المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب صلاة التطوع 331 - عَنْ «رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي - سبل السلام شرح بلوغ المرام - ط الحديث - جـ ٢

[الصنعاني]

فهرس الكتاب

‌باب صلاة التطوع

331 -

عَنْ «رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سَلْ، فَقُلْت: أَسْأَلُك مُرَافَقَتَك فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقُلْت: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

332 -

وَعَنْ «ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَفِظْت مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ

أَيْ صَلَاةُ الْعَبْدِ التَّطَوُّعَ فَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ وَحُذِفَ فَاعِلُهُ.

فِي الْقَامُوسِ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ: النَّافِلَةُ.

عَنْ «رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سَلْ، فَقُلْت: أَسْأَلُك مُرَافَقَتَك فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقُلْت: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ رضي الله عنه) هُوَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ كَانَ خَادِمًا لِرَسُولِ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم صَحِبَهُ قَدِيمًا وَلَازَمَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو فِرَاسٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ فَرَاءٌ آخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم سَلْ فَقُلْت أَسْأَلُك مُرَافَقَتَك فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْت هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِك» أَيْ عَلَى نَيْلِ مُرَادِ نَفْسِك (بِكَثْرَةِ السُّجُودِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) حَمَلَ الْمُصَنِّفُ السُّجُودَ عَلَى الصَّلَاةِ نَفْلًا فَجَعَلَ الْحَدِيثَ دَلِيلًا عَلَى التَّطَوُّعِ وَكَأَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ كَوْنُ السُّجُودِ بِغَيْرِ صَلَاةٍ غَيْرَ مُرْغَبٍ فِيهِ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَالسُّجُودُ وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَى الْفَرْضِ لَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَرَائِضِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّمَا أَرْشَدَهُ صلى الله عليه وسلم إلَى شَيْءٍ يَخْتَصُّ بِهِ يَنَالُ بِهِ مَا طَلَبَهُ.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ إيمَانِ الْمَذْكُورِ وَسُمُوِّ هِمَّتِهِ إلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ وَأَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَعَزْفِ نَفْسِهِ عَنْ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا.

وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُرْشِدْهُ صلى الله عليه وسلم إلَى نَيْلِ مَا طَلَبَهُ إلَّا بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ مَطْلُوبَهُ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ.

ص: 333

رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ - وَلِمُسْلِمٍ: «كَانَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»

333 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ - وَلِمُسْلِمٍ: «كَانَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» .

وَعَنْ «ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ حَفِظْت مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ» هَذَا إجْمَالٌ فَصَّلَهُ بِقَوْلِهِ «رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ» تَقْيِيدُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي الْمَسْجِدِ " وَكَذَلِكَ " قَوْلُهُ «وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ» لَمْ يُقَيِّدْهُمَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَكَأَنَّهُ تَرَكَ التَّقْيِيدَ لِشُهْرَةِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا «وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ» فَيَكُونُ قَوْلُهُ عَشْرَ رَكَعَاتٍ نَظَرًا إلَى التَّكْرَارِ كُلَّ يَوْمٍ (وَلِمُسْلِمٍ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «كَانَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»

هُمَا الْمَعْدُودَتَانِ فِي الْعَشْرِ وَإِنَّمَا أَفَادَ لَفْظُ مُسْلِمٍ خِفَّتَهُمَا، وَأَنَّهُ لَا يُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِهِ سِوَاهُمَا وَتَخْفِيفُهُمَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " حَتَّى أَقُولَ أَقَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ " يَأْتِي قَرِيبًا.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النَّوَافِلَ لِلصَّلَاةِ وَقَدْ قِيلَ فِي حِكْمَةِ شَرْعِيَّتِهَا: إنَّ ذَلِكَ لِيَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَرِيضَةِ جَبْرًا لِمَا فَرَّطَ فِيهَا مِنْ آدَابِهَا وَمَا قَبْلَهَا لِذَلِكَ، وَلِيَدْخُلَ فِي الْفَرِيضَةِ، وَقَدْ انْشَرَحَ صَدْرُهُ لِلْإِتْيَانِ بِهَا وَأَقْبَلَ قَلْبُهُ عَلَى فِعْلِهَا (قُلْت) قَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ فَإِنْ كَانَ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ اُنْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكْمِلُونَ بِهَا فَرِيضَتَهُ ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ» انْتَهَى وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَا قِيلَ مِنْ حِكْمَةِ شَرْعِيَّتِهَا وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «إنَّهُ لَا يُصَلَّى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَيْهِ» قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَرَى كَرَاهَةَ النَّفْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ.

333 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ص: 334

334 -

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

335 -

وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَفِي رِوَايَةٍ " تَطَوُّعًا ".

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) لَا يُنَافِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ عَلِمَتْهَا عَائِشَةُ وَلَمْ يَعْلَمْهَا ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا مِنْ الْأَرْبَعِ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّيهِمَا مَثْنَى وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ شَاهَدَ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا مِنْ غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّيهَا أَرْبَعًا مُتَّصِلَةً وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» وَحَدِيثُ أَنَسٍ «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ كَعَدْلِهِنَّ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَأَرْبَعٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَعَدْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ

وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَبْلَ الظُّهْرِ سِتُّ رَكَعَاتٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ تَارَةً وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا وَعَنْهَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ وَتَارَةً يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَعَنْهُمَا أَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ.

وَلِمُسْلِمٍ «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .

(وَعَنْهَا) أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) تَعَاهُدًا أَيْ مُحَافَظَةً وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتْرُكُهُمَا حَضَرًا وَلَا سَفَرًا وَقَدْ حُكِيَ وُجُوبُهُمَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (وَلِمُسْلِمٍ) أَيْ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»

أَيْ أَجْرُهُمَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالدُّنْيَا الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا أَثَاثُهَا وَمَتَاعُهَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي فِعْلِهِمَا وَأَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِوَاجِبَتَيْنِ إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْعِقَابَ فِي تَرْكِهِمَا بَلْ الثَّوَابُ فِي فِعْلِهِمَا.

ص: 335

وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ، وَزَادَ «أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» - وَلِلْخَمْسَةِ عَنْهَا «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . .

336 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ. وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَصَحَّحَهُ.

(وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ اسْمِهَا وَتَرْجَمَتِهَا (قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ " كَأَنَّ الْمُرَادَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا فِي يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ وَلَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي (بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ) وَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةِ) أَيْ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ (تَطَوُّعًا) تَمْيِيزٌ لِلِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ زِيَادَةٌ فِي الْبَيَانِ وَإِلَّا فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ (وَلِلتِّرْمِذِيِّ) أَيْ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ (نَحْوُهُ) أَيْ نَحْوُ حَدِيثِ مُسْلِمٍ (وَزَادَ) تَفْصِيلَ مَا أَجْمَلَتْهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ (أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ) هِيَ الَّتِي ذَكَرَتْهَا عَائِشَةُ فِي حَدِيثِهَا السَّابِقِ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا) هِيَ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ) هِيَ الَّتِي قَيَّدَهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِفِي بَيْتِهِ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ) هِيَ الَّتِي قَيَّدَهَا أَيْضًا بِفِي بَيْتِهِ (وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ) هُمَا اللَّتَانِ اتَّفَقَ عَلَيْهِمَا ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ فِي حَدِيثَيْهِمَا السَّابِقَيْنِ (وَلِلْخَمْسَةِ عَنْهَا) أَيْ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ (مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا) يُحْتَمَلُ أَنَّهَا غَيْرُ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ سَابِقًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعٌ فِيهَا الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ مَرَّ ذِكْرُهُمَا (حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ)

أَيْ مَنَعَهُ عَنْ دُخُولِهَا كَمَا يُمْنَعُ الشَّيْءُ الْمُحَرَّمُ مِمَّنْ حُرِّمَ عَلَيْهِ.

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ» هَذِهِ الْأَرْبَعُ لَمْ تُذْكَرْ فِيمَا سَلَفَ مِنْ النَّوَافِلِ فَإِذَا ضُمَّتْ إلَى حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ الَّذِي عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ كَانَتْ‌

‌ النَّوَافِلُ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَبَعْدَهَا

سِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً (رَوَاهُ

ص: 336

337 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

338 -

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرَانَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا» .

أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهُ

) وَأَمَّا صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ فَقَطْ فَيَشْمَلُهُمَا حَدِيثُ «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» .

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ» .

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مَفْتُوحَةً هُوَ أَبُو سَعِيدٍ فِي الْأَشْهَرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلِ بْنِ غُنْمٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ سَكَنَ الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى الْبَصْرَةِ وَابْتَنَى بِهَا دَارًا وَكَانَ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ إلَى الْبَصْرَةِ يُفَقِّهُونَ النَّاسَ، وَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بِهَا سَنَةَ سِتِّينَ، وَقِيلَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ» أَيْ لِكَرَاهِيَةِ (أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً) أَيْ طَرِيقَةً مَأْلُوفَةً لَا يَتَخَلَّفُونَ عَنْهَا فَقَدْ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ أَوَّلِ الْوَقْتِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُنْدَبُ الصَّلَاةُ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إذْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ " قَبْلَ الْمَغْرِبِ " لَا أَنَّ الْمُرَادَ قَبْلَ الْوَقْتِ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ (وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ» فَثَبَتَ شَرْعِيَّتَهُمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

338 -

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرَانَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا» .

(وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرَانَا فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا) فَتَكُونُ ثَابِتَةً بِالتَّقْرِيرِ أَيْضًا فَثَبَتَتْ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ بِأَقْسَامِ السُّنَّةِ الثَّلَاثَةِ وَلَعَلَّ أَنَسًا لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِهِمَا وَبِهَذِهِ تَكُونُ النَّوَافِلُ

ص: 337

339 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى إنِّي أَقُولُ: أَقَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ» ؟ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

340 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

عِشْرِينَ رَكْعَةً تُضَافُ إلَى الْفَرَائِضِ وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً فَيَتِمُّ لِمَنْ حَافَظَ عَلَى هَذِهِ النَّوَافِلِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً وَثَلَاثُ رَكَعَاتِ الْوِتْرِ تَكُونُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: ثَبَتَ أَنَّهُ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحَافِظُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ رَكْعَةً» سَبْعَ عَشْرَةَ الْفَرَائِضِ، وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ الَّتِي رَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَكَانَتْ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَلَغَ عَدَدُ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ النَّوَافِلِ غَيْرَ الْوِتْرِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ إنْ جَعَلْنَا الْأَرْبَعَ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهُ دَاخِلَةً تَحْتَهَا الِاثْنَتَانِ اللَّتَانِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَيُزَادُ مَا فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ الَّتِي بَعْدَ الْعِشَاءِ فَالْجَمِيعُ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ رَكْعَةً مِنْ دُونِ الْوِتْرِ وَالْفَرَائِضِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ» أَيْ نَافِلَةَ الْفَجْرِ (حَتَّى إنِّي أَقُولُ -: أَقَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ) يَعْنِي أَمْ لَا لِتَخْفِيفِهِ قِيَامَهُمَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَإِلَى تَخْفِيفِهِمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَيَأْتِي تَعْيِينُ قَدْرِ مَا يُقْرَأُ فِيهِمَا وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ إلَى تَطْوِيلِهِمَا وَنُقِلَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَأَوْرَدَ فِيهِ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثًا مُرْسَلًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَفِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ لَا يُعَارِضُهُ مِثْلُ ذَلِكَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} أَيْ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}» أَيْ فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «قَرَأَ الْآيَتَيْنِ أَيْ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} - إلَى آخِرِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ - عِوَضًا عَنْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا}

ص: 338

341 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

342 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا صَلَّى

الْآيَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ - عِوَضًا عَنْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} » وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى آيَةٍ مِنْ وَسَطِ السُّورَةِ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

) الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الضَّجْعَةِ بَيْنَ مُفْرِطٍ وَمُفَرِّطٍ وَمُتَوَسِّطٍ فَأَفْرَطَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَقَالُوا بِوُجُوبِهَا وَأَبْطَلُوا صَلَاةَ الْفَجْرِ بِتَرْكِهَا وَذَلِكَ لِفِعْلِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ وَلِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِهَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ وَفِي حِفْظِهِ مَقَالٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ إلَّا أَنَّهُ صَرَفَ الْأَمْرَ عَنْ الْوُجُوبِ مَا وَرَدَ مِنْ عَدَمِ مُدَاوَمَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِهَا.

وَفَرَّطَ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا بِكَرَاهَتِهَا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَقُولُ " كَفَى بِالتَّسْلِيمِ " أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَبِأَنَّهُ كَانَ يَحْصِبُ مَنْ يَفْعَلُهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " مَا بَالُ الرَّجُلِ إذَا صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ تَمَعَّكَ كَمَا يَتَمَعَّكُ الْحِمَارُ.

" وَتَوَسَّطَ فِيهَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَرَوْا بِهَا بَأْسًا لِمَنْ فَعَلَهَا رَاحَةً وَكَرِهُوهَا لِمَنْ فَعَلَهَا اسْتِنَانًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ فَعَلَهَا اسْتِرَاحَةً أَمْ لَا.

قِيلَ وَقَدْ شُرِعَتْ لِمَنْ يَتَهَجَّدُ مِنْ اللَّيْلِ لِمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَضْطَجِعْ لِسُنَّةٍ لَكِنَّهُ كَانَ يَدْأَبُ لَيْلَهُ فَيَضْطَجِعُ لِيَسْتَرِيحَ مِنْهُ» وَفِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قُلْت: وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لَوْ صَحَّ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ فَهْمِهَا، وَعَدَمُ اسْتِمْرَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا دَلِيلُ سُنِّيَّتِهَا ثُمَّ إنَّهُ يُسَنُّ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْأَيْمَنِ فَإِنَّهُ يُومِئُ وَلَا يَضْطَجِعُ عَلَى الْأَيْسَرِ.

342 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا صَلَّى

ص: 339

أَحَدُكُمْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

343 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةٍ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَحَدُكُمْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ وَأَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهَا وَهَذِهِ رِوَايَةٌ فِي الْأَمْرِ بِهَا وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ الْإِيجَابِ مَا عَرَفْتَ، وَعَرَفْتَ كَلَامَ النَّاسِ فِيهِ.

وَلِلْخَمْسَةِ - وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ - بِلَفْظِ «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى» وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا خَطَأٌ.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ‌

‌ نَافِلَةِ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى

فَيُسَلِّمْ عَلَى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْحَدِيثِ الْحَصْرُ؛ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ مَا صَلَاةُ اللَّيْلِ إلَّا مَثْنَى مَثْنَى؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُبْتَدَأِ قَدْ يُفِيدُ ذَلِكَ عَلَى الْأَغْلَبِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَقَعَ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْحَصْرِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ فَقَدْ عَارَضَهُ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ثُبُوتُ إيتَارِهِ بِخَمْسٍ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَالْفِعْلُ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْحَصْرِ وَقَوْلُهُ «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوتَرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا لِخَشْيَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِلَّا أَوْتَرَ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ نَحْوِهَا لَا بِثَلَاثٍ لِلنَّهْيِ عَنْ الثَّلَاثِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ بِسَبْعٍ أَوْ بِتِسْعٍ أَوْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ» زَادَ الْحَاكِمُ «وَلَا تُوتِرُوا لَا تَشَبَّهُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ» قَالَ الْمُصَنِّفُ وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَلَا يَضُرُّهُ وَقْفُ مَنْ وَقَفَهُ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ.

وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الثَّلَاثِ إذَا كَانَ يَقْعُدُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ،؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَغْرِبَ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي آخِرِهَا فَلَا يُشْبِهُ الْمَغْرِبَ وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ

ص: 340

344 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‌

«أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ»

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

(

قَدْ أَيَّدَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَالْحَاكِمِ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرَتِهِنَّ» وَلَفْظُ أَحْمَدَ «كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ» وَلَفْظُ الْحَاكِمِ " لَا يَقْعُدُ " هَذَا وَأَمَّا مَفْهُومُ أَنَّهُ لَا يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ إلَّا لِخَشْيَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ هَذَا فَإِنَّهُ فِيهِ «وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» وَهُوَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ حَدِيثِ الْكِتَابِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِحْرَامِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا (وَلِلْخَمْسَةِ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى» وَقَالَ النَّسَائِيّ هَذَا خَطَأٌ) أَخْرَجَهُ الْمَذْكُورُونَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ الْأَزْدِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِهَذَا وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِ ذِكْرِ النَّهَارِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ غَيْرُ عَلِيٍّ وَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ ابْنُ مَعِينٍ يُضَعِّفُ حَدِيثَهُ هَذَا وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ وَيَقُولُ إنَّ نَافِعًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ وَجَمَاعَةً رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِدُونِ ذِكْرِ النَّهَارِ وَرَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ النَّهَارِ أَرْبَعٌ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُنَّ فَقِيلَ لَهُ فَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى قَالَ: بِأَيِّ حَدِيثٍ؟ قِيلَ: بِحَدِيثِ الْأَزْدِيِّ قَالَ وَمَنْ الْأَزْدِيُّ حَتَّى أَقْبَلَ مِنْهُ. قَالَ النَّسَائِيّ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي خَطَأٌ وَكَذَا قَالَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ: ذِكْرُ النَّهَارِ فِيهِ وَهْمٌ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ طَاوُسٌ وَنَافِعٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ فِيهِ النَّهَارَ إلَّا أَنَّ سَبِيلَ الزِّيَادَةِ مِنْ الثِّقَةِ أَنْ تُقْبَلَ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَالَ: وَالْبَارِقِيُّ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ

انْتَهَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّلْخِيصِ.

فَانْظُرْ إلَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا شَدِيدًا وَلَعَلَّ الْأَمْرَيْنِ جَائِزَانِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُخَيَّرُ فِي النَّهَارِ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا أَرْبَعًا وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ثَمَانِيَةَ أَحَادِيثَ فِي «صَلَاةُ النَّهَارِ رَكْعَتَانِ» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ) فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ (صَلَاةُ اللَّيْلِ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِاللَّيْلِ جَوْفَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ إلَّا الْبُخَارِيَّ قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ قَالَ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ

ص: 341

345 -

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثِ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيّ وَقْفَهُ

وَصَحَّحَهُ «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ قَالَ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَصَلِّ مَا شِئْت فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ مَكْتُوبَةٌ مَشْهُودَةٌ» وَالْمُرَادُ مِنْ جَوْفِهِ الْآخِرِ هُوَ الثُّلُثُ الْآخِرُ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» هُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ» قَدْ قَدَّمْنَا الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَارَضَهُ (وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ) مِنْ دُونِ أَنْ يُضِيفَ إلَيْهَا غَيْرَهَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ (فَلْيَفْعَلْ " رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَرَجَّحَ النَّسَائِيّ وَقْفَهُ) وَكَذَا صَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَالذُّهْلِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَلِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَقْفَهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهُوَ الصَّوَابُ قُلْت: وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ إذْ لَا مَسْرَحَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ أَيْ فِي الْمَقَادِيرِ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى إيجَابِ الْوِتْرِ وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ «مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» ، وَإِلَى وُجُوبِهِ ذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه «الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الْمَكْتُوبَةِ وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَيَأْتِي لَفْظُهُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ «إنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِحَتْمٍ وَلَا كَصَلَاتِكُمْ الْمَكْتُوبَةِ وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْتَرَ وَقَالَ يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» وَذَكَرَ الْمَجْدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ رَوَى حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ بِلَفْظِ «الْوِتْرُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ» وَبِحَدِيثِ «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ» وَعَدَّ مِنْهَا الْوِتْرَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلَهُ مُتَابَعَاتٌ يَتَأَيَّدُ بِهَا، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْإِيجَابِ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْأَصَحَّ وَقْفُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَبَقَ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْمَرْفُوعِ فَهُوَ لَا يُقَاوِمُ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَمِ الْإِيجَابِ، وَالْإِيجَابُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَسْنُونِ تَأْكِيدًا كَمَا سَلَفَ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَقَوْلُهُ (بِخَمْسٍ وَبِثَلَاثٍ) أَيْ وَلَا يَقْعُدُ إلَّا فِي آخِرِهَا وَيَأْتِي حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْخَمْسِ

ص: 342

346 -

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: لَيْسَ الْوِتْرُ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنْ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ

347 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنْ الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ، وَقَالَ: إنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

قَوْلُهُ (بِوَاحِدَةٍ) ظَاهِرُهُ مُقْتَصَرًا عَلَيْهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِعْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ " أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَيْلَةً فِي رَكْعَةٍ لَمْ يُصَلِّ غَيْرَهَا " وَرَوَى الْبُخَارِيُّ " أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَصْوَبَهُ ".

(وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ " لَيْسَ الْوِتْرُ بِحَتْمٍ كَهَيْئَتِهِ الْمَكْتُوبَةِ وَلَكِنْ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ

) تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي الْخَيْمِيُّ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى بُلُوغِ الْمَرَامِ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي - التَّلْخِيصِ بَلْ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ فَمَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ نَقَلَ الْقَاضِي ثُمَّ رَأَيْت فِي التَّقْرِيبِ مَا لَفْظُهُ: عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ السَّلُولِيُّ الْكُوفِيُّ صَدُوقٌ مِنْ السَّادِسَةِ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ.

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنْ الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ وَقَالَ إنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ) أَبْعَدَ الْمُصَنِّفُ النُّجْعَةَ، وَالْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ إلَّا أَنَّهُ بِلَفْظِ " أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ " وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَفْظُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ قَدْ رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» هَذَا، وَالْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ بِقُرْبٍ مِنْ هَذَا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَشْكَلَ التَّعْلِيلُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ بِخَشْيَةِ الْفَرْضِيَّةِ عَلَيْهِمْ

ص: 343

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مَعَ ثُبُوتِ حَدِيثِ " هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ " فَإِذَا أُمِنَ التَّبْدِيلُ كَيْفَ يَقَعُ الْخَوْفُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَقَدْ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ أَجْوِبَةً كَثِيرَةً وَزَيَّفَهَا وَأَجَابَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ قَالَ إنَّهُ فَتَحَ الْبَارِي عَلَيْهِ بِهَا وَذَكَرَهَا وَاسْتَجْوَدَ مِنْهَا أَنَّ خَوْفَهُ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ مِنْ افْتِرَاضِ قِيَامِ اللَّيْلِ يَعْنِي جَعْلَ التَّهَجُّدِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّنَفُّلِ بِاللَّيْلِ قَالَ وَيُومِئُ إلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ " حَتَّى خَشِيتَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ " فَمَنَعَهُمْ مِنْ التَّجَمُّعِ فِي الْمَسْجِدِ إشْفَاقًا عَلَيْهِمْ مِنْ اشْتِرَاطِهِ انْتَهَى.

(قُلْت) وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ " أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ " كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ خَشْيَةَ فَرْضِهَا مُطْلَقًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ لَيْلَتَيْنِ.

وَحَدِيثُ الْكِتَابِ أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ لَيْلَةً وَاحِدَةً وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ " أَنَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم صَلَّى بِهِمْ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَغَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ " وَفِي قَوْلِهِ " خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ.

(وَاعْلَمْ) أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ وَجَعَلَهَا سُنَّةً فِي قِيَامِ رَمَضَانَ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَيْفِيَّةِ مَا يَفْعَلُونَهُ وَلَا كَمِيَّتِهِ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً عِشْرِينَ يَتَرَوَّحُونَ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.

فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّ عُمَرَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَهُمْ عَلَى إمَامٍ مُعَيَّنٍ وَقَالَ " إنَّهَا بِدْعَةٌ " كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَغِّبُهُمْ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَفِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ " زَادَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ " قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقَارِيّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ لَيْلَةً فَطَافَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَهْلُ الْمَسْجِدِ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ وَاَللَّهِ لَأَظُنُّ لَوْ جَمَعْنَاهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَأَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَنْ يَقُومَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ فَخَرَجَ عُمَرُ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ فَقَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ " وَسَاقَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهِ بِدْعَةٌ عَلَى جَمْعِهِ لَهُمْ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَإِلْزَامِهِمْ بِذَلِكَ لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ بِدْعَةٌ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَمَعَ بِهِمْ كَمَا عَرَفْت.

إذَا عَرَفْت هَذَا عَرَفْت أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا جَمَاعَةً عَلَى مُعَيَّنٍ وَسَمَّاهَا بِدْعَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ " نِعْمَ الْبِدْعَةُ " فَلَيْسَ فِي الْبِدْعَةِ مَا يُمْدَحُ بَلْ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

وَأَمَّا الْكَمِّيَّةُ وَهِيَ جَعْلُهَا عِشْرِينَ رَكْعَةً فَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إلَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي شَيْبَةَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَالْوِتْرَ»

ص: 344

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَالَ فِي سُبُلِ الرَّشَادِ أَبُو شَيْبَةَ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَكَذَّبَهُ شُعْبَةُ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ وَعَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ مُنْكَرَاتِهِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْمُتَوَسِّطِ: وَأَمَّا مَا نُقِلَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي اللَّيْلَتَيْنِ خَرَجَ فِيهِمَا عِشْرِينَ رَكْعَةً فَهُوَ مُنْكَرٌ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْخَادِمِ: دَعْوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً لَمْ تَصِحَّ بَلْ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ بِالْعَدَدِ وَلِمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَالْوِتْرَ ثُمَّ انْتَظَرُوهُ فِي الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي شَيْبَةَ ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ ضَعِيفٌ وَسَاقَ رِوَايَاتٍ " أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أُبَيًّا وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ يَقُومَانِ بِالنَّاسِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً " وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً " وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً. وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ يَؤُمُّهُمْ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ " قَالَ وَفِيهِ قُوَّةٌ.

إذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعِشْرِينَ رِوَايَةٌ مَرْفُوعَةٌ بَلْ يَأْتِي حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَرِيبًا " أَنَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً " فَعَرَفْت مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ بِدْعَةٌ، نَعَمْ قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَالْجَمَاعَةُ فِي نَافِلَتِهِ لَا تُنْكَرُ وَقَدْ ائْتَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ بِهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ لَكِنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْكَمِّيَّةِ سُنَّةً، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ إنَّهُ بِدْعَةٌ، وَهَذَا عُمَرُ رضي الله عنه خَرَجَ أَوَّلًا وَالنَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي جَمَاعَةً عَلَى مَا كَانُوا فِي عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَخَيْرُ الْأُمُورِ مَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالتَّرَاوِيحِ فَكَأَنَّ وَجْهَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ يَتَرَوَّحُ فَأَطَالَ حَتَّى رَحِمْتَهُ» الْحَدِيثَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ دِيَابٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ فَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ أَصْلٌ فِي تَرَوُّحِ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ انْتَهَى.

وَأَمَّا حَدِيثُ " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَلَهُ طُرُقٌ فِيهَا مَقَالٌ إلَّا أَنَّهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إلَّا طَرِيقَتَهُمْ الْمُوَافِقَةَ لِطَرِيقَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِهَادِ الْأَعْدَاءِ وَتَقْوِيَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ لِكُلِّ خَلِيفَةٍ رَاشِدٍ لَا يَخُصُّ الشَّيْخَيْنِ، وَمَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنْ لَيْسَ لِخَلِيفَةٍ رَاشِدٍ أَنْ يُشَرِّعَ طَرِيقَةً غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عُمَرُ رضي الله عنه نَفْسُهُ الْخَلِيفَةُ

ص: 345

348 -

وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْوِتْرُ، مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

الرَّاشِدُ سَمَّى مَا رَآهُ مِنْ تَجْمِيعِ صَلَاتِهِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ بِدْعَةً وَلَمْ يَقُلْ إنَّهَا سُنَّةٌ فَتَأَمَّلْ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم خَالَفُوا الشَّيْخَيْنِ فِي مَوَاضِعَ وَمَسَائِلَ فَدَلَّ إنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ مَا قَالُوهُ وَفَعَلُوهُ حُجَّةٌ وَقَدْ حَقَّقَ الْبِرْمَاوِيُّ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ أَلْفِيَّتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى قَوْلٍ كَانَ حُجَّةً لَا إذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَيْسَ هُوَ التَّقْلِيدُ بَلْ هُوَ غَيْرُهُ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي شَرْحِ نَظْمِ الْكَافِلِ فِي بَحْثِ الْإِجْمَاعِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نَحْوَهُ.

(وَعَنْ خَارِجَةَ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَرَاءٍ بَعْدَ الْأَلْفِ فَجِيمٍ هُوَ (ابْنُ حُذَافَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ فَذَالٍ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٍ فَفَاءٍ بَعْدَ الْأَلْفِ وَهُوَ قُرَشِيٌّ عَدَوِيٌّ كَانَ يُعْدَلُ بِأَلْفِ فَارِسٍ رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ اسْتَمَدَّ مِنْ عُمَرَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ فَأَمَدَّهُ بِثَلَاثَةٍ وَهُمْ خَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ. وَلِيَ خَارِجَةُ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقِيلَ: كَانَ عَلَى شُرْطَتِهِ وَعِدَادِهِ فِي أَهْلِ مِصْرَ قَتَلَهُ الْخَارِجِيُّ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ تَعَاقَدَتْ الْخَوَارِجُ عَلَى قَتْلِ ثَلَاثَةٍ عَلِيٌّ عليه السلام وَمُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنهم فَتَمَّ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عليه السلام دُونَ الْآخَرَيْنِ، وَإِلَى الْغَلَطِ بِخَارِجَةَ أَشَارَ مَنْ قَالَ شَعْرًا:

فَلَيْتَهَا إذَا فَدَتْ بِخَارِجَةَ

فَدَتْ عَلِيًّا بِمِنْ شَاءَتْ مِنْ الْبَشَرِ

وَكَانَ قَتْلُ خَارِجَةَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ قُلْنَا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْوِتْرُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) قُلْت قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِيبَ إخْرَاجِهِ

ص: 346

349 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ - وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عِنْدَ أَحْمَدَ.

لَهُ: حَدِيثُ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَقَدْ وَهَمَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ سَاقَ الْوَهْمَ فِيهِ؟ فَكَانَ يَحْسُنُ مِنْ الْمُصَنِّفِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ هَذَا

، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُفِيدُ عَدَمَ وُجُودِ الْوِتْرِ لِقَوْلِهِ " أَمَدَّكُمْ " فَإِنَّ الْإِمْدَادَ هُوَ الزِّيَادَةُ بِمَا يَقْوَى الْمَزِيدُ عَلَيْهِ يُقَال مَدَّ الْجَيْشَ وَأَمَدَّهُ إذَا زَادَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا يُقَوِّيهِ وَيُكَثِّرُهُ وَمَدَّ الدَّوَاةَ وَأَمَدَّهَا زَادَهَا مَا يُصْلِحُهَا وَمَدَدْتَ السِّرَاجَ، وَالْأَرْضَ إذَا أَصْلَحْتَهُمَا بِالزَّيْتِ وَالسَّمَادِ.

(فَائِدَةٌ) فِي حِكْمَةِ شَرْعِيَّةِ النَّوَافِلِ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ فَإِنْ كَانَ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - لِمَلَائِكَتِهِ اُنْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكْمِلُونَ بِهَا فَرِيضَتَهُ ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ» وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «أَوَّلُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَأَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَأَوَّلُ مَا يُسْأَلُونَ عَنْهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَمَنْ كَانَ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنْهَا يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: اُنْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي نَافِلَةً مِنْ صَلَوَاتٍ تُتِمُّونَ بِهَا مَا نَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ وَانْظُرُوا صِيَامَ عَبْدِي شَهْرَ رَمَضَانَ فَإِنْ كَانَ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنْهُ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي نَافِلَةً مِنْ صِيَامٍ تُتِمُّونَ بِهَا مَا نَقَصَ مِنْ الصِّيَامِ وَانْظُرُوا فِي زَكَاةِ عَبْدِي فَإِنْ كَانَ ضَيَّعَ شَيْئًا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي نَافِلَةً مِنْ صَدَقَةٍ تُتِمُّونَ بِهَا مَا نَقَصَ مِنْ الزَّكَاةِ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ وَذَلِكَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ فَإِنْ وُجِدَ لَهُ فَضْلٌ وُضِعَ فِي مِيزَانِهِ وَقِيلَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ مَسْرُورًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أُمِرَتْ الزَّبَانِيَةُ فَأَخَذَتْ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ قُذِفَ فِي النَّارِ» وَهُوَ كَالشَّرْحِ وَالتَّفْصِيلِ لِحَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ (وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نَحْوَهُ

) أَيْ نَحْوَ حَدِيثِ خَارِجَةَ فَشَرْحُهُ شَرْحُهُ.

349 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ - وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عِنْدَ أَحْمَدَ.

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ

ص: 347

350 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا. قَالَتْ عَائِشَةُ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهَا: «كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» .

سَاكِنَةٌ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ هُوَ ابْنُ الْحُصَيْبِ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْأَسْلَمِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ سَمِعَ أَبَاهُ وَسَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَآخَرِينَ وَتَوَلَّى قَضَاءَ مَرْوَ وَمَاتَ بِهَا (عَنْ أَبِيهِ) بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْوِتْرُ حَقٌّ» أَيْ لَازِمٌ فَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِيجَابِ «فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ لَيِّنٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْعَتَكِيَّ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَالِحُ الْحَدِيثِ (وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: إنَّهُ مَوْقُوفٌ (وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ) رَوَاهُ بِلَفْظِ «مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» وَفِيهِ الْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ كَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ

وَمَعْنَى لَيْسَ مِنَّا لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى تَأَكُّدِ السُّنِّيَّةِ لِلْوِتْرِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.

- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهَا: «كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» .

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» ثُمَّ فَصَلَّتْهَا بِقَوْلِهَا (يُصَلِّي أَرْبَعًا) يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُتَّصِلَاتٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُنْفَصِلَاتٍ وَهُوَ بَعِيدٌ إلَّا أَنَّهُ يُوَافِقُ حَدِيثَ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» (فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) نَهَتْ عَنْ سُؤَالِ ذَلِكَ إمَّا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْمُخَاطَبُ عَلَى مِثْلِهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ لَهُ فِي السُّؤَالِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ حُسْنَهُنَّ وَطُولَهُنَّ لِشُهْرَتِهِ فَلَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَوْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ تَصِفُ ذَلِكَ (ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا قَالَتْ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ) كَأَنَّهُ كَانَ يَنَامُ بَعْدَ الْأَرْبَعِ ثُمَّ يَقُومُ

ص: 348

351 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي آخِرِهَا»

352 -

وَعَنْهَا، رضي الله عنها قَالَتْ: «من كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

فَيُصَلِّي الثَّلَاثَ وَكَأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّوْمَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فَسَأَلَتْهُ فَأَجَابَهَا بِقَوْلِهِ قَالَ يَا عَائِشَةُ «إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّاقِضَ نَوْمُ الْقَلْبِ، وَهُوَ حَاصِلٌ مَعَ كُلِّ مَنْ نَامَ مُسْتَغْرِقًا فَيَكُونُ مِنْ الْخَصَائِصِ أَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ فِي التَّلْخِيصِ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ " وَفِي الْبُخَارِيِّ «إنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ عَائِشَةَ فِي كَيْفِيَّةِ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ وَعَدَدِهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا سَبْعٌ وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَمِنْهَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَفَادَهَا قَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) أَيْ الشَّيْخَيْنِ (عَنْهَا) أَيْ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ» وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ لَا قُعُودَ فِيهَا (وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ) أَيْ رَكْعَةً (وَيَرْكَعُ رَكْعَةَ الْفَجْرِ) أَيْ بَعْدَ طُلُوعِهِ (فَتِلْكَ) أَيْ الصَّلَاةُ فِي اللَّيْلِ مَعَ تَغْلِيبِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْ فَتِلْكَ الصَّلَاةُ جَمِيعًا (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ فَكَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَعَمَ الْبَعْضُ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الرِّوَايَاتُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ النَّشَاطِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُهَا وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ الْأَغْلَبِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنَافِيهِ مَا خَالَفَهُ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ النَّادِرِ.

(وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» لَمْ تُفَصِّلْهَا وَتُبَيِّنْ عَلَى كَمْ كَانَ يُسَلِّمُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ إنَّمَا بَيَّنَتْ هَذَا فِي الْوِتْرِ بِقَوْلِهَا (يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ (بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي آخِرِهَا) كَأَنَّ هَذَا أَحَدُ أَنْوَاعِ إيتَارِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَنَّ الْإِيتَارَ بِثَلَاثٍ أَحَدُهَا كَمَا أَفَادَهُ حَدِيثُهَا السَّابِقِ.

ص: 349

وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

353 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

354 -

وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

(وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ (وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى الْحَدِيثَيْنِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بَيَانٌ لِوَقْتِ الْوِتْرِ وَأَنَّهُ اللَّيْلُ كُلُّهُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ حَدِيثُ خَارِجَةَ حَيْثُ قَالَ «الْوِتْرُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنْوَاعَ الْوِتْرِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَاشِيَةِ ضَوْءِ النَّهَارِ.

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَوْلُهُ مِثْلَ فُلَانٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّرُقِ وَكَأَنَّ إبْهَامَ هَذَا الْقَصْدِ لِلسَّتْرِ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ‌

‌ قِيَامَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ

إذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَكْتَفِ لِتَارِكِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ بَلْ كَانَ يَذُمُّهُ أَبْلَغَ ذَمٍّ.

وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدَّوَامِ عَلَى مَا اعْتَادَهُ الْمَرْءُ مِنْ الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ كَرَاهَةُ قَطْعِ الْعِبَادَةِ.

وَعَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ» فِي النِّهَايَةِ: أَيْ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ وَلَا التَّجْزِئَةَ وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا مِثْلَ. وَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مُعِينَ.

(يُحِبُّ الْوِتْرَ ") يُثِيبُ عَلَيْهِ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عَامِلِهِ (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ

) الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنُونَ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ صَدَّقُوا الْقُرْآنَ وَخَاصَّةً مَنْ يَتَوَلَّى حِفْظَهُ وَيَقُومُ بِتِلَاوَتِهِ وَمُرَاعَاةِ حُدُودِهِ وَأَحْكَامِهِ.

وَالتَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ

ص: 350

355 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

356 -

وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

تَعَالَى - وِتْرٌ فِيهِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - أَنَّ كُلَّ مَا نَاسَبَ الشَّيْءَ أَدْنَى مُنَاسَبَةٍ كَانَ أَحَبَّ إلَيْهِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدَبِ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي سَلَفَتْ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوِتْرِ.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّهُ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ مِنْ جُلُوسٍ وَالثَّانِي مَنْ أَوْتَرَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ مِنْ اللَّيْلِ هَلْ يَكْتَفِي بِوِتْرِهِ الْأَوَّلِ وَيَتَنَفَّلُ مَا شَاءَ أَوْ يَشْفَعُ وِتْرَهُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يَتَنَفَّلُ ثُمَّ إذَا فَعَلَ هَذَا هَلْ يَحْتَاجُ إلَى وِتْرٍ آخَرَ أَوْ لَا.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ» وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» مُخْتَصًّا بِمَنْ أَوْتَرَ آخِرَ اللَّيْلِ وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَحَمَلَهُ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ جَوَازِ‌

‌ النَّفْلِ بَعْدَ الْوِتْرِ

وَجَوَازِ التَّنَفُّلِ جَالِسًا.

وَأَمَّا الثَّانِي فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهُ يُصَلِّي شَفْعًا مَا أَرَادَ وَلَا يَنْقُضُ وِتْرَهُ الْأَوَّلَ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ.

356 -

وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَهُوَ (وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ " صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةً» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوتِرُ بَلْ يُصَلِّي شَفْعًا مَا شَاءَ، وَهَذَا نَظَرٌ إلَى ظَاهِرِ فِعْلِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَمَّا شَفَعَ وِتْرَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يَبْقَ إلَّا وِتْرٌ وَاحِدٌ هُوَ مَا يَفْعَلُهُ آخِرًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ " إذَا كُنْت لَا تَخَافُ الصُّبْحَ وَلَا النَّوْمَ فَاشْفَعْ ثُمَّ صَلِّ مَا بَدَا لَك ثُمَّ أَوْتِرْ ".

ص: 351

357 -

وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ:«وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ»

358 -

وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَفِيهِ:«كُلُّ سُورَةٍ فِي رَكْعَةٍ. وَفِي الْأَخِيرَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» .

359 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَزَادَ: وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ.

(وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ) أَيْ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أَيْ فِي الْأُولَى بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} أَيْ فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أَيْ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ) أَيْ النَّسَائِيّ (وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْإِيتَارِ بِثَلَاثٍ وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ «لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ» وَهُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ كَرَاهِيَةَ الْوِتْرِ بِثَلَاثٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ الْجَمْعِ ثُمَّ الْوِتْرُ بِثَلَاثٍ أَحَدُ أَنْوَاعِهِ كَمَا عَرَفْت فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ.

فَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْهَادَوِيَّةُ إلَى تَعْيِينِ الْإِيتَارِ بِالثَّلَاثِ تُصَلَّى مَوْصُولَةً قَالُوا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِيتَارَ بِثَلَاثٍ مَوْصُولَةٍ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهُ فَالْأَخْذُ بِهِ أَخْذٌ بِالْإِجْمَاعِ وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ كَمَا عَرَفْت.

وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ

نَحْوُهُ) أَيْ نَحْوُ حَدِيثِ أُبَيٍّ (عَنْ عَائِشَةَ وَفِيهِ كُلُّ سُورَةٍ) مِنْ سَبِّحْ، وَالْكَافِرُونَ (فِي رَكْعَةٍ) مِنْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ (وَفِي الْأَخِيرَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لِينٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ خُصَيْفًا الْجَزَرِيَّ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ إسْنَادُهُ صَالِحٌ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنْكَرَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ زِيَادَةَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَرَوَى ابْنُ السَّكَنِ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ.

ص: 352

وَلِابْنِ حِبَّانَ «مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَلَمْ يُوتِرْ فَلَا وِتْرَ لَهُ» .

360 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنْ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ

361 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرَ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ) هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ قَبْلَ الصُّبْحِ (وَلِابْنِ حِبَّانَ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَلَمْ يُوتِرْ فَلَا وِتْرَ لَهُ»

) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْوِتْرُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَإِمَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ فَلَا إذْ الْمُرَادُ مَنْ تَرَكَهُ مُتَعَمِّدًا فَإِنَّهُ قَدْ فَاتَتْهُ السُّنَّةُ الْعُظْمَى حَتَّى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الَّذِي يَخْرُجُ بِالْفَجْرِ وَقْتُهُ الِاخْتِيَارِيُّ، وَأَمَّا وَقْتُهُ الِاضْطِرَارِيُّ فَيَبْقَى إلَى قِيَامِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَمَّا مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ وَنَسِيَهُ فَقَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ الْحَدِيثُ.

وَهُوَ قَوْلُهُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنْ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ» لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ حَيْثُ كَانَ نَائِمًا أَوْ ذَكَرَ إذَا كَانَ نَاسِيًا (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ‌

‌ مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ

فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ نَامَ عَنْ الْفَرِيضَةِ أَوْ نَسِيَهَا أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَدَاءٌ كَمَا عَرَفْت فِيمَنْ نَامَ عَنْ الْفَرِيضَةِ أَوْ نَسِيَهَا.

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْوِتْرِ أَفْضَلُ

ص: 353

362 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ وَقْتُ كُلِّ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالْوِتْرِ. فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

363 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَلَكِنْ إنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ قَدَّمَهُ لِئَلَّا يَفُوتَهُ فِعْلًا وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى هَذَا، وَإِلَى هَذَا وَفِعْلِ كُلٍّ بِالْحَالَيْنِ وَمَعْنَى كَوْنِ صَلَاةِ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةً تَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ.

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ وَقْتُ كُلِّ صَلَاةِ اللَّيْلِ» أَيْ النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ (وَالْوِتْرِ) عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ فَإِنَّهُ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ عَطَفَهُ عَلَيْهِ لِبَيَانِ شَرَفِهِ «فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ» فَتَخْصِيصُ الْأَمْرِ بِالْإِيتَارِ لِزِيَادَةِ الْعِنَايَةِ بِشَأْنِهِ وَبَيَانِ أَنَّهُ أَهَمُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ وَقْتُهُ بِذَهَابِ اللَّيْلِ وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّائِمَ وَالنَّاسِيَ يَأْتِيَانِ بِالْوِتْرِ عِنْدَ الْيَقِظَةِ إذَا أَصْبَحَ وَالنَّاسِي عِنْدَ التَّذَكُّرِ فَهُوَ مُخَصَّصٌ لِهَذَا، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَهَابِ وَقْتِ الْوِتْرِ بِذَهَابِ اللَّيْلِ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ لِغَيْرِ الْعُذْرَيْنِ.

وَفِي تَرْكِ ذَلِكَ لِلنَّوْمِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا لَمْ يُصَلِّ مِنْ اللَّيْلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْمُ أَوْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَكَأَنَّهُ تَدَارُكٌ لِمَا فَاتَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قُلْت وَقَالَ عَقِيبَهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ.

363 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى‌

‌ شَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الضُّحَى

وَأَنَّ أَقَلَّهَا أَرْبَعٌ وَقِيلَ رَكْعَتَانِ، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى "

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَعَلَّهُ ذَكَرَ الْأَقَلَّ الَّذِي يُوجَدُ التَّأْكِيدُ بِفِعْلِهِ قَالَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى وَأَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ، وَعَدَمُ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِهَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَهَا؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحُكْمِ أَنْ تَتَظَافَرَ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ لَكِنَّ مَا وَاظَبَ

ص: 354

364 -

وَلَهُ عَنْهَا: أَنَّهَا سُئِلَتْ: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» - وَلَهُ عَنْهَا: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَطُّ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» .

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِهِ مُرَجَّحٌ عَلَى مَا لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ انْتَهَى.

وَأَمَّا حُكْمُهَا فَقَدْ جَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْأَقْوَالَ فَبَلَغَتْ سِتَّةَ أَقْوَالٍ.

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ.

الثَّانِي: لَا تُشْرَعُ إلَّا لِسَبَبٍ.

الثَّالِثُ: لَا تُسْتَحَبُّ أَصْلًا.

الرَّابِعُ: يُسْتَحَبُّ فِعْلُهَا تَارَةً وَتَرْكُهَا تَارَةً فَلَا يُوَاظَبُ عَلَيْهَا.

الْخَامِسُ: يُسْتَحَبُّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا فِي الْبُيُوتِ.

السَّادِسُ: أَنَّهَا بِدْعَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَالِكَ مُسْتَنَدَ كُلِّ قَوْلٍ.

هَذَا وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ نَعَمْ وَقَدْ عَارَضَ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا حَدِيثُهَا الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ.

364 -

وَلَهُ عَنْهَا: أَنَّهَا سُئِلَتْ: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» - وَلَهُ عَنْهَا: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَطُّ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» .

(وَلَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ (عَنْهَا) أَيْ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى قَالَتْ: لَا. إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» فَإِنَّ الْأَوَّلَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا دَائِمًا لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ كَانَ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ، وَالثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّيهَا إلَّا فِي حَالِ مَجِيئِهِ مِنْ مَغِيبِهِ وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا. بِأَنَّ كَلِمَةَ كَانَ يَفْعَلُ كَذَا لَا تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ دَائِمًا بَلْ غَالِبًا، وَإِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى خِلَافِهِ صَرَفَتْهَا عَنْهُ كَمَا هُنَا فَإِنَّ اللَّفْظَ الثَّانِيَ صَرَفَهَا عَنْ الدَّوَامِ وَأَنَّهَا أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا " لَا. إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ "

نَفْيَ رُؤْيَتِهَا صَلَاةَ الضُّحَى وَأَنَّهَا لَمْ تَرَهُ يَفْعَلُهَا إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ إخْبَارٌ عَمَّا بَلَغَهَا فِي أَنَّهُ مَا كَانَ يَتْرُكُ صَلَاةَ الضُّحَى إلَّا أَنَّهُ يُضَعِّفُ هَذَا قَوْلُهُ (وَلَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ وَهُوَ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِهِ فَلَوْ قَالَ وَلَهُمَا كَانَ (عَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَطُّ سُبْحَةَ الضُّحَى» بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْبَاءِ أَيْ نَافِلَتَهُ (وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا) فَنَفَتْ رُؤْيَتَهَا لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا وَأَخْبَرَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْعَلُهَا كَأَنَّهُ اسْتِنَادٌ إلَى مَا بَلَغَهَا مِنْ الْحَثِّ عَلَيْهَا وَمِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا فَأَلْفَاظُهَا لَا تَتَعَارَضُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَا رَأَيْته سَبَّحَهَا أَيْ دَاوَمَ عَلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُرَجَّحُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وَهُوَ رِوَايَةُ إثْبَاتِهَا دُونَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَهِيَ رِوَايَةُ نَفْيِهَا قَالَ: وَعَدَمُ رُؤْيَةِ عَائِشَةَ لِذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُقُوعِ الَّذِي أَثْبَتَهُ غَيْرُهَا هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.

قُلْت: وَمِمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ

ص: 355

365 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

‌«صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ

حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

366 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ

أَوْصَاهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ لَا يَتْرُكَ رَكْعَتَيْ الضُّحَى " وَفِي التَّرْغِيبِ فِي فِعْلِهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَفِي عَدَدِهَا كَذَلِكَ: مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ) الْأَوَّابُ الرَّجَّاعُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِتَرْكِ الذُّنُوبِ وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ (حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ رَمِضَتْ بِكَسْرِهَا أَيْ تَحْتَرِقُ مِنْ الرَّمْضَاءِ وَهُوَ شِدَّةُ حَرَارَةِ الْأَرْضِ مِنْ وُقُوعِ الشَّمْسِ عَلَى الرَّمْلِ وَغَيْرِهِ وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَتَأْثِيرُهَا الْحَرُّ، وَالْفِصَالُ جَمْعُ فَصِيلٍ: وَهُوَ وَلَدُ النَّاقَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِفَصْلِهِ عَنْ أُمِّهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا عَدَدًا وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَسْتَحِبُّ الصَّلَاةَ هَذِهِ السَّاعَةَ قَالَ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَنْظُرُ تبارك وتعالى فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إلَى خَلْقِهِ وَهِيَ صَلَاةٌ كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا آدَم وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى " وَفِيهِ رَاوٍ مَتْرُوكٌ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ أَنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ.

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " قُلْت لِأَبِي ذَرٍّ يَا عَمَّاهُ أَوْصِنِي قَالَ سَأَلَتْنِي عَمَّا سَأَلْت عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إنْ صَلَّيْت الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ تُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَإِنْ صَلَّيْت أَرْبَعًا كُتِبْت مِنْ الْعَابِدِينَ، وَإِنْ صَلَّيْت سِتًّا لَمْ يَلْحَقْك ذَنْبٌ، وَإِنْ صَلَّيْت ثَمَانِيًا كُتِبْت مِنْ الْقَانِتِينَ، وَإِنْ صَلَّيْت ثِنْتَيْ عَشْرَةَ بُنِيَ لَك بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ "

ص: 356

367 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتِي فَصَلَّى الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

‌باب صلاة الجماعة والإمامة

368 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَفِيهِ حُسَيْنُ ابْنُ عَطَاءٍ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ يُخْطِئُ وَيُدَلِّسُ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ لَا تَخْلُو عَنْ مَقَالٍ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتِي فَصَلَّى الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ) قَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْهَا " أَنَّهَا مَا رَأَتْهُ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى "، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَثْبَتَتْ فِيهِ صَلَاتَهُ فِي بَيْتِهَا، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا نَفَتْ الرُّؤْيَةَ، وَصَلَاتُهُ فِي بَيْتِهَا يَجُوزُ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ، وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ لَهَا بِرِوَايَةٍ وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا الْوَجْهَ وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهَا لِجَوَازِ غَفْلَتِهَا فِي الْوَقْتِ فَلَا مُنَافَاةَ، وَالْجَمْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ هُوَ الْوَاجِبُ.

(فَائِدَةٌ) مِنْ فَوَائِدِ صَلَاةِ الضُّحَى أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي تُصْبِحُ عَلَى مَفَاصِلِ الْإِنْسَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَهِيَ ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا لِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي قَالَ فِيهِ " وَتُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى ".

وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه " بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا " - وَكَذَا لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ:" دَرَجَةً ".

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ» بِالْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْفَرْدِ (بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)(وَلَهُمَا) أَيْ الشَّيْخَيْنِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا) عِوَضًا عَنْ قَوْلِهِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (وَكَذَا) أَيْ وَبِلَفْظِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ (لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَقَالَ دَرَجَةً) عِوَضًا عَنْ جُزْءًا، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ مِنْهُمْ أَنَسٌ وَعَائِشَةُ

ص: 357

369 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَصُهَيْبٌ وَمُعَاذٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَامَّةُ مَنْ رَوَاهُ قَالُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَّا ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ وَلَهُ رِوَايَةٌ فِيهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُرَادٍ فَرِوَايَةُ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ رِوَايَةِ السَّبْعِ، وَالْعِشْرِينَ أَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم بِالْأَقَلِّ عَدَدًا أَوَّلًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِالْأَكْثَرِ وَأَنَّهُ زِيَادَةٌ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهَا وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ السَّبْعَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، وَالْخَمْسَ لِمَنْ صَلَّى فِي غَيْرِهِ، وَقِيلَ: السَّبْعُ لِبَعِيدِ الْمَسْجِدِ، وَالْخَمْسُ لِقَرِيبِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَى مُنَاسِبَاتٍ وَتَعْلِيلَاتٍ اسْتَوْفَاهَا الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَهِيَ أَقْوَالٌ تَخْمِينِيَّةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا نَصٌّ، وَالْجُزْءُ وَالدَّرَجَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ هُنَا؛ لِأَنَّهُ عَبَّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُهُمَا بِالصَّلَاةِ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً فُرَادَى، وَالْحَدِيثُ حَثَّ عَلَى الْجَمَاعَةِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا، وَقَدْ قَالَ بِوُجُوبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَيْ فِي مِلْكِهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ (لَقَدْ هَمَمْت) جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْإِقْسَامُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِبَيَانِ عِظَمِ شَأْنِ مَا يَذْكُرُهُ زَجْرًا عَنْ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ (أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ) فِي الصِّحَاحِ خَالَفَ إلَى فُلَانٍ أَيْ أَتَاهُ إذَا غَابَ عَنْهُ إلَى (رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ) أَيْ لَا يَحْضُرُونَ الْجَمَاعَةَ (فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ قَافٍ هُوَ الْعَظْمُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ (سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ تَثْنِيَةَ مِرْمَاةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَرَاءٍ سَاكِنَةٍ وَقَدْ تُفْتَحُ الْمِيمُ وَهِيَ مَا بَيْنَ ضِلْعِ الشَّاةِ مِنْ اللَّحْمِ (حَسَنَتَيْنِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مِنْ الْحُسْنِ (لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) أَيْ صَلَاتَهُ فِي جَمَاعَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ (وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

)، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ عَيْنًا لَا كِفَايَةً إذْ قَدْ قَامَ بِهَا غَيْرُهُمْ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ وَلَا عُقُوبَةَ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ.

وَإِلَى أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ

ص: 358

370 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَبُو الْعَبَّاسِ وَقَالَتْ بِهِ الظَّاهِرِيَّةُ وَقَالَ دَاوُد: إنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى مَا يَخْتَارُهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ شَرْطٌ فِيهَا وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ هَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطِيَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ وَلِذَا قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ غَيْرُ شَرْطٍ.

وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ تَحْصِيلًا لِمَذْهَبِ الْهَادِي أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ مُتَقَدِّمِي الشَّافِعِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالنَّاصِرُ إلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ بِحَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ الْبَالِغَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ «ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْت مَا بِي وَلَيْسَ لِي قَائِدٌ، وَإِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ شَجَرًا وَنَخْلًا وَلَا أَقْدِرُ عَلَى قَائِدٍ كُلَّ سَاعَةٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاحْضُرْهَا» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ «أَتَسْمَعُ الْأَذَانَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأْتِهَا وَلَوْ حَبْوًا» ، وَالْأَحَادِيثُ فِي مَعْنَاهُ كَثِيرَةٌ وَيَأْتِي حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ أَطْلَقَ الْبُخَارِيُّ الْوُجُوبَ عَلَيْهَا وَبَوَّبَهُ بِقَوْلِهِ بَابُ وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَقَالُوا هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ إذْ لَوْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكَانَ قَدْ أَسْقَطَ وُجُوبَهَا فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ لَهَا.

وَأَمَّا التَّحْرِيقُ فِي الْعُقُوبَاتِ بِالنَّارِ فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ عَامًّا فَهَذَا خَاصٌّ وَأَدِلَّةُ الْقَائِلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ أَدِلَّةُ مَنْ قَالَ إنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ بِنَاءً عَلَى قِيَامِ الصَّارِفِ لِلْأَدِلَّةِ عَلَى فَرْضِ الْعَيْنِ إلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَقَدْ أَطَالَ الْقَائِلُونَ بِالسُّنِّيَّةِ الْكَلَامَ فِي الْجَوَابَاتِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا لَا يَشْفِي، وَأَقْرَبُهَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ لَا الْحَقِيقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِالسُّنِّيَّةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ» فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْفَضِيلَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْفُرَادَى غَيْرَ مُجْزِئَةٍ لِمَا كَانَتْ لَهَا فَضِيلَةٌ أَصْلًا وَحَدِيثِ " إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا " فَأَثْبَتَ لَهُمَا الصَّلَاةَ فِي رِحَالِهِمَا وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ جَمَاعَةً وَسَيَأْتِي.

(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ) فِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ كُلَّهَا عَلَيْهِمْ ثَقِيلَةٌ فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ إذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى وَلَكِنَّ الْأَثْقَلَ عَلَيْهِمْ (صَلَاةُ الْعِشَاءِ)؛ لِأَنَّهَا فِي وَقْتِ الرَّاحَةِ وَالسُّكُونِ (وَصَلَاةُ الْفَجْرِ)؛ لِأَنَّهَا فِي وَقْتِ النَّوْمِ وَلَيْسَ لَهُمْ دَاعٍ دِينِيٌّ وَلَا تَصْدِيقٌ بِأَجْرِهِمَا حَتَّى يَبْعَثَهُمْ عَلَى إتْيَانِهِمَا وَيُخَفِّفَ عَلَيْهِمْ الْإِتْيَانَ

ص: 359

371 -

وَعَنْهُ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ» رَوَاهُ مُسْلِم.

بِهِمَا وَلِأَنَّهُمَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَدَاعِي الرِّيَاءِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يُصَلُّونَ مُنْتَفٍ لِعَدَمِ مُشَاهَدَةِ مَنْ يُرَاءُونَهُ مِنْ النَّاسِ إلَّا الْقَلِيلَ فَانْتَفَى الْبَاعِثُ الدِّينِيُّ مِنْهُمَا كَمَا انْتَفَى فِي غَيْرِهِمَا ثُمَّ انْتَفَى الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ الَّذِي فِي غَيْرِهِمَا وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم نَاظِرًا إلَى انْتِفَاءِ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ عِنْدَهُمْ (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا) فِي فِعْلِهِمَا مِنْ الْأَجْرِ (لَأَتَوْهُمَا) إلَى الْمَسْجِدِ (وَلَوْ حَبْوًا ") أَيْ وَلَوْ مَشُوًّا حَبْوًا أَيْ كَحَبْوِ الصَّبِيِّ عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّحْفُ عَلَى الرُّكَبِ وَقِيلَ عَلَى الِاسْتِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيُّ " وَلَوْ حَبْوًا عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ " وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ عِنْدَهُ أَيْضًا بِلَفْظِ " وَلَوْ حَبْوًا أَوْ زَحْفًا " فِيهِ حَثٌّ بَلِيغٌ عَلَى الْإِتْيَانِ إلَيْهِمَا وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا عَلِمَ مَا فِيهِمَا أَتَى إلَيْهِمَا عَلَى أَيِّ حَالٍ فَإِنَّهُ مَا حَالَ بَيْنَ الْمُنَافِقِ وَبَيْنَ هَذَا الْإِتْيَانِ إلَّا عَدَمُ تَصْدِيقِهِ بِمَا فِيهِمَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى) قَدْ وَرَدَتْ بِتَفْسِيرِهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَأَنَّهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ (قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ فَرَخَّصَ لَهُ) أَيْ فِي عَدَمِ إتْيَانِ الْمَسْجِدِ (فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ " هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ) وَفِي رِوَايَةٍ الْإِقَامَةَ (بِالصَّلَاةِ " قَالَ نَعَمْ قَالَ " فَأَجِبْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ

) كَانَ التَّرْخِيصُ أَوَّلًا مُطْلَقًا عَنْ التَّقْيِيدِ بِسَمَاعِهِ النِّدَاءَ فَرَخَّصَ لَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَهُ بِالْإِجَابَةِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ النِّدَاءَ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ، وَإِذَا سَمِعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ عَنْ الْحُضُورِ.

، وَالْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِيجَابِ لِلْجَمَاعَةِ عَيْنًا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الْوُجُوبُ عَيْنًا عَلَى سَامِعِ النِّدَاءِ لِتَقْيِيدِ حَدِيثِ الْأَعْمَى وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ وَمَا أُطْلِقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.

، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى وُجُوبُ الْجَمَاعَةِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً، وَالدَّلِيلُ هُوَ حَدِيثُ الْهَمِّ بِالتَّحْرِيقِ وَحَدِيثُ الْأَعْمَى وَهُمَا إنَّمَا دَلَّا عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ جَمَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِهِ لِسَمَاعِ النِّدَاءِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً مُطْلَقًا لَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِلْأَعْمَى وَلَقَالَ لَهُ اُنْظُرْ مَنْ يُصَلِّي مَعَك وَلَقَالَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ إنَّهُمْ لَا يَحْضُرُونَ جَمَاعَتَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُجْمِعُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَالْبَيَانُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَالْأَحَادِيثُ

ص: 360

372 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَقْفَهُ

إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ جَمَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَيْنًا عَلَى سَمَاعِ النِّدَاءِ لَا عَلَى وُجُوبِ مُطَلَّقِ الْجَمَاعَةِ كِفَايَةً وَلَا عَيْنًا.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لِسَامِعِ النِّدَاءِ عَنْ الْحُضُورِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَإِنَّ هَذَا ذَكَرَ الْعُذْرَ وَأَنَّهُ لَا يَجِدُ قَائِدًا فَلَمْ يَعْذُرْهُ إذَنْ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ التَّرْخِيصَ لَهُ ثَابِتٌ لِلْعُذْرِ وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِجَابَةِ نَدَبًا لَا وُجُوبًا لِيُحْرِزَ الْأَجْرَ فِي ذَلِكَ، وَالْمَشَقَّةُ تُغْتَفَرُ بِمَا يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الرَّوْحِ فِي الْحُضُورِ، وَيَدُلُّ لِكَوْنِ الْأَمْرِ لِلنَّدَبِ أَيْ مَعَ الْعُذْرِ قَوْلُهُ

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَقْفَهُ.) الْحَدِيثُ أُخْرِجَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَالْمَوْقُوفُ فِيهِ زِيَادَةُ: إلَّا مِنْ عُذْرٍ فَإِنَّ الْحَاكِمَ وَقَفَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِ شُعْبَةَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلَا عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَثَّقَهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ أَبُو دَاوُد بِزِيَادَةِ " قَالُوا وَمَا الْعُذْرُ قَالَ خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّى " بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَأَكُّدِ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَمَنْ يَقُولُ إنَّهَا سُنَّةٌ يُؤَوِّلُ قَوْلَهُ " فَلَا صَلَاةَ لَهُ " أَيْ كَامِلَةً وَأَنَّهُ نَزَّلَ نَفْيَ الْكَمَالِ مَنْزِلَةَ نَفْيِ الذَّاتِ مُبَالَغَةً.

، وَالْأَعْذَارُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْهَا مَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَمِنْهَا الْمَطَرُ وَالرِّيحُ الْبَارِدَةُ وَمَنْ أَكَلَ كُرَّاثًا أَوْ نَحْوَهُ مِنْ ذَوَاتِ الرِّيحِ الْكَرِيهَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ الْمَسْجِدَ قِيلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهَا لِمَا يَلْزَمُ مِنْ أَكْلِهَا مِنْ تَفْوِيتِ الْفَرِيضَةِ فَيَكُونَ آكِلُهَا آثِمًا لِمَا تَسَبَّبَ لَهُ مِنْ تَرْكِ الْفَرِيضَةِ وَلَكِنْ لَعَلَّ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ يَقُولُ تَسْقُطُ بِهَذِهِ الْأَعْذَارِ صَلَاتُهَا فِي الْمَسْجِدِ لَا فِي الْبَيْتِ فَيُصَلِّيهَا جَمَاعَةً.

ص: 361

373 -

وَعَنْ «يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَدَعَا بِهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعُدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: فَلَا تَفْعَلَا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَدْرَكْتُمَا الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ فَصَلِّيَا مَعَهُ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

وَعَنْ «يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَدَعَا بِهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعُدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: فَلَا تَفْعَلَا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَدْرَكْتُمَا الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ فَصَلِّيَا مَعَهُ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

(وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه) هُوَ أَبُو جَابِرِ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ السُّوَائِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَالْمَدِّ وَيُقَالُ الْخُزَاعِيُّ وَيُقَالُ الْعَامِرِيُّ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَابِرٌ وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ وَحَدِيثُهُ فِي الْكُوفِيِّينَ (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ (إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا) أَيْ مَعَهُ (فَدَعَا بِهِمَا فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعُدُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ (فَرَائِصُهُمَا) جَمْعُ فَرِيصَةٍ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ جَنْبِ الدَّابَّةِ وَكَتِفِهَا أَيْ تَرْجُفُ مِنْ الْخَوْفِ قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ (فَقَالَ لَهُمَا مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا " قَالَا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا جَمْعُ رَحْلٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الْمَنْزِلُ، وَيُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِهِ الْمَنْزِلُ (قَالَ فَلَا تَفْعَلَا إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَدْرَكْتُمَا الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ فَصَلِّيَا مَعَهُ فَإِنَّهَا) أَيْ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ صَلَاتِهِمَا الْفَرِيضَةَ (لَكُمَا نَافِلَةٌ)، وَالْفَرِيضَةُ هِيَ الْأُولَى سَوَاءٌ صُلِّيَتْ جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّلْخِيصِ: وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إسْنَادُهُ مَجْهُولٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ؛ لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْأَسْوَدِ لَيْسَ لَهُ رَاوٍ غَيْرُ ابْنِهِ وَلَا لِابْنِهِ جَابِرٍ غَيْرُ يَعْلَى. قُلْت يَعْلَى مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ وَجَابِرٌ وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ انْتَهَى.

، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَقَعَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَدَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ إذَا وَجَدَهُ يُصَلِّي أَوْ سَيُصَلِّي بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى، وَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ، وَالْأُخْرَى نَافِلَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى رَفْضِ الْأُولَى، وَذَهَبَ إلَى هَذَا زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْمُؤَيَّدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْآلِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

وَذَهَبَ الْهَادِي وَمَالِكٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ

ص: 362

374 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ

بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا جِئْت الصَّلَاةَ فَوَجَدْت النَّاسَ يُصَلُّونَ فَصَلِّ مَعَهُمْ إنْ كُنْت قَدْ صَلَّيْت تَكُنْ لَك نَافِلَةً، وَهَذِهِ مَكْتُوبَةٌ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَهُوَ أَصَحُّ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ " وَلْيَجْعَلْ الَّتِي صَلَّى فِي بَيْتِهِ نَافِلَةً " قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ شَاذَّةٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا بُدَّ مِنْ الرَّفْضِ لِلْأُولَى بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ: بِشَرْطِ فَرَاغِهِ مِنْ الثَّانِيَةِ صَحِيحَةً وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَسِبُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ " أَوَ ذَلِكَ إلَيْك؟ إنَّمَا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَحْتَسِبُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ " أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَقَدْ عُورِضَ حَدِيثُ الْبَابِ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ «لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا فَرِيضَةٌ لَا عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا نَافِلَةٌ أَوْ الْمُرَادُ يُصَلِّيهِمَا مَرَّتَيْنِ مُنْفَرِدًا ثُمَّ ظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ عُمُومُ ذَلِكَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُعَادُ إلَّا الظُّهْرُ، وَالْعِشَاءُ أَمَّا الصُّبْحُ، وَالْعَصْرُ فَلَا لِلنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَهُمَا وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ فَلَوْ أَعَادَهَا صَارَتْ شَفْعًا وَقَالَ مَالِكٌ إذَا كَانَ صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يُعِدْهَا، وَإِنْ صَلَّاهَا مُنْفَرِدًا أَعَادَهَا.

، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بَلْ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَيَكُونُ أَظْهَرَ فِي رَدِّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتَيْنِ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ) أَيْ لِلْإِحْرَامِ أَوْ مُطْلَقًا فَيَشْمَلُ تَكْبِيرَ النَّقْلِ (فَكَبِّرُوا وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ) زَادَهُ تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ مَفْهُومُ الشَّرْطِ كَمَا فِي سَائِرِ الْجُمَلِ الْآتِيَةِ (وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ) أَيْ حَتَّى يَأْخُذَ فِي الرُّكُوعِ لَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ اللَّفْظِ

ص: 363

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ) أَخَذَ فِي السُّجُودِ (فَاسْجُدُوا وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا) لِعُذْرٍ (فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ ") هَكَذَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَجْمَعُونَ بِالرَّفْعِ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ الْجَمْعِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَذَا لَفْظُهُ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ) إنَّمَا يُفِيدُ جَعْلُ الْإِمَامِ مَقْصُورًا عَلَى الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهِ مُؤْتَمًّا بِهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ الْمُؤْتَمُّ إلَى مُخَالَفَتِهِ.

وَالِائْتِمَامُ الِاقْتِدَاءُ وَالِاتِّبَاعُ، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْإِمَامَةِ لِيَقْتَدِيَ بِالْإِمَامِ وَمِنْ شَأْنِ التَّابِعِ، وَالْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ مَتْبُوعَهُ وَلَا يُسَاوِيَهُ وَلَا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي مَوْقِفِهِ بَلْ يُرَاقِبَ أَحْوَالَهُ وَيَأْتِيَ عَلَى أَثَرِهَا بِنَحْوِ فِعْلِهِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَقَدْ فَصَّلَ الْحَدِيثُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَإِذَا كَبَّرَ إلَى آخِرِهِ وَيُقَاسُ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ أَحْوَالِهِ كَالتَّسْلِيمِ عَلَى مَا ذُكِرَ فَمَنْ خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَقَدْ أَثِمَ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ إنْ خَالَفَ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِتَقْدِيمِهَا عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ فَإِنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ مَعَهُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ إمَامًا إذْ الدُّخُولُ بِهَا بَعْدَهُ وَهِيَ عُنْوَانُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَاِتِّخَاذِهِ إمَامًا.

وَاسْتُدِلَّ عَلَى عَدَمِ فَسَادِ الصَّلَاةِ بِمُخَالَفَتِهِ لِإِمَامِهِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَعَّدَ مَنْ سَابَقَ الْإِمَامَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ صَلَاتِهِ وَلَا قَالَ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُ.

ثُمَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُسَاوَاةَ فِي النِّيَّةِ فَدَلَّ أَنَّهَا إذَا اخْتَلَفَتْ نِيَّةُ الْإِمَامِ، وَالْمَأْمُومِ كَأَنْ يَنْوِيَ أَحَدُهُمَا فَرْضًا، وَالْآخَرُ نَفْلًا أَوْ يَنْوِيَ هَذَا عَصْرًا، وَالْآخَرُ ظُهْرًا أَنَّهَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي صَلَاةِ مُعَاذٍ وَقَوْلُهُ "، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " يَدُلُّ أَنَّهُ الَّذِي يَقُولُهُ الْإِمَامُ وَيَقُولُ الْمَأْمُومُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ وَقَدْ وَرَدَ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ وَوَرَدَ بِحَذْفِ اللَّهُمَّ، وَالْكُلُّ جَائِزٌ، وَالْأَرْجَحُ الْعَمَلُ بِزِيَادَةِ اللَّهُمَّ وَزِيَادَةِ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهُمَا يُفِيدَانِ مَعْنًى زَائِدًا.

وَقَدْ احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَجْمَعُ الْإِمَامُ، وَالْمُؤْتَمُّ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ وَهُمْ الْهَادَوِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: وَيُشْرَعُ لِلْإِمَامِ، وَالْمُنْفَرِدِ التَّسْمِيعُ وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْإِمَامُ، وَالْمُنْفَرِدُ وَيَقُولُ الْمُؤْتَمُّ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ " وَظَاهِرُهُ مُنْفَرِدًا، وَإِمَامًا فَإِنَّ صَلَاتَهُ صلى الله عليه وسلم مُؤْتَمًّا نَادِرَةٌ وَيُقَالُ عَلَيْهِ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُؤْتَمَّ فَإِنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا أَنَّهُ يَحْمَدُ وَذَهَبَ الْإِمَامُ يَحْيَى وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْإِمَامُ، وَالْمُنْفَرِدُ وَيَحْمَدُ الْمُؤْتَمُّ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْبَابِ إذْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ " فَقُولُوا اللَّهُمَّ " إلَخْ أَنَّهُ لَا يَقُولُ الْمُؤْتَمُّ إلَّا ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمُصَلِّي مُطْلَقًا مُسْتَدِلًّا بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ " الْحَدِيثَ قَالَ: وَالظَّاهِرُ عُمُومُ أَحْوَالِ صَلَاتِهِ جَمَاعَةً وَمُنْفَرِدًا وَقَدْ قَالَ

ص: 364

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

- صلى الله عليه وسلم «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَلَا حُجَّةَ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ عَلَى الِاقْتِصَارِ إذْ عَدَمُ الذِّكْرِ فِي اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَوْلُهُ إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ قَوْلِهِ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ وَقَوْلُهُ قُولُوا رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ قَوْلِ الْمُؤْتَمِّ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي حِكَايَتِهِ لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم زِيَادَةٌ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ مُعَارِضٍ لَهَا وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِمَا فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَيَكُونُ قَوْلُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ عِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ وَقَوْلُهُ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ عِنْدَ انْتِصَابِهِ وَقَوْلُهُ (فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِي الْقُعُودِ لِعُذْرٍ وَأَنَّهُ يَقْعُدُ الْمَأْمُومُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ وَقَدْ وَرَدَ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ فِعْلُ فَارِسَ وَالرُّومِ أَيْ الْقِيَامَ مَعَ قُعُودِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا» وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَائِمِ خَلْفَ الْقَاعِدِ لَا قَائِمًا وَلَا قَاعِدًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إمَامِكُمْ وَلَا تُتَابِعُوهُ فِي الْقُعُودِ» كَذَا فِي شَرْحِ الْقَاضِي، وَلَمْ يُسْنِدْهُ إلَى كِتَابٍ وَلَا وَجَدْت قَوْلَهُ وَلَا تُتَابِعُوهُ فِي الْقُعُودِ فِي حَدِيثٍ فَيُنْظَرُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَائِمِ خَلْفَ الْقَاعِدِ وَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْقُعُودِ قَالُوا: لِصَلَاةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قِيَامًا حِينَ خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ قَدْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَعَدَ عَنْ يَسَارِهِ فَكَانَ ذَلِكَ نَاسِخًا لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ بِالْجُلُوسِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاتِهِ حِينَ جُحِشَ وَانْفَكَّتْ قَدَمُهُ فَكَانَ هَذَا آخِرَ الْأَمْرَيْنِ فَتَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِهِ كَذَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيُّ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي أَمَرَهُمْ فِيهَا بِالْجُلُوسِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي صِحَّتِهَا وَلَا فِي سِيَاقِهَا وَأَمَّا صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ كَانَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِصَلَاتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَا يَتِمُّ إلَّا عَلَى أَنَّهُ كَانَ إمَامًا.

وَمِنْهَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجُلُوسِ لِلنَّدَبِ وَتَقْرِيرُ الْقِيَامِ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ خَارِجًا عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ لِلْمُؤْتَمِّ بَيْنَ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ وَمِنْهَا أَنَّهَا قَدْ ثَبَتَ فِعْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ أَمُّوا قُعُودًا وَمَنْ خَلْفَهُمْ قُعُودًا أَيْضًا مِنْهُمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَجَابِرٌ وَأَفْتَى بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا حَدِيثُ «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدُكُمْ بَعْدِي قَاعِدًا قَوْمًا قِيَامًا» فَإِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَابِرٌ ضَعِيفٌ جِدًّا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُرْسَلٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدْ عَلِمَ مِنْ احْتَجَّ بِهِ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ وَمِنْ رُوَاتِهِ رَجُلٌ يَرْغَبُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ يَعْنِي جَابِرًا الْجُعْفِيَّ.

وَذَهَبَ

ص: 365

375 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا. فَقَالَ: تَقَدَّمُوا فَأَتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

376 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: «احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجْرَةً مُخَصَّفَةً. فَصَلَّى فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ إلَى أَنَّهُ إذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِمَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ قُعُودًا، وَإِذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ قَائِمًا لَزِمَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا سَوَاءٌ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي صَلَاةَ إمَامِهِمْ قَاعِدًا أَمْ لَا كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ إمَامِهِمْ صَلَاتَهُ قَائِمًا ثُمَّ أَمَّهُمْ صلى الله عليه وسلم فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ قَاعِدًا بِخِلَافِ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ فِي مَرَضِهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ صَلَاتَهُ قَاعِدًا فَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ.

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ تَقَدَّمُوا فَأَتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) كَأَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا عَنْ الْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ " ائْتَمُّوا بِي " أَيْ اقْتَدُوا بِأَفْعَالِي وَلْيَقْتَدِ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ مُسْتَدِلِّينَ بِأَفْعَالِكُمْ عَلَى أَفْعَالِي.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ‌

‌ اتِّبَاعُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ مِمَّنْ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ

كَأَهْلِ الصَّفِّ الثَّانِي يَقْتَدُونَ بِالْأَوَّلِ وَأَهْلِ الصَّفِّ الثَّالِثِ بِالثَّانِي وَنَحْوِهِ أَوْ بِمَنْ يُبَلِّغُ عَنْهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَكَرَاهَةُ الْبَعْدِ عَنْهُ وَتَمَامُ الْحَدِيثِ «لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ» .

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ احْتَجَرَ) هُوَ بِالرَّاءِ الْمَنْعُ أَيْ اتَّخَذَ شَيْئًا كَالْحُجْرَةِ مِنْ الْخَصْفِ وَهُوَ الْحَصِيرُ وَيُرْوَى بِالزَّايِ أَيْ اتَّخَذَ حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَيْ مَانِعًا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجْرَةً مُخَصَّفَةً فَصَلَّى فِيهَا فَتَتَبَّعَ إلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى الْمُصَلَّيْنَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ بِاللَّيْلِ وَيَبْسُطُ بِالنَّهَارِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ " وَلَمْ يَتَّخِذْهُ دَائِمًا " وَقَوْلُهُ

ص: 366

377 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «صَلَّى مُعَاذٌ بِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ يَا مُعَاذُ فَتَّانًا؟ إذَا أَمَمْت النَّاسَ فَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

فَتَتَبَّعَ مِنْ التَّتَبُّعِ الطَّلَبِ، وَالْمَعْنَى طَلَبُوا مَوْضِعَهُ وَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " فَثَارَ إلَيْهِ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ «فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالَ قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» هَذَا لَفْظُهُ وَفِي مُسْلِمٍ قَرِيبٌ مِنْهُ

، وَالْمُصَنِّفُ سَاقَ الْحَدِيثَ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ لِإِفَادَةِ شَرْعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي النَّافِلَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي التَّطَوُّعِ.

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ «صَلَّى مُعَاذٌ بِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتُرِيدُ يَا مُعَاذُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا؟ إذَا أَمَمْت النَّاسَ فَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ لَفْظُهُ «أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَيْهِ وَأَقْبَلَ إلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ مُعَاذٌ سُورَةَ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ الِاقْتِدَاءَ بِمُعَاذٍ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا» وَعَلَيْهِ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: إذَا طَوَّلَ الْإِمَامُ وَكَانَ لِلرَّجُلِ أَيْ الْمَأْمُومِ حَاجَةٌ فَخَرَجَ. وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ وَقَدْ جَاءَ مَا قَالَهُ مُعَاذٌ مُفَسَّرًا بِلَفْظِ «فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ إنَّهُ مُنَافِقٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَا مُعَاذًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ أَوْ فَاتِنٌ أَنْتَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَوْ صَلَّيْت بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَك الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ» وَلَهُ فِي الْبُخَارِيِّ أَلْفَاظٌ غَيْرُ هَذِهِ

، وَالْمُرَادُ بِفَتَّانٍ أَيْ أَتُعَذِّبُ أَصْحَابَك بِالتَّطْوِيلِ، وَحَمَلَ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَأْمُومِينَ لِلْإِطَالَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا.

وَكَانَ مِقْدَارُ قِيَامِهِ فِي الظُّهْرِ بِالسِّتِّينَ آيَةً وَقَرَأَ بِأَقْصَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الْإِمَامِ، وَالْمَأْمُومِينَ.

، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ‌

‌ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ

فَإِنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي فَرِيضَةَ الْعِشَاءِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَذْهَبُ إلَى أَصْحَابِهِ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ نَفْلًا وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ

ص: 367

378 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ وَهُوَ مَرِيضٌ - قَالَتْ: فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَالشَّافِعِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَفِيهِ " هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ " وَقَدْ طَوَّلَ الْمُصَنِّفُ الْكَلَامَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَقَدْ كَتَبْنَا فِيهِ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً جَوَابَ سُؤَالٍ وَأَبَنَّا فِيهَا عَدَمَ نُهُوضِ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ.

، وَالْحَدِيثُ أَفَادَ أَنَّهُ يُخَفِّفُ الْإِمَامُ فِي قِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَقَدْ عَيَّنَ صلى الله عليه وسلم مِقْدَارَ الْقِرَاءَةِ وَيَأْتِي حَدِيثُ «إذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ» .

