدركُ فضيلةَ تكرارِ القولِ بالعددِ المذكورِ.

‌بيان الباقيات الصالحات في الحديث

8/ 1460 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

في "صحيحه" رقم (2726).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1503)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(161)، وابن ماجه رقم (3808)، والترمذي رقم (3555)، والنسائي في "السنن الكبرى"(6/ 48 رقم 9990/ 8).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

سورة الكهف: الآية 109.

ص: 303

"الْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ: لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وسُبْحَانَ الله، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلَّا بِاللَّهِ"، أخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ

(1)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(2)

وَالْحَاكِمُ

(3)

. [حسن]

(وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ: لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالله أكْبَرُ، والْحَمْدُ للهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلَّا بِاللهِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحّحَهُ ابْن حِبّانَ وَالْحَاكِمُ). الباقياتُ الصالحاتُ يرادُ بها الأعمالُ الصالحةُ التىِ يبقَى لصاحِبها أجْرُها أبدَ الآباد، وفسَّرها صلى الله عليه وسلم بهذِه الكلماتِ، ويحتَملُ أنهُ تفسيرٌ لقولِه تعالى:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} الآية

(4)

. وقد جاءَ في الأحاديثِ تفسيرُها بأفعالِ الخيرِ. فأخرجَ ابنُ المنذرِ

(5)

، وابنُ أبي حاتم

(6)

، وابنُ مردويْه

(7)

منْ حديثِ ابن عباسٍ: "الباقياتُ الصالحاتُ هنَّ ذِكرُ اللَّهِ: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ، وسبحانَ اللَّهِ، والحمدُ للَّهِ، وتباركَ اللَّهُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللَّهِ، وأستغفرُ اللَّهِ، وصلَّى اللَّهُ علَى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والصيامُ، والصلاةُ، والحجُّ، والصدقةُ، والعتقُ، والجهادُ، والصلةُ، وجميعُ أنواع الحسناتِ، وهنَّ الباقياتُ الصالحاتُ التي تبقَى لأهلها في الجنةِ. وأخرجَ ابنُ أَبي شيبةَ

(8)

، وابنُ المنذرِ

(9)

عنْ قتادةَ: "الباقياتُ الصالحاتُ، كلُّ شيءٍ منْ طاعةِ اللَّهِ فهوَ منَ الباقياتِ الصالحاتِ". ولا ينافي تفسيرُها في الحديثِ بما ذُكِرَ فإنهُ لا حصرَ فيهِ عليْها.

‌أحب الكلام إلى الله أربع

9/ 1461 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

في "عمل اليوم والليلة" رقم (848) عن أبي هريرة بنحوه.

(2)

في "صحيحه"(840).

(3)

في "المستدرك"(1/ 512) وصحَّحه، ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 75)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 87): رواه أحمد وأبو يعلى (1384)، وإسنادهما حسن.

وخلاصة القول: أنّ الحديث حسن، والله أعلم.

(4)

سورة الكهف: الآية 46.

(5)

و

(6)

و

(7)

عزاه إليهم السيوطي في "الدر المنثور"(5/ 398).

(8)

و

(9)

عزاه إليهما السيوطي في "الدر المنثور"(5/ 399).

ص: 304

"أَحَبُّ الْكَلَامِ إلَى الله أرْبَعٌ، لَا يَضُرُّكَ بأيِّهِنَّ بَدَأتَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ الكَلَامِ إلَى اللهِ أَرْبَعٌ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، وَلَا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). إنما كانتْ أحبَّها إليهِ تعالَى لاشتمالها على تنزيهِهِ، وإثباتِ الحمدِ لهُ، والوحدانيةِ والأكبريةِ، وقولُه:"لَا يَضُرُّكَ بِأَيّهِنَّ بَدَأْتَ"، [دلَّ]

(2)

على أنهُ لا ترتيبَ بينَها، ولكنَّ تقديمَ التنزيهِ أَوْلَى، لأنها تقديم التخليةِ بالخاءِ المعجمةِ على التحلية [بالحاء المهملةِ]

(3)

، والتنزيهُ تخليةٌ عنْ كلِّ قبيحِ، وإثباتُ الحمدِ والوحدانيةِ والأكبريةِ تحليةٌ [بكلِّ صفات]

(4)

الكمالِ، لكنَّه لما كانَ تعالَى منزَّهًا ذاتًا عنْ كلِّ قبيحٍ لم [تضرَّ البداءةُ]

(5)

بالتحليةِ، وتقديمُها على التخليةِ. والأحاديث في فضلِ هذهِ الكلماتِ مجموعةً ومتفرِّقةً بحرٌ لا تنزفُه الدِّلاءُ، ولا يتَّسع له الإملاءُ، وكفَى بما في الحديثِ منْ أنَّها الباقياتُ الصالحاتُ، وأنَّها أحبُّ الكلامِ إلى اللَّهِ تعالى.

‌من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله

10/ 1462 - وَعَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الله بْنِ قَيْسٍ، أَلَا أدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلَّا بِالله"،

(1)

في "صحيحه" رقم (2137).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3811)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(846)، وأحمد (5/ 10، 21)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (1276)، والطبراني في "الكبير" رقم (6791)، وابن حبان رقم (835) كلهم من حديث سمرة بن جندب.

• وأخرجه النسائي (841) في "عمل اليوم والليلة"، وابن حبان في "صحيحه"(833)، من حديث أبي هريرة.

• وأخرجه أحمد (4/ 36)، والنسائي (842)، في "عمل اليوم والليلة" عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

في (أ): "دال".

(3)

في (أ): "بالمهملة".

(4)

في (أ): "بصفات".

(5)

في (أ): "يضر ابتدائية".

ص: 305

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، زَادَ النَّسَائِيُّ

(2)

: "لَا مَلْجَأ مِنَ الله إلَّا إِلَيْهِ". [صحيح]

(وَعَنْ أَبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللهِ بنِ قَيْسٍ، أَلَا أدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلَّا بِاللَّهِ. مُتَّفَقُ عَلَيْهِ. زَادَ النَّسَائِيُّ منْ حَدِيثِ أبي مُوسَى: لَا مَلْجَأ مِنَ اللَّهِ إلَّا إِلَيْهِ)، أي: إنَّ ثوابَها مدَّخَرٌ في الجنةِ، وهوَ ثوابٌ نفيسٌ كما أنَّ الكنزَ أنفسُ أموالِ العبادِ، فالمرادُ مكنونُ ثوابها عندَ اللَّهِ لكمْ، وذلكَ لأنَّها كلمةُ استسلامٍ وتفويضٍ إلى اللَّهِ تعالى، واعترافٍ بالإذعانِ لهُ، وأنَّهُ لا صانعَ غيرهُ، ولا رادَّ لأمرِه، وأنَّ العبدَ لا يملكُ شيئًا منَ الأمرِ والحولُ والحركةُ والحيلةُ، أي: لا حركةَ، ولا استطاعةَ، ولا حيلةَ إلا بمشيئةِ اللَّهِ. ورُويَ تفسيرُها مرفُوعًا:"أي لا حولَ عنِ المعاصي إلَّا بعصمةِ اللَّهِ، ولا قوةَ على طاعةِ اللَّهِ إلَّا باللَّهِ"، ثمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم:"كذلكَ أخبرني جبريلُ عنِ اللَّهِ تبارك وتعالى"

(3)

. وقوله: "ولا ملجأ" مأخوذٌ منْ لجأَ إليهِ، وهوَ بفتحِ الهمزةِ، يقالُ: لجأتُ إليهِ والتجأتُ إذا استندتُ إليهِ واعتضدتُ بهِ، أي لا مستندَ منَ اللَّهِ ولا مهربَ عنْ قضائهِ إلَّا إليهِ.

‌فضل الدعاء

11/ 1463 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ"، رَوَاهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(4)

. [صحيح]

(1)

البخاري في "صحيحه" رقم (6384)، ومسلم في صحيحه رقم (2704).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1526)، والترمذي رقم (3461)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(356)، وابن ماجه رقم (3824).