«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ وَهُوَ مَرِيضٌ قَالَتْ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ» هَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي (بَابِ الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ) تَعْيِينُ مَكَانِ جُلُوسِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا هُوَ مَقَامُ الْإِمَامِ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فِي (بَابِ حَدُّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ) بِلَفْظِ " جَلَسَ إلَى جَنْبِهِ " وَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهِ مَحَلَّ جُلُوسِهِ لَكِنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّهُ عَيَّنَ الْمَحَلَّ فِي رِوَايَةٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: " أَنَّهُ عَنْ يَسَارِهِ " قُلْت: حَيْثُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ فَهِيَ تُبَيِّنُ مَا أُجْمِلَ فِي أُخْرَى وَبِهِ يَتَّضِحُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إمَامًا فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوفُ الْوَاحِدِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَإِنْ حَضَرَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ لِيُبَلِّغَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ إمَامًا أَوَّلَ الصَّلَاةِ أَوْ لِكَوْنِ الصَّفِّ قَدْ ضَاقَ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ وَمَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَوْلُهَا " يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ عَلَى جِهَةِ الِائْتِمَامِ فَيَكُونَ أَبُو بَكْرٍ إمَامًا وَمَأْمُومًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا كَانَ مُبَلِّغًا وَلَيْسَ بِإِمَامٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَفِي غَيْرِهِ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، وَوَرَدَتْ الرِّوَايَاتُ بِمَا يُفِيدُ هَذَا وَمَا يُفِيدُ هَذَا لَكِنَّا قَدَّمْنَا ظُهُورَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْإِمَامَ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَرَجَّحَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْإِمَامَ لِوُجُوهٍ مِنْ التَّرْجِيحِ مُسْتَوْفَاةٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَفِي الشَّرْحِ بَعْضٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَتَقَدَّمَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الثَّلَثِمِائَةِ وَسِتَّةٍ وَسَبْعُونَ

ص: 368

379 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

بَعْضُ وُجُوهِ تَرْجِيحِ خِلَافِهِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ بِتَعَدُّدِ الْقِصَّةِ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى تَارَةً إمَامًا وَتَارَةً مَأْمُومًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ هَذَا.

وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا وَقَوْلِهَا «يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ» أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مَأْمُومًا إمَامًا، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا فَقَالَ (بَابُ الرَّجُلِ يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ: إنَّ الصُّفُوفَ يَؤُمُّ بَعْضُهَا بَعْضًا خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ الشَّعْبِيُّ مِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ رُءُوسَهُمْ مِنْ الرَّكْعَةِ إنَّهُ أَدْرَكَهَا وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ رَفَعَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَئِمَّةٌ فَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ يَرَى أَنَّهُمْ مُتَحَمِّلُونَ عَنْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «تَقَدَّمُوا فَأَتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ» وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ لِإِسْمَاعِ الْمَأْمُومِينَ فَيَتَّبِعُونَهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقْتَدِي اتِّبَاعُ صَوْتِ الْمُكَبِّرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِلْمَالِكِيَّةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَذْهَبِهِمْ: إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُبْطِلُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُبْطِلُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ بِالْإِسْمَاعِ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَلَهُمْ تَفَاصِيلُ غَيْرُ هَذِهِ لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ هُوَ الْإِمَامُ، وَلَا كَلَامَ أَنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ لِإِعْلَامِ مَنْ خَلْفَهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ» ، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ التَّخْفِيفَ فَيُلَاحِظُهُمْ الْإِمَامُ «وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مُخَفِّفًا وَمُطَوِّلًا.

، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ‌

‌ تَطْوِيلِ الْمُنْفَرِدِ لِلصَّلَاةِ

فِي جَمِيعِ أَرْكَانِهَا وَلَوْ خَشِيَ خُرُوجَ الْوَقْتِ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ «إنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَإِذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَمَالِ بِالتَّطْوِيلِ وَمُفْسِدَةُ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَانَتْ مُرَاعَاةُ تَرْكِ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ بِالْمُؤَخِّرِ حَتَّى

ص: 369

380 -

وَعَنْ «عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ أَبِي: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا. فَقَالَ: إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا قَالَ: فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنِّي قُرْآنًا، فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

يَخْرُجَ الْوَقْتُ مَنْ لَمْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا حَتَّى خَرَجَ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ بِكَسْرِ اللَّامِ هُوَ أَبُو يَزِيدَ مِنْ الزِّيَادَةِ كَمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ مُسْلِمٌ وَآخَرُونَ بُرَيْدٌ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ هُوَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ الْجَرْمِيُّ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مُخَفَّفٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَؤُهُمْ لِلْقُرْآنِ، وَقِيلَ: إنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِيهِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي قُدُومِ أَبِيهِ نَزَلَ عَمْرٌو الْبَصْرَةَ وَرَوَى عَنْهُ أَبُو قِلَابَةَ وَعَامِرٌ الْأَحْوَلُ وَأَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ (قَالَ: قَالَ أَبِي) أَيْ سَلَمَةُ بْنُ نُفَيْعٍ بِضَمِّ النُّونِ أَوْ ابْنُ لَأْيٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي اسْمِهِ (جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا) نُصِبَ عَلَى صِفَةِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ أَيْ نُبُوَّةً حَقًّا أَوْ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُتَضَمَّنَةِ إذْ هُوَ فِي قُوَّةِ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ (قَالَ إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا قَالَ) أَيْ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ (فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنِّي قُرْآنًا) وَقَدْ وَرَدَ بَيَانُ سَبَبِ أَكْثَرِيَّةِ قُرْآنِيَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ الَّذِينَ كَانُوا يَفِدُونَ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَيَمُرُّونَ بِعَمْرٍو وَأَهْلِهِ فَكَانَ يَتَلَقَّى مِنْهُمْ مَا يَقْرَءُونَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ إسْلَامِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ (فَقَدَّمُونِي وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ

) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ‌

‌ الْأَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ الْأَكْثَرُ قُرْآنًا

وَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِذَلِكَ قَرِيبًا، وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَذَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْمُؤَذِّنِ شَرْطًا.

وَتَقْدِيمُهُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ مِنْ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي إمَامَةِ الْمُمَيِّزِ.

وَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَعَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا الْإِجْزَاءُ فِي النَّوَافِلِ دُونَ الْفَرَائِضِ وَقَالَ بِعَدَمِ صِحَّتِهَا الْهَادِي وَالنَّاصِرُ وَغَيْرُهُمَا قِيَاسًا عَلَى الْمَجْنُونِ قَالُوا: وَلَا حُجَّةَ فِي قِصَّةِ عَمْرٍو هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَقْرِيرِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَلِيلَ الْجَوَازِ وُقُوعُ ذَلِكَ

ص: 370

381 -

وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا - وَفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا - وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

فِي زَمَنِ الْوَحْيِ، وَلَا يُقَرَّرُ فِيهِ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ نُبِّهَ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ عَلَى الْقَذَى الَّذِي كَانَ فِي نَعْلِهِ فَلَوْ كَانَ إمَامَةُ الصَّبِيِّ لَا تَصِحُّ لَنَزَلَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ.

وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو سَعِيدٍ وَجَابِرٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْزِلُونَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ وَالْوَفْدُ الَّذِينَ قَدَّمُوا عَمْرًا كَانُوا جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ، وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي نَافِلَةٍ يُبْعِدُهُ سِيَاقُ الْقِصَّةِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُمْ الْأَوْقَاتِ لِلْفَرَائِضِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ «إنَّهُ يَؤُمُّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» .

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ قَالَ عَمْرٌو فَمَا شَهِدْت مَشْهَدًا فِي جِرْمَ (اسْمُ قَبِيلَةٍ) إلَّا كُنْت إمَامَهُمْ، وَهَذَا يَعُمُّ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ (قُلْت) وَيَحْتَاجُ مَنْ ادَّعَى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَأَنَّهُ تَصِحُّ إمَامَةُ الصَّبِيِّ فِي هَذَا دُونَ ذَلِكَ إلَى دَلِيلٍ.

ثُمَّ الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ.

. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَكْثَرُهُمْ لَهُ حِفْظًا، وَقِيلَ: أَعْلَمُهُمْ بِأَحْكَامِهِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يُنَاسِبُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ «فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا» أَيْ إسْلَامًا، (وَفِي رِوَايَةٍ سِنًّا) عِوَضًا عَنْ سِلْمًا «، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ» بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ: الْفِرَاشُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبْسَطُ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ وَيَخْتَصُّ بِهِ (إلَّا بِإِذْنِهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ عَلَى الْأَفْقَهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ.

وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَفْقَهُ عَلَى الْأَقْرَأِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَضْبُوطٌ وَاَلَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْفِقْهِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، وَقَدْ يَعْرِضُ فِي الصَّلَاةِ أُمُورٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُرَاعَاتِهَا إلَّا كَامِلُ الْفِقْهِ قَالُوا: وَلِهَذَا قَدَّمَ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ قَوْلِهِ أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ قَالُوا: وَالْحَدِيثُ خَرَجَ عَلَى

ص: 371

382 -

وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه «، وَلَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا» ، وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ

مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّ الْأَقْرَأَ هُوَ الْأَفْقَهُ وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كُنَّا نَتَجَاوَزُ عَشْرَ آيَاتٍ حَتَّى نَعْرِفَ حُكْمَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُبْعِدُ هَذَا قَوْلُهُ «فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا، وَالْأَقْرَأُ عَلَى مَا فَسَّرُوهُ بِهِ هُوَ الْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ لَكَانَ الْقِسْمَانِ قِسْمًا وَاحِدًا.

وَقَوْلُهُ ": فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً " هُوَ شَامِلٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ هِجْرَةً سَوَاءٌ كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَعْدَهُ كَمَنْ يُهَاجِرُ مِنْ دَارِ الْكُفَّارِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» فَالْمُرَادُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا صَارَا دَارَ إسْلَامٍ وَلَعَلَّهُ يُقَالُ: وَأَوْلَادُ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي التَّقْدِيمِ وَقَوْلُهُ " سِلْمًا " أَيْ مَنْ تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ، وَلَعَلَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، وَكَذَا رِوَايَةُ سِنًّا أَيْ الْأَكْبَرُ فِي السِّنِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ «وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» وَمِنْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ التَّقْدِيمَ قُرَيْشٌ لِحَدِيثِ «قَدِّمُوا قُرَيْشًا» قَالَ الْحَافِظُ الْمُصَنِّفُ إنَّهُ قَدْ جَمَعَ طُرُقَهُ فِي جُزْءٍ كَبِيرٍ.

وَمِنْهُ الْأَحْسَنُ وَجْهًا لِحَدِيثٍ وَرَدَ بِهِ، وَفِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ «، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ» فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ تَقْدِيمِ غَيْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ ذُو الْوِلَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ السُّلْطَانَ الْأَعْظَمَ أَوْ نَائِبَهُ، وَظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ قُرْآنًا، وَفِقْهًا فَيَكُونُ هَذَا خَاصًّا، وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ عَامٌّ، وَيَلْحَقُ بِالسُّلْطَانِ صَاحِبُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي صَاحِبِ الْبَيْتِ حَدِيثٌ بِخُصُوصِهِ بِأَنَّهُ الْأَحَقُّ.

أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ " لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ صَاحِبُ الْبَيْتِ " قَالَ الْمُصَنِّفُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَأَمَّا إمَامُ الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ عَنْ وِلَايَةٍ مِنْ السُّلْطَانِ أَوْ عَامِلِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ السُّلْطَانِ، وَإِنْ كَانَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ أَحَقَّ، وَأَنَّهَا وِلَايَةٌ خَاصَّةٌ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الْقُعُودِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ السُّلْطَانُ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ الرَّجُلُ مِنْ فِرَاشٍ وَسَرِيرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَقْعُدُ فِيهِ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ.

(وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه «، وَلَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا»، وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ) فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدَوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَالْعَدَوِيُّ اتَّهَمَهُ وَكِيعٌ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ وَشَيْخُهُ ضَعِيفٌ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى فِيهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ

ص: 372

383 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

وَهُوَ مُتَّهَمٌ بِسَرِقَةِ الْحَدِيثِ وَتَخْلِيطِ الْأَسَانِيدِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَؤُمُّ الرَّجُلَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْهَادَوِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَجَازَ الْمُزَنِيّ وَأَبُو ثَوْرٍ إمَامَةَ الْمَرْأَةِ، وَأَجَازَ الطَّبَرِيُّ إمَامَتَهَا فِي التَّرَاوِيحِ إذَا لَمْ يَحْضُرْ مَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ وَسَيَأْتِي وَيَحْمِلُونَ هَذَا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ أَوْ يَقُولُونَ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ.

وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ الْأَعْرَابِيُّ مُهَاجِرًا وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ إذْ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ.

وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ الْفَاجِرُ وَهُوَ الْمُنْبَعِثُ فِي الْمَعَاصِي مُؤْمِنًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ فَاشْتَرَطُوا عَدَالَةَ مَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ وَقَالُوا لَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْفَاسِقِ.

وَذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى صِحَّةِ إمَامَتِهِ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا يَأْتِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ، وَفَاجِرٍ إلَّا أَنَّهَا كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَقَدْ عَارَضَهَا حَدِيثُ «لَا يَؤُمَّنَّكُمْ ذُو جُرْأَةٍ فِي دِينِهِ» وَنَحْوُهُ وَهِيَ أَيْضًا ضَعِيفَةٌ قَالُوا فَلَمَّا ضُعِّفَتْ الْأَحَادِيثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ رَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ صَحَّتْ إمَامَتُهُ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ قَالَ " أَدْرَكْت عَشَرَةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يُصَلُّونَ خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ " وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا حَدِيثُ مُسْلِمٍ «كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا قَالَ فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ» فَقَدْ أَذِنَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ وَجَعَلَهَا نَافِلَةً؛ لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ لَوْ صَلُّوهَا فِي وَقْتِهَا لَكَانَ مَأْمُورًا بِصَلَاتِهَا خَلْفَهُمْ فَرِيضَةً.

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " رُصُّوا) أَيْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ رَصَّ الْبِنَاءَ (صُفُوفَكُمْ) بِانْضِمَامِ بَعْضِكُمْ إلَى بَعْضٍ (وَقَارِبُوا بَيْنَهَا) أَيْ بَيْنَ الصُّفُوفِ (وَحَاذُوا) أَيْ يُسَاوِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الصَّفِّ (بِالْأَعْنَاقِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) تَمَامُ الْحَدِيثِ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد «فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَرَى الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ فِي خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ» بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هِيَ صِغَارُ الْغَنَمِ، وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ

ص: 373

384 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

فَقَالَ «أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثَلَاثًا وَاَللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالَ فَرَأَيْت الرَّجُلَ يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ» ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ أَيْضًا قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّينَا فِي الصُّفُوفِ كَمَا يُقَوَّمُ الْقِدْحُ حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنْ قَدْ أَخَذْنَا ذَلِكَ عَنْهُ، وَفَقِهْنَا أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ بِوَجْهِهِ إذَا رَجُلٌ مُنْتَبِذٌ بِصَدْرِهِ فَقَالَ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا وَيَقُولُ لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ»

، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَالْوَعِيدُ الَّذِي فِيهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا تَسَاهَلَ فِيهِ النَّاسُ كَمَا تَسَاهَلُوا فِيمَا يُفِيدُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فَإِنَّك تَرَى النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُونَ لِلْجَمَاعَةِ وَهُمْ لَا يَمْلَئُونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ لَوْ قَامُوا فِيهِ فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يَتَفَرَّقُونَ صُفُوفًا عَلَى اثْنَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَةٍ وَنَحْوِهِ.

، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قُلْنَا وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْمُقَدَّمَةَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» وَوَرَدَ فِي سَدِّ الْفُرَجِ فِي الصُّفُوفِ أَحَادِيثُ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مَا مِنْ خُطْوَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خُطْوَةٍ مَشَاهَا الرَّجُلُ فِي فُرْجَةٍ فِي الصَّفِّ فَسَدَّهَا» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَدَّ فُرْجَةً فِي صَفٍّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَدَّ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ غُفِرَ لَهُ» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَيُغْنِي عَنْهُ «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ» الْحَدِيثَ إذْ الْفُرَجُ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ عَدَمِ رَصِّهِمْ الصُّفُوفَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا» أَيْ أَكْثَرُهَا أَجْرًا، وَهُوَ الصَّفُّ الَّذِي تُصَلِّي الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَنْ صَلَّى فِيهِ كَمَا يَأْتِي (وَشَرُّهَا

ص: 374

385 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْت عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

آخِرُهَا) أَقَلُّهَا أَجْرًا «وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْأَوْسَطِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَاسِعَةٌ. أَخْرَجَ أَحْمَدُ - قَالَ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُهُ مُوثَقُونَ - وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى الثَّانِي قَالَ وَعَلَى الثَّانِي» ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ - قَالَ الْهَيْثَمِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ - مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اسْتَغْفَرَ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ ثَلَاثًا وَلِلثَّانِي مَرَّتَيْنِ وَلِلثَّالِثِ مَرَّةً» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ أَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ ضَعْفُهُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.

ثُمَّ قَدْ وَرَدَ فِي مَيْمَنَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَمُسَامَتَةِ الْإِمَامِ، وَأَفْضَلِيَّتِهِ عَلَى الْأَيْسَرِ أَحَادِيثُ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَكُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَإِلَّا فَعَنْ يَمِينِهِ» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ مَنْ لَمْ أَجِدْ لَهُ ذِكْرًا، وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ، وَالْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «عَلَيْكُمْ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ وَعَلَيْكُمْ بِالْمَيْمَنَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالصَّفَّ بَيْنَ السَّوَارِي» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ ضَعِيفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَقَّ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أَهْلُ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى تَضْعِيفِهِ وَاخْتُلِفَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِزِيَادَةِ «، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، وَإِيَّاكُمْ، وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ»

، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ غَيْرُهُ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اصْطِفَافِ النِّسَاءِ صُفُوفًا وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاتُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ أَوْ مَعَ النِّسَاءِ، وَقَدْ عَلَّلَ خَيْرِيَّةَ آخِرِ صُفُوفِهِنَّ بِأَنَّهُنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَبْعُدْنَ عَنْ الرِّجَالِ وَعَنْ رُؤْيَتِهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِهِمْ إلَّا أَنَّهَا عِلَّةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا إذَا كَانَتْ صَلَاتُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَأَمَّا إذَا صَلَّيْنَ، وَإِمَامَتُهُنَّ امْرَأَةٌ فَصُفُوفُهَا كَصُفُوفِ الرِّجَالِ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةِ) هِيَ لَيْلَةُ مَبِيتِهِ عِنْدَهُ الْمَعْرُوفَةُ «فَقُمْت عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ» .

ص: 375

386 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُمْت أَنَا وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

387 -

«وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: زَادَك اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعُدْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد فِيهِ: فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

دَلَّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَعَلَى أَنَّ مَوْقِفَ الْوَاحِدِ مَعَ الْإِمَامِ عَنْ يَمِينِهِ بِدَلِيلِ الْإِدَارَةِ إذْ لَوْ كَانَ الْيَسَارُ مَوْقِفًا لَهُ لَمَا أَدَارَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ وَخَالَفَ النَّخَعِيُّ فَقَالَ: إذَا كَانَ الْإِمَامُ وَوَاحِدٌ قَامَ الْوَاحِدُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنْ رَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ أَحَدٌ قَامَ عَنْ يَمِينِهِ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْإِمَامَةَ مَظِنَّةُ الِاجْتِمَاعِ فَاعْتُبِرَتْ فِي مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ قِيلَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ قَامَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عَبَّاسٍ بِالْإِعَادَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِجَهْلِهِ أَوْ بِأَنَّهُ مَا كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ قَوْلُهُ " فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ " ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ قَامَ مُسَاوِيًا لَهُ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ " فَقُمْت إلَى جَنْبِهِ " وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ دُونَهُ قَلِيلًا إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جُرَيْجٍ " قَالَ: قُلْنَا لِعَطَاءٍ الرَّجُلُ يُصَلِّي مَعَ الرَّجُلِ أَيْنَ يَكُونُ مِنْهُ قَالَ: إلَى شِقِّهِ قُلْت: أَيُحَاذِيهِ حَتَّى يَصُفَّ مَعَهُ لَا يَفُوتُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ قَالَ: نَعَمْ قُلْت: بِحَيْثُ إنْ لَا يَبْعُدَ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ قَالَ: نَعَمْ " وَمِثْلُهُ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَفَّ مَعَهُ فَقَرَّبَهُ حَتَّى جَعَلَهُ حِذَاءَهُ عَنْ يَمِينِهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُمْت وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ» فِيهِ الْعَطْفُ عَلَى الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ مِنْ دُونِ تَأْكِيدٍ، وَلَا فَصْلٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَاسْمُ الْيَتِيمِ ضُمَيْرَةُ وَهُوَ جَدُّ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ (وَأُمُّ سُلَيْمٍ) هِيَ أُمُّ أَنَسٍ وَاسْمُهَا مُلَيْكَةُ مُصَغَّرًا (خَلْفَنَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ)

دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي النَّفْلِ، وَعَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّبَرُّكِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ، وَعَلَى أَنَّ مَقَامَ الِاثْنَيْنِ خَلْفَ الْإِمَامِ.

وَعَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يُعْتَدُّ بِوُقُوفِهِ وَيَسُدُّ الْجُنَاحَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْيَتِيمِ إذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الِاحْتِلَامِ.

وَعَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصُفُّ مَعَ الرِّجَالِ، وَأَنَّهَا تَنْفَرِدُ فِي الصَّفِّ، وَأَنَّ عَدَمَ امْرَأَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهَا عُذْرٌ فِي ذَلِكَ فَإِنْ انْضَمَّتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ أَجْزَأَتْ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إلَّا تَقْرِيرُهَا عَلَى التَّأَخُّرِ، وَأَنَّهُ مَوْقِفُهَا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِ صَلَاتِهَا لَوْ صَلَّتْ

ص: 376

388 -

وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي

فِي غَيْرِهِ.

وَعِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ أَنَّهَا تَفْسُدُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَنْ خَلْفَهَا وَعَلَى مَنْ فِي صَفِّهَا إنْ عَلِمُوا وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى فَسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْفَسَادِ فِي الصُّورَتَيْنِ.

«وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَادَك اللَّهُ حِرْصًا» أَيْ عَلَى طَلَبِ الْخَيْرِ (وَلَا تَعُدْ ") بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ الْعَوْدِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَزَادَ أَبُو دَاوُد فِيهِ فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ) الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَلَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَصِلَ الصَّفَّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "، وَلَا تَعُدْ " وَقِيلَ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ لِصَلَاتِهِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتهَا. قُلْت لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا لِلْحُكْمِ، وَالْجَهْلُ عُذْرٌ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ - قَالَ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ - أَنَّهُ قَالَ " إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ رُكُوعٌ فَلْيَرْكَعْ حِينَ يَدْخُلُ ثُمَّ يَدِبُّ رَاكِعًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ فَإِنَّ ذَلِكَ السُّنَّةُ " قَالَ عَطَاءٌ قَدْ رَأَيْته يَصْنَعُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَدْ رَأَيْت عَطَاءً يَصْنَعُ ذَلِكَ.

قُلْت وَكَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ، وَلَا تُعِدْ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ الْإِعَادَةِ أَيْ زَادَك اللَّهُ حِرْصًا عَلَى طَلَبِ الْخَيْرِ، وَلَا تُعِدْ صَلَاتَك فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ وَرُوِيَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْعَدْوِ وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ السَّكَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ بِلَفْظِ «أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَانْطَلَقْت أَسْعَى حَتَّى دَخَلْت فِي الصَّفِّ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: مَنْ السَّاعِي آنِفًا قَالَ أَبُو بَكْرَةَ: فَقُلْت أَنَا قَالَ صلى الله عليه وسلم زَادَك اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعْدُ»، وَالْأَقْرَبُ رِوَايَةُ أَنَّهُ لَا تَعُدْ مِنْ الْعَوْدِ أَيْ لَا تَعُدْ سَاعِيًا إلَى الدُّخُولِ قَبْلَ وُصُولِك الصَّفَّ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْعِرُ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ حَتَّى يُفْتِيَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَا يُعِيدُهَا بَلْ قَوْلُهُ زَادَك اللَّهُ حِرْصًا يُشْعِرُ بِإِجْزَائِهَا، أَوْ لَا تَعْدُ مِنْ الْعَدْوِ.

ص: 377

خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

389 -

وَلَهُ عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» ، وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ " أَلَا دَخَلْت مَعَهُمْ أَوْ اجْتَرَرْت رَجُلًا؟ ".

(وَعَنْ وَابِصَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَهُوَ أَبُو قِرْصَافَةَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ فَاءٌ ابْنُ مِعْبَدٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَهُوَ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الْأَسَدِيِّ نَزَلَ وَابِصَةُ الْكُوفَةَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى الْحِيرَةِ وَمَاتَ بِالرَّقَّةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى‌

‌ بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ

وَقَدْ قَالَ بِبُطْلَانِهَا النَّخَعِيُّ وَأَحْمَدُ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ وَيَقُولُ لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ لَقُلْت بِهِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يُتَوَقَّى ذَلِكَ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ بُطْلَانِهَا اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ صلى الله عليه وسلم بِالْإِعَادَةِ مَعَ أَنَّهُ أَتَى بِبَعْضِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا قَالُوا فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ هَاهُنَا عَلَى النَّدْبِ قِيلَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى الْعُذْرِ، وَهُوَ خَشْيَةُ الْفَوَاتِ مَعَ انْضِمَامِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا لِغَيْرِ عُذْرٍ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ (قُلْت)، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ هَذَا لَا يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ بَلْ يُوَافِقُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرَةَ بِالْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا بِجَهْلِهِ وَيُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالْإِعَادَةِ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ بِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْحُكْمِ وَيَدُلُّ عَلَى الْبُطْلَانِ أَيْضًا مَا تَضْمَنَّهُ قَوْلُهُ.

389 -

وَلَهُ عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» ، وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ " أَلَا دَخَلْت مَعَهُمْ أَوْ اجْتَرَرْت رَجُلًا؟ ". (وَلَهُ) أَيْ لِابْنِ حِبَّانَ (عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ) الَّذِي سَلَفَ ذِكْرُهُ «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» فَإِنَّ النَّفْيَ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ (وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ) فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ (أَلَا دَخَلْت) أَيُّهَا الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا عَنْ الصَّفِّ (مَعَهُمْ) أَيْ فِي الصَّفِّ (أَوْ اجْتَرَرْت رَجُلًا) أَيْ مِنْ الصَّفِّ فَيَنْضَمَّ إلَيْك وَتَمَامُ حَدِيثِ الطَّبَرَانِيُّ «إنْ ضَاقَ بِك الْمَكَانُ أَعِدْ صَلَاتَك فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لَك» وَهُوَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إلَى الصَّفِّ

ص: 378

390 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، وَالْوَقَارُ، وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

وَقَدْ تَمَّ فَلْيَجْذِبْ إلَيْهِ رَجُلًا يُقِيمُهُ إلَى جَنْبِهِ» وَقَالَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَقَالَ لَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ السَّرِيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ السَّرِيَّ بْنَ إسْمَاعِيلَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالشَّارِحُ ذَكَرَ أَنَّ السَّرِيَّ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيُّ الَّتِي فِيهَا الزِّيَادَةُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ رِوَايَةِ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا «إنْ جَاءَ أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا فَلْيَخْتَلِجْ إلَيْهِ رَجُلًا مِنْ الصَّفِّ فَلْيَقُمْ مَعَهُ فَمَا أَعْظَمُ أَجْرِ الْمُخْتَلَجِ» ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْآتِيَ وَقَدْ تَمَّتْ الصُّفُوفُ بِأَنْ يَجْتَذِبَ إلَيْهِ رَجُلًا يُقِيمَهُ إلَى جَنْبِهِ» ، وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ أَيْ الصَّلَاةَ فَامْشُوا إلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ» قَالَ النَّوَوِيُّ السَّكِينَةُ التَّأَنِّي فِي الْحَرَكَاتِ وَاجْتِنَابُ الْعَبَثِ (، وَالْوَقَارُ) فِي الْهَيْئَةِ كَغَضِّ الطَّرْفِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَقِيلَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَذَكَرَ الثَّانِي تَأْكِيدًا وَقَدْ نَبَّهَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي شَرْعِيَّةِ هَذَا الْأَدَبِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة هَذَا " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا كَانَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ " أَيْ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي فَيَنْبَغِي اعْتِمَادُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اعْتِمَادُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يَنْبَغِي لَهُ اجْتِنَابُهُ (وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ) مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ (فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ) فِيهِ‌

‌ الْأَمْرُ بِالْوَقَارِ وَعَدَمِ الْإِسْرَاعِ فِي الْإِتْيَانِ إلَى الصَّلَاةِ

وَذَلِكَ لِتَكْثِيرِ الْخُطَى فَيَنَالُ فَضِيلَةَ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «إنَّ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إلَى الصَّلَاةِ دَرَجَةً» وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد مَرْفُوعًا «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ الْيُمْنَى إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ الْيُسْرَى إلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَةً فَإِذَا أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِي جَمَاعَةٍ غُفِرَ لَهُ فَإِنْ جَاءَ وَقَدْ صَلُّوا بَعْضًا وَبَقِيَ بَعْضٌ فَصَلَّى مَا أَدْرَكَ، وَأَتَمَّ مَا بَقِيَ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَتَى الْمَسْجِدَ وَقَدْ صَلَّوْا كَانَ كَذَلِكَ» وَقَوْلُهُ «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إذَا فَعَلْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْإِسْرَاعِ وَنَحْوِهِ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا.

، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ يُدْرِكُهَا، وَلَوْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ

ص: 379

391 -

وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ

فِي أَيْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَلَوْ دُونَ رَكْعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لَهَا إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» وَسَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ اشْتِرَاطُ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ، وَيُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَوْقَاتِ لَا فِي الْجَمَاعَةِ وَبِأَنَّ الْجُمُعَةَ مَخْصُوصَةٌ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى صِحَّةِ الدُّخُول مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيِّ حَالَةٍ أَدْرَكَهُ عَلَيْهَا وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا «وَمَنْ وَجَدَنِي رَاكِعًا أَوْ قَائِمًا أَوْ سَاجِدًا فَلْيَكُنْ مَعِي عَلَى الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا» قُلْت وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اعْتِدَادِهِ بِمَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا عَلَى إحْرَامِهِ فِي أَيِّ حَالَةٍ أَدْرَكَهُ عَلَيْهَا بَلْ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْكَوْنِ مَعَهُ وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِرِجَالٍ مُوثَقِينَ - كَمَا قَالَ الْهَيْثَمِيُّ - عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا " مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الرَّكْعَةَ فَلَا يَعْتَدُّ بِالسَّجْدَةِ "، وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِي الْكَبِيرِ - قَالَ الْهَيْثَمِيُّ أَيْضًا بِرِجَالٍ مُوَثَّقِينَ - مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ " دَخَلَتْ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ، وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ فَرَكَعْنَا ثُمَّ مَشَيْنَا حَتَّى اسْتَوَيْنَا بِالصَّفِّ فَلَمَّا فَرَغَ الْإِمَامُ قُمْت أَقْضِي فَقَالَ قَدْ أَدْرَكْته "، وَهَذِهِ آثَارٌ مَوْقُوفَةٌ، وَفِي الْآخَرِ دَلِيلٌ - أَيْ مَأْنُوسٌ بِمَا ذَهَبَ وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالَاتِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا آثَارٌ مَوْقُوفَةٌ لَيْسَتْ بِأَدِلَّةٍ - عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ حَدِيثُ الْبَابِ بِلَفْظِ " فَاقْضُوا " عِوَضَ أَتِمُّوا، وَالْقَضَاءُ يُطْلَقُ عَلَى أَدَاءِ الشَّيْءِ فَهُوَ فِي مَعْنَى أَتِمُّوا فَلَا مُغَايَرَةَ ثُمَّ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُدْرِكُهُ اللَّاحِقُ مَعَ إمَامِهِ هَلْ هِيَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ أَوْ آخِرُهَا، وَالْحَقُّ أَنَّهَا أَوَّلُهَا وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ.

وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَرَكَعَ مَعَهُ هَلْ تَسْقُطُ قِرَاءَةُ تِلْكَ الرَّكْعَةِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْفَاتِحَةَ فَيَعْتَدُّ بِهَا أَوْ لَا تَسْقُطُ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا قِيلَ: يَعْتَدُّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ وَقِيلَ لَا يَعْتَدُّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ فَاتَتْهُ الْفَاتِحَةُ وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَتَرَجَّحَ عِنْدَنَا الْإِجْزَاءُ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ حَيْثُ رَكَعَ وَهُمْ رُكُوعٌ ثُمَّ أَقَرَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ الْعَوْدَةِ إلَى الدُّخُولِ قَبْلَ الِانْتِهَاءِ إلَى الصَّفِّ كَمَا عَرَفْت.

ص: 380

صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ عز وجل» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

392 -

«وَعَنْ أُمِّ وَرَقَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ

وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ» أَيْ أَكْثَرُ أَجْرًا مِنْ صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا «وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ، وَالْعُقَيْلِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ «صَلَاةُ الرَّجُلَيْنِ يَؤُمُّ أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ مِنْ صَلَاةِ مِائَةٍ تَتْرَى» ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ‌

‌ أَقَلَّ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إمَامٌ وَمَأْمُومٌ

وَيُوَافِقُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى «اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِمَا ضَعْفٌ وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ (بَابُ اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ) وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ «إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ رَجُلٌ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ مَا حَبَسَك يَا فُلَانُ عَنْ الصَّلَاةِ فَذَكَرَ شَيْئًا اعْتَلَّ بِهِ قَالَ فَقَامَ يُصَلِّي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّي مَعَهُ فَقَامَ رَجُلٌ مَعَهُ» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

(وَعَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالرَّاءِ وَالْقَافِ هِيَ أُمُّ وَرَقَةَ بِنْتُ نَوْفَلٍ الْأَنْصَارِيَّةُ وَقِيلَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُوَيْمِرٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا وَيُسَمِّيهَا الشَّهِيدَةَ وَكَانَتْ قَدْ جَمَعَتْ الْقُرْآنَ وَكَانَتْ تَؤُمُّ أَهْلَ دَارِهَا وَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الْغَزْوِ مَعَك. .. الْحَدِيثَ. وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ، وَكَانَ لَهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ فَدَبَّرَتْهُمَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْغُلَامَ، وَالْجَارِيَةَ قَامَا إلَيْهَا فِي اللَّيْلِ فَغَمَّاهَا بِقَطِيفَةٍ لَهَا حَتَّى مَاتَتْ وَذَهَبَا فَأَصْبَحَ عُمَرُ فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ هَذَيْنِ أَوْ مَنْ رَآهُمَا فَلْيَجِئْ بِهِمَا فَوُجِدَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَصَلَبَهُمَا وَكَانَا أَوَّلَ مَصْلُوبٍ بِالْمَدِينَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا

ص: 381

393 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، يَؤُمُّ النَّاسَ، وَهُوَ أَعْمَى» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد

394 -

وَنَحْوُهُ لِابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -

395 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ

، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْمَرْأَةِ أَهْلَ دَارِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ فَإِنَّهُ كَانَ لَهَا مُؤَذِّنٌ وَكَانَ شَيْخًا كَمَا فِي الرِّوَايَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ تَؤُمُّهُ وَغُلَامَهَا وَجَارِيَتَهَا وَذَهَبَ إلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْجَمَاهِيرُ.

، وَأَمَّا إمَامَةُ الرَّجُلِ النِّسَاءَ فَقَطْ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ «أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَمِلْت اللَّيْلَةَ عَمَلًا قَالَ مَا هُوَ قَالَ نِسْوَةٌ مَعِي فِي الدَّارِ قُلْنَ إنَّك تَقْرَأُ، وَلَا نَقْرَأُ فَصَلِّ بِنَا فَصَلَّيْت ثَمَانِيًا، وَالْوِتْرَ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَرَأَيْنَا أَنَّ سُكُوتَهُ رِضًا» قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي إسْنَادِهِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ قَالَ وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَتَقَدَّمَ اسْمُهُ فِي الْأَذَانِ (يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد) فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد أَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ يَؤُمُّ النَّاسَ» ، وَالْمُرَادُ اسْتِخْلَافُهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَقَدْ عُدَّتْ مَرَّاتُ الِاسْتِخْلَافِ لَهُ فَبَلَغَتْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْأَعْمَى مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةِ ذَلِكَ.

(وَنَحْوُهُ) أَيْ نَحْوُ حَدِيثِ أَنَسٍ (لِابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.

ص: 382

396 -

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ، وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» أَيْ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ «وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ قَالَ فِي الْبَدْرِ الْمُنِيرِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ لَا يَثْبُتُ.

وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَالَ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبَاتِ وَذَهَبَ إلَى هَذَا زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى وَذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى قَاطِعَ الطَّرِيقِ، وَالْبَاغِيَ.

وَلِلشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ إذَا صُلِبَ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ قَالَ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ فَلَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عَلَيْهِ.

وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ «الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَمَّا أَنَا فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ عُمُومَ شَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا يُخَصُّ مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ.

فَأَمَّا الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَأَنَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ صَحَّتْ إمَامَتُهُ.

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ، وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ وَقَالَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا - الْحَدِيثَ.

وَفِيهِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ " لَا أَرَاهُ عَلَى حَالٍ إلَّا كُنْت عَلَيْهَا " وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الِانْقِطَاعُ إذْ الظَّاهِرُ أَوْ الرَّاوِي لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ غَيْرُ مُعَاذٍ بَلْ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالِانْقِطَاعُ إنَّمَا اُدُّعِيَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُعَاذٍ قَالُوا؛ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ وَقَدْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَالَ هُنَا " أَصْحَابُنَا "، وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَحِقَ بِالْإِمَامِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ فِي أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ

ص: 383

‌باب صلاة المسافر والمريض

397 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ

قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا فَإِنَّهُ يَعْتَدُّ بِمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ كَمَا سَلَفَ فَإِذَا كَانَ قَاعِدًا أَوْ سَاجِدًا قَعَدَ بِقُعُودِهِ وَسَجَدَ بِسُجُودِهِ، وَلَا يَعْتَدُّ بِذَلِكَ وَتَقَدَّمَ مَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ «مَنْ وَجَدَنِي قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَلْيَكُنْ مَعِي عَلَى الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «إذَا جِئْتُمْ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِيهِ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْإِمَامُ صُلْبَهُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» وَتَرْجَمَ لَهُ (بَابُ ذِكْرِ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَأْمُومُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ إذَا رَكَعَ إمَامُهُ) وَقَوْلُهُ " فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ "

لَيْسَ صَرِيحًا أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بَلْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ إمَّا بِهَا إذَا كَانَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا، فَيُكَبِّرُ اللَّاحِقُ مِنْ قِيَامٍ ثُمَّ يَرْكَعُ أَوْ بِالْكَوْنِ مَعَهُ فَقَطْ وَمَتَى قَامَ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ شَرْعِيَّةَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ حَالَ الْقِيَامِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَالْإِمَامِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُجْزِئَ إلَّا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ أَصْرَحُ مِنْ دُخُولِهَا بِالِاحْتِمَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ) فِي الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ.

أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الْمُنَادِيَ يُنَادِي فَيُنَادِي صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ، وَفِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ» وَعَنْ جَابِرٍ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَمُطِرْنَا فَقَالَ لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إذَا قُلْت أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ قَالَ فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا فَقَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " وَعِنْدَ مُسْلِمٍ " أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ مُؤَذِّنَهُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ بِنَحْوِهِ "، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلَا يُعَجِّلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ» ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ» ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ " قَالَ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ إقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ ".

ص: 384

صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

- وَلِلْبُخَارِيِّ: ثُمَّ هَاجَرَ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأَوَّلِ

- زَادَ أَحْمَدُ: إلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَإِلَّا الصُّبْحَ، فَإِنَّهَا تَطُولُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ الصَّلَاةُ) مَا عَدَا الْمَغْرِبَ (رَكْعَتَيْنِ) أَيْ حَضَرًا وَسَفَرًا (فَأُقِرَّتْ) أَيْ أَقَرَّ اللَّهُ (صَلَاةَ السَّفَرِ) بِإِبْقَائِهَا رَكْعَتَيْنِ (وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ) مَا عَدَا الْمَغْرِبَ يُرِيدُ فِي الثَّلَاثِ الصَّلَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِأُتِمَّتْ زِيدَ فِيهَا حَتَّى كَانَتْ تَامَّةً بِالنَّظَرِ إلَى صَلَاةِ السَّفَرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِلْبُخَارِيِّ) وَحْدَهُ عَنْ عَائِشَةَ (ثُمَّ هَاجَرَ) أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا) أَيْ صَارَتْ أَرْبَعًا بِزِيَادَةِ اثْنَتَيْنِ (وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ عَلَى الْفَرْضِ الْأَوَّلِ (زَادَ أَحْمَدُ إلَّا الْمَغْرِبَ) أَيْ زَادَهُ مِنْ رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ بَعْدَ قَوْلِهَا " أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ الصَّلَاةُ " أَيْ إلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ ثَلَاثًا (فَإِنَّهَا) أَيْ الْمَغْرِبَ (وِتْرُ النَّهَارِ) فَفُرِضَتْ وِتْرًا ثَلَاثًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ (وَإِلَّا الصُّبْحَ فَإِنَّهَا تَطُولُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى‌

‌ وُجُوبِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ

؛ لِأَنَّ فُرِضَتْ بِمَعْنَى وَجَبَتْ وَوُجُوبُهُ مَذْهَبُ الْهَادَوِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: إنَّهُ رُخْصَةٌ وَالتَّمَامُ أَفْضَلُ وَقَالُوا فُرِضَتْ بِمَعْنَى قُدِّرَتْ أَوْ فُرِضَتْ لِمَنْ أَرَادَ الْقَصْرَ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} وَبِأَنَّهُ سَافَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصُرُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُتِمُّ، وَلَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَبِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُتِمُّ وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ أَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَرَدَّ بِأَنَّ هَذِهِ أَفْعَالُ صَحَابَةٍ لَا حُجَّةَ فِيهَا وَبِأَنَّهُ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا " صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ نَزَلَتَا مِنْ السَّمَاءِ فَإِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوهُمَا " قَالَ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُهُ مَوْثُوقُونَ وَهُوَ تَوْقِيفٌ إذْ لَا مَسْرَحَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهُ فِي الْكَبِيرِ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ " صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ "، وَفِي قَوْلِهِ السُّنَّةَ دَلِيلٌ عَلَى رَفْعِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: كَانَ يَقْتَصِرُ صلى الله عليه وسلم الرُّبَاعِيَّةَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَمَّ الرُّبَاعِيَّةَ فِي السَّفَرِ أَلْبَتَّةَ، وَفِي قَوْلِهَا " إلَّا الْمَغْرِبَ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شَرْعِيَّتَهَا فِي الْأَصْلِ ثَلَاثًا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَقَوْلُهَا (إنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ) أَيْ صَلَاةُ النَّهَارِ كَانَتْ شَفْعًا، وَالْمَغْرِبُ آخِرُهَا لِوُقُوعِهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ فَهِيَ وِتْرٌ لِصَلَاةِ النَّهَارِ كَمَا أَنَّهُ شُرِعَ الْوِتْرُ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالْوِتْرُ مَحْبُوبٌ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» وَقَوْلُهَا " إلَّا الصُّبْحَ " فَإِنَّهَا تَطُولُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ تُرِيدُ

ص: 385

398 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. إلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ فِعْلِهَا، وَقَالَتْ: إنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ

أَنَّهُ لَا يُقْصَرُ فِي صَلَاتِهَا فَإِنَّهَا رَكْعَتَانِ حَضَرًا وَسَفَرًا؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ فِيهَا تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ وَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنْهَا فِي الْآيَةِ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ لَمَّا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ مُعْظَمَ أَرْكَانِهَا لِطُولِهَا فِيهَا فَعُبِّرَ عَنْهَا بِهَا مِنْ إطْلَاقِ الْجُزْءِ الْأَعْظَمِ عَلَى الْكُلِّ.

398 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. إلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ،، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ فِعْلِهَا، وَقَالَتْ: إنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ» الْأَرْبَعَةُ الْأَفْعَالُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ هَذَا، وَهَذَا (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرُوَاتُهُ) مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ (ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ فِعْلِهَا وَقَالَتْ " إنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ) وَاسْتَنْكَرَهُ أَحْمَدُ فَإِنَّ عُرْوَةَ رَوَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُتِمُّ، وَأَنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ كَمَا فِي الصَّحِيحِ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِوَايَةٌ لَمْ يَقُلْ عُرْوَةُ إنَّهَا تَأَوَّلَتْ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خِلَافُ ذَلِكَ

، وَأَخْرَجَ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى إذَا قَدِمَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَتْمَمْتُ وَقَصَرْتُ، وَأَفْطَرْتُ وَصُمْتُ فَقَالَ أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ» قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَقَدْ رُوِيَ " كَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ " الْأَوَّلُ بِالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ وَالثَّانِي بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ وَتَصُومُ أَيْ تَأْخُذُ هِيَ بِالْعَزِيمَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهَذَا بَاطِلٌ مَا كَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لِتُخَالِفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ فَتُصَلِّيَ خِلَافَ صَلَاتِهِمْ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهَا " إنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ " فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهَا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهَا تُصَلِّي خِلَافَ صَلَاتِهِ وَصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ.

قُلْت وَقَدْ أَتَمَّتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ إنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ انْتَهَى هَذَا وَحَدِيثُ الْبَابِ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي اتِّصَالِهِ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إنَّهُ أَدْرَكَ عَائِشَةَ وَهُوَ مُرَاهِقٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله هُوَ كَمَا قَالَ فَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ أُدْخِلَ عَلَيْهَا وَهُوَ صَغِيرٌ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا وَادَّعَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّحَاوِيُّ ثُبُوتَ سَمَاعِهِ مِنْهَا وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ فِي السُّنَنِ إسْنَادُهُ

ص: 386

399 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَفِي رِوَايَةٍ " كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ "

400 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ فَرَاسِخَ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

حَسَنٌ وَقَالَ فِي الْعِلَلِ الْمُرْسَلُ أَشْبَهُ. هَذَا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَنَقَلَهُ الشَّارِحُ وَرَاجَعْت سُنَنَ الدَّارَقُطْنِيِّ فَرَأَيْته سَاقَهُ وَقَالَ إنَّهُ صَحِيحٌ ثُمَّ فِيهِ الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ كَانَ مِمَّنْ يَرْوِي عَنْ الثِّقَاتِ مِمَّا لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ الْأَثْبَاتِ انْتَهَى. فَبَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُوَافِقْ الْأَثْبَاتَ، وَبَطَلَ بِهَذَا ادِّعَاءُ ابْنِ حَزْمٍ جَهَالَتَهُ فَقَدْ عُرِفَ عَيْنًا وَحَالًا وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا مَا لَفْظُهُ: وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ يَقُولُ، وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

انْتَهَى يُرِيدُ رِوَايَةَ يَقْصُرُ وَيُتِمُّ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ رُبَاعِيَّةً فِي سَفَرٍ، وَلَا صَامَ فِيهِ فَرْضًا.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَفِي رِوَايَةٍ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ) فُسِّرَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ بِرِضَاهُ وَكَرَاهَتُهُ بِخِلَافِهَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الرُّخْصَةَ مَا شُرِعَ مِنْ الْأَحْكَامِ لِعُذْرِ، وَالْعَزِيمَةُ مُقَابِلُهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَا سَهَّلَهُ لِعِبَادِهِ وَوَسَّعَهُ عِنْدَ الشِّدَّةِ مِنْ تَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِبَاحَةِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ.

، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ‌

‌ فِعْلَ الرُّخْصَةِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الْعَزِيمَةِ

كَذَا قِيلَ وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ بَلْ يَدُلُّ عَلَى مُسَاوَاتِهَا لِلْعَزِيمَةِ، وَالْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْله تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ فَرَاسِخَ

ص: 387

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صَلَّى رَكْعَتَيْنِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ " إذَا خَرَجَ " إذَا كَانَ قَصْدُهُ مَسَافَةَ هَذَا الْقَدْرِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا طَوِيلًا فَلَا يَقْصُرُ إلَّا بَعْدَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ وَقَوْلُهُ أَمْيَالٍ أَوْ فَرَاسِخَ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي وَلَيْسَ التَّخْيِيرُ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ شَكَّ فِيهِ شُعْبَةُ قِيلَ فِي حَدِّ الْمِيلِ هُوَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الشَّخْصِ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ فَلَا يَدْرِي أَهُوَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَالذِّرَاعُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا مُعْتَرِضَةً مُتَعَادِلَةً، وَالْأُصْبُعُ سِتُّ شَعِيرَاتٍ مُعْتَرِضَةً مُتَعَادِلَةً، وَقِيلَ: هُوَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ بِقَدَمِ الْإِنْسَانِ وَقِيلَ: هُوَ أَرْبَعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ خُطْوَةٍ لِلْجَمَلِ وَقِيلَ: ثَلَاثُ آلَافِ ذِرَاعٍ بِالْهَاشِمِيِّ وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ أُصْبُعًا، وَهُوَ ذِرَاعُ الْهَادِي عليه السلام وَهُوَ الذِّرَاعُ الْعُمَرِيُّ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ فِي صَنْعَاءَ وَبِلَادِهَا.

وَأَمَّا الْفَرْسَخُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى نَحْوِ عِشْرِينَ قَوْلًا حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ فَذَهَبَ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا: مَسَافَةُ الْقَصْرِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَأُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ بِالثَّلَاثَةِ الْأَمْيَالِ نَعَمْ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ بِالثَّلَاثَةِ الْفَرَاسِخِ إذْ الْأَمْيَالُ دَاخِلَةٌ فِيهَا فَيُؤْخَذُ بِالْأَكْثَرِ، وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ لَكِنْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَى التَّحْدِيدِ بِالثَّلَاثَةِ الْفَرَاسِخِ أَحَدٌ نَعَمْ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ لِلظَّاهِرِيَّةِ بِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَافَرَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْفَرْسَخَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا خَرَجْتُ مِيلًا قَصَرْتُ الصَّلَاةَ "، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي الْبَحْرِ عَنْ دَاوُد وَيَلْحَقُ بِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قَوْلُ الْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى وَالْهَادِي وَغَيْرِهِمْ: إنَّهُ يَقْصُرُ فِي مَسَافَةِ بَرِيدٍ فَصَاعِدًا مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُسَافِرُ بَرِيدًا إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد قَالُوا فَسَمَّى مَسَافَةَ الْبَرِيدِ سَفَرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى الْأَقَلُّ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ سَفَرًا، وَإِنَّمَا هَذَا تَحْدِيدٌ لِلسَّفَرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْمَحْرَمُ. وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَمَسَافَةِ وُجُوبِ الْمَحْرَمِ لِجَوَازِ التَّوْسِعَةِ فِي إيجَابِ الْمَحْرَمِ تَخْفِيفًا عَلَى الْعِبَادِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْمُؤَيَّدُ وَغَيْرُهُمَا، وَالْحَنَفِيَّةُ: بَلْ مَسَافَتُهُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا لِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ مَحْرَمٍ» قَالُوا وَسَيْرُ الْإِبِلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَمَانِيَةُ فَرَاسِخَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بَلْ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ» وَسَيَأْتِي، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَبِأَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ " أَنَّهُ سُئِلَ أَتُقْصَرُ الصَّلَاةُ مِنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ قَالَ لَا وَلَكِنْ إلَى

ص: 388

401 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ. فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

402 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ» ، وَفِي لَفْظٍ: بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد: سَبْعَ عَشْرَةَ، وَفِي أُخْرَى: خَمْسَ عَشْرَةَ

عُسْفَانَ، وَإِلَى جُدَّةَ، وَإِلَى الطَّائِفِ "، وَهَذِهِ الْأَمْكِنَةُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ فَمَا فَوْقَهَا، وَالْأَقْوَالُ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا سَمِعْتَ، وَالْأَدِلَّةُ مُتَقَاوِمَةٌ قَالَ فِي زَادِ الْمَعَادِ: وَلَمْ يَحُدَّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ مَسَافَةً مَحْدُودَةً لِلْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ بَلْ أَطْلَقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ السَّفَرِ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ كَمَا أَطْلَقَ لَهُمْ التَّيَمُّمَ فِي كُلِّ سَفَرٍ، وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ التَّحْدِيدِ بِالْيَوْمِ، وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ فِيهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَجَوَازُ الْقَصْرِ، وَالْجَمْعِ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ.

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَكَانَ يُصَلِّي أَيْ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» أَيْ كُلَّ رُبَاعِيَّةٍ رَكْعَتَيْنِ (حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ) يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي سَفَرِهِ فِي عَامِ الْفَتْحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَّا أَنَّ فِيهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد زِيَادَةً " أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَنَسٍ هَلْ أَقَمْتُمْ بِهَا شَيْئًا قَالَ أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا " وَيَأْتِي أَنَّهُمْ أَقَامُوا فِي الْفَتْحِ زِيَادَةً عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد أَنَّ هَذَا أَيْ خَمْسَ عَشْرَةَ وَنَحْوَهَا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ.

، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ مَعَ إقَامَتِهِ فِي مَكَّةَ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْسَ‌

‌ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ يَقْتَضِي الْقَصْرَ

وَلَوْ لَمْ يُجَاوِزْ مِنْ الْبَلَدِ مِيلًا، وَلَا أَقَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ الْبَلَدَ، وَلَوْ صَلَّى وَبُيُوتُهَا بِمَرْأًى مِنْهُ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ». وَفِي لَفْظٍ) تَعْيِينُ مَحَلِّ الْإِقَامَةِ، وَأَنَّهُ (بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد)

ص: 389

403 -

وَلَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ

404 -

وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: «أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ؛ إلَّا أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ

أَيْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (سَبْعَ عَشْرَةَ) بِالتَّذْكِيرِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مُمَيِّزَهُ يَوْمًا، وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَبِالتَّأْنِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد؛ لِأَنَّهُ حَذَفَ مُمَيِّزَهُ وَتَقْدِيرُهُ لَيْلَةً، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد عَنْهُ تِسْعَةَ عَشَرَ كَالرِّوَايَةِ الْأُولَى (وَفِي أُخْرَى) أَيْ لِأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (خَمْسَ عَشْرَةَ وَلَهُ) أَيْ لِأَبِي دَاوُد - وَلَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ.

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ) وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُد «شَهِدْت مَعَهُ الْفَتْحَ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولُ يَا أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» (وَلَهُ) أَيْ لِأَبِي دَاوُد.

(عَنْ جَابِرٍ «أَقَامَ أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ) فَوَصَلَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ أَبُو دَاوُد: غَيْرُ مَعْمَرٍ لَا يُسْنِدُهُ فَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ بِالْإِرْسَالِ وَالِانْقِطَاعِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ " بِضْعَ عَشْرَةَ ". وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُد تَرْجَمَ لِبَابِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ (بَابُ: مَتَى يُتِمُّ الْمُسَافِرُ) ثُمَّ سَاقَهَا

، وَفِيهَا كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ " مَنْ أَقَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ قَصَرَ وَمَنْ أَقَامَ أَكْثَرَ أَتَمَّ " وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَدْرِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ الَّتِي إذَا عَزَمَ الْمُسَافِرُ عَلَى إقَامَتِهَا أَتَمَّ فِيهَا الصَّلَاةَ عَلَى أَقْوَالٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ: إنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لِقَوْلِ عَلِيٍّ عليه السلام " إذَا أَقَمْت عَشْرًا فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ " أَخْرَجَهُ الْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ مِنْ طُرُقٍ فِيهَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّقْرِيبِ: إنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ قَالُوا: وَهُوَ تَوْقِيفٌ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مُسْتَدِلِّينَ بِإِحْدَى رِوَايَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِقَوْلِهِ وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ " إذَا قَدِمْت بَلْدَةً، وَأَنْتَ مُسَافِرٌ، وَفِي نَفْسِك أَنْ تُقِيمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ " وَذَهَبَتْ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ أَقَلَّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ، وَالْمُرَادُ غَيْرُ يَوْمِ الدُّخُولِ، وَالْخُرُوجِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَنْعِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ مُضِيِّ النُّسُكِ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي مَكَّةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ يَصِيرُ مُقِيمًا وَثَمَّ أَقْوَالٌ أُخَرُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ

ص: 390

405 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا ارْتَحَلَ فِي سَفَرِهِ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ فِي الْأَرْبَعِينَ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: صَلَّى الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ ثُمَّ رَكِبَ. وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ:«كَانَ إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ، فَزَالَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ»

دَخَلَ الْبَلَدَ عَازِمًا عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهَا، وَأَمَّا مَنْ تَرَدَّدَ فِي الْإِقَامَةِ، وَلَمْ يَعْزِمْ فَفِيهِ خِلَافٌ أَيْضًا.

فَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ يَقْصُرُ إلَى شَهْرٍ لِقَوْلِ عَلِيٍّ عليه السلام " إنَّهُ مَنْ يَقُولُ الْيَوْمَ أَخْرُجُ غَدًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ شَهْرًا " وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ بِهِ الْإِمَامُ يَحْيَى إنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا إذْ الْأَصْلُ السَّفَرُ وَلِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ أَقَامَ بِأَذَرْبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَقَامَ بِنَيْسَابُورَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا بِرَامَهُرْمُزَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَتْ الرِّوَايَاتُ فِي مُدَّةِ إقَامَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَكَّةَ وَتَبُوكَ، وَأَنَّهُ بَعْدَمَا يُجَاوِزُ مُدَّةَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي قَصَرَ فِيهَا عَلَى نَفْيِ الْقَصْرِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَقْصُرُ كَمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بِالْبَقَاءِ مَعَ التَّرَدُّدِ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْإِقَامَةِ وَالرَّحِيلِ مُقِيمًا، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِتَبُوكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ لِلصَّلَاةِ» ثُمَّ قَالَ تَفَرَّدَ بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا ارْتَحَلَ فِي سَفَرِهِ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَيْ قَبْلَ الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ» أَيْ وَحْدَهُ، وَلَا يَضُمُّ إلَيْهِ الْعَصْرَ (ثُمَّ رَكِبَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ‌

‌ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ تَأْخِيرًا

وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا تَقْدِيمًا لِقَوْلِهِ " صَلَّى الظُّهْرَ " إذْ لَوْ جَازَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ لَضَمَّ إلَيْهِ الْعَصْرَ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم يُخَصِّصُ أَحَادِيثَ التَّوْقِيتِ الَّتِي مَضَتْ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ إلَى جَوَازِ الْجَمْعِ لِلْمُسَافِرِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّأْخِيرِ

ص: 391

406 -

وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَبِمَا يَأْتِي فِي التَّقْدِيمِ وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ جَمْعُ التَّأْخِيرِ فَقَطْ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.

وَاخْتَارَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لَا تَقْدِيمًا، وَلَا تَأْخِيرًا لِلْمُسَافِرِ وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِنْ جَمْعِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ جَمْعٌ صُورِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَقَدَّمَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَمِثْلُهُ الْعِشَاءُ، وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ، وَإِنْ تَمَشَّى لَهُمْ هَذَا فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ لَمْ يَتِمَّ لَهُمْ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ فِي الْأَرْبَعِينَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ صَلَّى الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ) أَيْ إذَا زَاغَتْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الْفَرِيضَتَيْنِ مَعًا (ثُمَّ رَكِبَ) فَإِنَّهَا أَفَادَتْ ثُبُوتَ جَمْعِ التَّقْدِيمِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْجَمْعُ الصُّورِيُّ (وَ) مِثْلُهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي (لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ) أَيْ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ.

«كَانَ أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ ارْتَحَلَ» فَقَدْ أَفَادَتْ رِوَايَةُ الْحَاكِمِ، وَأَبِي نُعَيْمٍ ثُبُوتَ جَمْعِ التَّقْدِيمِ أَيْضًا وَهُمَا رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ كَمَا قَالَ فِي الْمُصَنَّفِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ فَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ حَسَّنَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَحَ فِيهَا وَجَعَلَهَا مَوْضُوعَةً وَهُوَ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ حَكَمَ بِوَضْعِهَا ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْحَاكِمِ فِي بَيَانِ وَضْعِ الْحَدِيثِ ثُمَّ رَدَّهُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، وَسُكُوتُ الْمُصَنِّفِ هُنَا عَلَيْهِ وَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ يَدُلُّ عَلَى رَدِّهِ لِكَلَامِ الْحَاكِمِ، وَيُؤَيِّدُ صِحَّتَهُ قَوْلُهُ.

406 -

وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ) إلَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِجَمْعِ التَّأْخِيرِ لَا غَيْرَ، أَوْ لَهُ وَلِجَمْعِ التَّقْدِيمِ وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ «كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى أَنْ يَجْمَعَهَا إلَى الْعَصْرِ فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ عَجَّلَ الْعَصْرَ إلَى الظُّهْرِ وَصَلَّى الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ جَمِيعًا» فَهُوَ كَالتَّفْصِيلِ لِمُجْمَلِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إخْرَاجِهِ إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ قُتَيْبَةُ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ اللَّيْثِ غَيْرَهُ قَالَ: وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدِيثُ مُعَاذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ

ص: 392

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ» انْتَهَى إذَا عَرَفَتْ هَذَا فَجَمْعُ التَّقْدِيمِ فِي ثُبُوتِ رِوَايَتِهِ مَقَالٌ إلَّا رِوَايَةَ الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ

فَإِنَّهُ لَا مَقَالَ فِيهَا وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُ التَّأْخِيرِ لِثُبُوتِ الرِّوَايَةِ بِهِ لَا جَمْعُ التَّقْدِيمِ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَرِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ثُمَّ إنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ لِلْمُسَافِرِ هَلْ الْجَمْعُ أَوْ التَّوْقِيتُ فَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ تَرْكُ الْجَمْعِ أَفْضَلُ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَهُ عُذْرٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ لَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ رَاتِبًا فِي سَفَرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَلَا يَجْمَعُ حَالَ نُزُولِهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَإِذَا سَارَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ كَمَا فِي أَحَادِيثِ تَبُوكَ، وَأَمَّا جَمْعُهُ وَهُوَ نَازِلٌ غَيْرُ مُسَافِرٍ فَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْهُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ اتِّصَالِ الْوُقُوفِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَشَيْخُنَا وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَمَامِ النُّسُكِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ وَقَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّ سَبَبَ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ السَّفَرُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ فَقَالَ الشَّارِحُ بَعْدَ ذِكْرِ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِهِ فِيهِ: إنَّهُ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَلِمَا تَوَاتَرَ مِنْ مُحَافَظَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَوْقَاتِهَا حَتَّى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ «مَا رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا» ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ» قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا أَرَادَ إلَى ذَلِكَ قَالَ أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيِّنٍ لِجَمْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَتَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهَا تَحَكُّمٌ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ مِنْ الْبَقَاءِ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَدِيثِ الْأَوْقَاتِ لِلْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، وَتَخْصِيصُ الْمُسَافِرِ لِثُبُوتِ الْمُخَصَّصِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْحَاسِمُ.

وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنْ الْآثَارِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَغَيْرُ حُجَّةٍ إذْ لِلِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ مَسْرَحٌ وَقَدْ أَوَّلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْجَمْعِ الصُّورِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَرَجَّحَهُ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالطَّحَاوِيُّ وَقَوَّاهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ لِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - رَاوِي الْحَدِيثِ - عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ " قُلْت يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ قَالَ، وَأَنَا أَظُنُّهُ " قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَدْرَى بِالْمُرَادِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ أَبُو الشَّعْثَاءِ بِذَلِكَ.

، وَأَقُولُ إنَّمَا هُوَ ظَنٌّ مِنْ الرَّاوِي وَاَلَّذِي يُقَالُ فِيهِ: أَدْرَى بِمَا رَوَى إنَّمَا يَجْرِي تَفْسِيرُهُ لِلَّفْظِ مَثَلًا.

عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى نَظَرًا فَإِنَّ

ص: 393

407 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. كَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ

قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» يَرُدُّ عُمُومَهَا نَعَمْ يَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِهِ النَّسَائِيّ فِي أَصْلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ ثَمَانِيًا جَمْعًا وَسَبْعًا جَمْعًا أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ» ، وَالْعَجَبُ مِنْ النَّوَوِيِّ كَيْفَ ضَعَّفَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَغَفَلَ عَنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ، وَالْمُطْلَقُ فِي رِوَايَةٍ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا كَانَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي هَذَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ " أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ " يُضَعِّفُ هَذَا الْجَمْعِ الصُّورِيَّ لِوُجُودِ الْحَرَجِ فِيهِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنْ التَّوْقِيتِ إذْ يَكْفِي لِلصَّلَاتَيْنِ تَأَهُّبٌ وَاحِدٌ وَقَصْدٌ وَاحِدٌ إلَى الْمَسْجِدِ وَوُضُوءٌ وَاحِدٌ بِحَسَبِ الْأَغْلَبِ بِخِلَافِ الْوَقْتَيْنِ فَالْحَرَجُ فِي هَذَا الْجَمْعِ لَا شَكَّ أَخَفُّ.

وَأَمَّا قِيَاسُ الْحَاضِرِ عَلَى الْمُسَافِرِ كَمَا قِيلَ فَوَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هِيَ السَّفَرُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِثْلُهُ فِي الْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ انْتَهَى.

قُلْت وَهُوَ كَلَامٌ رَصِينٌ وَقَدْ كُنَّا ذَكَرْنَا مَا يُلَاقِيهِ فِي رِسَالَتِنَا الْيَوَاقِيتِ فِي الْمَوَاقِيتِ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى كَلَامِ الشَّارِحِ رحمه الله وَجَزَاهُ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ جَمْعَ التَّقْدِيمِ فِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ وَهُوَ كَمَنْ صَلَّى الصَّلَاةَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا فَيَكُونُ حَالُ الْفَاعِلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الْآيَةَ مِنْ ابْتِدَائِهَا، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ الْمُقَدَّمَةُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا بِمَنْطُوقٍ، وَلَا مَفْهُومٍ، وَلَا عُمُومٍ، وَلَا خُصُوصٍ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ) فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ نَسَبَهُ الثَّوْرِيُّ إلَى الْكَذِبِ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ كَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ) أَيْ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسْرَحٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ رَأْيِهِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي التَّحْدِيدِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ.

ص: 394

408 -

وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ أُمَّتِي الَّذِينَ إذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا سَافَرُوا قَصُرُوا، وَأَفْطَرُوا» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَهُوَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ مُخْتَصَرًا

409 -

وَعَنْ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

410 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «عَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرِيضًا فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ فَرَمَى بِهَا، وَقَالَ: صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إنْ اسْتَطَعْت، وَإِلَّا فَأَوْمِ إيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَك أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِك» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ أُمَّتِي الَّذِينَ إذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا سَافَرُوا قَصُرُوا، وَأَفْطَرُوا» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَهُوَ فِي مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ مُخْتَصَرًا) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ‌

‌ الْقَصْرَ، وَالْفِطْرَ أَفْضَلُ لِلْمُسَافِرِ

مِنْ خِلَافِهِمَا، وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ تَرْكُ الْجَمْعِ أَفْضَلُ فَقِيَاسُ هَذَا أَنْ يَقُولُوا التَّمَامُ أَفْضَلُ وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ لِضَعْفِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ رحمه الله أَعَادَ هُنَا حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَحَدِيثَ جَابِرٍ وَهُمَا قَوْلُهُ.

وَعَنْ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ» هَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَلَفَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (فَقَالَ «صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) هُوَ كَمَا قَالَ وَلَمْ يَنْسُبْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَى أَحَدٍ وَقَدْ بَيَّنَّا مَنْ رَوَاهُ غَيْرَ الْبُخَارِيِّ وَمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ.

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ «عَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرِيضًا فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ فَرَمَى

ص: 395

411 -

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

‌باب الجمعة

412 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ - عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ - «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

بِهَا وَقَالَ صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إنْ اسْتَطَعْت، وَإِلَّا فَأَوْمِ إيمَاءً وَاجْعَلْ سُجُودَك أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِك» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ) زَادَ فِيمَا مَضَى أَنَّهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي آخِرِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ بِلَفْظِهِمَا وَشَرَحْنَاهُمَا هُنَالِكَ فَتَرَكْنَا شَرْحَهُمَا هُنَا لِذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا حَدِيثَ عَائِشَةَ وَقَدْ مَرَّ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِهِ وَشَرَحَهُ الشَّارِحُ وَقَالَ هُنَا: صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَهُنَا قَالَ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَهُوَ:

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا». رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ)

وَهُوَ مِنْ أَحَادِيثِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ لَا مِنْ أَحَادِيثِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فِيمَا سَلَفَ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى صِفَةِ قُعُودِ الْمُصَلِّي إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ عَنْ الْقِيَامِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي تَقَدَّمَ.

الْجُمُعَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفِيهَا الْإِسْكَانُ، وَالْفَتْحُ مِثْلُ هُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَكَانَتْ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعَرُوبَةَ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» .

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ)

ص: 396

413 -

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: كُنَّا نَجْمَعُ مَعَهُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ، نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ

أَيْ مِنْبَرِهِ الَّذِي مِنْ عُودٍ لَا عَلَى الَّذِي كَانَ مِنْ الطِّينِ، وَلَا عَلَى الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ، وَهَذَا الْمِنْبَرُ عُمِلَ لَهُ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ عَمِلَهُ لَهُ غُلَامُ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ نَجَّارًا وَاسْمُهُ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ مَيْمُونٌ كَانَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجٍ وَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ حَتَّى زَادَهُ مَرْوَانُ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ سِتَّ دَرَجٍ مِنْ أَسْفَلِهِ وَلَهُ قِصَّةٌ فِي زِيَادَتِهِ وَهِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى دِمَشْقَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَ فَأَظْلَمَتْ الْمَدِينَةُ فَخَرَجَ مَرْوَانُ فَخَطَبَ فَقَالَ إنَّمَا أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَرْفَعَهُ، وَقَالَ إنَّمَا زِدْت عَلَيْهِ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى احْتَرَقَ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَاحْتَرَقَ (" لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَرْكِهِمْ (الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) الْخَتْمُ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الشَّيْءِ بِضَرْبِ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ كَتْمًا لَهُ وَتَغْطِيَةً لِئَلَّا يُتَوَصَّلَ إلَيْهِ، وَلَا يُطَّلَعَ عَلَيْهِ شُبِّهَتْ الْقُلُوبُ بِسَبَبِ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْحَقِّ وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ قَبُولِهِ وَعَدَمِ نُفُوذِ الْحَقِّ إلَيْهَا بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي اُسْتُوْثِقَ عَلَيْهَا بِالْخَتْمِ فَلَا يَنْفُذُ إلَى بَاطِنِهَا شَيْءٌ، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَدَمِ إتْيَانِ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابِ تَيْسِيرِ الْعُسْرَى (ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ) بَعْدَ خَتَمَهُ - تَعَالَى - عَلَى قُلُوبِهِمْ فَيَغْفُلُونَ عَنْ اكْتِسَابِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ وَعَنْ تَرْكِ مَا يَضُرُّهُمْ مِنْهَا.

، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْظَمِ الزَّوَاجِرِ عَنْ تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهَا، وَفِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّ تَرْكَهَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْخِذْلَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَقَالَ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ إنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

(وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ) أَيْ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ (كُنَّا نَجْمَعُ مَعَهُ) أَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ

ص: 397

414 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلَا نَتَغَذَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَوَّلِ زَوَالِ الشَّمْسِ وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ " وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ " مُتَوَجِّهٌ إلَى الْقَيْدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ " إنَّهُ يُسْتَظَلُّ بِهِ " لَا نَفْيٌ لِأَصْلِ الظِّلِّ حَتَّى يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وَقْتَ الْجُمُعَةِ هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقْتُهَا صَلَاةُ الْعِيدِ، وَقَبْلَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ، وَأَجَازَ مَالِكٌ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ دُونَ الصَّلَاةِ وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ يَعْنِي النَّوَاضِحَ» ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَيْبَانَ قَالَ " شَهِدْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ الْجُمُعَةَ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ شَهِدْتهَا مَعَ عُمَرَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ شَهِدْتهَا مَعَ عُثْمَانَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ زَالَ النَّهَارُ فَمَا رَأَيْت أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ، وَلَا أَنْكَرَهُ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ " أَنَّهُمْ صَلُّوا قَبْلَ الزَّوَالِ وَدَلَالَةُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَاضِحَةٌ وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي سَبَقَ مِنْ الْجُمْهُورِ يَدْفَعُهُ أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ قِرَاءَتِهِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ وَخُطْبَتَهُ لَوْ كَانَتْ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمَا ذَهَبُوا مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا وَلِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَحَقَّقْنَا فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ أَنَّ وَقْتَهَا الزَّوَالُ وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا قَوْلُهُ.

- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلَا نَتَغَذَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ هُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ سَهْلُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ الْخَزْرَجِيُّ السَّاعِدِيُّ الْأَنْصَارِيُّ قِيلَ: كَانَ اسْمُهُ حَزَنًا فَسَمَّاهُ صلى الله عليه وسلم سَهْلًا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إحْدَى وَسَبْعِينَ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ (قَالَ مَا كُنَّا نَقِيلُ) مِنْ الْقَيْلُولَةِ (وَلَا نَتَغَذَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي النِّهَايَةِ

الْمَقِيلُ، وَالْقَيْلُولَةُ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا

ص: 398

415 -

وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

416 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ

نَوْمٌ فَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ أَحْمَدَ، وَإِنَّمَا أَتَى الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِلَفْظِ رِوَايَةِ " عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ إنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ الرَّاوِي فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيرِهِ فَدَفَعَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي أَثْبَتَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فِي الْمَدِينَةِ فِي عَهْدِهِ سِوَاهُ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ صَلَاتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ لَا يُقِيلُونَ، وَلَا يَتَغَدَّوْنَ إلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} نَعَمْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُسَارِعُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ الظُّهْرِ فَقَدْ كَانَ يُؤَخِّرُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ.

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا فَجَاءَتْ عِيرٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فَرَاءٍ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْعِيرُ الْإِبِلُ بِأَحْمَالِهَا (مِنْ الشَّامِ فَانْفَتَلَ) بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ، وَفَتْحِ الْفَاءِ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ أَيْ انْصَرَفَ (النَّاسُ إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ) أَيْ فِي الْمَسْجِدِ (إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ فِي الْخُطْبَةِ أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا عَدَدٌ مُعَيَّنٌ كَمَا قِيلَ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَلَا مَا قِيلَ: إنَّ أَقَلَّ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ.

، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا الْآيَةُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الْآيَةَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إنَّهُ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ " أَنَّ خُطْبَتَهُ صلى الله عليه وسلم الَّتِي انْفَضُّوا عَنْهَا إنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِي الِانْفِضَاضِ عَنْ الْخُطْبَةِ، وَأَنَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْخُطْبَةِ " قَالَ الْقَاضِي، وَهَذَا أَشْبَهُ بِحَالِ أَصْحَابِهِ، وَالْمَظْنُونُ بِهِمْ مَا كَانُوا يَدَعُونَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا جَوَازَ الِانْصِرَافِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ.

ص: 399

رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ قَوَّى أَبُو حَاتِمٍ إرْسَالَهُ

417 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَك أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ‌

‌ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا

أَيْ مِنْ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى» فِي الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا يُضِيفُ إلَيْهَا مَا بَقِيَ مِنْ رَكْعَةٍ، وَأَكْثَرَ (وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ " رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَكِنْ قَوَّى أَبُو حَاتِمٍ إرْسَالَهُ) الْحَدِيثُ أَخْرَجُوهُ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. .. الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ: تَفَرَّدَ بِهِ بَقِيَّةُ عَنْ يُونُسَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ عَنْ أَبِيهِ: هَذَا خَطَأٌ فِي الْمَتْنِ، وَالْإِسْنَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ " فَوَهْمٌ وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ طَرِيقًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي جَمِيعِهَا مَقَالٌ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تَصِحُّ لِلَّاحِقِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الْخُطْبَةِ شَيْئًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْمُؤَيَّدُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّ إدْرَاكَ شَيْءٍ مِنْ الْخُطْبَةِ شَرْطٌ لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ بِدُونِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَالٌ لَكِنَّ كَثْرَةَ طُرُقِهِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا مَعَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ أَحَدُهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ فِيهَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ

ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ الشَّرْطِ حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا فَمَنْ أَنْبَأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ‌

‌ الْقِيَامُ حَالَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالْجُلُوسِ

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْقِيَامَ، وَالْقُعُودَ سُنَّةٌ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ

ص: 400

418 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَطَبَ، احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ: يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ -

فَإِنْ تَرَكَهُ أَسَاءَ وَصَحَّتْ الْخُطْبَةُ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ قِيَامٍ لِمَنْ أَطَاقَهُ وَاحْتَجُّوا بِمُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَالَ جَابِرٌ " فَمَنْ أَنْبَأَكَ إلَى آخِرِهِ " وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَتَلَا عَلَيْهِ {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ " مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطُّ إمَامًا يَؤُمُّ الْمُسْلِمِينَ يَخْطُبُ وَهُوَ جَالِسٌ يَقُولُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ "، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَاوُسٍ «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَأَوَّلُ مَنْ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ مُعَاوِيَةُ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ " أَنَّ مُعَاوِيَةَ إنَّمَا خَطَبَ قَاعِدًا لَمَّا كَثُرَ شَحْمُ بَطْنِهِ وَلَحْمِهِ "، وَهَذَا إبَانَةٌ لِلْعُذْرِ فَإِنَّهُ مَعَ الْعُذْرِ فِي حُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِ الْقُعُودِ فِي الْخُطْبَةِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ» فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ جُمُعَةٍ، وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَقْضِي بِشَرْعِيَّةِ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ.

وَأَمَّا الْوُجُوبُ وَكَوْنُهُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ دَلِيلُ وُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَفِعْلُهُ فِي الْجُمُعَةِ فِي الْخُطْبَتَيْنِ، وَتَقْدِيمُهَا عَلَى الصَّلَاةِ مُبَيِّنٌ لِآيَةِ الْجُمُعَةِ فَمَا وَاظَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَا لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَانَ فِي التَّرْكِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فَإِنْ صَحَّ أَنَّ قُعُودَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ كَانَ الْأَقْوَى الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ الثَّانِي.

(فَائِدَةٌ) تَسْلِيمُ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى النَّاسِ

فِيهِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ بِسَنَدِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» الْحَدِيثَ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَنَا مِنْ مِنْبَرِهِ سَلَّمَ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ صَعِدَ فَإِذَا اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ سَلَّمَ ثُمَّ قَعَدَ» إلَّا أَنَّهُ ضَعَّفَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِعِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ وَضَعَّفَهُ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ.

ص: 401

وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ». وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ» وَلِلنَّسَائِيِّ «وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ وَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ» قَالَ النَّوَوِيُّ ضَبَطْنَاهُ فِي مُسْلِمٍ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ فِيهِمَا وَبِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ فِيهِمَا، وَفَسَّرَهُ الْهَرَوِيُّ عَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ بِالطَّرِيقِ أَيْ أَحْسَنَ الطَّرِيقِ طَرِيقُ مُحَمَّدٍ وَعَلَى رِوَايَةِ الضَّمِّ مَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ، وَالْإِرْشَادُ وَهُوَ الَّذِي يُضَافُ إلَى الرُّسُلِ، وَإِلَى الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي} وَقَدْ يُضَافُ إلَيْهِ - تَعَالَى - وَهُوَ بِمَعْنَى اللُّطْفِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالْعِصْمَةِ {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الْآيَةَ.

«وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» الْمُرَادُ بِالْمُحْدَثَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِشَرْعٍ مِنْ اللَّهِ، وَلَا مِنْ رَسُولِهِ «وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» الْبِدْعَةُ لُغَةً مَا عُمِلَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَا عُمِلَ مِنْ دُونِ أَنْ يَسْبِقَ لَهُ شَرْعِيَّةٌ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْبِدْعَةَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ وَاجِبَةٌ: كَحِفْظِ الْعُلُومِ بِالتَّدْوِينِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ بِإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ.

وَمَنْدُوبَةٌ: كَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ. وَمُبَاحَةٌ: كَالتَّوْسِعَةِ فِي أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ، وَفَاخِرِ الثِّيَابِ.

وَمُحَرَّمَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ: وَهُمَا ظَاهِرَانِ فَقَوْلُهُ: كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَرْفَعَ بِالْخُطْبَةِ صَوْتَهُ وَيُجْزِلَ كَلَامَهُ وَيَأْتِيَ بِجَوَامِع الْكَلِمِ مِنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَيَأْتِيَ بِقَوْلِهِ (أَمَّا بَعْدُ) وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ بَابًا فِي اسْتِحْبَابِهَا، وَذَكَرَ فِيهِ جُمْلَةً مِنْ الْأَحَادِيثِ وَقَدْ جَمَعَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ " أَمَّا بَعْدُ " لِبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَخْرَجَهَا عَنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُلَازِمُهَا فِي جَمِيعِ خُطَبِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ، وَالثَّنَاءِ وَالتَّشَهُّدِ كَمَا تُفِيدُهُ الرِّوَايَةُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ» حُذِفَ الْمَقُولُ اتِّكَالًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ " إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ اخْتِصَارًا؛ لِثُبُوتِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.

فَقَدْ

ص: 402

419 -

وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَزْمَاءِ» ، وَفِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ عز وجل «وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عَبْدِي وَرَسُولِي» وَكَانَ يَذْكُرُ فِي تَشَهُّدِهِ نَفْسَهُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ.

(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ» أَيْ: أَنَّهُ يَأْتِي بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَعْدَ أَمَّا بَعْدُ (وَلِلنَّسَائِيِّ) أَيْ عَنْ جَابِرٍ «وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» أَيْ بَعْدَ قَوْلِهِ «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» كَمَا هُوَ فِي النَّسَائِيّ وَاخْتَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْمُرَادُ صَاحِبُهَا.

وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ كَمَا أَمَرَ الدَّاخِلَ، وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَذْكُرُ مَعَالِمَ الشَّرَائِعِ فِي الْخُطْبَةِ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَالْمَعَادَ وَيَأْمُرُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَيُحَذِّرُ مِنْ غَضَبِهِ وَيُرَغِّبُ فِي مُوجِبَاتِ رِضَاهُ وَقَدْ وَرَدَ قِرَاءَةُ آيَةٍ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ وَيُحَذِّرُ»؛ وَظَاهِرُهُ مُحَافَظَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْخُطْبَةِ وَوُجُوبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي آيَةِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الشَّافِعِيُّ وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ: لَا يَجِبُ فِي الْخُطْبَةِ إلَّا الْحَمْدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَتَيْنِ جَمِيعًا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْفِي سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ إلَّا مَا سُمِّيَ خُطْبَةً.

وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ» بِفَتْحِ الْمِيمِ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ نُونٍ مُشَدَّدَةٍ أَيْ عَلَامَةٌ (مِنْ فِقْهِهِ) أَيْ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ فِقْهُ الرَّجُلِ، وَكُلُّ شَيْءٍ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ مَئِنَّةٌ لَهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَإِنَّمَا كَانَ‌

‌ قِصَرُ الْخُطْبَةِ عَلَامَةً عَلَى فِقْهِ الرَّجُلِ

؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقَائِقِ الْمَعَانِي وَجَوَامِعِ الْأَلْفَاظِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْعِبَارَةِ الْجَزْلَةِ الْمُفِيدَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْحَدِيثِ «فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» فَشَبَّهَ الْكَلَامَ الْعَامِلَ فِي الْقُلُوبِ الْجَاذِبَ لِلْعُقُولِ بِالسِّحْرِ؛ لِأَجْلِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَزَالَةِ وَتَنَاسُقِ الدَّلَالَةِ، وَإِفَادَةِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَوُقُوعِهِ فِي مَجَازِهِ مِنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ فَقِهَ فِي الْمَعَانِي

ص: 403

420 -

«وَعَنْ أُمِّ هِشَامِ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا أَخَذْت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

421 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ يُفَسِّرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا

وَتَنَاسُقِ دَلَالَتِهَا فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ.

، وَالْمُرَادُ مِنْ طُولِ الصَّلَاةِ الطُّولُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ فَاعِلُهُ تَحْتَ النَّهْيِ وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ بِالْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ وَذَلِكَ طُولٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى خُطْبَتِهِ وَلَيْسَ بِالتَّطْوِيلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

(وَعَنْ أُمِّ هِشَامِ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنها هِيَ الْأَنْصَارِيَّةُ رَوَى عَنْهَا حَبِيبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَيَّافٍ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ أُمُّ هِشَامِ بِنْتُ حَارِثَةَ بَايَعَتْ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهَا وَذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّقْرِيبِ وَلَمْ يُسَمِّهَا أَيْضًا، وَإِنَّمَا قَالَ صَحَابِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ (قَالَتْ «مَا أَخَذْت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ‌

‌ قِرَاءَةِ سُورَةِ (قِ) فِي الْخُطْبَةِ

كُلَّ جُمُعَةٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ اخْتِيَارِهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ السُّورَةَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ، وَالْمَوْتِ، وَالْمَوَاعِظِ الشَّدِيدَةِ وَالزَّوَاجِرِ الْأَكِيدَةِ.

، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا بَعْضِهَا فِي الْخُطْبَةِ وَكَانَتْ مُحَافَظَتُهُ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِمَا هُوَ الْأَحْسَنُ فِي الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَرْدِيدِ الْوَعْظِ فِي الْخُطْبَةِ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ

ص: 404

422 -

«إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك: أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ»

الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ أَنْصِتْ لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ) وَلَهُ شَاهِدٌ قَوِيٌّ فِي جَامِعِ حَمَّادٍ مُرْسَلٌ (وَهُوَ) أَيْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ (يُفَسِّرُ) الْحَدِيثَ.

422 -

«إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك: أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» فِي قَوْلِهِ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خُطْبَةَ غَيْرِ الْجُمُعَةِ لَيْسَتْ مِثْلَهَا يُنْهَى عَنْ الْكَلَامِ حَالَهَا، وَقَوْلُهُ " وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ النَّهْيُ بِحَالِ الْخُطْبَةِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُنْهَى عَنْ الْكَلَامِ مِنْ حَالِ خُرُوجِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ عِنْدَ جُلُوسِهِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ فَهُوَ غَيْرُ خَاطِبٍ فَلَا يُنْهَى عَنْ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: هُوَ وَقْتٌ يَسِيرٌ يُشَبَّهُ بِالسُّكُوتِ لِلتَّنَفُّسِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْخَاطِبِ. وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا؛ لِأَنَّهُ فَاتَهُ الِانْتِفَاعُ بِأَبْلَغِ نَافِعٍ، وَقَدْ تَكَلَّفَ الْمَشَقَّةَ، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي حُضُورِ الْجُمُعَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ كَذَلِكَ فَاتَهُ الِانْتِفَاعُ بِأَبْلَغِ نَافِعٍ مَعَ تَحَمُّلِ التَّعَبِ فِي اسْتِصْحَابِهِ، وَفِي قَوْلِهِ " لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ "

دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمُعَةِ الصَّلَاةُ إلَّا أَنَّهَا تُجْزِئُهُ إجْمَاعًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا بِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلْفَضِيلَةِ الَّتِي يَحُوزُهَا مَنْ أَنْصَتَ وَهُوَ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ «مَنْ لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا.»

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَحَدُ رُوَاتِهِ: مَعْنَاهُ أَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ وَحُرِمَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ الْكَلَامِ حَالَ الْخُطْبَةِ وَهُمْ الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَرِوَايَةٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ تَشْبِيهَهُ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُسْتَنْكَرِ، وَمُلَاحَظَةُ وَجْهِ الشَّبَهِ يَدُلُّ عَلَى قُبْحِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ نِسْبَتُهُ إلَى فَوَاتِ الْفَضِيلَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْجُمُعَةِ مَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يَلْحَقُ الْمُتَكَلِّمَ مِنْ الْوِزْرِ الَّذِي يُقَاوِمُ الْفَضِيلَةَ فَيَصِيرُ مُحْبِطًا لَهَا، وَذَهَبَ الْقَاسِمُ وَابْنَا الْهَادِي، وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ إلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، وَمَنْ لَا يَسْمَعُهَا.

وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى مَنْ يَسْمَعُ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ إلَّا عَنْ قَلِيلٍ مِنْ التَّابِعِينَ.

وَقَوْلُهُ «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ» تَأْكِيدٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عُدَّ مِنْ اللَّغْوِ، وَهُوَ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ فَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِشَارَةِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ.

وَالْمُرَادُ بِالْإِنْصَاتِ قِيلَ: مِنْ مُكَالَمَةِ النَّاسِ فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الذِّكْرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ، وَمَنْ فَرَّقَ فَعَلَيْهِ دَلِيلٌ فَمِثْلُ جَوَابِ التَّحِيَّةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذِكْرِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا قَدْ تَعَارَضَ فِيهِ عُمُومُ

ص: 405

423 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ. فَقَالَ: صَلَّيْتَ؟ قَالَ لَا. قَالَ: قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

النَّهْيِ هُنَا وَعُمُومُ الْوُجُوبِ فِيهِمَا وَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا لِعُمُومِ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ مِنْ دُونِ مُرَجِّحٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ " لَغَوْتَ "، وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا يَحْسُنُ وَقِيلَ: بَطَلَتْ فَضِيلَةُ جُمُعَتِك وَصَارَتْ ظُهْرًا

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: صَلَّيْتَ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الرَّجُلُ هُوَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ سَمَّاهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَقِيلَ: غَيْرُهُ وَحُذِفَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ " صَلَّيْتَ "، وَأَصْلُهُ أَصَلَّيْتَ. وَفِي مُسْلِمٍ قَالَ لَهُ:" أَصَلَّيْتَ "، وَقَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ. وَسُلَيْكٌ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ اللَّامِ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ مُصَغَّرُ (الْغَطَفَانِيُّ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، فَطَاءٌ مُهْمَلَةٌ بَعْدَهَا فَاءٌ، وَقَوْلُهُ " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ " وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَصَفَهُمَا بِخَفِيفَتَيْنِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ (بَابُ: مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)

، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ‌

‌ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تُصَلَّى حَالَ الْخُطْبَةِ،

وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْآلِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ وَيُخَفِّفُ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ إلَى عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِمَا حَالَ الْخُطْبَةِ.

وَالْحَدِيثُ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَأَوَّلُوهُ بِأَحَدَ عَشَرَ تَأْوِيلًا كُلِّهَا مَرْدُودَةٍ سَرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي بِرُدُودِهَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ الشَّارِحُ رحمه الله فِي الشَّرْحِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ وَذَلِكَ عَامٌّ؛ وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ قُرْآنًا وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ، وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ، وَهُوَ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ.

وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا أَمْرُ الشَّارِعِ، وَهَذَا أَمْرُ الشَّارِعِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ أَمْرَيْهِ بَلْ الْقَاعِدُ يُنْصِتُ وَالدَّاخِلُ يَرْكَعُ التَّحِيَّةَ.

وَبِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ عَلَى مَنْعِ النَّافِلَةِ حَالَ الْخُطْبَةِ وَهَذَا الدَّلِيلُ لِلْمَالِكِيَّةِ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَيْسَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً لَوْ أَجْمَعُوا كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ دَعْوَى إجْمَاعِهِمْ فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهُ أَنَّ «أَبَا سَعِيدٍ أَتَى وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ فَصَلَّاهُمَا فَأَرَادَ حَرَسُ مَرْوَانَ أَنْ يَمْنَعُوهُ فَأَبَى حَتَّى صَلَّاهُمَا ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْتُ لَأَدَعُهُمَا بَعْدَ أَنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِهِمَا» .

، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا صَلَاةَ

ص: 406

424 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

425 -

وَلَهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ: بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» .

وَلَا كَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ» فَفِيهِ أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ مَتْرُوكٌ وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ يُخْطِئُ.

، وَقَدْ أُخِذَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَقْطَعَ الْخُطْبَةَ بِالْيَسِيرِ مِنْ الْكَلَامِ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُمْلَةِ الْأَوَامِرِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا الْخُطْبَةُ، وَأَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بِهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبَعْضُ، وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ فِي غَيْرِ حَالِ الْخُطْبَةِ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ لَهُ الطَّوَافُ فَإِنَّهُ تَحِيَّتُهُ أَوْ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ لَا يَقْعُدُ إلَّا بَعْدَ صَلَاةِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ.

وَأَمَّا صَلَاتُهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي جَبَّانَةٍ غَيْرِ مُسَبَّلَةٍ فَلَا يُشْرَعُ لَهَا التَّحِيَّةُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَسْجِدٍ فَتُشْرَعُ.

، وَأَمَّا كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إلَى صَلَاتِهِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا شَيْئًا فَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَالَ قُدُومِهِ اشْتَغَلَ بِالدُّخُولِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي الْجَبَّانَةِ وَلَمْ يُصَلِّهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُشْرَعُ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِيدُ فِي مَسْجِدٍ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ» فِي الْأُولَى (وَالْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ أَيْ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِيهِمَا لِمَا عُلِمَ مِنْ غَيْرِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِهِمَا لِمَا فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ مِنْ الْحَثِّ عَلَى حُضُورِهَا وَالسَّعْيِ إلَيْهِمَا وَبَيَانِ فَضِيلَةِ بِعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَذِكْرِ الْأَرْبَعِ الْحِكَمِ فِي بِعْثَتِهِ مِنْ أَنَّهُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ، وَالْحِكْمَةَ، وَالْحَثِّ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ.

وَلِمَا فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ تَوْبِيخِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَحَثِّهِمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَدُعَائِهِمْ إلَى طَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَكْثُرُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي صَلَاتِهَا؛ وَلِمَا فِي آخِرِهَا مِنْ الْوَعْظِ، وَالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ.

(وَلَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ (عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه كَانَ يَقْرَأُ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي الْعِيدَيْنِ) الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى أَيْ فِي صَلَاتِهِمَا (وَفِي الْجُمُعَةِ) أَيْ فِي صَلَاتِهَا

ص: 407

426 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ

بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى) أَيْ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (وَهَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) أَيْ فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا وَكَأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ تَارَةً وَمَا ذَكَرَهُ النُّعْمَانُ تَارَةً، وَفِي سُورَةِ سَبِّحْ، وَالْغَاشِيَةِ مِنْ التَّذْكِيرِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ مَا يُنَاسِبُ قِرَاءَتَهُمَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ الْجَامِعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْعِيدَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِقَافٍ وَاقْتَرَبَتْ.

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ) فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ (ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ) أَيْ فِي صَلَاتِهَا (ثُمَّ قَالَ: " مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ) أَيْ الْجُمُعَةَ (فَلْيُصَلِّ ") هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ رَخَّصَ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ كَانَ التَّرْخِيصُ بِهَذَا اللَّفْظِ (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ) وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ» ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، وَفِي إسْنَادِهِ بَقِيَّةٌ، وَصَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ إرْسَالَهُ، وَفِي الْبَابِ «عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ» .

، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ تَصِيرُ رُخْصَةً يَجُوزُ فِعْلُهَا وَتَرْكُهَا، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَنْ صَلَّى الْعِيدَ دُونَ مَنْ لَمْ يُصَلِّهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْهَادِي وَجَمَاعَةٌ إلَّا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَثَلَاثَةٌ مَعَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ رُخْصَةً مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ دَلِيلَ وُجُوبِهَا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَيَّامِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ لَا يَقْوَى عَلَى تَخْصِيصِهَا لِمَا فِي أَسَانِيدِهَا مِنْ الْمَقَالِ (قُلْت): حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَلَمْ يَطْعَنْ غَيْرُهُ فِيهِ فَهُوَ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ يُخَصُّ الْعَامُّ بِالْآحَادِ، وَذَهَبَ عَطَاءٌ إلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ فَرْضُهَا عَنْ الْجَمِيعِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ:«مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ» وَلِفِعْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ صَلَّى بِهِمْ فِي يَوْمِ عِيدٍ صَلَاةَ الْعِيدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جِئْنَا إلَى الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الطَّائِفِ فَلَمَّا قَدِمَ ذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَسْقُطُ فَرْضُ الظُّهْرِ وَلَا يُصَلِّي إلَّا الْعَصْرَ.

، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ

ص: 408

427 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

أَنَّهُ قَالَ عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُمَا فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ " وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْجُمُعَةَ الْأَصْلُ فِي يَوْمِهَا، وَالظُّهْرَ بَدَلٌ فَهُوَ يَقْتَضِي صِحَّةَ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ وُجُوبُ الْأَصْلِ مَعَ إمْكَانِ أَدَائِهِ سَقَطَ الْبَدَلُ.

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَيْضًا حَيْثُ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ مَعَ تَقْدِيرِ إسْقَاطِ الْجُمُعَةِ لِلظُّهْرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ، وَأَيَّدَ الشَّارِحُ مَذْهَبَ ابْنِ الزُّبَيْرِ.

(قُلْت): وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَطَاءً أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَصٍّ قَاطِعٍ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ فَالْجَزْمُ بِأَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ الزُّبَيْرِ سُقُوطُ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَكُونُ عِيدًا عَلَى مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ بَلْ فِي قَوْلِ عَطَاءٍ إنَّهُمْ صَلَّوْا وُحْدَانًا أَيْ الظُّهْرَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِسُقُوطِهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ مُرَادَهُ صَلَّوْا الْجُمُعَةَ وُحْدَانًا فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا جَمَاعَةً إجْمَاعًا ثُمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَالظُّهْرُ بَدَلٌ عَنْهَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ بَلْ الظُّهْرُ هُوَ الْفَرْضُ الْأَصْلِيُّ الْمَفْرُوضُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَالْجُمُعَةُ مُتَأَخِّرٌ فَرْضُهَا، ثُمَّ إذَا فَاتَتْ وَجَبَ الظُّهْرُ إجْمَاعًا فَهِيَ الْبَدَلُ عَنْهُ.

وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَالْأَمْرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهُ مَا، وَقَعَ فِي لَفْظِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الصَّبَّاحِ «مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالْأَرْبَعُ أَفْضَلُ مِنْ الِاثْنَتَيْنِ؛ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ وَكَثْرَةِ فِعْلِهِ لَهَا صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ:«وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ سُنَّتَهَا، وَأَمَرَ مَنْ صَلَّاهَا أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهَا أَرْبَعًا» قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

قُلْت: وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ «كَانَ إذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا صَلَّى فِي بَيْتِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ» .

ص: 409

428 -

وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه، أَنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ لَهُ:«إذَا صَلَّيْت الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ، حَتَّى تَتَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ: أَنْ لَا نَصِلَ صَلَاةً بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

429 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه) هُوَ أَبُو يَزِيدَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ فِي الْأَشْهَرِ وُلِدَ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَحَضَرَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ «أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ إذَا صَلَّيْت الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا» بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ عَنْ الْوَصْلِ (بِصَلَاةٍ حَتَّى تَتَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ) أَيْ مِنْ الْمَسْجِدِ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا نُوصِلَ صَلَاةً بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ» أَنَّ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ ذَلِكَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) فِيهِ‌

‌ مَشْرُوعِيَّةُ فَصْلِ النَّافِلَةِ عَنْ الْفَرِيضَةِ،

وَأَنْ لَا تُوصَلَ بِهَا، وَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ الرَّاوِي عَلَى تَخْصِيصِهِ بِذِكْرِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِحَدِيثٍ يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ الْفَرْضُ بِالنَّافِلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ذَلِكَ هَلَكَةٌ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّحَوُّلُ لِلنَّافِلَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْفَرِيضَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى بَيْتِهِ فَإِنَّ فِعْلَ النَّوَافِلِ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَإِلَى مَوْضِعٍ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ تَكْثِيرٌ لِمَوَاضِعِ السُّجُودِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ يَعْنِي السُّبْحَةَ» وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ «لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ» وَلَمْ يَصِحَّ النَّهْيُ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ اغْتَسَلَ) أَيْ لِلْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» أَوْ مُطْلَقًا (ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ) أَيْ الْمَوْضِعَ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ (فَصَلَّى) مِنْ النَّوَافِلِ (مَا قُدِّرَ لَهُ ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ

ص: 410

430 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ: يُقَلِّلُهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ "

الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ) أَيْ زِيَادَةُ (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. " رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إحْرَازِهِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَجْرِ مِنْ الِاغْتِسَالِ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ» ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيَانُ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّافِلَةِ حَسْبَمَا يُمْكِنُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْهَا بِحَدٍّ فَيَتِمُّ لَهُ هَذَا الْأَجْرُ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَقَوْلُهُ:" أَنْصَتَ " مِنْ الْإِنْصَاتِ، وَهُوَ السُّكُوتُ، وَهُوَ غَيْرُ الِاسْتِمَاعِ إذْ هُوَ الْإِصْغَاءُ لِسَمَاعِ الشَّيْءِ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ هَلْ الْإِنْصَاتُ يَجِبُ أَوْ لَا.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ حَالَ الْخُطْبَةِ لَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، وَلَوْ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا نَهْيَ عَنْهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ " حَتَّى "، وَقَوْلُهُ:" غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ " أَيْ مَا بَيْنَ صَلَاتِهَا وَخُطْبَتِهَا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى يَكُونَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ أَيْ غُفِرَتْ لَهُ الْخَطَايَا الْكَائِنَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَغُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَعَ السَّبْعِ حَتَّى تَكُونَ عَشْرَةٌ وَهَلْ الْمَغْفُورُ الْكَبَائِرُ؟ الْجُمْهُورُ عَلَى الْآخَرِ، وَأَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يَغْفِرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ.

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ» جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ صِفَةُ الْعَبْدِ، وَالْوَاوُ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ (يُصَلِّي) حَالٌ ثَانٍ (يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى) حَالٌ ثَالِثٌ (شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَأَشَارَ) أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا ") يُحَقِّرُ وَقْتَهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ) هُوَ الَّذِي أَفَادَهُ لَفْظُ يُقَلِّلُهَا فِي الْأُولَى، وَفِيهِ إبْهَامُ السَّاعَةِ وَيَأْتِي تَعْيِينُهَا وَمَعْنَى " قَائِمٌ " أَيْ مُقِيمٌ لَهَا مُتَلَبِّسٌ بِأَرْكَانِهِ لَا بِمَعْنَى حَالِ الْقِيَامِ فَقَطْ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْحُفَّاظِ وَأُسْقِطَتْ فِي رِوَايَةِ آخَرِينَ.

وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِحَذْفِهَا مِنْ الْحَدِيثِ وَكَأَنَّهُ اسْتَشْكَلَ الصَّلَاةَ إذْ وَقْتَ تِلْكَ السَّاعَةِ إذَا كَانَ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ فَهُوَ وَقْتُ كَرَاهَةٍ لِلصَّلَاةِ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ حَالِ جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْصِرَافِهِ، وَقَدْ تَأَوَّلْتُ هَذِهِ

ص: 411

431 -

وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي بُرْدَةَ

432 و 433 - وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ.

وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ

الْجُمْلَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مُنْتَظِرًا لِلصَّلَاةِ، وَالْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْمُشِيرَ بِيَدِهِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ " فَأَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " وَقِيلَ: الْمُشِيرُ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْإِشَارَةِ فَهُوَ أَنَّهُ وَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى، وَالْخِنْصَرِ يُبَيِّنُ قِلَّتَهَا، وَقَدْ أُطْلِقَ السُّؤَالُ هُنَا، وَقَيَّدَهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ " مَا لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ إثْمًا " وَعِنْدَ أَحْمَدَ " مَا لَمْ يَسْأَلْ إثْمًا أَوْ قَطِيعَةَ رَحِمٍ ".

(وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو بُرْدَةَ مِنْ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا رضي الله عنه وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمْ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ (قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: هِيَ) أَيْ سَاعَةُ الْجُمُعَةِ (مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ) أَيْ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي بُرْدَةَ)

، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنْ الْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعِينَ قَوْلًا وَسَيُشِيرُ إلَيْهَا وَسَرَدَهَا الشَّارِحُ رحمه الله فِي الشَّرْحِ، وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَحَدُهَا وَرَجَّحَهُ مُسْلِمٌ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: هُوَ أَجْوَدُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَصَحُّهُ، وَقَالَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ الصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الْوَقْتِ الَّذِي عُيِّنَ بَلْ تَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ لِقَوْلِهِ " يُقَلِّلُهَا "، وَقَوْلُهُ " خَفِيفَةٌ "، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِيهَا فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ مَظِنَّتِهَا ابْتِدَاءَ الْخُطْبَةِ مَثَلًا، وَانْتِهَاؤُهَا انْتِهَاءَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ رَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بُرْدَةَ فَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَرْفُوعًا فَإِنَّهُ لَا مَسْرَحَ لِلِاجْتِهَادِ فِي تَعْيِينِ أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ، وَيَأْتِي مَا أَعَلَّهُ بِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ قَرِيبًا.

ص: 412

أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: «أَنَّهَا مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ» .

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلًا أَمْلَيْتهَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ

أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: «أَنَّهَا مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ» .

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلًا أَمْلَيْتهَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ.

(وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ هُوَ أَبِي يُوسُفَ بْنُ سَلَامٍ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعِ إسْرَائِيلِيٌّ مِنْ وَلَدِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عليه السلام، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحْبَارِ، وَأَحَدُ مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ يُوسُفُ وَمُحَمَّدٌ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعِينَ وَسَلَامٌ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ سَلَامٌ بِالتَّخْفِيفِ غَيْرُهُ (عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ) لَفْظُهُ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «قُلْت وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ: إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعْنِي التَّوْرَاةَ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل شَيْئًا إلَّا قَضَى اللَّهُ لَهُ حَاجَتَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَأَشَارَ أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَعْضَ سَاعَةٍ قُلْت: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ بَعْضَ سَاعَةٍ قُلْت: أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ قُلْت: إنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ لَا يُجْلِسُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» انْتَهَى.

(وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهَا مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ) قَوْلُهُ أَنَّهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ إلَى آخِرِهِ وَرَجَّحَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هَذَا الْقَوْلَ رَوَاهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ أَثْبَتُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «أَنَّ نَاسًا مِنْ الصَّحَابَةِ اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا سَاعَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ افْتَرَقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» وَرَجَّحَهُ إِسْحَاقُ وَغَيْرُهُ وَحَكَى أَنَّهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ.

وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ هَذَا فَإِنَّهُ تَرْجِيحٌ لِغَيْرِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَلَى مَا فِيهِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا أَنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حَدِيثٌ لَمْ يَكُنْ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِمَّا انْتَقَدَهُ الْحُفَّاظُ كَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى هَذَا الَّذِي فِي مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ قَدْ أُعِلَّ بِالِانْقِطَاعِ وَالِاضْطِرَابِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ ابْنِ بُكَيْرٍ، وَقَدْ صَرَّحَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ فَلَيْسَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ أَخْرَجُوهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ كُوفِيٌّ، وَأَهْلُ بَلْدَتِهِ أَعْلَمُ بِحَدِيثِهِ مِنْ بُكَيْرٍ فَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَبِي بُرْدَةَ لَمْ يَقِفُوهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ الْمَوْقُوفَ هُوَ الصَّوَابُ.

وَجَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَابْنِ سَلَامٍ بِأَنَّ السَّاعَةَ تَنْحَصِرُ فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ وَسَبَقَهُ إلَى هَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلًا أَمْلَيْتهَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ) تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ فَقِيلَ: قَدْ رُفِعَتْ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَقِيلَ: هِيَ بَاقِيَةٌ وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا ثُمَّ

ص: 413

434 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا جُمُعَةً» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

سَرَدَ الْأَقْوَالَ، وَلَمْ يَبْلُغْ بِهَا مَا بَلَغَ بِهَا الْمُصَنِّفُ مِنْ الْعَدَدِ، وَقَدْ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَأَنَّهُمَا الْأَرْجَحُ عِنْدَهُ دَلِيلًا، وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضِيلَةِ الْجُمُعَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِهَذِهِ السَّاعَةِ.

(وَعَنْ جَابِرٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا جُمُعَةً». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ) وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ فِيهِ أَحْمَدَ: اضْرِبْ عَلَى أَحَادِيثِهِ فَإِنَّهَا كَذِبٌ أَوْ مَوْضُوعَةٌ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ لَا أَصْلَ لَهَا، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: لَا يَثْبُتُ فِي الْعَدَدِ حَدِيثٌ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النِّصَابِ الَّذِينَ بِهِمْ تَقُومُ الْجُمُعَةُ فَذَهَبَ إلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْأَرْبَعِينَ لَا عَلَى مَنْ دُونِهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّافِعِيُّ، وَفِي كَوْنِ الْإِمَامِ أَحَدَهُمْ وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُؤَيَّدُ وَأَبُو طَالِبٍ إلَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَهُوَ أَقَلُّ عَدَدٍ تَنْعَقِدُ بِهِ فَلَا تَجِبُ إذَا لَمْ يَتِمَّ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْعَوْا} قَالُوا: وَالْخِطَابُ لِلْجَمَاعَةِ بَعْدَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لِلْجُمُعَةِ بَعْدَ النِّدَاءِ لَهَا، وَالنِّدَاءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُنَادٍ فَكَانُوا ثَلَاثَةً مَعَ الْإِمَامِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى اشْتِرَاطِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِعْلُهُمْ لَهَا مُجْتَمِعِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْبَحْرِ بِهَذَا وَاعْتَرَضَ بِهِ أَهْلُ الْمَذْهَبِ لَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ لِلْمَذْهَبِ وَنَقَضَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {وَجَاهِدُوا} فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إيتَاءُ الزَّكَاةِ فِي جَمَاعَةٍ قُلْت: وَالْحَقُّ أَنَّ شَرْطِيَّةَ أَيِّ شَيْءٍ فِي أَيِّ عِبَادَةٍ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ هُنَا عَلَى تَعْيِينِ عَدَدٍ لَا مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ، وَإِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ صَلَاتُهَا إلَّا جَمَاعَةً كَمَا قَدْ وَرَدَ بِذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ عَدِيٍّ وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَالِاثْنَانِ أَقَلُّ مَا تَتِمُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ لِحَدِيثِ «الِاثْنَانِ جَمَاعَةٌ» فَتَتِمُّ بِهِمْ فِي الْأَظْهَرِ، وَقَدْ سَرَدَ الشَّارِحُ الْخِلَافَ، وَالْأَقْوَالَ فِي كَمِّيَّةِ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَبَلَغَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا وَذَكَرَ مَا تَشَبَّثَ بِهِ كُلُّ قَائِلٍ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ بِمَا لَا يَنْهَضُ حُجَّةً عَلَى الشَّرْطِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي نُقِلَ مِنْ حَالِ

ص: 414

435 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ» . رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ

436 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الْخُطْبَةِ يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ، يُذَكِّرُ النَّاسَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ غَيْرِ مَوْقُوفٍ عَلَى عَدَدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الشِّعَارُ، وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي كَثْرَةٍ يَغِيظُ بِهَا الْمُنَافِقَ وَيَكِيدُ بِهَا الْجَاحِدَ وَيَسُرُّ بِهَا الْمُصَدِّقَ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْجَمَاعَةِ فَلَوْ وُقِفَ عَلَى أَقَلَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لَمْ تَنْعَقِدْ.

قُلْت: قَدْ كَتَبْنَا رِسَالَةً فِي شُرُوطِ الْجُمُعَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَوَسَّعْنَا الْمَقَالَ وَالِاسْتِدْلَالَ سَمَّيْنَاهَا: اللُّمْعَةُ فِي تَحْقِيقِ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ.

(وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كُلَّ جُمُعَةٍ». رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ). قُلْت: قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي إسْنَادِ الْبَزَّارِ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ الْبُسْتِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ إلَّا أَنَّهُ بِزِيَادَةِ "، وَالْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمَاتِ "

، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ لِلْخَطِيبِ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الدُّعَاءِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى وُجُوبِ دُعَاءِ الْخَطِيبِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنَاتِ أَبُو طَالِبٍ وَالْإِمَامُ يَحْيَى وَكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مُوَاظَبَتَهُ صلى الله عليه وسلم دَلِيلُ الْوُجُوبِ كَمَا يُفِيدُهُ " كَانَ يَسْتَغْفِرُ "، وَقَالَ غَيْرُهُمْ يُنْدَبُ وَلَا يَجِبُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ الشَّارِحُ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الْخُطْبَةِ يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ يُذَكِّرُ النَّاسَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ «أُمِّ هِشَامِ بِنْتِ حَارِثَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا أَخَذْت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا مِنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، وَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ مُوَثَّقُونَ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّهُ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ آخِرَ الزُّمَرِ فَتَحَرَّكَ الْمِنْبَرُ مَرَّتَيْنِ» ، وَفِي رُوَاتِهِ ضَعِيفَانِ.

ص: 415

437 -

وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً: مَمْلُوكٌ وَامْرَأَةٌ وَصَبِيٌّ وَمَرِيضٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْ طَارِقٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ الْمَذْكُورِ عَنْ أَبِي مُوسَى.

438 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأَحْمَسِيِّ الْبَجَلِيِّ الْكُوفِيِّ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَرَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ وَغَزَا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ غَزْوَةً وَسَرِيَّةً وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً مَمْلُوكٌ وَامْرَأَةٌ وَصَبِيٌّ وَمَرِيضٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ لَمْ يَسْمَعْ طَارِقٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) إلَّا أَنَّهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِلَفْظِ " عَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَرِيضٌ " بِلَفْظِ أَوْ وَكَذَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّلْخِيصِ ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد: طَارِقٌ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا انْتَهَى (وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ الْمَذْكُورِ عَنْ أَبِي مُوسَى) يُرِيدُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ بِهَذَا صَارَ مَوْصُولًا، وَفِي الْبَابِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَابْنِ عُمَرَ وَمَوْلًى لِابْنِ الزُّبَيْرِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَحَدِيثُ تَمِيمٍ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ ضُعَفَاءَ عَلَى الْوَلَاءِ قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ «لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ» ، وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «خَمْسَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ الْمَرْأَةُ، وَالْمُسَافِرُ، وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ، وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ» .

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَضْعِيفَهُ فِي التَّلْخِيصِ وَلَا بَيَّنَ وَجْهَ ضَعْفِهِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ اجْتَمَعَ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى سِتَّةِ أَنْفُسٍ الصَّبِيُّ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ، وَالْمَمْلُوكُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ دَاوُد فَقَالَ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} فَإِنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ دُخُولُ الْعَبِيدِ فِي

ص: 416

439 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ - وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ

الْخِطَابِ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَصَّصَتْهُ الْأَحَادِيثُ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَقَالٌ فَإِنَّهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَالْمَرْأَةُ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلْعَجَائِزِ حُضُورُهَا بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَرِوَايَةُ الْبَحْرِ عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِنَّ خِلَافُ مَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالْمَرِيضُ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُهَا إذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ.

وَالْمُسَافِرُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُهَا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُبَاشِرُ السَّفَرِ، وَأَمَّا النَّازِلُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ نَزَلَ بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْآلِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ الْمُسَافِرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْآلِ أَيْضًا، وَهُوَ الْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ السَّفَرِ بَاقِيَةٌ لَهُ مِنْ الْقَصْرِ وَنَحْوِهِ وَلِذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْجُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا وَكَذَلِكَ الْعِيدُ تَسْقُطُ صَلَاتُهُ عَنْ الْمُسَافِرِ وَلِذَا لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ فِي حَجَّتِهِ تِلْكَ، وَقَدْ وَهَمَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: إنَّهُ صَلَّاهَا فِي حَجَّتِهِ وَغَلَّطَهُ الْعُلَمَاءُ.

السَّادِسُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْبَادِيَةَ تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْعُمُدِ، وَالْخِيَامِ دُونَ أَهْلِ الْقُرَى، وَالْمُدُنِ، وَفِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْقُرَى حُكْمُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ» .

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ)؛ لِأَنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ بْنَ عَطِيَّةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ تَفَرَّدَ بِهِ وَضَعَّفَهُ بِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُمَا (وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ) لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّارِحُ وَلَا رَأَيْته فِي التَّلْخِيصِ

، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ‌

‌ اسْتِقْبَالَ النَّاسِ الْخَطِيبَ مُوَاجِهِينَ لَهُ

أَمْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَجَزَمَ بِوُجُوبِهِ أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَلِلْهَادَوِيَّةِ احْتِمَالَانِ فِيمَا إذَا تَقَدَّمَ بَعْضُ الْمُسْتَمِعِينَ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَمْ يُوَاجِهُوهُ يَصِحُّ أَوْ لَا يَصِحُّ وَنَصَّ صَاحِبُ الْأَثْمَارِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ الْمُوَاجِهَةُ دُونَ غَيْرِهِمْ.

ص: 417

440 -

وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ رضي الله عنه: «شَهِدْنَا الْجُمُعَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

‌باب صلاة الخوف

441 -

عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ رضي الله عنه عَمَّنْ «صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ. فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا؛ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا

وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ فَنُونٌ، وَالْحَكَمُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَقِيلَ: يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَأَبُوهُ حَزْنُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ:«شَهِدْنَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) تَمَامُهُ فِي السُّنَنِ «فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَيَسِّرُوا» ، وَفِي رِوَايَةٍ "، وَأَبْشِرُوا "، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا خَطَبَ يَعْتَمِدُ عَلَى عَنَزَةٍ لَهُ» ، وَالْعَنَزَةُ مِثْلُ نِصْفِ الرُّمْحِ أَوْ أَكْبَرُ فِيهَا سِنَانٌ مِثْلُ سِنَانِ الرُّمْحِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يُنْدَبُ‌

‌ لِلْخَطِيبِ الِاعْتِمَادُ عَلَى سَيْفٍ أَوْ نَحْوِهِ وَقْتَ خُطْبَتِهِ،

وَالْحِكْمَةُ أَنَّ فِي ذَلِكَ رَبْطًا لِلْقَلْبِ وَلِبُعْدِ يَدَيْهِ عَنْ الْعَبَثِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَرْسَلَ يَدَيْهِ أَوْ وَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَوْ عَلَى جَانِبِ الْمِنْبَرِ وَيُكْرَهُ دَقُّ الْمِنْبَرِ بِالسَّيْفِ إذْ لَمْ يُؤْثَرْ فَهُوَ بِدْعَةٌ

ص: 418

لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي الْمَعْرِفَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ

(عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ فَمُثَنَّاةٌ فَوْقِيَّةٌ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ سَمِعَ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ (عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فَصَرَّحَ بِمَنْ حَدَّثَهُ فِي الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَبْهَمَهُ كَمَا هُنَا (يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ فَقَافٌ مُخَفَّفَةٌ آخِرُهُ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ مَكَانٌ مِنْ نَجْدٍ بِأَرْضِ غَطَفَانَ سُمِّيَتْ الْغَزَاةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَقْدَامَهُمْ نَقِبَتْ فَلَفُّوا عَلَيْهَا الْخِرَقَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَكَانَتْ فِي جُمَادَى الْأُولَى فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ «صَلَاةُ الْخَوْفِ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةً وِجَاهَ» بِكَسْرِ الْوَاوِ فَجِيمٌ مُوَاجِهَةَ (الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا؛ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَصَفُّوا) فِي مُسْلِمٍ فَصَفُّوا بِالْفَاءِ (وِجَاهَ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا؛ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَوَقَعَ فِي الْمَعْرِفَةِ) كِتَابٌ لِابْنِ مَنْدَهْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ إمَامٌ كَبِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ (عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ خَوَّاتٌ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ فَذَكَرَ الْمُبْهَمَ أَنَّهُ أَبُوهُ، وَفِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَنْ ذَكَرْنَاهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْغَزَاةَ كَانَتْ فِي الرَّابِعَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالْمَغَازِي وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ حَبَسُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ فَصَلَّاهُنَّ جَمِيعًا وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالْخَنْدَقُ بَعْدَ ذَاتِ الرِّقَاعِ سَنَةَ خَمْسٍ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْخَوْفِ بِعُسْفَانَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ عُسْفَانَ كَانَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ فَعُلِمَ أَنَّهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَبَعْدَ عُسْفَانَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَنَا وَهْمُ أَهْلِ السِّيَرِ انْتَهَى.

وَمَنْ يَحْتَجُّ بِتَقْدِيمِ شَرْعِيَّتِهَا عَلَى الْخَنْدَقِ عَلَى رِوَايَةِ أَهْلِ السِّيَرِ يَقُولُ: إنَّهَا لَا تُصَلَّى صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي الْحَضَرِ وَلِذَا لَمْ يُصَلِّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ.

وَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ فِي كَيْفِيَّةِ صَلَاتِهَا وَاضِحَةٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْ الْآلِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَهَذَا فِي الثُّنَائِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ ثُلَاثِيَّةً انْتَظَرَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَتُتِمُّ الطَّائِفَةُ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ وَكَذَلِكَ فِي الرُّبَاعِيَّةِ إنْ قُلْنَا إنَّهَا تُصَلَّى صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي الْحَضَرِ وَيَنْتَظِرُ فِي التَّشَهُّدِ أَيْضًا وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ مُطَابِقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الْجَلِيلُ لِقَوْلِهِ {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} .

ص: 419

442 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَاهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ بِمَنْ مَعَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَكَعَ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْمُعْتَادِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي تَقْلِيلِ الْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ وَلِمُتَابَعَةِ لِلْإِمَامِ.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ) بِكَسْرِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ جِهَةَ نَجْدٍ نَجْدٌ كُلُّ مَا ارْتَفَعَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ (فَوَازَيْنَا) بِالزَّايِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ قَابَلْنَا (الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَاهُمُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِنَا) فِي الْمَغَازِي مِنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ ثُمَّ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ " فَصَلَّى لَنَا " بِاللَّامِ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: أَيْ؛ لِأَجْلِنَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً بِالْمُوَحَّدَةِ، وَفِيهِ " يُصَلِّي " بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ «فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ وَرَكَعَ بِمَنْ مَعَهُ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا» أَيْ الَّذِينَ صَلُّوا مَعَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا أَتَوْا بِالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا سَلَّمُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ «مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَجَاءُوا فَرَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ» . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ).

قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ تَخْتَلِفْ الطُّرُقُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَتَمُّوا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَتَمُّوا عَلَى التَّعَاقُبِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِلَّا اسْتَلْزَمَ تَضْيِيعَ الْحِرَاسَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَإِفْرَادَ الْإِمَامِ وَحْدَهُ وَيُرَجِّحُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ «ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ هَؤُلَاءِ أَيْ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا ثُمَّ ذَهَبُوا وَرَجَعَ أُولَئِكَ إلَى مَقَامِهِمْ فَصَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا» انْتَهَى. وَالطَّائِفَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ حَتَّى عَلَى الْوَاحِدِ حَتَّى لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِوَاحِدٍ وَالثَّالِثُ يَحْرُسُ ثُمَّ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَهَذَا أَقَلُّ مَا تَحْصُلُ بِهِ جَمَاعَةُ الْخَوْفِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ وَاَلَّتِي بَيَّنَ رَكْعَتَيْهَا ثُمَّ أَتَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بَعْدَهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ.

ص: 420

443 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ. فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَقَامَ الصَّفَّ الْمُؤَخَّرَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى السُّجُودَ قَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ» ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ:«ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، وَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَفِي أَوَاخِرِهِ: ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ. فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى السُّجُودَ قَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ» ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ:«ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، وَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَفِي أَوَاخِرِهِ: ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ «شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ» أَيْ انْحَدَرَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ مِنْ دُونِ تَأْكِيدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ «، وَأَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى السُّجُودَ قَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) تَمَامُهُ «انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، وَقَامُوا ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» ، وَقَالَ جَابِرٌ كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلَاءِ بِأُمَرَائِهِمْ " انْتَهَى لَفْظُ مُسْلِمٍ. قَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةٍ) هِيَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ، وَفِيهَا تَعْيِينُ الْقَوْمِ الَّذِينَ حَارَبُوهُمْ وَلَفْظُهَا «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا مِنْ جُهَيْنَةَ فَقَاتَلُونَا قِتَالًا شَدِيدًا فَلَمَّا صَلَّيْنَا الظُّهْرَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لَوْ مِلْنَا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً لَاقْتَطَعْنَاهُمْ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَقَالُوا إنَّهَا سَتَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ الْأُولَى فَلَمَّا حَضَرَتْ الْعَصْرُ إلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي» فَذَكَرَ مِثْلَهُ قَالَ «فَقَامُوا مَقَامَ الْأَوَّلِ فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا وَرَكَعَ وَرَكَعْنَا ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ

ص: 421

444 -

وَلِأَبِي دَاوُد، عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ، وَزَادَ: إنَّهَا كَانَتْ بِعُسْفَانَ

445 -

وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ»

الصَّفُّ الْأَوَّلُ، وَقَامَ الثَّانِي فَلَمَّا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي جَلَسُوا جَمِيعًا» (وَفِي أَوَاخِرِهِ ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يُخَالِفُ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا تُمْكِنُ الْحِرَاسَةُ مَعَ دُخُولِهِمْ جَمِيعًا فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْحِرَاسَةِ إنَّمَا تَكُونُ فِي حَالِ السُّجُودِ فَقَطْ فَيُتَابِعُونَ الْإِمَامَ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَيَحْرُسُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي حَالِ السَّجْدَتَيْنِ بِأَنْ يَتْرُكُوا الْمُتَابَعَةَ لِلْإِمَامِ ثُمَّ يَسْجُدُونَ عِنْدَ قِيَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَيَتَقَدَّمُ الْمُؤَخَّرُ إلَى مَحَلِّ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ وَيَتَأَخَّرُ الْمُقَدَّمُ لِيُتَابِعَ الْمُؤَخَّرُ الْإِمَامَ فِي السَّجْدَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَيَصِحُّ مَعَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَابَعَةُ فِي سَجْدَتَيْنِ.

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ أَنَّهَا لَا تَكُونُ الْحِرَاسَةُ إلَّا حَالَ السُّجُودِ فَقَطْ دُونَ حَالِ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ حَالَ الرُّكُوعِ لَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ إدْرَاكُ أَحْوَالِ الْعَدُوِّ، وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ لَا تُوَافِقُ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَلَا تُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ وَلَا رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنَّهَا تَخْتَلِفُ الصِّفَاتُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.

(وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ رِوَايَةِ جَابِرٍ هَذِهِ (وَزَادَ) تَعْيِينُ مَحَلِّ الصَّلَاةِ (أَنَّهَا كَانَتْ بِعُسْفَانَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ فَفَاءٌ آخِرُهُ نُونٌ، وَهُوَ مَوْضِعٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ.

(وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ) غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ» فَصَلَّى بِإِحْدَاهُمَا فَرْضًا وَبِالْأُخْرَى نَفْلًا لَهُ، وَعَمِلَ بِهَذَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَادَّعَى الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُفْتَرِضُ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّسْخِ.

ص: 422

446 -

وَمِثْلُهُ؛ لِأَبِي دَاوُد، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ

447 -

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

448 -

وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

(وَمِثْلُهُ؛ لِأَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي بَكْرَةَ)، وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَكَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَالْقَوْمُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.

(وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَمِثْلُهُ).

(عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَهَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ صَلَّاهَا حُذَيْفَةُ " بِطَبَرِسْتَانَ " وَكَانَ الْأَمِيرُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ «أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ قَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا فَصَلَّى بِهِمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ» ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ " قَالَ زَيْدٌ «فَكَانَتْ لِلْقَوْمِ رَكْعَةً رَكْعَةً وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ»، وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " قَالَ «فَرَضَ اللَّهُ - تَعَالَى - الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً» ، وَأَخَذَ بِهَذَا عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ فَقَالُوا يُصَلِّي فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ رَكْعَةً يُومِئُ إيمَاءً وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ تُجْزِئُك عِنْدَ الْمُسَايَفَةِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ تُومِئُ لَهَا إيمَاءً فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ فَإِنْ لَمْ فَتَكْبِيرَةٌ؛ لِأَنَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ.

ص: 423

449 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

450 -

وَعَنْهُ مَرْفُوعًا «لَيْسَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَهْوٌ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ)، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا بِذِي قَرَدٍ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ "، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ قَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ لَا يَثْبُتُ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَالْمَأْمُومِ، وَقَدْ قَالَ بِهِ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْكِتَابِ خَمْسَ كَيْفِيَّاتٍ لِصَلَاةِ الْخَوْفِ.

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد ثَمَانِي كَيْفِيَّاتٍ مِنْهَا هَذِهِ الْخَمْسُ وَزَادَ ثَلَاثًا، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي: قَدْ رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَيْفِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ وَرَجَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْكَيْفِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِقُوَّةِ الْإِسْنَادِ وَمُوَافَقَةِ الْأُصُولِ فِي أَنَّ الْمُؤْتَمَّ لَا تَتِمُّ صَلَاتُهُ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ صَحَّ مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجْهًا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِيهَا رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أَصَحُّهَا سِتَّ عَشْرَةَ رِوَايَةً مُخْتَلِفَةً، وَقَالَ النَّوَوِيُّ نَحْوُهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا قَالَ الْحَافِظُ، وَقَدْ بَيَّنَهَا شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَزَادَ وَجْهًا فَصَارَتْ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ تَتَدَاخَلَ، وَقَالَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: صَلَّاهَا أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ يَتَحَرَّى مَا هُوَ الْأَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ، وَالْأَبْلَغُ فِي الْحِرَاسَةِ فَهِيَ عَلَى اخْتِلَافِ صُورَتِهَا مُتَّفِقَةُ الْمَعْنَى انْتَهَى.

(وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ عُمَرَ (مَرْفُوعًا «لَيْسَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَهْوٌ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ)، وَهُوَ مَعَ هَذَا مَوْقُوفٌ قِيلَ: وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ

ص: 424

‌باب صلاة العيدين

451 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

شُرِطَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ شُرُوطٌ مِنْهَا السَّفَرُ فَاشْتَرَطَهُ جَمَاعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} ؛ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّهَا فِي الْحَضَرِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرُ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُشْتَرَطُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي التَّقْيِيدِ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَلَعَلَّ الْأَوَّلِينَ يَجْعَلُونَهُ مُقَيَّدًا بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ، وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، وَالْكَلَامُ مُسْتَوْفًى فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ.

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ آخَرَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ لَا تُجْزِئُ إلَّا عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لِلْقَائِلِينَ بِذَلِكَ، وَهُمْ الْهَادَوِيَّةُ، وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ: تُجْزِئُ أَوَّلَ الْوَقْتِ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْأَوْقَاتِ.

وَمِنْهَا حَمْلُ السِّلَاحِ حَالَ الصَّلَاةِ اشْتَرَطَهُ دَاوُد فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِحَمْلِهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، وَأَوْجَبَهُ الشَّافِعِيُّ وَالنَّاصِرُ لِلْأَمْرِ بِهِ فِي الْآيَةِ وَلَهُمْ فِي السِّلَاحِ تَفَاصِيلُ مَعْرُوفَةٌ.

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْقِتَالُ مُحَرَّمًا سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً.

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي مَطْلُوبًا لِلْعَدُوِّ لَا طَالِبًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ طَالِبًا أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ تَامَّةً أَوْ يَكُونَ خَاشِيًا لِكَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الشَّرَائِطُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْفُرُوعِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَحْوَالِ شَرْعِيَّتِهَا وَلَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ فِي الشَّرْطِيَّةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْعِيَّةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، وَقَالَ بَعْدَ سِيَاقِهِ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْفِطْرُ وَالصَّوْمُ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمُعْظَمِ النَّاسِ. انْتَهَى بِلَفْظِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ الْعِيدِ الْمُوَافَقَةُ لِلنَّاسِ، وَأَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِمَعْرِفَةِ يَوْمِ الْعِيدِ بِالرُّؤْيَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ مُوَافَقَةُ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَالْإِفْطَارِ، وَالْأُضْحِيَّةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ حَسَنٌ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ

ص: 425

452 -

وَعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهما عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، أَنَّ «رَكْبًا جَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْطِرُوا وَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إلَى مُصَلَّاهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد - وَهَذَا لَفْظُهُ - وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَقَدْ قَالَ لَهُ كُرَيْبٌ «إنَّهُ صَامَ أَهْلُ الشَّامِ وَمُعَاوِيَةُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالشَّامِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ آخِرَ الشَّهْرِ وَأُخْبِرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ قَالَ قُلْت أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَالنَّاسِ؟ قَالَ لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ كُرَيْبًا مِمَّنْ رَآهُ، وَأَنَّهُ أَمَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ عِنْدَهُ.

وَذَهَبَ إلَى هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ يَجِبُ مُوَافَقَةُ النَّاسِ، وَإِنْ خَالَفَ يَقِينَ نَفْسِهِ وَكَذَا فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ " وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ " وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي نَفْسِهِ بِمَا تَيَقَّنَهُ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِمَا يُخَالِفُ النَّاسَ فَإِنَّهُ إذَا انْكَشَفَ بَعْدَ الْخَطَأِ فَقَدْ أَجْزَأَهُ مَا فَعَلَ.

قَالُوا: وَتَتَأَخَّرُ الْأَيَّامُ فِي حَقِّ مَنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ وَعَمِلَ بِالْأَصْلِ وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الشَّامِ لِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ فِي الشَّامِ، وَالْحِجَازِ أَوْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُخْبِرُ وَاحِدًا لَمْ يُعْمَلْ بِشَهَادَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ كُرَيْبًا بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ يَقِينِ نَفْسِهِ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِذَلِكَ؛ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.

(وَعَنْ أَبِي عُمَيْرٍ رضي الله عنه) هُوَ أَبُو عُمَيْرِ ابْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ يُقَالُ إنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَمَّرَ بَعْدَ أَبِيهِ زَمَانًا طَوِيلًا (عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ «رَكْبًا جَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إلَى مُصَلَّاهُمْ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ)، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ السَّكَنِ وَابْنُ حَزْمٍ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّ أَبَا عُمَيْرٍ مَجْهُولٌ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَهُ مَنْ صَحَّحَ لَهُ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تُصَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حَيْثُ انْكَشَفَ الْعِيدُ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ.

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ بِالنَّظَرِ إلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا بَاقِيًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَأَبُو حَنِيفَةَ

ص: 426

453 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ مُعَلَّقَةٍ - وَوَصَلَهَا أَحْمَدُ -: وَيَأْكُلُهُنَّ أَفْرَادًا

لَكِنْ شُرِطَ أَنْ لَا يَعْلَمَ إلَّا وَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا فَإِنَّهَا تُقْضَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَطْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ فِي يَوْمِهَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ: بِشَرْطِ أَنْ يَتْرُكَ لِلَّبْسِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ يُعَمَّمُ الْعُذْرُ سَوَاءٌ كَانَ لِلَّبْسِ أَوْ لِمَطَرٍ، وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ قِيَاسًا لِغَيْرِ اللَّبْسِ عَلَيْهِ ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ وَذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّهَا لَا تُقْضَى مُطْلَقًا كَمَا لَا تُقْضَى فِي يَوْمِهَا وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفَاصِيلُ أُخْرَى ذَكَرَهَا فِي الشَّرْحِ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي عِيدِ الْإِفْطَارِ، وَقَاسُوا عَلَيْهِ الْأَضْحَى، وَفِي التَّرْكِ لِلَّبْسِ، وَقَاسُوا عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَعْذَارِ، وَفِي الْقِيَاسِ نَظَرٌ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَعْرِفَةُ الْجَامِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَغْدُو) أَيْ يَخْرُجُ وَقْتَ الْغَدَاةِ (يَوْمَ الْفِطْرِ) أَيْ إلَى الْمُصَلَّى (حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ مُعَلَّقَةٍ) أَيْ لِلْبُخَارِيِّ عَلَّقَهَا عَنْ أَنَسٍ (وَوَصَلَهَا أَحْمَدُ وَيَأْكُلُهُنَّ أَفْرَادًا)، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ (حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ وِتْرًا.)

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحِكْمَةُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ لُزُومَ الصَّوْمِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِيدَ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ سَدَّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ وَقِيلَ: لَمَّا وَقَعَ وُجُوبُ الْفِطْرِ عَقِيبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ اُسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُبَادَرَةً إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْأَكْلِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ الصَّلَاةِ خِلَافًا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ:، وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ التَّمْرِ مَا فِي الْحُلْوِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْبَصَرِ الَّذِي يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ أَوْ؛ لِأَنَّ الْحُلْوَ مِمَّا يُوَافِقُ الْإِيمَانَ، وَيَعْبُرُ بِهِ الْمَنَامُ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَمِنْ ثَمَّةَ اسْتَحَبَّ بَعْضُ التَّابِعِينَ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى الْحُلْوِ مُطْلَقًا قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَأَمَّا جَعْلُهُنَّ وِتْرًا فَالْإِشَارَةُ إلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ تَبَرُّكًا بِذَلِكَ.

ص: 427

454 -

وَعَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

455 -

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ فِي الْعِيدَيْنِ: يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَعَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ تَقَدَّمَ وَاسْمُ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ أَبُو سَهْلٍ الْمَرْوَزِيِّ قَاضِيهَا ثِقَةٌ مِنْ الثَّالِثَةِ قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّقْرِيبِ (قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَزَادَ فِيهِ فَيَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ (وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ زِيَادَةٌ «وَكَانَ إذَا رَجَعَ أَكَلَ مِنْ كَبِدِ أُضْحِيَّتِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَنَسٍ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَفِيهَا ضَعْفٌ.

، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى إلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إظْهَارُ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِبَادِ بِشَرْعِيَّةِ نَحْرِ الْأَضَاحِيّ كَانَ الْأَهَمُّ الِابْتِدَاءَ بِأَكْلِهَا شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ شَرْعِيَّةِ النُّسُكِيَّةِ الْجَامِعَةِ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَثَوَابِ الْآخِرَةِ.

(وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) هِيَ الْأَنْصَارِيَّةُ اسْمُهَا نُسَيْبَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَقِيلَ: بِنْتُ كَعْبٍ كَانَتْ تَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا تُدَاوِي الْجَرْحَى وَتُمَرِّضُ الْمَرِيضَ تُعَدُّ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ بِالْبَصْرَةِ يَأْخُذُونَ عَنْهَا غُسْلَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ غُسْلَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَكَتْ ذَلِكَ، وَأَتْقَنَتْ فَحَدِيثُهَا أَصْلٌ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَيَأْتِي حَدِيثُهَا هَذَا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ (قَالَتْ أُمِرْنَا) مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِالْآمِرِ، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا (أَنْ نُخْرِجَ) أَيْ إلَى الْمُصَلَّى (الْعَوَاتِقَ) الْبَنَاتِ الْأَبْكَارَ

ص: 428

456 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الْبَالِغَاتِ، وَالْمُقَارِبَاتِ لِلْبُلُوغِ (وَالْحُيَّضَ) هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ (فِي الْعِيدَيْنِ يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ) هُوَ الدُّخُولُ فِي فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ الْحُيَّضِ (وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ) تَعُمُّ لِلْجَمِيعِ «وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) لَكِنَّ لَفْظَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ «أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ ذَوَاتِ الْخُدُورِ أَوْ قَالَ: الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ فَيَعْتَزِلْنَ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى» وَلَفْظُ مُسْلِمٍ «أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتَ الْخُدُورِ، وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ» فَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمُصَنِّفُ لَيْسَ لَفْظَ أَحَدِهِمَا.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إخْرَاجِهِنَّ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ (: الْأَوَّلُ): أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَيُؤَيِّدُ الْوُجُوبَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخْرِجُ نِسَاءَهُ وَبَنَاتَهُ فِي الْعِيدَيْنِ» ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَامٌّ لِمَنْ كَانَتْ ذَاتَ هَيْئَةٍ وَغَيْرِهَا وَصَرِيحٌ فِي الثَّوَابِ، وَفِي الْعَجَائِزِ بِالْأَوْلَى.

(وَالثَّانِي): سُنَّةٌ وَحُمِلَ الْأَمْرُ بِخُرُوجِهِنَّ عَلَى النَّدْبِ قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَوَّاهُ الشَّارِحُ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهُ عَلَّلَ خُرُوجَهُنَّ بِشُهُودِ الْخَيْرِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا عُلِّلَ بِذَلِكَ وَلَكَانَ خُرُوجُهُنَّ؛ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِنَّ لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ (قُلْت)، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ فَإِنَّهُ قَدْ يُعَلَّلُ الْوَاجِبُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَوَائِدِ وَلَا يُعَلَّلُ بِأَدَائِهِ، وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ، وَالْعَجَائِزِ فَإِنَّهُ قَالَ: أُحِبُّ شُهُودَ الْعَجَائِزِ، وَغَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ مِنْ النِّسَاءِ الصَّلَاةَ، وَأَنَا لِشُهُودِهِنَّ الْأَعْيَادَ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا.

وَ (الثَّالِثُ): أَنَّهُ مَنْسُوخٌ قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِلِاحْتِيَاجِ فِي خُرُوجِهِنَّ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ فَيَكُونُ فِيهِ إرْهَابٌ لِلْعَدُوِّ ثُمَّ نُسِخَ وَتَعَقَّبَ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَيَدْفَعُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ شَهِدَ خُرُوجَهُنَّ، وَهُوَ صَغِيرٌ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِنَّ لِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ حِينَئِذٍ وَيَدْفَعُهُ أَنَّهُ عَلَّلَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ حُضُورَهُنَّ لِشَهَادَتِهِنَّ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَدْفَعُهُ أَنَّهُ أَفْتَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ بَعْدَ، وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.

، وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ:«لَوْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ عَنْ الْمَسَاجِدِ» فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ خُرُوجِهِنَّ وَلَا عَلَى نَسْخِ الْأَمْرِ بِهِ بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُنَّ لَا يُمْنَعْنَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ صلى الله عليه وسلم بَلْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِنَّ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَمْنَعَ مَا أَمَرَ بِهِ.

ص: 429

457 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا» . أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي دَاوَمَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَخَلِيفَتَاهُ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ.

وَظَاهِرُهُ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، وَقَدْ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدَيْنِ وَمُسْتَنَدُهُ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ:«شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: إنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ» فَكَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ فَلَوْ قَدَّمَهَا لَمْ تُشْرَعْ إعَادَتُهَا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا خِلَافَ السُّنَّةِ.

، وَقَدْ اُخْتُلِفَ مَنْ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَفِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَرْوَانُ وَقِيلَ: سَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ عُثْمَانُ أَيْ صَلَاةِ الْعِيدِ ".

وَأَمَّا مَرْوَانُ فَإِنَّهُ إنَّمَا قَدَّمَ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ قِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ تَرْكَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ سَبِّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ السَّبَّ، وَالْإِفْرَاطِ فِي مَدْحِ بَعْضِ النَّاسِ.

وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْعِيدِ مُعَاوِيَةُ " وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ مُخَالِفٌ لِهَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ اُعْتُذِرَ لِعُثْمَانَ بِأَنَّهُ كَثُرَ النَّاسُ فِي الْمَدِينَةِ وَتَنَاءَتْ الْبُيُوتُ فَكَانَ يُقَدِّمُ الْخُطْبَةَ لِيُدْرِكَ مَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ رَأْيٌ مُخَالِفٌ لِهَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا». أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ) هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ‌

‌ صَلَاةَ الْعِيدِ رَكْعَتَانِ،

وَهُوَ إجْمَاعٌ فِيمَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ فِي الْجَبَّانَةِ، وَأَمَّا إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَصَلَّى وَحْدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ إلَى أَنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا» ، وَهُوَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: إنْ صَلَّاهَا فِي الْجَبَّانَةِ فَرَكْعَتَيْنِ، وَإِلَّا فَأَرْبَعًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَضَى صَلَاةَ الْعِيدِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ، وَأَرْبَعٍ.

وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ.

(الْأَوَّلُ): وُجُوبُهَا

ص: 430

458 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ، وَلَا إقَامَةٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ

عَيْنًا عِنْدَ الْهَادِي وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مُدَاوَمَتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَمْرِهِ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا سَلَفَ مِنْ حَدِيثِ أَمْرِهِمْ بِالْغُدُوِّ إلَى مُصَلَّاهُمْ فَالْأَمْرُ أَصْلُهُ الْوُجُوبُ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ قَوْله تَعَالَى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} عَلَى مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ بِهِ صَلَاةُ النَّحْرِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} فَسَّرَهَا الْأَكْثَرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ وَصَلَاةِ عِيدِهِ.

(الثَّانِي): أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِأَنَّهَا شِعَارٌ وَتَسْقُطُ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ كَالْجِهَادِ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ وَآخَرُونَ.

(الثَّالِثُ): أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَمُوَاظَبَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا دَلِيلُ تَأْكِيدِ سُنِّيَّتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٌ قَالُوا: لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ وَبِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ عَلَى كَتْبِهِنَّ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.

، وَفِي قَوْلِهِ " (لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا) دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّةِ النَّافِلَةِ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا أَمَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّنَا، وَيَأْتِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَإِنَّ فِيهِ الدَّلَالَةَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ» وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُنَا وَلَا بَعْدَهَا أَيْ فِي الْمُصَلَّى.

(وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ)، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهُمَا بِدْعَةٌ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ:" أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مُعَاوِيَةُ " وَمِثْلُهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ الثِّقَةِ وَزَادَ "، وَأَخَذَ بِهِ الْحَجَّاجُ حِينَ أُمِّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ " وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ: " أَنْ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ زِيَادٌ بِالْبَصْرَةِ " وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مَرْوَانُ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَقَامَ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ الثِّقَةِ عَنْ الزُّهْرِيِّ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ فِي الْعِيدِ أَنْ يَقُولَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ» قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَهَذَا مُرْسَلٌ يُعْتَضَدُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْكُسُوفِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِيهِ قُلْت: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ.

ص: 431

459 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

460 -

وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ - وَالنَّاسُ عَلَى صُفُوفِهِمْ - فَيَعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ)، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عِنْدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ لَكِنْ فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ

، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَرَعَ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِيدِ فِي الْمَنْزِلِ، وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا «لَا صَلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا» ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا صَلَاةَ فِي الْجَبَّانَةِ

(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الْخُرُوجُ إلَى مَوْضِعٍ غَيْرِ مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مُصَلَّاهُ صلى الله عليه وسلم مَحَلٌّ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ مَسْجِدِهِ أَلْفُ ذِرَاعٍ قَالَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ وَتَقَدَّمَ عَلَى أَنَّهُ لَا نَفْلَ قَبْلَهَا، وَفِي قَوْلِهِ:" يَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مُصَلَّاهُ مِنْبَرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَةٍ «خَطَبَ يَوْمَ عِيدٍ عَلَى رَاحِلَتِهِ» ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَمَامِ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ " إنَّ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ فِي مُصَلَّى الْعِيدِ مَرْوَانُ "، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ " أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْمُصَلَّى عَلَى الْمِنْبَرِ عُثْمَانُ فَعَلَهُ مَرَّةً ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى أَعَادَهُ مَرْوَانُ " وَكَأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ خُطْبَةِ الْعِيدِ، وَأَنَّهَا كَخُطَبِ الْجُمَعِ أَمْرٌ وَوَعْظٌ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهَا خُطْبَتَانِ كَالْجُمُعَةِ، وَأَنَّهُ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا صَنَعَهُ النَّاسُ قِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ.

ص: 432

461 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الْأُولَى وَخَمْسٌ فِي الْأُخْرَى وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحَهُ

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هُوَ أَبُو إبْرَاهِيمَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسًا وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ وَلَمْ يُخَرِّجْ الشَّيْخَانِ حَدِيثَهُ وَضَمِيرُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ إنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا شُعَيْبًا رَوَى عَنْ جَدِّهِ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَذَا فَيَكُونُ مُرْسَلًا؛ لِأَنَّ جَدَّهُ مُحَمَّدًا لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي أَبِيهِ عَائِدًا إلَى شُعَيْبٍ وَالضَّمِيرُ فِي جَدِّهِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَيُرَادُ أَنَّ شُعَيْبًا رَوَى عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ فَشُعَيْبٌ لَمْ يُدْرِكْ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ فَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يُخَرِّجَا حَدِيثَهُ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: قَدْ ثَبَتَ سَمَاعُ شُعَيْبٍ مِنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ أَرْبَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ) أَيْ فِي صَلَاةِ عِيدِ الْفِطْرِ (سَبْعٌ فِي الْأُولَى) أَيْ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى (وَخَمْسٌ فِي الْأَخِيرَةِ) أَيْ الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى (وَالْقِرَاءَةُ) الْحَمْدُ وَسُورَةٌ (بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحَهُ)، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيُّ وَصَحَّحَاهُ، وَقَدْ رَوَوْهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَسَعْدٍ الْقُرَظِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْكُلُّ فِيهِ ضُعَفَاءُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام وَابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّمَا صَارُوا إلَى الْأَخْذِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ.

(قُلْتُ): وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ يُرْوَى فِي‌

‌ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ

حَدِيثٌ صَحِيحٌ هَذَا وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى مِنْ رَكْعَتَيْ الْعِيدِ سَبْعًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَأَنَّهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَالْأَوْضَحُ أَنَّهَا مِنْ دُونِهَا، وَفِيهَا خِلَافٌ، وَقَالَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ إنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَخَالَفَ آخَرُونَ فَقَالُوا: خَمْسٌ فِي الْأُولَى، وَأَرْبَعٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ: ثَلَاثٌ فِي الْأُولَى، وَثَلَاثٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ: سِتٌّ فِي الْأُولَى وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ.

(قُلْت): وَالْأَقْرَبُ الْعَمَلُ بِحَدِيثِ الْبَابِ فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ طُرُقِهِ وَاهِيَةً فَإِنَّهُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ وَلِأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ لَيْسَ فِيهَا سُنَّةٌ يُعْمَلُ بِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَذَهَبَ الْهَادِي إلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ قَبْلَهَا فِيهِمَا وَاسْتَدَلَّ

ص: 433

462 -

وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى بِ قِ وَاقْتَرَبَتْ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

لَهُ فِي الْبَحْرِ بِمَا لَا يَتِمُّ دَلِيلًا وَذَهَبَ الْبَاقِرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فِي الْأُولَى وَيُؤَخِّرُهُ فِي الثَّانِيَةِ لِيُوَالِيَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إنَّهُ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحَهُ، وَقَالَ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ: إنَّهُ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ نَقَلَهُ عَنْ التِّرْمِذِيِّ فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ فِي سُنَنِهِ رِوَايَةَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَصْلًا بَلْ أَخْرَجَ رِوَايَةَ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقَالَ: حَدِيثُ جَدِّ كَثِيرٍ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ الْبُخَارِيِّ شَيْئًا، وَقَدْ وَقَعَ لِلْبَيْهَقِيِّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى هَذَا الْوَهْمُ بِعَيْنِهِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِحَدِيثِ كَثِيرٍ فَقَالَ: قَالَ أَبُو عِيسَى: سَأَلْت مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ أَصَحُّ مِنْهُ قَالَ: وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا انْتَهَى كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ. وَلَمْ نَجِدْ فِي التِّرْمِذِيِّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ، وَقَدْ نَبَّهَ فِي تَنْقِيحِ الْأَنْظَارِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَقَالَ: وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ النَّحْوِيِّ ذَكَرَ فِي خُلَاصَتِهِ عَنْ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْهُ إلَخْ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَلَّدَ فِي النَّقْلِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الْبُخَارِيِّ الْحَافِظَ الْبَيْهَقِيَّ وَلِهَذَا لَمْ يَنْسُبْ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ إلَّا إلَى أَبِي دَاوُد

، وَالْأَوْلَى الْعَمَلُ بِحَدِيثِ عَمْرٍو لِمَا عَرَفْت، وَأَنَّهُ أَشْفَى شَيْءٍ فِي الْبَابِ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ سَكْتَةً لَطِيفَةً وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ ذِكْرٌ مُعَيَّنٌ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ وَلَكِنْ ذَكَرَ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ قَدْرَ كَلِمَتَيْنِ» ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ، وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ ضَعِيفٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ تَحَرِّيهِ لِلِاتِّبَاعِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ.

(وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ) بِقَافٍ مُهْمَلَةٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ وَقَدَ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ اللَّيْثِيُّ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ قِيلَ: إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَقِيلَ: إنَّهُ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ اللَّيْثِيُّ رضي الله عنه قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى بِقَافٍ» أَيْ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (وَاقْتَرَبَتْ) أَيْ فِي الثَّانِيَةِ

ص: 434

463 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ يَوْمُ الْعِيدِ خَالَفَ الطَّرِيقَ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

464 -

وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ

465 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ

بَعْدَهَا (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِهِمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ سُنَّةٌ، وَقَدْ سَلَفَ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِسَبِّحْ، وَالْغَاشِيَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى سُنِّيَّةِ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ.

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ يَوْمُ الْعِيدِ خَالَفَ الطَّرِيقَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ) يَعْنِي أَنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ مُصَلَّاهُ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا إلَيْهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَخَذَ بِهَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاسْتَحَبَّهُ لِلْإِمَامِ وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ انْتَهَى. وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيَكُونُ مَشْرُوعًا لِلْإِمَامِ، وَالْمَأْمُومِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ.

(؛ وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ) وَلَفْظُهُ فِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ يَوْمَ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ ثُمَّ رَجَعَ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى»

فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: لِيُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ الطَّرِيقِينَ، وَقِيلَ: لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ الْفَرِيقَانِ، وَقِيلَ: لِيَقْضِيَ حَاجَةَ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ فِيهِمَا، وَقِيلَ: لِيُظْهِرَ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ فِي سَائِرِ الْفِجَاجِ، وَالطَّرِيقِ، وَقِيلَ: لِيَغِيظَ الْمُنَافِقِينَ بِرُؤْيَتِهِمْ عِزَّةَ الْإِسْلَامِ، وَأَهْلَهُ وَمَقَامَ شَعَائِرِهِ، وَقِيلَ: لِتَكْثُرَ شَهَادَةُ الْبِقَاعِ فَإِنَّ الذَّاهِبَ إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ الْمُصَلَّى إحْدَى خُطُوَاتِهِ تَرْفَعُ دَرَجَةً، وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَقِيلَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ: إنَّهُ لِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْحِكَمِ الَّتِي لَا يَخْلُو فِعْلُهُ عَنْهَا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ شِدَّةِ تَحَرِّيهِ لِلسُّنَّةِ يُكَبِّرُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمُصَلَّى.

ص: 435

يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

466 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ) الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ عَقِيبَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْفَاءُ وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ السِّيَرِ أَنَّ أَوَّلَ عِيدٍ شُرِعَ فِي الْإِسْلَامِ عِيدُ الْفِطْرِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ‌

‌ إظْهَارَ السُّرُورِ فِي الْعِيدَيْنِ

مَنْدُوبٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ إذْ فِي إبْدَالِ عِيدِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْعِيدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُفْعَلُ فِي الْعِيدَيْنِ الْمَشْرُوعَيْنِ مَا تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ فِي أَعْيَادِهَا، وَإِنَّمَا خَالَفَهُمْ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتَيْنِ.

(قُلْت): هَكَذَا فِي الشَّرْحِ وَمُرَادُهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ وَلَا شَاغِلٍ عَنْ طَاعَةٍ، وَأَمَّا التَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَالِ فِي الْأَعْيَادِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ تَرْوِيحِ الْبَدَنِ وَبَسْطِ النَّفْسِ مِنْ كُلَفِ الْعِبَادَةِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ.

وَقَدْ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ كَرَاهِيَةَ الْفَرَحِ فِي أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَبُو حَفْصٍ الْبُسْتِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَنْ أَهْدَى فِيهِ بَيْضَةً إلَى مُشْرِكٍ تَعْظِيمًا لِلْيَوْمِ فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ.

(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ) تَمَامُهُ مِنْ التِّرْمِذِيِّ "، وَأَنْ تَأْكُلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ " قَالَ أَبُو عِيسَى: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَأَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ قَالَ أَبُو عِيسَى: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَرْكَبَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ انْتَهَى.

وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ أَنَّهُ حَسَّنَهُ وَلَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُحَسِّنُهُ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَلِلْمُحَدِّثِينَ فِيهِ مَقَالٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ الزُّهْرِيُّ مُرْسَلًا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَخْرُجُ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا وَيَعُودُ مَاشِيًا. وَتَقْيِيدُ الْأَكْلِ بِقَبْلِ الْخُرُوجِ بَعِيدِ الْفِطْرِ لِمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّهُ

ص: 436

467 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ

- صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا» وَلَكِنَّهُ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الْمُضِيِّ وَالرُّكُوبِ إلَى الْعِيدِ فَقَالَ: (بَابُ الْمُضِيِّ وَالرُّكُوبِ إلَى الْعِيدِ) فَسَوَّى بَيْنَهُمَا كَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ فَرَجَعَ إلَى الْأَصْلِ فِي التَّوْسِعَةِ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ)؛ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ رَجُلًا مَجْهُولًا وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ هَلْ الْأَفْضَلُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ الْخُرُوجُ إلَى الْجَبَّانَةِ أَوْ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ الْبَلَدِ إذَا كَانَ وَاسِعًا؟.

الثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَسْجِدُ الْبَلَدِ وَاسِعًا صَلَّوْا فِيهِ وَلَا يَخْرُجُونَ فَكَلَامُهُ يَقْضِي بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْخُرُوجِ طَلَبُ الِاجْتِمَاعِ وَلِذَا أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْعَوَاتِقِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَخْرُجُونَ؛ لِسَعَةِ مَسْجِدِهَا وَضِيقِ أَطْرَافِهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ يَحْيَى وَجَمَاعَةٌ قَالُوا: الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِلْهَادَوِيَّةِ وَمَالِكٍ أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى الْجَبَّانَةِ أَفْضَلُ، وَلَوْ اتَّسَعَ الْمَسْجِدُ لِلنَّاسِ وَحُجَّتُهُمْ مُحَافَظَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرِ الْمَطَرِ وَلَا يُحَافِظُ صلى الله عليه وسلم إلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ؛ وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ عليه السلام فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَقَالَ:«لَوْلَا أَنَّهُ السُّنَّةُ لَصَلَّيْت فِي الْمَسْجِدِ، وَاسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ» قَالُوا: فَإِنْ كَانَ فِي الْجَبَّانَةِ مَسْجِدٌ مَكْشُوفٌ فَالصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ مَسْقُوفًا فَفِيهِ تَرَدُّدٌ.

(فَائِدَةٌ) التَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ فَأَمَّا تَكْبِيرُ عِيدِ الْإِفْطَارِ فَأَوْجَبَهُ النَّاصِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَوَقْتُهُ مَجْهُولٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَعِنْدَ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلصَّلَاةِ إلَى مُبْتَدَأِ الْخُطْبَةِ، وَذَكَرَ فِيهِ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَيْنِ وَضَعَّفَهُمَا لَكِنْ قَالَ الْحَاكِمُ: هَذِهِ سُنَّةٌ تَدَاوَلَهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ.

وَالثَّانِي لِلنَّاصِرِ أَنَّهُ مِنْ مَغْرِبِ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَوَّالٍ إلَى عَصْرِ يَوْمِهَا خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ أَوْ حَتَّى يُصَلِّيَ أَوْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْخُطْبَةِ أَقْوَالٌ عَنْهُ.

وَأَمَّا صِفَتُهُ فَفِي فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ إلَى سَلْمَانَ «أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ التَّكْبِيرَ وَيَقُولُ: كَبِّرُوا

ص: 437

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا أَوْ قَالَ كَثِيرًا اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَى، وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَك صَاحِبَةٌ أَوْ يَكُونَ لَك وَلَدٌ أَوْ يَكُونَ لَك شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أَوْ يَكُونَ لَك وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا».

وَأَمَّا تَكْبِيرُ عِيدِ النَّحْرِ فَأَوْجَبَهُ أَيْضًا النَّاصِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَلِقَوْلِهِ: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَوَافَقَهُ الْمَنْصُورُ بِاَللَّهِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالرِّجَالِ، وَأَمَّا وَقْتُهُ فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِعَقِيبِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِعَقِيبِ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْفُرَادَى وَبِالْمُؤَدَّاةِ دُونَ الْمَقْضِيَّةِ وَبِالْمُقِيمِ دُونَ الْمُسَافِرِ وَبِالْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى.

وَأَمَّا ابْتِدَاؤُهُ وَانْتِهَاؤُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ أَيْضًا فَقِيلَ: فِي الْأَوَّلِ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقِيلَ: مِنْ ظُهْرِهِ، وَقِيلَ: مِنْ عَصْرِهِ، وَفِي الثَّانِي إلَى ظُهْرِ ثَالِثِهِ، وَقِيلَ: إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقِيلَ: إلَى ظُهْرِهِ، وَقِيلَ: إلَى عَصْرِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ وَاضِحٌ.

وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّهُ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ مِنًى أَخْرَجَهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَمَّا صِفَتُهُ فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سَلْمَانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ:«كَبِّرُوا اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا» ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَزَادَ فِيهِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ "

، وَفِي الشَّرْحِ صِفَاتٌ كَثِيرَةٌ وَاسْتِحْسَانَاتٌ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي الْأَمْرِ، وَإِطْلَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَكْبِيرِ عِيدِ الْإِفْطَارِ وَعِيدِ النَّحْرِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ لِاسْتِوَاءِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ تَكْبِيرُ عِيدِ النَّحْرِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ بِالذِّكْرِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُمَا مُخْتَلِفَانِ فَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَالْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ غَيْرُهُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي قَبْلَ أَيَّامِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةُ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ "، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَظَاهِرُهُ إدْخَالُ يَوْمِ الْعِيدِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: " أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ " وَرَجَّحَهُ الطَّحْطَاوِيُّ لِقَوْلِهِ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} فَإِنَّهَا تُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَيَّامُ النَّحْرِ انْتَهَى.

وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مَعْلُومَاتٍ وَلَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٍ بَلْ تَسْمِيَةُ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} .

وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ تَعْلِيقًا " أَنَّهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ أَيَّامَ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا " وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ، وَالْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ قَالَ

ص: 438

‌بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ

468 -

عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " حَتَّى تَنْجَلِيَ "

الطَّحْطَاوِيُّ: كَانَ مَشَايِخُنَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ الْعَشْرِ جَمِيعًا.

(فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ) يُنْدَبُ لُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ، وَالتَّطَيُّبُ بِأَجْوَدِ الْأَطْيَابِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَيَزِيدُ فِي الْأَضْحَى الضَّحِيَّةَ بِأَسْمَنِ مَا يَجِدُ لِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَسْطِ قَالَ:«أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعِيدَيْنِ أَنْ نَلْبَسَ أَجْوَدَ مَا نَجِدُ، وَأَنْ نَتَطَيَّبَ بِأَجْوَدَ مَا نَجِدُ، وَأَنْ نُضَحِّيَ بِأَسْمَنَ مَا نَجِدُ الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْجَزُورُ عَنْ عَشْرَةٍ، وَأَنْ نُظْهِرَ التَّكْبِيرَ وَالسَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ» قَالَ الْحَاكِمُ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بَرْزَخٍ: لَوْلَا جَهَالَةُ إِسْحَاقَ هَذَا لَحَكَمْت لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ.

(قُلْت): لَيْسَ بِمَجْهُولٍ فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَزْدِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ ذَكَرَهُ فِي التَّلْخِيصِ.

عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ» أَيْ ابْنُهُ عليه السلام وَمَوْتُهُ فِي الْعَاشِرَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْهُ، وَقِيلَ: فِي الرَّابِعَةِ «فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ رَادًّا عَلَيْهِمْ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ " فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ "(حَتَّى تَنْكَشِفَ ") لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْبُخَارِيِّ بَلْ هُوَ فِي مُسْلِمٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) يُقَالُ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتُضَمُّ نَادِرًا وَانْكَسَفَتْ وَخَسَفَتْ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتُضَمُّ نَادِرًا وَانْخَسَفَتْ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اللَّفْظَيْنِ هَلْ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ يَخْتَصُّ كُلُّ لَفْظٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ نِسْبَةُ الْخُسُوفِ إلَى الْقَمَرِ وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ خَسَفَتْ الشَّمْسُ كَمَا ثَبَتَ فِيهِ نِسْبَةُ الْكُسُوفِ إلَيْهِمَا

ص: 439

469 -

وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه: «فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ»

وَثَبَتَ اسْتِعْمَالُهَا مَنْسُوبَيْنِ إلَيْهِمَا فَيُقَالُ فِيهِمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَنْخَسِفَانِ وَيَنْكَسِفَانِ إنَّمَا الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِي الْأَحَادِيثِ نِسْبَةُ الْكُسُوفِ إلَى الْقَمَرِ عَلَى جِهَةِ الِانْفِرَادِ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَ الْكُسُوفَ بِالشَّمْسِ، وَالْخُسُوفَ بِالْقَمَرِ. وَاخْتَارَهُ ثَعْلَبٌ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إنَّهُ أَفْصَحُ وَقِيلَ يُقَالُ بِهِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَالْكُسُوفُ لُغَةً: التَّغَيُّرُ إلَى السَّوَادِ وَالْخُسُوفُ النُّقْصَانُ وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهَا كَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّهَا كَسَفَتْ فِي غَيْرِ يَوْمِ كُسُوفِهَا الْمُعْتَادِ فَإِنَّ كُسُوفَهَا فِي الْعَاشِرِ أَوْ الرَّابِعِ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ فَلِذَا قَالُوا: إنَّمَا هُوَ؛ لِأَجْلِ هَذَا الْخَطْبِ الْعَظِيمِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمَا عَلَامَتَانِ مِنْ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَخْوِيفِ عِبَادِهِ مِنْ بَأْسِهِ وَسَطْوَتِهِ. وَالْحَدِيثُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} وَفِي قَوْلِهِ: " لِحَيَاتِهِ " مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَكَمَا أَنَّكُمْ لَا تَقُولُونَ بِكُسُوفِهِمَا لِحَيَاةِ أَحَدٍ كَذَلِكَ لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِهِ. أَوْ كَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَيَاتِهِ صِحَّتُهُ مِنْ مَرَضِهِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقَمَرَ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ خَاصٌّ بِكُسُوفِ الشَّمْسِ زِيَادَةً فِي الْإِفَادَةِ وَالْبَيَانِ أَنَّ حُكْمَ النَّيِّرَيْنِ وَاحِدٌ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَرْشَدَ الْعِبَادَ إلَى مَا يُشْرَعُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَيَأْتِي صِفَةُ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِانْحِصَارِ الْوَاجِبَاتِ فِي الْخَمْسِ الصَّلَوَاتِ. وَصَرَّحَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِوُجُوبِهِمَا وَنَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَوْجَبَهَا، وَجَعَلَ صلى الله عليه وسلم غَايَةَ وَقْتِ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ انْكِشَافَ الْكُسُوفِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ بِالِانْجِلَاءِ فَإِذَا انْجَلَتْ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُتِمُّهَا بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فَعَلَ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَسَلَّمَ، وَقَدْ انْجَلَتْ فَدَلَّ أَنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ الِانْجِلَاءُ وَيُؤَيِّدُهُ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا تُقَيَّدُ بِرَكْعَةٍ كَمَا سَلَفَ فَإِذَا أَتَى بِرَكْعَةٍ أَتَمَّهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا يَتَقَيَّدُ بِحُصُولِ السَّبَبِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَعِنْدَ أَحْمَدُ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَا عَدَا أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ) أَيْ عَنْ الْمُغِيرَةِ (حَتَّى تَنْجَلِيَ) عِوَضُ قَوْلِهِ {تَنْكَشِفَ} وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ «فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ» هُوَ أَوَّلُ

ص: 440

470 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلَاةَ جَامِعَةً

حَدِيثٍ سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْكُسُوفِ وَلَفْظُهُ " يُكْشَفَ " وَالْمُرَادُ يَرْتَفِعُ مَا حَلَّ بِكُمْ مِنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ أَوْ الْقَمَرِ.

، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» أَيْ رُكُوعَاتٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهَا:(فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ‌

‌ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ

وَالْمُرَادُ هُنَا كُسُوفُ الشَّمْسِ لِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ " خَسَفَتْ الشَّمْسُ " وَقَالَ: " ثُمَّ قَرَأَ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ " وَقَدْ أَخْرَجَ الْجَهْرَ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام مَرْفُوعًا «الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ» وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ.

(الْأَوَّلُ): أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ، وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ فَالْقَمَرُ مِثْلُهُ لِجَمْعِهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ حَيْثُ قَالَ:«فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا أَيْ كَاسِفَتَيْنِ فَصَلُّوا وَادْعُوا» وَالْأَصْلُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَآخَرِينَ.

(الثَّانِي): يُسِرُّ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» فَلَوْ جَهَرَ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِمَا ذَكَرَهُ وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ قَامَ بِجَنْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُسُوفِ فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفًا» وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ أَسَانِيدُهَا وَاهِيَةٌ فَيَضْعُفُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْمَعْ جَهْرَهُ بِالْقِرَاءَةِ.

(الثَّالِثُ): أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِيهِمَا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ لِثُبُوتِ الْأَمْرَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا عَرَفْت مِنْ أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ.

(الرَّابِعُ): أَنَّهُ يُسِرُّ فِي الشَّمْسِ وَيَجْهَرُ فِي الْقَمَرِ، وَهُوَ لِمَنْ عَدَا الْحَنَفِيَّةِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ عَمَلًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيَاسًا عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ دَلِيلِ أَهْلِ الْجَهْرِ مُطْلَقًا أَنْهَضُ مِمَّا قَالُوهُ، وَقَدْ أَفَادَ حَدِيثُ الْبَابِ أَنَّ صِفَةَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ

ص: 441

471 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «انْخَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ انْجَلَتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «صَلَّى حِينَ كَسَفَتْ الشَّمْسُ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ»

سَجْدَتَانِ وَيَأْتِي فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الرَّابِعِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ.

(وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ (فَبَعَثَ) أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مُنَادِيًا يُنَادِي الصَّلَاةَ جَامِعَةً) بِنَصْبِ الصَّلَاةِ وَجَامِعَةٍ فَالْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلُ مَحْذُوفٍ أَيْ اُحْضُرُوا وَالثَّانِي عَلَى الْحَالِ وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ وَفِيهِ تَقَادِيرُ أُخَرُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِعْلَامِ بِهَذَا اللَّفْظِ لِلِاجْتِمَاعِ لَهَا وَلَمْ يَرِدْ الْأَمْرُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم إلَّا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: «انْخَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ انْجَلَتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ)

قَوْلُهُ فَصَلَّى ظَاهِرُ الْفَاءِ التَّعْقِيبُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ رُوِيَتْ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ، وَهِيَ سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

ص: 442

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَفِي دَعْوَى الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِوُجُوبِهَا وَحَكَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجْرَاهَا مَجْرَى الْجُمُعَةِ وَتَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إيجَابُهَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهَا تُسَنُّ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: فُرَادَى وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا جَمَاعَةٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهَا.

فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ وَقِرَاءَتَانِ وَرُكُوعَانِ وَالسُّجُودُ سَجْدَتَانِ كَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ ذَهَبَ إلَيْهَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَآخَرُونَ وَفِي قَوْلِهِ:" نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنْ أَوَّلِ رَكْعَةِ الْفَاتِحَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِيَامِ الثَّانِي، وَمَذْهَبُنَا وَمَالِكٌ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِقِرَاءَتِهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ طُولِ الرُّكُوعِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّرُقِ بَيَانَ مَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم فِيهِ إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ فِيهِ الذِّكْرُ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَكْبِيرٍ وَغَيْرِهِمَا وَفِي قَوْلِهِ:" وَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ الَّذِي يَعْقُبُهُ السُّجُودُ لَا تَطْوِيلَ فِيهِ، وَأَنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ " أَنَّهُ أَطَالَ ذَلِكَ " لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهَا شَاذَّةٌ فَلَا يُعْمَلُ بِهَا وَنَقَلَ الْقَاضِي إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُطَوِّلُ الِاعْتِدَالَ الَّذِي يَلِي السُّجُودَ وَتَأَوَّلَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِطَالَةِ زِيَادَةَ الطُّمَأْنِينَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ طُولَ السُّجُودِ وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إطَالَتُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ إنَّهُ يُطَوِّلُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِذَلِكَ فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ " كَانَ أَطْوَلُ مَا يَسْجُدُ فِي صَلَاةٍ قَطُّ " وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ " وَسُجُودُهُ نَحْوُ مِنْ رُكُوعِهِ " وَبِهِ جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَيَقُولُ عَقِيبَ كُلِّ رُكُوعٍ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ يَقُولُ عَقِيبَهُ: رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ إلَى آخِرِهِ وَيُطَوِّلُ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لِحَدِيثِ جَابِرٍ «إطَالَةُ الِاعْتِدَالِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّرُقِ إلَّا فِي هَذَا وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ إطَالَتِهِ مَرْدُودٌ وَفِي قَوْلِهِ: " ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ " دَلِيلٌ عَلَى إطَالَةِ الْقِيَامِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَلَكِنَّهُ دُونَ الْقِيَامِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ عُرْوَةَ " أَنَّهُ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ " قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِقِيَامِهَا وَرُكُوعِهَا تَكُونُ أَطْوَلَ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقِيَامِهَا وَرُكُوعِهَا وَاخْتُلِفَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّانِيَةِ وَرُكُوعِهِ هَلْ هُمَا أَقْصَرُ مِنْ الْقِيَامِ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ وَرُكُوعِهِ أَوْ يَكُونَانِ سَوَاءً قِيلَ: وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ فَهْمُ مَعْنَى قَوْلِهِ: " وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ " هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِيَةِ أَوْ يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ فَيَكُونُ كُلُّ قِيَامٍ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ وَفِي قَوْلِهِ: " فَخَطَبَ النَّاسَ "

ص: 443

472 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ.

473 -

وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ: صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ.

دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَإِلَى اسْتِحْبَابِهَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.

وَعَنْ الْحَنَفِيَّةِ لَا خُطْبَةَ فِي الْكُسُوفِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُنْقَلْ.

وَتَعَقَّبَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْخُطْبَةِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْخُطْبَةَ بَلْ قَصَدَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكُسُوفَ بِسَبَبِ مَوْتِ أَحَدٍ مُتَعَقِّبٌ بِأَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ " فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَةٍ " وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " أَنَّهُ ذَكَرَ أَحْوَالَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرَ ذَلِكَ "، وَهَذِهِ مَقَاصِدُ الْخُطْبَةِ وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ:«فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ رَأَيْته إلَّا قَدْ رَأَيْته فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا أَوْ مِثْلَ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ: مَا عِلْمُك بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا، وَأَطَعْنَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يُقَالُ: نَمْ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك تُؤْمِنُ بِهِ فَنَمْ صَالِحًا» وَفِي مُسْلِمٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْخُطْبَةِ بِأَلْفَاظٍ فِيهَا زِيَادَةٌ.

(وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ) أَيْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «صَلَّى أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَسَفَتْ الشَّمْسُ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» أَيْ رُكُوعَاتٍ (فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) فِي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ لَهَا سَجْدَتَانِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَ رُكُوعَاتٍ فَيَحْصُلُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ثَمَانِ رُكُوعَاتٍ، وَإِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ.

(وَعَنْ عَلِيٍّ عليه السلام) أَيْ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْهُ (مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

(وَلَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «صَلَّى أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» أَيْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثُ رُكُوعَاتٍ وَسَجْدَتَانِ.

ص: 444

474 -

وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه: «صَلَّى فَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَفَعَلَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ»

475 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «مَا هَبَّتْ الرِّيحُ قَطُّ إلَّا جَثَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا عَذَابًا» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ.

وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه صَلَّى) أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ) أَيْ رُكُوعَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ (وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَفَعَلَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) رَكَعَ خَمْسَ رُكُوعَاتٍ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ إذَا عَرَفْت هَذِهِ الْأَحَادِيثَ.

فَقَدْ يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ اتِّفَاقًا إنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي كَمِّيَّةِ الرُّكُوعَاتِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي سَاقَهَا الْمُصَنِّفُ أَرْبَعُ صُوَرٍ.

(الْأُولَى): رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ وَبِهَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ وَعَلَيْهَا دَلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ وَبَاقِي الرِّوَايَاتِ مُعَلَّلَةٌ ضَعِيفَةٌ.

(الثَّانِيَةُ:) رَكْعَتَانِ أَيْضًا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعُ رُكُوعَاتٍ، وَهِيَ الَّتِي أَفَادَتْهَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ عليه السلام.

(وَالثَّالِثَةُ): رَكْعَتَانِ أَيْضًا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثُ رُكُوعَاتٍ وَعَلَيْهَا دَلَّ حَدِيثُ جَابِرٍ.

(وَالرَّابِعَةُ:) رَكْعَتَانِ أَيْضًا يَرْكَعُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسَ رُكُوعَاتٍ وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَالْجُمْهُورُ أَخَذُوا بِالْأُولَى لِمَا عَرَفْت مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إنَّهُ أَخَذَ بِكُلِّ نَوْعٍ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ فَأَيُّهَا فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَدَّدَ الْكُسُوفُ، وَأَنَّهُ فَعَلَ هَذِهِ تَارَةً، وَهَذَا أُخْرَى وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ كُلَّ الرِّوَايَاتِ حِكَايَةٌ عَنْ وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ وَفَاةِ إبْرَاهِيمَ، وَلِهَذَا عَوَّلَ الْآخَرُونَ عَلَى إعْلَالِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي حَكَتْ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: كِبَارُ الْأَئِمَّةِ لَا يُصَحِّحُونَ التَّعَدُّدَ لِذَلِكَ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَيَرَوْنَهُ غَلَطًا.

وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهَا تُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَا هَبَّتْ رِيحٌ قَطُّ إلَّا جَثَا) بِالْجِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتَيْهِ) أَيْ بَرَكَ عَلَيْهِمَا، وَهِيَ قَعْدَةُ الْمَخَافَةِ لَا يَفْعَلُهَا فِي الْأَغْلَبِ إلَّا الْخَائِفُ «، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا عَذَابًا» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ الرِّيحُ اسْمُ

ص: 445

476 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه: أَنَّهُ صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَقَالَ: هَكَذَا صَلَاةُ الْآيَاتِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِثْلَهُ دُونَ آخِرِهِ

جِنْسٍ صَادِقٌ عَلَى مَا يَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَيَأْتِي بِالْعَذَابِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَبِالْعَذَابِ فَلَا تَسُبُّوهَا» ، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَمَامِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» ، وَهُوَ يَدُلُّ أَنَّ الْمُفْرَدَ يَخْتَصُّ بِالْعَذَابِ وَالْجَمْعَ بِالرَّحْمَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كِتَابِ اللَّهِ {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّهَا جَاءَتْ مَجْمُوعَةً فِي الرَّحْمَةِ وَمُفْرَدَةً فِي الْعَذَابِ فَاسْتُشْكِلَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ طَلَبِ أَنْ تَكُونَ رَحْمَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا تُهْلِكْنَا بِهَذِهِ الرِّيحِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ هَلَكُوا بِهَذِهِ الرِّيحِ لَمْ تَهُبَّ عَلَيْهِمْ رِيحٌ أُخْرَى فَتَكُونُ رِيحًا لَا رِيَاحًا.

(وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ (صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ) أَيْ رُكُوعَاتٍ (وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ) أَيْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثُ رُكُوعَاتٍ (وَقَالَ هَكَذَا صَلَاةُ الْآيَاتِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ دُونَ آخِرِهِ)، وَهُوَ قَوْلُهُ:" هَكَذَا صَلَاةُ الْآيَاتِ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي زَلْزَلَةٍ فِي الْبَصْرَةِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا " أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِهِمْ فِي زَلْزَلَةٍ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ رَكَعَ فِيهَا سِتًّا " وَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَاسِمُ مِنْ الْآلِ، وَقَالَ: يُصَلِّي لِلْأَفْزَاعِ مِثْلَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلَكِنْ قَالَ: كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ (قُلْت): لَكِنْ فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُصَلِّي الْكُسُوفَ رَكْعَتَيْنِ إذَا شَاءَ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ التَّجْمِيعُ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فَحَسَنٌ قَالَ:؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالتَّجْمِيعِ إلَّا فِي الْكُسُوفَيْنِ.

‌بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ

أَيْ سِقَايَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - عِنْدَ حُدُوثِ الْجَدْبِ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمْ يَنْقُصْ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ» .

ص: 446

477 -

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ، لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ،، وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ حِبَّانَ

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ") أَيْ مِنْ الْمَدِينَةِ (مُتَوَاضِعًا مُتَبَذِّلًا) بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ أَنَّهُ لَابِسٌ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ وَالْمُرَادُ تَرْكُ الزِّينَةِ وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ تَوَاضُعًا، وَإِظْهَارًا لِلْحَاجَةِ (مُتَخَشِّعًا) الْخُشُوعُ فِي الصَّوْتِ وَالْبَصَرِ كَالْخُضُوعِ فِي الْبَدَنِ (مُتَرَسِّلًا) مِنْ التَّرْسِيلِ فِي الْمَشْيِ، وَهُوَ التَّأَنِّي وَعَدَمُ الْعَجَلَةِ (مُتَضَرِّعًا) لَفْظُ أَبِي دَاوُد " مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا " وَالتَّضَرُّعُ التَّذَلُّلُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي السُّؤَالِ وَالرَّغْبَةِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ» لَفْظُ أَبِي دَاوُد «وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ» فَأَفَادَ لَفْظُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَاللَّفْظُ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمُصَنِّفُ غَيْرُ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ حِبَّانَ)، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْآلُ وَالدَّارَقُطْنِيّ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ الصَّلَاةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْآلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَإِنَّمَا شُرِعَ الدُّعَاءُ فَقَطْ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِشَرْعِيَّةِ الصَّلَاةِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّهَا كَصَلَاةِ الْعِيدِ فِي تَكْبِيرِهَا وَقِرَاءَتِهَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ عَمَلًا بِظَاهِرِ لَفْظِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا صِفَةَ لَهُمَا زَائِدَةً عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْآلِ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ» وَكَمَا يُفِيدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي قَرِيبًا وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ لَا فِي الصِّفَةِ وَيُبْعِدُهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِيهِمَا سَبْعًا وَخَمْسًا كَالْعِيدَيْنِ وَيَقْرَأُ بِسَبِّحْ، وَهَلْ أَتَاك» ، وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْبَابِ.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ بِالدُّعَاءِ» ، وَأَخْرَجَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ «أَنَّهُ شَكَا إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ الْقَحْطَ فَقَالَ: اُجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ وَقُولُوا: يَا رَبِّ يَا رَبِّ» وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، وَثَبَتَ تَرْكُهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَدْ عَدَّ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ أَنْوَاعَ اسْتِسْقَائِهِ.

صلى الله عليه وسلم (فَالْأَوَّلُ): خُرُوجُهُ صلى الله عليه وسلم إلَى

ص: 447

478 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ، فَوُضِعَ لَهُ بِالْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ: أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ. أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْت عَلَيْنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ ثُمَّ رَفَعَ بِيَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ تَعَالَى سَحَابَةً

الْمُصَلَّى، وَصَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ.

(وَالثَّانِي): يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ.

(الثَّالِثُ): اسْتِسْقَاؤُهُ عَلَى مِنْبَرِ الْمَدِينَةِ اسْتَسْقَى مُجَرَّدًا فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ فِيهِ صَلَاةٌ.

(الرَّابِعُ): أَنَّهُ اسْتَسْقَى، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَرَفَعَ يَدَهُ وَدَعَا اللَّهَ عز وجل.

(الْخَامِسُ) أَنَّهُ اسْتَسْقَى عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ قَرِيبًا مِنْ الزَّوْرَاءِ، وَهِيَ خَارِجُ بَابِ الْمَسْجِدِ.

(السَّادِسُ): أَنَّهُ اسْتَسْقَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ لَمَّا سَبَقَهُ الْمُشْرِكُونَ إلَى الْمَاءِ وَأُغِيثَ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتَسْقَى فِيهَا.

وَاخْتُلِفَ فِي الْخُطْبَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَذَهَبَ الْهَادِي إلَى أَنَّهُ لَا يَخْطُبُ فِيهِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ " لَمْ يَخْطُبْ " إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَنْفِي الْخُطْبَةَ الْمُشَابِهَةَ لِخُطْبَتِهِمْ وَذَكَرَ مَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَقَى الْمِنْبَرَ " وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْقَاهُ إلَّا لِلْخُطْبَةِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ يَخْطُبُ فِيهَا كَالْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يَخْطُبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا فَذَهَبَ النَّاصِرُ وَجَمَاعَةٌ إلَى الْأَوَّلِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ إلَى الثَّانِي مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ، وَأَبِي عَوَانَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَطَبَ» .

وَاسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا لَفْظَهُ: وَجُمِعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ الَّذِي بَدَأَ بِهِ هُوَ الدُّعَاءُ فَعَبَّرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ الدُّعَاءِ بِالْخُطْبَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْوِ الْخُطْبَةَ بَعْدَهَا وَالرَّاوِي لِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَرْوِ الدُّعَاءَ قَبْلَهَا، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.

، وَأَمَّا مَا يَدْعُو بِهِ فَيَتَحَرَّى مَا وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَبَانَ الْأَلْفَاظَ الَّتِي دَعَا بِهَا صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ.

ص: 448

فَرَعَدَتْ، وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ) هُوَ مَصْدَرٌ كَالْقَحْطِ (فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ) عَيَّنَهُ لَهُمْ (فَخَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ) قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ إنْ صَحَّ، وَإِلَّا فَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ «فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ فَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَدْعُوهُ» قَالَ تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ) كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَفِي قَوْلِهِ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ثُمَّ قَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ افْتِتَاحِ الْخُطْبَةِ بِالْبَسْمَلَةِ بَلْ بِالْحَمْدِ لَهُ وَلَمْ تَأْتِ رِوَايَةٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ افْتَتَحَ الْخُطْبَةَ بِغَيْرِ التَّحْمِيدِ «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْت عَلَيْنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ» فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد " فِي الرَّفْعِ "(حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ) فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ (وَقَلَبَ) فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد " وَحَوَّلَ "(رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ) تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بَعْدَ تَحْوِيلِ ظَهْرِهِ عَنْهُمْ (وَنَزَلَ) أَيْ عَنْ الْمِنْبَرِ (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ) تَمَامُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِذْنِ اللَّهِ «فَلَمْ يَأْتِ بَابَ مَسْجِدِهِ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إلَى الْكِنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ) هُوَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ أَبِي دَاوُد ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد " أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقْرَءُونَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَهُمْ وَفِي قَوْلِهِ " وَعَدَ النَّاسَ " مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ تَقْدِيمُ تَبْيِينِ الْيَوْمِ لِلنَّاسِ لِيَتَأَهَّبُوا وَيَتَخَلَّصُوا مِنْ الْمَظَالِمِ وَنَحْوِهَا وَيُقَدِّمُوا التَّوْبَةَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَاجِبَةٌ مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ مَعَ حُصُولِ الشِّدَّةِ وَطَلَبِ تَفْرِيجِهَا مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات " إنَّ اللَّهَ حَرَمَ قَوْمًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيل السُّقْيَا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ عَاصٍ وَاحِدٌ " وَلَفْظُ النَّاسِ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ قَبْلُ فَيُشْرَعُ إخْرَاجُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَعْتَزِلُونَ الْمُصَلَّى.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَلَكِنَّهُ يُبَالِغُ فِي رَفْعِهِمَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ حَتَّى يُسَاوِيَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِمَا رَأْسَهُ.

وَقَدْ ثَبَتَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَصَنَّفَ الْمُنْذِرِيُّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَدْ جَمَعْت فِيهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَذَكَرَهَا فِي أَوَاخِرِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي

ص: 449

479 -

وَقِصَّةُ التَّحْوِيلِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَفِيهِ: «فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ»

480 -

وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: «وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّلَ الْقَحْطُ»

نَفْيِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي غَيْرِ الِاسْتِسْقَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ لَا نَفْيَ أَصْلِ الرَّفْعِ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ قَلْبِ الرِّدَاءِ فَيَأْتِي عَنْ الْبُخَارِيِّ جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ " وَجَعَلَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ " وَفِي رِوَايَةٍ؛ لِأَبِي دَاوُد «جَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ وَعِطَافَهُ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ» وَفِي رِوَايَةٍ؛ لِأَبِي دَاوُد «أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِأَسْفَلِهَا وَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ قَلَبَهَا عَلَى عَاتِقِهِ» وَيُشْرَعُ لِلنَّاسِ أَنْ يُحَوِّلُوا مَعَهُ لِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ " وَحَوَّلَ النَّاسُ مَعَهُ "، وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّهُ يَخْتَصُّ التَّحْوِيلُ بِالْإِمَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تُحَوِّلُ النِّسَاءُ.

وَأَمَّا وَقْتُ التَّحْوِيلِ فَعِنْدَ اسْتِقْبَالِهِ الْقِبْلَةَ.

وَلِمُسْلِمٍ «أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ» وَمِثْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْهَادِي أَرْبَعٌ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَوَجْهُ قَوْلِهِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فِي الْجُمُعَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ وَالْجُمُعَةُ بِالْخُطْبَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم الرَّكْعَتَانِ كَمَا عَرَفْتَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَلَمَّا ذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ التَّحْوِيلُ، وَقَدْ أَفَادَهُ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَاضِي زَادَ الْمُصَنِّفُ تَقْوِيَةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْوِيلِ بِقَوْلِهِ.

(وَقِصَّةُ التَّحْوِيلِ فِي الصَّحِيحِ) أَيْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَيْ الْمَازِنِيِّ وَلَيْسَ هُوَ رَاوِي الْأَذَانِ كَمَا وَهَمَ فِيهِ بَعْضُ الْحُفَّاظِ وَلَفْظُهُ فِي الْبُخَارِيِّ «فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ» (وَفِيهِ) أَيْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ (فَتَوَجَّهَ) أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو) فِي الْبُخَارِيِّ بَعْدَ يَدْعُو " وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ " وَفِي لَفْظٍ " قَلَبَ رِدَاءَهُ «ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ» قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ سُفْيَانُ، وَأَخْبَرَنِي الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ " جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ " انْتَهَى. زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ " وَالشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ "

، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ التَّحْوِيلِ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ بِإِيرَادِ الْحَدِيثِ.

ص: 450

481 -

وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ عز وجل يُغِيثُنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ الدُّعَاءُ بِإِمْسَاكِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَهُوَ قَوْلُهُ (وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَمِعَ أَبَاهُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَغَيْرُهُ. وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا أَبُوهُ وَعَمُّ أَبِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسُمِّيَ الْبَاقِرُ؛ لِأَنَّهُ تَبَقَّرَ فِي الْعِلْمِ أَيْ تَوَسَّعَ فِيهِ

انْتَهَى مِنْ جَامِعِ الْأُصُولِ.

«وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّلَ الْقَحْطُ» ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ أَمَارَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ قِيلَ لَهُ حَوِّلْ رِدَاءَك لِيَتَحَوَّلَ حَالُك وَتَعَقَّبَ قَوْلُهُ هَذَا بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ، وَاعْتِرَاضُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّحَوُّلَ لِلتَّفَاؤُلِ قَالَ: لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْفَأْلِ أَنْ لَا يَقْصِدَ إلَيْهِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّهُ وَرَدَ فِي التَّفَاؤُلِ حَدِيثٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ إنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ فَوَصَلَهُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ لَقِيَ جَابِرًا وَرَوَى عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ رَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ إرْسَالَهُ ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْقَوْلِ بِالظَّنِّ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ:(جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ " يَجْهَرُ " وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْجَهْرِ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَأَخَذَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تُصَلَّى إلَّا فِي النَّهَارِ وَلَوْ كَانَتْ تُصَلَّى فِي اللَّيْلِ لَأَسَرَّ فِيهَا نَهَارًا وَلَجَهَرَ فِيهَا لَيْلًا وَفِي هَذَا الْأَخْذِ بُعْدٌ لَا يَخْفَى.

وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ عز وجل يُغِيثُنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ» زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ " وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ " ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ أَغِثْنَا) وَفِي الْبُخَارِيِّ أَسْقِنَا (اللَّهُمَّ أَغِثْنَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ الدُّعَاءُ بِإِمْسَاكِهَا) أَيْ السَّحَابِ عَنْ الْإِمْطَارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) تَمَامُهُ مِنْ مُسْلِمٍ «قَالَ أَنَسٌ: فَلَا وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ

ص: 451

482 -

وَعَنْهُ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ إذَا قُحِطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَسْتَسْقِي إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ قَالَ: فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكُهَا عَنَّا قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ: فَانْقَلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَهُوَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ قَالَ: لَا أَدْرِي» انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ. وَهَلَاكُ الْأَمْوَالِ يَعُمُّ الْمَوَاشِيَ وَالْأَطْيَانَ، وَانْقِطَاعُ السُّبُلِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ السَّفَرِ لِضَعْفِ الْإِبِلِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْمَرْعَى وَالْأَقْوَاتِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَذَ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الطَّعَامِ لَمْ يَجِدُوا مَا يَحْمِلُونَهُ إلَى الْأَسْوَاقِ. وَقَوْلُهُ:(يُغِيثُنَا) يَحْتَمِلُ فَتْحُ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَاثَ إمَّا مِنْ الْغَيْثِ أَوْ الْغَوْثِ، وَيَحْتَمِلُ ضَمُّهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْإِغَاثَةِ وَيُرَجِّحُ هَذَا قَوْلُهُ:" اللَّهُمَّ أَغِثْنَا " وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو إذَا كَثُرَ الْمَطَرُ، وَقَدْ بَوَّبَ لَهُ الْبُخَارِيُّ (بَابُ الدُّعَاءِ إذَا كَثُرَ الْمَطَرُ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَطَرِ: اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ لَا سُقْيَا عَذَابٍ وَلَا بَلَاءٍ وَلَا هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا».

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا قُحِطُوا) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَصَابَهُمْ الْقَحْطُ - (اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ) أَيْ عُمَرُ (اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَسْتَسْقِي إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ رضي الله عنه فَإِنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ مِنْ السَّمَاءِ إلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ

ص: 452

483 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «أَصَابَنَا - وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ قَالَ: فَحَسَرَ ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ، وَقَالَ: إنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

484 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» أَخْرَجَاهُ

يَنْكَشِفْ إلَّا بِتَوْبَةٍ، وَقَدْ تَوَجَّهَتْ بِي الْقَوْمُ إلَيْك لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّك، وَهَذِهِ أَيْدِينَا إلَيْك بِالذُّنُوبِ وَنَوَاصِينَا إلَيْك بِالتَّوْبَةِ فَاسْقِنَا الْغَيْثَ فَأَرَخَّتْ السَّمَاءُ مِثْلَ الْجِبَالِ حَتَّى أَخْصَبَتْ الْأَرْضُ " أَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي الْأَنْسَابِ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ عَامَ الرَّمَادَةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَذَكَرَ الْبَارِزِيُّ أَنَّ عَامَ الرَّمَادَةِ كَانَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَالرَّمَادَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ سُمِّيَ الْعَامُ بِهَا لِمَا حَصَلَ مِنْ شِدَّةِ الْجَدْبِ فَاغْبَرَّتْ الْأَرْضُ جِدًّا مِنْ عَدَمِ الْمَطَرِ، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِشْفَاعِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَبَيْتِ النُّبُوَّةِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْعَبَّاسِ وَتَوَاضُعُ عُمَرَ، وَمَعْرِفَتُهُ لِحَقِّ أَهْلِ الْبَيْتِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ فَحَسَرَ ثَوْبَهُ) أَيْ كَشَفَ بَعْضَهُ عَنْ بَدَنِهِ (حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ، وَقَالَ: " إنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَبَوَّبَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: بَابُ مَنْ يُمْطَرُ حَتَّى يَتَحَادَرَ عَنْ لِحْيَتِهِ وَسَاقَ حَدِيثَ أَنَسٍ بِطُولِهِ، وَقَوْلُهُ:" حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ " أَيْ بِإِيجَادِ رَبِّهِ إيَّاهُ: يَعْنِي أَنَّ الْمَطَرَ رَحْمَةٌ، وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ لَهَا فَيَتَبَرَّكُ بِهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ.

. (وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» أَخْرَجَاهُ) أَيْ الشَّيْخَانِ، وَهَذَا خِلَافُ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيمَا أَخْرَجَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالصَّيِّبُ مِنْ صَابَ الْمَطَرُ إذَا وَقَعَ، وَنَافِعًا صِفَةٌ مُقَيَّدَةٌ احْتِرَازًا عَنْ الصَّيِّبِ الضَّارِّ.

ص: 453

485 -

وَعَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ: اللَّهُمَّ جَلِّلْنَا سَحَابًا، كَثِيفًا، قَصِيفًا، دَلُوقًا، ضَحُوكًا، تُمْطِرُنَا مِنْهُ رَذَاذًا، قِطْقِطًا، سَجْلًا، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ

486 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَرَجَ سُلَيْمَانُ عليه السلام يَسْتَسْقِي، فَرَأَى نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إلَى السَّمَاءِ تَقُول: اللَّهُمَّ إنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِك، لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ سُقْيَاك، فَقَالَ: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

وَعَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ: اللَّهُمَّ جَلِّلْنَا» بِالْجِيمِ مِنْ التَّجْلِيلِ وَالْمُرَادُ تَعْمِيمُ الْأَرْضِ (سَحَابًا كَثِيفًا) بِفَتْحِ الْكَافِ فَمُثَلَّثَةٌ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَفَاءٌ أَيْ مُتَكَاثِفًا مُتَرَاكِمًا (قَصِيفًا) بِالْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ فَصَادٌ مُهْمَلَةٌ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَفَاءٌ، وَهُوَ مَا كَانَ رَعْدُهُ شَدِيدَ الصَّوْتِ، وَهُوَ مِنْ أَمَارَاتِ قُوَّةِ الْمَطَرِ (دَلُوقًا) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ فَقَافٌ يُقَالُ: خَيْلٌ دَلُوقٌ أَيْ مُنْدَفِعَةٌ شَدِيدَةُ الدَّفْعَةِ وَيُقَالُ: دَلَقَ السَّيْلُ عَلَى الْقَوْمِ هَجَمَ (ضَحُوكًا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِزِنَةِ فَعُولٍ أَيْ ذَاتُ بَرْقٍ (تُمْطِرُنَا مِنْهُ رَذَاذًا) بِضَمِّ الرَّاءِ فَذَالٌ مُعْجَمَةٌ فَأُخْرَى مِثْلُهَا هُوَ مَا كَانَ مَطَرُهُ دُونَ الطَّشِّ (قِطْقِطًا) بِكَسْرِ الْقَافَيْنِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْأُولَى قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْقِطْقِطُ أَصْغَرُ الْمَطَرِ ثُمَّ الرَّذَاذُ، وَهُوَ فَوْقَ الْقِطْقِطِ ثُمَّ الطَّشُّ، وَهُوَ فَوْقَ الرَّذَاذِ (سَجْلًا) مَصْدَرُ سَجَلْتُ الْمَاءَ سَجْلًا إذَا صَبَبْته صَبًّا وُصِفَ بِهِ السَّحَابُ مُبَالَغَةً فِي كَثْرَةِ مَا يُصَبُّ مِنْهَا مِنْ الْمَاءِ حَتَّى كَأَنَّهَا نَفْسُ الْمَصْدَرِ (يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ)، وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ نَطَقَ بِهِمَا الْقُرْآنُ وَفِي التَّفْسِيرِ أَيْ: الِاسْتِغْنَاءُ الْمُطْلَقُ وَالْفَضْلُ التَّامُّ وَقِيلَ: الَّذِي عِنْدَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ لِلْمُخْلِصِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمَا مِنْ عَظَائِمِ صِفَاتِهِ - تَعَالَى - وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» وَرُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ، وَهُوَ يُصَلِّي وَيَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَقَالَ: قَدْ اُسْتُجِيبَ لَك»

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَرَجَ سُلَيْمَانُ يَسْتَسْقِي

ص: 454

487 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

بَابُ اللِّبَاسِ

488 -

عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.

فَرَأَى نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إلَى السَّمَاءِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِك لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ سُقْيَاك فَقَالَ: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ شَرْعٌ قَدِيمٌ وَالْخُرُوجُ لَهُ كَذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّهُ يَحْسُنُ إخْرَاجُ الْبَهَائِمِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَأَنَّ لَهَا إدْرَاكًا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةً بِذِكْرِهِ، وَتَطْلُبُ الْحَاجَاتِ مِنْهُ وَفِي ذَلِكَ قَصَصٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَآيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِينَ لَهَا لَا مَلْجَأَ لَهُ

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفِّهِ إلَى السَّمَاءِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) فِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِالدُّعَاءِ رَفْعُ الْبَلَاءِ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَجْعَلُ ظَهْرَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا دَعَا بِسُؤَالِ شَيْءٍ وَتَحْصِيلِهِ جَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا سَأَلَ جَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا اسْتَعَاذَ جَعَلَ ظَهْرَهُمَا إلَيْهَا» ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «سَلُوا اللَّهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظَهْرِهَا» ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَخْتَصُّ بِمَا إذَا كَانَ السُّؤَالُ بِحُصُولِ شَيْءٍ لَا لِدَفْعِ بَلَاءٍ، وَقَدْ فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى:{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أَنَّ الرَّغَبَ بِالْبُطُونِ وَالرَّهَبَ بِالظُّهُورِ.

(بَابُ اللِّبَاسِ) أَيْ مَا يَحِلُّ مِنْهُ وَمَا يَحْرُمُ

(عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ) قَالَ فِي الْأَطْرَافِ: اُخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ هَانِئٍ

ص: 455

489 -

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ وَقِيلَ: عُبَيْدُ بْنُ وَهْبٍ وَبَقِيَ إلَى خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ مَرْوَان سَكَنَ الشَّامَ وَلَيْسَ بِعَمِّ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. ذَلِكَ قُتِلَ أَيَّامَ حُنَيْنٍ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ» بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ اسْتِحْلَالُ الزِّنَى وَبِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ (وَالْحَرِيرَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ)، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ لِبَاسِ الْحَرِيرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ يَسْتَحِلُّونَ بِمَعْنَى يَجْعَلُونَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَيَأْتِي الْحَدِيثُ الثَّانِي وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ اسْتِحْلَالَ الْمُحَرَّمِ لَا يُخْرِجُ فَاعِلَهُ مِنْ مُسَمَّى الْأُمَّةِ كَذَا قَالَ (قُلْت): وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ مَنْ اسْتَحَلَّ مُحَرَّمًا أَيْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَامٌ فَقَوْلُهُ بِحِلِّهِ رَدٌّ لِكَلَامِهِ وَتَكْذِيبٌ، وَتَكْذِيبُهُ كُفْرٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ الْأُمَّةِ قَبْلَ الِاسْتِحْلَالِ فَإِذَا اسْتَحَلَّ خَرَجَ عَنْ مُسَمَّى الْأُمَّةِ.

وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْأُمَّةِ هُنَا أُمَّةُ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَحِلُّونَ لِكُلِّ مَا حَرَّمَهُ لَا لِهَذَا بِخُصُوصِهِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْحَدِيثِ فَظَاهِرُ إيرَادِ الْمُصَنِّفِ لَهُ فِي اللِّبَاسِ أَنَّهُ يَخْتَارُ أَنَّهَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْحُمَيْدِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْإِبْرَيْسَمِ مَعْرُوفٌ وَضَبَطَهُ أَبُو مُوسَى بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِلَافِ طُرُقِهِ هُوَ الْأَوَّلُ.

وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ فَهُوَ الْخَالِصُ مِنْ الْحَرِيرِ وَعُطِفَ الْحَرِيرُ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْخَزَّ ضَرْبٌ مِنْ الْحَرِيرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْخَزُّ عَلَى ثِيَابٍ تُنْسَجُ مِنْ الْحَرِيرِ وَالصُّوفِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ حَلَالٌ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الدَّشْتَكِيِّ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ:«رَأَيْت بِبُخَارَى رَجُلًا عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهِ عِمَامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ قَالَ: كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْ غَيْرِ الْخَالِصِ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ

ص: 456

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا» تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ هُنَا نَهْيُ إخْبَارٍ عَنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ «وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

أَيْ وَنَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالنَّهْيُ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَإِلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ.

وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ قَوْمٍ إبَاحَتَهُ وَنَسَبَ فِي الْبَحْرِ إبَاحَتَهُ إلَى ابْنِ عُلَيَّةَ، وَقَالَ: إنَّهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَكِنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: قَدْ ثَبَتَ لُبْسُ الْحَرِيرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ أَبُو دَاوُد: لَبِسَهُ عِشْرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَكْثَرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَمْعٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ " قَالَ: أَتَتْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ مَطَارِفُ خَزٍّ فَكَسَاهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " قَالَ: وَالْأَصَحُّ فِي تَفْسِيرِ الْخَزِّ أَنَّهُ ثِيَابٌ سُدَاهَا مِنْ حَرِيرٍ وَلُحْمَتُهَا مِنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ: تُنْسَجُ مَخْلُوطَةً مِنْ حَرِيرٍ وَصُوفٍ أَوْ نَحْوِهِ وَقِيلَ: أَصْلُهُ اسْمُ دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْخَزُّ فَسُمِّيَ الثَّوْبُ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهِ خَزًّا لِنُعُومَتِهِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَا خُلِطَ بِحَرِيرٍ لِنُعُومَةِ الْحَرِيرِ إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الَّذِي لَبِسَهُ الصَّحَابَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد كَانَ مِنْ الْخَزِّ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ يَأْبَى ذَلِكَ.

، وَأَمَّا الْقَزُّ بِالْقَافِ بَدَلِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَرِيرِ فَحَرَّمُوهُ عَلَى الرِّجَالِ أَيْضًا وَالْقَوْلُ بِحِلِّهِ وَحِلِّ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ إلَّا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْهُ " أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ» فَأَخَذَ بِالْعُمُومِ إلَّا أَنَّهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى حِلِّ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ فَأَمَّا الصِّبْيَانُ مِنْ الذُّكُورِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي "، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ لِبَاسُهُمْ، وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ لِبَاسُهُمْ الْحُلِيَّ وَالْحَرِيرَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْعِيدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا جَوَازُهُ.

وَأَمَّا الدِّيبَاجُ فَهُوَ مَا غَلُظَ مِنْ ثِيَابِ الْحَرِيرِ وَعَطْفُهُ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.

، وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَلَى الْحَرِيرِ فَقَدْ أَفَادَ الْحَدِيثُ النَّهْيَ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: إنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَلَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:"، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ " قَالَ: "، وَهِيَ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِمَنْ قَالَ بِمَنْعِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ وَالْكُوفِيِّينَ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ إنَّ قَوْلَهُ نَهَى لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ وَرَدَ عَنْ مَجْمُوعِ اللُّبْسِ وَالْجُلُوسِ لَا الْجُلُوسَ وَحْدَهُ قُلْت: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُ هَذَا الْقَائِلِ، وَالْإِخْرَاجُ عَنْ الظَّاهِرِ بِلَا حَاجَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُدَارُ الْجَوَازُ وَالتَّحْرِيمُ عَلَى اللُّبْسِ لِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ فِيهِ وَالْجُلُوسُ

ص: 457

490 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

491 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ فِي سَفَرٍ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

لَيْسَ بِلُبْسٍ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى الْجُلُوسُ لُبْسًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ " فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ " وَلِأَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.

، وَأَمَّا افْتِرَاشُ النِّسَاءِ لِلْحَرِيرِ فَالْأَصْلُ جَوَازُهُ، وَقَدْ أُحِلَّ لَهُنَّ لُبْسُهُ وَمِنْهُ الِافْتِرَاشُ، وَمَنْ قَالَ بِمَنْعِهِنَّ عَنْ افْتِرَاشِهِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ.

وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: الْخُيَلَاءُ وَالثَّانِي: كَوْنُهُ لِبَاسَ رَفَاهِيَةٍ وَزِينَةٍ تَلِيقُ بِالنِّسَاءِ دُونَ شَهَامَةِ الرِّجَالِ.

(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)

قَالَ الْمُصَنِّفُ: أَوْ هُنَا لِلتَّخْيِيرِ وَالتَّنْوِيعِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ «إنَّ الْحَرِيرَ لَا يَصْلُحُ إلَّا هَكَذَا أَوْ هَكَذَا» يَعْنِي إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، وَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ كُمٍّ إصْبَعَانِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيّ «لَمْ يُرَخِّصْ فِي الدِّيبَاجِ إلَّا فِي مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ» ، وَهَذَا أَيْ التَّرْخِيصُ فِي الْأَرْبَعِ الْأَصَابِعِ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَعَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ مَنْعُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْسُوجًا أَوْ مُلْصَقًا وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ، وَقَدَّرَتْ الْهَادَوِيَّةُ الرُّخْصَةَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي الْأَرْبَعِ.

وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ فِي سَفَرٍ مِنْ حِكَّةٍ» بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ نَوْعٌ مِنْ الْجَرَبِ وَذِكْرُ الْحِكَّةِ مَثَلًا لَا قَيْدًا أَيْ مِنْ أَجْلِ حِكَّةٍ فَمِنْ لِلتَّعْلِيلِ (كَانَتْ بِهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمَا «شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَمْلَ فَرَخَّصَ لَهُمَا قَمِيصَ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا» قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْحِكَّةَ حَصَلَتْ مِنْ الْقَمْلِ فَنُسِبَتْ الْعِلَّةُ تَارَةً إلَى السَّبَبِ، وَتَارَةً إلَى سَبَبِ السَّبَبِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ لِلْحِكَّةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ

ص: 458

492 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «كَسَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ فَخَرَجْتُ فِيهَا فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَقْتهَا بَيْنَ نِسَائِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ

الطَّبَرِيُّ: دَلَّتْ الرُّخْصَةُ فِي لُبْسِهِ لِلْحِكَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِلُبْسِهِ دَفْعَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَذَى الْحِكَّةِ كَدَفْعِ السِّلَاحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ لَا يَخُصُّونَهُ بِالسَّفَرِ، وَقَالَ الْبَعْضُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: يَخْتَصُّ بِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْخُصُوصِيَّةَ بِالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَا تَصِحُّ تِلْكَ الدَّعْوَى، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِالْجَوَازِ لِلضَّرُورَةِ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ تَبَعًا لِلنَّوَوِيِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبُرُودَةِ وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ الْحَرِيرَ حَادٌّ فَالصَّوَابُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ بِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ تَدْفَعُ مَا تَنْشَأُ عَنْ الْحِكَّةِ مِنْ الْقَمْلِ.

وَعَنْ «عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ: كَسَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ» بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ ثُمَّ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ أَلِفٌ مَمْدُودَةٌ قَالَ الْخَلِيلُ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْلَاءُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَعَ الْمَدِّ سِوَى سِيَرَاءَ - وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الْمَوْلُودِ - وَحِوَلَاءَ وَعِنَبَاءَ لُغَةٌ فِي الْعِنَبِ، وَضَبْطُ حُلَّةٍ بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّ سِيَرَاءَ صِفَةٌ لَهَا وَبِغَيْرِهِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَهُوَ الْأَجْوَدُ كَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ «فَخَرَجْتُ فِيهَا فَرَأَيْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْحُلَّةُ إزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَقِيلَ: هِيَ بُرُودٌ مُضَلَّعَةٌ بِالْقَزِّ، وَقِيلَ: حَرِيرٌ خَالِصٌ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَقَوْلُهُ:" فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ " زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: «إنِّي لَمْ أَبْعَثْهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا إنَّمَا بَعَثْتُهَا إلَيْك لِتَشْقُقْهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِك، وَلِذَا شَقَقْتُهَا خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ» ، وَقَوْلُهُ: فَشَقَقْتهَا أَيْ قَطَعْتهَا فَفَرَّقْتهَا خُمُرًا، وَهِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَضْمُومَةً وَضَمِّ الْمِيمِ جَمْعُ خِمَارٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفُ مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.

وَالْمُرَادُ بِالْفَوَاطِمِ فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ أُمُّ عَلِيٍّ عليه السلام، وَالثَّالِثَةُ قِيلَ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ حَمْزَةَ وَذُكِرَتْ لَهُنَّ رَابِعَةٌ، وَهِيَ فَاطِمَةُ امْرَأَةُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَهَا لِعَلِيٍّ عليه السلام فَبَنَى عَلَى ظَاهِرِ الْإِرْسَالِ وَانْتَفَعَ بِهَا فِي أَشْهُرِ مَا صُنِعَتْ لَهُ، وَهُوَ اللُّبْسُ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُبَحْ لَهُ لُبْسُهَا.

ص: 459

493 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ)

494 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ نِعْمَةً أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ

وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ) أَيْ لُبْسُهُمَا (لِإِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ) أَيْ لُبْسُهُمَا وَفِرَاشُ الْحَرِيرِ كَمَا سَلَفَ (عَلَى ذُكُورِهَا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ) إلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَأَعَلَّهُ أَبُو حَاتِمٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ وَكَذَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى مَعْلُولٌ لَا يَصِحُّ، وَأَمَّا ابْنُ خُزَيْمَةَ فَصَحَّحَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ ثَمَانِ طُرُقٍ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ عَنْ ثَمَانِيَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكُلُّهَا لَا تَخْلُو عَنْ مَقَالٍ وَلَكِنَّهُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الرِّجَالِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ، وَجَوَازِ لُبْسِهِمَا لِلنِّسَاءِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ حِلَّ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ مَنْسُوخٌ.

(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ نِعْمَةً أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ)، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ‌

«إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» ،

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ وَفِيهِ «إذَا آتَاك اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ» فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ الْعَبْدِ إظْهَارَ نِعْمَتِهِ فِي مَأْكَلِهِ، وَمَلْبَسِهِ فَإِنَّهُ شُكْرٌ لِلنِّعْمَةِ فِعْلِيٌّ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا رَآهُ الْمُحْتَاجُ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ قَصَدَهُ؛ لِيَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَبَذَاذَةُ الْهَيْئَةِ سُؤَالٌ، وَإِظْهَارٌ لِلْفَقْرِ بِلِسَانِ الْحَالِ وَلِذَا قِيلَ وَلِسَانُ حَالِي بِالشِّكَايَةِ أَنْطَقُ وَقِيلَ وَكَفَاك شَاهِدُ مَنْظَرِي عَنْ مَخْبَرِي.

ص: 460

495 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَالْمُعَصْفَرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

496 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: «رَأَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: أُمُّك أَمَرَتْك بِهَذَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ بِضَمِّ اللَّامِ الْقَسِّيِّ» بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءُ النِّسْبَةِ، وَقِيلَ: إنَّ الْمُحَدِّثِينَ يَكْسِرُونَ الْقَافَ، وَأَهْلُ مِصْرَ يَفْتَحُونَهَا، وَهِيَ نِسْبَةٌ إلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا الْقَسُّ، وَقَدْ فُسِّرَ الْقَسِّيُّ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ هَكَذَا فِي مُسْلِمٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ فِيهَا حَرِيرٌ أَمْثَالُ الْأُتْرُجِّ (وَالْمُعَصْفَرُ:) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. هُوَ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ فَالنَّهْيُ فِي الْأَوَّلِ لِلتَّحْرِيمِ إنْ كَانَ حَرِيرُهُ أَكْثَرَ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ وَالْكَرَاهَةِ، وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَالْأَصْلُ فِي النَّهْيِ أَيْضًا التَّحْرِيمُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى جَوَازِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ غَيْرُ أَحْمَدَ وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا قَالُوا:؛ لِأَنَّهُ لَبِسَ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً حَمْرَاءَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ» ، وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْقَيِّمِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا حُلَّةٌ حَمْرَاءُ بَحْتًا، وَقَالَ: إنَّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ بُرْدَانِ يَمَانِيَّانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ الْأَسْوَدِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ الْخُطُوطِ، وَأَمَّا الْأَحْمَرُ الْبَحْتُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ» وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ.

496 -

وَعَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: رَأَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: أُمُّك أَمَرَتْك بِهَذَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهُوَ قَوْلُهُ وَعَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: رَأَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: أُمُّك أَمَرَتْك بِهَذَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُعَصْفَرِ مُعَضِّدٌ لِلنَّهْيِ الْأَوَّلِ وَيَزِيدُهُ قُوَّةً فِي الدَّلَالَةِ تَمَامُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ " قُلْت: أَغْسِلُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بَلْ احْرَقْهُمَا وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا»، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَفِي قَوْلِهِ: " أُمُّك أَمَرَتْك " إعْلَامٌ بِأَنَّهُ مِنْ لِبَاسِ النِّسَاءِ وَزِينَتِهِنَّ، وَأَخْلَاقِهِنَّ.

وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ، وَهُوَ أَيْ أَمْرُ ابْنِ عَمْرٍو بِتَحْرِيقِهَا يُعَارِضُ حَدِيثَ عَلِيٍّ عليه السلام وَأَمْرَهُ بِأَنْ يَشُقَّهَا بَيْنَ نِسَائِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ قَدَّمْنَاهَا فَيُنْظَرُ فِي وَجْهِ الْجَمْعِ إلَّا أَنَّ فِي

ص: 461

497 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: «أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَكْفُوفَةَ الْجَيْبِ وَالْكُمَّيْنِ وَالْفَرْجَيْنِ بِالدِّيبَاجِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ وَزَادَ:«كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حَتَّى قُبِضَتْ، فَقَبَضْتهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا» وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ: «وَكَانَ يَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ وَالْجُمُعَةِ»

سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَيْهِ رَيْطَةً مُضَرَّجَةً بِالْعُصْفُرِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الرَّيْطَةُ الَّتِي عَلَيْك؟ قَالَ: فَعَرَفْت مَا كَرِهَ فَأَتَيْت أَهْلِي، وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنُّورًا لَهُمْ فَقَذَفْتهَا فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا فَعَلَتْ الرَّيْطَةُ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: هَلَّا كَسَوْتهَا بَعْضَ أَهْلِك فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلنِّسَاءِ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَحْرَقَهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَزَالَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَلِيٍّ عليه السلام لَكِنَّهُ يَبْقَى التَّعَارُضُ بَيْنَ رِوَايَتَيْ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَوَّلًا بِإِحْرَاقِهَا نَدْبًا ثُمَّ لَمَّا أَحْرَقَهَا قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَسَوْتهَا بَعْضَ أَهْلِك إعْلَامًا لَهُ بِأَنَّ هَذَا كَانَ كَافِيًا عَنْ إحْرَاقِهَا لَوْ فَعَلَهُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِإِحْرَاقِهَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ أَوْ الْعُقُوبَةِ.

(وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكْفُوفَةَ) الْمَكْفُوفُ مِنْ الْحَرِيرِ مَا اُتُّخِذَ جَيْبُهُ مِنْ حَرِيرٍ وَكَانَ لِذَيْلِهِ، وَأَكْمَامِهِ كِفَافٌ مِنْهُ (الْجَيْبِ وَالْكُمَّيْنِ وَالْفَرْجَيْنِ بِالدِّيبَاجِ) هُوَ مَا غَلُظَ مِنْ الْحَرِيرِ كَمَا سَلَفَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ وَزَادَ) أَيْ مِنْ رِوَايَةِ أَسْمَاءَ (كَانَتْ) أَيْ الْجُبَّةُ (عِنْدَ عَائِشَةَ حَتَّى قُبِضَتْ) مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ أَيْ مَاتَتْ (فَقَبَضْتهَا وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا) الْحَدِيثُ فِي مُسْلِمٍ لَهُ سَبَبٌ، وَهُوَ " أَنَّ أَسْمَاءَ أَرْسَلَتْ إلَى ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّهُ يُحَرِّمُ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فَخِفْت أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ مِنْهُ فَأَخْرَجَتْ أَسْمَاءُ الْجُبَّةَ» (وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ) فِي رِوَايَةِ أَسْمَاءَ «وَكَانَ يَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ وَالْجُمُعَة» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ عَلَى قَوْلِهِ مَكْفُوفَةً، وَمَعْنَى الْمَكْفُوفَةِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ كُفَّةً بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ مَا يُكَفُّ بِهِ جَوَانِبُهَا وَيُعْطَفُ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الذَّيْلِ وَفِي الْفَرْجَيْنِ وَفِي الْكُمَّيْنِ انْتَهَى.

وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ أَوْ دُونَهَا

ص: 462

‌كِتَابُ الْجَنَائِزِ

498 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ: الْمَوْتِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

أَوْ فَوْقَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُصْمَتًا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

وَفِيهِ جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْحَرِيرِ وَجَوَازُ لُبْسِ الْجُبَّةِ، وَمَا لَهُ فَرْجَانِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَفِيهِ اسْتِشْفَاءٌ بِآثَارِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا لَامَسَ جَسَدَهُ الشَّرِيفَ، وَفِي قَوْلِهَا:«كَانَ يَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ وَالْجُمُعَةِ» دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّجَمُّلِ بِالزِّينَةِ لِلْوَافِدِ وَنَحْوِهِ كَذَا قِيلَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيَّةٍ لَا دَلِيلَ فِيهِ، وَأَمَّا خِيَاطَةُ الثَّوْبِ بِالْخَيْطِ الْحَرِيرِ، وَلُبْسُهُ وَجَعْلُ خَيْطِ السُّبْحَةِ مِنْ الْحَرِيرِ، وَلِيقَةِ الدَّوَاةِ وَكِيسِ الْمُصْحَفِ، وَغِشَايَةِ الْكُتُبِ فَلَا يَنْبَغِي الْقَوْلُ بِعَدَمِ جَوَازِهِ لِعَدَمِ شُمُولِ النَّهْيِ لَهُ وَفِي اللِّبَاسِ آدَابٌ مِنْهَا فِي الْعِمَامَةِ تَقْصِيرُ الْعَذْبَةِ فَلَا تَطُولُ طُولًا فَاحِشًا، وَإِرْسَالُهَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهَا بِالْأَصَالَةِ، وَفِي الْقَمِيصِ الْكُمُّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَسْمَاءَ «كَانَ كُمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الرُّسْغِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إفْرَاطُ تَوْسِعَةِ الثِّيَابِ وَالْأَكْمَامِ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ، وَفِي الْمِئْزَرِ وَمِثْلُهُ اللِّبَاسُ وَالْقَمِيصُ أَنْ لَا يُسْبِلَهُ زِيَادَةً عَلَى نِصْفِ السَّاقِ وَيَحْرُمُ إنْ جَاوَزَ الْكَعْبَيْنِ.

(كِتَابُ الْجَنَائِزِ) الْجَنَائِزُ جَمْعُ جِنَازَةٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا فِي الْقَامُوسِ الْجِنَازَةُ الْمَيِّتُ وَتُفْتَحُ أَوْ بِالْكَسْرِ الْمَيِّتُ وَبِالْفَتْحِ السَّرِيرُ أَوْ عَكْسُهُ أَوْ بِالْكَسْرِ السَّرِيرُ مَعَ الْمَيِّتِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ» بِالْكَسْرِ بَدَلٌ مِنْ هَاذِمٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) وَالْحَاكِمُ وَابْنُ السَّكَنِ وَابْنُ طَاهِرٍ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْإِرْسَالِ وَفِي الْبَابِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ، وَمَا تَخْلُو عَنْ مَقَالٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ نَقْلًا عَنْ السُّهَيْلِيِّ إنَّ الرِّوَايَةَ فِي هَاذِمٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَعْنَاهُ الْقَاطِعُ، وَأَمَّا بِالْمُهْمَلَةِ فَمَعْنَاهُ الْمُزِيلُ لِلشَّيْءِ وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفِي هَذَا النَّفْيِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.

(قُلْت) يُرِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الذَّالِ الْمُهْمَلَةِ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمَوْتَ يُزِيلُ اللَّذَّاتِ كَمَا يَقْطَعُهَا وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ الرِّوَايَةُ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ ذِكْرِ أَعْظَمِ الْمَوَاعِظِ

ص: 463

499 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَهُوَ الْمَوْتُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَائِدَةَ الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ لَا تَذْكُرُونَهُ فِي كَثِيرٍ إلَّا قَلَّلَهُ وَلَا قَلِيلٍ إلَّا كَثَّرَهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ فَمَا مِنْ عَبْدٍ أَكْثَرَ ذِكْرَهُ إلَّا أَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ» وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ فِي ضِيقٍ إلَّا وَسَّعَهُ وَلَا فِي سَعَةٍ إلَّا ضَيَّقَهَا» وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ لَالٍ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْحِيصٌ لِلذُّنُوبِ وَتَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا» وَعِنْدَ الْبَزَّارِ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ مِنْ الْعَيْشِ إلَّا وَسَّعَهُ عَلَيْهِ وَلَا فِي سَعَةٍ إلَّا ضَيَّقَهَا» وَعَنْ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يَمْحَقُ الذُّنُوبَ وَيُزْهِدُ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ ذَكَرْتُمُوهُ عِنْدَ الْغِنَى هَدَمَهُ، وَإِنْ ذَكَرْتُمُوهُ عِنْدَ الْفَقْرِ أَرْضَاكُمْ بِعَيْشِكُمْ» .

. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ» أَيْ لَا فِرَاقَ وَلَا مَحَالَةَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ) بَدَلًا عَنْ لَفْظِ التَّمَنِّي الدُّعَاءُ وَتَفْوِيضُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ‌

‌ تَمَنِّي الْمَوْتِ

لِلْوُقُوعِ فِي بَلَاءٍ وَمِحْنَةٍ أَوْ خَشْيَةِ ذَلِكَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ فَاقَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ مَشَاقِّ الدُّنْيَا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْجَزَعِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى الْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَا وَفِي قَوْلِهِ: " لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ " مَا يُرْشِدُ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَوْفٍ أَوْ فِتْنَةٍ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ دَلَّ لَهُ حَدِيثُ الدُّعَاءِ «إذَا أَرَدْت بِعِبَادِك فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إلَيْك غَيْرَ مَفْتُونٍ» أَوْ كَانَ تَمَنِّيًا لِلشَّهَادَةِ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَكَمَا فِي قَوْلِ مَرْيَمَ:{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} فَإِنَّهَا إنْ تَمَنَّتْ ذَلِكَ لِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْمَخُوفِ مِنْ كُفْرِ وَشَقَاوَةِ مَنْ شَقِيَ بِسَبَبِهَا وَفِي قَوْلِهِ: " فَإِنْ كَانَ مُتَمَنِّيًا " يَعْنِي إذَا ضَاقَ صَدْرُهُ وَفَقَدَ صَبْرَهُ عَدَلَ إلَى هَذَا الدُّعَاءِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ.

ص: 464

500 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

501 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ

وَعَنْ بُرَيْدَةَ هُوَ ابْنُ الْحُصَيْبِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الْجَبِينِ». رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَجَمَاعَةٌ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُكَابِدُهُ مِنْ شِدَّةِ السِّيَاقِ (النَّزْعُ) الَّذِي يَعْرَقُ دُونَهُ جَبِينُهُ أَيْ يُشَدَّدُ عَلَيْهِ تَمْحِيصًا لِبَقِيَّةِ ذُنُوبِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَدِّ الْمُؤْمِنِ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ وَتَضْيِيقِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ حَالَ الْمَوْتِ وَنُزُوعَ الرُّوحِ شَدِيدٌ عَلَيْهِ فَهُوَ صِفَةٌ لِكَيْفِيَّةِ الْمَوْتِ وَشِدَّتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي أَنَّهُ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ فِي حَالِ كَوْنِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي يَعْرَقُ مِنْهَا الْجَبِينُ فَهُوَ صِفَةٌ لِلْحَالِ الَّتِي يُفَاجِئُهُ الْمَوْتُ عَلَيْهَا.

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ) أَيْ الَّذِينَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ فَهُوَ مَجَازٌ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ)، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِهِ وَزِيَادَةٍ «فَمَنْ كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ وَإِنْ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» ، وَقَدْ غَلِطَ مَنْ نَسَبَهُ إلَى الشَّيْخَيْنِ أَوْ إلَى الْبُخَارِيِّ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهَا تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا مِنْ الْخَطَايَا» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، وَقَوْلُهُ:" لَقِّنُوا " الْمُرَادُ تَذْكِيرُ الَّذِي فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ هَذَا اللَّفْظَ الْجَلِيلَ وَذَلِكَ لِيَقُولَهَا فَتَكُونُ آخِرَ كَلَامِهِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ كَمَا سَبَقَ.

فَالْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ بِالتَّلْقِينِ عَامٌّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَحْضُرُ مَنْ هُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْإِكْثَارَ

ص: 465

502 -

وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

عَلَيْهِ وَالْمُوَالَاةَ لِئَلَّا يَضْجَرَ، وَيَضِيقَ حَالُهُ وَيَشْتَدَّ كَرْبُهُ فَيَكْرَهَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَيَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَلِيقُ قَالُوا: وَإِذَا تَكَلَّمَ مَرَّةً فَيُعَادُ عَلَيْهِ الْعَرْضُ لِيَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَيْ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ إحْدَاهُمَا إلَّا بِالْأُخْرَى كَمَا عُلِمَ.

وَالْمُرَادُ بِمَوْتَاكُمْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَوْتَى غَيْرِهِمْ فَيُعْرَضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ كَمَا «عَرَضَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَمِّهِ عِنْدَ السِّيَاقِ وَعَلَى الذِّمِّيِّ الَّذِي كَانَ يَخْدُمُهُ فَعَادَهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ» وَكَأَنَّهُ خَصَّ فِي الْحَدِيثِ مَوْتَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ حُضُورَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْأَغْلَبُ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُ مَوْتَاهُمْ إلَّا الْكُفَّارُ

(فَائِدَةٌ) يَحْسُنُ أَنْ يُذَكَّرَ الْمَرِيضُ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ وَبِرِّهِ فَيَحْسُنُ ظَنُّهُ بِرَبِّهِ لِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ " سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهِ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «قَالَ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ إبْرَاهِيمَ " قَالَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُلَقِّنُوا الْعَبْدَ مَحَاسِنَ عَمَلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِكَيْ يُحْسِنَ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ ".

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ إنَّهُ يَحْسُنُ جَمْعُ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا فِي الرَّجَاءِ تُقْرَأُ عَلَى الْمَرِيضِ فَيَشْتَدُّ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ، وَإِذَا امْتَزَجَ خَوْفُ الْعَبْدِ بِرَجَائِهِ عِنْدَ سِيَاقِ الْمَوْتِ فَهُوَ مَحْمُودٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقِيلَ كَيْفَ تَجِدُك قَالَ: أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُوهُ، وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ.»

(فَائِدَةٌ) أُخْرَى: يَنْبَغِي أَنْ يُوَجَّهَ مَنْ هُوَ فِي السِّيَاقِ إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَلَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ قَالُوا: تُوُفِّيَ، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْصَى أَنْ يُوَجَّهَ الْقِبْلَةَ إذَا اُحْتُضِرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَصَابَ الْفِطْرَةَ، وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَك وَقَدْ فَعَلْت» ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: لَا أَعْلَمُ فِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ لِلْقِبْلَةِ غَيْرَهُ.

ص: 466

503 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ اتَّبَعَهُ الْبَصَرُ فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ؛ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: أَرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَتْهُ الْمَنِيَّةُ لَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ (يس " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَلَيْسَ بِالنَّهْدِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَلَمْ يَقُلْ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِيهِ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِالِاضْطِرَابِ وَالْوَقْفِ وَبِجَهَالَةِ حَالِ أَبِي عُثْمَانَ، وَأَبِيهِ وَنُقِلَ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ هَذَا: حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ الْإِسْنَادِ مَجْهُولُ الْمَتْنِ وَلَا يَصِحُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ قَالَ: كَانَتْ الْمَشْيَخَةُ يَقُولُونَ إذَا قُرِئَتْ يس عِنْدَ الْمَوْتِ خُفِّفَ عَنْهُ بِهَا، وَأَسْنَدَهُ صَاحِبُ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي ذَرٍّ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إلَّا هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، وَهَذَانِ يُؤَيِّدَانِ مَا قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُحْتَضَرُ، وَهُمَا أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَأَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ

عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ صَاحِبِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ الرَّعْدِ وَزَادَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ عَنْ الْمَيِّتِ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ كَانَتْ الْأَنْصَارُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ تُقْرَأَ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ.

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ» فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَرُفِعَ بَصَرُهُ، وَهُوَ فَاعِلُ شَقَّ هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَضَبَطَ بَعْضُهُمْ بَصَرَهُ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا فَالشِّينُ مَفْتُوحَةٌ بِلَا خِلَافٍ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ:«إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ اتَّبَعَهُ الْبَصَرُ فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ» أَيْ مِنْ الدُّعَاءِ (ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) يُقَالُ: شَقَّ الْمَيِّتَ بَصَرُهُ إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَصَارَ يَنْظُرُ إلَى الشَّيْءِ لَا يَرْتَدُّ عَنْهُ

ص: 467

504 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ - سُجِّيَ بِبُرْدِ حِبَرَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

505 -

وَعَنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

506 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ

طَرْفُهُ. وَفِي إغْمَاضِهِ صلى الله عليه وسلم طَرْفَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ عُلِّلَ فِي الْحَدِيثِ ذَلِكَ بِأَنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ أَيْ يَنْظُرُ أَيْنَ تَذْهَبُ.

وَالْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُتَحَلِّلَةٌ فِي الْبَدَنِ، وَتَذْهَبُ الْحَيَاةُ مِنْ الْجَسَدِ بِذَهَابِهَا، وَلَيْسَ عَرَضًا كَمَا يَقُولُهُ آخَرُونَ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُدْعَى لِلْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلِأَهْلِهِ وَعَقِبِهِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُنَعَّمُ فِي قَبْرِهِ أَوْ يُعَذَّبُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدِ حِبَرَةٍ» بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَمُوَحَّدَةٌ فِرَاءٌ فَتَاءُ تَأْنِيثٍ بِزِنَةِ عِنَبَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) التَّسْجِيَةُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ التَّغْطِيَةُ أَيْ غُطِّيَ، وَالْبُرْدُ يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى الْحِبَرَةِ وَوَصْفُهُ بِهَا وَالْحِبَرَةُ مَا كَانَ لَهَا أَعْلَامٌ، وَهِيَ مِنْ أَحَبِّ اللِّبَاسِ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ التَّغْطِيَةُ قَبْلَ الْغُسْلِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَحِكْمَتُهُ صِيَانَةُ الْمَيِّتِ عَنْ الِانْكِشَافِ وَسَتْرِ صُورَتِهِ الْمُتَغَيِّرَةِ عَنْ الْأَعْيُنِ قَالُوا: وَتَكُونُ التَّسْجِيَةُ بَعْدَ نَزْعِ ثِيَابِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ بَدَنُهُ بِسَبَبِهَا.

(وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَعَلَى أَنَّهَا تُنْدَبُ تَسْجِيَتُهُ، وَهَذِهِ أَفْعَالُ صَحَابَةٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا دَلِيلَ فِيهَا لِانْحِصَارِ الْأَدِلَّةِ فِي الْأَرْبَعَةِ نَعَمْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ جَائِزَةٌ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَهُوَ مَيِّتٌ، وَهُوَ يَبْكِي أَوْ قَالَ: وَعَيْنَاهُ تَهْرَقَانِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ عَائِشَةَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ص: 468

بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ

507 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ - فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ)، وَقَدْ وَرَدَ التَّشْدِيدُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى تَرَكَ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى تَحَمَّلَهُ عَنْهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ.

، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْمَيِّتُ مَشْغُولًا بِدَيْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَفِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّخَلُّصِ عَنْهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ أَهَمُّ الْحُقُوقِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الدَّيْنِ الْمَأْخُوذِ بِرِضَا صَاحِبِهِ فَكَيْفَ بِمَا أُخِذَ غَصْبًا وَنَهْبًا وَسَلْبًا.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ) فَمَاتَ وَذَلِكَ، وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ تَمَامُهُ " وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ " وَبَعْدَهُ فِي الْبُخَارِيِّ «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ نَقْلِهِ فِي الْفَتْحِ، وَهُوَ ذُهُولٌ شَدِيدٌ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَتَّى إنَّ الْقُرْطُبِيَّ رَجَّحَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى وُجُوبِهِ، وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ تَوَارَدَ الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ وَغُسِّلَ الطَّاهِرُ الْمُطَهَّرُ فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُ، وَيَأْتِي كَمِّيَّةُ الْغَسَلَاتِ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ " بِمَاءٍ وَسِدْرٍ " ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُخْلَطُ السِّدْرُ بِالْمَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ مَرَّاتِ الْغُسْلِ قِيلَ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلتَّنْظِيفِ لَا لِلتَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُضَافَ لَا يُتَطَهَّرُ بِهِ قِيلَ: وَقَدْ يُقَالُ يُحْتَمَلُ أَنَّ السِّدْرَ لَا يُغَيِّرُ وَصْفَ الْمَاءِ فَلَا يَصِيرُ مُضَافًا وَذَلِكَ بِأَنْ يُمَعَّكَ بِالسِّدْرِ ثُمَّ يُغَسَّلَ بِالْمَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُجْعَلُ السِّدْرُ فِي مَاءٍ ثُمَّ يُخَضْخَضُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ رَغْوَتُهُ وَيُدَلَّكَ بِهِ جَسَدُ الْمَيِّتِ ثُمَّ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ هَذِهِ غَسْلَةٌ وَقِيلَ: لَا يُطْرَحُ السِّدْرُ فِي الْمَاءِ أَيْ لِئَلَّا يُمَازِجَ الْمَاءَ فَيُغَيِّرَ وَصْفَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ.

وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ

ص: 469

508 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا أَرَادُوا غُسْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي نُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ لَا؟. الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد

فَقَالَ: غُسْلُ الْمَيِّتِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّنْظِيفِ فَيُجْزِئُ الْمَاءُ الْمُضَافُ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، وَقَالُوا: إنَّمَا يُكْرَهُ؛ لِأَجْلِ السَّرَفِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ غُسْلٌ تَعَبُّدِيٌّ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الِاغْتِسَالَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ تَحْنِيطِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا عَرَفْت وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ كَوْنُهُ مَاتَ مُحْرِمًا فَإِذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ انْتَفَى النَّهْيُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَنُوطَ لِلْمَيِّتِ كَانَ أَمْرًا مُتَقَرِّرًا عِنْدَهُمْ.

وَفِيهِ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ تَخْمِيرِهِ وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ؛ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ فَمَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ يُحَنَّطُ وَيُخَمَّرُ رَأْسُهُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِالْمَوْتِ كَمَا تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ.

، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الشَّرْحِ خِلَافَهُمْ، وَأَدِلَّتَهُمْ وَلَيْسَتْ بِنَاهِضَةٍ عَلَى مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى سَرْدِهَا.

وَقَوْلُهُ: " وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ " يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّكْفِينِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِيهِمَا، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ الْفَاضِلَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُ غَيْرَهُمَا، وَأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَمْ لَا وَوَرَدَ الثَّوْبَانِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُطْلَقَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ فِي ثَوْبَيْهِ وَلِلنَّسَائِيِّ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ أَحْرَمَ فِيهِمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ فِي ثِيَابِ إحْرَامِهِ، وَأَنَّ إحْرَامَهُ بَاقٍ، وَأَنَّهُ لَا يُكَفَّنُ فِي الْمَخِيطِ وَفِي قَوْلِهِ:" يُبْعَثُ مُلَبِّيًا " مَا يَدُلُّ لِمَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ طَاعَةٍ ثُمَّ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَمَامِهَا بِالْمَوْتِ أَنَّهُ يُرْجَى لَهُ أَنْ يَكْتُبَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا أَرَادُوا غُسْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي نُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ لَا - الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد) وَتَمَامُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُد " فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَذَقَنُهُ فِي صَدْرِهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ اغْسِلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ " وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ " لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا غَسَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا

ص: 470

509 -

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ. فَقَالَ: " اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ " فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ:" أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ:«ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ فَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا»

نِسَاؤُهُ " وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ " وَكَانَ الَّذِي أَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام " وَرَوَى الْحَاكِمُ قَالَ: " غَسَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِيٌّ عليه السلام وَعَلَى يَدِ عَلِيٍّ خِرْقَةٌ فَغَسَّلَهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ تَحْتَ الْقَمِيصِ فَغَسَّلَهُ وَالْقَمِيصُ عَلَيْهِ " وَرَوَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى.

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) تَقَدَّمَ اسْمُهَا، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَهِيَ أَنْصَارِيَّةٌ قَالَتْ:«دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ» لَمْ تَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ مُسَمَّاةٌ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا زَيْنَبُ زَوْجُ أَبِي الْعَاصِ كَانَتْ وَفَاتُهَا فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَاتٍ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ " لَا أَدْرِي أَيَّ بَنَاتِهِ " فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ» هُوَ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي: أَيَّ اللَّفْظَيْنِ قَالَ وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَيَصْدُقُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ (فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ) فِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُنَّ: فَإِذَا فَرَغْتُنَّ آذِنَّنِي» وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " فَلَمَّا فَرَغْنَ " عِوَضًا عَنْ فَرَغْنَا (فَأَلْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ) فِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ " فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ "، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَبَعْدَهَا قَافٌ سَاكِنَةٌ وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِزَارُ وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِزَارِ مَجَازًا إذْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ مَعْقِدُ الْإِزَارِ فَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْحَالِ بِاسْمِ الْمَحَلِّ (فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ اجْعَلْنَهُ شِعَارَهَا أَيْ الثَّوْبَ الَّذِي يَلِي جَسَدَهَا (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ لِلشَّيْخَيْنِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ أَيْ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ «فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ فَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا» دَلَّ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ " اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا " عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ الْعَدَدُ، وَالظَّاهِرُ الْإِجْمَاعُ عَلَى إجْزَاءِ الْوَاحِدَةِ فَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَأَمَّا أَصْلُ الْغُسْلِ فَقَدْ عُلِمَ وُجُوبُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَقِيلَ: تَجِبُ الثَّلَاثُ، وَقَوْلُهُ:" أَوْ خَمْسًا " أَوْ لِلتَّخْيِيرِ لَا لِلتَّرْتِيبِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَوْله: " أَوْ

ص: 471

510 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

أَكْثَرَ " قَدْ فُسِّرَ فِي رِوَايَةٍ أَوْ سَبْعًا بَدَلُ قَوْلِهِ: أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَكَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى سَبْعٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِمُجَاوَزَةِ السَّبْعِ إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَظَاهِرُهَا شَرْعِيَّةُ الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ غَسْلَةِ السِّدْرِ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ يُلَيِّنُ جَسَدَ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا غَسْلَةُ الْكَافُورِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُجْعَلُ الْكَافُورُ فِي الْمَاءِ وَلَا يَضُرُّ الْمَاءَ تَغَيُّرُهُ بِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ يُطَيِّبُ رَائِحَةَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَجْلِ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ فِيهِ تَجْفِيفًا وَتَبْرِيدًا وَقُوَّةَ نُفُوذٍ وَخَاصِّيَّةً فِي تَصْلِيبِ جَسَدِ الْمَيِّتِ وَصَرْفِ الْهَوَامِّ عَنْهُ، وَمَنْعِ مَا يَتَحَلَّلُ مِنْ الْفَضَلَاتِ، وَمَنْعِ إسْرَاعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ، وَهُوَ أَقْوَى الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي جَعْلِهِ فِي الْآخِرَةِ إذْ لَوْ كَانَ فِي الْأُولَى مَثَلًا لَأَذْهَبَهُ الْمَاءُ.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْبُدَاءَةِ فِي الْغُسْلِ بِالْمَيَامِنِ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَلِي الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ.

وَقَوْلُهُ: " وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا " لَيْسَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَنَافٍ لِإِمْكَانِ الْبُدَاءَةِ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ وَبِالْمَيَامِنِ مَعًا وَقِيلَ: الْمُرَادُ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا فِي الْغَسَلَاتِ الَّتِي لَا وُضُوءَ فِيهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا فِي الْغَسْلَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْوُضُوءِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ تَجْدِيدُ سِمَةِ الْمُؤْمِنِ فِي ظُهُورِ أَثَرِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ.

وَظَاهِرُ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ دُخُولُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَقَوْلُهَا:" ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا " اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى ضَفْرِ شَعْرِ الْمَيِّتِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُرْسَلُ شَعْرُ الْمَرْأَةِ خَلْفَهَا، وَعَلَى وَجْهِهَا مُفَرَّقًا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ أَنَّ الَّذِي فَعَلَتْهُ أُمُّ عَطِيَّةَ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّهُ قَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ذَلِكَ بِلَفْظِ " قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا وَاجْعَلْنَ شَعْرَهَا ضَفَائِرَ» وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا وَاجْعَلْنَ لَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ» وَالْقَرْنُ هُنَا الْمُرَادُ بِهِ الضَّفَائِرُ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ: " نَاصِيَتَهَا، وَقَرْنَيْهَا " فَفِي لَفْظِ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ تَغْلِيبٌ، وَالْكُلُّ حُجَّةٌ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَالضَّفْرُ يَكُونُ بَعْدَ نَقْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَسْلِهِ، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ صَرِيحًا.

وَفِيهِ دَلَائِلُ عَلَى إلْقَاءِ الشَّعْرِ خَلْفَهَا وَذَهِلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الْبُخَارِيِّ فَنَسَبَ الْقَوْلَ بِهِ إلَى بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَنَّهُ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثٍ غَرِيبٍ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ) بِضَمِّ

ص: 472

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (مِنْ كُرْسُفٍ) بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ فَفَاءٌ أَيْ قُطْنٍ (لَيْسَ فِيهَا) أَيْ الثَّلَاثَةِ (قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ) بَلْ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَلِفَافَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

) فِيهِ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّكْفِينُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَكُنْ يَخْتَارُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا الْأَفْضَلَ، وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «الْبَسُوا ثِيَابَ الْبَيَاضِ فَإِنَّهَا أَطْيَبُ وَأَطْهَرُ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ أَخْرَجُوهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُجِّيَ بِبُرْدِ حِبَرَةٍ "، وَهِيَ بُرْدٌ يَمَانِيٌّ مُخَطَّطٌ غَالِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُ مَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُكَفَّنْ فِي ذَلِكَ الْبُرْدِ بَلْ سَجَّوْهُ بِهِ لِيَتَجَفَّفَ فِيهِ ثُمَّ نَزَعُوهُ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ التَّسْجِيَةَ كَانَتْ قَبْلَ الْغُسْلِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: تَكْفِينُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي كَفَنِهِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عليه السلام " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي سَبْعَةِ أَثْوَابٍ " فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ يَصْلُحُ حَدِيثُهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ إلَّا إذَا انْفَرَدَ فَلَا يَحْسُنُ فَكَيْفَ إذَا خَالَفَ كَمَا هُنَا فَلَا يُقْبَلُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَا يَعْضُدُ رِوَايَةَ ابْنِ عَقِيلٍ فَإِنْ ثَبَتَ جُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّهَا رَوَتْ مَا اطَّلَعَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ، وَغَيْرُهَا رَوَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ سِيَّمَا إنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ كَانَ الْمُبَاشِرُ لِلْغُسْلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ مِنْ الْكَفَنِ مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ جَسَدِ الْمَيِّتِ فَإِنْ قَصُرَ عَنْ سَتْرِ الْجَمِيعِ قُدِّمَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا سُتِرَ بِهِ مِنْ جَانِبِ الرَّأْسِ وَجُعِلَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ حَشِيشٌ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عَمِّهِ حَمْزَةَ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَإِنْ أُرِيدَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدِ فَالْمَنْدُوبُ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاثْنَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ الْمُحْرِمِ الَّذِي مَاتَ، وَقَدْ عَرَفْت مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ كَيْفِيَّةَ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّهَا إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَلِفَافَةٌ وَقِيلَ: مِئْزَرٌ وَدُرْجَانِ وَقِيلَ: يَكُونُ مِنْهَا قَمِيصٌ غَيْرُ مَخِيطٍ، وَإِزَارٌ يَبْلُغُ مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ وَلِفَافَةٌ يُلَفُّ بِهَا مِنْ قَرْنِهِ إلَى قَدَمِهِ وَتَأَوَّلَ هَذَا الْقَائِلُ قَوْلَ عَائِشَةَ:" لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ " بِأَنَّهَا أَرَادَتْ نَفْيَ وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا لَا الْقَمِيصَ وَحْدَهُ أَوْ أَنَّ الثَّلَاثَةَ خَارِجَةٌ عَنْ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ مِمَّا عَدَاهُمَا، وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا.

قِيلَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ التَّكْفِينَ بِالْقَمِيصِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ يُسْتَحَبَّانِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَفَّنَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فِي قَمِيصِهِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا يَفْعَلُ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَا هُوَ الْأَحْسَنُ، وَفِيهِ أَنَّ قَمِيصَ الْمَيِّتِ مِثْلُ قَمِيصِ الْحَيِّ مَكْفُوفًا مَزْرُورًا، وَقَدْ اسْتَحَبَّ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ قَالَ فِي الشَّرْحِ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْقَمِيصُ إلَّا إذَا كَانَتْ أَطْرَافُهُ غَيْرَ

ص: 473

511 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَك أُكَفِّنُهُ فِيهِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

512 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

مَكْفُوفَةٍ. قُلْت: وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ كَفَّ أَطْرَافِ الْقَمِيصِ كَانَ عُرْفَ ذَلِكَ الْعَصْرِ.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَك أُكَفِّنُهُ فِيهِ فَأَعْطَاهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.)

هُوَ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ التَّكْفِينِ فِي الْقَمِيصِ كَمَا سَلَفَ قَرِيبًا وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ طَلَبَ الْقَمِيصَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ التَّكْفِينِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ عَارَضَهَا مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بَعْدَمَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ» فَإِنَّهُ صَرِيحٌ أَنَّهُ كَانَ الْإِعْطَاءُ وَالْإِلْبَاسُ بَعْدَ الدَّفْنِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يُخَالِفُهُ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَأَعْطَاهُ أَيْ أَنْعَمَ لَهُ بِذَلِكَ فَأُطْلِقَ عَلَى الْعِدَّةِ اسْمُ الْعَطِيَّةِ مَجَازًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: " بَعْدَمَا دُفِنَ " أَيْ دُلِّيَ فِي حُفْرَتِهِ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيث جَابِرٍ أَنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ حُفْرَتِهِ هُوَ النَّفْثُ، وَأَمَّا الْقَمِيصُ فَقَدْ كَانَ أُلْبِسَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْمَعِيَّةَ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ مَا، وَقَعَ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ إكْرَامِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ التَّرْتِيبِ وَقِيلَ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ أَحَدَ قَمِيصَيْهِ أَوَّلًا، وَلَمَّا دُفِنَ أَعْطَاهُ الثَّانِي بِسُؤَالِ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِي الْإِكْلِيلِ لِلْحَاكِمِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا؛ وَلِأَنَّهُ سَأَلَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَإِلَّا فَإِنَّ أَبَاهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ صلى الله عليه وسلم وَكُفِّنَ فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَافِقِينَ، وَمَاتَ عَلَى نِفَاقِهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} وَقِيلَ: إنَّمَا كَسَاهُ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَسَا الْعَبَّاسَ لَمَّا أُسِرَ بِبَدْرٍ فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكَافِئَهُ.

ص: 474

513 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبِيضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ) تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثِ أَثْوَابٍ بِيضٍ " وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يَجِبُ التَّكْفِينُ فِي الثِّيَابِ الْبِيضِ وَيَجِبُ لُبْسُهَا إلَّا أَنَّهُ صَرَفَ الْأَمْرَ عَنْهُ فِي اللُّبْسِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَبِسَ غَيْرَ الْأَبْيَضِ، وَأَمَّا التَّكْفِينُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا صَارِفَ عَنْهُ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ الْأَبْيَضُ كَمَا، وَقَعَ فِي تَكْفِينِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَفَّنَ جَمَاعَةً فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَأْتِي فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ " فَفِيهِ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ " أَنَّهُ جُعِلَ فِي قَبْرِهِ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ " وَكَذَلِكَ مَا قِيلَ إنَّهُ كُفِّنَ فِي بُرْدِ حِبَرَةٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِّيَ بِهَا ثُمَّ نُزِعَتْ عَنْهُ.

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ سَلَامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ قَوْلُهُ: " وَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ " قَالَ: هُوَ الضَّفَاءُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ أَيْ الْوَاسِعُ الْفَائِضُ وَفِي الْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْكَفَنِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِيَارِ مَا كَانَ أَحْسَنَ فِي الذَّاتِ، وَفِي صِفَةِ الثَّوْبِ وَفِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِ الثِّيَابِ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَمَّا حُسْنُ الذَّاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعَدُّ مِنْ الْمُغَالَاةِ كَمَا سَيَأْتِي النَّهْيُ عَنْهُ وَأَمَّا صِفَةُ الثَّوْبِ فَقَدْ بَيَّنَهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الثِّيَابِ عَلَى الْمَيِّتِ فَقَدْ بُيِّنَتْ فِيمَا سَلَفَ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي إحْسَانِ الْكَفَنِ وَذُكِرَتْ فِيهَا عِلَّةُ ذَلِكَ.

أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «أَحْسِنُوا كَفَنَ مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ وَيَتَزَاوَرُونَ بِهَا فِي قُبُورِهِمْ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «أَحْسِنُوا الْكَفَنَ وَلَا تُؤْذُوا مَوْتَاكُمْ بِعَوِيلٍ وَلَا بِتَزْكِيَةٍ وَلَا بِتَأْخِيرِ وَصِيَّةٍ وَلَا بِقَطِيعَةٍ وَعَجِّلُوا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ وَاعْدِلُوا عَنْ جِيرَانِ السُّوءِ وَأَعْمِقُوا إذَا حَفَرْتُمْ وَوَسِّعُوا» وَمِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَيِّتِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «وَمَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَأَدَّى فِيهِ الْأَمَانَةَ وَلَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ

ص: 475

514 -

وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَيُقَدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لِيَلِهِ أَقْرَبُكُمْ إنْ كَانَ يَعْلَمُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ فَمَنْ تَرَوْنَ عِنْدَهُ حَظًّا مِنْ وَرَعٍ وَأَمَانَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «إنَّ آدَمَ عليه السلام قَبَضَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَحَنَّطُوهُ وَحَفَرُوا لَهُ وَأَلْحَدُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَخَلُوا قَبْرَهُ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ اللَّبِنَ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ الْقَبْرِ ثُمَّ حَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذَا سُنَّتُكُمْ» .

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ جَابِرٍ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَيُقَدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ» سُمِّيَ لَحْدًا؛ لِأَنَّهُ شِقٌّ يُعْمَلُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ فَيَمِيلُ عَنْ وَسَطِهِ، وَالْإِلْحَادُ لُغَةً الْمَيْلُ (وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

دَلَّ عَلَى أَحْكَامٍ:

(الْأَوَّلُ): أَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُ الْمَيِّتَيْنِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِلضَّرُورَةِ وَهُوَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ. (وَالثَّانِي): أَنَّ الْمُرَادَ يَقْطَعُهُ بَيْنَهُمَا وَيُكَفَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ بَلْ قِيلَ: إنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَحَدٌ فَإِنَّهُ فِيهِ الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الْمَيِّتَيْنِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ جَابِرٍ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ «فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ» دَلِيلٌ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الشَّارِحُ رحمه الله فَقَالَ: الظَّاهِرُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي كَمَا فَعَلَ فِي حَمْزَةَ رضي الله عنه (قُلْت): حَدِيثُ جَابِرٍ أَوْضَحُ فِي عَدَمِ تَقْطِيعِ الثَّوْبِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ وَالتَّقْطِيعُ جَائِزٌ عَلَى الْأَصْلِ

(الْحُكْمُ الثَّانِي): أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ لِفَضِيلَةِ الْقُرْآنِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ جِهَاتِ الْفَضْلِ إذَا جُمِعُوا فِي اللَّحْدِ

(الْحُكْمُ الثَّالِثُ): جَمْعُ جَمَاعَةٍ فِي قَبْرٍ وَكَأَنَّهُ لِلضَّرُورَةِ وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ بَابَ (دَفْنُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي قَبْرٍ) وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ جَابِرٍ فِي الرَّجُلَيْنِ فَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ الثَّلَاثَةِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ كَانَ يَدْفِنُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ

ص: 476

515 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَرِيعًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «جَاءَتْ الْأَنْصَارُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالُوا: أَصَابَنَا قَرْحٌ وَجَهْدٌ فَقَالَ: احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَاجْعَلُوا الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَمِثْلُهُ الْمَرْأَتَانِ وَالثَّلَاثُ.

وَأَمَّا‌

‌ دَفْنُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ

فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ «كَانَ يَدْفِنُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ فَيُقَدَّمُ الرَّجُلُ وَتُجْعَلُ الْمَرْأَةُ وَرَاءَهُ» وَكَأَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ بَيْنَهُمَا حَائِلًا مِنْ تُرَابٍ

(الْحُكْمُ الرَّابِعُ): أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَلِأَهْلِ الْمَذْهَبِ تَفَاصِيلُ فِي ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجِبُ غُسْلُهُ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: لَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ

(الْحُكْمُ الْخَامِسُ): عَدَمُ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَعْرُوفٌ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُصَلِّي عَلَيْهِ عَمَلًا بِعُمُومِ أَدِلَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَبِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ وَكَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً، وَبِأَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ عَمَلًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ هَذِهِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: جَاءَتْ الْأَخْبَارُ كَأَنَّهَا عِيَانٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَيْهِمْ وَكَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً» لَا يَصِحُّ وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَارَضَ بِذَلِكَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ نَفْسِهِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ يَعْنِي وَالْمُخَالِفُ يَقُولُ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ فَلَا يَتِمُّ لَهُ الِاسْتِدْلَال وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا لَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ حِينَ عَلِمَ قُرْبَ أَجَلِهِ مُوَدِّعًا بِذَلِكَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ دَعَا لَهُمْ عَدَمُ الْجَمْعِيَّةِ بِأَصْحَابِهِ إذْ لَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَأَشْعَرَ أَصْحَابَهُ وَصَلَّاهَا جَمَاعَةً كَمَا فَعَلَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ أَفْضَلُ قَطْعًا وَأَهْلُ أُحُدٍ أَوْلَى النَّاسِ بِالْأَفْضَلِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ فُرَادَى وَحَدِيثُ عُقْبَةَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ» زَادَ ابْنُ حِبَّانَ " وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى ".

ص: 477

516 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: لَوْ مِتّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُك» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

517 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها: أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها أَوْصَتْ

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَرِيعًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَفِي إسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ الْجَنْبِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ فَنُونٌ سَاكِنَةٌ فَمُوَحَّدَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ الشَّعْبِيِّ وَعَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ‌

‌ الْمُغَالَاةِ فِي الْكَفَنِ

وَهِيَ زِيَادَةُ الثَّمَنِ.

وَقَوْلُهُ: " فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَرِيعًا " كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ سَرِيعُ الْبِلَى وَالذَّهَابِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نَظَرَ إلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهَا قُلْت: إنَّ هَذَا خَلَقٌ قَالَ: إنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا.

«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: لَوْ مِتّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُك» الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَ زَوْجَتَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُغَسِّلُهَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ وَلَا عُدَّةَ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَهُ هَذَا فِي الزَّوْجَيْنِ.

وَأَمَّا فِي الْأَجَانِبِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَهْلٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرِّجَالِ لَيْسَ فِيهِمْ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا وَالرَّجُلُ مَعَ النِّسَاءِ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ غَيْرُهُ فَإِنَّهُمَا يُيَمَّمَانِ وَيُدْفَنَانِ» وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ انْتَهَى.

مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ.

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُبْرِزْ فَخِذَك وَلَا تَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَفِي إسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.

ص: 478

أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

518 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ - «فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهَا فِي الزِّنَا - قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

519 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ

(وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ)

هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ.

وَأَمَّا غُسْلُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ «عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ نِسَائِهِ» وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَإِنْ كَانَ قَوْلَ صَحَابِيَّةٍ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَعْرُوفًا فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ " مِنْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوْصَى امْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ وَاسْتَعَانَتْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِضَعْفِهَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ " وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالْخِلَافُ فِيهِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ كَذَا فِي الشَّرْحِ وَاَلَّذِي فِي دَلِيلِ الْمَطَالِبِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ مَا لَفْظُهُ: وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَ زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ وَبِنْتًا دُونَ سَبْعٍ وَلِلْمَرْأَةِ غُسْلُ زَوْجِهَا وَسَيِّدِهَا وَابْنٍ دُونَ سَبْعٍ.

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْمِيمِ دَالٌ مُهْمَلَةٌ نِسْبَةٌ إلَى غَامِدٍ وَتَأْتِي قِصَّتُهَا فِي الْحُدُودِ «الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهَا فِي الزِّنَى قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى مَنْ قُتِلَ بِحَدٍّ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم الَّذِي صَلَّى عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَى مَقْتُولٍ فِي حَدٍّ؛ لِأَنَّ الْفُضَلَاءَ لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْفُسَّاقِ زَجْرًا لَهُمْ (قُلْت): كَذَا فِي الشَّرْحِ لَكِنْ قَدْ «قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَامِدِيَّةِ: إنَّهَا تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» أَوْ نَحْوُ هَذَا اللَّفْظِ وَلِلْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْفُسَّاقِ وَعَلَى مَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ وَعَلَى الْمُحَارِبِ وَعَلَى وَلَدِ الزِّنَى وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَأَنَّهُ الصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمَحْدُودٍ وَمَرْجُومٍ وَقَاتِلٍ نَفْسَهُ وَوَلَدِ الزِّنَى وَقَدْ وَرَدَ فِي قَاتِلِ نَفْسِهِ الْحَدِيثُ:

ص: 479

بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

520 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: مَاتَتْ فَقَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ ثُمَّ قَالَ: «إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» .

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

الْمَشَاقِصُ جَمْعُ مِشْقَصٍ وَهُوَ نَصْلٌ عَرِيضٌ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَتَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ الْعُقُوبَةُ لَهُ وَرَدْعٌ لِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا يَرَى‌

‌ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ

وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: يُصَلِّي عَلَيْهِ. انْتَهَى.

وَقَالُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ.

قَالُوا: وَهَذَا كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوَّلَ الْأَمْرِ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى صَاحِبِهِمْ (قُلْت): إنْ ثَبَتَ نَقْلٌ إنَّهُ أَمَرَ صلى الله عليه وآله وسلم أَصْحَابَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ ثُمَّ هَذَا الْقَوْلُ وَإِلَّا فَرَأْيُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْفَقُ بِالْحَدِيثِ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ " أَمَّا أَنَا فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ " فَرُبَّمَا أَخَذَ مِنْهَا أَنَّ غَيْرَهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ) بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ أَيْ تُخْرِجُ الْقُمَامَةَ مِنْهُ وَهِيَ الْكُنَاسَةُ (فَسَأَلَ عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: مَاتَتْ فَقَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا) أَيْ بَعْدَ قَوْلِهِمْ فِي جَوَابِ سُؤَالِهِ: إنَّهَا مَاتَتْ (فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ)

أَيْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يُخَرِّجْهَا الْبُخَارِيُّ؛ لِأَنَّهَا مُدْرَجَةٌ مِنْ مَرَاسِيلِ ثَابِتٍ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا وَالْمُصَنِّفُ جَزَمَ أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ مَعَ امْرَأَةٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ أَوْ امْرَأَةً سَوْدَاءَ بِالشَّكِّ مِنْ ثَابِتٍ الرَّاوِي لَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: " وَلَا أَرَاهُ إلَّا امْرَأَةً " وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: " امْرَأَةٌ

ص: 480

521 -

وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

سَوْدَاءُ " وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَسَمَّاهَا أُمَّ مِحْجَنٍ وَأَفَادَ أَنَّ الَّذِي أَجَابَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ سُؤَالِهِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ عِوَضٌ " فَسَأَلَ عَنْهَا " فَقَالَ: " مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ " الْحَدِيثَ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ صَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ أَمْ لَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ.

وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا «صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَإِنَّهُ مَاتَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَلَمَّا قَدِمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ وَفَاتِهِ» .

وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا «صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْغُلَامِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي دُفِنَ لَيْلًا وَلَمْ يَشْعُرْ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِهِ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا أَحَادِيثُ وَرَدَتْ فِي الْبَابِ عَنْ تِسْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَشَارَ إلَيْهَا فِي الشَّرْحِ وَذَهَبَ أَبُو طَالِبٍ تَحْصِيلًا لِمَذْهَبِ الْهَادِي إلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ فِي الْبَحْرِ بِحَدِيثٍ لَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَةِ أَحَادِيثِ الْمُثْبِتِينَ لِمَا عَرَفْت مِنْ صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا.

وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تُشْرَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ فَقِيلَ: إلَى شَهْرٍ بَعْدَ دَفْنِهِ وَقِيلَ: إلَى أَنْ يَبْلَى الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَلِيَ لَمْ يَبْقَ مَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَقِيلَ: أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ الدُّعَاءُ وَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ (قُلْت): هَذَا هُوَ الْحَقُّ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّحْدِيدِ بِمُدَّةٍ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَنْهَضُ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْخُصُوصِيَّةِ خِلَافُ الْأَصْلِ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ» . فِي الْقَامُوسِ نَعَاهُ لَهُ نَعْيًا أَوْ نُعْيَانًا أَخْبَرَهُ بِمَوْتِهِ

(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ) وَكَأَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ هِيَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ فَإِنَّ النَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ» فَإِنَّ صِيغَةَ التَّحْذِيرِ فِي مَعْنَى النَّهْيِ.

وَأَخْرَجَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ وَفِيهِ قِصَّةٌ فَإِنَّهُ سَاقَ سَنَدَهُ إلَى حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: «إذَا مِتّ فَلَا يُؤَذِّنْ أَحَدٌ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا، إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ» هَذَا لَفْظُهُ وَلَمْ يُحَسِّنْهُ ثُمَّ فَسَّرَ التِّرْمِذِيُّ النَّعْيَ بِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ لِيَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ:

ص: 481

522 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى. فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَا بَأْسَ أَنْ يُعْلِمَ الرَّجُلُ قَرَابَتَهُ وَإِخْوَانَهُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْلِمَ الرَّجُلُ قَرَابَتَهُ انْتَهَى.

وَقِيلَ: الْمُحَرَّمُ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ كَانُوا يُرْسِلُونَ مَنْ يُعْلِمُ بِخَبَرِ مَوْتِ الْمَيِّتِ عَلَى أَبْوَابِ الدُّورِ وَالْأَسْوَاقِ.

وَفِي النِّهَايَةِ: وَالْمَشْهُورُ فِي الْعَرَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا مَاتَ فِيهِمْ شَرِيفٌ أَوْ قُتِلَ بَعَثُوا رَاكِبًا إلَى الْقَبَائِلِ يَنْعَاهُ إلَيْهِمْ يَقُولُ نُعَاءُ فُلَانًا أَوْ يَا نُعَاءَ الْعَرَبِ هَلَكَ فُلَانٌ أَوْ هَلَكَتْ الْعَرَبُ بِمَوْتِ فُلَانٍ انْتَهَى.

وَيَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ (قُلْت) وَمِنْهُ النَّعْيُ مِنْ أَعْلَى الْمَنَارَاتِ كَمَا يُعْرَفُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ فِي مَوْتِ الْعُظَمَاءِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: (الْأُولَى): إعْلَامُ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ.

الثَّانِيَةُ: دَعْوَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ لِلْمُفَاخَرَةِ فَهَذِهِ تُكْرَهُ.

(الثَّالِثَةُ): إعْلَامٌ بِنَوْعٍ آخَرَ كَالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا يَحْرُمُ انْتَهَى وَكَأَنَّهُ أَخَذَ سُنِّيَّةَ الْأُولَى مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ جَمَاعَةٍ يُخَاطَبُونَ بِالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " أَلَا آذَنْتُمُونِي وَنَحْوُهُ " وَمِنْهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ» بِفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ بَعْدَ الْأَلِفِ شِينٌ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ وَقِيلَ: مُخَفَّفَةٌ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةِ وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ (فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُصَلَّى الْعِيدِ أَوْ مَحَلٌّ اُتُّخِذَ لِصَلَاةِ الْجَنَائِزِ (فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّعْيَ اسْمٌ لِلْإِعْلَامِ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ لِمُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ جَائِزٌ.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ‌

‌ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى الْغَائِبِ

وَفِيهِ أَقْوَالٌ.

الْأَوَّلُ: تُشْرَعُ مُطْلَقًا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَمْ يَأْتِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُهُ.

وَالثَّانِي: مَنْعُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ لِلْهَادَوِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهُ إلَّا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ.

الرَّابِعُ: يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَوَجْهُ التَّفْصِيلِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا الْجُمُودُ عَلَى قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ.

وَقَالَ الْمَانِعُ مُطْلَقًا: إنَّ صَلَاتَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّجَاشِيِّ خَاصَّةٌ بِهِ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ وَاعْتَذَرُوا بِمَا قَالَهُ أَهْلُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْغَائِبِ إذَا مَاتَ

ص: 482

523 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، إلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

بِأَرْضٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهَا كَالنَّجَاشِيِّ فَإِنْ مَاتَ بِأَرْضٍ لَمْ يُسْلِمْ أَهْلُهَا.

وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنْ الْخَطَّابِيِّ وَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مُحْتَمَلٌ إلَّا أَنَّنِي لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ أَحَدٌ.

وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِخُرُوجِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرَدَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ نَهْيٌ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ وَبِأَنَّ الَّذِي كَرِهَهُ الْقَائِلُ بِالْكَرَاهَةِ إنَّمَا هُوَ إدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ وَإِنَّمَا خَرَجَ صلى الله عليه وسلم تَعْظِيمًا لِشَأْنِ النَّجَاشِيِّ وَلِتَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَفِيهِ شَرْعِيَّةُ الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حَدِيثَ جَابِرٍ وَأَنَّهُ كَانَ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ وَبَوَّبَ لَهُ الْبُخَارِيُّ (بَابُ مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ) وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ إعْلَامُهُمْ بِمَوْتِهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالْحَبَشَةِ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَأَنَّ شَفَاعَةَ الْمُؤْمِنِ نَافِعَةٌ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُ تَعَالَى وَفِي رِوَايَةٍ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ كُلُّهُمْ مِائَةً يَشْفَعُونَ فِيهِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» وَفِي رِوَايَةٍ " ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ " رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ خَرَّجَتْ أَجْوِبَةً لِسَائِلِينَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ سُؤَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِقَبُولِ شَفَاعَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا إذْ مَفْهُومُ الْعَدَدِ يُطْرَحُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ مَعْمُولٌ بِهَا وَتُقْبَلُ الشَّفَاعَةُ بِأَدْنَاهَا.

ص: 483

524 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْت وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسَطَهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

525 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: «صَلَّيْت وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَامِ عِنْدَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ إذَا صَلَّى عَلَيْهَا وَهَذَا مَنْدُوبٌ وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِقْبَالُ جُزْءٍ مِنْ الْمَيِّتِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الِاسْتِقْبَالِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَعِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ إنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ سُرَّةَ الرَّجُلِ وَثَدْيَ الْمَرْأَةِ لِرِوَايَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ عليهم السلام عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

وَقَالَ الْقَاسِمُ: صَدْرُ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّرَّةِ مِنْ الرَّجُلِ إذْ قَدْ رُوِيَ قِيَامُهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ صَدْرِهَا وَلَا بُدَّ مِنْ مُخَالَفَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقِفُ حِذَاءَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعِنْدَ عَجِيزَتِهَا لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَصَلَّى عَلَى الْمَرْأَةِ فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا؛ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ قَالَ: نَعَمْ» إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: إنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِإِيرَادِ حَدِيثِ سَمُرَةَ إلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ أَنَسٍ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ» هُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ أَبُوهُمَا وَهْبُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأُمُّهُمَا الْبَيْضَاءُ اسْمُهَا دَعْدٌ وَالْبَيْضَاءُ صِفَةٌ لَهَا (فِي الْمَسْجِدِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ)«قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا صَلَاتَهَا عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعُ مَا أَنْسَى النَّاسَ وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى» الْحَدِيثَ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ كَرَاهِيَةِ‌

‌ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ وَفِي الْقُدُورِيِّ لِلْحَنَفِيَّةِ وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ أَوْ احْتَجَّا بِمَا سَلَفَ مِنْ خُرُوجِهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْفَضَاءِ لِلصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَتَقَدَّمَ جَوَابُهُ.

وَبِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ضَعْفِهِ

ص: 484

526 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رضي الله عنه يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْته فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ

لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى أَنَّهُ فِي النُّسَخِ الْمَشْهُورَةِ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِلَفْظِ " فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّ صُهَيْبًا صَلَّى عَلَى عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ يُكْرَهُ إدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَتَأَوَّلُوا هُمْ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى ابْنَيْ الْبَيْضَاءِ وَجِنَازَتُهُمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم دَاخِلُ الْمَسْجِدِ وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ وَأَنَّهُ لَا يُطَابِقُ احْتِجَاجَ عَائِشَةَ.

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) هُوَ أَبُو عِيسَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وُلِدَ لِسِتِّ سِنِينَ بَقِيَتْ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام وَجَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَوَفَاتُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَفِي سَبَبِ وَفَاتِهِ أَقْوَالٌ قِيلَ: فُقِدَ وَقِيلَ: قُتِلَ، وَقِيلَ: غَرِقَ فِي نَهْرِ الْبَصْرَةِ (قَالَ: «كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا فَسَأَلْته فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُكَبِّرُهَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ)

تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَرْبَعًا» وَرُوِيَتْ الْأَرْبَعُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «صَلَّى عَلَى قَبْرٍ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا» قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد: لَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ.

فَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا أَرْبَعٌ لَا غَيْرُ، جُمْهُورٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمْ الْفُقَهَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْهَادَوِيَّةِ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَبَّرَ عَلَى فَاطِمَةَ خَمْسًا وَأَنَّ الْحَسَنَ كَبَّرَ عَلَى أَبِيهِ خَمْسًا وَعَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ خَمْسًا وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ الْأَرْبَعِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا عَدَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَهُوَ بَعِيدٌ.

ص: 485

527 -

وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إنَّهُ بَدْرِيٌّ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.

528 -

وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى.» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إنَّهُ بَدْرِيٌّ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.

(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ فَنُونٌ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَفَاءٌ (سِتًّا وَقَالَ: إنَّهُ بَدْرِيٌّ) أَيْ مِمَّنْ شَهِدَ وَقْعَةَ بَدْرٍ مَعَهُ صلى الله عليه وآله وسلم (رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ) الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ " أَنَّ عَلِيًّا كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ " زَادَ الْبَرْقَانِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ سِتًّا كَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي عِدَّةِ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ فَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " أَنَّ عُمَرَ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ أَرْبَعًا وَخَمْسًا فَاجْتَمَعْنَا عَلَى أَرْبَعٍ " وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: «كَانُوا يُكَبِّرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَسِتًّا وَسَبْعًا فَجَمَعَ عُمَرُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَ كُلٌّ بِمَا رَأَى فَجَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ» وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ بِإِسْنَادِهِ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ عَلَى الْجَنَائِزِ أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَسِتًّا وَسَبْعًا وَثَمَانِيًا حَتَّى جَاءَ مَوْتُ النَّجَاشِيِّ فَخَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى وَصَفَّ النَّاسَ وَزَادَ: وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَرْبَعٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ» فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَكَأَنَّ عُمَرَ وَمَنْ مَعَهُ لَمْ يَعْرِفُوا اسْتِقْرَارَ الْأَمْرِ عَلَى الْأَرْبَعِ حَتَّى جَمَعَهُمْ وَتَشَاوَرُوا فِي ذَلِكَ.

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ) سَقَطَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ نُسْخَةِ الشَّرْحِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ الشَّارِحُ رحمه الله. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: إنَّهُ أَفَادَ شَيْخَهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ وَفِي التَّلْخِيصِ أَنَّهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ انْتَهَى وَقَدْ ضَعَّفُوا ابْنَ عَقِيلٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ

ص: 486

529 -

وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَقَالَ: لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَابْنِ الزُّبَيْرِ مَشْرُوعِيَّتَهَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ.

وَاسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا سَلَفَ وَهُوَ إنْ كَانَ ضَعِيفًا فَقَدْ شَهِدَ لَهُ قَوْلُهُ.

529 -

وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَقَالَ: لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ أَيْ الْخُزَاعِيِّ (قَالَ: «صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِ " فَأَخَذْت بِيَدِهِ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي إنَّهُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ " وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِلَفْظِ «فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَجَهَرَ حَتَّى أَسْمَعَنَا فَلَمَّا فَرَغَ أَخَذْت بِيَدِهِ فَسَأَلْته فَقَالَ: سُنَّةٌ وَحَقٌّ» وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ثُمَّ قَالَ: لَا يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " مِنْ السُّنَّةِ "

قَالَ الْحَاكِمُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ " مِنْ السُّنَّةِ " حَدِيثٌ مُسْنَدٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ: كَذَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ شَهِيرٌ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السُّنَّةِ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا يُقَابِلُ الْفَرِيضَةَ فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ عُرْفِيٌّ وَزَادَ الْوُجُوبَ تَأْكِيدًا قَوْلُهُ (حَقٌّ) أَيْ ثَابِتٌ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ شَرِيكٍ قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ يَسِيرٌ يَجْبُرُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَمْرُ مِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ، وَإِلَى وُجُوبِهَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّتِهَا لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَمْ يُوَقِّتْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةً فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَلْ قَالَ: كَبِّرْ إذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ مِنْ أَطَايِبِ الْكَلَامِ مَا شِئْت» إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْزُهُ إلَى كِتَابٍ حَدِيثِيٍّ حَتَّى تَعْرِفَ صِحَّتَهُ مِنْ عَدَمِهَا ثُمَّ هُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ عَلَى أَنَّهُ نَافٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ مُثْبِتٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ.

وَعَنْ الْهَادِي وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْآلِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ عَمَلًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ سُنَّةٌ وَقَدْ عَرَفْت الْمُرَادَ بِهَا فِي لَفْظِهِ وَاسْتَدَلَّ لِلْوُجُوبِ بِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّهَا صَلَاةٌ وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» فَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْعُمُومِ وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ.

وَأَمَّا مَوْضِعُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى

ص: 487

530 -

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه " قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِنَازَةٍ فَحَفِظْت مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

531 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا، وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ

ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَدْعُو لِلْمَيِّتِ، وَكَيْفِيَّةُ الدُّعَاءِ قَدْ أَفَادَهَا قَوْلُهُ.

(وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِنَازَةٍ فَحَفِظْت مِنْ دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْت الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بِهِ فَحَفِظَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَهُ مَا قَالَهُ فَذَكَرَهُ لَهُ فَحَفِظَهُ وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُنْدَبُ الْإِسْرَارُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُخَيَّرُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسِرُّ فِي النَّهَارِ وَيَجْهَرُ فِي اللَّيْلِ وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ يَنْبَغِي الْإِخْلَاصُ فِيهِ لَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " أَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ " وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى.

وَأَصَحُّ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:

531 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا، وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَشَاهِدِنَا» أَيْ حَاضِرِنَا (وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا) أَيْ ثَبِّتْهُ عِنْدَ التَّكْلِيفِ لِلْأَفْعَالِ الصَّالِحَةِ وَإِلَّا فَلَا ذَنْبَ لَهُ «وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا

ص: 488

532 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

533 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ) وَالْأَحَادِيثُ فِي الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ كَثِيرَةٌ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا وَأَنْتَ خَلَقْتهَا وَأَنْتَ هَدَيْتهَا لِلْإِسْلَامِ وَأَنْتَ قَبَضْت رُوحَهَا وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا جِئْنَا شُفَعَاءَ لَهُ فَاغْفِرْ. لَهُ ذَنْبَهُ»

وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْته يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِك وَحَبْلِ جِوَارِك قِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ فَإِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .

وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مُتَّسَعٌ فِي ذَلِكَ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ اخْتَارَ الْهَادَوِيَّةُ أَدْعِيَةً أُخْرَى وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ كَذَلِكَ وَالْكُلُّ مَسْطُورٌ فِي الشَّرْحِ.

وَأَمَّا قِرَاءَةُ سُورَةٍ مَعَ " الْحَمْدُ " فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ كَمَا عَرَفْت فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَلَمْ يَرِدْ فِيهَا تَعْيِينٌ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي إخْلَاصِ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ الصَّلَاةُ وَاَلَّذِي وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ قَوْلُهُ:

(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)

؛ لِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ وَالشَّافِعُ يُبَالِغُ فِي طَلَبِهَا يُرِيدُ قَبُولَ شَفَاعَتِهِ فِيهِ: وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا رَأَى جِنَازَةً قَالَ: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ زِدْنَا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا " ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَأَى جِنَازَةً فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هَذَا مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ زِدْنَا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا تُكْتَبُ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً» .

ص: 489

534 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ " حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ " - وَلِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ تَبِعَ جِنَازَةَ مُسْلِمٍ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " قَالَ: أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ) أَيْ الْجِنَازَةُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَيِّتُ (صَالِحَةً فَخَيْرٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَهُوَ خَيْرٌ وَمِثْلُهُ شَرٌّ الْآتِي (تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِسْرَاعِ لِلنَّدْبِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَسُئِلَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ بِوُجُوبِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ شِدَّةُ الْمَشْيِ وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ الْمُرَادُ بِالْإِسْرَاعِ فَوْقَ سَجِيَّةِ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ وَيُكْرَهُ الْإِسْرَاعُ الشَّدِيدُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ بِهَا لَكِنْ بِحَيْثُ إنَّهُ لَا يَنْتَهِي إلَى شِدَّةٍ يُخَافُ مَعَهَا حُدُوثُ مَفْسَدَةٍ بِالْمَيِّتِ أَوْ مَشَقَّةٍ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُشَيِّعِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَتَبَاطَأَ بِالْمَيِّتِ عَنْ الدَّفْنِ وَلِأَنَّ الْبُطْءَ رُبَّمَا أَدَّى إلَى التَّبَاهِي وَالِاخْتِيَالِ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بِالْجِنَازَةِ يَحْمِلُهَا إلَى قَبْرِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهَا فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: " تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ " وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الرِّقَابِ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْعَانِي كَمَا تَقُولُ: حَمَلَ فُلَانٌ عَلَى رَقَبَتِهِ دُيُونًا، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْكُلَّ لَا يَحْمِلُونَهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ نَقْلِهِ فِي الْفَتْحِ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ وَأَسْرِعُوا بِهِ إلَى قَبْرِهِ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلِأَبِي دَاوُد مَرْفُوعًا «لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تَبْقَى بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ» وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَفْلُوجِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي التَّثَبُّتُ فِي أَمْرِهِ.

(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» قِيلَ) صَرَّحَ أَبُو عَوَانَةَ بِأَنَّ الْقَائِلَ

ص: 490

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ (وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ: " مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِمُسْلِمٍ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " حَتَّى يُوضَعَ فِي اللَّحْدِ " وَلِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ تَبِعَ جِنَازَةَ مُسْلِمٍ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ» فَاتَّفَقَا عَلَى صَدْرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِلَفْظِهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ اثْنَا عَشَرَ صَحَابِيًّا.

قَوْلُهُ: " إيمَانًا وَاحْتِسَابًا " قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَرَتُّبَ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ يَسْتَدْعِي سَبْقَ النِّيَّةِ فَيَخْرُجُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَافَأَةِ الْمُجَرَّدَةِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَابَاةِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ وَقَوْلُهُ: " مِثْلُ أُحُدٍ " وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ (فَلَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ الْأَجْرِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ وَعِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ وَاثِلَةَ " كُتِبَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ الْأَجْرِ أَخَفُّهُمَا فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ " وَالشُّهُودُ الْحُضُورُ وَظَاهِرُهُ الْحُضُورُ مَعَهَا مِنْ ابْتِدَاءِ الْخُرُوجِ بِهَا.

وَقَدْ وَرَدَ فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ «مَنْ خَرَجَ مَعَ جِنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ الْأَجْرِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ» وَالرِّوَايَاتُ إذَا رُدَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ تُقْضَى بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ الْمَذْكُورَ إلَّا مَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يَحْصُلُ الْأَجْرُ لِمَنْ صَلَّى وَإِنْ لَمْ يَتْبَعْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى الصَّلَاةِ لَكِنْ يَكُونُ قِيرَاطُ مَنْ صَلَّى فَقَطْ دُونَ قِيرَاطِ مَنْ صَلَّى وَتَبِعَ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «إذَا صَلَّيْت عَلَى جِنَازَةٍ فَقَدْ قَضَيْت مَا عَلَيْك» أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ " إذَا صَلَّيْتُمْ " وَزَادَ فِي آخِرِهِ " فَخَلُّوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِهَا " وَمَعْنَاهُ قَدْ قَضَيْت حَقَّ الْمَيِّتِ فَإِنْ أَرَدْت الِاتِّبَاعَ فَلَكَ زِيَادَةُ أَجْرٍ.

وَعَلَّقَ الْبُخَارِيُّ قَوْلَ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ «مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجِنَازَةِ إذْنًا وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى وَرَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ» وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَمِيرَانِ وَلَيْسَا أَمِيرَيْنِ الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْجِنَازَةِ يُصَلِّي عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ وَلِيَّهَا» أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ مَوْقُوفٌ. وَقَدْ رُوِيَتْ فِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.

وَلَمَّا كَانَ وَزْنُ الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَ لَنَا طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ تَعْرِيفُنَا لِذَلِكَ إلَّا بِتَشْبِيهِهِ بِمَا نَعْرِفُهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمَقَادِيرِ شَبَّهَ قَدْرَ الْأَجْرِ الْحَاصِلِ مِنْ ذَلِكَ بِالْقِيرَاطِ لِيُبْرِزَ لَنَا الْمَعْقُولَ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ.

وَلَمَّا كَانَ الْقِيرَاطُ حَقِيرَ الْقَدْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا نَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا نَبَّهَ عَلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ بِأَنَّهُ كَأُحُدٍ الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ:" حَتَّى تُدْفَنَ " ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ مُطْلَقِ الدَّفْنِ وَإِنْ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ كُلُّهُ وَلَفْظُ " حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ " كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِمُسْلِمٍ " حَتَّى يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا " فَفِيهَا

ص: 491

535 -

وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما: أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَهُمْ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيّ وَطَائِفَةٌ بِالْإِرْسَالِ.

بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِمَا فِي غَيْرِهَا.

وَالْحَدِيثُ تَرْغِيبٌ فِي حُضُورِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ فَضْلِ اللَّهِ وَتَكْرِيمِهِ لِلْمَيِّتِ وَإِكْرَامِهِ بِجَزِيلِ الْإِثَابَةِ لِمَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ

(تَنْبِيهٌ) فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى يُسْنِدُهُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَبِعَ أَحَدُكُمْ الْجِنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ لِيَتَطَوَّعَ بَعْدُ أَوْ يَذَرَ فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ» وَأَخْرَجَ بِسَنَدِهِ " أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ حَمَلَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ سَرِيرَ أُمِّهِ فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وَضَعَهُ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا " أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حُمِلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ " وَأَخْرَجَ " أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حُمِلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ " وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ " قَالَ: شَهِدْت جِنَازَةَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَفِيهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَانْطَلَقَ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى أَخَذَ بِمُقَدَّمِ السَّرِيرِ بَيْنَ الْقَائِمَيْنِ فَوَضَعَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ مَشَى بِهَا " انْتَهَى.

(وَعَنْ سَالِمٍ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّه أَوْ أَبُو عَمْرٍو سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ وَأَعْيَانِ عُلَمَائِهِمْ رُوِيَ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُمْ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ.» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيّ وَطَائِفَةٌ بِالْإِرْسَالِ

) اُخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا هُوَ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ وَحَدِيثُ سَالِمٍ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مِنْ فِعْلِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَهْلُ الْحَدِيثِ يَرَوْنَ الْمُرْسَلَ أَصَحَّ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «كَانَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ» . قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فِيهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي " قَالَ: وَقَدْ «مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما بَيْنَ يَدَيْهَا» وَهَذَا مُرْسَلٌ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّ الْمَوْصُولَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ وَعَنْ

ص: 492

536 -

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ «نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُيَيْنَةَ: " يَا أَبَا مُحَمَّدٍ خَالَفَك النَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: اسْتَيْقَنَ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِيهِ مِرَارًا لَسْت أُحْصِيهِ يُعِيدُهُ وَيُبْدِيهِ سَمِعْته مِنْ فِيهِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ " قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا لَا يَنْفِي الْوَهْمَ؛ لِأَنَّهُ ضَبَطَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِيهِ إدْرَاجًا وَصَحَّحَهُ الزُّهْرِيُّ وَحَدَّثَ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

وَلِلِاخْتِلَافِ فِي الْحَدِيثِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: (الْأَوَّلُ): أَنَّ الْمَشْيَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ لِوُرُودِهِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِ الْخُلَفَاءِ وَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالشَّافِعِيُّ.

(وَالثَّانِي): لِلْهَادَوِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ «مَا مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ إلَّا خَلْفَ الْجِنَازَةِ» وَلِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عليه السلام " قَالَ: الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ " إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَحَكَى الْأَثْرَمُ أَنَّ أَحْمَدَ تَكَلَّمَ فِي إسْنَادِهِ.

(الثَّالِثُ): أَنَّهُ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْصُولًا وَكَذَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَفِيهِ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمُشَيَّعِينَ وَهُوَ يُوَافِقُ سُنَّةَ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُونَ مَكَانًا وَاحِدًا يَمْشُونَ فِيهِ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ (الْقَوْلُ الرَّابِعُ): لِلثَّوْرِيِّ أَنَّ الْمَاشِيَ يَمْشِي حَيْثُ شَاءَ وَالرَّاكِبُ خَلْفَهَا لِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ مَرْفُوعًا «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا» .

(الْقَوْلُ الْخَامِسُ): لِلنَّخَعِيِّ إنْ كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ نِسَاءٌ مَشَى أَمَامَهَا وَإِلَّا فَخَلْفَهَا.

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «نُهِينَا مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ عَنْ اتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ نُهِينَا أَمْ أُمِرْنَا بِعَدَمِ ذِكْرِ الْفَاعِلِ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْآمِرَ وَالنَّاهِيَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَقَدْ ثَبَتَ رَفْعُهُ وَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْحَيْضِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ بِلَفْظِ " نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ " إلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ لَمْ تَسْمَعْهُ مِنْهُ لِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهَا قَالَتْ: «لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ جَمَعَ النِّسَاءَ فِي بَيْتٍ ثُمَّ بَعَثَ إلَيْنَا عُمَرُ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي إلَيْكُنَّ لِأُبَايِعَكُنَّ عَلَى أَنْ لَا تَسْرِقْنَ» الْحَدِيثَ وَفِيهِ «نَهَانَا أَنْ نَخْرُجَ فِي جِنَازَةٍ»

ص: 493

537 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهَا: وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ كَأَنَّهَا فَهِمَتْهُ مِنْ قَرِينَةٍ وَإِلَّا فَأَصْلُهُ التَّحْرِيمُ وَإِلَى أَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى عُمَرُ امْرَأَةً فَصَاحَ بِهَا فَقَالَ: دَعْهَا يَا عُمَرُ» الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَرِجَالُهَا ثِقَاتٌ.

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

الْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي وُجُوبِ‌

‌ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ

إذَا مَرَّتْ بِالْمُكَلَّفِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَشْيِيعَهَا وَظَاهِرُهُ عُمُومُ كُلِّ جِنَازَةٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَغَيْرِهِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ «قِيَامَهُ صلى الله عليه وسلم لِجِنَازَةِ يَهُودِيٍّ مَرَّتْ بِهِ» وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ وَفِي رِوَايَةٍ " أَلَيْسَتْ نَفْسًا " وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ " إنَّمَا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ " وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ «إنَّمَا نَقُومُ إعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ» وَلَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ " إعْظَامًا لِلَّهِ " وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّعْلِيلَيْنِ وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الْأَمْرَ عَلِيٌّ عليه السلام عِنْدَ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ لِلْجِنَازَةِ ثُمَّ قَعَدَ» وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ قَامَ ثُمَّ قَعَدَ لَمَّا بَعُدَتْ عَنْهُ يَدْفَعُهُ أَنَّ عَلِيًّا أَشَارَ إلَى قَوْمٍ بِأَنْ يَقْعُدُوا ثُمَّ حَدَّثَهُمْ الْحَدِيثَ.

وَلَمَّا تَعَارَضَ الْحَدِيثَانِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ عليه السلام نَاسِخٌ لِلْأَمْرِ بِالْقِيَامِ وَرُدَّ بِأَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ لَيْسَ نَصًّا فِي النَّسْخِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ قُعُودَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ لِلْجِنَازَةِ فَمَرَّ بِهِ حَبْرٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: هَكَذَا نَفْعَلُ؛ فَقَالَ: اجْلِسُوا وَخَالِفُوهُمْ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إلَّا النَّسَائِيّ وَابْنَ مَاجَهْ وَالْبَزَّارَ وَالْبَيْهَقِيَّ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ فِيهِ بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ الْبَزَّارُ: تَفَرَّدَ بِهِ بِشْرٌ وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ: «وَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ» أَفَادَ النَّهْيَ لِمَنْ شَيَّعَهَا عَنْ الْجُلُوسِ حَتَّى تُوضَعَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ حَتَّى تُوضَعَ فِي الْأَرْضِ أَوْ تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ بِلَفْظَيْنِ إلَّا أَنَّهُ رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ رِوَايَةَ " تُوضَعَ فِي الْأَرْضِ " فَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ حَتَّى تُوضَعَ الْجِنَازَةُ لِمَا يُفِيدُهُ النَّهْيُ هُنَا وَلِمَا عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ «مَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 494

538 -

وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ الْقَبْرِ. وَقَالَ: هَذَا مِنْ السُّنَّةِ.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.

شَهِدَ جِنَازَةَ قَطُّ فَجَلَسَ حَتَّى تُوضَعَ» وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ «أَنَّ الْقَائِمَ كَالْحَامِلِ فِي الْأَجْرِ» .

(وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ السَّبِيعِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ رَأَى عَلِيًّا عليه السلام وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الرِّوَايَةِ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخِطْمِيَّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْأَوْسِيَّ كُوفِيٌّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ عليه السلام صِفِّينَ وَالْجَمَلَ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ «أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ الْقَبْرِ» أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ رِجْلَا الْمَيِّتِ فَهُوَ مِنْ إطْلَاقِ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ (وَقَالَ: هَذَا مِنْ السُّنَّةِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَمَرَ بِالسَّرِيرِ فَوُضِعَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ اللَّحْدِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسَلَّ سَلًّا» ذَكَرَهُ الشَّارِحُ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: (الْأَوَّلُ): مَا ذُكِرَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.

(وَالثَّانِي): يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ الثِّقَةِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَلَّ مَيِّتًا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.

(وَالثَّالِثُ): لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ مُعْتَرِضًا إذْ هُوَ أَيْسَرُ (قُلْت): بَلْ وَرَدَ بِهِ النَّصُّ كَمَا يَأْتِي فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي النَّهْيِ عَنْ الدَّفْنِ لَيْلًا فَإِنَّهُ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا هُوَ نَصٌّ فِي إدْخَالِ الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَيَأْتِي أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ فَيُسْتَفَادُ مِنْ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ فِعْلٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ

(فَائِدَةٌ): اُخْتُلِفَ فِي تَجْلِيلِ الْقَبْرِ بِالثَّوْبِ عِنْدَ مُوَارَاةِ الْمَيِّتِ فَقِيلَ: يُجَلَّلُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْفُونُ امْرَأَةً أَوْ رَجُلًا لِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ لَا أَحْفَظُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ سَعْدٍ بِثَوْبِهِ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا أَحْفَظُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ لِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ «أَنَّهُ حَضَرَ جِنَازَةَ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَنْ يَبْسُطُوا عَلَيْهِ ثَوْبًا وَقَالَ: إنَّهُ رَجُلٌ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ

ص: 495

539 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ، فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْوَقْفِ.

540 -

وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ - وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ - مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها " فِي الْإِثْمِ "

مَوْقُوفًا (قُلْت): وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ " أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُمْ يَدْفِنُونَ مَيِّتًا وَقَدْ بُسِطَ الثَّوْبُ عَلَى قَبْرِهِ فَجَذَبَ الثَّوْبَ مِنْ الْقَبْرِ وَقَالَ: إنَّمَا يَصْنَعُ هَذَا النِّسَاءُ ".

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْوَقْفِ) وَرَجَّحَ النَّسَائِيّ وَقْفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ لَهُ شَوَاهِدُ مَرْفُوعَةٌ ذَكَرَهَا فِي الشَّرْحِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ «أَنَّهَا لَمَّا وُضِعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْقَبْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» وَلِلشَّافِعِيِّ دُعَاءٌ آخَرُ اسْتَحْسَنَهُ فَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ الدَّافِنُ مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ مَا يَرَاهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ: (مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: فِي الْإِثْمِ) بَيَانٌ لِلْمِثْلِيَّةِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ احْتِرَامِ الْمَيِّتِ كَمَا يُحْتَرَمُ الْحَيُّ وَلَكِنْ بِزِيَادَةٍ " فِي الْإِثْمِ " أَنْبَأَتْ أَنَّهُ يُفَارِقُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَأَلَّمُ كَمَا يَتَأَلَّمُ الْحَيُّ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ حَدِيثٌ.

ص: 496

541 -

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

542 -

وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه نَحْوُهُ، وَزَادَ: وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصُبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

) هَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ سَعْدٌ لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَلَا نَتَّخِذُ لَك شَيْئًا كَأَنَّهُ الصُّنْدُوقُ مِنْ الْخَشَبِ فَقَالَ: اصْنَعُوا فَذَكَرَهُ وَاللَّحْدُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا هُوَ الْحَفْرُ تَحْتَ الْجَانِبِ الْقِبْلِيِّ مِنْ الْقَبْرِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّهُ لُحِدَ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ " أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ رَجُلٌ يَلْحَدُ وَرَجُلٌ يَشُقُّ فَبَعَثَ الصَّحَابَةُ فِي طَلَبِهِمَا فَقَالُوا: أَيُّهُمَا جَاءَ عَمِلَ عَمَلَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَمِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ " وَأَنَّ الَّذِي كَانَ يَلْحَدُ هُوَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ " وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّحْدَ أَفْضَلُ.

(وَلِلْبَيْهَقِيِّ) أَيْ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ) أَيْ نَحْوَ حَدِيثِ سَعْدٍ (وَزَادَ: وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ وَفِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ " قَالَ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْت: يَا أُمَّاهُ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ فَكَشَفَتْ لَهُ عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَةِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَزَادَ " وَرَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمًا وَأَبُو بَكْرٍ رَأْسُهُ بَيْنَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ صَالِحٍ قَالَ: " رَأَيْت قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِبْرًا أَوْ نَحْوَ شِبْرٍ " وَيُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ التَّمَّارِ " أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا " أَيْ مُرْتَفِعًا كَهَيْئَةِ السَّنَامِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مُسَطَّحًا ثُمَّ لَمَّا سَقَطَ الْجِدَارُ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أُصْلِحَ فَجُعِلَ مُسَنَّمًا

(فَائِدَةٌ): كَانَتْ وَفَاتُهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عِنْدَمَا زَاغَتْ الشَّمْسُ لِاثْنَتَيْ

ص: 497

543 -

وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ رضي الله عنه: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ. وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ.»

عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَتَوَلَّى غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَأُسَامَةُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ وَزَادَ " وَحَدَّثَنِي مَرْحَبٌ " كَذَا فِي الشَّرْحِ وَاَلَّذِي فِي التَّلْخِيصِ " مَرْحَبٌ أَوْ أَبُو مَرْحَبٍ " بِالشَّكِّ " أَنَّهُمْ أَدْخَلُوا مَعَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ " وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ زِيَادَةٌ مَعَ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ " الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَصَالِحٌ وَهُوَ شُقْرَانُ " وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنَ عَوْفٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِابْنِ مَاجَهْ " عَلِيٌّ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ وَشُقْرَانُ " وَزَادَ " وَسَوَّى لَحْدَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ " وَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ مَنْ نَقَصَ فَبِاعْتِبَارِ مَا رَأَى أَوَّلَ الْأَمْرِ وَمَنْ زَادَ أَرَادَ بِهِ آخِرَ الْأَمْرِ.

(وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ) أَيْ عَنْ جَابِرٍ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النَّهْيِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّجْصِيصِ لِلتَّنْزِيهِ وَالْقُعُودِ لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَا يُعْرَفُ مَا الصَّارِفُ عَنْ حَمْلِ الْجَمِيعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ النَّهْيِ وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْقُبُورِ وَالْكَتْبِ عَلَيْهَا وَالتَّسْرِيجِ وَأَنْ يُزَادَ فِيهَا وَأَنْ تُوطَأَ فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ: «نَهَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وَاتَّفَقَا عَلَى إخْرَاجِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ «أَنَّ عَلِيًّا عليه السلام قَالَ؛ لِأَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ: أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ

وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَكَرِهُوا أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ فَوْقَ الْأَرْضِ.

قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله: وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْمُعَبَّرُ فِيهَا بِاللَّعْنِ وَالتَّشْبِيهِ بِقَوْلِهِ: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» تُفِيدُ التَّحْرِيمَ لِلْعِمَارَةِ وَالتَّزْيِينِ وَالتَّجْصِيصِ وَوَضْعِ الصُّنْدُوقِ الْمُزَخْرَفِ وَوَضْعِ السَّتَائِرِ عَلَى الْقَبْرِ وَعَلَى سَمَائِهِ وَالتَّمَسُّحِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ وَأَنَّ

ص: 498

544 -

وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَتَى الْقَبْرَ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَهُوَ قَائِمٌ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي مَعَ بُعْدِ الْعَهْدِ وَفَشْوِ الْجَهْلِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَكَانَ فِي الْمَنْعِ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ قَطَعَ لِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْفَسَادِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْحِكْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ مِنْ جَلْبِ

الْمَصَالِحِ

وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَنْفُسِهَا أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا تُفْضِي إلَيْهِ. انْتَهَى.

وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ وَقَدْ وَفَّيْنَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي مَسْأَلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.

(وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَهُوَ قَائِمٌ.» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَهُوَ قَائِمٌ " عِنْدَ رَأْسِهِ " وَزَادَ أَيْضًا " فَأَمَرَ فَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ". وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ حَثَى عَلَى مُسْلِمٍ احْتِسَابًا كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ ثَرَاةٍ حَسَنَةٌ» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَثَى مِنْ قِبَلِ الرَّأْسِ ثَلَاثًا» إلَّا أَنَّهُ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثٌ بَاطِلٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَلَمْ تُصَبْ لَهُ حَسَنَةٌ إلَّا ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ حَثَاهَا عَلَى قَبْرٍ فَغُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ»

وَلَكِنْ هَذِهِ شَهِدَ بَعْضَهَا لِبَعْضٍ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَثْيِ عَلَى الْقَبْرِ ثَلَاثًا وَهُوَ يَكُونُ بِالْيَدَيْنِ مَعًا لِثُبُوتِهِ فِي حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ فَفِيهِ حَثَى بِيَدَيْهِ وَاسْتَحَبَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ذَلِكَ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} الْآيَةَ.

(وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا؛ لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

ص: 499

545 -

وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا؛ لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

546 -

وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِاسْتِغْفَارِ الْحَيِّ لَهُ وَعَلَيْهِ وَرَدَ قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَنَحْوُهُمَا عَلَى أَنَّهُ يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ وَقَدْ وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الشَّيْخَانِ فَمِنْهَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إنَّهُ لِيَسْمَعَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» زَادَ مُسْلِمٌ " وَإِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ " زَادَ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَزْرَقَانِ أَسْوَدَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ وَالْآخَرُ النَّكِيرُ» زَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ «أَعْيُنُهُمَا مِثْلُ قُدُورِ النُّحَاسِ وَأَنْيَابُهُمَا مِثْلُ صَيَاصِي الْبَقَرِ وَأَصْوَاتُهُمَا مِثْلُ الرَّعْدِ» زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «وَيَحْفِرَانِ بِأَنْيَابِهِمَا وَيَطَآنِ فِي أَشْعَارِهِمَا وَمَعَهُمَا مِرْزَبَّةٌ لَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ مِنًى لَمْ يُقِلُّوهَا» وَزَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ «فَيُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ» وَيُسْتَفَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمَا يَسْأَلَانِهِ فَيَقُولَانِ: «مَا كُنْت تَعْبُدُ؟ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ هَدَاهُ - فَيَقُولُ: كُنْت أَعْبُدُ اللَّهَ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَفِي رِوَايَةٍ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْت؛ فَلَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْت وَعَلَيْهِ مِتّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» وَفِي لَفْظٍ «فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَافْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُقَالُ لَهُ: اُنْظُرْ إلَى مَقْعَدِك مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَك اللَّهُ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ أُبَشِّرُ أَهْلِي؛ فَيُقَالُ لَهُ: اُسْكُتْ وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُمْلَأُ خَضِرًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَفِي لَفْظٍ «وَيُقَالُ لَهُ: نَمْ فَيَنَامُ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ لَا يُوقِظُهُ إلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكَانِ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي وَيَقُولَانِ: مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيُقَالُ: لَا دَرَيْت وَلَا تَلَيْتَ أَيْ لَا فَهِمْت وَلَا تَبِعْت مَنْ يَفْهَمُ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالسُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ دُونَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْأُمَمَ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ الرُّسُلُ فَإِنْ أَطَاعُوهُمْ فَالْمُرَادُ وَإِنْ عَصَوْهُمْ اعْتَزَلُوهُمْ وَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَمْسَكَ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَقَبِلَ الْإِسْلَامَ مِمَّنْ أَظْهَرَهُ سَوَاءٌ أَخْلَصَ أَمْ لَا، وَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ فِي الْقُبُورِ لِيُخْرِجَ اللَّهُ سِرَّهُمْ بِالسُّؤَالِ وَلِيُمَيِّزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ إلَى عُمُومِ الْمَسْأَلَةِ وَبَسَطَ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الرُّوحِ.

ص: 500

وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ رضي الله عنه أَحَدِ التَّابِعِينَ - قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ. أَنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ، قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَا فُلَانُ: قُلْ رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفًا - وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلًا.

(وَعَنْ ضَمْرَةَ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ ابْنِ حَبِيبٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَفْتُوحَةً فَمُوَحَّدَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَمُوَحَّدَةٍ أَحَدُ التَّابِعِينَ حِمْصِيٌّ ثِقَةٌ رَوَى عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَغَيْرِهِ (قَالَ: كَانُوا) ظَاهِرُهُ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ (يَسْتَحِبُّونَ إذَا سُوِّيَ) بِضَمِّ السِّينِ. الْمُهْمَلَةِ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ مِنْ التَّسْوِيَةِ (عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَا فُلَانُ قُلْ: رَبِّي اللَّهُ وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفًا) عَلَى ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ (وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مُطَوَّلًا) وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ «إذَا أَنَا مِتّ فَاصْنَعُوا بِي كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَصْنَعَ بِمَوْتَانَا، أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِكُمْ فَسَوَّيْتُمْ التُّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ ثُمَّ لِيُقَلْ: يَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانَةَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ وَلَا يُجِيبُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَرْشِدْنَا رَحِمَك اللَّهُ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ فَلْيَقُلْ: اُذْكُرْ مَا كُنْت عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّك رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ: انْطَلَقَ بِنَا مَا يُقْعِدُنَا عِنْدَ مَنْ قَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أُمَّهُ قَالَ: يَنْسُبُهُ إلَى أُمِّهِ حَوَّاءَ يَا فُلَانُ بْنُ حَوَّاءَ» قَالَ الْمُصَنِّفُ: إسْنَادُهُ صَالِحٌ وَقَدْ قَوَّاهُ أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ لَهُ قُلْت قَالَ الْهَيْثَمِيُّ بَعْدَ سِيَاقِهِ مَا لَفْظُهُ: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ " وَفِي إسْنَادِهِ جَمَاعَةٌ لَمْ أَعْرِفْهُمْ وَفِي هَامِشِهِ: فِيهِ عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ضَعِيفٌ.

ثُمَّ قَالَ وَالرَّاوِي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ بَيَّضَ لَهُ أَبُو حَاتِمٍ قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُونَهُ إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ يَقِفُ الرَّجُلُ وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانَةَ قَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا يَفْعَلُهُ إلَّا أَهْلَ الشَّامِ حِينَ مَاتَ أَبُو الْمُغِيرَةِ وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَقَالَ فِي الْمَنَارِ: إنَّ حَدِيثَ التَّلْقِينِ هَذَا حَدِيثٌ لَا يَشُكُّ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ فِي وَضْعِهِ وَأَنَّهُ

ص: 501

547 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ ".

548 -

زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ " وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا ".

أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ فَالْمَسْأَلَةُ حِمْصِيَّةٌ، وَأَمَّا جَعْلُ " اسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ " شَاهِدًا لَهُ - فَلَا شَهَادَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ قَبْرِهِ مِقْدَارَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ لِيَسْتَأْنِسَ بِهِمْ عِنْدَ مُرَاجَعَةِ رُسُلِ رَبِّهِ لَا شَهَادَةَ فِيهِ عَلَى التَّلْقِينِ وَابْنُ الْقَيِّمِ جَزَمَ فِي الْهَدْيِ بِمِثْلِ كَلَامِ الْمَنَارِ وَأَمَّا فِي كِتَابِ الرُّوحِ فَإِنَّهُ جَعَلَ حَدِيثَ التَّلْقِينِ مِنْ أَدِلَّةِ سَمَاعِ الْمَيِّتِ لِكَلَامِ الْأَحْيَاءِ وَجَعَلَ اتِّصَالَ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ التَّلْقِينِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ كَافِيًا فِي الْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِالصِّحَّةِ بَلْ قَالَ فِي كِتَابِ الرُّوحِ: إنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَيَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَالْعَمَلُ بِهِ بِدْعَةٌ وَلَا يُغْتَرُّ بِكَثْرَةِ مَنْ يَفْعَلُهُ.

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ زَادَ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ) فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ).

548 -

زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ " وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا ". (زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ) وَهُوَ الْحَدِيثُ السَّابِقُ بِلَفْظِ مَا مَضَى وَزَادَ (وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا) وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ وَعَنْ عَلِيٍّ عليه السلام عِنْدَ أَحْمَدَ وَعَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ

وَالْكُلُّ دَالٌّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِيهَا وَأَنَّهَا لِلِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُ فِي لَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَإِنَّهَا عِبْرَةٌ وَذِكْرٌ لِلْآخِرَةِ وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا» فَإِذَا خَلَتْ مِنْ هَذِهِ لَمْ تَكُنْ مُرَادَةً شَرْعًا وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ ذِكْرِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَهَى أَوَّلًا عَنْ زِيَارَتِهَا ثُمَّ أَذِنَ فِيهَا أُخْرَى وَفِي قَوْلِهِ: فَزُورُوهَا أَمْرٌ لِلرِّجَالِ بِالزِّيَارَةِ وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ اتِّفَاقًا وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ لِآثَارٍ فِي ذَلِكَ.

وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الزَّائِرُ عِنْدَ وُصُولِهِ الْمَقَابِرَ فَهُوَ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَيَدْعُو لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَنَحْوِهَا)

ص: 502

549 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ.» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

550 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد

وَسَيَأْتِي حَدِيثُ مُسْلِمٍ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الْقَبْرِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا قَرِيبًا.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ.» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ

وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَسَّانَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا كُرِهَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ تُوُفِّيَ وَدُفِنَ فِي مَكَّةَ وَأَتَتْ عَائِشَةُ قَبْرَهُ ثُمَّ قَالَتْ:

وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ بُرْهَةً

مِنْ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا

وَعِشْنَا بِخَيْرٍ فِي الْحَيَاةِ وَقَبْلَنَا

أَصَابَ الْمَنَايَا رَهْطَ كِسْرَى وَتُبَّعَا

وَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا

لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا

انْتَهَى.

وَيَدُلُّ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا زُرْت الْقُبُورَ؟ فَقَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَّا وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» وَمَا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ «أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام كَانَتْ تَزُورُ قَبْرَ عَمِّهَا حَمْزَةَ كُلَّ جُمُعَةٍ فَتُصَلِّي وَتَبْكِي عِنْدَهُ» (قُلْت): وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ لَمْ يُدْرِكْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعُمُومُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مُرْسَلًا: «مَنْ زَارَ قَبْرَ الْوَالِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ غُفِرَ لَهُ وَكُتِبَ بَارًّا» .

ص: 503

551 -

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنُوحَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) النُّوَاحُ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِ الْمَيِّتِ وَمَحَاسِنِ أَفْعَالِهِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.

551 -

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنُوحَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنُوحَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

) كَانَ أَخْذُهُ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ وَقْتَ الْمُبَايَعَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحَدِيثَانِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ النِّيَاحَةِ وَتَحْرِيمِ اسْتِمَاعِهَا إذْ لَا يَكُونُ اللَّعْنُ إلَّا عَلَى مُحَرَّمٍ وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ» وَفِي الْبَابِ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِنِسَاءِ ابْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ فَجَاءَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ حَمْزَةَ» الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا فِي آخِرِهِ بِلَفْظِ «فَلَا تَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ» وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ النِّيَاحَةِ بِالْبُكَاءِ فَإِنَّ الْبُكَاءَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ كَمَا يَدُلُّ بِهِ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَاتَ مَيِّتٌ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ يَنْهَاهُنَّ وَيَطْرُدُهُنَّ فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ فَإِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبُ مُصَابٌ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَيِّتُ هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُهُ صلى الله عليه وسلم» كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُنَّ: «إيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ وَمِنْ الْقَلْبِ فَمِنْ اللَّهِ وَمِنْ الرَّحْمَةِ وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ وَأَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ الصَّوْتِ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «الْعَيْنُ تَدْمَعُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ» قَالَهُ فِي وَفَاةِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ» وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ فِي «قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 504

552 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ - وَلَهُمَا نَحْوُهُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.

لِمَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَنْهَى النِّسَاءَ الْمُجْتَمِعَاتِ لِلْبُكَاءِ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اُحْثُ فِي وُجُوهِهِنَّ التُّرَابَ» فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بُكَاءً بِتَصْوِيتِ النِّيَاحَةِ فَأَمَرَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَلَوْ بِحَثْوِ التُّرَابِ فِي أَفْوَاهِهِنَّ.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلَهُمَا) أَيْ الشَّيْخَيْنِ كَمَا دَلَّ لَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمَا الْمُرَادُ بِهِ (نَحْوُهُ) أَيْ نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ (عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) الْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِسَبَبِ النِّيَاحَةِ عَلَيْهِ.

وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَعْذِيبَهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَاخْتَلَفَتْ الْجَوَابَاتُ فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاسْتَبْعَدَ الْقُرْطُبِيُّ إنْكَارَ عَائِشَةَ وَذَكَر أَنَّهُ رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا مَعَ إمْكَانِ تَأْوِيلِهِ ثُمَّ جَمَعَ الْقُرْطُبِيُّ بَيْنَ حَدِيثِ التَّعْذِيبِ وَالْآيَةِ بِأَنْ قَالَ: حَالَ الْبَرْزَخِ يَلْحَقُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا وَقَدْ جَرَى التَّعْذِيبُ فِيهَا بِسَبَبِ ذَنْبِ الْغَيْرِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فَلَا يُعَارِضُ حَدِيثُ التَّعْذِيبِ آيَةَ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْإِخْبَارُ عَنْ حَالِ الْآخِرَةِ وَاسْتَقْوَاهُ الشَّارِحُ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى تَأْوِيلِهِ بِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ): لِلْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ سُنَّتُهُ وَطَرِيقَتُهُ وَقَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ فِي حَيَاتِهِ فَيُعَذَّبُ لِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَذَّبُ فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَدْ يُعَذَّبُ الْعَبْدُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ سَبَبٌ.

(الثَّانِي): الْمُرَادُ أَنَّهُ يُعَذَّبُ إذَا أَوْصَى أَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْجُمْهُورِ قَالُوا: وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ.

إذَا مِتّ فَابْكِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ

وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا أُمَّ مَعْبَدِ

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ النِّيَاحَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ امْتِثَالًا لَهُ أَنْ لَا يُعَذَّبَ لَوْ لَمْ يَمْتَثِلُوا بَلْ

ص: 505

553 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «شَهِدْت بِنْتًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُدْفَنُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

554 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إلَّا أَنْ تَضْطَرُّوا» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، لَكِنْ قَالَ:«زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ. حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ» .

يُعَذَّبُ بِمُجَرَّدِ الْإِيصَاءِ فَإِنْ امْتَثَلُوهُ وَنَاحُوا عُذِّبَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَالْإِيصَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ وَالنِّيَاحَةُ؛ لِأَنَّهَا بِسَبَبِهِ.

(الثَّالِثُ): أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْكَافِرِ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُعَذَّبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ أَصْلًا وَفِيهِ بُعْدٌ لَا يَخْفَى فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

(الرَّابِعُ): أَنَّ مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لِلْمَيِّتِ بِمَا يَنْدُبُهُ بِهِ أَهْلُهُ، كَمَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَا عَضُدَاهْ وَا نَاصِرَاهْ وَا كَاسِيَاهْ جِلْدَ الْمَيِّتِ وَقَالَ: أَنْتَ عَضُدُهَا أَنْتَ نَاصِرُهَا أَنْتَ كَاسِيهَا» وَأَخْرَجَ مَعْنَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ.

(الْخَامِسُ) أَنَّ مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَأَلُّمُ الْمَيِّتِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ يَرِقُّ لَهُمْ وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ فِيهِ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ امْرَأَةً عَنْ الْبُكَاءِ عَلَى ابْنِهَا، وَقَالَ: إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا بَكَى اسْتَعْبَرَ لَهُ صُوَيْحِبُهُ يَا عِبَادَ اللَّهِ لَا تُعَذِّبُوا إخْوَانَكُمْ» وَاسْتُدِلَّ لَهُ أَيْضًا أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُعْرَضُ عَلَى مَوْتَاهُمْ وَهُوَ صَحِيحٌ وَثَمَّةَ تَأْوِيلَاتٌ أُخَرُ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَشَفُّ مَا فِي الْبَابِ.

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «شَهِدْت بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم تُدْفَنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عِنْدَ الْقَبْرِ فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَدْ بَيَّنَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ الْبِنْتَ أُمُّ كُلْثُومٍ وَقَدْ رَدَّ الْبُخَارِيُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا رُقَيَّةُ بِأَنَّهَا مَاتَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْ صلى الله عليه وسلم دَفْنَهَا

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ لَهُ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ عُورِضَ بِحَدِيثِ «فَإِذَا وَجَبَتْ فَلَا تَبْكِينَ بَاكِيَةً» وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي بُكَاؤُهُنَّ إلَى النِّيَاحَةِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ.

ص: 506

555 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ - حِينَ قُتِلَ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ.

وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إلَّا أَنْ تَضْطَرُّوا» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ لَكِنْ قَالَ: زَجَرَ) بِالزَّايِ وَالْجِيمِ وَالرَّاءُ عِوَضٌ «نَهَى أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ» دَلَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الدَّفْنِ لِلْمَيِّتِ لَيْلًا إلَّا لِضَرُورَةٍ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْحَسَنُ وَوَرَدَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مَلَائِكَةَ النَّهَارِ أَرْأَفُ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ فِي حَدِيثِ قَالَ الشَّارِحُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ وَقَوْلُهُ: " وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ " لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ وَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ وَقُبِرَ لَيْلًا وَزَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ الْإِنْسَانُ إلَى ذَلِكَ» وَهُوَ ظَاهِرٌ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ كَانَ مَظِنَّةَ حُصُولِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ عَدَمِ إحْسَانِ الْكَفَنِ فَإِذَا كَانَ يَحْصُلُ بِتَأَخُّرِ الْمَيِّتِ إلَى النَّهَارِ كَثْرَةُ الْمُصَلِّينَ أَوْ حُضُورُ مَنْ يُرْجَى دُعَاؤُهُ حَسُنَ تَأَخُّرُهُ وَعَلَى هَذَا فَيُؤَخَّرُ عَنْ الْمُسَارَعَةِ فِيهِ لِذَلِكَ وَلَوْ فِي النَّهَارِ وَدَلَّ لِذَلِكَ دَفْنُ عَلِيٍّ عليه السلام لِفَاطِمَةَ عليها السلام لَيْلًا وَدَفْنُ الصَّحَابَةِ؛ لِأَبِي بَكْرٍ لَيْلًا.

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأُسْرِجَ لَهُ سِرَاجٌ فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ: رَحِمَك اللَّهُ إنْ كُنْت لَأَوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ» الْحَدِيثَ قَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ قَالَ: وَقَدْ رَخَّصَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الدَّفْنِ لَيْلًا وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا يُدْفَنُ أَحَدٌ لَيْلًا إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَى ذَلِكَ قَالَ: وَمَنْ دُفِنَ لَيْلًا مِنْ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ فَإِنَّهُ لِضَرُورَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ مِنْ خَوْفِ زِحَامٍ أَوْ خَوْفِ الْحَرِّ عَلَى مَنْ حَضَرَ أَوْ خَوْفِ تَغَيُّرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبِيحُ الدَّفْنَ لَيْلًا وَلَا يَحِلُّ؛ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِهِمْ رضي الله عنهم خِلَافَ ذَلِكَ. انْتَهَى.

(تَنْبِيهٌ): تَقَدَّمَ فِي الْأَوْقَاتِ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَحِينَ تَضَيُّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» انْتَهَى وَكَانَ يَحْسُنُ ذِكْرُ الْمُصَنِّفِ لَهُ هُنَا.

ص: 507

556 -

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ‌

‌ إينَاسِ أَهْلِ الْمَيِّتِ

بِصُنْعِ الطَّعَامِ لَهُمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ الشُّغْلِ بِالْمَوْتِ وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ " كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ " فَيُحْمَلُ حَدِيثُ جَرِيرٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَنْعَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ الطَّعَامَ لِمَنْ يَدْفِنُ مِنْهُمْ وَيَحْضُرُ لَدَيْهِمْ كَمَا هُوَ عُرْفُ بَعْضِ أَهْلِ الْجِهَاتِ وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ بِحَمْلِ الطَّعَامِ لَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَفَادَهُ حَدِيثُ جَعْفَرٍ:

وَمِمَّا يَحْرُمُ بَعْدَ الْمَوْتِ الْعُقْرُ عِنْدَ الْقَبْرِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا عُقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانُوا يَعْقِرُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ بَقَرَةً أَوْ شَاةً قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْقِرُونَ الْإِبِلَ عَلَى قَبْرِ الرَّجُلِ الْجَوَادِ، يَقُولُونَ: نُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْقِرُهَا فِي حَيَاتِهِ فَيُطْعِمُهَا الْأَضْيَافَ فَنَحْنُ نَعْقِرُهَا عِنْدَ قَبْرِهِ حَتَّى تَأْكُلَهَا السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ فَيَكُونُ مُطْعِمًا بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا كَانَ يُطْعِمُ فِي حَيَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ إذَا عُقِرَتْ رَاحِلَتُهُ عِنْدَ قَبْرِهِ حُشِرَ فِي الْقِيَامَةِ رَاكِبًا وَمَنْ لَمْ يُعْقَرْ عِنْدَهُ حُشِرَ رَاجِلًا وَكَانَ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ بِالْبَعْثِ فَهَذَا فِعْلٌ جَاهِلِيٌّ مُحَرَّمٌ.

(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ هُوَ الْأَسْلَمِيُّ رُوِيَ عَنْ أَبِيهِ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَجَمَاعَةٍ مَاتَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ بُرَيْدَةَ (قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ) أَيْ أَصْحَابَهُ (إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ) أَيْ أَنْ يَقُولُوا (السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ «وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَّا وَالْمُتَأَخِّرِينَ»

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالسَّلَامِ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الْأَمْوَاتِ وَأَنَّهُ بِلَفْظِ السَّلَامِ عَلَى الْأَحْيَاءِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَقَعُ عَلَى الْمَقَابِرِ وَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ الدَّارَ فِي اللُّغَةِ تَقَعُ عَلَى الرَّبْعِ الْمَسْكُونِ وَعَلَى الْخَرَابِ غَيْرِ الْمَأْهُولِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ لِلتَّبَرُّكِ وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى

ص: 508

557 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ.

{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقِيلَ: الْمَشِيئَةُ عَائِدَةٌ إلَى تِلْكَ التُّرْبَةِ بِعَيْنِهَا.

وَسُؤَالُهُ الْعَافِيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُطْلَبُ وَأَشْرَفِ مَا يُسْأَلُ وَالْعَافِيَةُ لِلْمَيِّتِ بِسَلَامَتِهِ مِنْ الْعَذَابِ وَمُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ.

وَمَقْصُودُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الدُّعَاءُ لَهُمْ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ وَتَذَكُّرُ الْآخِرَةِ وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا مَا أَحْدَثَهُ الْعَامَّةُ مِنْ خِلَافِ هَذَا كَدُعَائِهِمْ الْمَيِّتَ وَالِاسْتِصْرَاخِ بِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَسُؤَالِ اللَّهِ بِحَقِّهِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ إلَيْهِ تَعَالَى بِهِ فَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ وَالْجَهَالَاتِ وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ) فِيهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ إذَا مَرَّ بِالْمَقْبَرَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الزِّيَارَةَ لَهُمْ.

وَفِيهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالْمَارِّ بِهِمْ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا كَانَ إضَاعَةً وَظَاهِرُهُ فِي جُمُعَةٍ وَغَيْرِهَا وَفِي الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلُ وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَا لِأَحَدٍ أَوْ اسْتَغْفَرَ لَهُ يَبْدَأُ بِالدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهَا وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ الْأَدْعِيَةُ الْقُرْآنِيَّةُ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ وَنَحْوَهَا نَافِعَةٌ لِلْمَيِّتِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَهُ

فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ لَا يَصِلُ ذَلِكَ إلَيْهِ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى وُصُولِ ذَلِكَ إلَيْهِ.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا أَوْ صَدَقَةً أَوْ قِرَاءَةَ قُرْآنٍ أَوْ ذِكْرًا أَوْ أَيَّ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَرْجَحُ دَلِيلًا وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَيْفَ يَبَرُّ

ص: 509

558 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إلَى مَا قَدَّمُوا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

559 -

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ:" فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ ".

أَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ يُصَلِّي لَهُمَا مَعَ صَلَاتِهِ وَيَصُومُ لَهُمَا مَعَ صِيَامِهِ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ سُورَةَ يس» وَهُوَ شَامِلٌ لِلْمَيِّتِ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ فِيهِ وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي عَنْ نَفْسِهِ بِكَبْشٍ وَعَنْ أُمَّتِهِ بِكَبْشٍ» وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْفَعُهُ عَمَلُ غَيْرِهِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ بِمَا يَتَّضِحُ مِنْهُ قُوَّةُ هَذَا الْمَذْهَبِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا أَيْ وَصَلُوا إلَى مَا قَدَّمُوا» مِنْ الْأَعْمَالِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ سَبِّ الْأَمْوَاتِ وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَفِي الشَّرْحِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُخَصَّصٌ بِجَوَازِ سَبِّ الْكَافِرِ لِمَا حَكَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَمِّ الْكُفَّارِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ كَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَشْبَاهِهِمْ (قُلْت): لَكِنَّ قَوْلَهُ " قَدْ أَفْضَوْا إلَى مَا قَدَّمُوا عِلَّةٌ عَامَّةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ تَحْتَ سَبِّهِمْ وَالتَّفَكُّهِ بِأَعْرَاضِهِمْ وَأَمَّا ذِكْرُهُ تَعَالَى لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ذَمَّهُمْ بَلْ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَفَضْت بِفِعْلِهَا إلَى الْوَبَالِ وَبَيَانِ مُحَرَّمَاتٍ ارْتَكَبُوهَا. وَذِكْرُ الْفَاجِرِ بِخِصَالِ فُجُورِهِ لِغَرَضٍ جَائِزٍ وَلَيْسَ مِنْ السَّبِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَا تَخْصِيصَ بِالْكُفَّارِ.

نَعَمْ الْحَدِيثُ مُخَصَّصٌ بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا الْحَدِيثَ وَأَقَرَّهُمْ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ بَلْ قَالَ: وَجَبَتْ أَيْ النَّارُ ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ» وَلَا يُقَالُ: إنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي ذَمِّهِ: " بِئْسَ الْمَرْءُ كَانَ لَقَدْ كَانَ فَظًّا غَلِيظًا " وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ إذْ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمَا تَعَرَّضُوا لِذَمِّهِ بِغَيْرِ كُفْرِهِ وَقَدْ أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ سَبِّهِمْ لَهُ وَإِقْرَارِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَظْهِرًا بِالشَّرِّ لِيَكُونَ مِنْ بَابِ لَا غَيْبَةَ لِفَاسِقٍ أَوْ بِأَنَّهُ يُحْمَلُ‌

‌ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ

عَلَى مَا بَعْدَ الدَّفْنِ (قُلْت): وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ التَّعْلِيلَ بِإِفْضَائِهِمْ إلَى مَا قَدَّمُوا فَإِنَّ الْإِفْضَاءَ الْحَقِيقِيَّ بَعْدَ الدَّفْنِ.

559 -

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ:" فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ ".

ص: 510

‌كتاب الزكاة

560 -

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَفِيهِ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدَّ فِي فُقَرَائِهِمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

(وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ نَحْوَهُ) أَيْ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ (لَكِنْ قَالَ) عِوَضٌ لَهُ " فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إلَى مَا قَدَّمُوا"

(فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: إنَّ سَبَّ الْكَافِرِ يَحْرُمُ إذَا تَأَذَّى بِهِ الْحَيُّ الْمُسْلِمُ وَيَحِلُّ إذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْأَذِيَّةُ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيَحْرُمُ إلَّا إذَا دَعَتْ إلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَأَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَيِّتِ إذَا أُرِيدَ تَخْلِيصُهُ مِنْ مَظْلِمَةٍ وَقَعَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ بَلْ يَجِبُ إذَا اقْتَضَى ذَلِكَ سَبَّهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ جَوَازِ الْغَيْبَةِ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْأَحْيَاءِ لِأُمُورٍ

(تَنْبِيهٌ): مِنْ الْأَذِيَّةِ لِلْمَيِّتِ الْقُعُودُ عَلَى قَبْرِهِ لِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ «عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُتَّكِئٌ عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْجُلُوسِ عَلَيْهِ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ مَرْفُوعًا «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» وَالنَّهْيُ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي نَقْلًا عَنْ النَّوَوِيِّ: إنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: بِكَرَاهَةِ الْقُعُودِ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُرَادُ بِالْقُعُودِ الْحَدَثُ وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ. انْتَهَى.