(2)

في "عمل اليوم والليلة"(13، 358).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (3601)، والبزار في "كشف الأستار" رقم (3089)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 99): رواه البزار مطولًا ومختصرًا. ورجالهما رجال الصحيح غير كميل بن زياد وهو ثقة

وأخرجه الحاكم (1/ 517)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه هكذا ووافقه الذهبي.

(3)

انظر تفسير ذلك في: "الدر المنثور"(5/ 393).

(4)

أخرجه الترمذي رقم (3247)، وأحمد (4/ 267)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (1384)، والحاكم (1/ 490، 491)، وصحَّحه ووافقه الذهبي من طريق سفيان، عن =

ص: 306

(وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ. رَوَاهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ). ويدلُّ لهُ قولُه تعالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}

(1)

. وتقدَّمَ الكلامُ عليهِ.

12/ 1464 - وَلَهُ

(2)

مِنْ حَدِيثِ أنسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: "الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ". [ضعيف]

(وَلَهُ) أي للترمذيُّ (مِنْ حَدِيثِ أنسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ) أي خَالِصُها، لأنَّ مخَّ الشيءِ خالصُه، وإنَّما كانَ مخُّها لأمرينِ:

الأول: أنهُ امتثالٌ لأمرِ اللهِ تعالى حيثُ قالَ: {ادْعُونِي} .

الثاني: أنَّ الداعيَ إذا علمَ أنَّ نجاحَ الأمورِ منَ اللَّهِ انقطعَ عما سِواهُ، وأفردَه بطلبِ الحاجاتِ، وإنزالِ الفاقاتِ، وهذا هوَ مرادُ اللهِ تعالى مِنَ العبادةِ.

13/ 1465 - وَلَهُ

(3)

مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَفَعَهُ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى الله مِنَ الدُّعَاءِ"، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(4)

وَالْحَاكِمُ

(5)

. [حسن]

= منصور، عن ذر، عن يُسَيْع الحضرمي عن النعمان. وأخرجه أبو داود رقم (1479) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (714)، والطيالسي في "المسند" رقم (801)، والحاكم (1/ 491)، وصحَّحه ووافقه الذهبي، من طريق شعبة، عن منصور، به.

وأخرجه ابن ماجه رقم (3828)، والنسائي في "الكبرى"(9/ 30) كما في "تحفة الأشراف"، والترمذي رقم (3372)، وأحمد (4/ 267، 271، 276) من طرق عن الأعمش، عن ذر، به.

والخلاصة: أنَّ الحديث صحيح، والله أعلم.

(1)

سورة غافر: الآية 60.

(2)

أي للترمذي في "السنن" رقم (3371)، وقال: حديث غريب.

قلت: وهو حديث ضعيف. وقد ضعفه المحدث الألباني في "ضعيف الترمذي".

(3)

أي للترمذي في "السنن" رقم (3370).

(4)

في "صحيحه" رقم (870).

(5)

في "المستدرك"(1/ 490) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (712)، والطيالسي (1/ 253 منحة المعبود) ومن طريقه أحمد (2/ 362)، وابن ماجه رقم (3829).

والخلاصة: أنَّ الحديث حسن.

ص: 307

(وَلَهُ) أي للترمذيِّ (عنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَفَعَهُ: لَيْسَ شَيْءٌ عَلَى اللَّهِ أَكْرَمَ مِنَ الدُّعَاءِ. وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ وَالْحَاكِمُ).

14/ 1466 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الدُّعَاءُ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ لَا يُرَدُّ"، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ

(1)

وَغَيْرُهُ

(2)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(3)

وَغَيْرُهُ

(4)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ. أَخْرَجَهُ النَّسَائيُّ وَغَيْرهُ، وَصَحّحَهُ ابْن حِبّانَ وَغَيْرهُ). تقدَّمَ الحديثُ [بلفظهِ]

(5)

آخرَ بابِ الأذانِ، وتقدَّمَ الكلامُ عليهِ، ويتأكدُ الدعاءُ بعدَ الصلاةِ المكتوبةِ لحديث الترمذيِّ

(6)

. وعنْ أبي أمامةَ قال: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ الدعاءِ أسمعُ؟ قالَ: "جوفُ الليلِ، وأدبارُ الصلواتِ [المكتوباتِ]

(7)

". وأما هذهِ الهيئةِ التي يفعلُها الناسُ في الدعاءِ بعدَ السلامِ منَ الصلاةِ بأنْ يبقى الإمامُ مستقبلَ القبلةِ، والمؤتمُّونَ خلفَه يدعونَ، فقالَ ابنُ القيِّمِ

(8)

: لم يكنْ ذلكَ منْ هدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا رُوِيَ عنهُ في حديثٍ صحيحٍ ولا حسن. وقدْ وردتْ أحاديثُ في الدعاءِ بعدَ الصلاةِ معروفةً، ووردَ التسبيحُ [والتحميدُ]

(9)

والتكبيرُ كما سلفَ في الأذكارِ [بعدَ الصلاة]

(10)

.

(1)

في "عمل اليوم والليلة" رقم (68، 69).

(2)

كعبد الرزاق في "مصنفه" رقم (1909)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(10/ 225)، وأحمد (3/ 119)، وأبو داود رقم (521)، والبيهقي (1/ 410).

(3)

في "صحيحه" رقم (1696).

(4)

كالترمذي في "السنن" رقم (212) و (3594) و (3595).

والخلاصة: أنَّ الحديث صحيح.

(5)

في (أ): "باللفظ".

(6)

في "السنن" رقم (3499) وقال: حديث حسن.

قلت: أخرجه النسائي (108) في "عمل اليوم والليلة". وفي إسناده انقطاع بين عبد الرحمن بن سابط وأبي أُمامة وفيه عنعنة ابن جريج ولمتنه شواهد.

والخلاصة: فهو حديث ضعيف، والله أعلم.

(7)

في (أ): "المكتوبة".

(8)

في "زاد المعاد"(1/ 257).

(9)

زيادة من (ب).

(10)

زيادة من (أ).

ص: 308

‌مد اليدين بالدعاء

15/ 1467 - وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَبَّكُمْ حَييٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"، أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ

(1)

إلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ رَبَّكمْ حَييٌّ) من الحياءِ بزنةِ نسيٍّ وحشيٍّ (كَريمٌ يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا. أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ، [وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ])

(3)

. وصفُهُ تعالَى بالحياءِ يحملُ على ما يليقُ بجلاله وكبريائه كسائرِ صفاتِه نؤمنُ بها ولا نكيفُها، ولا يقالُ إنهُ مجازٌ، [وتطلبُ]

(4)

لهُ العلاقاتُ، هذا مذهبُ أئمةِ الحديثِ والصحابةِ وغيرِهم. "وصِفْرًا" بكسرِ الصادِ المهملةِ وسكونِ الفاءِ، أي:[خاليةً]

(5)

. وفي الحديثِ دلالةٌ على استحبابِ رفعِ اليدينِ في الدعاءِ. والأحاديثُ فيهِ كثيرةُ

(6)

. وأما حديثُ أنسٍ

(7)

: "لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يرفعُ يديْهِ في شيءٍ منَ الدعاءِ إلا في الاستسقاءِ"، فالمرادُ بهِ المبالغةُ في الرفعِ، وأنهُ لم يفعله إلا في الاستسقاءِ. وأحاديثُ رفعِه صلى الله عليه وسلم يديْهِ في الدعاءِ أفردَها الحافظُ المنذريُّ

(8)

في جزءٍ. وأخرجَ أبو داودَ

(9)

وغيرُه منْ حديثِ ابنِ عباسٍ: "المسألة أنْ ترفعَ يديكَ حذوَ منكبيكَ، والاستسقاءُ أنْ تشيرَ بأصبعٍ واحدةٍ، والابتهالُ أنْ تمدَّ يديكَ جميعًا"، وهوَ موقوفٌ. وأما مسحُ اليدينِ بعدَ الدعاءِ فوردَ فيهِ الحديثُ الآتي:

(1)

أخرجه الترمذي رقم (3556) وحسَّنه عن محمد بن بشار، وابن ماجه رقم (3865) عن بكر بن خلف، كلاهما عن ابن عدي بهذا الإسناد، وأخرجه أبو داود رقم (1488).

(2)

في "المستدرك"(1/ 497).

والخلاصة: فهو حديث صحيح، والله أعلم.

(3)

زيادة من (ب).

(4)

في (أ): "ويطلب".

(5)

في (أ): "خائبة" وهو خطأ.

(6)

منها: ما أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6341) قال أبو عبد الله: وقال الأويسيُّ حدثني محمد بن جعفر عن يحيى بن سعيد وشريك: سمعا أنسًا عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه".

(7)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (1031).

(8)

وكذلك جمع السيوطي رسالة: (فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء).

(9)

في "السنن" رقم (1489)، وهو حديث صحيح.

ص: 309

‌مسح الوجه باليدين بعد الدعاء

16/ 1468 - وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تعَالَى عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَّهُمَا حَتى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. أَخْرَجَهُ

(1)

التِّرْمِذِيُّ. وَلَهُ شَوَاهِدُ، مِنْهَا:[ضعيف]

- حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما عِنْدَ أَبي دَاوَدَ

(2)

، وَغَيْرِهِ

(3)

، وَمَجْمُوعُهَا يَقْضِي بِأَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ. [ضعيف]

(وَعَنْ عُمَرَ رَضَيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ في

(1)

في "السنن"(3386).

قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى وقد تفرد به، وهو قليل الحديث، وقد حدث عنه الناس".

قلت: ولكنه ضعيف كما في "التقريب"(1/ 197).

وقال ابن حبان: يروي عن ابن جريج وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز أشياء مقلوبة يتخايل إلى من هذا الشأن صناعته أنها معمولة لا يجوز الاحتجاج به.

انظر: "المجروحين"(1/ 253)، و"الجرح والتعديل"(1/ 2/ 145)، و"الضعفاء والمتروكين" للدارقطني رقم (165).

قلت: فمثله لا يحسن حديثه.

(2)

في "السنن" رقم (1485)، وقال أبو داود: روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية، وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضًا.

قلت: لأن فيه راويًا مجهولًا، وهو الذي رواه عن محمد بن كعب القرظي.

والخلاصة: أنّ الحديث ضعيف.

(3)

كابن ماجه رقم (1181، 3866)، والحاكم (1/ 536)، من طريق صالح بن حسان عن محمد بن كعب عن ابن عباس.

قلت: وهذا سند ضعيف، من أجل ابن حسان فإنه منكر الحديث. وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 351):"سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقال: منكر".

• وأخرج أبو داود رقم (1492) عن ابن لهيعة عن حفص بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد عن أبيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا فرفع يديه فمسح وجهه بيديه".

قلت: هذا سند ضعيف، لجهالة حفص بن هاشم، وضعف ابن لهيعة.

والخلاصة: فجميع هذه الطرق لا يتقوى الحديث بها لشدة ضعفها. فهو ضعيف.

ص: 310

الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَّهُمَا حَتى يَمْسَحَ بهِمَا وَجْهَهُ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. ولَهُ شَوَاهِدُ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ، وَغَيْرِهِ، وَمَجْمُوعُهَا يَقْضِي بِأنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ). فيهِ دليلٌ على مشروعيةِ مسحِ الوجْهِ باليدينِ بعدَ الفراغِ منَ الدعاءِ، قيلَ: وكأنَّ المناسبةَ أنهُ تعالَى لما كانَ لا يردُّهما صِفْرًا فكأنَّ الرحمةَ أصابتْهما [فناسبَ]

(1)

إفاضةَ ذلكَ على الوجْهِ الذي هوَ أشرفُ الأعضاءِ وأحقُّها بالتكريمِ.

17/ 1469 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيّ صَلَاةً"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(2)

، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(3)

. [ضعيف]

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيّ صَلاةً. أَخْرَجَهُ التِّرمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ). المرادُ أحقُّهَم بالشفاعةِ، أو القربِ منْ منزلتِه في الجنةِ، وفيهِ فضيلةُ الصلاةِ عليهِ صلى الله عليه وسلم. وقدْ تقدَّمت قريبًا، ولوَ أضافَ هذا [الحديثَ]

(4)

إلى ما سلفَ [لكانَ]

(5)

أوفقَ [الحديث]

(6)

.

‌سيد الاستغفار

18/ 1470 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إله إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ

(1)

في (أ): "فيناسب".

(2)

في "السنن" رقم (484). وقال: حديث حسن غريب.

(3)

في "صحيحه" رقم (911).

قلت: وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 177)، والبغوي في "شرح السنة" رقم (686)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 2342) من طرق.

والخلاصة: أنَّ الحديث ضعيف، والله أعلم.

(4)

زيادة من (ب).

(5)

في (أ): "كان".

(6)

زيادة من (أ).

ص: 311

لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِر لِي، فَإنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أْنْتَ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

. [صحيح]

(وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ يَقولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلهَ إلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِر لِي، فَإنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ). وتمامُ الحديثِ: "مَنْ قالَها منَ النهارِ موقِنًا بها فماتَ منْ يومِه قبلَ أنْ يمسيَ [فهو مِنْ أهلِ]

(2)

الجنةِ، ومَنْ قالَها منَ الليلِ وهوَ موقِنٌ بها فماتَ قبلَ أنْ يصبِحُ فهوَ منْ أهلِ الجنةِ".

قالَ الطيبيُّ

(3)

: لما كانَ هذا الدعاءُ جامِعًا لمعاني التوبةِ أستُعير لهُ اسمُ السيدِ، وهوَ في الأصلِ الرئيسُ الذي يقصدُ إليهِ في الحوائجِ، ويرجعُ إليهِ في الأمورِ. وجاءَ في روايةِ الترمذيِّ

(4)

: "ألا أدلُّكَ على سيِّدِ الاستغفارِ"، وفي حديثٍ جابرٍ عندَ النسائيِّ

(5)

: "تعلَّمُوا سيِّد الاستغفارِ". وقولُه: "لا إله إلا أنتَ خلَقتني" إلخ وقعَ في روايةٍ

(6)

: "اللهمَّ لكَ الحمدُ لا إلهَ إلا أنتَ خلقْتني إلخ"، وزادَ فيهِ:"آمنتُ لكَ مخلِصًا لكَ ديني". وقولُه: "وأنا عبدُكَ" جملةٌ مؤكدةٌ لقولِه: أنتَ ربي، ويحتملُ أنَّ عبدَكَ بمعنَى عابِدُكَ فلا يكونُ تأكيدًا، ويؤيدهُ عطفُ قولِه: وأنا على عهدِكَ. ومعناهُ كما قالَ الخطابيُّ

(7)

: أنا على ما عاهدتُكَ عليهِ وواعدتُكَ منَ الإيمانِ بكَ، وإخلاصِ الطاعةِ لكَ ما استطعتُ، ومتمسكٌ بهِ ومنجز وعدَكَ في التوبةِ والأجْرِ. وفي قولهِ:"ما استطعت"، اعترفَ بالعجزِ والقصورِ عنِ القيامِ بالواجبِ منْ حقِّه تعالَى.

قالَ ابنُ بطالٍ (7): يريدُ بالعهدِ الذي أخذَهُ الله على عبادِهِ حيثُ أخرجَهُم أمثالَ الذرِّ، وأشهدَهُم على أنفسهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}

(8)

؟ فأقرَّوا لهُ بالربوبيةِ،

(1)

في "صحيحه" رقم (6306).

(2)

في (أ): "دخل".

(3)

انظر: "فتح الباري"(11/ 99).

(4)

في "السنن" رقم (3393).

(5)

في "السنن الكبرى"(6/ 121 رقم 10301/ 4).

(6)

أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (8309)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 119)، وقال: فيه عمرو بن الحصين العقيلي وهو متروك.

(7)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 99).

(8)

سورة الأعراف: الآية 172.