وَبِمِثْلِ قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَمَا فِي الْفَتْحِ (قُلْت): وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْقُعُودِ عَلَيْهِ وَالْمُرُورِ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ» نَهْيٌ عَنْ أَذِيَّةِ الْمَقْبُورِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَذِيَّةُ الْمُؤْمِنِ مُحَرَّمَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} .

(كتاب الزكاة) الزَّكَاةُ لُغَةً مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّمَاءِ وَالطَّهَارَةِ وَتُطْلَقُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعَفْوِ وَالْحَقِّ وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَبِمَا عُلِمَ مِنْ ضَرُورَةِ الدِّينِ وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ فَقَالَ الْأَكْثَرُ: إنَّهَا فُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ وَيَأْتِي بَيَانُ مَتَى فُرِضَ فِي بَابِهِ.

ص: 511

561 -

وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ: هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فِي كُلِّ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: إنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدَّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ) كَانَ بَعْثُهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ إلَى الْيَمَنِ سَنَةَ عَشْرٍ قَبْلَ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي وَقِيلَ: كَانَ آخِرَ سَنَةِ تِسْعٍ عِنْدَ مُنْصَرَفَةِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ بَعْدَ الْفَتْحِ وَبَقِيَ فِيهِ إلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ. وَالْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: إنَّك تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ عِبَادَةَ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوك فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ» وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الزَّكَاةِ وَصَرْفَهَا إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ فَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا وَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِبَعْثِهِ السُّعَاةَ.

وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: تُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ أَنَّهُ يَكْفِي إخْرَاجُ الزَّكَاةِ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَصَّ الْفُقَرَاءَ لِكَوْنِهِمْ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ فَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا ذُكِرَ وَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِالْفَقِيرِ مَنْ يَحِلُّ إلَيْهِ الصَّرْفُ فَيَدْخُلُ الْمِسْكِينُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمِسْكِينَ أَعْلَى حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ وَمَنْ قَالَ بِالْعَكْسِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ.

ص: 512

فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا. وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَّدِّقُ، وَفِي الرِّقَةِ: فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةٍ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ) لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ عَامِلًا (هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ) أَيْ نُسْخَةُ الصَّدَقَةِ حَذَفَ الْمُضَافَ لِلْعِلْمِ بِهِ وَفِيهِ جَوَازُ إطْلَاقِ الصَّدَقَةِ عَلَى الزَّكَاةِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ تَصْدِيرَ الْكِتَابِ هَذَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مَرْفُوعٌ وَالْمُرَادُ بِفَرْضِهَا قَدْرُهَا؛؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: (وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِتَقْدِيرِ أَنْوَاعِهَا وَأَجْنَاسِهَا وَالْقَدْرِ الْمُخْرَجِ مِنْهَا كَمَا بَيَّنَهُ التَّفْصِيلُ بِقَوْلِهِ: «فِي كُلِّ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ» وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ فِي كُلِّ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ إلَى فَمَا دُونَهَا «فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ» فِيهَا تَعْيِينُ إخْرَاجِ الْغَنَمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَلَوْ أَخْرَجَ بَعِيرًا لَمْ يُجْزِهِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُجْزِيهِ قَالُوا: لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَجِبَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ رِفْقًا بِالْمَالِكِ فَإِذَا رَجَعَ بِاخْتِيَارِهِ إلَى الْأَصْلِ أَجْزَأَهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الَّذِي يُخْرِجُهُ دُونَ قِيمَةِ الْأَرْبَعِ الشِّيَاهِ فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُجْزِئَ «فَإِذَا بَلَغَتْ أَيْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى» زَادَهُ تَأْكِيدًا وَإِلَّا فَقَدْ عُلِمَتْ

ص: 513

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَالْمَخَاضُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ آخِرُهُ مُعْجَمَةٌ وَهِيَ مِنْ الْإِبِلِ مَا اسْتَكْمَلَ السَّنَةَ الْأُولَى وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ إلَى آخِرِهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ أُمَّهُ مِنْ الْمَخَاضِ أَيْ الْحَوَامِلِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.

وَالْمَخَاضُ الْحَامِلُ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُ حَمْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ وَضَمِيرُ فِيهَا لِلْإِبِلِ الَّتِي بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ حِينِ تَبْلُغُ عِدَّتُهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ لِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَرَدَ بِذَلِكَ وَحَدِيثٍ مَوْقُوفٍ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام وَلَكِنَّ الْمَرْفُوعَ ضَعِيفٌ وَالْمَوْقُوفُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلِذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ الْجُمْهُورُ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ تُوجَدْ (فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ) هُوَ مِنْ الْإِبِلِ مَا اسْتَكْمَلَ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ إلَى تَمَامِهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهُ ذَاتُ لَبَنٍ وَيُقَالُ: بِنْتُ اللَّبُونِ لِلْأُنْثَى وَإِنَّمَا زَادَ قَوْلُهُ: " ذَكَرٌ " مَعَ قَوْلِهِ: ابْنُ لَبُونٍ، لِلتَّأْكِيدِ كَمَا عَرَفْت «فَإِذَا بَلَغَتْ أَيْ الْإِبِلُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ» بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَهِيَ مِنْ الْإِبِلِ مَا اسْتَكْمَلَ السَّنَةَ الثَّالِثَةَ وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ إلَى تَمَامِهَا وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ: حِقٌّ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِهَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا وَيَرْكَبَهَا الْفَحْلُ وَلِذَلِكَ قَالَ: (طَرُوقُ الْجَمَلِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ مَطْرُوقَتُهُ فَعُولَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَالْمُرَادُ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَطْرُقْهَا (فَإِذَا بَلَغَتْ) الْإِبِلُ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ «فَإِذَا بَلَغَتْ أَيْ الْإِبِلُ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ» تَقَدَّمَ بَيَانُهُ «فَإِذَا بَلَغَتْ أَيْ الْإِبِلُ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ» تَقَدَّمَ بَيَانُهُ (فَإِذَا زَادَتْ) أَيْ الْإِبِلُ (عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ) أَيْ وَاحِدَةٍ فَصَاعِدًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَيَدُلُّ لَهُ كِتَابُ عُمَرَ رضي الله عنه " فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً " وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ زَكَاتَهُ بِالْإِبِلِ وَإِذَا كَانَتْ بِالْإِبِلِ فَلَا تَجِبُ زَكَاتُهَا إلَّا إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّتَانِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ رَجَعَتْ إلَى فَرِيضَةِ الْغَنَمِ فَيَكُونُ فِي كُلِّ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَشَاةٌ (قُلْت): وَالْحَدِيثُ إنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ حُكْمُ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِينَ فَمَعَ بُلُوغِهَا إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ يَلْزَمُ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ الْحُكْمَ فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ وَنَحْوِهَا فَيُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا

ص: 514

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَقَصٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ «فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا» أَيْ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا نَفْلًا مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا وَاجِبَ عَلَيْهِ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ذُكِرَ لِدَفْعِ تَوَهُّمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إنَّ الْمَنْفِيَّ مُطْلَقُ الصَّدَقَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَهَذِهِ صَدَقَةُ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةُ فُصِّلَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ وَظَاهِرُهُ وُجُوبُ أَعْيَانِ مَا ذُكِرَ إلَّا أَنَّهُ سَيَأْتِي قَرِيبًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ الْعَيْنَ الْوَاجِبَةَ أَجْزَأَهُ غَيْرُهَا. وَأَمَّا زَكَاةُ الْغَنَمِ فَقَدْ بَيَّنَهَا قَوْلُهُ:«وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا» بَدَلٌ مِنْ صَدَقَةِ الْغَنَمِ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ وَهُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَالسَّائِمَةُ مِنْ الْغَنَمِ الرَّاعِيَةُ غَيْرُ الْمَعْلُوفَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَفَادَ مَفْهُومُ السَّوْمِ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْغَنَمِ وَقَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ: لَا يُشْتَرَطُ وَقَالَ دَاوُد: يُشْتَرَطُ فِي الْغَنَمِ لِهَذَا الْحَدِيثِ قُلْنَا: وَفِي الْإِبِلِ لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ بِلَفْظِ «فِي كُلِّ سَائِمَةٍ إبِلٌ»

وَسَيَأْتِي نَعَمْ الْبَقَرُ لَمْ يَأْتِ فِيهَا ذِكْرُ السَّوْمِ وَإِنَّمَا قَاسُوهَا عَلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ (وَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ) بِالْجَرِّ تَمْيِيزُ مِائَةٍ وَالشَّاةُ تَعُمُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالضَّأْنَ وَالْمَعْزَ (شَاةٌ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فَإِنَّ فِي الْأَرْبَعِينَ شَاةً إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ) ظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ الشَّاةُ الرَّابِعَةُ حَتَّى تَفِيَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ إذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ وَاحِدَةٌ وَجَبَتْ الْأَرْبَعُ «فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً عَنْ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ» وَاجِبَةٌ (إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) إخْرَاجَ صَدَقَةٍ نَفْلًا كَمَا سَلَفَ (وَلَا يُجْمَعُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ) مِثْلُهُ مُشَدَّدُ الرَّاءِ (بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) مَفْعُولٌ لَهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقِ صُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مَثَلًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعُونَ شَاةً وَقَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الصَّدَقَةُ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِمَا الْمُصَّدِّقُ جَمَعُوهَا لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ فِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَصُورَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ؛ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ الْمُصَّدِّقُ فَرَّقَا غَنَمَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِوَى شَاةٍ وَاحِدَةٍ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذَا الَّذِي سَمِعْته فِي ذَلِكَ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْخِطَابُ فِي هَذَا لِلْمُصَّدِّقِ وَلِرَبِّ الْمَالِ قَالَ: وَالْخَشْيَةُ خَشْيَتَانِ: خَشْيَةُ السَّاعِي أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ وَخَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَقِلَّ مَالُهُ فَأُمِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ لَا يُحْدِثَ فِي الْمَالِ شَيْئًا مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ

ص: 515

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ «وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا» وَالتَّرَاجُعُ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَحَدِهِمَا مَثَلًا أَرْبَعُونَ بَقَرَةً وَلِلْآخَرِ ثَلَاثُونَ بَقَرَةً وَمَالُهُمَا مُشْتَرَكٌ فَيَأْخُذُ السَّاعِي عَنْ الْأَرْبَعِينَ مُسِنَّةً وَعَنْ الثَّلَاثِينَ تَبِيعًا فَيَرْجِعُ بَاذِلُ الْمُسِنَّةِ بِثَلَاثَةِ أَسْبَاعِهَا عَلَى خَلِيطِهِ وَبَاذِلُ التَّبِيعِ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِ عَلَى خَلِيطِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السِّنِينَ وَاجِبٌ عَلَى الشُّيُوعِ كَأَنَّ الْمَالَ مِلْكُ وَاحِدٍ.

وَفِي قَوْلِهِ: (بِالسَّوِيَّةِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّاعِيَ إذَا ظَلَمَ أَحَدَهُمَا فَأَخَذَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى فَرْضِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا يَغْرَمُ لَهُ قِيمَةَ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْوَاجِبِ دُونَ الزِّيَادَةِ كَذَا فِي الشَّرْحِ وَلَوْ قِيلَ مَثَلًا: إنَّهُ يَدُلُّ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِي الْحَقِّ وَالظُّلْمِ لِمَا بَعْدَ الْحَدِيثِ عَنْ إفَادَةِ ذَلِكَ (وَلَا يُخْرَجُ) مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ فِي الصَّدَقَةِ (هَرِمَةٌ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْكَبِيرَةُ الَّتِي سَقَطَتْ أَسْنَانُهَا (وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ مَعِيبَةُ الْعَيْنِ وَبِالضَّمِّ عَوْرَاءُ الْعَيْنِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَرَضُ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَفْتُوحَةً لِتَشْمَلَ ذَاتَ الْعَيْبِ فَيَدْخُلَ مَا أَفَادَهُ حَدِيثُ أَبِي دَاوُد «وَلَا يُعْطِي الْهَرِمَةَ وَلَا الدَّرِنَةَ وَلَا الْمَرِيضَةَ وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ وَلَا أَمَرَكُمْ بِشَرِّهِ» انْتَهَى.

وَالدَّرَنَةُ الْجَرْبَاءُ مِنْ الدَّرَنِ الْوَسَخِ وَالشَّرَطُ اللَّئِيمَةُ هِيَ أَرْذَلُ الْمَالِ وَقِيلَ: صِغَارُهُ وَشِرَارُهُ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ (وَلَا تَيْسٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَّدِّقُ) اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِالتَّشْدِيدِ وَأَصْلُهُ الْمُتَصَدِّقُ أُدْغِمَتْ التَّاءُ بَعْدَ قَلْبِهَا صَادًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَالِكُ وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى الْآخَرِ وَهُوَ التَّيْسُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا لِلْإِنْزَاءِ فَهُوَ مِنْ الْخِيَارِ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ وَيُحْتَمَلُ رَدُّهُ إلَى الْجَمِيعِ، وَيُفِيدُ أَنَّ لِلْمَالِكِ إخْرَاجَ الْهَرِمَةِ وَذَاتِ الْعَوَارِ إذَا كَانَتْ سَمِينَةً قِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِنْ الْوَسَطِ الْوَاجِبِ وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُفَرِّعِينَ، وَقِيلَ: إنَّ ضَبْطَهُ بِالتَّخْفِيفِ وَالْمُرَادُ بِهِ السَّاعِي فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ الِاجْتِهَادَ فِي نَظَرِ الْأَصْلَحِ لِلْفُقَرَاءِ وَأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ فَتُقَيَّدُ مَشِيئَتُهُ بِالْمَصْلَحَةِ فَيَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ عَلَى هَذَا وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ مُخْتَلِفَةً فَلَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً كُلَّهَا أَوْ تُيُوسًا أَجْزَأَهُ إخْرَاجُ وَاحِدَةٍ، وَعَنْ الْمَالِكِيَّةِ يَشْتَرِي شَاةً مُجْزِئَةً عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهَذِهِ زَكَاةُ الْغَنَمِ وَتَقَدَّمَتْ زَكَاةُ الْإِبِلِ وَتَأْتِي زَكَاةُ الْبَقَرِ.

وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَقَدْ أَفَادَ الْوَاجِبُ مِنْهَا قَوْلُهُ (وَفِي الرِّقَةِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَهِيَ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (رُبُعُ الْعُشْرِ) أَيْ يَجِبُ إخْرَاجُ رُبُعُ عُشْرِهَا زَكَاةً وَيَأْتِي النَّصُّ عَلَى الذَّهَبِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ الْفِضَّةُ (إلَّا تِسْعِينَ) دِرْهَمًا (وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) كَمَا عَرَفْت وَفِي قَوْلِهِ تِسْعِينَ وَمِائَةً مَا يُوهِمُ أَنَّهَا إذَا زَادَتْ عَلَى التِّسْعِينَ

ص: 516

562 -

«وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيًّا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَاللَّفْظُ؛ لِأَحْمَدَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَشَارَ إلَى اخْتِلَافٍ فِي وَصْلِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

وَالْمِائَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمِائَتَيْنِ: أَنَّ فِيهَا صَدَقَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ عَقْدٍ قَبْلَ الْمِائَةِ وَالْحِسَابُ إذَا جَاوَزَ الْآحَادَ كَانَ تَرْكِيبُهُ بِالْعُقُودِ كَالْعَشَرَاتِ وَالْمِئِينَ وَالْأُلُوفِ فَذَكَرَ التِّسْعِينَ لِذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ زَكَاةِ الْإِبِلِ قَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِقَوْلِهِ (وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ) وَقَدْ عَرَفْت فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ الْعِدَّةَ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الْجَذَعَةُ (وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ) أَيْ فِي مِلْكِهِ (وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ) عِوَضًا مِنْ الْجَذَعَةِ (وَيَجْعَلُ مَعَهَا) أَيْ تَوْفِيَةً لَهَا (شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا) إذَا لَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُ الشَّاتَانِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ جَبْرُ التَّفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ (وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ) الَّتِي عَرَفْت قَدْرَهَا (وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ) وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى مَا يَلْزَمُهُ فَلَا يُكَلَّفُ تَحْصِيلُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ (وَيُعْطِيهِ الْمُصَّدِّقُ) مُقَابِلَ مَا زَادَ عِنْدَهُ (شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا) كَمَا سَلَفَ فِي عَكْسِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَدْرِ التَّفَاوُتِ فِي سَائِرِ الْأَسْنَانِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ كُلِّ سِنَّيْنِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ. وَذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ زِيَادَةُ فَضْلِ الْقِيمَةِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ رَدُّ الْفَضْلِ مِنْ الْمُصَّدِّقِ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى التَّقْوِيمِ قَالُوا بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ شَاةٌ وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ التَّقْوِيمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى التَّقْوِيمِ.

وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ فِي بَابِ أَخْذِ الْعُرُوضِ مِنْ الزَّكَاةِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ مُعَاذٍ؛ لِأَهْلِ الْيَمَنِ " ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابِكُمْ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ؛ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ " وَيَأْتِي اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ.

ص: 517

563 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‌

«تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ»

رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَلِأَبِي دَاوُد أَيْضًا: «لَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إلَّا فِي دُورِهِمْ»

«وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً» فِيهِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَالتَّبِيعُ ذُو الْحَوْلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً) وَهِيَ ذَاتُ حَوْلَيْنِ (وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا). أَيْ مُحْتَلِمٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَبُو دَاوُد وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ (أَوْ عَدْلَهُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (مَعَافِرِيًّا) نِسْبَةً إلَى مَعَافِرَ زِنَةَ مَسَاجِدَ حَيٌّ فِي الْيَمَنِ إلَيْهِمْ تُنْسَبُ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ يُقَالُ: ثَوْبٌ مَعَافِرِيٌّ (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَاللَّفْظُ؛ لِأَحْمَدَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَشَارَ إلَى اخْتِلَافٍ فِي وَصْلِهِ) لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ إخْرَاجِهِ: وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ " قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ أَيْ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) وَإِنَّمَا رَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ الرِّوَايَةَ الْمُرْسَلَةَ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ الِاتِّصَالِ اُعْتُرِضَتْ بِأَنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَسْرُوقًا هَمْدَانِيُّ النَّسَبِ مِنْ وَادِعَةَ يَمَانِيُّ الدَّارِ وَقَدْ كَانَ فِي أَيَّامِ مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ فَاللِّقَاءُ مُمْكِنٌ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَحْكُومٌ بِاتِّصَالِهِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ (قُلْت): وَكَانَ رَأْيُ التِّرْمِذِيِّ رَأْيَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ اللِّقَاءِ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ وَأَنَّ نِصَابَهَا مَا ذُكِرَ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَأَنَّهُ النِّصَابُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ شَيْءٌ وَفِيهِ خِلَافٌ لِلزُّهْرِيِّ فَقَالَ: يَجِبُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ قِيَاسًا عَلَى الْإِبِلِ.

وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النِّصَابَ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَبِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ» وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْإِسْنَادِ فَمَفْهُومُ مُعَاذٍ يُؤَيِّدُهُ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تُؤْخَذُ

ص: 518

564 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ «لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ»

صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَلِأَبِي دَاوُد) مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَيْضًا «لَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إلَّا فِي دُورِهِمْ» وَعِنْدَ النَّسَائِيّ وَأَبِي دَاوُد فِي لَفْظٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو أَيْضًا «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إلَّا فِي دُورِهِمْ»

أَيْ لَا تُجْلَبُ الْمَاشِيَةُ إلَى الْمُصَّدِّقِ بَلْ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إلَى رَبِّ الْمَالِ وَمَعْنَى لَا جَنَبَ أَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُصَّدِّقُ بِأَقْصَى مَوَاضِعِ أَصْحَابِ الصَّدَقَةِ فَتُجْنَبُ إلَيْهِ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَفِيهِ تَفْسِيرٌ آخَرُ يُخْرِجُهُ عَنْ هَذَا الْبَابِ.

وَالْأَحَادِيثُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُصَّدِّقَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إلَى رَبِّ الْمَالِ فَيَأْخُذُ الصَّدَقَةَ وَلَفْظُ أَحْمَدَ خَاصٌّ بِزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد عَامٌّ لِكُلِّ صَدَقَةٍ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ مَرْفُوعًا «سَيَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغَضُونَ فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ» فَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ بِأَهْلِ الْأَمْوَالِ وَأَنَّهُمْ يُرْضُونَهُمْ وَإِنْ ظَلَمُوهُمْ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا أَدَّيْت الزَّكَاةَ إلَى رَسُولِك فَقَدْ بَرِئْت مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرُهَا وَإِنَّمَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا» .

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «أَرْضُوا مُصَّدِّقَكُمْ فِي جَوَابِ نَاسٍ مِنْ الْأَعْرَابِ أَتَوْهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إنَّ نَاسًا مِنْ الْمُصَّدِّقِينَ يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا» إلَّا أَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ «مَنْ سُئِلَ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ فَلَا يُعْطِيه الْمُصَّدِّقَ» .

وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ حَيْثُ طَلَبَهَا مُتَأَوِّلًا وَإِنْ رَآهُ صَاحِبُ الْمَالِ ظَالِمًا.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ) أَيْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ»

الْحَدِيثُ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْعَبِيدِ وَلَا الْخَيْلِ وَهُوَ إجْمَاعٌ فِيمَا كَانَ لِلْخِدْمَةِ وَالرُّكُوبِ وَأَمَّا الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِلنِّتَاجِ فَفِيهَا خِلَافٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَتَفَاصِيلُ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ «فِي

ص: 519

565 -

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ إبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ.

كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَاهُ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يُقَاوِمُ حَدِيثَ النَّفْيِ الصَّحِيحَ وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ «لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» فَقَالَ مَرْوَانُ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَجَبًا مِنْ مَرْوَانَ أُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ زَيْدٌ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْفَرَسَ الْغَازِيَ فَأَمَّا تَاجِرٌ يَطْلُبُ نَسْلَهَا فَفِيهَا الصَّدَقَةُ فَقَالَ: كَمْ قَالَ: فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ " وَقَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْخَيْلِ وَلَوْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ (قُلْت): كَيْفَ الْإِجْمَاعُ وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِيَّةِ.

(وَعَنْ بَهْزٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبِالزَّايِ ابْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنُ حَيْدَةَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْقُشَيْرِيِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَبَهْزٌ تَابِعِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إسْنَادٌ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مِنْ دُونِ بَهْزٍ ثِقَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ شَيْخٌ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: مَا تَرَكَهُ عَالِمٌ قَطُّ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ صَحَابِيٌّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إبِلٍ فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ بِنْتَ اللَّبُونِ تَجِبُ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ هُنَا مُطْرَحٌ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا؛ لِأَنَّهُ عَارَضَهُ الْمَنْطُوقُ الصَّرِيحُ وَهُوَ حَدِيثُ أَنَسٍ (لَا تُفَرَّقُ إبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَالِكَ

ص: 520

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لَا يُفَرَّقُ مِلْكُهُ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ حَيْثُ كَانَا خَلِيطَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ (مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا) أَيْ قَاصِدًا لِلْأَجْرِ بِإِعْطَائِهَا (فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً) يَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، مِثْلُ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ اعْتِرَافًا وَالنَّاصِبُ لَهُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَإِنَّا آخِذُوهَا وَالْعَزْمَةُ الْجِدُّ فِي الْأَمْرِ يَعْنِي أَنَّ أَخْذَ ذَلِكَ بِجِدٍّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مَفْرُوضٌ «مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ) فَإِنْ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَلَوْ ثَبَتَ لَقُلْنَا بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ - يَعْنِي بَهْزًا - يُخْطِئُ كَثِيرًا وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَدْخَلْته فِي الثِّقَاتِ وَهُوَ مَنْ أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ قَهْرًا مِمَّنْ مَنَعَهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ نِيَّةَ الْإِمَامِ كَافِيَةٌ وَأَنَّهَا تُجْزِئُ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَاتَهُ الْأَجْرُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْوُجُوبُ وَقَوْلُهُ: وَشَطْرَ مَالِهِ هُوَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي آخِذُوهَا وَالْمُرَادُ مِنْ الشَّطْرِ الْبَعْضُ وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ بِأَخْذِ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ عَلَى مَنْعِهِ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يُقَدِّمْ مُدَّعِي النَّسْخِ دَلِيلًا عَلَى النَّسْخِ بَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ ذَكَرَهَا فِي الشَّرْحِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي حَدِيثِ بَهْزٍ عَلَى جَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ " وَشُطِرَ مَالُهُ " بِضَمِّ الشِّينِ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ أَيْ جُعِلَ مَالُهُ شَطْرَيْنِ وَيَتَخَيَّرُ عَلَيْهِ الْمُصَّدِّقُ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ خَيْرِ الشَّطْرَيْنِ عُقُوبَةً لِمَنْعِهِ الزَّكَاةَ - (قُلْت): وَفِي النِّهَايَةِ مَا لَفْظُهُ قَالَ الْحَرْبِيُّ: غَلِطَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ الرِّوَايَةِ إنَّمَا هِيَ وَشُطِرَ مَالُهُ أَيْ يُجْعَلُ مَالُهُ شَطْرَيْنِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِلَى مِثْلِهِ جَنَحَ صَاحِبُ ضَوْءِ النَّهَارِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ رَسَائِلِهِ وَذَكَرْنَا فِي حَوَاشِيهِ أَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا دَالٌّ عَلَى جَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ إذْ الْأَخْذُ مِنْ خَيْرِ الشَّطْرَيْنِ عُقُوبَةً بِأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ، إذْ الْوَاجِبُ الْوَسَطُ غَيْرُ الْخِيَارِ ثُمَّ رَأَيْت الشَّارِحَ أَشَارَ إلَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى كَلَامِهِ ثُمَّ رَأَيْت النَّوَوِيَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ بِعَيْنِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، وَلَفْظُهُ: إذَا تَخَيَّرَ الْمُصَّدِّقُ وَأَخَذَ مِنْ خَيْرِ الشَّطْرَيْنِ فَقَدْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ وَهِيَ عُقُوبَةٌ بِالْمَالِ إلَّا أَنَّ حَدِيثَ بَهْزٍ هَذَا لَوْ صَحَّ فَلَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْعُقُوبَةِ بِخُصُوصِهَا فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا الشَّطْرُ الْمَأْخُوذُ يَكُونُ زَكَاةً كُلَّهُ أَيْ حُكْمُهُ حُكْمُهَا أَخْذًا وَمَصْرِفًا وَلَا يَلْحَقُ بِالزَّكَاةِ غَيْرُهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ

ص: 521

566 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَتْ لَك مِائَتَا دِرْهَمٍ - وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ - فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ

إلْحَاقٌ بِالْقِيَاسِ وَلَا نَصَّ عَلَى عِلَّتِهِ وَغَيْرُ النَّصِّ مِنْ أَدِلَّةِ الْعِلَّةِ لَا يُفِيدُ ظَنًّا يُعْمَلُ بِهِ سِيَّمَا وَقَدْ تَقَرَّرَتْ حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ فَلَا يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَلَا دَلِيلَ بَلْ هَذَا الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ بَهْزٍ آحَادِيٌّ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَكَيْفَ يُؤْخَذُ بِهِ وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقَطْعِيِّ.

وَلَقَدْ اسْتَرْسَلَ أَهْلُ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ فِي الْعُقُوبَةِ اسْتِرْسَالًا يُنْكِرُهُ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ وَصَارَتْ تُنَاطُ الْوِلَايَاتُ بِجُهَّالٍ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ الشَّرْعِ شَيْئًا وَلَا مِنْ الدِّينِ أَمْرًا فَلَيْسَ هَمُّهُمْ إلَّا قَبْضُ الْمَالِ مِنْ كُلِّ مَنْ لَهُمْ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ يُسَمُّونَهُ أَدَبًا وَتَأْدِيبًا وَيَصْرِفُونَهُ فِي حَاجَاتِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَكَسْبِ الْأَطْيَانِ وَعِمَارَةِ الْمَسَاكِنِ وَالْأَوْطَانِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُضَيِّعُ حَدَّ السَّرِقَةِ أَوْ شُرْبَ الْمُسْكِرِ وَيَقْبِضُ عَلَيْهِ مَالًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقِيمُ الْحَدَّ وَيَقْبِضُ الْمَالَ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ ضَرُورَةً دِينِيَّةً لَكِنَّهُ شَابَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ وَشَبَّ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ وَتَرَكَ الْعُلَمَاءُ النَّكِيرَ فَزَادَ الشَّرُّ فِي الْأَمْرِ الْخَطِيرِ وَقَوْلُهُ: " لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ " يَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُسْتَوْفًى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَتْ لَك مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ رُبُعُ عُشْرِهَا وَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ أَيْ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَكُونَ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهُوَ حَسَنٌ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ) أَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ إلَّا قَوْلَهُ: " فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ " قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ أَوْ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا قَوْلَهُ: " لَيْسَ فِي الْمَالِ زَكَاةٌ إلَى آخِرِهِ " انْتَهَى فَأَفَادَ كَلَامُ أَبِي دَاوُد أَنَّ فِي رَفْعِهِ بِجُمْلَتِهِ اخْتِلَافًا وَنَبَّهَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّلْخِيصِ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ وَبَيَّنَ عِلَّتَهُ، وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْجُمْلَةَ

ص: 522

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْأُخْرَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «لَا زَكَاةَ فِي مَالِ امْرِئٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «لَيْسَ فِي الْمَالِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهَا.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَهُوَ إجْمَاعٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا كَثِيرًا سَرَدَهُ فِي الشَّرْحِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَشْفِي وَتَسْكُنُ النَّفْسُ إلَيْهِ فِي قَدْرِهِ وَفِي شَرْحِ الدَّمِيرِيِّ أَنَّ كُلَّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ وَكُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ وَالْمِثْقَالُ لَا يَتَغَيَّرُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ قَالَ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا وَقُرِّرَ فِي الْمَنَارِ بَعْدَ بَحْثٍ طَوِيلٍ أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِنْ الْقُرُوشِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى رَأْيِ الْهَادَوِيَّةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قِرْشًا، وَعَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ عِشْرُونَ وَتَزِيدُ قَلِيلًا وَأَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَحْمَرَ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا تَقْرِيبٌ.

وَفِيهِ أَنَّ قَدْرَ زَكَاةِ الْمِائَتَيْ الدِّرْهَمِ رُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ إجْمَاعٌ وَقَوْلُهُ: " فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ " قَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي رَفْعِهِ خِلَافًا وَعَلَى ثُبُوتِهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الزَّائِدِ، وَقَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِيهِ أَيْ الزَّائِدِ رُبُعُ الْعُشْرِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَأَنَّهُ لَا وَقَصَ فِيهِمَا وَلَعَلَّهُمْ يَحْمِلُونَ حَدِيثَ جَابِرٍ الْآتِي بِلَفْظِ «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقِيَّ صَدَقَةٌ» عَلَى مَا إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ نِصَابٍ مِنْهُمَا لَا إذَا كَانَتْ مُضَافَةً إلَى نِصَابٍ مِنْهُمَا وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إنَّهُمْ أَجْمَعُوا فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَنَّهَا تَجِبُ زَكَاتُهُ لِحِسَابِهِ وَأَنَّهُ لَا أَوْقَاصَ فِيهَا انْتَهَى.

وَحَمَلُوا مَا يَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» عَلَى مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَهَذَا أَوْثَقُ وَهَذَا يُقَوِّي مَذْهَبَ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي النَّقْدَيْنِ وَقَوْلُهُ: (وَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا) فِيهِ حُكْمُ نِصَابِ الذَّهَبِ وَقَدْرُ زَكَاتِهِ وَأَنَّهُ عِشْرُونَ دِينَارًا وَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ وَهُوَ أَيْضًا رُبُعُ عُشْرِهَا وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ مَضْرُوبَيْنِ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِيهِ: «وَلَا يَحِلُّ بِالْوَرِقِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقٍ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» وَأَمَّا الذَّهَبُ فَفِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْوَرِقِ صَدَقَةً فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةً إمَّا بِخَبَرٍ لَمْ يَبْلُغْنَا وَإِمَّا قِيَاسًا وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْآحَادِ الثِّقَاتِ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (قُلْت): لَكِنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ مُنَبِّهٌ عَلَى أَنَّ فِي الذَّهَبِ حَقًّا لِلَّهِ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ

ص: 523

567 -

وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَنْ اسْتَفَادَ مَالًا، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ

568 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا

وَابْنِ مَرْدُوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُمَا إلَّا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ وَأُحْمِيَ عَلَيْهِ» الْحَدِيثَ فَحَقُّهَا هُوَ زَكَاتُهَا وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا سَرَدَهَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ.

وَلَا بُدَّ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَا خَالِصَيْنِ مِنْ الْغِشِّ وَفِي شَرْحِ الدَّمِيرِيِّ عَلَى الْمِنْهَاجِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْغِشُّ يُمَاثِلُ أُجْرَةَ الضَّرْبِ وَالتَّخْلِيصِ فَيُتَسَامَحُ بِهِ وَبِهِ عَمِلَ النَّاسُ عَلَى الْإِخْرَاجِ مِنْهَا.

وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ وَفِيهِ خِلَافٌ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبَعْضِ الْآلِ وَدَاوُد فَقَالُوا: إنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ لِإِطْلَاقِ حَدِيثِ «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا عَضَّدَهُ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَمِنْ شَوَاهِدِهِ أَيْضًا.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «مَنْ اسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . رَوَاهُ مَرْفُوعًا (وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ)

إلَّا أَنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ إذْ لَا مُسَرِّحَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَتُؤَيِّدُهُ آثَارٌ صَحِيحَةٌ عَنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَيَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ بِإِخْرَاجِهِمَا فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَا خَالَطَتْ الصَّدَقَةُ مَالًا قَطُّ إلَّا أَهْلَكَتْهُ» وَأَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ وَزَادَ «يَكُونُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْك فِي مَالِك صَدَقَةٌ فَلَا تُخْرِجُهَا فَيُهْلِكُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى: قَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرْوِي تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ.

(وَعَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ النُّفَيْلِيُّ عَنْ زُهَيْرٍ بِالشَّكِّ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ شَيْءٌ» وَرَوَاهُ بِلَفْظِ

ص: 524

569 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ، فَلْيَتَّجِرْ لَهُ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ

الْكِتَابِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَسَبَهُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ وَفِيهِ مَتْرُوكٌ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عليه السلام وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ إلَّا أَنَّهُ بِلَفْظِ «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» وَضَعَّفَ الْبَيْهَقِيُّ إسْنَادَهُ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ شَيْءٌ وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ سَائِمَةً أَوْ مَعْلُوفَةً وَقَدْ ثَبَتَتْ شَرْطِيَّةُ السَّوْمِ فِي الْغَنَمِ فِي الْبُخَارِيِّ وَفِي الْإِبِلِ فِي حَدِيثِ بَهْزٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأُلْحِقَتْ الْبَقَرُ بِهِمَا.

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ لَهُ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ)؛ لِأَنَّ فِيهِ الْمُثَنَّى بْنَ الصَّبَّاحِ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالْمُثَنَّى ضَعِيفٌ وَرِوَايَةُ الدَّارَقُطْنِيِّ فِيهَا مَنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ ضَعِيفٌ وَالْعَزْرَمِيُّ مَتْرُوكٌ وَلَكِنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَهُ): أَيْ لِحَدِيثِ عَمْرٍو (شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ) هُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ لَا تَأْكُلُهُ الزَّكَاةُ» أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ مَاهَكَ مُرْسَلًا وَأَكَّدَهُ الشَّافِعِيُّ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا.

وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ حَدِيثِ عَمْرٍو أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَعَنْ عَلِيٍّ عليه السلام فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: كَانَتْ لِآلِ بَنِي رَافِعٍ أَمْوَالٌ عِنْدَ عَلِيٍّ فَلَمَّا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ وَجَدُوهَا تَنْقُصُ فَحَسِبُوهَا مَعَ الزَّكَاةِ فَوَجَدُوهَا تَامَّةً فَأَتَوْا عَلِيًّا فَقَالَ: كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدِي مَالٌ لَا أُزَكِّيهِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّهَا كَانَتْ تُخْرِجُ زَكَاةَ أَيْتَامٍ كَانُوا فِي حِجْرِهَا فَفِي الْكُلِّ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ‌

‌ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ

كَالْمُكَلَّفِ وَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ الْإِخْرَاجُ وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ تَكْلِيفِهِ وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ الْعُشْرِ مِنْ مَالِهِ لِعُمُومِ أَدِلَّتِهِ لَا غَيْرِهِ لِحَدِيثِ " رُفِعَ الْقَلَمُ "(قُلْت): وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَأَنَّ الْعُمُومَ فِي الْعُشْرِ أَيْضًا حَاصِلٌ فِي غَيْرِهِ كَحَدِيثِ «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» وَنَحْوُهُ.

ص: 525

570 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

571 -

وَعَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هَذَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} - إلَى قَوْلِهِ - {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} فَإِنَّهُ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَفَعَلَهَا بِلَفْظِهَا حَيْثُ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي فُلَانٍ» وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ «أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ بَعَثَ بِالزَّكَاةِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي أَهْلِهِ» وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَعَلِمَهُ صلى الله عليه وسلم السُّعَاةُ وَلَمْ يُنْقَلْ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ الَّذِي صَلَاتُهُ سَكَنٌ لَهُمْ.

وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ يَدْعُو الْمُصَّدِّقُ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِمَنْ أَتَى بِصَدَقَتِهِ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ إلَّا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَدْعُوِّ لَهُ فَصَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْتَعْ دُعَاءٍ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَصَلَاتُهُمْ عَلَيْهِ دُعَاءٌ لَهُ بِزِيَادَةِ الْقُرْبَةِ وَالزُّلْفَى وَلِذَلِكَ كَانَ لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ.

(وَعَنْ عَلِيٍّ عليه السلام «أَنَّ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مَحَلِّهَا وَرَأَى طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يُعَجِّلَهَا وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنْ عَجَّلَهَا قَبْلَ مَحَلِّهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُ انْتَهَى.

وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَسَلَّفَ صَدَقَةَ مَالِ الْعَبَّاسِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ» وَلَا أَدْرِي أَثَبَتَ أَمْ لَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَنَى بِذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثَ وَهُوَ مُعْتَضَدٌ بِحَدِيثِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّا كُنَّا احْتَجْنَا فَأَسْلَفَنَا الْعَبَّاسُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ» رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ

ص: 526

572 -

وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْرَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

573 -

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ»

وَقَدْ وَرَدَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ مِنْ الْعَبَّاسِ زَكَاةُ عَامَيْنِ.

وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ هَلْ هُوَ اسْتَلَفَ ذَلِكَ أَوْ تَقَدَّمَهُ وَلَعَلَّهُمَا وَاقِعَانِ مَعًا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ كَمَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ جَوَازُهُ بِالْمَالِكِ وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمُتَصَرِّفِ بِالْوِصَايَةِ وَالْوِلَايَةِ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ التَّعْجِيلَ مُطْلَقًا بِحَدِيثِ «إنَّهُ لَا زَكَاةَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ» كَمَا دَلَّتْ لَهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهَذَا لَا يَنْفِي جَوَازَ التَّعْجِيلِ وَبِأَنَّهُ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ.

(وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ) وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ أَوَاقِيَّ بِالْيَاءِ وَفِي غَيْرِهِ بِحَذْفِهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَإِنَّهُ جَمْعُ أُوقِيَّةٍ وَيَجُوزُ فِي جَمْعِهَا الْوَجْهَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ (مِنْ الْوَرِقِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا الْفِضَّةُ مُطْلَقًا (صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ) بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشْرِ (مِنْ الْإِبِلِ) لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ (صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ الثَّمَرِ) بِالْمُثَلَّثَةِ مَفْتُوحَةً وَالْمِيمِ (صَدَقَةٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ) الْحَدِيثُ صَرَّحَ بِمَفَاهِيمِ الْأَعْدَادِ الَّتِي سَلَفَتْ فِي بَيَانِ الْأَنْصِبَاءِ إذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ نِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ وَنِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَهِيَ خَمْسُ أَوَاقٍ وَأَمَّا نِصَابُ الطَّعَامِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ وَإِنَّمَا عُرِفَ هَذَا بِنَفْيِ الْوَاجِبِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسَةِ بِمَفْهُومِ النَّفْيِ (وَلَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ وَهُوَ.

573 -

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» وَأَصْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» وَأَصْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

الْحَدِيثُ تَصْرِيحٌ

ص: 527

574 -

وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِأَبِي دَاوُد:«إذَا كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي أَوْ النَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» .

أَيْضًا بِمَا سَلَفَ مِنْ مَفَاهِيمِ الْأَحَادِيثِ إلَّا التَّمْرُ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ شَيْءٌ وَالْأَوْسَاقُ جَمْعُ وَسْقٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ فَالْخَمْسَةُ الْأَوْسَاقُ ثَلَثُمِائَةِ صَاعٍ وَالْمُدُّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: مِعْيَارُهُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيْ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلَا صَغِيرِهِمَا قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجَرَّبْت ذَلِكَ فَوَجَدْته صَحِيحًا انْتَهَى.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيمَا لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ مِنْ الْوَرِقِ وَالْإِبِلِ وَالثَّمَرِ وَالتَّمْرِ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَتَخْفِيفًا وَهُوَ اتِّفَاقٌ فِي الْأَوَّلِينَ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِيهِ خِلَافٌ بِسَبَبِ مَا عَارَضَهُ مِنْ: (574) - وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِأَبِي دَاوُد:«إذَا كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي أَوْ النَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» .

وَهُوَ قَوْلُهُ (وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (عَنْ أَبِيهِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ) بِمَطَرٍ أَوْ ثَلْجٍ أَوْ بَرَدٍ أَوْ طَلٍّ (وَالْعُيُونُ) الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ الَّتِي يُسْقَى مِنْهَا بِإِسَاحَةِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ اغْتِرَافٍ لَهُ (أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الَّذِي يُشْرَبُ بِعُرُوقِهِ؛ لِأَنَّهُ عَثَرَ عَلَى الْمَاءِ وَذَلِكَ حَيْثُ الْمَاءُ قَرِيبًا مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَغْرِسُ عَلَيْهِ فَيَصِلُ الْمَاءُ إلَى الْعُرُوقِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَقْرَبُهَا.

(الْعُشْرِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ أَوْ أَنَّهُ فَاعِلُ مَحْذُوفٍ أَيْ فِيمَا ذُكِرَ يَجِبُ (وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ) النَّضْحُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الضَّادِ فَحَاءٌ مُهْمَلَةٌ السَّانِيَةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرِّجَالِ (نِصْفُ الْعُشْرِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِأَبِي دَاوُد) مِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ (إذَا كَانَ بَعْلًا) عِوَضًا عَنْ قَوْلِهِ عَثَرِيًّا وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ كَذَا فِي الشَّرْحِ وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ سَاكِنُ الْعَيْنِ وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ كُلُّ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَزَرْعٍ لَا يُسْقَى أَوْ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَهُوَ النَّخْلُ الَّذِي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ (الْعُشْرُ وَفِيمَ سُقِيَ بِالسَّوَانِي أَوْ النَّضْحِ) دَلَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ عَلَى التَّغَايُرِ وَأَنَّ السَّوَانِيَ الْمُرَادُ بِهَا الدَّوَابُّ وَالنَّضْحَ مَا كَانَ بِغَيْرِهَا كَنَضْحِ الرِّجَالِ بِالْآلَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْكُلِّ مَا كَانَ سَقْيُهُ بِتَعَبٍ وَعَنَاءٍ (نِصْفُ الْعُشْرِ) وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي

ص: 528

575 -

«وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُعَاذٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا: لَا تَأْخُذُوا فِي الصَّدَقَةِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرُ، وَالْحِنْطَةُ، وَالزَّبِيبُ، وَالتَّمْرُ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ.

وَبَيْنَ مَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ وَحِكْمَتُهُ وَاضِحَةٌ وَهُوَ زِيَادَةُ التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ فَنَقَصَ بَعْضُ مَا يَجِبُ رِفْقًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي قَلِيلِ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ الزَّكَاةُ وَهَذَا مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ.

فَالْجُمْهُورُ أَنَّ حَدِيثَ الْأَوْسَاقِ مُخَصِّصٌ لِحَدِيثِ سَالِمٍ وَأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيمَا لَمْ يَبْلُغْ الْخَمْسَةَ الْأَوْسَاقِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بَلْ يُعْمَلُ بِعُمُومِهِ فَيَجِبُ فِي قَلِيلِ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ وَالْحَقُّ مَعَ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْأَوْسَاقِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرَدَ لِبَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا وَرَدَ حَدِيثُ مِائَتَيْ الدِّرْهَمِ لِبَيَانِ ذَلِكَ مَعَ وُرُودِ «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهُ يَجِبُ فِي قَلِيلِ الْفِضَّةِ وَكَثِيرِهَا الزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ هَلْ يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ مِنْهَا إذَا كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ النِّصَابُ كَمَا عَرَفْت وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» إلَّا لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَأَمَّا قَدْرُ مَا يَجِبُ فِيهِ فَمَوْكُولٌ إلَى حَدِيثِ التَّبَيُّنِ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَكَذَا هُنَا قَوْلُهُ «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» أَيْ فِي هَذَا الْجِنْسِ يَجِبُ الْعُشْرُ وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ فِيهِ فَمَوْكُولٌ إلَى حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ وَزَادَهُ إيضَاحًا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ:«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» كَأَنَّهُ مَا وَرَدَ إلَّا لِدَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ عُمُومِ «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ رُبُعُ الْعُشْرِ» كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقِيَّ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» ثُمَّ إذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ كَانَ الْعَمَلُ بِالْخَاصِّ عِنْدَ جَهْلِ التَّارِيخِ كَمَا هُنَا فَإِنَّهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْأُصُولِ.

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا) حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ «لَا تَأْخُذَا فِي الصَّدَقَةِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرُ وَالْحِنْطَةُ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ) وَالدَّارَقُطْنِيّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَهُوَ مُتَّصِلٌ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُمَرَ «إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَذَكَرَهَا» قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: إنَّهُ مُرْسَلٌ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا غَيْرُ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ

ص: 529

576 -

وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ:«فَأَمَّا الْقِثَّاءُ، وَالْبِطِّيخُ وَالرُّمَّانُ وَالْقَصَبُ، فَقَدْ عَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَلَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الذُّرَةِ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَ الْأَرْبَعَةَ وَفِيهِ زِيَادَةُ الذُّرَةِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَمِنْ دُونِ ذِكْرِ الذُّرَةِ وَابْنُ مَاجَهْ بِذِكْرِهَا فَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّهُ حَدِيثٌ وَاهٍ وَفِي الْبَابِ مَرَاسِيلُ فِيهَا ذِكْرُ الذُّرَةِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. كَذَا قَالَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تُقَاوِمُ حَدِيثَ الْكِتَابِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَصْرِ وَقَدْ أَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ الذُّرَةَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ بِجَامِعِ الِاقْتِيَاتِ فِي الِاخْتِيَارِ وَاحْتَرَزَ بِالِاخْتِيَارِ عَمَّا يُقْتَاتُ فِي الْمَجَاعَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ فِيهِ فَمَنْ كَانَ رَأْيُهُ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ لَزِمَهُ هَذَا إنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الِاقْتِيَاتُ وَمَنْ لَا يَرَاهُ دَلِيلًا لَمْ يَقُلْ بِهِ.

وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي كُلِّ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ نَحْوُ «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» إلَّا الْحَشِيشَ وَالْحَطَبَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» وَقَاسُوا الْحَطَبَ عَلَى الْحَشِيشِ، قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ أَيْ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى وَارِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ وَالظَّاهِرُ مَعَ مَنْ قَالَ بِهِ (قُلْت):؛ لِأَنَّهُ حَصْرٌ لَا يُقَاوِمُهُ الْعُمُومُ وَلَا الْقِيَاسُ وَبِهِ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا يُقَاوِمُهُ حَدِيثُ «خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ» الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ فَالْأَوْضَحُ دَلِيلًا مَعَ الْحَاصِرِينَ لِلْوُجُوبِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَقَالَ فِي الْمَنَارِ: إنَّ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ مَحَلُّ احْتِيَاطٍ أَخْذًا وَتَرْكًا وَاَلَّذِي يُقَوِّي أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِهَا (قُلْت): الْأَصْلُ الْمَقْطُوعُ بِهِ حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ وَلَا يُخْرَجُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَهُوَ الْمَذْكُورُ لَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْأَصْلَ وَأَيْضًا فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ لَمْ يَرْفَعْهُمَا دَلِيلٌ يُقَاوِمُهُمَا فَلَيْسَ مَحَلُّ الِاحْتِيَاطِ إلَّا تَرْكَ الْأَخْذِ مِنْ الذُّرَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا مُجَرَّدُ الْعُمُومِ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ.

(وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: فَأَمَّا الْقِثَّاءُ وَالْبِطِّيخُ وَالرُّمَّانُ وَالْقَصَبُ) بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مَعًا (لَقَدْ عَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ)؛ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَفَتْحِ الرَّاءِ كَذَا فِي حَوَاشِي بُلُوغِ الْمَرَامِ بِخَطِّ السَّيِّدِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُفَضَّلِ رحمه الله وَاَلَّذِي فِي الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: " سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ الْبَقْلِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْبُقُولِ زَكَاةٌ " فَهَذَا الَّذِي مِنْ رِوَايَةِ

ص: 530

577 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيِّ وَأَمَّا رِوَايَةُ مُعَاذٍ الَّتِي فِي الْكِتَابِ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّلْخِيصِ: فِيهَا ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ أَفَادَ الْحَصْرَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَحَدِيثُ «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ وَمُعَاذٍ وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ لَمْ يَصِحَّ رَفْعُهُ إنَّمَا هُوَ مُرْسَلٌ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمُوسَى بْنُ طَلْحَةَ تَابِعِيٌّ عَدْلٌ يَلْزَمُ مَنْ يَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ قَبُولُ مَا أَرْسَلَهُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ مَوْقُوفًا وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ وَالْخَضْرَاوَاتُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُقْتَاتُ

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ» ؛ لِأَهْلِ الْمَالِ (فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) وَفِي إسْنَادِهِ مَجْهُولُ الْحَالِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ لَكِنْ قَالَ الْحَاكِمُ: لَهُ شَاهِدٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ " أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِهِ " كَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ

" أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: دَعْ لَهُمْ قَدْرَ مَا يَأْكُلُونَ وَقَدْرَ مَا يَقَعُ " وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَطِيَّةَ وَالْأُكَلَةَ» الْحَدِيثَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): أَنْ يُتْرَكَ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبُعُ مِنْ الْعُشْرِ.

(وَثَانِيهِمَا): أَنْ يُتْرَكَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُعْشَرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ أَنْ يَدَعَ ثُلُثَ الزَّكَاةِ أَوْ رُبُعَهَا لِيُفَرِّقَهَا هُوَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ وَقِيلَ: يَدَعُ لَهُ وَلِأَهْلِهِ قَدْرَ مَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَخْرُصُ قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَالْأَوْلَى الرُّجُوعُ إلَى مَا صَرَّحَتْ بِهِ رِوَايَةُ جَابِرٍ وَهُوَ التَّخْفِيفُ فِي الْخَرْصِ وَيُتْرَكُ مِنْ الْعُشْرِ قَدْرُ الرُّبُعِ أَوْ الثُّلُثِ فَإِنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ قَدْ لَا تُدْرِكُ الْحَصَادَ فَلَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إنَّ الْحَدِيثَ جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَمَحَاسِنِهَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِرَبِّ الْمَالِ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاحِ أَنْ يَأْكُلَ

ص: 531

578 -

وَعَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ وَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ زَبِيبًا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ

هُوَ وَعِيَالُهُ وَيُطْعِمُ النَّاسَ مَا لَا يُدَّخَرُ وَلَا يَبْقَى فَكَانَ مَا جَرَى الْعُرْفُ بِإِطْعَامِهِ وَأَكْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْخَضْرَاوَاتِ الَّتِي لَا تُدَّخَرُ يُوَضِّحُ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الْعُرْفَ الْجَارِي بِمَنْزِلِهِ مَا لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنُّفُوسِ مِنْ الْأَكْلِ مِنْ الثِّمَارِ الرَّطْبَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ الطَّعَامِ بِحَيْثُ يَكُونُ تَرْكُ ذَلِكَ مُضِرًّا بِهَا وَشَاقًّا عَلَيْهَا انْتَهَى

(وَعَنْ عَتَّابٍ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ آخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ - ابْنِ أَسِيدٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ (قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ وَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ زَبِيبًا». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ)؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَتَّابٍ وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد: إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الصَّحِيحُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَتَّابًا (مُرْسَلٌ)

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ يُعْتَضَدُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ خَرْصِ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي أَمْرٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَتَى صلى الله عليه وسلم بِصِيغَةٍ تُفِيدُ الْأَمْرَ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْوُجُوبُ، وَبِالْوُجُوبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ: إنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّهُ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَمَلٌ بِالظَّنِّ وَرَدَ بِهِ أَمْرُ الشَّارِعِ وَيَكْفِي فِيهِ خَارِصٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ عَارِفٌ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وَحْدَهُ يَخْرُصُ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ» وَلِأَنَّهُ كَالْحَاكِمِ يَجْتَهِدُ وَيَعْمَلُ، فَإِنْ أَصَابَتْ الثَّمَرَةَ جَائِحَةٌ بَعْدَ الْخَرْصِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ أَنَّ الْمَخْرُوصَ إذَا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ قَبْلَ الْجِدَادِ فَلَا ضَمَانَ.

وَفَائِدَةُ الْخَرْصِ أَمْنُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فِي دَعْوَى النَّقْصِ بَعْدَ الْخَرْصِ وَضَبْطُ حَقِّ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْمَالِكِ وَمُطَالَبَةُ الْمُصَّدِّقِ بِقَدْرِ مَا خَرَصَهُ، وَانْتِفَاعُ الْمَالِكِ بِالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخَرْصِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ قِيلَ: وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ وَإِحَاطَةُ النَّظَرِ بِهِ وَقِيلَ: يَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ النَّصِّ وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِعَدَمِ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ وَعِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا خَرْصَ فِي الزَّرْعِ لِتَعَذُّرِ ضَبْطِهِ لِاسْتِتَارِهِ بِالْقِشْرِ، وَإِذَا ادَّعَى الْمَخْرُوصُ عَلَيْهِ النَّقْصَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَجَبَ إقَامَتُهَا

ص: 532

579 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ فَأَلْقَتْهُمَا» رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ

وَإِلَّا صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.

وَصِفَةُ الْخَرْصِ أَنْ يَطُوفَ بِالشَّجَرَةِ وَيَرَى جَمِيعَ ثَمَرَتِهَا وَيَقُولُ: خَرْصُهَا كَذَا وَكَذَا رَطْبًا وَيَجِيءُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا يَابِسًا

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً) هِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ (أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، الْوَاحِدَةُ مَسَكَةٌ وَهِيَ الْإِسْوَرَةُ وَالْخَلَاخِيلُ «مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا قَالَتْ: لَا، قَالَ أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ فَأَلْقَتْهُمَا». رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ وَهُوَ ثِقَةٌ فَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ؛ غَيْرُ صَحِيحٍ.

(وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ) وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ وَلَفْظُهُ «أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدِهَا فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ: صُغْتُهُنَّ؛ لِأَتَزَيَّنَ لَك بِهِنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقَالَ: أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: هُنَّ حَسْبُك مِنْ النَّارِ» قَالَ الْحَاكِمُ إسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحِلْيَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا نِصَابَ لَهَا؛ لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِتَزْكِيَةِ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا تَكُونُ خَمْسَ أَوَاقٍ فِي الْأَغْلَبِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:(الْأَوَّلُ) وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْهَادَوِيَّةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ عَمَلًا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ.

(وَالثَّانِي) لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ لِآثَارٍ وَرَدَتْ عَنْ السَّلَفِ قَاضِيَةٍ بِعَدَمِ وُجُوبِهَا فِي الْحِلْيَةِ وَلَكِنْ بَعْدَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ لَا أَثَرَ لِلْآثَارِ.

(وَالثَّالِثُ) أَنَّ زَكَاةَ الْحِلْيَةِ عَارِيَّتُهَا كَمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ.

(الرَّابِعُ) أَنَّهَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مَرَّةً وَاحِدَةً رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا وُجُوبُهَا لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَقُوَّتِهِ وَأَمَّا نِصَابُهَا فَعِنْدَ الْمُوجِبِينَ نِصَابَ النَّقْدَيْنِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِهَا الْإِطْلَاقُ وَكَأَنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِأَحَادِيثِ النَّقْدَيْنِ وَيُقَوِّي الْوُجُوبَ قَوْلُهُ.

ص: 533

580 -

«وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا، مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَنْزٌ هُوَ؟ قَالَ: إذَا أَدَّيْت زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

581 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَإِسْنَادُهُ لَيِّنٌ

«وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا، مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَنْزٌ هُوَ؟ قَالَ: إذَا أَدَّيْت زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا) فِي النِّهَايَةِ هِيَ نَوْعٌ مِنْ الْحُلِيِّ يُعْمَلُ مِنْ الْفِضَّةِ سُمِّيَتْ بِهَا لِبَيَاضِهَا، وَاحِدُهَا وَضَحٌ. انْتَهَى.

وَقَوْلُهُ (مِنْ ذَهَبٍ) يَدُلُّ أَنَّهَا تُسَمَّى إذَا كَانَتْ مِنْ الذَّهَبِ أَوْضَاحًا (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟) أَيْ فَيَدْخُلُ تَحْتَ آيَةِ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ} الْآيَةَ (قَالَ: «إذَا أَدَّيْت زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) فِيهِ دَلِيلٌ كَمَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْحِلْيَةِ وَأَنَّ كُلَّ مَالٍ أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ فَلَا يَشْمَلُهُ الْوَعِيدُ فِي الْآيَةِ

(وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ لَيِّنٌ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمُرَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ‌

‌ الزَّكَاةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ.

وَاسْتُدِلَّ لِلْوُجُوبِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الْآيَةَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي التِّجَارَةِ.

وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ» . وَالْبَزُّ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ مَا يَبِيعُهُ الْبَزَّازُونَ، وَكَذَا ضَبَطَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ قَالَ: لَكِنْ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهَا لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا

ص: 534

582 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

583 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ - فِي كَنْزٍ وَجَدَهُ رَجُلٌ فِي خَرِبَةٍ - إنْ وَجَدْته فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ فَعَرِّفْهُ. وَإِنْ وَجَدْته فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " وَفِي الرِّكَازِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ آخِرُهُ زَايٌ الْمَالُ الْمَدْفُونُ - يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلَبَ بِكَثِيرِ عَمَلٍ (الْخُمُسُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

لِلْعُلَمَاءِ فِي حَقِيقَةِ الرِّكَازِ قَوْلَانِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ الْمَالُ الْمَدْفُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ كُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ.

(الثَّانِي) أَنَّهُ الْمَعَادِنُ. قَالَ مَالِكٌ بِالْأَوَّلِ قَالَ: وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَتُؤْخَذُ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ وَمِثْلُهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ غَيْرُ الْمَعْدِنِ.

وَخَصَّ الشَّافِعِيُّ الْمَعْدِنَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ «أَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الَّتِي خُلِقَتْ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ» إلَّا أَنَّهُ قِيلَ: إنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ.

وَاعْتَبَرَ النِّصَابَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ عَمَلًا بِحَدِيثِ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» فِي نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِلَى أَنَّهُ يَجِبُ رُبُعُ الْعُشْرِ بِحَدِيثِ «وَفِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» بِخِلَافِ الرِّكَازِ فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ.

وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي التَّفْرِقَةِ أَنَّ أَخْذَ الرِّكَازِ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ بِخِلَافِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعْدِنِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ.

وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْخُمُسُ فِي الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ وَأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ لَهُمَا بِالنِّصَابِ بَلْ يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِلَى أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ مِنْ ظَاهِرِهِمَا أَوْ بَاطِنِهِمَا فَيَشْمَلُ الرَّصَاصَ وَالنُّحَاسَ وَالْحَدِيدَ وَالنِّفْطَ وَالْمِلْحَ وَالْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ وَالْمُتَيَقَّنُ بِالنَّصِّ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَمَا عَدَاهُمَا الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْوُجُوبِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَوْجُودَةً فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ أَخَذَ فِيهَا خُمُسًا وَلَمْ يَرِدْ إلَّا حَدِيثُ الرِّكَازِ وَهُوَ فِي الْأَظْهَرِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَآيَةُ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} وَهِيَ فِي غَنَائِمِ الْحَرْبِ

ص: 535

584 -

وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةِ الصَّدَقَةَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي كَنْزٍ وَجَدَهُ رَجُلٌ فِي خَرِبَةٍ إنْ وَجَدْته فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ فَعَرِّفْهُ وَإِنْ وَجَدْته فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ) فِي قَوْلِهِ: " فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ " بَيَانُ أَنَّهُ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِوَاجِدِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ خُمُسِهِ وَهَذَا الَّذِي يَجِدُهُ فِي قَرْيَةٍ لَمْ يُسَمِّهِ الشَّارِعُ رِكَازًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْرِجْهُ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وُجِدَ فِي ظَاهِرِ الْقَرْيَةِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الرِّكَازِ أَمْرَانِ: كَوْنُهُ جَاهِلِيًّا، وَكَوْنُهُ فِي مَوَاتٍ، فَإِنْ وُجِدَ فِي شَارِعٍ أَوْ مَسْجِدٍ فَلُقَطَةٌ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَقَدْ جَهِلَ مَالِكَهُ فَيَكُونُ لُقَطَةً وَإِنْ وُجِدَ فِي مِلْكِ شَخْصٍ فَلِلشَّخْصِ إنْ لَمْ يَنْفِهِ عَنْ مِلْكِهِ فَإِنْ نَفَاهُ عَنْ مِلْكِهِ فَلِمَنْ مَلَكَهُ عَنْهُ وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمُحْيِي لِلْأَرْضِ، وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي كَنْزٍ وَجَدَهُ رَجُلٌ فِي خَرِبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ: إنْ وَجَدْته فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ أَوْ طَرِيقٍ مَيِّتٍ فَعَرِّفْهُ وَإِنْ وَجَدْته فِي خَرِبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» .

(وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه هُوَ الْمُزَنِيّ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ خَمْسٍ وَسَكَنَ الْمَدِينَةَ وَكَانَ أَحَدَ مَنْ يَحْمِلُ أَلْوِيَةَ مُزَيْنَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَهُوَ مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الْفُرُوعِ (الصَّدَقَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد)

وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةَ وَأَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ دُونَ الْخُمُسِ» قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ أَنْ رَوَى حَدِيثَ مَالِكٍ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا إقْطَاعُهُ.

وَأَمَّا الزَّكَاةُ فِي الْمَعَادِنِ دُونَ الْخُمُسِ فَلَيْسَتْ مَرْوِيَّةً عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي الْمَعَادِنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الْخُمُسُ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقَ وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى الثَّانِي وَهُوَ وُجُوبُ الْخُمُسِ لِقَوْلِهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ كَمَا سَلَفَ

ص: 536

‌بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

585 -

عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ: عَلَى الْعَبْدِ، وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) أَيْ الْإِفْطَارُ وَأُضِيفَتْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا كَمَا يَدُلُّ لَهُ مَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ: زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا» نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ بَدَلٌ مِنْ زَكَاةٍ، بَيَانٌ لَهَا «مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِقَوْلِهِ: " فَرَضَ " فَإِنَّهُ بِمَعْنَى أَلْزَمَ وَأَوْجَبَ.

قَالَ إِسْحَاقُ هِيَ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَكَأَنَّهُ مَا عُلِمَ فِيهَا الْخِلَافُ لِدَاوُدَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ قَائِلُونَ: إنَّهَا سُنَّةٌ وَتَأَوَّلُوا فَرَضَ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَدْ وَرَدَ هَذَا التَّأْوِيلُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ؛ لِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا نَزَلَتْ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا» فَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ وَلَوْ سَلِمَ صِحَّتُهُ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ أَمْرِهِ لَهُمْ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ثَانِيًا لَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ فَإِنَّهُ يَكْفِي الْأَمْرُ الْأَوَّلُ وَلَا يَرْفَعُهُ عَدَمُ الْأَمْرِ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ وُجُوبِهَا عَلَى الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا غَنِيًّا وَفَقِيرًا وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا «أَدُّوا صَاعًا مِنْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مَمْلُوكًا. أَمَّا الْغَنِيُّ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى»

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ: فِي إسْنَادِهِ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ (نَعَمْ) الْعَبْدُ تَلْزَمُ مَوْلَاهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَمَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَمْلِكُ تَلْزَمُهُ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ

ص: 537

586 -

وَلِابْنِ عَدِيٍّ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

يَلْزَمُ زَوْجَهَا وَالْخَادِمُ مَخْدُومَهُ وَالْقَرِيبَ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لِحَدِيثِ «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا الصَّغِيرُ فَتَلْزَمُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ كَمَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَزِمَتْ مُنْفِقَهُ كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: تَلْزَمُ الْأَبَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ كَمَا يَأْتِي.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خُرِّجَ عَلَى الْأَغْلَبِ فَلَا يُقَاوِمُهُ تَصْرِيحُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِيجَابِهَا عَلَى الصَّغِيرِ: وَهُوَ أَيْضًا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ صَاعٌ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَرَدَ صَاعٌ مِنْ زَبِيبٍ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) لِأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَلَامٌ طَوِيلٌ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا الرُّوَاةُ لِهَذَا الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهَا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ زِيَادَةٌ مِنْ عَدْلٍ فَتُقْبَلُ وَيَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَلْ يُخْرِجُهَا الْمُسْلِمُ عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ: تَجِبُ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ إلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ» وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ خَاصٌّ وَالْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ فَعُمُومُ قَوْلِهِ: " عَبْدُهُ " مُخَصِّصٌ بِقَوْلِهِ: " مِنْ الْمُسْلِمِينَ " وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: " إنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ " صِفَةٌ لِلْمُخْرِجِينَ لَا لِلْمُخْرَجِ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ يَأْبَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فَإِنَّ فِيهِ الْعَبْدَ وَكَذَا الصَّغِيرُ وَهُمْ مِمَّنْ يُخْرَجُ عَنْهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْإِسْلَامِ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُخْرِجِينَ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ «عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ» وَقَوْلُهُ «وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَادَرَةَ بِهَا هِيَ الْمَأْمُورُ بِهَا فَلَوْ أَخْرَجَهَا عَنْ الصَّلَاةِ أَثِمَ وَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا صَدَقَةَ فِطْرٍ وَصَارَتْ صَدَقَةً مِنْ الصَّدَقَاتِ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ.

586 -

وَلِابْنِ عَدِيٍّ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ «أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» .

(وَلِابْنِ عَدِيٍّ وَالدَّارَقُطْنِيّ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ)؛ لِأَنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ الْوَاقِدِيَّ

(أَغْنُوهُمْ) أَيْ الْفُقَرَاءَ (عَنْ الطَّوَافِ) فِي الْأَزِقَّةِ وَالْأَسْوَاقِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ (فِي هَذَا الْيَوْمِ) أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ وَإِغْنَاؤُهُمْ يَكُونُ بِإِعْطَائِهِمْ صَدَقَتَهُ أَوَّلَ الْيَوْمِ.

ص: 538

587 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلِأَبِي دَاوُد: لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إلَّا صَاعًا.

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُعْطِيهَا) أَيْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ (فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ لَبَنٌ مُجَفَّفٌ يَابِسٌ مُسْتَحْجَرٌ يُطْبَخُ بِهِ، كَمَا فِي النِّهَايَةِ.

وَلَا خِلَافَ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ صَاعٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْحِنْطَةِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ عَدَلَ النَّاسُ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ شَعِيرٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ فِي الْحِنْطَةِ أَنَّهُ يُخْرَجُ فِيهَا صَاعٌ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَرَادَ بِالطَّعَامِ الْحِنْطَةَ فِي حَدِيثِهِ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا حَقَّقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُ فِي الْقَمْحِ خَبَرًا ثَابِتًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ الْبُرُّ فِي الْمَدِينَةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنْهُ فَلَمَّا كَثُرَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَأَوْا أَنَّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ وَهُمْ الْأَئِمَّةُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعْدَلَ عَنْ قَوْلِهِمْ إلَّا إلَى قَوْلِ مِثْلِهِمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ أَبُو سَعِيدٍ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ قَالَ الرَّاوِي (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ) أَيْ الصَّاعَ (كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَبِي دَاوُد) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إلَّا صَاعًا) أَيْ مِنْ أَيِّ قُوتٍ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ " قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَ صَدَقَةِ رَمَضَانَ فَقَالَ: لَا أُخْرِجُ إلَّا مَا كُنْت أُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ؟ قَالَ: لَا، تِلْكَ فِعْلُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْمَلُ بِهَا ".

لَكِنَّهُ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: ذِكْرُ الْحِنْطَةِ فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَلَا أَدْرِي مِمَّنْ الْوَهْمُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَمَسَّكَ بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ مَنْ قَالَ بِالْمُدَّيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ وَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ

ص: 539

588 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ، وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

أَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَلُ صُحْبَةً مِنْهُ وَأَعْلَمُ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صَرَّحَ مُعَاوِيَةُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لَا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ " أَنَّهُ قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي أَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَأَخَذَ بِذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ " الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ؛ فَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ إيرَادِ أَحَادِيثَ فِي الْبَابِ مَا لَفْظُهُ: وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَوَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي نِصْفِ صَاعٍ وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنْت عِلَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ انْتَهَى.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» الْوَاقِعِ مِنْهُ فِي صَوْمِهِ (وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ) أَيْ صَلَاةِ الْعِيدِ (فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ)

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا لِقَوْلِهِ: " فَرَضَ " كَمَا سَلَفَ.

وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَاتِ تُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ.

وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ إخْرَاجِهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَأَنَّ وُجُوبَهَا مُؤَقَّتٌ فَقِيلَ: تَجِبُ مِنْ فَجْرِ أَوَّلِ شَوَّالٍ لِقَوْلِهِ «أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» وَقِيلَ: تَجِبُ مِنْ غُرُوبِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِقَوْلِهِ " طُهْرَةً لِلصَّائِمِ " وَقِيلَ: تَجِبُ بِمُضِيِّ الْوَقْتَيْنِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ.

وَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِهَا أَقْوَالٌ مِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهَا بِالزَّكَاةِ؛ فَقَالَ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا وَلَوْ إلَى عَامَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ فِي رَمَضَانَ لَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ لَهَا سَبَبَيْنِ: الصَّوْمَ وَالْإِفْطَارَ، فَلَا تَتَقَدَّمُهُمَا كَالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ، وَقِيلَ: لَا تُقَدَّمُ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهَا إلَّا مَا يُغْتَفَرُ كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ وَأَدِلَّةُ الْأَقْوَالِ كَمَا تَرَى.

وَفِي قَوْلِهِ " طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ " دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بِهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْآلِ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهَا كَالزَّكَاةِ تُصْرَفُ فِي الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ وَاسْتَقْوَاهُ الْمَهْدِيُّ لِعُمُومِ

ص: 540

‌بَابُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ

589 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَفِيهِ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} وَالتَّنْصِيصُ عَلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّخْصِيصُ فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَخْصِيصِ مَصْرِفِهَا فَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «أُمِرْت أَنْ آخُذَهَا مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ»

(بَابُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ) أَيْ النَّفْلِ

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ -) فِي تَعْدَادِ السَّبْعَةِ وَهُمْ «الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَافْتَرَقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (وَفِيهِ «رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

قِيلَ: الْمُرَادُ بِالظِّلِّ الْحِمَايَةُ وَالْكَنَفُ، كَمَا يُقَالُ: أَنَا فِي ظِلِّ فُلَانٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ ظِلُّ عَرْشِهِ وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ» وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَوْلُهُ (أَخْفَى) بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ وَقَوْلُهُ (حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ) مُبَالَغَةٌ فِي الْإِخْفَاءِ وَتَبْعِيدُ الصَّدَقَةِ عَنْ مَظَانِّ الرِّيَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ عَنْ شِمَالِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ إخْفَاءِ الصَّدَقَةِ عَلَى إبْدَائِهَا إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِي إظْهَارِهَا تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الِاقْتِدَاءِ وَأَنَّهُ يَحْرُسُ سِرَّهُ عَنْ دَاعِيَةِ الرِّيَاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} الْآيَةَ، وَالصَّدَقَةُ فِي الْحَدِيثِ عَامَّةٌ لِلْوَاجِبَةِ وَالنَّافِلَةِ فَلَا يُظَنُّ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالنَّافِلَةِ حَيْثُ جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ يُعْمَلُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: " وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ " فَإِنَّ الْمَرْأَةَ كَذَلِكَ إلَّا فِي الْإِمَامَةِ، وَلَا مَفْهُومَ أَيْضًا لِلْعَدَدِ فَقَدْ وَرَدَتْ خِصَالٌ أُخْرَى تَقْتَضِي الظِّلَّ وَأَبْلَغَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ إلَى ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ خَصْلَةً وَزَادَ عَلَيْهَا الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ حَتَّى أَبْلَغَهَا إلَى

ص: 541

590 -

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

591 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي إسْنَادِهِ لِينٌ

سَبْعِينَ وَأَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ ثُمَّ لَخَصَّهَا فِي كُرَّاسَةٍ سَمَّاهَا.

بِزَوْغِ الْهِلَالِ فِي الْخِصَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلظِّلَالِ

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ» أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعَمُّ مِنْ صَدَقَتِهِ الْوَاجِبَةِ وَالنَّافِلَةِ (حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ)

فِيهِ حَثٌّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي ظِلِّهَا فَيُحْتَمَلُ الْحَقِيقَةَ وَأَنَّهَا تَأْتِي أَعْيَانُ الصَّدَقَةِ فَتَدْفَعُ عَنْهُ حَرَّ الشَّمْسِ أَوْ الْمُرَادُ فِي كَنَفِهَا وَحِمَايَتِهَا.

وَمِنْ فَوَائِدِ صَدَقَةِ النَّفْلِ أَنَّهَا تَكُونُ تَوْفِيَةً لِصَدَقَةِ الْفَرْضِ إنْ وُجِدَتْ فِي الْآخِرَةِ نَاقِصَةً كَمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَفِيهِ «وَانْظُرُوا فِي زَكَاةِ عَبْدِي فَإِنْ كَانَ ضَيَّعَ مِنْهَا شَيْئًا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي نَافِلَةً مِنْ صَدَقَةٍ لِتُتِمُّوا بِهَا مَا نَقَصَ مِنْ الزَّكَاةِ» فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ وَذَلِكَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ» أَيْ مِنْ ثِيَابِهَا الْخُضْرِ (وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا) مُتَّصِفًا بِكَوْنِهِ (عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا) مُتَّصِفًا بِكَوْنِهِ (عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ الرَّحِيقِ) هُوَ الْخَالِصُ مِنْ الشَّرَابِ الَّذِي لَا غِشَّ فِيهِ (الْمَخْتُومِ) الَّذِي تُخْتَمُ أَوَانِيهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاسَتِهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي إسْنَادِهِ لِينٌ)

ص: 542

592 -

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

لَمْ يُبَيِّنْ الشَّارِحُ وَجْهَهُ وَفِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ لِلْمُنْذِرِيِّ فِي إسْنَادِهِ أَبُو خَالِدٍ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِالدَّالَانِيِّ وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَإِعْطَاؤُهَا مَنْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهَا وَكَوْنُ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا مِنْ جِنْسِ الْفِعْلِ

(وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ) أَكْثَرُ التَّفَاسِيرِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي وَالسُّفْلَى يَدُ السَّائِلِ وَقِيلَ: يَدُ الْمُتَعَفِّفِ وَلَوْ بَعْدَ أَنْ يَمُدَّ إلَيْهِ الْمُعْطِي وَعُلُوُّهَا مَعْنَوِيٌّ، وَقِيلَ: يَدُ الْآخِذِ لِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَقِيلَ: الْعُلْيَا الْمُعْطِيَةُ وَالسُّفْلَى الْمَانِعَةُ.

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ: الْيَدُ الْآخِذَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْمُعْطِيَةِ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ مَا أَرَى هَؤُلَاءِ إلَّا قَوْمًا اسْتَطَابُوا السُّؤَالَ فَهُمْ يَحْتَجُّونَ لِلدَّنَاءَةِ وَنِعْمَ مَا قَالَ.

وَقَدْ وَرَدَ التَّفْسِيرُ النَّبَوِيُّ بِأَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا الَّتِي تُعْطِي وَلَا تَأْخُذُ أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ «حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْيَدُ الْعُلْيَا» فَذَكَرَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْبُدَاءَةِ بِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُمْ الْأَهَمُّ.

وَفِيهِ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ مَا بَقِيَ بَعْدَ إخْرَاجِهَا صَاحِبُهَا مُسْتَغْنِيًا إذْ مَعْنَى " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ " مَا أَبْقَى الْمُتَصَدِّقُ مِنْ مَالِهِ مَا يَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى حَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ يَنْدَمُ غَالِبًا وَيُحِبُّ إذَا احْتَاجَ أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ، وَلَفْظُ الظَّهْرِ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُورَدُ فِي مِثْلِ هَذَا اتِّسَاعًا فِي الْكَلَامِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صَدَقَةِ الرَّجُلِ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إنَّهُ جَوَّزَهُ الْعُلَمَاءُ وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ وَمَعَ جَوَازِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ وَأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثُّلُثِ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ وَكَانَ صَبُورًا عَلَى الْفَاقَةِ وَلَا عِيَالَ لَهُ أَوْ لَهُ عِيَالٌ يَصْبِرُونَ فَلَا كَلَامَ فِي حُسْنِ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ) أَيْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ (يُعِفَّهُ اللَّهُ) أَيْ يُعِينُهُ اللَّهُ عَلَى الْعِفَّةِ (وَمَنْ يَسْتَغْنِ) بِمَا عِنْدَهُ وَإِنْ قَلَّ (يُغْنِهِ اللَّهُ) بِإِلْقَاءِ الْقَنَاعَةِ فِي قَلْبِهِ وَالْقَنُوعِ بِمَا عِنْدَهُ.

ص: 543

593 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

594 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ بِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ) الْجُهْدُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ: الْمُبَالَغَةُ وَالْغَايَةُ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ قَدْرُ مَا يَحْتَمِلُهُ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَالِ وَهَذَا بِمَعْنَى حَدِيثِ «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ أَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عَرْضِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَلَفْظُهُ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَقَوْلُهُ ‌

«أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ»

أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْفَاقَةِ وَالشِّدَّةِ وَالِاكْتِفَاءِ بِأَقَلِّ الْكِفَايَةِ وَسَاقَ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ

(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ بِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الزَّوْجَةَ وَقَدْ وَرَدَتْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَلَدِ

ص: 544

595 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَجْرِ بَعْضٍ شَيْئًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَفِيهِ أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى النَّفْسِ صَدَقَةٌ وَأَنَّهُ يَبْدَأُ بِهَا ثُمَّ عَلَى الزَّوْجَةِ ثُمَّ عَلَى الْوَلَدِ ثُمَّ عَلَى الْعَبْدِ إنْ كَانَ أَوْ مُطْلَقُ مَنْ يَخْدُمُهُ ثُمَّ حَيْثُ شَاءَ وَيَأْتِي فِي النَّفَقَاتِ تَحْقِيقُ النَّفَقَةِ عَلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مُسْرِفَةٍ فِي الْإِنْفَاقِ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ وَلِلْخَادِمِ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَالْمُرَادُ إنْفَاقُهَا مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي لَهَا فِيهِ تَصَرُّفٌ بِصِفَتِهِ لِلزَّوْجِ وَمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إضْرَارٍ وَأَنْ لَا يُخِلَّ بِنَفَقَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ لَهُ وَلَا يَظْهَرُ بِهِ النُّقْصَانُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إذَا أَذِنَ الزَّوْجُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامُ قَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا» .

إلَّا أَنَّهُ قَدْ عَارَضَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ» وَلَعَلَّهُ يُقَالُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إنَّ إنْفَاقَهَا مَعَ إذْنِهِ تَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَجْرَ كَامِلًا وَمَعَ عَدَمِ الْإِذْنِ نِصْفَ الْأَجْرِ، وَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ إنْفَاقِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ إذَا عَرَفَتْ مِنْهُ الْفَقْرَ أَوْ الْبُخْلَ فَلَا يَحِلُّ لَهَا الْإِنْفَاقُ إلَّا بِإِذْنِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَرَفَتْ مِنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ جَازَ لَهَا الْإِنْفَاقُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْخَادِمِ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَصَالِحِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ فَقَالَ: الْمَرْأَةُ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِ الزَّوْجِ وَالتَّصَرُّفُ فِي بَيْتِهِ فَجَازَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِخِلَافِ الْخَادِمِ فَلَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ مَوْلَاهُ فَيُشْتَرَطُ الْإِذْنُ فِيهِ.

وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا التَّصَرُّفُ إلَّا فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ وَإِذَا تَصَدَّقَتْ مِنْهُ اخْتَصَّتْ بِأَجْرِهِ، ثُمَّ ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْأَجْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِثْلِ حُصُولُ الْأَجْرِ

ص: 545

596 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك أَمَرْت الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدُهُ أَحَقُّ مَنْ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْهِمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ أَجْرُ الْمُكْتَسِبِ أَوْفَرَ إلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ " فَهُوَ يُشْعِرُ بِالْمُسَاوَاةِ

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك أَمَرْت الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدُهُ أَحَقُّ مَنْ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْهِمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْمُتَصَدِّقِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى.

وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي صَدَقَةِ الْوَاجِبِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّطَوُّعُ وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ «عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُجْزِي عَنَّا أَنْ نَجْعَلَ الصَّدَقَةَ فِي زَوْجٍ فَقِيرٍ وَأَبْنَاءِ أَخٍ أَيْتَامٍ فِي حُجُورِنَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَك أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ وَهُوَ أَوْضَحُ فِي صَدَقَةِ الْوَاجِبِ لِقَوْلِهَا: " أَيُجْزِي " وَلِقَوْلِهِ: " صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " إذْ الصَّدَقَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَتَبَادَرُ فِي الْوَاجِبَةِ وَبِهَذَا جَزَمَ الْمَازِنِيُّ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ صَرْفِ زَكَاةِ الْمَرْأَةِ فِي زَوْجِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَلَا دَلِيلَ لَهُ يُقَاوِمُ النَّصَّ الْمَذْكُورَ.

وَمَنْ اسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّهَا تَعُودُ إلَيْهَا بِالنَّفَقَةِ فَكَأَنَّهَا مَا خَرَّجَتْ عَنْهَا فَقَدْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَنْعُ صَرْفِهَا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فِي زَوْجِهَا مَعَ أَنَّهَا يَجُوزُ صَرْفُهَا فِيهِ اتِّفَاقًا.