ص: 312

وأذعنُوا لهُ بالوحدانيةِ، وبالوعدِ ما قالَ على لسانِ نبيِّهِ أنَّ منْ ماتَ لا يشركُ بي شيئًا [أن يدخلَهُ]

(1)

الجنةَ. ومعنَى "أبوءُ": أقِرُّ وأعترفُ، وهوَ مهموزٌ، وأصلهُ البواءَ، ومعناهُ اللزومُ، ومنهُ: بوَّأهُ اللَّهُ منزلًا أي أسكنَه فكأنهُ ألزمهُ بهِ، "وأبوءُ بذنْبي" أعترفُ بهِ وأقرُّ. وقولُه:"فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوبَ إلَّا أنتَ"، اعترفَ بذنبِه أولًا ثمَّ طلبَ غفرانَه ثانيًا. وهذا من أحسنِ الخطاب، وألطفِ الاستعطافِ كقولِ أبي البشرِ:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

(2)

.

وقد اشتملَ الحديثُ على الإقرارِ بالربوبيةِ لله تعالَى، وبالعبوديةِ للعبدِ، [وبالتوحيد لله تعالى]

(3)

، والإقرارِ بأنهُ الخالقُ، والإقرارُ بالعهدِ الذي أخذَهُ على الأممِ، [والإقرار]

(4)

بالعجزِ عنِ الوفاءِ منَ العبدِ بالعهدِ، والاستعاذةُ بهِ تعالَى منْ شرِّ السيئاتِ، نحوُ:"نعُوذُ باللَّهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا"

(5)

. والإقرارُ بنعمتِه تعالى على عبادِه [وإفرادها]

(6)

للجنسِ، والإقرارُ بالذنبِ، وطلبُ المغفرةِ، وحصرُ الغفرانِ فيهِ تعالَى. وفيهِ أنهُ لا ينبغي طلبُ الحاجاتِ إلا بعدَ الوسائلِ، وأما استشكال أنهُ كيفَ يستغفرُ النبي وقدْ غُفِرَ

(7)

لهُ صلى الله عليه وسلم ما تقدَّمَ [مِنْ ذنبِه]

(8)

وما تأخرَ، وهوَ أيضًا معصومٌ، فإنهُ منَ الفضولِ لأنهُ صلى الله عليه وسلم أخبرَ بأنهُ يستغفرُ اللَّهَ ويتوبُ إليهِ في اليومِ سبعينَ

(9)

مرةً، وعلَّمنا الاستغفارَ فعلينا التأسيّ

(1)

في (أ): "دخل".

(2)

سورة الأعراف: الآية 23.

(3)

في (ب): "في التوحيد له".

(4)

زيادة من (ب).

(5)

وهو جزء من حديث خطبة الحاجة. أخرجه أبو داود (2/ 591 رقم 2118)، والترمذي (3/ 13 رقم 1105)، والنسائي (6/ 89)، وابن ماجه (1/ 609) رقم (1892)، وابن الجارود رقم (679)، الحاكم (2/ 182 - 183)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 178)، والبيهقي (7/ 146)، والدرمي (2/ 142)، وأحمد (1/ 392 - 393، 432)، والطيالسي (45 رقم 338) من حديث ابن مسعود.

(6)

في (ب): "وأفردها".

(7)

يشير إلي قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 1، 2].

(8)

زيادة من (ب).

(9)

ما أخرجه البخاري (11/ 101 رقم 6307) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".

ص: 313

والامتثالُ لا إيرادُ السؤالِ والإشكالِ. وقدْ علم مَنْ خاطَبَهم بذلكَ فلم يوردوا إشكالًا ولا سؤالًا، ويكفينا كونُه ذكرَ اللَّهَ تعالى على كلِّ حالٍ، وهوَ مثلُ طلِبنَا للرزقِ، وقدْ تكفَّلَ بهِ وتعليمُه لنا ذلكَ:{وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}

(1)

، وكلُّه تعبدٌ وذكرٌ للَّهِ تعالَى.

‌سؤال العافية في الدين والدنيا والأهل والمال

19/ 1471 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يُصْبِحُ:"اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ في دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي. اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِيني، وَعَنْ شِمَالي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي"، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ

(2)

، وَابْنُ مَاجَهْ

(3)

، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(4)

. [صحيح]

(وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ في دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ [عَوْرَاتِي]

(5)

وآمِنْ [رَوْعَاتِي]

(6)

، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وابْنُ مَاجَهْ، وَصَحّحَه الْحَاكِمُ). العافيةُ في الدينِ السلامةُ منَ المعاصي والابتداعِ وتركِ ما يجبُ والتساهلِ في الطاعاتِ، وفي الدّنيا السلامةِ من شُرورِهَا ومَصَائِبِها، وفي الأهلِ السَّلامةُ مِنْ سوءِ العِشرَةِ والأمراض والأسقام، شغلهُم بطلب التوسُّع في الحطام وفي المالِ منَ الآفاتِ التي تحدثُ فيه، وسترُ العوراتِ عامٌّ لعورةِ البدنِ والدينِ والأهلِ والدنيا والآخرةِ، وتأمينُ الروعاتِ كذلكَ، والروعاتُ جمعُ روعةٍ

(1)

سورة المائدة: الآية 114.

(2)

في "عمل اليوم والليلة"(566).

(3)

في "السنن" رقم (3871).

(4)

في "المستدرك"(1/ 517) وصحَّحه، ووافقه الذهبي.

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5075). وهو حديث صحيح، والله أعلم.

(5)

في (أ): "عورتي".

(6)

في (أ): "روعتي".

ص: 314

وهي الفزعُ. [وسألَ]

(1)

الله الحفظَ لهُ منْ جميعِ الجهاتِ لأنَّ العبدَ بينَ أعدائهِ منْ شياطينِ الإنس والجن كالشاةِ بين الذئابِ إذا لم يكن له حافظٌ من اللَّهِ من قوةٍ. وخصَّ الاستعاذةَ بالعظمةِ عنِ الاغتيالِ منْ تحتِه، لأنَّ الاغتيالَ أخذُ الشيءِ خفيةً، وهوَ أنْ يخسفَ بهِ الأرضَ كما صنعَ اللَّهُ تعالَى بقارونَ، أوْ بالغرقِ كما صنعَ بفرعونَ، فالكلُّ اغتيالٌ منَ التَّحتِ.

20/ 1472 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ: "اللَّهمّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِنْ زوَالِ نِعْمِتِكَ، وَتَحوُّل عَافِيَتِكَ، وفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وجَميع سَخَطِكَ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيع سَخَطِكَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). الفجأةُ بفتح الفاءِ وسكونِ الجيمِ مقصورٌ، وبضمِّ الفاءِ وفتحِ الجيمِ والمدِّ، وهي البغتةُ، وزوالُ النعمةِ لا يكونُ منهُ تعالَى إلا بذنبٍ [يُصيبُه]

(3)

العبدُ، فالاستعاذةُ منَ الذنبِ في الحقيقةِ كأنهُ قالَ: نعوذُ بك مِنْ سيِّئَاتِ أعْمالِنَا، وهو تعليمٌ للعِبادِ، وتحوُّلُ العافية: انتقالُها، ولا يكونُ إلّا بحصولِ ضدِّهَا.

‌الاستعاذة من غلبة الدَّين والعدو وشماتة الأعداء

21/ 1473 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ"، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ

(4)

، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ

(5)

. [حسن]

(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عمرو رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمّ إني أعوذُ بِكَ

(1)

في (أ): "نسأل".

(2)

في "صحيحه"(4/ 2097 رقم 96/ 2739).

قلت: وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 531)، وأبو داود في "السنن" رقم (1545).

(3)

في (أ): "من".

(4)

في "السنن"(8/ 265 رقم 5475)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(5)

في "المستدرك"(1/ 531) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه.

ص: 315

مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ). غلبةُ الدَّيْنِ ما يغلبُ المدينُ قضاؤُه. ولا ينافي الاستعاذةَ كونُه صلى الله عليه وسلم استدانَ

(1)

وماتَ ودرعُه مرهونةٌ في شيءٍ منْ شعيرٍ، فإنَّ الاستعاذةَ منَ الغلبةِ بحيثُ لا يقدرُ على قضائِه، ولا ينافيهِ أنَّ اللَّهَ معَ المدينِ حتَّى يقضيَ دينَه ما لم يكنْ فيما يكرهُ اللَّهُ تعالى، ورُوِيَ هذَا عنْ عبدِ اللَّهِ بْنِ جعفرٍ

(2)

مرفُوعًا لأنهُ يحملُ على ما لا غلبةَ فيهِ، فمنِ استدانَ دَيْنًا يعلمُ أنهُ لا يقدرُ على قضائِه فقدْ فعلَ محرَّمًا، وفيهِ وردَ حديثُ:"منْ أخذَ أموالَ الناسِ يريدُ أداءَها أدَّاها اللَّهُ عنهُ، ومنْ أخذَها يريدُ إتلافَها أتلفَهُ اللَّهُ" أخرجَهُ البخاريُّ

(3)

، وقدْ تقدَّمَ. ولذَا استعاذَ صلى الله عليه وسلم منَ المغرَمِ وهوَ الدَّينُ، ولمَّا سألْته عائشةُ عنْ وجهِ إكثارِه منَ الاستعاذةِ منهُ قالَ: إنَّ الرجلَ إذا غرِمَ حدَّثَ فكذبَ، ووعد فأخلفَ"

(4)

، فالمستدينُ يتعرَّضُ [لهذا الأمرِ العظيمِ]

(5)

. وأما غلبةُ العدوِّ أي الباطلِ لأنَّ العدوَّ في الحقيقةِ إنَّما هو المعادي في أمرٍ باطلٍ، إما لأمرٍ دينيٍّ، أو [لأمرٍ]

(6)

دنيويٍّ، كغصبِ الظالمِ لحقِّ غيرِه معَ عدمِ القدرةِ على الانتصافِ منهُ أو غيرِ ذلكَ، وأما شماتةُ الأعَداءِ [فهيَ]

(7)

فرحُ العدوِّ [بضرٍّ نزلَ]

(8)

بعدوِّهِ. قالَ ابنُ بطالٍ: شماتةُ الأعداءِ ما ينكأُ القلبَ، [وتبلغُ]

(9)

بهِ النفسُ أشدَّ مبلغٍ. وقدْ قالَ هارونُ لأخيهِ عليه السلام: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ}

(10)

، أي لا تفرحْهم بما يصيبني [من عتابك ووجدك عليَّ بالمعصية]

(11)

.

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(5/ 140 رقم 2508) و (5/ 140 رقم 2509 ورقم 2513) من حديث أنس، وأخرجه البخاري رقم (1962 - البغا)، ومسلم رقم (1603)، من حديث عائشة.

(2)

أخرجه ابن ماجه في "السنن" رقم (2409)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 23) وصحَّحه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. انظر: الصحيحة رقم (1000) و (1029).

(3)

في "صحيحه" رقم (2387).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2411).

(4)

أخرجه النسائي في "السنن"(8/ 264 رقم (5472).

وهو حديث صحيح. وقد صححه الألباني في "صحيح النسائي" رقم (5054).

(5)

في (أ): "لهذين الأمرين العظيمين".

(6)

زيادة من (ب).

(7)

في (أ): "فهو".

(8)

في (أ): "لضر ينزل".

(9)

في (أ): "يبلغ".

(10)

سورة الأعراف: الآية 150.

(11)

زيادة من (أ).

ص: 316

‌معنى الصمد

22/ 1474 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلهَ إلَّا أَنْتَ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفوًا أحَدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أجَابَ". أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ

(1)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إني أَسْأَلُكَ بِأَنِّي [أشْهَدُ]

(3)

أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلهَ إلَّا أنْتَ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفوًا أَحَدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ. أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ). الأحدُ صفةُ كمالٍ لأنَّ الأحدَ الحقيقيَّ ما يكون منزَّهَ الذاتِ عنْ [أنحاءِ]

(4)

التركيبِ والتعددِ، وما يستلزمُ أحدَهما كالجسميةِ والتحيزِ والمشاركةِ في الحقيقةِ وخواصها، كوجوبِ الوجود والقدرةِ الذاتيةِ، والحكمةِ الناشئةِ عنِ الألوهيةِ. والصمدُ السيدُ الذي يُصمدُ إليهِ في الحوائجِ، ويقصدُ، والمتصفُ بهِ على الإطلاقِ هوَ الذي يستغني عنْ غيرِه مُطلَقًا، وكلُّ ما عداهُ [محتاجٌ]

(5)

إليهِ وليس ذلك إلَّا اللَّهُ تعالَى وتقدَّس. ووصفُه بأنهُ لم يلدْ معناهُ لم يجانسْ ولم يفتقرْ إلى ما يعينُهُ أو يخلفُ عنهُ لامتناعِ الحاجةِ والفناءِ عليهِ، وهوَ ردٌّ على مَنْ قالَ: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ

(6)

، ومَنْ قالَ: عزيرٌ ابنُ اللَّهِ

(7)

،

(1)

أخرجه أبو داود رقم (1493)، والترمذي رقم (3475)، وابن ماجه رقم (3857).

(2)

في "صحيحه" رقم (891).

قلت: وصحَّحه الحاكم في "المستدرك"(1/ 504)، إلا أنه قال:"لقد سألت الله باسمه الأعظم" وقال: صحيح على شرطهما.

(3)

في (أ): "أشهدك".

(4)

في (أ): " أجزاء".

(5)

في (أ): "يحتاج".

(6)

يشير إلى قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} . [الإسراء: 40].

(7)

يشير إلى قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ .... } [التوبة: 30].

ص: 317

والمسيحُ ابنُ اللَّهِ

(1)

. وقولُه: لم يولد [أي]

(2)

لم يسبقْه عدمٌ.

فإنْ قلتَ: المعروفُ تقدمُ كونِ المولودِ مولُودًا على كونِه والدًا فكانَ هذا يقتضي أنْ يقالَ: [الذي]

(3)

لم يولدْ ولم يلدْ. قلتُ: القصدُ الأصليُّ هنا نفيُ كونِه تعالَى ليسَ لهُ ولدٌ كما ادَّعاهُ أهلُ الباطلِ، ولم يدَّعِ أحدٌ أنهُ تعالَى مولودٌ، فالمقامُ مقامُ تقديمِ نفي ذلكَ.

فإنْ قلتَ: فَلِمَ ذكرَ ولم يولدْ معَ عدمِ منْ يدَّعيهِ؟ قلتُ: تتميمًا لتفردِ اللَّهِ تعالَى عنْ مشابهاتِ المخلوقينَ، وتحقيقًا لكونِه ليسَ كمثلِه شيءٌ. والكُفُؤُ المماثلُ، أي لم يكنْ أحدٌ يماثلُه في شيءٍ منْ صفاتِ كمالِه وعلُوِّ ذاتِه.

وفي الحديثِ دليلٌ على أنهُ ينبغي تحرِّي هذهِ الكلماتِ عندَ الدعاءِ، لإخبارِه صلى الله عليه وسلم أنه تعالى إذا سُئِلَ بها أعطَى، وإذا دُعِيَ بها أجابَ، والسؤالُ الطلبُ للحاجاتِ، والدعاءُ أعمُّ منهُ فهوَ منْ عطفِ العامِّ على الخاصِّ.

‌دعاء الصباح والمساء

23/ 1475 - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أصْبَحَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ بكَ أصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ"، وإِذَا أمْسَى قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، إلَّا أنَّهُ قَالَ:"وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"، أَخْرَجَهُ الأَرْبَعةُ

(4)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ. وَإِذَا أَمْسَى قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ،

(1)

يشير إلى قوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ

} [التوبة: 30].

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

أبو داود رقم (5068)، والترمذي رقم (3391)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (564)، وابن ماجه رقم (3868).

قلت: وأخرجه البغوي في "شرح السنة" رقم (1325)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (1119)، وابن حبان رقم (2355 - موارد).

قال الترمذي: حديث حسن وصححه النووي في "الأذكار" وابن حجر في "أماليه" كما في "الفتوحات الربانية"(3/ 86).

ص: 318

إلَّا أَنَّهُ [قَالَ]

(1)

: وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ. أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ). متعلِّقٌ الظرفُ [مقدر]

(2)

أي بقوتِك وقدرتِكَ وإيجادكَ أصبحْنا، أي: دخلْنا في الصباحِ؛ إذْ أنتَ الذي أوجدْتَنا، وأوجدتَ الصباحَ، ومثلُه أمسيْنا. والنشورُ منْ نشرَ الميتَ إذَا أحياهُ، وفيهِ مناسبةٌ لأنَّ النومَ أخو الموتِ، فالإيقاظُ منهُ كالإحياءِ بعدَ الإماتةِ كما ناسبَ في المساءِ ذكرُ المصيرِ، لأنه ينامُ فيهِ، والنومُ كالموتِ. وفيهِ الإقرارُ بأنَّ كلَّ إنعامٍ منَ اللَّهِ تعالَى.

‌الدعاء بالحسنة في الدنيا والآخرة

24/ 1476 - وَعَنْ أَنسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَبّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفي الآخِرَةِ حَسَنةَ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَبّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

قال [القاضي]

(4)

عياضٌ

(5)

: إنما كانَ يدعُو بهذهِ الآية لِجمعِها معاني الدعاءِ كلِّه منْ أمرِ الدنيا والآخرةِ. قالَ: والحسنةُ عندَهم [ههنا]

(6)

النعمةُ، فسألَ نعيم الدنيا والآخرة، والوقايةَ منَ العذابِ نسألُ اللَّهَ أنْ يمنَّ علينا بذلكَ. وقدْ كثرَ كلامُ السلفِ في تفسيرِ الحسنةِ. فقالَ ابنُ كثيرٍ

(7)

: الحسنةُ في الدنيا تشملُ كلَّ مطلوبٍ دنيويٍّ منْ عافيةٍ ودارٍ رحْبةٍ، وزوجةٍ حسناءَ، وولدٍ بارٍّ، ورزقٍ واسعٍ، وعلمٍ نَافعٍ، وعملٍ صالحٍ، ومرْكَبٍ هنيٍّ، وثيابٍ جميلةٍ، إلى غيرِ ذلكَ مما شملتْه عباراتُهم؛ فإنَّها مندرجةٌ في حسناتِ الدنيا، وأما الحسنةُ في الآخرةِ فأعلاها

(1)

في (أ): "يقول".

(2)

زيادة من (أ).

(3)

البخاري رقم (6389)، ومسلم رقم (2690).

(4)

زيادة من (ب).

(5)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 190 - 192).

(6)

زيادة من (ب).

(7)

في "تفسيره"(1/ 251)، وذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 192).

ص: 319

دخول الجنةِ وتوابعُه منَ الأمنِ، وأما الوقايةُ منَ النارِ فهو يقتضي تيسيرُ أسبابِه في الدنيا منِ اجتنابِ المحارِمِ، وتركِ الشبهاتِ أوِ العفوِ [محضًا]

(1)

، ومرادُه بقولِه: وتوابعُه، ما يلحقُ بهِ في الذكرِ لا ما يتبعه حقيقةً.

‌الدعاء بغفران الجهل والخطأ والعمد والهزل

25/ 1477 - وَعَنْ أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: "اللَّهُمّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْري، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتي، وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ ليَ جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). الخطيئةُ الذنبُ، والجهلُ ضدُّ العلمِ، والإسْرافُ مجاوزةُ الحدِّ في كلِّ شيءٍ. وقولُه: في (أمري) يحتملُ تعلُّقهُ بكلِّ ما تقدَّمَ، أو بقولهِ إسرافي فقط. والجدُّ بكسرِ الجيم ضدُّ الهزلِ. وقولُه:(وخطئي وعمدي) منْ عطْفِ الخاصِّ علَى العامِّ؛ إذِ الخطيئةُ تكونُ عنْ جدٍّ وعنْ هزْلٍ، وتكريرُ ذلكَ لتعددِ الأنواعِ التي تقعُ منَ الإنسانِ منَ المخالفاتِ، والاعترافِ بها، وإظهارِ أنَّ النَّفسَ غيرُ مبرَّأةٍ منَ العيوبِ إلا ما رحمَ علامُ الغيوبِ. وقولُه:(وكلُّ ذلكَ عندي) خبرُه محذوفٌ أي موجودٌ. ومعنَى (أنْتَ المقدِّمُ) أي تقدِّمُ مَنْ تشاءُ منْ خَلْقِكَ، فيتصفُ بصفاتِ الكمالِ، ويتحققُ بحقائقِ العبوديةِ بتوفيقك، وأنتَ المؤخِّرُ لمنْ [تشاءُ]

(3)

(1)

زيادة من (ب).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه "(11/ 196 رقم 6398)، ومسلم في "صحيحه "(4/ 2087 رقم 70/ 2719).

(3)

في (أ): "يشاء".

ص: 320

منْ عبادِكَ [بخذلانِكَ وتبعيدكَ]

(1)

لهُ عنْ درجاتِ الخيرِ. قالَ المصنفُ: وقعَ في حديثِ ابنِ عباسٍ أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُه في صلاةِ الليلِ، وتقدَّمَ بيانُه. ووقعَ في حديثِ عليٍّ

(2)

عليه السلام أنهُ كانَ يقولُه بعدَ الصلاةِ. واختلفتِ الرواياتُ هلْ كانَ يقولُه بعدَ السلام أو قبلَه؟ ففي مسلمٍ

(3)

: "أنهُ كانَ يقوله بينَ التشهُّدِ والسلامِ"، وأوردَهُ ابنُ حِبَّانَ

(4)

في صحيحهِ بلفظِ: "كانَ إذا فرغَ من الصلاةِ"، وهوَ ظاهرٌ في أنهُ بعدَ السلامِ، ويحتملُ حمله على قبل السلام، ويحتمل أنهُ كانَ يقولُه قبلَه وبعدَه.

‌الدعاء بخير الدَّارين

26/ 1478 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِيني الَّذِي هُؤ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إلَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادةَ لِي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمّ أَصْلِحْ لِي دِيني الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتي إِلَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)، تضمَّنَ الدعاءُ بخيرِ الدَّاريْنِ، وليسَ فيهِ دلالةٌ على جوازِ الدعاءِ بالموتِ، بلْ إنَّما دلَّ على سؤالِ أنْ يجعلَ الموتَ في قضائِه عليهِ ونزولهِ بهِ راحةً منْ شرورِ الدنيا، ومِنْ شرورِ القبرِ لعمومِ كلِّ شرِّ، أي منْ كلِّ شرٍّ قبلَه وبعدَه.

(1)

في (أ): "بتبعيدك".

(2)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(1/ 535 رقم 201/ 771).

(3)

في "صحيحه"(1/ 536 رقم 202/ 771).

(4)

(5/ 297 رقم 1966).

قلت: وأخرجه البغوي في "شرح السنة" رقم (572)، والترمذي رقم (3421) ورقم (3422) والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 32).

(5)

في "صحيحه" رقم (2720).

ص: 321

‌على المؤمن أن يطلب العلم النافع

27/ 1479 - وَعَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَني، وَعَلِّمْني مَا يَنْفَعُنِي، وارْزُقْني عِلْمًا يَنْفَعَني"، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ

(1)

وَالْحَاكِمُ

(2)

. [صحيح]

(وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ انْفَعْني بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقُنِي عِلْمًا يَنْفَعَني. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ).

28/ 1480 - وَللتِّرْمِذِيِّ

(3)

مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نحوُهُ، وَقَالَ في آخِرِهِ:"وَزِدْنِي عِلْمًا، الْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ" وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. [صحيح دون الحمد لله]

(وَلِلتِّزمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُريرةَ نحوُهُ، وَقَالَ في آخِرِهِ: وَزِدْني عِلْمًا، الْحَمْدُ للَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ). فيهِ أنهُ لا يطلبُ منَ العلمِ إلَّا النافعَ، [والنافعُ فيما]

(4)

يتعلقُ بأمرِ الدين والدنيا مما يعودُ فيها على نفعِ الدينِ، [وما]

(5)

عدا [هذا]

(6)

العلمَ [فإنهُ ممنْ]

(7)

قالَ اللَّهُ فيهِ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}

(8)

، أي:[ينفعهم في الدين]

(9)

؛ فإنهُ نفى النفعِ عنْ علمِ السحر لعدمِ نفعِه في الآخرةِ، [بلْ]

(10)

لأنهُ ضارٌّ فيها، وقدْ ينفعُهم في الدنيا لكنَّهَ لم يعدَّهُ نفعًا.

(1)

لم يخرجه النسائي، انظر:"تحفة الأشراف"(10/ 319 رقم 14356).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (251)، من حديث أبي هريرة.

(2)

في "المستدرك "(1/ 510) صححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(3)

في "السنن" رقم (3599)، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

والخلاصة: أن الحديث صحيح دون قوله: "الحمد لله على كل حال".

(4)

في (أ)"أن".

(5)

زيادة من (أ).

(6)

في (أ): "هذه".

(7)

في (أ): "مما قال".

(8)

سورة البقرة: الآية 102.

(9)

في (ب): "في أمر الدين".

(10)

زيادة من (ب).

ص: 322

‌من أدعية متنوعة للنبي صلى الله عليه وسلم

-

29/ 1481 - وَعَنْ عَائِشَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّه عَاجِلِهِ وآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللهُمّ إنِّي أسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَولٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا"، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ

(1)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ

(2)

وَالْحَاكِمُ

(3)

. [صحيح]

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ: اللَّهُمّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ، وآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ [وَالْحَاكِمُ])

(4)

.

الحديثُ تضمَّنَ الدعاءَ بخيرِ الدنيا والآخرةِ، والاستعاذةِ منْ شرِّهِما، وسؤالِ الجنةِ وأعمالِها، وسؤالِ أنْ يجعلَ اللَّهُ كلَّ قضاءِ خيرًا، وكأنَّ المرادَ سؤالُ اعتقادِ العبدِ أنَّ كلَّ ما أصابَهُ خيرٌ، وإلا فإنَّ كلَّ قضاءٍ قضَى اللَّهُ بهِ خيرٌ، وإنْ رآهُ العبدُ شرًا في الصورةِ. وفيهِ أنهُ ينبغي للعبدِ تعليمُ أهلِه أحسنَ الأدعيةِ، لأنَّ كلَّ خيرٍ ينالونَهُ فهوَ لهُ، وكلُّ شرٍّ يصيبُهم فهوَ مضرةٌ عليهِ.

(1)

في "السنن" رقم (3846).

(2)

في "صحيحه" رقم (869).

(3)

في "المستدرك"(1/ 521 - 522).

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 134)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(10/ 264)، والبخاري في "الأدب المفرد"، رقم (639) كلهم من حديث عائشة. وهو حديث صحيح، انظر:"الصحيحة" رقم (1532).

(4)

زيادة من (ب).

ص: 323

‌الوزن للأعمال يوم القيامة

30/ 1482 - وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ

(1)

عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمنِ، خَفِيفَتَانِ عَلى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ". [صحيح]

(وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) هذا آخرُ حديثٍ خَتَمَ بهِ البخاريُّ صحيحَهُ، وتبعَهُ جماعةٌ منَ الأئمةِ في خَتْمِ تصانيفهم في الحديث. والمرادُ منَ الكلمتانِ الكلامُ نحوُ كلمةِ الشهادةِ، وهوَ خبرٌ مقدَّمٌ. وقولُه:(سبحان اللَّهِ إلخ) مبتدأٌ مؤخرٌ، وصحَّ الابتداءُ وإنْ كان جملةً لأنهُ في معنَى هذا اللفظِ، وإنَّما قُدِّمَ الخبرُ تشويقًا للسامعِ إلى المبتدأِ، سيِّما بعدَ ما ذكرَ منَ الأوصافِ. والحبيبةُ بمعنَى المحبوبةِ، أي محبوبتانِ لهُ تعالَى، والخفيفةُ فعيلةٌ بمعنَى فاعلةٌ، والثقيلةُ فعيلةٌ بمعنَى فاعلةٌ أيضًا، قالَ الطيبيُّ

(2)

: الخفةُ مستعارةٌ للسهولةِ، شبَّه سهولةَ جريانِها على اللسانِ بما خفَّ على الحاملِ منْ بعضِ الأمتعةِ فلا يتعبه كالشيءِ الثقيلِ. وفيهِ إشارةٌ إلى أنَّ سائرَ التكاليفِ شاقةٌ على [النفسِ]

(3)

ثقيلةٌ، وهذهِ سهلةٌ [مع ثقلها]

(4)

في الميزانِ كثقلِ الشاقِ منَ الأعمالِ. وقدْ سُئِلَ بعضُ السلفِ عنْ سببِ ثقلِ الحسنةِ وخفةِ السيئةِ فقال: لأنَّ الحسنةَ حضرتْ مرارتُها وغابتْ حلاوتُها فثقلتْ، فلا يحملنَّكَ ثقلُها علَى تركِها، والسيئةُ حضرتْ حلاوتُها وغابتْ مرارتُها فلذلكَ خَفَّتْ، فلا تحملنَّكَ خفتُها علَى ارتكابِها، والحديثُ منَ الأدلةِ على ثبوتِ الميزانِ [كما دلَّ عليهِ]

(5)

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6406)، ومسلم في "صحيحه" رقم (2694).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (3467)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(830)، وابن ماجه رقم (3806).

(2)

ذكره ابن حجر في "الفتح"(11/ 208).

(3)

في (أ): "الإنسان".

(4)

في (ب): "عليها مع أنها تثقل".

(5)

في (أ): "وقد نطق به".

ص: 324

القرآنُ. واختلفَ العُلماءُ في الموزونِ فقيلَ: الصحفُ لأنَّ الأعمالَ أعراضٌ فلا توصفُ بثقلٍ ولا خِفَّةٍ، ولحديثِ: السجلاتُ والبطاقةُ. وذهبَ أهلُ الحديثِ والمحقِّقونَ إلى أنَّ الموزونَ نفسُ الأعمالِ [حقيقة]

(1)

، وأنَّهَا تجسدُ في الآخرةِ، ويدلُّ لهُ حديثُ جابرٍ مرفُوعًا:"تُوضَعُ الموازينُ يومَ القيامةِ، فتوزنُ الحسناتُ والسيئاتُ، فمنْ ثقلتْ حسناتُه على سيئاتِه مثقالَ حبةٍ دخلَ الجنةَ، ومَنْ ثقلتْ سَيِّئَاتُهُ على حسناتِه مثقالَ حبةٍ دخلَ النارَ، قيلَ فمنِ استوتْ حسناتُه وسَيِّئَاتُهُ؟ قالَ: أولئكَ أصحابُ الأعرافِ" أخرجَهُ خيثمةُ

(2)

في فوائدِه، وعندَ ابنِ المباركِ في الزهدِ

(3)

عنِ ابنِ مسعودٍ نحوُه مرفُوعًا.

والأحاديثُ ظاهرةٌ أنَّ أعمالَ بني آدمَ توزنُ، وأنَّهُ عامٌّ لجميعِهم. وقالَ بعضُهم: إنهُ يخصُّ المؤمِنَ الذي لا سيئةَ لهُ ولهُ حسناتٌ كثيرةٌ زائدةٌ على محضِ الإيمانِ فيدخلُ الجنةَ بغيرِ حسابٍ كما جاءَ في حديثِ السبعينَ الألفِ. ويخصُّ منهُ الكافرَ الذي لا حسنةَ لهُ ولا ذنبَ لهُ غيرُ الكفرِ، فإنهُ يقعُ في النارِ بغيرِ حسابٍ ولا ميزانٍ. ونقلَ القرطبيُّ

(4)

عنْ بعضِ العلماءِ أنهُ قالَ: الكافرُ مطلقًا لا ثوابَ لهُ، ولا توضعُ حسناتُه في الميزانِ لقولِه تعالَى:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}

(5)

، ولحديث أبي هريرة

(6)

في الصحيحِ: "الكافرُ لا يزنُ عندَ اللَّهِ جناحَ بعوضةٍ".

وأُجِيبَ: بأنَّ هذا مجاز عنْ حقارةِ قدْرهِ، ولا يلزمُ منهُ عدمُ الوزنِ، والصحيحُ أنَّ الكافرَ تُوزَنُ أعمالُه إلَّا أنهُ على وجهينِ، أحدِهما أنَّ كفرَهُ يوضَعُ في الكِفَّةِ ولا يجدُ حسنةً يضعُها في الأُخرى لبطلانِ الحسناتِ معَ الكفرِ فتطيشُ التي لا شيءَ فيها.

(1)

زيادة من (أ).

(2)

عزاه إليه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(7/ 211) بدون ذكر السند.

(3)

في "زوائد نعيم بن حماد"(رقم 411)، بسند ضعيف جدًا لأن في سنده أبو بكر الهذلي من المتروكين.

(4)

في "الجامع لأحكام القرآن"(11/ 66).

(5)

سورة الكهف: الآية 105.

(6)

أخرجه البخاري رقم (4729)، ومسلم رقم (2785).

ص: 325

قالَ القرطبيُّ

(1)

: وهذا ظاهرُ قولِه تعالَى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}

(2)

؛ فإنهُ وصفَ الميزانَ بالخِفَّةِ.

والثاني: أنهُ قدْ يقعُ منهُ العتقُ والبرُّ والصلةُ وسائرُ أنواعِ الخيرِ الماليةِ، مما لو فعلَها [المسلمُ]

(3)

لكان لهُ حسناتٌ، فمنْ كانتْ لهُ جُمِعَتْ ووضُعِتْ في الميزانِ، غيرَ أنَّ الكفرَ إذا قابلَها رجَحَ بها. ويحتملُ أنَّ هذهِ الأعمالَ توازِنُ ما يقعُ منهُ منَ الأعمالِ السيئةِ كظلمِ غيرهِ، وأخْذِ مالِه، وقطعِ الطريقِ، فإنْ ساوتْها عُذِّبَ بالكفرِ، وإنْ زادتْ عُذِّبَ بما كانَ زَائِدًا على الكفرِ، وإنْ زادتْ أعمالُ الخيرِ معهُ طاحَ عقابُ سائِرِ المعاصي [وبقي عقابُ]

(4)

الكفرِ كما جاءَ في حديثِ

(5)

أبي طالبٍ أنهُ في ضَحْضَاحٍ منْ نارٍ.

اللَّهمَّ ثقِّلْ موازينَ حسناتِنا إذا وُزِنَتْ، وخفِّفْ موازينَ سيئاتِنا إذا [وضعت]

(6)

في كفةِ الميزانِ وُضِعَتْ. واجعلْ سجلاتِ ذنوبِنا عندَ بطاقةِ توحيدِنا طائشةً منْ كفةِ الميزانِ، ووفقْنا بجعلِ كلمةِ التوحيدِ عندَ المماتِ آخرَ ما ينطقُ بهِ اللسانُ.

قدِ انتهَى بحمدِ وليِّ الإنعامِ ما قصدْناهُ منْ شرْحِ بلوغِ المرامِ (سبل

(1)

في "التذكرة" في باب: (بيان كيفية الميزان ووزن الأعمال فيه ومن قضى لأخيه حاجة).

(2)

سورة الأعراف: الآية 9، والمؤمنون: الآية 103.

(3)

في (أ): "المؤمن".

(4)

في (أ): "وعذب على الكفر".

(5)

• أخرج البخاري في "صحيحه"(7/ 193 رقم 3885)، ومسلم في صحيحه رقم (210)، عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعلَّهُ تنفعُه شفاعتي يوم القيامة، يجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه، يغلي منه أمُّ دماغه"، وفي رواية: "يغلي منه دماغه من حرارة نعليه".

• وأخرج البخاري في "صحيحه"(7/ 193 رقم 3885)، ومسلم في "صحيحه" رقم (209) عن العباس رضي الله عنه قال:"قلت: يا رسول الله ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".

• وفي رواية: "أنه كان يحوطك، وينصرك ويغضب لك فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات النار، فأخرجته إلى ضحضاح".

(6)

في (ب): "وزنت".

ص: 326

السلام)، نسألُ اللَّهَ أنْ يجعلَه منْ موجباتِ دخولِ دارِ السلامِ، وأنْ يتجاوزَ عما ارتكبناهُ منَ الخطايا والآثامِ، وأنْ يجعلَ في [صحائف]

(1)

الحسناتِ ما جرتْ بهِ فيهِ، وفي غيرِه الأقلامُ، وأنْ ينفعَ بهِ الأنامَ إنهُ ذو الجلالِ والإكرامِ، والمولَى لعبادِه منْ إفضالِه كلَّ مرامٍ.

والحمدُ للَّهِ حمدًا لا يفنَى ما بقيتِ الليالي والأيامُ، ولا يزولُ إنْ زالَ دورانُ الشهورِ والأعوامُ. والصلاةُ والسلامُ على رسولهِ الكاشفِ بأنوارِ الوحي كلَّ ظلامٍ، وعلى آلهِ العلماءِ الأعلامِ.

قال المؤلف بلَّ اللَّه تعالى بوابل رحمته ثراه: وافقَ الفراغُ منهُ في صباحِ الأربعاءِ ليلةَ السابعِ والعشرينَ منْ شهرِ ربيعٍ الآخرِ سنة 1164 ختمَها اللَّهُ تعالَى بخيرِ، ومَا بعدَها منَ الأعوامِ اهـ.

[وَافَقَ الفراغُ من رقم هذه النسخة يوم الأحد لعله غرة شهر صفر المظفر، جعلنا اللَّهُ ظافرين بحسنات الدنيا والآخرة بجاه

(2)

سيد المرسلين، وآله الأطهرين. ذلك الشهر ثاني شهور سنة سبعة وعشرين وثلاث مائة وألف من هجرة من له العز والشرف، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبه الأخيار. والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأل الله العفو والعافية في الدارين، وأن يلطفَ بنا ويحسن الختام، بجاه (2) سيد الأنام وآله الكرام، وأن يغفر لكاتبه ولجميع المؤمنين والمؤمنات، ولا حول ولا قوة إلا بالله]

(3)

.

[ووافق الفراغ من تحرير هذا الكتاب المبارك صباح يوم الثلاثاء شهر الحجة الحرام سنة (1308 هـ) كتبه بخط أفقر عباد اللَّهِ إليه، الراجي عفوه وغفرانه علي بن محسن المعافى سامحهما الله تعالى على نسخة صحيحة بخط مولانا السيد العلامة القدوة عبد الله بن محمد الأمير جزاه الله خير الدارين، وقد كتب في آخرها بالقبطية بلغ قراءة مع بعض الطلبة، وتصحيحًا عن نسخة المؤلف رحمه الله

(1)

في (ب): "صفات".

(2)

انظر: "التوسل وأنواعه وأحكامه" للمحدث محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله. آلف بينها ونسَّقها: محمد عيد العباسي.

(3)

زيادة من النسخة (أ).

ص: 327

وقدس الله روحه، ومراجعة البدر التمام. فأرجو أنه قد صحَّ صحة كاملة وإن كان الخطأ والنسيان من طبيعة الإنسان. كان ذلك ليلة الأحد سادس شهر صفر (1196 هـ)، كتبه عبد الله بن محمد الأمير عفا الله عنهما. انتهى.

فالحمد لله ولي الإعانة، والتوفيق على كل حال، وصلَّى اللَّهُ على محمد وآلهِ وصحبه وَسَلَّمَ]

(1)

.

* * *

(1)

زيادة من من النسخة (ب).

• وبهذا يتمُّ تحقيقنا لكتاب: "سُبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام"، للعلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى.

هو تحقيق متوسِّط، بذلتُ فيه جهدًا طيبًا، ووقتًا طويلًا، رجَوت به خدمة الإسلام، وتذليل الصعاب أمام طلاب العلم. فأسأله سبحانه أنه ينفع به، ويجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وفي الختام أشكر كل من ساعدني في هذا الكتاب بأي جهد وبأي عمل، وأخص منهم زوجتي "محفوظة علي شرف الدين"، التي سهرت معي الليالي الطوال أثناء خدمة هذا السِّفر العظيم، سائلًا المولى أن يبقيها خير قرين ومُعين.

المحقِّق

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 328