وَأَمَّا الزَّوْجُ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُ صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ فِي زَوْجَتِهِ قَالُوا:؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَتَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الزَّكَاةِ قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ وَعِنْدِي فِي هَذَا الْأَخِيرِ تَوَقُّفٌ؛ لِأَنَّ غِنَى الْمَرْأَةِ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا لَا يُصَيِّرُهَا غَنِيَّةً الْغِنَى الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ حِلِّ الزَّكَاةِ لَهَا.

وَفِي قَوْلِهِ (وَوَلَدُهُ) مَا يَدُلُّ عَلَى إجْزَائِهَا فِي الْوَلَدِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى الْوَلَدِ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَةِ أَوْ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى الزَّوْجِ وَهُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى الْأَوْلَادِ أَوْ أَنَّ الْأَوْلَادَ

ص: 546

597 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

598 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

لِلزَّوْجِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْهَا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " عَلَى زَوْجِهَا وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِهَا " وَلَعَلَّهُمْ أَوْلَادُ زَوْجِهَا وَسُمُّوا أَيْتَامًا بِاعْتِبَارِ الْيُتْمِ مِنْ الْأُمِّ

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَزَالُ الرَّجُلُ) وَالْمَرْأَةُ (يَسْأَلُ النَّاسَ) أَمْوَالَهُمْ (حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ فَعَيْنٌ مُهْمَلَةٌ (لَحْمٍ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى قُبْحِ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ تُذْهِبُ مِنْ وَجْهِهِ قِطْعَةَ لَحْمٍ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ؛ لِقَوْلِهِ لَا يَزَالُ وَلَفْظُ النَّاسِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ كَمَا يَأْتِي.

وَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فِي قُبْحِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا وَقَيَّدَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَنْ يَسْأَلُ تَكَثُّرًا كَمَا يَأْتِي يَعْنِي مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ فَإِنَّهُ تَرْجَمَ لَهُ: بِبَابِ مَنْ سَأَلَ تَكَثُّرًا لَا مَنْ سَأَلَ لِحَاجَةٍ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ وَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُ الْغِنَى الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ السُّؤَالِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ يَأْتِي سَاقِطًا لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا جَاهٍ أَوْ يُعَذَّبُ فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَسْقُطَ لَحْمُهُ عُقُوبَةً لَهُ فِي مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ لِكَوْنِهِ أَذَلَّ وَجْهَهُ بِالسُّؤَالِ أَوْ أَنَّهُ يُبْعَثُ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ شِعَارَهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَسْأَلُ وَهُوَ غَنِيٌّ حَتَّى يُخْلَقَ وَجْهُهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَجْهٌ» وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ.

598 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّ قَوْلَهُ " فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا " مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِالنَّارِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَيْ أَنَّهُ يَصِيرُ مَا يَأْخُذُهُ جَمْرًا يُكْوَى بِهِ كَمَا فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ وَقَوْلُهُ " فَلْيَسْتَقِلَّ " أَمْرٌ لِلتَّهَكُّمِ وَمِثْلُهُ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ لِلتَّهْدِيدِ مِنْ بَابِ {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وَهُوَ مُشْعِرٌ بِتَحْرِيمِ السُّؤَالِ لِلِاسْتِكْثَارِ.

ص: 547

599 -

وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةٍ مِنْ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

600 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةٍ مِنْ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةٍ مِنْ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ بِهَا أَيْ بِقِيمَتِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى مَا دَلَّ قَبْلَهُ عَلَيْهِ مِنْ قُبْحِ السُّؤَالِ مَعَ الْحَاجَةِ وَزَادَ بِالْحَثِّ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَلَوْ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشَقَّةَ وَذَلِكَ لِمَا يُدْخِلُ السَّائِلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَذِلَّةِ الرَّدِّ إنْ لَمْ يُعْطِهِ الْمَسْئُولُ وَلِمَا يُدْخِلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنْ الضِّيقِ فِي مَالِهِ إنْ أَعْطَى كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِي سُؤَالِ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى التَّكَسُّبِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ حَرَامٌ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ.

وَالثَّانِي - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَنَّهُ لَا يُذِلُّ نَفْسَهُ وَلَا يُلِحُّ فِي السُّؤَالِ وَلَا يُؤْذِي الْمَسْئُولَ فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُهَا فَهُوَ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ

(وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ إلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) أَيْ‌

‌ سُؤَالُ الرَّجُلِ أَمْوَالَ النَّاسِ كَدٌّ أَيْ خَدْشٌ

وَهُوَ الْأَثَرُ وَفِي رِوَايَةٍ كُدُوحٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَأَمَّا سُؤَالُهُ مِنْ السُّلْطَانِ فَإِنَّهُ لَا مَذَمَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْأَلُ مِمَّا هُوَ حَقٌّ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا مِنَّةَ لِلسُّلْطَانِ عَلَى السَّائِلِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فَهُوَ كَسُؤَالِ الْإِنْسَانِ وَكِيلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي لَدَيْهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَإِنْ سَأَلَ السُّلْطَانَ تَكَثُّرًا فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ فِيهِ وَلَا إثْمَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ قَسِيمًا لِلْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَقَدْ فَسَّرَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ حَدِيثَ قَبِيصَةَ وَفِيهِ «لَا يَحِلُّ السُّؤَالُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ ذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ» الْحَدِيثَ وَقَوْلُهُ (أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ) أَيْ لَا يَتِمُّ لَهُ حُصُولُهُ مَعَ ضَرُورَتِهِ إلَّا بِسُؤَالٍ وَيَأْتِي حَدِيثُ قَبِيصَةَ قَرِيبًا وَهُوَ مُبَيِّنٌ وَمُفَسِّرٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ

ص: 548

‌بَابُ قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ

601 -

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ

(بَابُ قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ) أَيْ قِسْمَةُ اللَّهِ لِلصَّدَقَاتِ بَيْنَ مَصَارِفِهَا

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ أَوْ غَارِمٍ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مِسْكِينٍ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى لِغَنِيٍّ مِنْهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ) ظَاهِرُهُ إعْلَالُ مَا أَخْرَجَهُ الْمَذْكُورُونَ جَمِيعًا.

وَفِي الشَّرْحِ أَنَّ الَّتِي أُعِلَّتْ بِالْإِرْسَالِ رِوَايَةُ الْحَاكِمِ الَّتِي حَكَمَ بِصِحَّتِهَا.

وَقَوْلُهُ: " لِغَنِيٍّ " قَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَقْوَالُ فِي حَدِّ الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ قَبْضُ الصَّدَقَةِ عَلَى أَقْوَالٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا مَا تَسْكُنُ لَهُ النَّفْسُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمَبْحَثَ لَيْسَ لُغَوِيًّا حَتَّى يُرْجَعَ فِيهِ إلَى تَفْسِيرِ لُغَةٍ وَلِأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي قَدْرٍ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُعَيَّنَةٌ لِقَدْرِ الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ أَلْحَفَ» وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا» وَأَخْرَجَ أَيْضًا «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ النَّارِ قَالُوا: وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يُعَشِّيهِ وَيُغَدِّيهِ» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فَهَذَا قَدْرُ الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ مَعَهُ السُّؤَالُ.

وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ مَعَهُ قَبْضُ الزَّكَاةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أُمِرْت أَنْ آخُذَهَا مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ» فَقَابَلَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَأَفَادَ أَنَّهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ تَرِدُ فِيهِ الصَّدَقَةُ هَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةِ جَوَابِ سُؤَالٍ وَأَفَادَ حَدِيثُ الْبَابِ حِلَّهَا لِلْعَامِلِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ أَجْرَهُ عَلَى عَمَلِهِ لَا لِفَقْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ فَإِنَّهَا قَدْ وَافَقَتْ مَصْرِفَهَا وَصَارَتْ مِلْكًا لَهُ فَإِذَا بَاعَهَا فَقَدْ بَاعَ مَا لَيْسَ بِزَكَاةٍ حِينَ الْبَيْعِ بَلْ

ص: 549

602 -

وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلَانِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَلَّبَ فِيهِمَا النَّظَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَوَّاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ

مَا هُوَ مِلْكٌ لَهُ وَكَذَلِكَ الْغَارِمُ تَحِلُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَكَذَلِكَ الْغَازِي يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَجَهَّزَ مِنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

قَالَ الشَّارِحُ وَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ كَانَ قَائِمًا بِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا.

وَأَدْخَلَ أَبُو عُبَيْدٍ مَنْ كَانَ فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ فِي الْعَامِلِينَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ قَالَ (بَابُ رِزْقِ الْحَاكِمِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) وَأَرَادَ بِالرِّزْقِ مَا يَرْزُقُهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا وَالتَّدْرِيسِ فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ فِيمَا يَقُومُ بِهِ مُدَّةَ الْقِيَامِ بِالْمَصْلَحَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا.

قَالَ الطَّبَرِيُّ إنَّهُ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى جَوَازِ أَخْذِ الْقَاضِي الْأُجْرَةَ عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُ الْحُكْمُ عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ غَيْرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ السَّلَفِ كَرِهُوا ذَلِكَ وَلَمْ يُحَرِّمُوهُ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ إنْ كَانَتْ جِهَةُ الْأَخْذِ مِنْ الْحَلَالِ كَانَ جَائِزًا إجْمَاعًا وَمَنْ تَرَكَهُ فَإِنَّمَا تَرَكَهُ تَوَرُّعًا وَأَمَّا إذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى التَّرْكُ وَيَحْرُمُ إذَا كَانَ الْمَالُ يُؤْخَذُ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَاخْتُلِفَ إذَا كَانَ الْغَالِبُ حَرَامًا.

وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْ الْمُتَحَاكِمَيْنِ فَفِي جَوَازِهِ خِلَافٌ وَمَنْ جَوَّزَهُ فَقَدْ شَرَطَ لَهُ شَرَائِطَ وَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا لَمَّا تَعَرَّضَ لَهُ الشَّارِحُ هُنَا تَعَرَّضْنَا لَهُ

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ آخِرُهُ رَاءٌ وَعَبْدُ اللَّهِ يُقَالُ: إنَّهُ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلَانِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَلَّبَ فِيهِمَا النَّظَرَ» فَسَّرَتْ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى بِلَفْظِ فَرَفَعَ فِينَا النَّظَرَ وَخَفَضَهُ «فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَوَّاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَا أَجْوَدُهُ مِنْ حَدِيثٍ وَقَوْلُهُ إنْ شِئْتُمَا أَيْ أَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ ذِلَّةٌ فَإِنْ رَضِيتُمَا بِهَا أَعْطَيْتُكُمَا أَوْ أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَى الْجَلْدِ فَإِنْ شِئْتُمَا تَنَاوُلَ الْحَرَامِ أَعْطَيْتُكُمَا قَالَهُ تَوْبِيخًا وَتَغْلِيظًا.

وَالْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ وَإِنْ اُخْتُلِفَ

ص: 550

603 -

وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ‌

‌ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ:

رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.

فِي تَحْقِيقِ الْغَنِيِّ كَمَا سَلَفَ وَعَلَى الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ؛ لِأَنَّ حِرْفَتَهُ صَيَّرَتْهُ فِي حُكْمِ الْغَنِيِّ وَمَنْ أَجَازَ لَهُ تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ بِمَا لَا يُقْبَلُ.

(وَعَنْ قَبِيصَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ فَمُوَحَّدَةٌ مَكْسُورَةٌ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَصَادٌ مُهْمَلَةٌ (ابْنِ مُخَارِقٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ فَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ فَقَافٍ (الْهِلَالِيِّ) وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ عِدَادَهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ قَطَنٌ وَغَيْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ» بِالْكَسْرِ بَدَلًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَيَصِحُّ رَفْعُهُ بِتَقْدِيرِ أَحَدُهُمْ (تَحَمَّلَ حَمَالَةً) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْمَالُ يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ (فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ) أَيْ آفَةٌ (اجْتَاحَتْ) أَيْ أَهْلَكَتْ (مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا) بِكَسْرِ الْقَافِ مَا يَقُومُ بِحَاجَتِهِ وَسَدِّ خُلَّتِهِ (مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ) أَيْ حَاجَةٌ (حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ مَقْصُورُ الْعَقْلِ (مِنْ قَوْمِهِ)؛ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُ بِحَالِهِ يَقُولُونَ أَوْ قَائِلِينَ (لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا) بِكَسْرِ الْقَافِ (مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ (يَأْكُلُهَا) أَيْ الصَّدَقَةَ أَنَّثَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السُّحْتَ عِبَارَةً عَنْهَا وَإِلَّا فَالضَّمِيرُ لَهُ (سُحْتًا) السُّحْتُ الْحَرَامُ الَّذِي لَا يَحِلُّ كَسْبُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الْبَرَكَةَ أَيْ يُذْهِبُهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ: (الْأَوَّلُ) لِمَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً وَذَلِكَ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا أَوْ دِيَةً أَوْ يُصَالِحَ بِمَالٍ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا

ص: 551

604 -

وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ مِنْ مَالِهِ وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ يَحِلُّ لَهُمْ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ كَمَا سَلَفَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.

(وَالثَّانِي) مَنْ أَصَابَ مَالَهُ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ أَوْ أَرْضِيَّةٌ كَالْبَرْدِ وَالْغَرَقِ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَقُومُ بِعَيْشِهِ حَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مَا يَقُومُ بِحَالِهِ وَيَسُدَّ خُلَّتَهُ.

(وَالثَّالِثُ) مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُ بِحَالِهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ لَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَبَاوَةُ وَالتَّغْفِيلُ وَإِلَى كَوْنِهِمْ ثَلَاثَةً ذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ لِلنَّصِّ فَقَالُوا: لَا يُقْبَلُ فِي الْإِعْسَارِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ.

وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى كِفَايَةِ الِاثْنَيْنِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى النَّدْبِ.

ثُمَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْغِنَى ثُمَّ افْتَقَرَ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا لَهُ بِالْفَاقَةِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ السُّؤَالِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَنَّهَا تَسْقُطُ بِهِ الْعَدَالَةُ وَالظَّاهِرُ مِنْ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ السُّؤَالِ إلَّا لِلثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ السُّلْطَانَ كَمَا سَلَفَ.

(وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ) بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ سَكَنَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ تَحَوَّلَ عَنْهَا إلَى دِمَشْقَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَكَانَ قَدْ أَتَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَامِلًا عَلَى بَعْضِ الزَّكَاةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ وَفِيهِ قِصَّةٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» هُوَ بَيَانٌ لِعِلَّةِ التَّحْرِيمِ (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ «وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) فَأَفَادَ أَنَّ لَفْظَ لَا تَنْبَغِي أَرَادَ بِهِ لَا تَحِلُّ فَيُفِيدُ التَّحْرِيمَ أَيْضًا وَلَيْسَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَذْكُورِ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ، فَأَمَّا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ إجْمَاعٌ وَكَذَا ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَتِهَا عَلَى آلِهِ أَبُو طَالِبٍ وَابْنُ قُدَامَةَ وَنُقِلَ جَوَازٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ: إنْ مُنِعُوا خُمُسَ الْخُمُسِ وَالتَّحْرِيمُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَمَنْ قَالَ بِخِلَافِهَا قَالَ مُتَأَوِّلًا لَهَا وَلَا حَاجَةَ لِلتَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّأْوِيلُ إذَا قَامَ عَلَى الْحَاجَةِ إلَيْهِ دَلِيلٌ وَالتَّعْلِيلُ بِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ قَاضٍ بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ

ص: 552

605 -

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: مَشَيْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْت بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ لَا النَّافِلَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَطْهُرُ بِهَا مَنْ يُخْرِجُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} إلَّا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صَدَقَةِ النَّفْلِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ.

وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى تَحْرِيمِ صَدَقَةِ النَّفْلِ أَيْضًا عَلَى الْآلِ وَاخْتَرْنَاهُ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرَّمَ آلَهُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مَحَلًّا لِلْغُسَالَةِ وَشَرَّفَهُمْ عَنْهَا وَهَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ وَقَدْ وَرَدَ التَّعْلِيلُ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا بِأَنَّ لَهُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يَكْفِيهِمْ وَيُغْنِيهِمْ فَهُمَا عِلَّتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِهِمْ عَنْ الْخُمُسِ أَنْ تَحِلَّ لَهُمْ فَإِنَّ مَنْ مَنَعَ الْإِنْسَانَ عَنْ مَالِهِ وَحَقِّهِ لَا يَكُونُ مَنْعُهُ لَهُ مُحَلِّلًا مَا حَرُمَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.

وَفِي الْمُرَادِ بِالْآلِ خِلَافٌ وَالْأَقْرَبُ مَا فَسَرَّهُمْ بِهِ الرَّاوِي وَهُوَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ بِأَنَّهُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ. انْتَهَى.

(قُلْت) وَيُرِيدُ وَآلُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَهَذَا تَفْسِيرُ الرَّاوِي وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَفْسِيرِ غَيْرِهِ فَالرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آلِ مُحَمَّدٍ هُنَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْآلِ مُشْتَرَكٌ وَتَفْسِيرُ رَاوِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ مَعَانِيهِ؛ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَسَرَّهُمْ بِهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا تَفْسِيرُهُمْ هُنَا بِبَنِي هَاشِمٍ اللَّازِمُ مِنْهُ دُخُولُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَوْلَادِ أَبِي لَهَبٍ وَنَحْوِهِمْ فَهُوَ تَفْسِيرُ الرَّاوِي وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ بَنُو الْمُطَّلِبِ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ كَمَا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ كَمَا يُفِيدُهُ.

وَهُوَ قَوْلُهُ (وَعَنْ جُبَيْرٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ (بْنِ مُطْعِمٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ابْنِ نَوْفَلٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيِّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَنَزَلَ الْمَدِينَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ (قَالَ: مَشَيْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْت بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتنَا وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ) الْمُرَادُ بِبَنِي هَاشِمٍ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ الْحَارِثِ وَلَمْ

ص: 553

606 -

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي، فَإِنَّك تُصِيبُ مِنْهَا، فَقَالَ: لَا، حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْأَلَهُ. فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ

يُدْخِلْ آلَ أَبِي لَهَبٍ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهَا فِي عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ وَقِيلَ: بَلْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ عُتْبَةُ وَمُعْتَبٌ ابْنَا أَبِي لَهَبٍ وَثَبَتَا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ (شَيْءٌ وَاحِدٌ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ يُشَارِكُونَ بَنِي هَاشِمٍ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى وَتَحْرِيمِ الزَّكَاةِ أَيْضًا دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي النَّسَبِ سَوَاءً، وَعَلَّلَهُ صلى الله عليه وسلم بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْمُوَالَاةِ كَمَا فِي لَفْظٍ آخَرَ تَعْلِيلُهُ «بِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ» فَصَارُوا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ وَذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّفَضُّلِ لَا الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، بَلْ قَوْلُهُ:" شَيْءٌ وَاحِدٌ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْخُمُسِ وَتَحْرِيمِ الزَّكَاةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ هُمْ أَوْلَادُ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مِنْ أَوْلَادِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَعُثْمَانَ مِنْ أَوْلَادِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ أَوْلَادُ عَمٍّ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِذَا قَالَ عُثْمَانُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّهُمْ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ أَبْنَاءُ عَمٍّ.

(وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ) هُوَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ: اسْمُهُ إبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: هُرْمُزُ، وَقِيلَ: كَانَ لِلْعَبَّاسِ فَوَهَبَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَسْلَمَ الْعَبَّاسُ بَشَّرَ أَبُو رَافِعٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِسْلَامِهِ فَأَعْتَقَهُ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ) أَيْ عَلَى قَبْضِهَا (مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ) اسْمُهُ الْأَرْقَمُ (فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي فَإِنَّك تُصِيبُ مِنْهَا فَقَالَ: حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ).

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَوْلَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حُكْمُهُمْ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَدَمِ حِلِّ الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِبَنِي هَاشِمٍ وَلِمَوَالِيهِمْ انْتَهَى. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي النَّسَبِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ

ص: 554

607 -

وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ الْعَطَاءَ، فَيَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَيَقُولُ،: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فِي الْخُمُسِ سَهْمٌ: وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّصَّ لَا تُقَدَّمُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْعِلَلُ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ فَإِنَّهَا تَرْفَعُ النَّصَّ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا خِلَافُ الثَّابِتِ مِنْ النَّصِّ ثُمَّ هَذَا نَصٌّ عَلَى تَحْرِيمِ الْعِمَالَةِ عَلَى الْمَوَالِي وَبِالْأَوْلَى عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الرَّجُلَ الَّذِي عَرَضَ عَلَى أَبِي رَافِعٍ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى بَعْضِ عَمَلِهِ الَّذِي وَلَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَنَالَ عِمَالَةً لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ أُجْرَتِهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَبِي رَافِعٍ أَخْذُهُ إذْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْخُمُسِ الَّذِينَ تَحِلُّ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَ ذَلِكَ الرَّجُلَ أُجْرَتَهُ فَيُعْطِيهِ مِنْ مِلْكِهِ فَهُوَ حَلَالٌ؛ لِأَبِي رَافِعٍ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِيمَا سَلَفَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى مِنْهَا.

. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي عُمَرَ الْعَطَاءَ فَيَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي؛ فَيَقُولُ: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ وَمَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ» بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالْفَاءِ مِنْ الْإِشْرَافِ وَهُوَ التَّعَرُّضُ لِلشَّيْءِ وَالْحِرْصُ عَلَيْهِ (وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ ") أَيْ لَا تُعَلِّقْهَا بِطَلَبِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) الْحَدِيثُ أَفَادَ أَنَّ الْعَامِلَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِمَالَةَ وَلَا يَرُدَّهَا فَإِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْعِمَالَةِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.

وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: " فَخُذْهُ " لِلنَّدَبِ وَقِيلَ: لِلْوُجُوبِ قِيلَ: وَهُوَ مَنْدُوبٌ فِي كُلِّ عَطِيَّةٍ يُعْطَاهَا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ قَبُولُهَا بِالشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ. هَذَا إذَا كَانَ الْمَالُ الَّذِي يُعْطِيهِ مِنْهُ حَلَالًا.

وَأَمَّا عَطِيَّةُ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ مَالُهُ حَلَالٌ وَحَرَامٌ. فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إنَّ أَخْذَهَا جَائِزٌ مُرَخَّصٌ فِيهِ قَالَ: وَحُجَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْيَهُودِ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وَقَدْ «رَهَنَ صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَكَذَا أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ» . وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ ثَمَنِ الْخِنْزِيرِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْبَاطِلَةِ. انْتَهَى.

وَفِي الْجَامِعِ الْكَافِي أَنَّ عَطِيَّةَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ لَا تُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ مَالِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ قَبُولُهُ وَتَسْلِيمُهُ إلَى مَالِكِهِ وَإِنْ كَانَ

ص: 555

‌كتاب الصيام

608 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

مُلْتَبَسًا فَهُوَ مَظْلِمَةٌ يَصْرِفُهَا عَلَى مُسْتَحِقِّهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْنَ مَالِ الْجَائِرِ فَفِيهِ تَقْلِيلٌ لِبَاطِلِهِ وَأَخْذُ مَا يَسْتَعِينُ بِإِنْفَاقِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْمَنَ الْقَابِضُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُحْسِنِ الَّذِي جُبِلَتْ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا وَأَنْ لَا يُوهَمَ الْغَيْرُ أَنَّ السُّلْطَانَ عَلَى الْحَقِّ حَيْثُ قَبَضَ مَا أَعْطَاهُ وَقَدْ بَسَطْنَا فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا.

(كتاب الصيام) الصِّيَامُ لُغَةً الْإِمْسَاكُ وَفِي الشَّرْعِ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي النَّهَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْإِمْسَاكُ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ تُفَصِّلُهَا الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ.

وَكَانَ مَبْدَأُ فَرْضِهِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى شَهْرِ رَمَضَانَ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا «لَا تَقُولُوا: جَاءَ رَمَضَانُ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَلَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ» حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُقَاوِمُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلٌ) كَذَا فِي نُسَخِ بُلُوغِ الْمَرَامِ وَلَفْظُهُ فِي الْبُخَارِيِّ " إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ " قَالَ الْمُصَنِّفُ يَكُونُ تَامَّةٌ أَيْ يُوجَدُ رَجُلٌ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ " إلَّا رَجُلًا "، قُلْت: وَهُوَ قِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ مَذْكُورٍ (كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ قَبْلَ رَمَضَانَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَرِهُوا أَنْ يَتَعَجَّلَ الرَّجُلُ الصِّيَامَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ لِمَعْنَى رَمَضَانَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: " لِمَعْنَى رَمَضَانَ " تَقْيِيدٌ لِلنَّهْيِ بِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ الصَّوْمِ احْتِيَاطًا لَا لَوْ كَانَ الصَّوْمُ صَوْمًا مُطْلَقًا

ص: 556

609 -

وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم» . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.

كَالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ وَالنَّذْرِ وَنَحْوِهِ (قُلْت) وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعْدَ هَذَا التَّقْيِيدِ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِأَيِّ صَوْمٍ كَانَ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ عَامٌّ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ إلَّا الصَّوْمَ مَنْ اعْتَادَ صَوْمَ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ، وَوَافَقَ ذَلِكَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ وَلَوْ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم الصَّوْمَ الْمُقَيَّدَ بِمَا ذَكَرَ لَقَالَ: إلَّا مُتَنَفِّلًا أَوْ نَحْوَ هَذَا اللَّفْظِ.

وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ عَلَّقَ الدُّخُولَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ فَالْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ أَمْرًا وَنَهْيًا. وَفِيهِ إبْطَالٌ لِمَا يَفْعَلُهُ الْبَاطِنِيَّةُ مِنْ تَقَدُّمِ الصَّوْمِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ قَبْلَ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» . فِي مَعْنَى مُسْتَقْبِلِينَ لَهَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يُفِيدُ أَنَّ اللَّامَ لَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ وَرَدَتْ لَهُ فِي مَوَاضِعَ وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّوْمِ مِنْ بَعْدِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ يَوْمِ سَادِسَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا» أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ وَقِيلَ: إنَّهُ يُكْرَهُ بَعْدَ الِانْتِصَافِ وَيَحْرُمُ قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ مِنْ بَعْدِ انْتِصَافِهِ وَيَحْرُمُ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَمَّا جَوَازُ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ضَعِيفٌ، قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ: إنَّهُ مُنْكَرٌ وَأَمَّا تَحْرِيمُ الثَّانِي فَلِحَدِيثِ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ.

(وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ) مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ مُسْنَدٌ إلَى (فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ) إلَى عَمَّارٍ وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ الْحَاكِمَ وَأَنَّهُمْ وَصَلُوهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ عِنْدَهُمْ «كُنَّا عِنْدَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَأُتِيَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَقَالَ: كُلُوا فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ إلَخْ» (الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ مُسْنَدٌ عِنْدَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَفْظًا مَرْفُوعٌ حُكْمًا

ص: 557

610 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ - وَلِمُسْلِمٍ «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ»

وَمَعْنَاهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ اسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ بِصَوْمٍ وَأَحَادِيثِ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ لِرُؤْيَتِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ فِي لَيْلِهِ بِغَيْمٍ سَاتِرٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَكَوْنُهُ مِنْ شَعْبَانَ وَالْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ صَوْمِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ وَعَدَّهُ عِصْيَانًا؛ لِأَبِي الْقَاسِمِ وَالْأَدِلَّةُ مَعَ الْمُحَرِّمِينَ وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ أَنَّ عَلِيًّا عليه السلام قَالَ ": لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ " فَهُوَ أَثَرٌ مُنْقَطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَوْمِ شَكٍّ مُجَرَّدٍ بَلْ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ وَقَالَ: لَأَنْ أَصُومَ إلَخْ وَمِمَّا هُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو يَعْلَى وَأَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ بِلَفْظِ «وَلَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِيَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَيْ هِلَالِ رَمَضَانَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَاسِعَةٌ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

. (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ أَيْ الْهِلَالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ غَيْمٌ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ لِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ وَإِفْطَارِهِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ لِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ وَظَاهِرُهُ اشْتِرَاطُ رُؤْيَةِ الْجَمِيعِ لَهُ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ لَكِنْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ

ص: 558

611 -

وَلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ»

الشَّرْعِيُّ مِنْ إخْبَارِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ أَوْ الِاثْنَيْنِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ فَمَعْنَى إذَا رَأَيْتُمُوهُ أَيْ إذَا وُجِدَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ الرُّؤْيَةُ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ بَلَدٍ رُؤْيَةٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبِلَادِ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " إذَا رَأَيْتُمُوهُ " خِطَابٌ لِأُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ بِهِ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ لَيْسَ عَلَى أَحَدِهَا دَلِيلٌ نَاهِضٌ وَالْأَقْرَبُ لُزُومُ أَهْلِ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي عَلَى سَمْتِهَا وَفِي قَوْلِهِ: (لِرُؤْيَتِهِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَالْإِفْطَارُ وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْآلِ وَأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الصَّوْمِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِفْطَارِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْطِرُ وَيُخْفِيه، وَقَالَ الْأَكْثَرُ: يَسْتَمِرُّ صَائِمًا احْتِيَاطًا كَذَا قَالَهُ فِي الشَّرْحِ وَلَكِنَّهُ تَقَدَّمَ لَهُ فِي أَوَّلِ بَابِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّهُ يَتْرُكُ يَقِينَ نَفْسِهِ وَيُتَابِعُ حُكْمَ النَّاسِ إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيَّ وَأَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حُكْمُ نَفْسِهِ فِيمَا يَتَيَقَّنُهُ فَنَاقَضَ هُنَا مَا سَلَفَ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكُرَيْبٍ إنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَهُوَ بِالشَّامِ بَلْ يُوَافِقُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَيَصُومُ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ بِاعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الشَّامِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ. وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ وَلَيْسَ بِنَصٍّ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ لِاحْتِمَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَالْحَقُّ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِيَقِينِ نَفْسِهِ صَوْمًا وَإِفْطَارًا وَيَحْسُنُ التَّكَتُّمُ بِهَا صَوْنًا لِلْعِبَادِ عَنْ إثْمِهِمْ بِإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِ (وَلِمُسْلِمٍ) أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» . وَلِلْبُخَارِيِّ أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ (فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ) قَوْلُهُ: " فَاقْدُرُوا لَهُ " هُوَ أَمْرٌ هَمْزَتُهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ وَتُكْسَرُ الدَّالُ وَتُضَمُّ، وَقِيلَ: الضَّمُّ خَطَأٌ، وَفَسَّرَ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلُهُ:" فَاقْدُرُوا لَهُ " ثَلَاثِينَ وَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ، وَالْمَعْنَى أَفْطِرُوا يَوْمَ الثَّلَاثِينَ وَاحْسِبُوا تَمَامَ الشَّهْرِ وَهَذَا أَحْسَنُ تَفَاسِيرِهِ وَفِيهِ تَفَاسِيرُ أُخَرُ نَقَلَهَا الشَّارِحُ خَارِجَةً عَنْ ظَاهِرِ الْمُرَادِ مِنْ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ دَفْعٌ لِمُرَاعَاةِ الْمُنَجِّمِينَ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ رُؤْيَةُ الْأَهِلَّةِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ، وَقَدْ قَالَ الْبَاجِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاسِبِ وَالْمُنَجِّمِ وَغَيْرِهِمَا الصَّوْمُ وَالْإِفْطَارُ اعْتِمَادًا عَلَى النُّجُومِ: إنَّ إجْمَاعَ السَّلَفِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: هُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ قَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى الْخَوْضِ فِي عِلْمِ النُّجُومِ؛ لِأَنَّهَا حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ لَيْسَ فِيهَا قَطْعٌ. قَالَ الشَّارِحُ: قُلْت: وَالْجَوَابُ الْوَاضِحُ عَلَيْهِمْ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرَ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تِسْعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً» .

ص: 559

612 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ.

613 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ: أَنْ يَصُومُوا غَدًا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيّ إرْسَالَهُ.

(وَلَهُ) أَيْ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» هُوَ تَصْرِيحٌ بِمُفَادِ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ لِرُؤْيَتِهِ فِي رِوَايَةٍ فَإِنْ غُمَّ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ أَيْ عِدَّةَ شَعْبَانَ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ نُصُوصٌ فِي أَنَّهُ لَا صَوْمَ وَلَا إفْطَارَ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ لِلْهِلَالِ أَوْ إكْمَالِ الْعِدَّةِ.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّى رَأَيْته فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ دُخُولًا فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرٍ رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: " جَالَسْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلْتهمْ وَحَدَّثُونِي: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ» فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي الْوَاحِدُ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَفْهُومٌ وَالْمَنْطُوقُ الَّذِي أَفَادَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْآتِي أَقْوَى مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَيُقْبَلُ بِخَبَرِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ.

وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنْهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِفْطَارَ مُسْتَوِيَانِ فِي كِفَايَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ خَبَرَ وَاحِدٍ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ وَكَانَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْإِفْطَارِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ» فَإِنَّهُ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْأَيْلِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَيَدُلُّ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ دُخُولًا أَيْضًا قَوْلُهُ.

613 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَشْهَدُ

ص: 560

614 -

وَعَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَمَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ إلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ، وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ - وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنْ اللَّيْلِ»

أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ: أَنْ يَصُومُوا غَدًا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيّ إرْسَالَهُ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ أَنْ يَصُومُوا غَدًا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَرَجَّحَ النَّسَائِيّ إرْسَالَهُ) فِيهِ دَلِيلٌ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ إذْ لَمْ يَطْلُبْ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَعْرَابِيِّ إلَّا الشَّهَادَةَ.

وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْهِلَالِ جَارٍ مَجْرَى الْإِخْبَارِ لَا الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ التَّبَرِّي مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ.

(وَعَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَمَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ إلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ) عَلَى حَفْصَةَ (وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيّ) أَيْ عَنْ حَفْصَةَ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنْ اللَّيْلِ» الْحَدِيثُ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: الِاخْتِلَافُ فِيهِ يُزِيدُ الْخِبْرَةَ قُوَّةً؛ لِأَنَّ مَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا قَدْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَقَالَ: رِجَالُهَا ثِقَاتٌ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصِّيَامُ إلَّا بِتَبْيِيتِ النِّيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ وَأَوَّلُ وَقْتِهَا الْغُرُوبُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عَمَلٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَأَجْزَاءُ النَّهَارِ غَيْرُ مُنْفَصِلَةٍ مِنْ اللَّيْلِ بِفَاصِلٍ يُتَحَقَّقُ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَتْ النِّيَّةُ وَاقِعَةً فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِكُلِّ يَوْمٍ عَلَى انْفِرَادِهِ وَهَذَا مَشْهُورٌ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَلَهُ قَوْلٌ: إنَّهُ إذَا نَوَى مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ تُجْزِئُهُ. وَقَوَّى هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَهَذَا قَدْ نَوَى جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَلِأَنَّ رَمَضَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِبَادَةِ

ص: 561

615 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ. فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي إذًا صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْت صَائِمًا فَأَكَلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

616 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ فِي لَيَالِيه عِبَادَةٌ أَيْضًا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى صَوْمِ نَهَارِهِ وَأَطَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى هَذَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ وَالْحَدِيثُ عَامٌّ لِلْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَالْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ مُعَيَّنًا وَمُطْلَقًا وَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفَاصِيلُ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ وُجُوبِ التَّبْيِيتِ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ» قَالُوا: وَقَدْ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَنَسْخُ وُجُوبِهِ لَا يَرْفَعُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ فَقِيسَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ وَمَا فِي حُكْمِهِ مِنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَالتَّطَوُّعِ فَخُصَّ عُمُومُ " فَلَا صِيَامَ لَهُ " بِالْقِيَاسِ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ» .

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ غَيْرُ مُسَاوٍ لِصَوْمِ رَمَضَانَ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَلْزَمَ الْإِمْسَاكَ لِمَنْ قَدْ أَكَلَ وَلِمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ خَاصٌّ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا أَجْزَأَ عَاشُورَاءُ بِغَيْرِ تَبْيِيتٍ لِتَعَذُّرِهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا سِوَاهُ كَمَنْ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَمَامِ الْإِمْسَاكِ وَوُجُوبِهِ أَنَّهُ صَوْمٌ مُجْزِئٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ وَهُوَ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي إذًا صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ» بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَسِينٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ التَّمْرُ مَعَ السَّمْنِ وَالْأَقِطِ «فَقَالَ: أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْت صَائِمًا فَأَكَلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيَّتَ الصَّوْمَ أَوْ لَا فَيُحْمَلُ عَلَى التَّبْيِيتِ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَمَلَ يُرَدُّ إلَى الْعَامِّ وَنَحْوِهِ عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِهَا " إنِّي كُنْت أَصْبَحْت صَائِمًا " وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ عُمُومُ حَدِيثِ التَّبْيِيتِ وَعَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَالْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَلَمْ يَقُمْ مَا يَرْفَعُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَتَعَيَّنَ الْبَقَاءُ عَلَيْهِمَا.

ص: 562

617 -

وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَحَبُّ عِبَادِي إلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا» .

618 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه) هُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ سَهْلُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ يُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ حُزْنًا؛ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْلًا، مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَاتَ سَهْلٌ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إحْدَى وَتِسْعِينَ وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) زَادَ أَحْمَدُ " وَأَخَّرُوا السُّحُورَ " زَادَ أَبُو دَاوُد «؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ الْإِفْطَارَ إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ» .

قَالَ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: ثُمَّ صَارَ فِي مِلَّتِنَا شِعَارًا؛ لِأَهْلِ الْبِدْعَةِ وَسِمَةً لَهُمْ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ إذَا تَحَقَّقَ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْعِلَّةَ وَهِيَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ الْمُهَلَّبُ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُزَادُ فِي النَّهَارِ مِنْ اللَّيْلِ وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالصَّائِمِ وَأَقْوَى لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ مُسْتَحَبٌّ وَلَا يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ إلَّا لِمَنْ تَعَمَّدَهُ وَرَأَى الْفَضْلَ فِيهِ (قُلْت) فِي إبَاحَتِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُوَاصَلَةَ إلَى السَّحَرِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ إذَا كَانَ ذَلِكَ سِيَاسَةً لِلنَّفْسِ وَدَفْعًا لِشَهْوَتِهَا إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَحَبُّ عِبَادِي إلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا» دَالٌّ عَلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْإِفْطَارِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَأْخِيرِهِ وَأَنَّ إبَاحَةَ الْمُوَاصَلَةِ إلَى السَّحَرِ لَا تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ أَوْ يُرَادُ بِعِبَادِي الَّذِينَ يُفْطِرُونَ وَلَا يُوَاصِلُونَ إلَى السَّحَرِ وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ لِتَصْرِيحِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُمْ كَمَا يَأْتِي فَهُوَ أَحَبُّ الصَّائِمِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْجَلَهُمْ فِطْرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَهُ فِي الْوِصَالِ وَلَوْ أَيَّامًا مُتَّصِلَةً كَمَا يَأْتِي.

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ)

ص: 563

619 -

وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ اسْمٌ لِمَا يُتَسَحَّرُ بِهِ وَرُوِيَ بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ (بَرَكَةً " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) زَادَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «فَلَا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَتَجَرَّعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» وَظَاهِرُ الْأَمْرِ وُجُوبُ التَّسَحُّرِ وَلَكِنَّهُ صَرَفَهُ عَنْهُ إلَى النَّدْبِ مَا ثَبَتَ مِنْ مُوَاصَلَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمُوَاصَلَةِ أَصْحَابِهِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي حُكْمِ الْوِصَالِ وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّسَحُّرَ مَنْدُوبٌ وَالْبَرَكَةُ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِيهِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَمُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» وَالتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَزِيَادَةُ النَّشَاطِ وَالتَّسَبُّبُ لِلصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ سَأَلَ وَقْتَ السَّحَرِ.

(وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الصَّحَابَةِ ضَبِّيٌّ غَيْرُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الْمَذْكُورِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ طَهُورٌ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) وَالْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى تَمَرَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ» وَوَرَدَ فِي عَدَدِ التَّمْرِ أَنَّهَا ثَلَاثٌ وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ بِمَا ذُكِرَ هُوَ السُّنَّةُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ وَنُصْحِهِمْ فَإِنَّ إعْطَاءَ الطَّبِيعَةِ الشَّيْءَ الْحُلْوَ مَعَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ أَدْعَى إلَى قَبُولِهِ وَانْتِفَاعِ الْقُوَى بِهِ لَا سِيَّمَا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَإِنَّهَا تَقْوَى بِهِ وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنَّ الْكَبِدَ يَحْصُلُ لَهَا بِالصَّوْمِ نَوْعٌ يَبِسٌ فَإِنْ رَطُبَتْ بِالْمَاءِ كَمُلَ انْتِفَاعُهَا بِالْغِذَاءِ بَعْدَهُ هَذَا مَعَ مَا فِي التَّمْرِ وَالْمَاءِ مِنْ الْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ.

ص: 564

620 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ، لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ» هُوَ تَرْكُ الْفِطْرِ بِالنَّهَارِ وَفِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِالْقَصْدِ (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ «فَإِنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَتَفَرَّدَ مُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوِصَالِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النَّهْيِ، وَقَدْ أُبِيحَ الْوِصَالُ إلَى السَّحَرِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إمْسَاكَ بَعْضِ اللَّيْلِ مُوَاصَلَةٌ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِنِيَّتِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوِصَالَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَقِيلَ: التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيُبَاحُ لِمَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ رَأْيُ الْأَكْثَرِ لِلنَّهْيِ وَأَصْلُهُ التَّحْرِيمُ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَاصَلَ بِهِمْ وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ قَرِينَةٌ أَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ رَحْمَةً لَهُمْ وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحِجَامَةِ وَالْمُوَاصَلَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ " وَإِبْقَاءً " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:" نَهَى ". وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ وَلَيْسَ بِالْعَزِيمَةِ» وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا مُوَاصَلَةُ الصَّحَابَةِ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ " أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُوَاصِلُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا " وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ غَيْرُهُ فَلَوْ فَهِمُوا التَّحْرِيمَ لَمَا فَعَلُوهُ، وَيَدُلُّ لِلْجَوَازِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْ الصِّيَامَ بِاللَّيْلِ فَمَنْ شَاءَ

ص: 565

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَلْيَتَّبِعْنِي وَلَا أَجْرَ لَهُ» قَالُوا: وَالتَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

وَاعْتَذَرَ الْجُمْهُورُ عَنْ مُوَاصَلَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّحَابَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَقْرِيعًا لَهُمْ وَتَنْكِيلًا بِهِمْ وَاحْتَمَلَ جَوَازَ ذَلِكَ؛ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ النَّهْيِ فِي تَأْكِيدِ زَجْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا بَاشَرُوهُ ظَهَرَتْ لَهُمْ حِكْمَةُ النَّهْيِ وَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى قَبُولِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَلَلِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ وَأَرْجَحُ مِنْ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَقْرَبُ مِنْ الْأَقْوَالِ هُوَ التَّفْصِيلُ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " وَأَيُّكُمْ مِثْلِي " اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ أَيْ أَيُّكُمْ عَلَى صِفَتِي وَمَنْزِلَتِي مِنْ رَبِّي وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ (يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي) فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ يُطْعَمُ وَيُسْقَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ عَلَى جِهَةِ التَّكْرِيمِ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ طَعَامِ الدُّنْيَا وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمُرَادُ مَا يُغَذِّيهِ اللَّهُ مِنْ مَعَارِفِهِ وَمَا يُفِيضُهُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ لَذَّةِ مُنَاجَاتِهِ وَقُرَّةِ عَيْنِهِ بِقُرْبِهِ وَتَنَعُّمِهِ بِحُبِّهِ وَالشَّوْقِ إلَيْهِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَتَنْعِيمُ الْأَرْوَاحِ وَقُرَّةُ الْعَيْنِ وَبَهْجَةُ النُّفُوسِ، وَلِلْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِهَا أَعْظَمُ غِذَاءٍ وَأَجْوَدُهُ وَأَنْفَعُهُ وَقَدْ يَقْوَى هَذَا الْغِذَاءُ حَتَّى يُغْنِيَ عَنْ غِذَاءِ الْأَجْسَامِ بُرْهَةً مِنْ الزَّمَانِ كَمَا قِيلَ شِعْرًا.

لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاك تَشْغَلُهَا

عَنْ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزَّادِ

لَهَا بِوَجْهِك نُورٌ يُسْتَضَاءُ لَهُ

وَمِنْ حَدِيثِك فِي أَعْقَابِهَا حَادِي

وَمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ أَوْ تَشَوُّقٍ يَعْلَمُ اسْتِغْنَاءَ الْجِسْمِ بِغِذَاءِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْغِذَاءِ الْحَيَوَانِيِّ وَلَا سِيَّمَا الْمَسْرُورُ الْفَرْحَانُ الظَّافِرُ بِمَطْلُوبِهِ الَّذِي قَرَّتْ عَيْنُهُ بِمَحْبُوبِهِ وَتَنَعَّمَ بِقُرْبِهِ وَالرِّضَا عَنْهُ، وَسَاقَ هَذَا الْمَعْنَى وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْإِطْعَامِ وَالْإِسْقَاءِ.

وَأَمَّا الْوِصَالُ إلَى السَّحَرِ فَقَدْ أَذِنَ صلى الله عليه وسلم فِيهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ " أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ» .

وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْوِصَالَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِأَفْطَرَ دَخَلَ فِي وَقْتِ الْإِفْطَارِ لَا أَنَّهُ صَارَ مُفْطِرًا حَقِيقَةً كَمَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مُفْطِرًا حَقِيقَةً لَمَا وَرَدَ الْحَثُّ عَلَى تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ وَلَا النَّهْيُ عَنْ الْوِصَالِ وَلَا اسْتَقَامَ الْإِذْنُ بِالْوِصَالِ إلَى السَّحَرِ.

ص: 566

621 -

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد، وَاللَّفْظُ لَهُ

622 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ:" فِي رَمَضَانَ "

(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ) أَيْ الْكَذِبَ (وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ) أَيْ السَّفَهَ (فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ) أَيْ إرَادَةٌ (فِي أَنْ يَدَعَ شَرَابَهُ وَطَعَامَهُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَتَحْرِيمِ السَّفَهِ عَلَى الصَّائِمِ وَهُمَا مُحَرَّمَانِ عَلَى غَيْرِ الصَّائِمِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّهِ آكَدُ كَتَأَكُّدِ تَحْرِيمِ الزِّنَا مِنْ الشَّيْخِ وَالْخُيَلَاءِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ (فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ " أَيْ إرَادَةٌ، بَيَانُ عِظَمِ ارْتِكَابِ مَا ذُكِرَ وَأَنَّ صِيَامَهُ كَلَا صِيَامٍ وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ هُنَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ هُوَ الْغَنِيُّ سُبْحَانَهُ ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ كَمَا يَقُولُ الْمُغْضِبُ لِمَنْ رَدَّ شَيْئًا عَلَيْهِ لَا حِيلَةَ لِي فِي كَذَا، وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ ثَوَابَ الصِّيَامِ لَا يُقَاوَمُ فِي حُكْمِ الْمُوَازَنَةِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْعِقَابِ لِمَا ذُكِرَ. هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ سَابَّهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ» فَلَا تَشْتُمْ مُبْتَدِئًا وَلَا مُجَاوِبًا.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُبَاشِرُ» الْمُبَاشَرَةُ الْمُلَامَسَةُ وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا (وَهُوَ صَائِمٌ وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ فَمُوَحَّدَةٍ وَهُوَ حَاجَةُ النَّفْسِ وَوَطَرُهَا، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّلْخِيصِ مَعْنَاهُ لِعُضْوِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ وَزَادَ) أَيْ مُسْلِمٌ (فِي رِوَايَةٍ فِي رَمَضَانَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمْ الِاحْتِرَازُ مِنْ الْقُبْلَةِ وَلَا تَتَوَهَّمُوا أَنَّكُمْ مِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اسْتِبَاحَتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَيَأْمَنُ مِنْ وُقُوعِ الْقُبْلَةِ أَنْ يَتَوَلَّدَ عَنْهَا إنْزَالٌ أَوْ شَهْوَةٌ أَوْ هَيَجَانُ نَفْسٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ لَا تَأْمَنُونَ ذَلِكَ فَطَرِيقُكُمْ كَفُّ النَّفْسِ

ص: 567

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَنْ ذَلِكَ.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ «قُلْت لِعَائِشَةَ: أَيُبَاشِرُ الصَّائِمُ؟ قَالَتْ: لَا، قُلْت: أَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ؟ قَالَتْ: إنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهَا وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا تَرَى كَرَاهَةَ الْقُبْلَةِ لِغَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهَا: " أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ " وَفِي كِتَابِ الصِّيَامِ؛ لِأَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ " سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَكَرِهَتْهَا " وَظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ جَوَازُ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ لِدَلِيلِ التَّأَسِّي بِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ الْحَدِيثَ جَوَابًا عَمَّنْ سَأَلَ عَنْ الْقُبْلَةِ وَهُوَ صَائِمٌ وَجَوَابُهَا قَاضٍ بِالْإِبَاحَةِ مُسْتَدِلَّةً بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ - لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا.

الثَّانِي - أَنَّهُ مُحَرَّمٌ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فَإِنَّهُ مَنَعَ الْمُبَاشَرَةَ فِي النَّهَارِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فِي الْآيَةِ الْجِمَاعُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَفَادَهُ حَدِيثُ الْبَابِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهَا تُحَرِّمُ الْقُبْلَةَ، وَقَالُوا: إنَّ مَنْ قَبَّلَ بَطَلَ صَوْمُهُ.

الثَّالِثُ - أَنَّهُ مُبَاحٌ وَبَالَغَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ فَقَالَ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.

الرَّابِعُ - التَّفْصِيلُ فَقَالُوا: يُكْرَهُ لِلشَّابِّ وَيُبَاحُ لِلشَّيْخِ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَدَلِيلُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد «أَنَّهُ أَتَاهُ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ وَأَتَاهُ آخَرُ فَسَأَلَهُ فَنَهَاهُ فَإِذَا الَّذِي رُخِّصَ لَهُ شَيْخٌ وَاَلَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ» .

(الْخَامِسُ) أَنَّ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ جَازَ لَهُ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثِ «عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: إنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّابِّ وَالشَّيْخِ وَإِلَّا لَبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ لَا سِيَّمَا وَعُمَرُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ تَكْلِيفِهِ وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا عَرَفْت أَنَّ الْإِبَاحَةَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَيَدُلُّ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ «عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: هَشِشْت يَوْمًا فَقَبَّلْت وَأَنَا صَائِمٌ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: صَنَعْت الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا فَقَبَّلْت وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْت: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفِيمَ» . انْتَهَى.

قَوْلُهُ هَشِشْت بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ مَعْنَاهُ ارْتَحْت وَخَفَّفْت. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إذَا قَبَّلَ أَوْ نَظَرَ أَوْ بَاشَرَ فَأَنْزَلَ أَوْ أَمْذَى فَعَنْ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَقْضِي إذَا أَنْزَلَ فِي غَيْرِ النَّظَرِ وَلَا قَضَاءَ فِي الْإِمْذَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ يَقْضِي فِي كُلِّ ذَلِكَ وَيُكَفِّرُ إلَّا فِي الْإِمْذَاءِ فَيَقْضِي فَقَطْ وَثَمَّةُ خِلَافَاتٌ أُخَرُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ إلَّا عَلَى مَنْ جَامَعَ وَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمُجَامِعِ بِهِ بَعِيدٌ.

(تَنْبِيهٌ) قَوْلُهَا: " وَهُوَ صَائِمٌ " لَا يَدُلُّ أَنَّهُ قَبَّلَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالتَّطَوُّعِ» ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ

ص: 568

623 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

624 -

وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَمَسُّ وَجْهَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ» وَقَالَ: لَيْسَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ تَضَادٌّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ إرْبَهُ وَنُبِّهَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْفِعْلِ لِمَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ وَتَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً عِلْمًا مِنْهُ بِمَا رُكِّبَ فِي النِّسَاءِ مِنْ الضَّعْفِ عِنْدَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهِنَّ. انْتَهَى.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قِيلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ الْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ مُفْتَرِقَيْنِ وَأَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فِي إحْرَامِهِ إذَا أُرِيدَ إحْرَامُهُ وَهُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إذْ لَيْسَ فِي رَمَضَانَ وَلَا كَانَ مُحْرِمًا فِي سَفَرِهِ فِي رَمَضَانَ عَامَ الْفَتْحِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ عُمَرِهِ الَّتِي اعْتَمَرَهَا وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ صَامَ نَفْلًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَرِّفْ ذَلِكَ وَفِي الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: إنَّ أَصْحَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ صِيَامًا، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ أَخْطَأَ فِيهِ شَرِيكٌ إنَّمَا هُوَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أُجْرَتَهُ وَشَرِيكٌ حَدَّثَ بِهِ مَنْ حَفِظَهُ وَقَدْ سَاءَ حِفْظُهُ فَعَلَى هَذَا الثَّابِتِ إنَّمَا هُوَ الْحِجَامَةُ.

وَالْحَدِيثُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ كُلِّ جُمْلَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَقْتٍ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَالْقَرِينَةُ عَلَى هَذَا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ اجْتِمَاعُ الْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ، وَأَمَّا تَغْلِيطُ شَرِيكٍ وَانْتِقَالُهُ إلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ فَأَمْرٌ بَعِيدٌ وَالْحَمْلُ عَلَى صِحَّةِ لَفْظِ رِوَايَتِهِ مَعَ تَأْوِيلِهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيمَنْ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَهُوَ.

624 -

وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ (وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ

ص: 569

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ) الْحَدِيثُ قَدْ صَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَالَ السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ مِنْ حَاجِمٍ وَمَحْجُومٍ لَهُ وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَتْبَاعُهُ لِحَدِيثِ شَدَّادٍ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ لَهُ وَأَمَّا الْحَاجِمُ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ هَذَا فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ: إنَّهُ لَا يُفْطِرُ حَاجِمٌ وَلَا مَحْجُومٌ لَهُ فَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ شَدَّادٍ هَذَا بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَأَخِّرٌ؛ لِأَنَّهُ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجِّهِ وَهُوَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَشَدَّادٌ صَحِبَهُ عَامَ الْفَتْحِ كَذَا حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ وَتَوَقِّي الْحِجَامَةِ احْتِيَاطًا أَحَبُّ إلَيَّ.

وَيُؤَيِّدُ النَّسْخَ مَا يَأْتِي فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَازِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: إنَّ حَدِيثَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ثَابِتٌ بِلَا رَيْبٍ لَكِنْ وَجَدْنَا فِي حَدِيثٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَعَنْ الْمُوَاصَلَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَا يُؤَيِّدُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ» وَالرُّخْصَةُ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْعَزِيمَةِ فَدَلَّ عَلَى النَّسْخِ سَوَاءٌ كَانَ حَاجِمًا أَوْ مَحْجُومًا.

وَقِيلَ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَيَدُلُّ لَهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الْآتِي: وَقِيلَ: إنَّمَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم فِي خَاصٍّ وَهُوَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَغْتَابَانِ النَّاسَ رَوَاهُ الْوُحَاظِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ " إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ النَّاسَ» وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ: إنَّهُ أُعْجُوبَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ لَا يَقُولُ: إنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ سَلِمَ مِنْ الْغِيبَةِ؟ لَوْ كَانَتْ الْغِيبَةُ تُفْطِرُ مَا كَانَ لَنَا صَوْمٌ.

وَقَدْ وَجَّهَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْإِفْطَارَ بِالْغِيبَةِ عَلَى سُقُوطِ أَجْرِ الصَّوْمِ مِثْلُ «قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَكَلِّمِ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ لَا جُمُعَةَ لَهُ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ سُقُوطَ الْأَجْرِ وَحِينَئِذٍ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ أُعْجُوبَةً كَمَا قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

وَقَالَ الْبَغَوِيّ: الْمُرَادُ بِإِفْطَارِهِمَا تَعَرُّضُهُمَا لِلْإِفْطَارِ أَمَّا الْحَاجِمُ فَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ وُصُولَ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ إلَى جَوْفِهِ عِنْدَ الْمَصِّ وَأَمَّا الْمَحْجُومُ فَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ ضَعْفِ قُوَّتِهِ بِخُرُوجِ الدَّمِ فَيَئُولُ إلَى الْإِفْطَارِ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي رَدِّ هَذَا التَّأْوِيلِ: إنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ لَهُ» نَصٌّ فِي حُصُولِ الْفِطْرِ لَهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ بَقَاءُ صَوْمِهِمَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 570

625 -

«وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ: أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ

626 -

وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ

مُخْبِرٌ عَنْهُمَا بِالْفِطْرِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَطْلَقَ هَذَا الْقَوْلَ إطْلَاقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرِنَهُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ فَلَوْ جَازَ أَنْ يُرِيدَ مُقَارَبَةَ الْفِطْرِ دُونَ حَقِيقَةٍ لَكَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا لَا تَبْيِينًا لِلْحُكْمِ. انْتَهَى.

(قُلْت): وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ لَهُ قَوْلُهُ: (625) - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أَوَّلُ مَا كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ: أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَوَّلُ مَا كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ) قَالَ: إنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ وَلَا تُعْلَمُ لَهُ عِلَّةٌ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ أَدِلَّةِ النَّسْخِ لِحَدِيثِ شَدَّادٍ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ فَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَرَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. انْتَهَى.

وَخَالَفَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى فَقَالَا: إنَّهُ يُفْطِرُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ» وَإِذَا وَجَدَ طَعْمَهُ فَقَدْ دَخَلَ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّا لَا نَسْلَمُ كَوْنَهُ دَاخِلًا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ بِمَنْفَذٍ وَإِنَّمَا يَصِلُ مِنْ الْمَسَامِّ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُدَلِّكُ قَدَمَيْهِ بِالْحَنْظَلِ فَيَجِدُ طَعْمَهُ فِي فِيهِ لَا يُفْطِرُ وَحَدِيثُ «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ» عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَصَلَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ

ص: 571

627 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ - وَلِلْحَاكِمِ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ» وَهُوَ صَحِيحٌ

أَبُو دَاوُد عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْإِثْمِدِ: " لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ " فَقَالَ أَبُو دَاوُد قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ مُنْكَرٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ " فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْحَاكِمِ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ» . وَهُوَ صَحِيحٌ وَوُرُودُ لَفْظِ مَنْ أَفْطَرَ يَعُمُّ الْجِمَاعَ وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِكَوْنِهِمَا الْغَالِبَ فِي النِّسْيَانِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُهُ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ " فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ " عَلَى أَنَّهُ صَائِمٌ حَقِيقَةً وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْبَاقِرِ وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى وَالْإِمَامِ يَحْيَى وَالْفَرِيقَيْنِ. وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ قَالُوا: لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ رُكْنُ الصَّوْمِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ نَسِيَ رُكْنًا مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ " فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ " بِأَنَّ الْمُرَادَ فَلْيُتِمَّ إمْسَاكَهُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ " فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ " صَرِيحٌ فِي صِحَّةِ صَوْمِهِ وَعَدَمِ قَضَائِهِ لَهُ وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ إسْقَاطَ الْقَضَاءِ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ وَسَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَفْتَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ عليه السلام وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حَزْمٍ.

وَفِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ أَحَادِيثُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، عَلَى أَنَّهُ مُنَازِعٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ مَوْلَاةٍ لِبَعْضِ الصَّحَابِيَّاتِ «أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا ثُمَّ تَذَكَّرَتْ أَنَّهَا كَانَتْ صَائِمَةً فَقَالَ لَهَا ذُو الْيَدَيْنِ الْآنَ بَعْدَ مَا شَبِعْت فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَمِّي صَوْمَك فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْك» وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ " أَنَّ إنْسَانًا جَاءَ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ

ص: 572

628 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَأَعَلَّهُ أَحْمَدُ، وَقَوَّاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ

629 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ، فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ، فَشَرِبَ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ. فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» .

فَقَالَ لَهُ: أَصْبَحْت صَائِمًا وَطَعِمْت؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْت عَلَى إنْسَانٍ فَنَسِيت فَطَعِمْت؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنْتَ إنْسَانٌ لَمْ تَتَعَوَّدْ الصِّيَامَ ".

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ سَبَقَهُ وَغَلَبَهُ فِي الْخُرُوجِ (فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ) أَيْ طَلَبَ الْقَيْءَ بِاخْتِيَارِهِ (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَأَعَلَّهُ أَحْمَدُ) بِأَنَّهُ غَلَطٌ (وَقَوَّاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَلَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ وَأَنْكَرَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ: لَيْسَ مِنْ ذَا بِشَيْءٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَقَالَ: يُقَالُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِالْقَيْءِ الْغَالِبِ لِقَوْلِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذْ عَدَمُ الْقَضَاءِ فَرْعُ الصِّحَّةِ. وَعَلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ مَنْ طَلَبَ الْقَيْءَ وَاسْتَجْلَبَهُ وَظَاهِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ لَهُ قَيْءٌ لَأَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ الْقَيْءِ يُفْطِرُ (قُلْت) وَلَكِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَالِكٍ وَرَبِيعَةَ وَالْهَادِي أَنَّ الْقَيْءَ لَا يُفْطِرُ مُطْلَقًا إلَّا إذَا رَجَعَ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَحُجَّتُهُمْ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ: الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ» وَيُجَابُ عَنْهُ بِحَمْلِهِ عَلَى مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَحَمْلًا لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْخَاصَّ أَرْجَحُ مِنْهُ سَنَدًا فَالْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ عَارَضَتْهُ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ.

ص: 573

وَفِي لَفْظٍ «فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِيمَا فَعَلْت. فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَشَرِبَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ» فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: إنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْهُ (فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ) بِضَمِّ الْكَافِ فَرَاءٍ آخِرَهُ مُهْمَلَةٍ، وَالْغَمِيمُ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَهُوَ وَادٍ أَمَامَ عُسْفَانَ «فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ فَشَرِبَ» لِيَعْلَمَ النَّاسُ بِإِفْطَارِهِ «ثُمَّ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ». وَفِي لَفْظٍ فَقِيلَ: «إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِيمَا فَعَلْت فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَأَنَّ لَهُ الْإِفْطَارَ وَإِنْ صَامَ أَكْثَرَ النَّهَارِ وَخَالَفَ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ دَاوُد وَالْإِمَامِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَبِقَوْلِهِ " أُولَئِكَ الْعُصَاةُ " وَقَوْلُهُ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَخَالَفَهُمْ الْجَمَاهِيرُ فَقَالُوا: يُجْزِئُهُ صَوْمُهُ لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْآيَةُ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ وَقَوْلُهُ (أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) إنَّمَا هُوَ لِمُخَالَفَتِهِمْ؛ لِأَمْرِهِ بِالْإِفْطَارِ وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ وَإِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَأَمَّا حَدِيثُ " لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ " فَإِنَّمَا قَالَهُ صلى الله عليه وآله وسلم فِيمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ نَعَمْ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ عَلَى مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَفْطَرَ صلى الله عليه وآله وسلم لِقَوْلِهِمْ: إنَّهُمْ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ وَاَلَّذِينَ صَامُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ. وَأَمَّا جَوَازُ الْإِفْطَارِ إنْ صَامَ أَكْثَرَ النَّهَارِ فَذَهَبَ أَيْضًا إلَى جَوَازِهِ الْجَمَاهِيرُ وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَهَذَا إذَا نَوَى الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ فَأَمَّا إذَا دَخَلَ فِيهِ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمِهِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِفْطَارُ وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ وَالظَّاهِرُ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ.

وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ لِلْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَرَرَ فَإِنْ تَضَرَّرَ فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَآخَرُونَ الْفِطْرُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مَنْ قَالَ: لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ قَالُوا: وَتِلْكَ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ لَكِنَّ حَدِيثَ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْآتِي وَقَوْلُهُ «وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» أَفَادَ بِنَفْيِهِ الْجُنَاحَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لَا أَنَّهُ مُحْرِمٌ وَلَا أَفْضَلُ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الصَّوْمَ الْأَفْضَلُ أَنَّهُ كَانَ غَالِبَ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَسْفَارِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْأَكْثَرِيَّةِ وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ الْمَنْعِ

ص: 574

630 -

وَعَنْ «حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَجِدُ فِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ. فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَصْلُهُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَ

631 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: «رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ

بِأَنَّهُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ.

وَقَالَ آخَرُونَ: الصَّوْمُ وَالْإِفْطَارُ سَوَاءٌ لِتَعَادُلِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ أَنَسٍ «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» وَظَاهِرُهُ التَّسْوِيَةُ.

(وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ) هُوَ أَبُو صَالِحٍ أَوْ مُحَمَّدٌ حَمْزَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَزَايٍ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٍ وَعَائِشَةُ مَاتَ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً (أَنَّهُ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ فِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْلُهُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَ) وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ «إنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ: قَالَ: صُمْ إنْ شِئْت وَأَفْطِرْ إنْ شِئْت» فَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ صَوْمَ الدَّهْرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَأَقَرَّهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي السَّفَرِ فَفِي الْحَضَرِ بِالْأَوْلَى وَذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يُضْعِفُ بِهِ عَنْ وَاجِبٍ وَلَا يَفُوتُ بِسَبَبِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَيُشْرَطُ فِطْرُهُ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقَ وَأَمَّا إنْكَارُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنِ عُمَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ فَلَا يُعَارِضُ هَذَا إلَّا أَنَّهُ عَلِمَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيُضْعِفُ عَنْهُ وَهَكَذَا كَانَ فَإِنَّهُ ضَعُفَ آخِرَ عُمُرِهِ وَكَانَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْت رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْعَمَلَ الدَّائِمَ وَإِنْ قَلَّ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ.

.

ص: 575

632 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْت يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَمَا أَهْلَكَك؟ قَالَ: وَقَعْت عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ) اعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ فَرْضِ الصِّيَامِ أَنَّ مَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَأَفْطَرَ وَمَنْ شَاءَ صَامَ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَقِيلَ بِقَوْلِهِ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا هُنَا وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أَيْ يُكَلَّفُونَهُ وَيَقُولُ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْهَرِمَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَنْهُ مَنْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَاحِدٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا قَالَ: زَادَ مِسْكِينًا آخَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ قَالَ: وَلَيْسَتْ مَنْسُوخَةً إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ " إسْنَادُهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ وَفِيهِ أَيْضًا «، لَا يُرَخَّصُ فِي هَذَا إلَّا لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ أَوْ مَرِيضٍ لَا يُشْفَى» قَالَ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَعَيَّنَ فِي رِوَايَةٍ قَدْرَ الْإِطْعَامِ وَأَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ.

وَأَخْرَجَ أَيْضًا " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَنَّهُمَا يُفْطِرَانِ وَلَا قَضَاءَ " وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.

وَأَخْرَجَ " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَعُفَ عَامًا عَنْ الصَّوْمِ فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ فَدَعَا ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ " وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ السَّلَفِ فَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْإِطْعَامَ لَازِمٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُطِقْ الصِّيَامَ لِكِبَرٍ مَنْسُوخٌ فِي غَيْرِهِ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ الْإِطْعَامُ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ عَلَى الْكَبِيرِ إذَا لَمْ يُطِقْ الصِّيَامَ إطْعَامٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِطْعَامُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُرَادُ بِالشَّيْخِ الْعَاجِزُ عَنْ الصَّوْمِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَهُ مَوْقُوفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَغَيَّرَ الصِّيغَةَ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ فَإِنَّ التَّرْخِيصَ إنَّمَا يَكُونُ تَوْقِيفًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَهِمَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ الْآيَةِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ.

ص: 576

جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا فَقَالَ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ. ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» رَوَاهُ السَّبْعَةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) هُوَ سَلَمَةُ أَوْ سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «هَلَكْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَك قَالَ: وَقَعْت عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ مَا قَالَ: لَا قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» الْجُمْهُورُ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ رُبُعُ صَاعٍ (قَالَ: لَا. ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُغَيِّرَ الصِّيغَةِ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ قَافٍ (فِيهِ تَمْرٌ) وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَفِي أُخْرَى عِشْرُونَ (فَقَالَ: " تَصَدَّقْ بِهَذَا " فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) تَثْنِيَةُ لَابَةٍ وَهُوَ الْحَرَّةُ وَيُقَالُ فِيهَا: لُوبَةٌ وَنُوبَةٌ بِالنُّونِ وَهِيَ غَيْرُ مَهْمُوزَةٍ «أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» رَوَاهُ السَّبْعَةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا فَالْمُعْسِرُ تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَانِيهِمَا لَا تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ.

وَاخْتُلِفَ فِي الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا هُنَا مُطْلَقَةٌ فَالْجُمْهُورُ قَيَّدُوهَا بِالْمُؤْمِنَةِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَالُوا: لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ فَيَتَرَتَّبُ فِيهِ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ: وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَتُجْزِئُ الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ: وَقِيلَ: يُفَصَّلُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ إذَا اقْتَضَى الْقِيَاسُ التَّقْيِيدَ فَيَكُونُ تَقْيِيدًا بِالْقِيَاسِ كَالتَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ هُنَا هُوَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ عَنْ ذَنْبٍ مُكَفِّرٍ لِلْخَطِيئَةِ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْأُصُولِ.

ثُمَّ الْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ فَلَا يُجْزِئُ الْعُدُولُ إلَى الثَّانِي

ص: 577

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مَعَ إمْكَانِ الْأَوَّلِ وَلَا إلَى الثَّالِثِ مَعَ إمْكَانِ الثَّانِي لِوُقُوعِهِ مُرَتَّبًا فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ التَّرْتِيبَ عَنْ ثَلَاثِينَ نَفْسًا أَوْ أَكْثَرَ وَرِوَايَةُ التَّخْيِيرِ مَرْجُوحَةٌ مَعَ ثُبُوتِ التَّرْتِيبِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ التَّرْتِيبِ أَنَّهُ الْوَاقِعُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ شَبِيهَةٌ بِهَا وَقَوْلُهُ: {سِتِّينَ مِسْكِينًا} ظَاهِرُ مَفْهُومِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا إطْعَامُ هَذَا الْعَدَدِ فَلَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: يُجْزِئُ الصَّرْفُ فِي وَاحِدٍ فَفِي الْقُدُورِيِّ مِنْ كُتُبِهِمْ فَإِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ يَوْمِهِ وَقَوْلُهُ: (اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ وَمِنْ قَاعِدَةِ الْكَفَّارَاتِ أَنْ لَا تُصْرَفَ فِي النَّفْسِ لَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَصَّهُ بِذَلِكَ وَرَدَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ لِإِعْسَارِهِ وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ عليه السلام: «كُلْهُ أَنْتَ وَعِيَالُك فَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْك» إلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ وَاَلَّذِي أَعْطَاهُ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةً عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ لِمَا عَرَفَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَاجَتِهِمْ.

وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ: إنَّ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ أَصْلًا لَا عَلَى مُوسِرٍ وَلَا مُعْسِرٍ قَالُوا: لِأَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا جَازَ ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ غَيْرُ نَاهِضٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَفَّارَةٌ بَلْ فِيهَا الِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي سَلَفَتْ.

وَاسْتَدَلَّ الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ «بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُجَامِعِ: اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ» وَلَمْ يَذْكُرْهَا.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ رِوَايَةُ الْأَمْرِ بِهَا عِنْدَ السَّبْعَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ هُنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَضَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِك وَصُمْ يَوْمًا وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ» وَإِلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (وَفِي) قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ: إنَّهُ لَا قَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ لَا غَيْرُ.

(وَأُجِيبَ): بِأَنَّهُ اتَّكَلَ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ الْآيَةِ. هَذَا حُكْمٌ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي جَامَعَهَا فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ أَيْضًا قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِفْ وَاعْتِرَافُ الزَّوْجِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا الْحُكْمَ أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً بِأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً مِنْ الْحَيْضِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَيْضًا لِمَا عُلِمَ مِنْ تَعْمِيمِ الْأَحْكَامِ أَوْ أَنَّهُ عَرَفَ فَقْرَهَا كَمَا ظَهَرَ مِنْ حَالِ زَوْجِهَا (وَاعْلَمْ) أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ جَلِيلٌ كَثِيرُ الْفَوَائِدِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي: إنَّهُ قَدْ اعْتَنَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ أَدْرَكَ شُيُوخَنَا

ص: 578

633 -

وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: وَلَا يَقْضِي

634 -

وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

بِهَذَا الْحَدِيثِ فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي مُجَلَّدَيْنِ جَمَعَ فِيهَا أَلْفَ فَائِدَةٍ وَفَائِدَةٍ. انْتَهَى، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَقَدْ طَوَّلَ الشَّارِحُ فِيهِ نَاقِلًا مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.

(وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَلَا يَقْضِي) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَصْبَحَ أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ جِمَاعٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ إجْمَاعٌ، وَقَدْ عَارَضَهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ - صَلَاةِ الصُّبْحِ - وَأَحَدُكُمْ جُنُبٌ فَلَا يَصُمْ يَوْمَهُ» وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا رُوِيَ لَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَأَفْتَى بِقَوْلِهِمَا وَيَدُلُّ لِلنَّسْخِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِيهِ وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكنِي الصَّلَاةُ أَيْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَأَنَا جُنُبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ: وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ. قَالَ: لَسْت مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» وَقَدْ ذَهَبَ إلَى النَّسْخِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِهِ صلى الله عليه وسلم وَرَدَّ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: بِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَقْوَى سَنَدًا حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّهُ صَحَّ وَتَوَاتَرَ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِهِ وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ أَقَلُّ وَمَعَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ لِقُوَّةِ الطَّرِيقِ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ

ص: 579

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَلِيُّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ الْمَيِّتَ صِيَامُ وَلِيِّهِ عَنْهُ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ وَالْإِخْبَارُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ لِيَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْوُجُوبُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ ادَّعَى الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لِلنَّدْبِ.

وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَوْلَى كُلُّ قَرِيبٍ وَقِيلَ: الْوَارِثُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: عَصَبَتُهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ فَقَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ: إنَّهُ يُجْزِئُ صَوْمُ الْوَلِيِّ عَنْ الْمَيِّتِ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْآلِ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا صِيَامَ عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الْكَفَّارَةُ لِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ أُطْعِمَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ» إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ الْفُتْيَا بِالْإِطْعَامِ وَلِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهَا مُكَلَّفٌ وَالْحَجُّ مَخْصُوصٌ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ مِنْ فُتْيَا عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ لَا تُقَاوِمُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ. وَأَمَّا قِيَامُ مُكَلَّفٍ بِعِبَادَةٍ عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَجِّ بِالنَّصِّ الثَّابِتِ فَيَثْبُتُ فِي الصَّوْمِ بِهِ فَلَا عُذْرَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ، وَاعْتِذَارُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْهُ بِعَدَمِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُمْ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ حُجَّةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَكَذَلِكَ اعْتِذَارُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الرَّاوِيَ أَفْتَى بِخِلَافِ مَا رَوَى عُذْرٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ إذْ الْعِبْرَةُ بِمَا يَرْوِي لَا بِمَا رَأَى كَمَا عُرِفَ فِيهَا أَيْضًا.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِإِجْزَاءِ الصِّيَامِ عَنْ الْمَيِّتِ هَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلِيِّ أَوْ لَا فَقِيلَ: لَا يَخْتَصُّ بِالْوَلِيِّ بَلْ لَوْ صَامَ عَنْهُ الْأَجْنَبِيُّ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَ كَمَا فِي الْحَجِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْوَلِيَّ فِي الْحَدِيثِ لِلْغَالِبِ وَقِيلَ: يَصِحُّ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِهِ الْأَجْنَبِيُّ بِغَيْرِ أَمْرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَبَّهَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالدَّيْنِ حَيْثُ قَالَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» فَكَمَا أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَخْتَصُّ بِقَضَائِهِ الْقَرِيبُ فَالصَّوْمُ مِثْلُهُ وَلِلْقَرِيبِ أَنْ يَسْتَنِيبَ.

ص: 580

‌بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَمَا نُهِيَ عَنْ صَوْمِهِ

635 -

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ، وَبُعِثْت فِيهِ وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

636 -

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ أَوْ بُعِثْت فِيهِ وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَدْ اُسْتُشْكِلَ تَكْفِيرُ مَا لَمْ يَقَعْ وَهُوَ ذَنْبُ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُوَفِّقَ فِيهَا لِعَدَمِ الْإِتْيَانِ بِذَنْبٍ وَسَمَّاهُ تَكْفِيرًا لِمُنَاسَبَةِ الْمَاضِيَةِ أَوْ أَنَّهُ إنْ أَوْقَعَ فِيهِ ذَنْبًا وَفَّقَ لِلْإِتْيَانِ بِمَا يُكَفِّرُهُ.

وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ فَإِنَّهُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ ثُمَّ صَارَ بَعْدَهُ مُسْتَحَبًّا. وَأَفَادَ الْحَدِيثُ أَنَّ صَوْمَ عَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَلَّلَ صلى الله عليه وسلم شَرْعِيَّةَ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بِأَنَّهُ وُلِدَ فِيهِ أَوْ بُعِثَ فِيهِ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَكَأَنَّهُ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي وَقَدْ اُتُّفِقَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ فِيهِ وَبُعِثَ فِيهِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي تَعْظِيمُ الْيَوْمِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ فِيهِ عَلَى عَبْدِهِ نِعْمَةً بِصَوْمِهِ وَالتَّقَرُّبُ فِيهِ وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أُمَامَةَ تَعْلِيلُ «صَوْمِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ بِأَنَّهُ يَوْمٌ تُعْرَضُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلُهُ وَهُوَ صَائِمٌ» وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّعْلِيلَيْنِ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا» هَكَذَا وَرَدَ مُؤَنَّثًا مَعَ أَنَّ مُمَيَّزَهُ أَيَّامٌ وَهِيَ مُذَكَّرٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَدَدِ إذَا لَمْ يُذَكَّرْ مُمَيَّزُهُ جَازَ فِيهِ الْوَجْهَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النُّحَاةُ (مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ "

ص: 581

637 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

رَوَاهُ مُسْلِمٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْآلِ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ (وَقَالَ) مَالِكٌ يُكْرَهُ صَوْمُهَا قَالَ: لِأَنَّهُ مَا رَأَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهَا وَلِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهَا (وَالْجَوَابُ) أَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ النَّصِّ بِذَلِكَ لَا حُكْمَ لِهَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا هَذَا الْحَدِيثُ يَعْنِي حَدِيثُ مُسْلِمٍ وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْرَ صَوْمِهَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَامَهَا مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُتَوَالِيَةً وَمَنْ صَامَهَا عَقِيبَ الْعِيدِ أَوْ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ مُتَفَرِّقًا فَهُوَ جَائِزٌ (قُلْت): وَلَا دَلِيلَ عَلَى اخْتِيَارِ كَوْنِهَا مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ إذْ مَنْ أَتَى بِهَا فِي شَوَّالٍ فِي أَيِّ أَيَّامِهِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَتْبَعَ رَمَضَانَ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِصِيَامِ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَرَمَضَانُ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَسِتٌّ مِنْ شَوَّالٍ بِشَهْرَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ الدَّهْرِ وَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ (وَاعْلَمْ): أَنَّهُ قَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ: إنَّهُ قَدْ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ لَا فَهْمَ لَهُ مُغْتَرًّا بِقَوْلِ التِّرْمِذِيِّ إنَّهُ حَسَنٌ يُرِيدُ فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَخِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ (قُلْت): وَوَجْهُ الِاغْتِرَارِ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَصِفْهُ بِالصِّحَّةِ بَلْ بِالْحُسْنِ وَكَأَنَّهُ فِي نُسَخِهِ وَاَلَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ سِيَاقِهِ لِلْحَدِيثِ مَا لَفْظُهُ: قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ثُمَّ قَالَ: وَسَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، انْتَهَى (قُلْت): قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ: إنَّهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سَعِيدٌ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ. انْتَهَى ثُمَّ قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ وَقَدْ اعْتَنَى شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ بِجَمْعِ طُرُقِهِ فَأَسْنَدَهُ عَنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا رَوَوْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَأَكْثَرُهُمْ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ مِنْهُمْ السُّفْيَانَانِ وَتَابَعَ سَعْدًا عَلَى رِوَايَتِهِ أَخُوهُ يَحْيَى وَعَبْدُ رَبِّهِ وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَعَائِشَةُ وَلَفْظُ ثَوْبَانَ:«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَشَهْرُهُ بِعَشَرَةٍ وَمَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 582

«مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ سَبْعِينَ خَرِيفًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

638 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْته فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ إلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ سَبْعِينَ خَرِيفًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضِيلَةِ الصَّوْمِ فِي الْجِهَادِ مَا لَمْ يَضْعُفْ بِسَبَبِهِ عَنْ قِتَالِ عَدُوِّهِ وَكَانَ فَضِيلَةً، ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ جِهَادِ عَدُوِّهِ وَجِهَادِ نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَشَهْوَتِهِ، وَكَنَّى بِقَوْلِهِ:«بَاعَدَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» عَنْ سَلَامَتِهِ مِنْ عَذَابِهَا.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ وَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ شَهْرًا قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْته فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ»: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِشَهْرٍ دُونَ شَهْرٍ وَأَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ الصِّيَامَ أَحْيَانًا وَيَسْرُدُ الْفِطْرَ أَحْيَانًا وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ تَجَرُّدِهِ عَنْ الْأَشْغَالِ فَيُتَابِعُ الصَّوْمَ وَمِنْ عَكْسِ ذَلِكَ فَيُتَابِعُ الْإِفْطَارَ. وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَخُصُّ شَعْبَانَ بِالصَّوْمِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَدْ نَبَّهَتْ عَائِشَةُ عَلَى عِلَّةِ ذَلِكَ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَرُبَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ فَيَجْتَمِعُ صَوْمُ السَّنَةِ فَيَصُومُ شَعْبَانَ» وَفِيهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: كَانَ يَصُومُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِرَمَضَانَ كَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ فَقَالَ: شَعْبَانُ تَعْظِيمًا لِرَمَضَانَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِيهِ صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقِيلَ: كَانَ يَصُومُهُ «؛ لِأَنَّهُ شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ النَّاسُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ» كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ

ص: 583

639 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ نَصُومَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَك تَصُومُ فِي شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ فِي شَعْبَانَ قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ فِيهِ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» قُلْت: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ لِهَذِهِ الْحِكَمِ كُلِّهَا وَقَدْ عُورِضَ حَدِيثُ «إنَّ صَوْمَ شَعْبَانَ أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ» بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ» وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ لَحَافَظَ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ صِيَامِهِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ فَأُجِيبَ بِأَنَّ تَفْضِيلَ صَوْمِ الْمُحَرَّمِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَفَضْلُ شَعْبَانَ مُطْلَقًا وَأَمَّا عَدَمُ إكْثَارِهِ لِصَوْمِ الْمُحَرَّمِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ: لِأَنَّهُ إنَّمَا عَلِمَ ذَلِكَ آخِرَ عُمُرِهِ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَصُومَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: (ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) الْحَدِيثُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ «فَإِنْ كُنْت صَائِمًا فَصُمْ الْغُرَّ أَيْ الْبِيضَ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ عَنْ النَّسَائِيّ «فَإِنْ كُنْت صَائِمًا فَصُمْ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ» وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ مَلْحَانَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَالَ: هِيَ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ» وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا «صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ثَلَاثِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ» الْحَدِيثُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مُطْلَقَةً وَمُبَيِّنَةً بِغَيْرِ الثَّلَاثَةِ.

وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ عِدَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَا يُبَالِي فِي أَيِّ الشَّهْرِ صَامَ» وَأَمَّا الْمُبَيِّنَةُ بِغَيْرِ الثَّلَاثِ فَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَالِاثْنَيْنِ مِنْ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى» وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا دَالَّةٌ عَلَى نَدْبِيَّةِ صَوْمِ كُلِّ مَا وَرَدَ وَكُلٌّ مِنْ

ص: 584

640 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، زَادَ أَبُو دَاوُد " غَيْرَ رَمَضَانَ "

641 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

642 -

وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

الرُّوَاةِ حَكَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَوَصَّى بِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ. وَأَمَّا فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم فَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُشْغِلُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ وَقَدْ عَيَّنَ الشَّارِعُ أَيَّامَ الْبِيضِ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي يُنْدَبُ صَوْمُهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَقْوَالٌ عَشْرَةٌ سَرْدُهَا فِي الشَّرْحِ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ) أَيْ الْمُزَوَّجَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ) أَيْ حَاضِرٌ (إلَّا بِإِذْنِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ زَادَ أَبُو دَاوُد غَيْرَ رَمَضَانَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِحَقِّ الزَّوْجِ مِنْ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ وَأَمَّا رَمَضَانُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَرِهَ الزَّوْجُ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَلَوْ صَامَتْ النَّفَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَتْ فَاعِلَةً لِمُحَرَّمٍ.

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْم هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ فِي الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِمَعْصِيَةٍ وَقِيلَ: يَصُومُ مَكَانَهَا عَنْهُمَا.

(وَعَنْ نُبَيْشَةَ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ

ص: 585

643 -

وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَا: لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

يُقَالُ لَهُ: نُبَيْشَةُ الْخَيْرِ بْنُ عَمْرٍو وَقِيلَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ (الْهُذَلِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ) وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَقِيلَ: يَوْمَانِ بَعْدَ النَّحْرِ «أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَصَلَاةٍ فَلَا يَصُومُهَا أَحَدٌ» .

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو فِي قِصَّتِهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِإِفْطَارِهَا وَيَنْهَاهُمْ عَنْ صِيَامِهَا» أَيْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» الْبِعَالُ مُوَاقَعَةُ النِّسَاءِ وَالْحَدِيثُ وَمَا سُقْنَاهُ فِي مَعْنَاهُ دَالٌّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ هَلْ هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَا يَصُومُهَا الْمُتَمَتِّعُ وَلَا غَيْرُهُ وَجَعَلُوهُ مُخَصَّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِيمَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْحَدِيثُ خَاصٌّ بِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ عُمُومٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْحَجِّ وَغَيْرِهِ فَيُرَجَّحُ خُصُوصُهَا لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ وَأَنَّ ذَاتَهَا بِاعْتِبَارِ مَا هِيَ مُؤَهَّلَةٌ لَهُ كَأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلصَّوْمِ، وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَصُومُهَا الْمُتَمَتِّعُ الْفَاقِدُ لِلْهَدْيِ كَمَا يُفِيدُهُ سِيَاقُ الْآيَةِ وَرِوَايَةُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالُوا: وَلَا يَصُومُهَا الْقَارِنُ وَالْمُحْصَرُ إذَا فَقَدَ الْهَدْيَ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ يَصُومُهَا الْمُتَمَتِّعُ وَمَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَهُوَ الْمُحْصَرُ وَالْقَارِنُ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِمَا أَفَادَهُ: (643) - وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَا: لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَا: لَمْ يُرَخَّصْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

فَإِنَّهُ أَفَادَ أَنَّ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ جَائِزٌ رُخْصَةً لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ وَكَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا أَوْ مُحْصَرًا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَاعِلَ يُرَخَّصُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ مَرْفُوعٌ وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ.

ثَالِثًا أَنَّهُ إنْ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ حُجَّةً وَإِلَّا فَلَا وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِالْفَاعِلِ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ إلَّا أَنَّهَا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَلَفْظُهَا «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَمَتِّعِ

ص: 586

644 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ» إلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْمُتَمَتِّعَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ فِعْلِ عَائِشَةَ وَأَبِي بَكْرٍ وَفُتْيَا لِعَلِيٍّ عليه السلام وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلٌ لَا يَنْهَضُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ تَخْصِيصِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِالْعِبَادَةِ بِصَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ إلَّا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ كَقِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ فَإِنَّهُ وَرَدَ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِقِرَاءَتِهَا وَسُوَرٍ أُخَرَ وَرَدَتْ بِهَا أَحَادِيثُ فِيهَا مَقَالٌ.

وَقَدْ دَلَّ هَذَا بِعُمُومِهِ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَلَوْ ثَبَتَ حَدِيثُهَا لَكَانَ مُخَصِّصًا لَهَا مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ لَكِنَّ حَدِيثَهَا تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ وَحَكَمُوا بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ النَّفْلِ بِصَوْمِ يَوْمِهَا مُنْفَرِدًا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ الْجُمُعَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ صَوْمِ الْعِيدِ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ الْعِيدِ وَلَوْ صَامَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ إفْرَادِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ لِلتَّنْزِيهِ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ فَكَانَ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم قَرِينَةً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال.

وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ صَوْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ أَظْهَرُهَا أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ كَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدِكُمْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَطَوِّعًا مِنْ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَلَا يَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَوْمُ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَذِكْرٍ " وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ صَوْمِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَالْعِيدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ تَزُولُ حُرْمَةُ صَوْمِهِ بِصِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ وَيَوْمٍ بَعْدَهُ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ:

ص: 587

645 -

وَعَنْهُ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

646 -

وَعَنْهُ أَيْضًا رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَاسْتَنْكَرَهُ أَحْمَدُ.

647 -

وَعَنْ الصَّمَّاءِ بِنْتِ بُسْرٍ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا

وَعَنْهُ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى زَوَالِ تَحْرِيمِ صَوْمِهِ لِحِكْمَةٍ لَا نَعْلَمُهَا فَلَوْ أَفْرَدَهُ بِالصَّوْمِ وَجَبَ فِطْرُهُ كَمَا يُفِيدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ «جُوَيْرِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ لَهَا: أَصُمْت أَمْسِ قَالَتْ: لَا. قَالَ: تَصُومِينَ غَدًا قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَأَفْطِرِي» وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ.

(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَاسْتَنْكَرَهُ أَحْمَدُ) وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَإِنَّمَا اسْتَنْكَرَهُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قُلْت: وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّقْرِيبِ: إنَّهُ صَدُوقٌ وَرُبَّمَا وَهِمَ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ بَعْدَ انْتِصَافِهِ وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِحَدِيثِ " إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا مُعْتَادًا " كَمَا تَقَدَّمَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ إلَى التَّحْرِيمِ لِهَذَا النَّهْيِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُكْرَهُ إلَّا قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مُؤَوَّلٌ بِمَنْ يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ وَكَأَنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ» وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ كَانَ الْقَوْلُ مُقَدَّمًا

ص: 588

تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا لِحَاءَ عِنَبٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهَا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ مَنْسُوخٌ

648 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهَذَا لَفْظُهُ.

(وَعَنْ الصَّمَّاءِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بِنْتِ بُسْرٍ بِالْمُوَحَّدَةِ مَضْمُومَةٌ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ اسْمُهَا بُهَيَّةُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقِيلَ: اسْمُهَا بُهَيْمَةُ بِزِيَادَةِ الْمِيمِ هِيَ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَوَى عَنْهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا لِحَاءَ» بِفَتْحِ اللَّامِ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَمْدُودَةٍ (عِنَبٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ النُّونِ فَمُوَحَّدَةٍ الْفَاكِهَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَالْمُرَادُ قِشْرُهُ (أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهَا) أَيْ يَطْعَمْهَا لِلْفِطْرِ بِهَا (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ مَنْسُوخٌ) أَمَّا الِاضْطِرَابُ فَلِأَنَّهُ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ وَقِيلَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أُخْتِهِ قِيلَ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ فَإِنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ بُسْرٍ وَقِيلَ عَنْ الصَّمَّاءِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ النَّسَائِيّ هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُخْتِهِ وَعِنْدَ أُخْتِهِ بِوَاسِطَةٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ وَقَدْ رَجَّحَ عَبْدُ الْحَقِّ الطَّرِيقَ الْأُولَى وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَكِنَّ هَذَا التَّلَوُّنَ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ بِإِسْنَادِ الْوَاحِدِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ يُوهِي الرِّوَايَةَ وَيُنْبِئُ بِقِلَّةِ الضَّبْطِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِجَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى قِلَّةِ الضَّبْطِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ بَلْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الرَّاوِي أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ وَأَمَّا إنْكَارُ مَالِكٍ لَهُ فَإِنَّهُ قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ مَالِكٍ: إنَّهُ قَالَ: هَذَا كَذِبٌ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي دَاوُد: إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ نَاسِخَهُ قَوْلُهُ.

648 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهَذَا لَفْظُهُ.

ص: 589

649 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ‌

‌ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ».

رَوَاهُ الْخَمْسَةُ غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَاسْتَنْكَرَهُ الْعُقَيْلِيُّ

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مَا كَانَ يَصُومُ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَهَذَا لَفْظُهُ فَالنَّهْيُ عَنْ صَوْمِهِ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ حَيْثُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ كَانَ آخِرَ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم مُخَالَفَتَهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ نَفْسُهُ، وَقِيلَ: بَلْ النَّهْيُ كَانَ عَنْ إفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ إلَّا إذَا صَامَ مَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ.

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ الشَّهْرِ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ وَمِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ» وَحَدِيثُ الْكِتَابِ دَالٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ مُخَالَفَةً؛ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَظَاهِرُهُ صَوْمُ كُلٍّ عَلَى الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَاسْتَنْكَرَهُ الْعُقَيْلِيُّ)؛ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ مَهْدِيًّا الْهَجَرِيَّ ضَعَّفَهُ الْعُقَيْلِيُّ وَقَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ الرَّاوِي عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قُلْت فِي الْخُلَاصَةِ: إنَّهُ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا أَعْرِفُهُ وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَصَحَّحَ حَدِيثَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُسْتَدْرَكِ وَلَمْ يَعُدَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ فِي الْمَعْنَى وَأَمَّا الرَّاوِي عَنْهُ فَإِنَّهُ حَوْشَبُ بْنُ عَبْدَلٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّقْرِيبِ: إنَّهُ ثِقَةٌ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَجِبُ إفْطَارُهُ عَلَى الْحَاجِّ، وَقِيلَ: لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَضْعُفْ عَنْ الدُّعَاءِ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إفْطَارُهُ.

وَأَمَّا هُوَ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ مُفْطِرًا فِي حَجَّتِهِ وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ تَرْكُهُ الصَّوْمَ عَلَى تَحْرِيمِهِ (نَعَمْ) يَدُلُّ؛ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ هُوَ الْأَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الْمَفْضُولَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْرِيعِ وَالتَّبْلِيغِ بِالْفِعْلِ وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّهْيِ.

ص: 590

650 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

651 -

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظِ: " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ "

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ قَالَ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ فُسِّرَ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ عَنْ صَنِيعِهِ وَالْآخَرُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بِمُكَابَدَةِ سُورَةِ الْجُوعِ وَحَرِّ الظَّمَأِ لِاعْتِيَادِهِ الصَّوْمَ حَتَّى خَفَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الْجَهْدِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ فَضِيلَةُ الصَّوْمِ وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ لِلْإِخْبَارِ قَوْلُهُ.

651 -

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظِ: " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ "(وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ ") وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ " لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ " قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنْ كَانَ دُعَاءً فَيَا وَيْحَ مَنْ دَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْخَبَرَ فَيَا وَيْحَ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَصُمْ وَإِذَا لَمْ يَصُمْ شَرْعًا فَكَيْفَ يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابٌ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِيَامِ الْأَبَدِ فَقَالَ بِتَحْرِيمِهِ طَائِفَةٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ خُزَيْمَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى جَوَازِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ صَامَهُ مَعَ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ مَرْدُودٌ بِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَمْرٍو عَنْ‌

‌ صَوْمِ الدَّهْرِ

وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقًّا وَلِأَهْلِهِ حَقًّا وَلِضَيْفِهِ حَقًّا وَلِقَوْلِهِ «أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَالتَّحْرِيمُ هُوَ الْأَوْجُهُ دَلِيلًا وَمِنْ أَدِلَّتِهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ وَعُقِدَ بِيَدِهِ» قَالَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَحَبُّ صَوْمُ الدَّهْرِ لِمَنْ لَا يُضْعِفُهُ عَنْ حَقِّهِ وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ النَّهْيِ تَأْوِيلًا غَيْرَ رَاجِحٍ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَبَهُ صَوْمِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ مَعَ رَمَضَانَ وَشَبَهُ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِصَوْمِ الدَّهْرِ فَلَوْلَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ لَمَّا شُبِّهَ بِهِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فَإِنَّهَا تُغْنِي عَنْهُ كَمَا أَغْنَتْ الْخَمْسُ الصَّلَوَاتُ عَنْ الْخَمْسِينَ الصَّلَاةِ

ص: 591

‌باب الاعتكاف وقيام رمضان

652 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

الَّتِي قَدْ كَانَتْ فُرِضَتْ مَعَ أَنَّهُ لَوْ صَلَّاهَا أَحَدٌ لِوُجُوبِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ ثَوَابًا بَلْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ نَعَمْ أَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَقَدْ وَهَبَ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ عز وجل» إلَّا أَنَّا لَا نَدْرِي مَا صِحَّتُهُ.

الِاعْتِكَافُ لُغَةً لُزُومُ الشَّيْءِ وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَشَرْعًا الْمَقَامُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (وَقِيَامُ رَمَضَانَ) أَيْ قِيَامُ لَيَالِيِهِ مُصَلِّيًا أَوْ تَالِيًا قَالَ النَّوَوِيُّ قِيَامُ رَمَضَانَ يَحْصُلُ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اسْتِغْرَاقُ كُلِّ اللَّيْلِ بِصَلَاةِ النَّافِلَةِ فِيهِ وَيَأْتِي مَا فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا) أَيْ تَصْدِيقًا بِوَعْدِ اللَّهِ لِلثَّوَابِ (وَاحْتِسَابًا) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ كَاَلَّذِي عَطَفَ عَلَيْهِ أَيْ طَلَبًا لِوَجْهِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، وَالِاحْتِسَابُ مِنْ الْحَسَبِ كَالِاعْتِدَادِ مِنْ الْعَدَدِ وَإِنَّمَا قِيلَ فِيمَنْ يَنْوِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ احْتَسَبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَعْتَدَّ عَمَلَهُ فَجَعَلَ فِي حَالِ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ قِيَامَ جَمِيعِ لَيَالِيِهِ وَأَنَّ مَنْ قَامَ بَعْضَهَا لَا يَحْصُلُ لَهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِطْلَاقُ الذَّنْبِ شَامِلٌ لِلْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالصَّغَائِرِ وَبِهِ جَزَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَسَبَهُ عِيَاضٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُغْفَرُ الْكَبَائِرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَقَدْ زَادَ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَتِهِ " مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ " وَقَدْ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ وَأُخْرِجَتْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَتَقَدَّمَ مَعْنَى مَغْفِرَةِ الذَّنْبِ الْمُتَأَخِّرِ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ قِيَامِ رَمَضَانَ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ

ص: 592

653 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ - أَيْ الْعَشْرُ الْأَخِيرَةُ مِنْ رَمَضَانَ - شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

654 -

وَعَنْهَا رضي الله عنها، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

أَنَّهُ يَحْصُلُ بِصَلَاةِ الْوِتْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ كَمَا سَلَفَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَمَّا التَّرَاوِيحُ عَلَى مَا اُعْتِيدَ الْآنَ فَلَمْ تَقَعْ فِي عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ ابْتَدَعَهَا عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ وَأَمَرَ أُبَيًّا أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ وَاخْتُلِفَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي بِهِ أُبَيٌّ فَقِيلَ: كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَرُوِيَ إحْدَى وَعِشْرُونَ وَرُوِيَ عِشْرُونَ رَكْعَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ ذَلِكَ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْ الْعَشْرُ الْأَخِيرَةُ مِنْ رَمَضَانَ» هَذَا التَّفْسِيرُ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي (شَدَّ مِئْزَرَهُ) أَيْ اعْتَزَلَ النِّسَاءَ (وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ " شَدَّ مِئْزَرَهُ ": إنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ التَّشْمِيرِ لِلْعِبَادَةِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ شَدَّ مِئْزَرَهُ جَمَعَهُ فَلَمْ يَحْلِلْهُ وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ وَشَمَّرَ لِلْعِبَادَةِ إلَّا أَنَّهُ يُبْعِدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِلَفْظِ " فَشَدَّ مِئْزَرَهُ وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ " فَإِنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ وَإِيقَاعُ الْإِحْيَاءِ عَلَى اللَّيْلِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِكَوْنِهِ زَمَانًا لِلْإِحْيَاءِ نَفْسِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ السَّهَرُ، وَقَوْلُهُ (أَيْقَظَ أَهْلَهُ) أَيْ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا خَصَّ بِذَلِكَ صلى الله عليه وسلم آخِرَ رَمَضَانَ لِقُرْبِ خُرُوجِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَيَجْتَهِدُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ الْعَمَلِ وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.

654 -

وَعَنْهَا رضي الله عنها، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ سُنَّةٌ وَاظَبَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ لَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّ الِاعْتِكَافَ مَسْنُونٌ وَأَمَّا الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهُوَ جَمْعُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْوَةِ مَعَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ تَعَالَى وَالتَّنَعُّمُ بِذِكْرِهِ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا عَدَاهُ.

ص: 593

655 -

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

656 -

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلَ عَلَيَّ رَأْسَهُ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ، إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

657 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً

(وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الِاعْتِكَافِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا نَهَارًا وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا لَيْلًا وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ كَانَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاتِهِ الْفَجْرَ يَخْلُو بِنَفْسِهِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي أَعَدَّهُ لِاعْتِكَافِهِ.

(قُلْت) وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ فَإِنَّهَا كَانَتْ عَادَتُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا عِنْدَ الْإِقَامَةِ.

(وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (قَالَتْ: «إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُدْخِلَ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ).

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ الْمَسْجِدِ بِكُلِّ بَدَنِهِ وَأَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ بَدَنِهِ لَا يَضُرُّ وَفِيهِ أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلْمُعْتَكِفِ النَّظَافَةُ وَالْغُسْلُ وَالْحَلْقُ وَالتَّزَيُّنُ وَعَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْخَاصَّةِ بِالْإِنْسَانِ يَجُوزُ فِعْلُهَا وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَى جَوَازِ اسْتِخْدَامِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ وَقَوْلُهُ (إلَّا لِحَاجَةٍ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِلْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجَةُ فَسَّرَهَا الزُّهْرِيُّ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى اسْتِثْنَائِهِمَا وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْحَاجَاتِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَأُلْحِقَ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ جَوَازُ الْخُرُوجِ لِلْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَنَحْوِهِمَا.

657 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً،

ص: 594

وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ إلَّا أَنَّ الرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ

658 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا

وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ إلَّا أَنَّ الرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ (وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» مِمَّا سَلَفَ وَنَحْوُهُ «وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ إلَّا أَنَّ الرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ مِنْ قَوْلِهَا " وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ " وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَوْلُهَا (لَا يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ) وَمَا عَدَاهُ مِمَّنْ دُونَهَا. انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي وَهُنَا قَالَ: إنَّ آخِرَهُ مَوْقُوفٌ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ لِشَيْءٍ مِمَّا عَيَّنَتْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَخْرُجُ لِشُهُودِ الْجُمُعَةِ وَأَنَّهُ إنْ فَعَلَ - أَيْ ذَلِكَ - بَطَلَ اعْتِكَافُهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ كَبِيرٌ وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ قَائِمٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ فِيهِ خِلَافٌ أَيْضًا وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمَوْقُوفُ دَالٌّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ وَفِيهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا فِي نَفْيِ شَرْطِيَّتِهِ وَمِنْهَا فِي إثْبَاتِهِ وَالْكُلُّ لَا يَنْهَضُ حُجَّةً إلَّا أَنَّ الِاعْتِكَافَ عُرِفَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَعْتَكِفْ إلَّا صَائِمًا. وَاعْتِكَافُهُ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَامَهَا وَلَمْ يَعْتَكِفْ إلَّا مِنْ ثَانِي شَوَّالٍ؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ يَوْمُ شُغْلِهِ بِالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ وَالْخُرُوجِ إلَى الْجَبَّانَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْمَسْجِدِ فَالْأَكْثَرُ عَلَى شَرْطِيَّتِهِ إلَّا عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ جَامِعًا أَنْ تُقَامَ فِيهِ الصَّلَوَاتُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَجُوزُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إلَّا لِمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ فَاسْتَحَبَّ لَهُ الشَّافِعِيُّ الْجَامِعَ وَفِيهِ مِثْلُ مَا فِي الصَّوْمِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَكِفْ إلَّا فِي مَسْجِدِهِ وَهُوَ مَسْجِدٌ جَامِعٌ وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ شَرْطِيَّةِ الصِّيَامِ قَوْلُهُ.

658 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا) عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ

ص: 595

659 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ، فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

660 -

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه، «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا أَوْرَدْتهَا فِي فَتْحِ الْبَارِي

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَرَفْعُهُ وَهْمٌ.

(قُلْت) وَلِلِاجْتِهَادِ فِي هَذَا مُصَرَّحٌ فَلَا يَقُومُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْمُرَادُ أَنْ يَنْذِرَ بِالصَّوْمِ.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَوْلُهُ (أُرُوا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ) أَيْ قِيلَ لَهُمْ فِي الْمَنَامِ: هِيَ (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّ (رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ) أَيْ تَوَافَقَتْ لَفْظًا وَمَعْنًى (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» .

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ «رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ كَذَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي فِي الْوِتْرِ مِنْهَا» .

وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «إنْ غُلِبْتُمْ فَلَا تُغْلَبُوا عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» وَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ الْعَشْرَ لِلِاحْتِيَاطِ مِنْهَا وَكَذَلِكَ السَّبْعُ وَالتِّسْعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَظِنَّةُ وَهُوَ أَقْصَى مَا يُظَنُّ فِيهِ الْإِدْرَاكُ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الرُّؤْيَا وَجَوَازِ الِاسْتِنَادِ إلَيْهَا فِي الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا تُخَالِفَ الْقَوَاعِدَ الشَّرْعِيَّةَ.

(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) مَرْفُوعًا (وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ) عَلَى مُعَاوِيَةَ وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا أَوْرَدْتهَا فِي فَتْحِ الْبَارِي) وَلَا حَاجَةَ إلَى سَرْدِهَا؛

ص: 596

661 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت إنْ عَلِمْت أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، غَيْرَ أَبِي دَاوُد، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ

لِأَنَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِي تَعْيِينِهَا كَالْقَوْلِ بِأَنَّهَا رُفِعَتْ وَالْقَوْلِ بِإِنْكَارِهَا مِنْ أَصْلِهَا فَإِنَّ هَذِهِ عَدَّهَا الْمُصَنِّفُ مِنْ الْأَرْبَعِينَ. وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي بَعْدَ سَرْدِهِ الْأَقْوَالَ: وَأَرْجَحُهَا كُلِّهَا أَنَّهَا فِي وِتْرِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ وَأَرْجَاهَا أَوْتَارُ الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إحْدَى وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ عَلَى مَا فِي حَدِيثَيْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَأَرْجَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ عَلِمْت أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ: قُولِي اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ غَيْرَ أَبِي دَاوُد وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ) قِيلَ: عَلَامَتُهَا أَنَّ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهَا يَرَى كُلَّ شَيْءٍ سَاجِدًا، وَقِيلَ: يَرَى الْأَنْوَارَ فِي كُلِّ مَكَان سَاطِعَةً حَتَّى الْمَوَاضِعِ الْمُظْلِمَةِ، وَقِيلَ: يَسْمَعُ سَلَامًا أَوْ خِطَابًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: عَلَامَتُهَا اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فَإِنَّهَا قَدْ تَحْصُلُ وَلَا يُرَى شَيْءٌ وَلَا يُسْمَعُ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَقَعُ الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ لِمَنْ اتَّفَقَ أَنَّهُ وَافَقَهَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ أَوْ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى كَشْفِهَا؟ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَآخَرُونَ، وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ وَيَدُلُّ لَهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ " مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا " قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ يُوَافِقُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ ذَلِكَ وَرَجَّحَ هَذَا الْمُصَنِّفُ قَالَ: وَلَا أُنْكِرُ حُصُولَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِمَنْ قَامَ لِابْتِغَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنْ لَمْ يُوَفَّقْ لَهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ الْمُعَيَّنِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَهُوَ مَغْفِرَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

ص: 597

662 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تُشَدُّ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ وَيُرْوَى بِسُكُونِهَا عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ (الرِّحَالُ) جَمْعُ رَحْلٍ وَهُوَ لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ وَشَدُّهُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَازَمَهُ غَالِبًا (إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) أَيْ الْمُحَرَّمُ (وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) اعْلَمْ أَنَّ إدْخَالَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي الثَّلَاثَةِ الْمَسَاجِدِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ النَّهْيُ مَجَازًا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ شَرْعًا أَنْ يُقْصَدَ بِالزِّيَارَةِ إلَّا هَذِهِ الْبِقَاعُ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَا اُخْتُصَّتْ بِهِ مِنْ الْمَزِيَّةِ الَّتِي شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ الْحَرَمُ كُلُّهُ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَذَا الْفَضْلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحْدَهُ أَمْ فِي الْحَرَمِ؟ قَالَ: بَلْ فِي الْحَرَمِ كُلِّهِ» وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ صلى الله عليه وسلم التَّعْيِينَ لِلْمَسْجِدِ قَالَ " مَسْجِدِي هَذَا " وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بَيْتُ الْمَقْدِسِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَسْجِدٌ كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْمَسَاجِدِ هَذِهِ وَدَلَّ بِمَفْهُومِ الْحَصْرِ أَنَّهُ يُحَرَّمُ شَدُّ الرِّحَالِ لِقَصْدِ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ كَزِيَارَةِ الصَّالِحِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ وَلِقَصْدِ الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ بِهَا وَالصَّلَاةِ فِيهَا وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَطَائِفَةٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ إنْكَارِ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ خُرُوجَهُ إلَى الطُّورِ وَقَالَ: لَوْ أَدْرَكْتُك قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مَا خَرَجْت.

وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَوَافَقَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَا يَنْهَضُ وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ الْبَابِ بِتَآوِيلَ بَعِيدَةٍ وَلَا يَنْبَغِي التَّأْوِيلُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَنْهَضَ عَلَى خِلَافِ مَا أَوَّلُوهُ الدَّلِيلُ وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى فَضْلِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَأَنَّ أَفْضَلَهَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ؛ لِأَنَّ لِلتَّقْدِيمِ ذِكْرًا يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةِ الْمُقَدَّمِ ثُمَّ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَقَدْ دَلَّ لِهَذَا أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَحَسَّنَ إسْنَادَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا

ص: 598

‌كتاب الحج

‌بَابُ فَضْلُهُ وَبَيَانُ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ

663 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

«الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَالصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ» وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخَرُ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ تَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ أَوْ تَخُصُّ الْأَوَّلَ؟ قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّهَا تَخُصُّ بِالْفُرُوضِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ الْمَعْرُوفِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ عَامٌّ فَيَشْمَلُ النَّافِلَةَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إذَا أُطْلِقَ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ إلَّا الْفَرِيضَةُ فَلَا يَشْمَلُهَا.

(كتاب الحج) الْحَجُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَوَّلُ فَرْضِهِ سَنَةُ سِتٍّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ أَنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَفِيهِ خِلَافٌ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ» قِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِثْمِ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَقِيلَ: الْمَقْبُولُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنْ يَكُونَ حَالُهُ بَعْدَهُ خَيْرًا مِنْ حَالِهِ قَبْلَهُ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِرُّ الْحَجِّ؟ قَالَ: إطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ» وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَلَوْ ثَبَتَ لَتَعَيَّنَ بِهِ التَّفْسِيرُ (لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْعُمْرَةُ لُغَةً الزِّيَارَةُ وَقِيلَ: الْقَصْدُ. وَفِي الشَّرْعِ إحْرَامٌ وَسَعْيٌ وَطَوَافٌ وَحَلْقٌ أَوْ تَقْصِيرٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُزَارُ بِهَا الْبَيْتُ وَيُقْصَدُ وَفِي قَوْلِهِ «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ» دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَحْدِيدَ بِوَقْتٍ (وَقَالَتْ) الْمَالِكِيَّةُ يُكْرَهُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ

ص: 599

664 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ

665 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ.

وَأَفْعَالُهُ صلى الله عليه وسلم تُحْمَلُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ (وَأُجِيبَ) عَنْهُ بِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الشَّيْءَ وَهُوَ يَسْتَحِبُّ فِعْلَهُ لِيَرْفَعَ الْمَشَقَّةَ عَنْ الْأُمَّةِ وَقَدْ نَدَبَ إلَى ذَلِكَ بِالْقَوْلِ.

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُ الْأَوْقَاتِ فِي شَرْعِيَّتِهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ: إلَّا لِلْمُتَلَبِّسِ بِالْحَجِّ وَقِيلَ إلَّا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقِيلَ: وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَقِيلَ: إلَّا أَشْهُرَ الْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مُطْلَقًا وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهَا فِيهَا فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ عُمْرَةَ الْأَرْبَعِ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَإِنْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ الرَّابِعَةُ فِي حَجِّهِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَارِنًا كَمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَجِلَّةُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ هُوَ إخْبَارٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِفْهَامُ قَالَ: نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ كَأَنَّهَا قَالَتْ مَا هُوَ فَقَالَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» أَطْلَقَ عَلَيْهِمَا لَفْظَ الْجِهَادِ مَجَازًا شَبَّهَهُمَا بِالْجِهَادِ وَأَطْلَقَهُ عَلَيْهِمَا بِجَامِعِ الْمَشَقَّةِ وَقَوْلُهُ (لَا قِتَالَ فِيهِ) إيضَاحٌ لِلْمُرَادِ وَبِذِكْرِهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً وَالْجَوَابُ مِنْ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ) أَيْ لِابْنِ مَاجَهْ (وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ أَيْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَأَفَادَتْ عِبَارَتُهُ أَنَّهُ إذَا أُطْلِقَ الصَّحِيحُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ «عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَا. لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» وَأَفَادَ تَقْيِيدَ إطْلَاقِ رِوَايَةِ أَحْمَدَ لِلْحَجِّ وَأَفَادَ أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْجِهَادِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَأَفَادَ أَيْضًا بِظَاهِرِهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ الْآتِي بِخِلَافِهِ وَهُوَ.

ص: 600

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ:" لَا. وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ

666 -

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ»

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ نِسْبَةً إلَى الْأَعْرَابِ وَهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ وَالْكَلَأِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ مَوَالِيهِمْ وَالْعَرَبِيُّ مَنْ كَانَ نَسَبُهُ إلَى الْعَرَبِ ثَابِتًا وَجَمْعُهُ أَعْرَابٌ وَيُجْمَعُ الْأَعْرَابِيُّ عَلَى الْأَعْرَابِ وَالْأَعَارِبِ «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْعُمْرَةِ أَيْ عَنْ حُكْمِهَا كَمَا أَفَادَهُ أَوَاجِبَةٌ هِيَ قَالَ: لَا» أَيْ لَا تَجِبُ وَهُوَ مِنْ الِاكْتِفَاءِ «وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك» أَيْ مِنْ تَرْكِهَا وَالْأَخْيَرِيَّةُ فِي الْأَجْرِ تَدُلُّ عَلَى نَدْبِهَا وَأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى تَكُونَ مِنْ الْمُبَاحِ وَالْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِدَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَجِبْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ بَلْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ فَأَبَانَ بِهَا نَدْبَهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) مَرْفُوعًا (وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ) عَلَى جَابِرٍ فَإِنَّهُ الَّذِي سَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَأَجَابَ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّا لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسْرَحٌ (وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ) وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِصْمَةَ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ وَأَبُو عِصْمَةَ كَذَّبُوهُ (ضَعِيفٌ)؛ لِأَنَّهُ فِي إسْنَادِهِ أَبَا عِصْمَةَ وَفِي إسْنَادِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ» سَيَأْتِي بِمَا فِيهِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْدُودٌ بِمَا فِي الْإِمَامِ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ حَسَنٌ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: إنَّهُ مَكْذُوبٌ بَاطِلٌ وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ شَيْءٌ ثَابِتٌ، أَنَّهَا تَطَوُّعٌ وَفِي إيجَابِهَا أَحَادِيثُ لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَاضِي وَكَالْحَدِيثِ.

666 -

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ» .

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ» وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ نَاهِضًا عَلَى إيجَابِ الْعُمْرَةِ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَنْ أَخْرَجَهُ وَلَا مَا قِيلَ فِيهِ وَاَلَّذِي فِي التَّلْخِيصِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ

ص: 601

667 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إرْسَالُهُ - وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ

وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ عَنْ عَطَاءٍ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِزِيَادَةِ " لَا يَضُرُّك بِأَيِّهِمَا بَدَأْت " وَفِي إحْدَى طَرِيقَيْهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ فِي الْأُخْرَى وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ مَوْقُوفًا وَإِسْنَادُهُ أَصَحُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الْأَدِلَّةُ فِي إيجَابِ الْعُمْرَةِ وَعَدَمِهِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ سَلَفًا وَخَلْفًا فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إلَى وُجُوبِهَا رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ عَنْهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَعَلَّقَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لِقَرِينَتِهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَوَصَلَهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِالْوُجُوبِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (بَابُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا) وَسَاقَ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ لِلْوُجُوبِ بِحَدِيثِ «حُجَّ عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرْ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا أَعْلَمُ فِي إيجَابِ الْعُمْرَةِ أَجْوَدَ مِنْهُ.

وَإِلَى الْإِيجَابِ ذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا وُجُوبَ الْإِتْمَامِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ وَلَوْ تَطَوُّعًا.

وَذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ فِي الْأَظْهَرِ.

وَالْأَدِلَّةُ لَا تَنْهَضُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ عَلَى الْإِيجَابِ الَّذِي الْأَصْلُ عَدَمُهُ.

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ أَيْ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) قُلْت وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالرَّاجِحُ إرْسَالُهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّوَابُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا قَالَ الْمُصَنِّفُ: يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ إلَى الْحَسَنِ وَلَا أَرَى الْمَوْصُولَ إلَّا وَهْمًا (وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا) أَيْ كَمَا أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ (وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ) وَإِنْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ حَسَنٌ وَذَلِكَ أَنَّ فِيهِ رَاوِيًا مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ طُرُقٍ كُلِّهَا ضَعِيفَةٌ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ:

ص: 602

668 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقَى رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَنْ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا. فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَك أَجْرٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

طُرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ الْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ مُسْنَدًا وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ الْمُرْسَلَةِ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ فَالزَّادُ شَرْطٌ مُطْلَقًا وَالرَّاحِلَةُ لِمَنْ دَارُهُ عَلَى مَسَافَةٍ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ بَعْدَ سَرْدِهِ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ مِنْ طُرُقٍ حِسَانٍ وَمُرْسَلَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي الْحَجِّ {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} إمَّا أَنْ يَعْنِيَ الْقُدْرَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ مُطْلَقُ الْمُكْنَةِ أَوْ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا التَّقْيِيدِ كَمَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ فِي آيَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَدْرٌ زَائِدٌ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ إلَّا الْمَالُ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى مَسَافَةٍ فَافْتَقَرَ وُجُوبُهَا إلَى مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ كَالْجِهَادِ، وَدَلِيلُ الْأَصْلِ قَوْلُهُ {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلَى قَوْلِهِ {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الْآيَةَ. انْتَهَى.

وَذَهَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ إلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ الصِّحَّةُ لَا غَيْرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فَإِنَّهُ فَسَّرَ الزَّادَ بِالتَّقْوَى.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ الْآيَةِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ سَبَبُ نُزُولِهَا. وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالزَّادِ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ وَإِنْ ضَعُفَتْ طُرُقُهُ فَكَثْرَتُهَا تَشُدُّ ضَعْفَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ كِفَايَةٌ فَاضِلَةٌ عَنْ كِفَايَةِ مَنْ يَعُولُ حَتَّى يَعُودَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَيُجْزِئُ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ حَرَامًا وَيَأْثَمُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَحْمَدُ لَا يُجْزِئُ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقَى) قَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَقِيَهُمْ لَيْلًا فَلَمْ يَعْرِفُوهُ صلى الله عليه وسلم وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَهَارًا وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ (رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ) بِرَاءٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ بِزِنَةٍ حَمْرَاءَ مَحَلٌّ قُرْبُ الْمَدِينَةِ «فَقَالَ: مَنْ الْقَوْمُ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ» بِسَبَبِ حَمْلِهَا وَحَجِّهَا بِهِ أَوْ بِسَبَبِ سُؤَالِهَا عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ بِسَبَبِ الْأَمْرَيْنِ (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَصِحُّ حَجُّ الصَّبِيِّ وَيَنْعَقِدُ سَوَاءٌ

ص: 603

669 -

وَعَنْهُ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ. فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَتَنْظُرُ إلَيْهِ. وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

كَانَ مُمَيِّزًا أَمْ لَا حَيْثُ فَعَلَ وَلِيُّهُ عَنْهُ مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَلَكِنَّهُ لَا يَجْزِيهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَيُّمَا غُلَامٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ زِيَادَةٌ قَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إذَا بَلَغَ عَنْ فَرِيضَةِ الْإِسْلَامِ إلَّا فِرْقَةٌ شَذَّتْ فَقَالَتْ: يُجْزِئُهُ لِقَوْلِهِ (نَعَمْ) فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ حَجَّ وَالْحَجُّ إذَا أُطْلِقَ يَتَبَادَرُ مِنْهُ مَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَهَبُوا إلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْوَلِيُّ الَّذِي يُحْرِمُ عَنْ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ هُوَ وَلِيُّ مَالِهِ وَهُوَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ أَوْ الْوَصِيُّ أَيْ الْمَنْصُوبُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهَا عَنْهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً عَنْهُ أَوْ مَنْصُوبَةً مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ إحْرَامُهَا وَإِحْرَامُ الْعُصْبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَالِ. وَصِفَةُ إحْرَامِ الْوَلِيِّ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ: جَعَلْته مُحْرِمًا.

(وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي مِنًى (فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَفْتُوحَةً فَمُثَلَّثَةٌ سَاكِنَةٌ فَعَيْنٌ مُهْمَلَةٌ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ (فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَتَنْظُرُ إلَيْهِ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي) حَالَ كَوْنِهِ (شَيْخًا) مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ (كَبِيرًا) يَصِحُّ صِفَةً وَلَا يُنَافِي اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْحَالِ نَكِرَةً إذْ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْهَا (لَا يَثْبُتُ) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ (عَلَى الرَّاحِلَةِ) يَصِحُّ صِفَةً أَيْضًا وَيَحْتَمِلُ الْحَالَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ " وَإِنْ شَدَدْته خَشِيت عَلَيْهِ "(أَفَأَحُجُّ) نِيَابَةً (عَنْهُ قَالَ: " نَعَمْ) أَيْ حُجِّي عَنْهُ (وَذَلِكَ) أَيْ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ) فِي الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ فَفِي بَعْضِهَا أَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ وَأَنَّهُ سَأَلَ " هَلْ يَحُجُّ عَنْ أُمِّهِ " فَيَجُوزُ تَعَدُّدُ

ص: 604

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْقَضِيَّةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ الْحَجُّ عَنْ الْمُكَلَّفِ إذَا كَانَ مَأْيُوسًا مِنْهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الشَّيْخُوخَةِ فَإِنَّهُ مَأْيُوسٌ زَوَالُهَا وَأَمَّا إذَا كَانَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ لِأَجْلِ مَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ يُرْجَى بُرْؤُهُمَا فَلَا يَصِحُّ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَعَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّحْجِيجِ عَنْهُ مِنْ الْأَمْرَيْنِ عَدَمُ ثَبَاتِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالْخَشْيَةُ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةٍ، فَمَنْ لَا يَضُرُّهُ الشَّدُّ كَاَلَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْمِحَفَّةِ لَا يُجْزِئُهُ حَجُّ الْغَيْرِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى فِي الْبَحْرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الصِّحَّةَ وَهِيَ الَّتِي يَسْتَمْسِكُ مَعَهَا قَاعِدًا شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ فَذَاكَ وَإِلَّا فَالدَّلِيلُ مَعَ مَنْ ذَكَرْنَا. قِيلَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ إذَا تَبَرَّعَ أَحَدٌ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُبَيِّنَ أَنَّ أَبَاهَا مُسْتَطِيعٌ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إلَّا الْإِجْزَاءُ لَا الْوُجُوبُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهَا قَدْ عَرَفَتْ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى أَبِيهَا كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهَا «إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ» فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عِلْمِهَا بِشَرْطِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الِاسْتِطَاعَةُ.

وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِإِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنْ فَرِيضَةِ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا عَنْ مَوْتٍ أَوْ عَدَمِ قُدْرَةِ مَنْ عَجَزَ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنْ الْغَيْرِ فِيهِ مُطْلَقًا لِلتَّوْسِيعِ فِي النَّفْلِ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْحَجَّ عَنْ فَرْضِ الْغَيْرِ لَا يُجْزِئُ أَحَدًا وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِصَاحِبَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِصَاصُ خِلَافَ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِزِيَادَةٍ رُوِيَتْ فِي الْحَدِيثِ بِلَفْظِ «حُجِّي عَنْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَك» وَرُدَّ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ رُوِيَتْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْوَلَدِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَقَدْ نَبَّهَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» كَمَا يَأْتِي فَجَعَلَهُ دَيْنًا وَالدَّيْنُ يَصِحُّ أَنْ يَقْضِيَهُ غَيْرُ الْوَلَدِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا يَأْتِي مِنْ حَدِيثِ شُبْرُمَةَ.

ص: 605

670 -

وَعَنْهُ رضي الله عنهما، «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ امْرَأَةً) قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا وَلَا اسْمِ أُمِّهَا (مِنْ جُهَيْنَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَنُونٌ اسْمُ قَبِيلَةٍ «جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاذِرَ بِالْحَجِّ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَجْزَأَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَلَدُهُ وَقَرِيبُهُ، وَيُجْزِئُهُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْأَلْهَا حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَمْ لَا وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ يُجَوِّزُ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلُ دَيْنَ غَيْرِهِ قَبْلَ دَيْنِهِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ شُبْرُمَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ حَجِّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَهُ إلَى دَيْنِ غَيْرِهِ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِدَيْنِ نَفْسِهِ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَتَشْبِيهُ الْمَجْهُولِ حُكْمُهُ بِالْمَعْلُومِ فَإِنَّهُ دَلَّ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ الْمَيِّتِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ مُتَقَرِّرًا، وَلِهَذَا حَسُنَ الْإِلْحَاقُ بِهِ. وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّحْجِيجِ عَنْ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ أَوْصَى أَمْ لَمْ يُوصِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ قَضَاؤُهُ مُطْلَقًا وَكَذَا سَائِرُ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ مِنْ كَفَّارَةٍ وَنَحْوِهَا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالشَّافِعِيُّ.

وَيَجِبُ إخْرَاجُ الْأُجْرَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَهُمْ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} الْآيَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ خَصَّهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَقِيلَ: اللَّامُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} أَيْ عَلَيْهِمْ وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ.

ص: 606

671 -

وَعَنْهُ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أَعْتَقَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إلَّا أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ

672 -

وَعَنْهُ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اُكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِك» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ فَمُثَلَّثَةٍ أَيْ الْإِثْمَ أَيْ بَلَغَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ حِنْثُهُ (فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، «وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أَعْتَقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى». رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ) قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَلِلْمُحَدِّثِينَ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ مَرْفُوعًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجَدِّدَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَتْ فَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ» وَمِثْلُهُ قَالَ فِي الْعَبْدِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالْمُرْسَلُ إذَا عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ حُجَّةً اتِّفَاقًا، قَالَ: وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ وَلَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ.

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ أَيْ أَجْنَبِيَّةٍ لِقَوْلِهِ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَلَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ

ص: 607

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» فَقَامَ رَجُلٌ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اُكْتُتِبَتْ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا؛ فَقَالَ: انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِك» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَهُوَ إجْمَاعٌ وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ " فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ " وَهَلْ يَقُومُ غَيْرُ الْمَحْرَمِ مَقَامَهُ فِي هَذَا بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا مَنْ يُزِيلُ مَعْنَى الْخَلْوَةِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقُومُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ لِلنَّهْيِ إنَّمَا هُوَ خَشْيَةَ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُمَا الشَّيْطَانُ الْفِتْنَةَ.

وَقَالَ الْقَفَّالُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَحْرَمِ عَمَلًا بِلَفْظِ الْحَدِيثِ. وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي قَلِيلِ السَّفَرِ وَكَثِيرِهِ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُقَيِّدَةٌ لِهَذَا الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنَّهَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا فَفِي لَفْظٍ «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وَفِي آخَرَ " فَوْقَ ثَلَاثٍ " وَفِي آخَرَ " مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ " وَفِي آخَرَ " ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ " وَفِي لَفْظٍ " بَرِيدًا " وَفِي آخَرَ " ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " قَالَ النَّوَوِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّحْدِيدِ ظَاهِرُهُ بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا فَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْهُ إلَّا بِالْمَحْرَمِ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّحْدِيدُ عَنْ أَمْرٍ وَاقِعٍ فَلَا يُعْمَلُ بِمَفْهُومِهِ.

وَلِلْعُلَمَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ قَالُوا: وَيَجُوزُ سَفَرُ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا فِي الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَالْمَخَافَةِ عَلَى نَفْسِهَا وَلِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْ النُّشُوزِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي سَفَرِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّابَّةِ إلَّا مَعَ مَحْرَمٍ وَنَقَلَ قَوْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُسَافِرُ وَحْدَهَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلَمْ يَنْهَضْ دَلِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} عُمُومٌ شَامِلٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَقَوْلَهُ «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» عُمُومٌ لِكُلِّ أَنْوَاعِ السَّفَرِ فَتَعَارَضَ الْعُمُومَانِ وَيُجَابُ بِأَنَّ أَحَادِيثَ لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ لِلْحَجِّ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْآيَةِ. ثُمَّ الْحَدِيثُ عَامٌّ لِلشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَجُوزُ لِلْعَجُوزِ السَّفَرُ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى الْمَعْنَى فَخَصَّصُوا بِهِ الْعُمُومَ وَقِيلَ: لَا يُخَصَّصُ بَلْ الْعَجُوزُ كَالشَّابَّةِ وَهَلْ تَقُومُ النِّسَاءُ الثِّقَاتُ مَقَامَ الْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ؟ فَأَجَازَهُ الْبَعْضُ مُسْتَدِلًّا بِأَفْعَالِ الصَّحَابَةِ وَلَا تَنْهَضُ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ إذَا كَانَتْ ذَاتَ حَشَمٍ وَالْأَدِلَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَحْمَدُ أَنَّهُ يَجِبُ خُرُوجُ الزَّوْجِ مَعَ زَوْجَتِهِ إلَى الْحَجِّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا غَيْرُهُ وَغَيْرُ أَحْمَدَ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَحَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ لَا يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ إلَّا لِقَرِينَةٍ عَلَيْهِ فَالْقَرِينَةُ عَلَيْهِ مَا عُلِمَ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ بَذْلَ مَنَافِعَ نَفْسِهِ لِتَحْصِيلِ غَيْرِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَأُخِذَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنْ حَجِّ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ، قِيلَ:

ص: 608

673 -

وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةَ؟ قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي، فَقَالَ: حَجَجْت عَنْ نَفْسِك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِك ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ

وَعَلَى الثَّانِي أَيْضًا فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُسَارِعَ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا كَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا.

وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَلَهَا مَالٌ وَلَا يُؤْذَنُ لَهَا فِي الْحَجِّ " لَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْطَلِقَ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا " فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ دُونِ إذْنِ زَوْجِهَا.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إنَّهُ يَصِحُّ الْحَجُّ مِنْ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَمِنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ مِثْلُ الْمَرِيضِ وَالْفَقِيرِ وَالْمَعْضُوبِ وَالْمَقْطُوعِ طَرِيقُهُ وَالْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا تَكَلَّفُوا شُهُودَ الْمَشَاهِدِ أَجْزَأَهُمْ الْحَجُّ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ كَاَلَّذِي يَحُجُّ مَاشِيًا وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُسِيءٌ فِي ذَلِكَ كَاَلَّذِي يَحُجُّ بِالْمَسْأَلَةِ وَالْمَرْأَةُ تَحُجُّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ تَامَّةٌ وَالْمَعْصِيَةَ إنْ وَقَعَتْ فَهِيَ فِي الطَّرِيقِ لَا فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ.

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ» بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ فَمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ (قَالَ: " مَنْ شُبْرُمَةَ " قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي) شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي «فَقَالَ: حَجَجْت عَنْ نَفْسِك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِك ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: رَفْعُهُ خَطَأٌ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمُرْسَلُ أَصَحُّ، قَالَ الْمُصَنِّفُ هُوَ كَمَا قَالَ لَكِنَّهُ يُقَوِّي الْمَرْفُوعَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ رِجَالِهِ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إنَّ أَحْمَدَ حَكَمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ عَنْهُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ فَيَكُونُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى ثِقَةِ مَنْ رَفَعَهُ قَالَ: وَقَدْ رَفَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَلَيْسَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ مُخَالِفٌ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى

ص: 609

674 -

وَعَنْهُ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ قُلْتهَا لَوَجَبَتْ، الْحَجُّ مَرَّةً، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ. وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ

أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ لَبَّى عَنْ شُبْرُمَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ النِّيَّةُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا لَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيَّ فِيهِ، وَأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ مَعَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَيَنْعَقِدُ مُطْلَقًا مَجْهُولًا مُعَلَّقًا فَجَازَ أَنْ يَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ وَيَكُونَ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ عَنْ الْغَيْرِ بَاطِلٌ؛ لِأَجْلِ النَّهْيِ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَبُطْلَانُ صِفَةِ الْإِحْرَامِ لَا تُوجِبُ بُطْلَانَ أَصْلِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مُطْلَقًا مُسْتَطِيعًا كَانَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ وَالتَّفْرِيقِ فِي حِكَايَةِ الْأَحْوَالِ دَالٌّ عَلَى الْعُمُومِ وَلِأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ فَإِذَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فَرْضٌ وَالثَّانِي نَفْلٌ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ وَمَعَهُ دَرَاهِمُ بِقَدْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَّا إلَى دَيْنِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا احْتَاجَ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى وَاجِبٍ عَنْهُ فَلَا يَصْرِفُهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمُسْتَطِيعِ وَلِذَا قِيلَ: إنَّمَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَغَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ عُمُومِ الْحَدِيثِ أَوْلَى.

(وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَوْ قُلْتهَا لَوَجَبَتْ. الْحَجُّ مَرَّةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) وَفِي رِوَايَةِ زِيَادٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَوَجَبَتْ «وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا وَلَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَعُذِّبْتُمْ» وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمْرِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مُسْتَطِيعٍ. وَقَدْ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ قُلْت: نَعَمْ لَوَجَبَتْ أَنَّهُ يَجُوزُ

ص: 610

‌باب المواقيت

675 -

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

أَنْ يُفَوِّضَ اللَّهُ إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم شَرْحَ الْأَحْكَامِ وَمَحَلُّ الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولُ وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الشَّارِحُ رحمه الله.

(باب المواقيت) الْمَوَاقِيتُ جَمْعُ مِيقَاتٍ وَالْمِيقَاتُ مَا حُدَّ وَوُقِّتَ لِلْعِبَادَةِ مِنْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَالتَّوْقِيتُ التَّحْدِيدُ وَلِهَذَا يُذْكَرُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَدَّدَهُ الشَّارِعُ لِلْإِحْرَامِ مِنْ الْأَمَاكِنِ.

(عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ اللَّامِ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ وَفَاءُ تَصْغِيرِ حَلْفَةَ وَالْحَلْفَةُ وَاحِدَةُ الْحَلْفَاءِ نَبْتٌ فِي الْمَاءِ وَهِيَ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ عَشْرُ مَرَاحِلَ وَهِيَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى فَرْسَخٍ وَبِهَا الْمَسْجِدُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَالْبِئْرُ الَّتِي تُسَمَّى الْآنَ بِئْرَ عَلِيٍّ وَهِيَ أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ «وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ» بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَفَاءٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّيْلَ احْتَجَفَ أَهْلَهَا إلَى الْجَبَلِ الَّذِي هُنَالِكَ وَهِيَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَتُسَمَّى مَهْيَعَةَ كَانَتْ قَرْيَةً قَدِيمَةً وَهِيَ الْآنَ خَرَابٌ وَلِذَا يُحْرِمُونَ الْآنَ مِنْ رَابِغٍ قَبْلَهَا بِمَرْحَلَةٍ لِوُجُودِ الْمَاءِ بِهَا لِلِاغْتِسَالِ «وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ» بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَيُقَالُ لَهُ: قَرْنُ الثَّعَالِبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ «وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ» بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ (هُنَّ) أَيْ الْمَوَاقِيتُ (لَهُنَّ) أَيْ لِلْبُلْدَانِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُرَادُ؛ لِأَهْلِهَا وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هُنَّ لَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ (وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ وَلِمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الْمَوَاقِيتِ (فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ) يُحْرِمُونَ (مِنْ مَكَّةَ) بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

فَهَذِهِ الْمَوَاقِيتُ الَّتِي عَيَّنَهَا صلى الله عليه وسلم لِمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ وَهِيَ أَيْضًا مَوَاقِيتُ لِمَنْ أَتَى عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْآفَاقِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْهَا إذَا أَتَى عَلَيْهَا قَاصِدًا لِإِتْيَانِ مَكَّةَ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا إذَا وَرَدَ الشَّامِيُّ مَثَلًا إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهَا وَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى يَصِلَ الْجُحْفَةَ فَإِنْ أَخَّرَ أَسَاءَ وَلَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ: إنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى مِيقَاتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ لَهُ خِلَافَهُ

ص: 611

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَالُوا: وَالْحَدِيثُ مُحْتَمَلٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ (هُنَّ لَهُنَّ) ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَقْطَارِ سَوَاءٌ وَرَدَ عَلَى مِيقَاتِهِ أَوْ وَرَدَ عَلَى مِيقَاتٍ آخَرَ فَإِنَّ لَهُ الْعُدُولَ إلَى مِيقَاتِهِ كَمَا لَوْ وَرَدَ الشَّامِيُّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ بَلْ يُحْرِمُ مِنْ الْجُحْفَةِ وَعُمُومُ قَوْلِهِ: (وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الشَّامِيِّ فِي مِثَالِنَا أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَوْلُهُ «وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ» يَشْمَلُ مَنْ مَرَّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَمَنْ لَمْ يَمُرَّ وَقَوْلُهُ (وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ) يَشْمَلُ الشَّامِيَّ إذَا مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَغَيْرَهُ فَهَاهُنَا عُمُومَانِ قَدْ تَعَارَضَا انْتَهَى مُلَخَّصًا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيَحْصُلُ الِانْفِكَاكُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: " هُنَّ لَهُنَّ " مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ مَثَلًا: وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سَاكِنُوهَا وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَ مِيقَاتِهِمْ فَمَرَّ عَلَى مِيقَاتِهِمْ انْتَهَى (قُلْت): وَإِنْ صَحَّ مَا قَدْ رَوَى مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ مَرَّ بِهِمْ ذَا الْحُلَيْفَةِ» تَبَيَّنَ أَنَّ الْجُحْفَةَ إنَّمَا هِيَ مِيقَاتٌ لِلشَّامِيِّ إذَا لَمْ يَأْتِ الْمَدِينَةَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مُحِيطَةٌ بِالْبَيْتِ كَإِحَاطَةِ جَوَانِبِ الْحَرَمِ فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِجَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهِ لَزِمَهُ تَعْظِيمُ حُرْمَتِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ جَوَانِبِهِ أَبْعَدَ مِنْ بَعْضٍ وَدَلَّ قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ) عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ فَمِيقَاتُهُ حَيْثُ أَنْشَأَ الْإِحْرَامَ إمَّا مِنْ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» دَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُحْرِمُونَ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّهَا مِيقَاتُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ الْمُجَاوِرِينَ أَوْ الْوَارِدِينَ إلَيْهَا أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَفِي قَوْلِهِ: (مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ) مَا يَدُلُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ إلَّا مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ فَلَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ وَقَدْ دَخَلَ ابْنُ عُمَرَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهَا إنَّمَا تَجِبُ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى كُلِّ مَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لَوَجَبَ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ إلَّا بِالْإِحْرَامِ إلَّا لِمَنْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَاتِ كَالْحَطَّابِينَ فَإِنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ السَّلَفِ وَلَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فَمَنْ دَخَلَ مُرِيدًا مَكَّةَ لَا يَنْوِي نُسُكًا مِنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَجَاوَزَ مِيقَاتَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَإِنْ بَدَا لَهُ إرَادَةُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ أَحْرَمَ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعُودَ إلَى مِيقَاتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» يَدُلُّ أَنَّ مِيقَاتَ عُمْرَةِ أَهْلِ مَكَّةَ كَحَجِّهِمْ وَكَذَلِكَ الْقَارِنُ مِنْهُمْ مِيقَاتُهُ مَكَّةُ وَلَكِنْ قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا جَعَلَ مَكَّةَ مِيقَاتًا لِلْعُمْرَةِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم جَعَلَهَا مِيقَاتًا لَهَا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:" يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ الْعُمْرَةَ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَطْنُ مُحَسِّرٍ " وَقَالَ أَيْضًا: " مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَعْتَمِرَ خَرَجَ إلَى التَّنْعِيمِ وَيُجَاوِزُ الْحَرَمَ " فَآثَارٌ مَوْقُوفَةٌ لَا تُقَاوِمُ الْمَرْفُوعَ وَأَمَّا مَا ثَبَتَ مِنْ

ص: 612

676 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ؛ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ

أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ بِالْخُرُوجِ إلَى التَّنْعِيمِ لِتُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فَلَمْ يُرِدْ إلَّا تَطْيِيبَ قَلْبِهَا بِدُخُولِهَا إلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرَةً كَصَوَاحِبَاتِهَا؛ لِأَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مَعَهُ ثُمَّ حَاضَتْ فَدَخَلَتْ مَكَّةَ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ كَمَا طُفْنَ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ قَالَ: انْتَظِرِي فَاخْرُجِي إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي مِنْهُ» - الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ أَنَّهَا إنَّمَا أَرَادَتْ أَنْ تُشَابِهَ الدَّاخِلِينَ مِنْ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ وَلَا يَدُلُّ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ الْعُمْرَةُ إلَّا مِنْ الْحِلِّ لِمَنْ صَارَ فِي مَكَّةَ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يُقَاوَمُ حَدِيثُ الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ طَاوُسٌ: لَا أَدْرِي الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مِنْ التَّنْعِيمِ يُؤْجَرُونَ أَوْ يُعَذَّبُونَ قِيلَ لَهُ: فَلِمَ يُعَذَّبُونَ قَالَ:؛ لِأَنَّهُ يَدَعُ الْبَيْتَ وَالطَّوَافَ وَيَخْرُجُ إلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَيَجِيءُ أَرْبَعَةَ أَمْيَالٍ قَدْ طَافَ مِائَتَيْ طَوَافٍ وَكُلَّمَا طَافَ كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَنْ يَمْشِيَ فِي غَيْرِ مَمْشَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ فِي تَفْضِيلِ الطَّوَافِ عَلَى الْعُمْرَةِ قَالَ أَحْمَدُ: الْعُمْرَةُ بِمَكَّةَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُهَا عَلَى الطَّوَافِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ وَالطَّوَافَ وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ كَانَتْ عُمْرَةً صَحِيحَةً، قَالُوا: وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِمَا تَرَكَ مِنْ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَأْتِيك أَنَّ إلْزَامَهُ الدَّمَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

676 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ؛ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه، إلَّا أَنَّ رَاوِيهِ شَكَّ فِي رَفْعِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ عِرْقًا وَهُوَ الْجَبَلُ الصَّغِيرُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ إلَّا أَنَّ رَاوِيهِ شَكَّ فِي رَفْعِهِ)؛ لِأَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَ عَنْ الْمَهْلِ فَقَالَ: سَمِعْت: " أَحْسَبُهُ رَفَعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَجْزِمْ بِرَفْعِهِ (وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ) وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمَّا فُتِحَتْ الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ أَيْ أَرْضُهُمَا وَإِلَّا فَإِنَّ الَّذِي مَصَّرَهُمَا الْمُسْلِمُونَ طَلَبُوا مِنْ عُمَرَ أَنَّهُ يُعَيِّنُ لَهُمْ مِيقَاتًا فَعَيَّنَ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ

ص: 613

677 -

وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ»

وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى: وَالنَّصُّ بِتَوْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ لَيْسَ فِي الْقُوَّةِ كَغَيْرِهِ فَإِنْ ثَبَتَ فَلَيْسَ بِبِدْعٍ وُقُوعُ اجْتِهَادِ عُمَرَ عَلَى وَفْقِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مُوَفَّقًا لِلصَّوَابِ وَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ فَاجْتَهَدَ بِمَا وَافَقَ النَّصَّ هَذَا وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ رَفْعُهُ بِلَا شَكٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عُمَرَ فِي إسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَيْضًا عَنْهَا وَقَدْ ثَبَتَ مُرْسَلًا عَنْ مَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ الْجِيَادُ الْحِسَانُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمِثْلِهَا مَعَ تَعَدُّدِهَا وَمَجِيئِهَا مُسْنَدَةً وَمُرْسَلَةً مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى وَأَمَّا: (وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ») فَإِنَّهُ وَإِنْ قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ حَسَنٌ فَإِنَّ مَدَارَهُ عَلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ الْعِرَاقِيِّ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ إحْرَامٌ مِنْ الْمِيقَاتِ هَذَا وَالْعَقِيقُ يُعَدُّ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ وَقَدْ قِيلَ: إنْ كَانَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا أَصْلٌ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ تَوْقِيتَ ذَاتِ عِرْقٍ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ أَكْمَلَ اللَّهُ دِينَهُ كَمَا يَدُلُّ مَا أَخْرَجَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو السَّهْمِيُّ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِمِنًى أَوْ عَرَفَاتٍ وَقَدْ أَطَافَ بِهِ النَّاسُ قَالَ: فَتَجِيءُ الْأَعْرَابُ فَإِذَا رَأَوْا وَجْهَهُ قَالُوا: هَذَا وَجْهٌ مُبَارَكٌ قَالَ: وَوَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ.

‌بَابُ وُجُوهِ الْإِحْرَامِ وَصِفَتِهِ

الْوُجُوهُ جَمْعُ وَجْهٍ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَنْوَاعُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْإِحْرَامُ وَهُوَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا (وَصِفَتُهُ): كَيْفِيَّتُهُ الَّتِي يَكُونُ فَاعِلُهَا بِهَا مُحْرِمًا.

ص: 614

678 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ عِنْدَ قُدُومِهِ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا) أَيْ مِنْ الْمَدِينَةِ وَكَانَ خُرُوجُهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ صَلَاتِهِ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَ أَنْ خَطَبَهُمْ خُطْبَةً عَلَّمَهُمْ فِيهَا الْإِحْرَامَ وَوَاجِبَاتِهِ وَسُنَنَهُ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ هِجْرَتِهِ غَيْرَهَا (فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ) فَكَانَ قَارِنًا (وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) فَكَانَ مُفْرِدًا «وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ عِنْدَ قُدُومِهِ» مَكَّةَ بَعْدَ إتْيَانِهِ بِبَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ.

«. وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: هُوَ هُنَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِحْرَامِ وَدَلَّ حَدِيثُهَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ مَجْمُوعِ الرَّكْبِ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي حَجَّةِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهَا رِوَايَاتٌ تُخَالِفُ هَذَا وَجُمِعَ بَيْنَهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إحْرَامِ عَائِشَةَ بِمَاذَا كَانَ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ أَيْضًا وَدَلَّ حَدِيثُهَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الرَّكْبِ الْإِحْرَامُ بِأَنْوَاعِ الْحَجِّ الثَّلَاثَةِ فَالْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ هُوَ مِنْ حَجِّ الْأَفْرَادِ وَالْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ هُوَ مِنْ حَجِّ التَّمَتُّعِ وَالْمُحْرِمُ بِهِمَا هُوَ الْقَارِنُ وَدَلَّ حَدِيثُهَا عَلَى أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا لَهُ عَنْ الْعُمْرَةِ لَمْ يَحِلَّ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ إلَى الْعُمْرَةِ، قِيلَ: فَيَتَأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَأَحْرَمَ بِحَجٍّ مُفْرَدًا فَإِنَّهُ كَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الْفَسْخِ لِلْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِاَلَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَا وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ وَأَفْرَدْنَاهُ بِرِسَالَةٍ وَلَا يُحْتَمَلُ هُنَا نَقْلُ الْخِلَافِ وَالْإِطَالَةُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِيمَا أَحْرَمَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَكَانَ قَرْنًا وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا دَلَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا لَكِنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ حَجَّ

ص: 615

‌بَابُ الْإِحْرَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ

679 -

عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

قَارِنًا وَاسِعَةٌ جِدًّا وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَجِّ وَالْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهَا الْقِرَانُ وَقَدْ اسْتَوْفَى أَدِلَّةَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ.

(بَابُ الْإِحْرَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ) الْإِحْرَامُ الدُّخُولُ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَالتَّشَاغُلُ بِأَعْمَالِهِ بِالنِّيَّةِ.

عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ» أَيْ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هَذَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنْ الْبَيْدَاءِ فَإِنَّهُ قَالَ: «بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَهَلَّ مِنْهَا مَا أَهَلَّ» الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ حِينَ قَامَ بِهِ بَعِيرُهُ» وَالشَّجَرَةُ كَانَتْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ» .

وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ الْإِهْلَالِ بِالْبَيْدَاءِ وَالْإِهْلَالِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَهَلَّ مِنْهُمَا وَكُلُّ مَنْ رَوَى أَنَّهُ أَهَلَّ بِكَذَا فَهُوَ رَاوٍ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ إهْلَالِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْهُمَا» فَسَمِعَ قَوْمٌ فَحَفِظُوهُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَسَمِعُوهُ حِينَ ذَاكَ فَقَالُوا: إنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا عَلَا شَرَفُ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوهُ فَنَقَلَ كَمَا سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا قَبْلَهُ.

فَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَهُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ وَهَلْ يُكْرَهُ قِيلَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْحُلَيْفَةَ» يَقْضِي بِالْإِهْلَالِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ وَيَقْضِي بِنَفْيِ النَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الزِّيَادَةُ مُحَرَّمَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا أَفْضَلَ وَلَوْلَا مَا قِيلَ مِنْ الْإِجْمَاعِ بِجَوَازِ ذَلِكَ لَقُلْنَا بِتَحْرِيمِهِ؛ لِأَدِلَّةِ التَّوْقِيتِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ كَأَعْدَادِ الصَّلَاةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ لَا تُشَرَّعُ كَالنَّقْصِ

ص: 616

680 -

وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ

مِنْهَا وَإِنَّمَا لَمْ نَجْزِمْ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَحْرَمَ أَنَسٌ مِنْ الْعَقِيقِ وَأَحْرَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ الشَّامِ وَأَهَلَّ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ مِنْ الْبَصْرَةِ وَأَهَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ وَوَرَدَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ " أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ تَمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ " عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ تُؤُوِّلَ بِأَنَّ مُرَادَهُمَا أَنْ يُنْشِئَ لَهُمَا سَفَرًا مُفْرَدًا مِنْ بَلَدِهِ كَمَا أَنْشَأَ صلى الله عليه وسلم لِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْقَضَاءِ سَفَرًا مِنْ بَلَدِهِ وَيَدُلُّ لِهَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَلَمْ يُحْرِمُوا بِحَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ إلَّا مِنْ الْمِيقَاتِ بَلْ لَمْ يَفْعَلْهُ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ تَمَامَ الْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا جَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ.

نَعَمْ الْإِحْرَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخُصُوصِهِ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ " سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَهَلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِي لَفْظٍ «مَنْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ «مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ «مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ» فَيَكُونُ هَذَا مَخْصُوصًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ خَاصَّةً أَفْضَلُ مِنْ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ وَيَدُلُّ لَهُ إحْرَامُ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ يُنْشِئُ لَهُمَا السَّفَرَ مِنْ هُنَالِكَ.

(وَعَنْ خَلَّادِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ آخِرَهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ (بْنِ السَّائِبِ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ (عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ) وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ السَّائِبِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: كُنْ عَجَّاجًا ثَجَّاجًا» وَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالثَّجُّ

ص: 617

681 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ

682 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ. قَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافِ، إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنْ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

نَحْرُ الْبَدَنِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى تُبَحَّ أَصْوَاتُهُمْ» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ إلَّا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ مِنًى.

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ) وَغَرَّبَهُ وَضَعَّفَهُ الْعُقَيْلِيُّ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَهُ فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ» وَيَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ضَعِيفٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَغْتَسِلَ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ وَإِذَا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ» وَيُسْتَحَبُّ التَّطَيُّبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ كُنْت أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ» وَفِي رِوَايَةٍ «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَطْيَبِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ يُحْرِمُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ.

. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ قَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ» أَيْ لَا يَجِدُهُمَا يُبَاعَانِ أَوْ يَجِدُهُمَا يُبَاعَانِ وَلَكِنْ لَيْسَ مَعَهُ ثَمَنٌ فَائِضٌ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَبْدَالِ «فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنْ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ» بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ آخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ

ص: 618

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» وَمِثْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بِعَرَفَاتٍ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ هُنَا عَلَى الرَّجُلِ وَلَا تَلْحَقُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَحَصَّلَ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَنَّهُ يُحَرَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْخُفُّ وَلُبْسُ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ وَالْبَرَانِسِ وَالسَّرَاوِيلِ وَثَوْبٍ مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ وَلُبْسُ الْخُفَّيْنِ إلَّا لِعَدَمِ غَيْرِهِمَا فَيَشُقُّهُمَا وَيَلْبَسُهُمَا وَالطِّيبُ وَالْوَطْءُ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَمِيصِ كُلُّ مَا أَحَاطَ بِالْبَدَنِ مِمَّا كَانَ عَنْ تَفْصِيلٍ وَتَقْطِيعٍ وَبِالْعِمَامَةِ مَا أَحَاطَ بِالرَّأْسِ فَيَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا مِمَّا يُغَطِّي الرَّأْسَ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَكَرَ الْبَرَانِسَ وَالْعِمَامَةَ مَعًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ لَا بِالْمُعْتَادِ وَلَا بِالنَّادِرِ كَالْبَرَانِسِ وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ مُلْتَزِقًا مِنْ جُبَّةٍ أَوْ دُرَّاعَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَأْتِ بِالْحَدِيثِ فِيمَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ وَاَلَّذِي يُحَرَّمُ عَلَيْهَا فِي الْأَحَادِيثِ الِانْتِقَابُ أَيْ لُبْسُ النِّقَابِ كَمَا يُحَرَّمُ لُبْسُ الرَّجُلِ الْقَمِيصَ وَالْخُفَّيْنِ فَيُحَرَّمُ عَلَيْهَا النِّقَابُ وَمِثْلُهُ الْبُرْقُعُ وَهُوَ الَّذِي فُصِّلَ عَلَى قَدْرِ سَتْرِ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ كَمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْقَمِيصِ لِلرَّجُلِ مَعَ جَوَازِ سَتْرِ الرَّجُلِ لِبَدَنِهِ بِغَيْرِهِ اتِّفَاقًا فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ تَسْتُرُ وَجْهَهَا بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ كَالْخِمَارِ وَالثَّوْبِ وَمَنْ قَالَ: إنَّ وَجْهَهَا كَرَأْسِ الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ لَا يُغَطَّى شَيْءٌ فَلَا دَلِيلَ مَعَهُ وَيُحَرَّمُ عَلَيْهَا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ وَلُبْسُ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ مِنْ الثِّيَابِ وَيُبَاحُ لَهَا مَا أَحَبَّتْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةٍ وَغَيْرِهَا وَالطِّيبُ وَأَمَّا الصَّيْدُ وَحَلْقُ الرَّأْسِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُنَّ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الِانْغِمَاسُ فِي الْمَاءِ وَمُبَاشَرَةُ الْمُحَمَّلِ بِالرَّأْسِ وَسَتْرُ الرَّأْسِ بِالْيَدِ وَكَذَا وَضْعُهُ عَلَى الْمِخَدَّةِ عِنْدَ النَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى لَابِسًا. وَالْخِفَافُ جَمْعُ خُفٍّ وَهُوَ مَا يَكُونُ إلَى نِصْفِ السَّاقِ وَمِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ الْجَوْرَبُ وَهُوَ مَا يَكُونُ إلَى فَوْقِ الرُّكْبَةِ وَقَدْ أُبِيحَ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ إلَّا أَنَّك قَدْ سَمِعْت مَا قَالَهُ فِي الْمُنْتَقَى مِنْ نَسْخِ الْقَطْعِ وَقَدْ رَجَّحَهُ فِي الشَّرْحِ بَعْدَ إطَالَةِ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى لَابِسِ الْخُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ.

وَخَالَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: تَجِبُ الْفِدْيَةُ وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ مَا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ وَاخْتُلِفَ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا النَّهْيُ هَلْ هِيَ الزِّينَةُ أَوْ الرَّائِحَةُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا الرَّائِحَةُ فَلَوْ صَارَ الثَّوْبُ بِحَيْثُ إذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ رَائِحَةٌ جَازَ الْإِحْرَامُ فِيهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ " إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا " وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَقَالٌ وَلُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُوَرَّسِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي حَالِ الْحِلِّ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ.

ص: 619

683 -

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» . مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّطَيُّبِ عِنْدَ إرَادَةِ فِعْلِ الْإِحْرَامِ وَجَوَازِ اسْتِدَامَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ ابْتِدَاؤُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلَى خِلَافِهِ وَتَكَلَّفُوا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَنَحْوِهَا بِمَا لَا يَتِمُّ بِهِ مُدَّعَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا:" إنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَهُ فَذَهَبَ الطِّيبُ ".

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ: الصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الطِّيبُ لِلْإِحْرَامِ لِقَوْلِهِ: (لِإِحْرَامِهِ) وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَتِمُّ ثُبُوتُ الْخُصُوصِيَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَيْهَا بَلْ الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى خِلَافِهَا وَهُوَ مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «كُنَّا نَنْضَحُ وُجُوهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ فَنَعْرَقَ وَيَسِيلُ عَلَى وُجُوهِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْهَانَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ بِلَفْظِ «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ فَنَنْضَحُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْهَانَا» .

وَلَا يُقَالُ: هَذَا خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فِي الطِّيبِ سَوَاءٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالطِّيبُ يُحَرَّمُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَا قَبْلَهُ وَإِنْ دَامَ حَالُهُ فَإِنَّهُ كَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ وَالنِّكَاحُ إنَّمَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ ابْتِدَائِهِ لَا مِنْ اسْتِدَامَتِهِ فَكَذَلِكَ الطِّيبُ، وَلِأَنَّ الطِّيبَ مِنْ النَّظَافَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ دَفْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ كَمَا يُقْصَدُ بِالنَّظَافَةِ إزَالَةُ مَا يَجْمَعُهُ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ مِنْ الْوَسَخِ وَلِذَا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَأْخُذَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُهُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ فِي «الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يَصْنَعُ فِي عُمْرَتِهِ وَكَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالطِّيبِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَهَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:. أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِك فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» - الْحَدِيثَ

فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ كَانَا بِالْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَقَدْ حَجَّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ عَشْرٍ وَاسْتَدَامَ الطِّيبُ وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ الْآخِرُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَقَوْلُهَا: (لِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) الْمُرَادُ لِحِلِّهِ الْإِحْلَالَ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ كُلُّ مَحْظُورٍ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَقَدْ كَانَ حَلَّ بَعْضُ الْإِحْلَالِ وَهُوَ بِالرَّمْيِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ الطِّيبُ وَغَيْرُهُ وَلَا يُمْنَعُ بَعْدَهُ إلَّا مِنْ النِّسَاءِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ فَعَلَ الْحَلْقَ وَالرَّمْيَ وَبَقِيَ الطَّوَافُ.

ص: 620

684 -

وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

685 -

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ - قَالَ:«فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَصْحَابِهِ - وَكَانُوا مُحْرِمِينَ - هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْكِحُ) بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارِعَةِ أَيْ لَا يَنْكِحُ هُوَ لِنَفْسِهِ (الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ) بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارِعَةِ لَا يَعْقِدُ لِغَيْرِهِ (وَلَا يَخْطُبُ) لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَتَحْرِيمُ الْخُطْبَةِ كَذَلِكَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ رِوَايَةَ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَلَالٌ» أَرْجَحُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ السَّفِيرُ بَيْنَهُمَا أَيْ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ مَيْمُونَةَ وَلِأَنَّهَا رِوَايَةُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَمْ يَرْوِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا إلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ حَتَّى قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: ذُهِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنْ كَانَتْ خَالَتُهُ مَا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بَعْدَمَا حَلَّ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.

ثُمَّ ظَاهِرُ النَّهْيِ فِي الثَّلَاثَةِ التَّحْرِيمُ إلَّا أَنَّهُ قِيلَ: إنَّ النَّهْيَ فِي الْخُطْبَةِ لِلتَّنْزِيهِ وَإِنَّهُ إجْمَاعٌ فَإِنْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ فَذَاكَ وَلَا أَظُنُّ صِحَّتَهُ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ هُوَ التَّحْرِيمُ. ثُمَّ رَأَيْت بَعْدَ هَذَا نَقْلًا عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهَا تُحَرَّمُ الْخُطْبَةُ أَيْضًا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ:؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْجَمِيعِ نَهْيًا وَاحِدًا وَلَمْ يَفْصِلْ وَمُوجَبُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَلَيْسَ مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مِنْ أَثَرٍ أَوْ نَظَرٍ.

«وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ وَكَانَ ذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَصْحَابِهِ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ فَقَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَدْ اسْتَشْكَلَ عَدَمُ إحْرَامِ أَبِي قَتَادَةَ وَقَدْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابَهُ لِكَشْفِ عَدُوٍّ لَهُمْ بِالسَّاحِلِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 621

686 -

وَعَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه. أَنَّهُ «أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا. وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

بَلْ بَعَثَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ الْمَوَاقِيتُ قَدْ وُقِّتَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لِصَيْدِ الْبَرِّ وَالْمُرَادُ بِهِ إنْ صَادَهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إعَانَةٌ عَلَى قَتْلِهِ بِشَيْءٍ وَهُوَ رَأْيُ الْجَمَاهِيرِ وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِيهِ.

وَقِيلَ: لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إعَانَةٌ عَلَيْهِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْهَادَوِيَّةِ عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدُ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الِاصْطِيَادُ وَلَفْظُ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ لَكِنْ بَيَّنَ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الْمُرَادَ وَزَادَهُ بَيَانًا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ إلَّا أَنَّ فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ مَقَالًا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّلْخِيصِ.

وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْحَيَوَانُ الَّذِي يُصَادُ فَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الِاصْطِيَادِ مِنْ آيَاتٍ أُخَرَ وَمِنْ أَحَادِيثَ، وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي الْمُرَادِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ " وَفِي رِوَايَةٍ «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكَلَهَا» إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ الشَّيْخَانِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُ؛ لِأَكْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ.

686 -

وَعَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه. أَنَّهُ «أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا. وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَعَنْ الصَّعْبِ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَمُوَحَّدَةٍ (ابْنِ جَثَّامَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ «أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا» وَفِي رِوَايَةٍ حِمَارَ وَحْشٍ يَقْطُرُ دَمًا وَفِي أُخْرَى لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وَفِي أُخْرَى عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَضُدًا مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ كُلِّهَا فِي مُسْلِمٍ (وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ) بِالْمُوَحَّدَةِ مَمْدُودَةً (أَوْ بِوَدَّانَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ وَأَنْكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالُوا: صَوَابُهُ ضَمُّهَا؛ لِأَنَّهُ الْقَاعِدَةُ فِي تَحْرِيكِ السَّاكِنِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ عَلَى الْأَصَحِّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِي رَدِّهِ وَنَحْوِهِ لِلْمُذَكَّرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَوْضَحُهَا الضَّمُّ وَالثَّانِي

ص: 622

687 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَمِ: الْعَقْرَبُ وَالْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

الْكَسْرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالثَّالِثُ الْفَتْحُ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ نَحْوُ رَدَّهَا فَإِنَّهُ بِالْفَتْحِ (عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ مُحْرِمُونَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَحْمُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ صَادَهُ؛ لِأَجْلِهِ أَوْ لَا فَدَلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا وَأَجَابَ مَنْ جَوَّزَهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ؛ لِأَجْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ إذَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إطْرَاحِ بَعْضِهَا، وَقَدْ دَلَّ لِهَذَا أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمَاضِي عِنْد أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ «إنَّمَا صِدْته لَهُ وَأَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَأْكُلُونَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْته أَنِّي اصْطَدْته لَهُ» .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: قَوْلُهُ: اصْطَدْته لَك وَأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مَعْمَرٍ (قُلْت): مَعْمَرٌ ثِقَةٌ لَا يَضُرُّ تَفَرُّدُهُ وَيَشْهَدُ لِلزِّيَادَةِ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي قَبُولُ الْهَدِيَّةِ وَإِبَانَةُ الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِهَا إذَا رَدَّهَا وَاعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الصَّعْبُ أَهْدَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْحِمَارَ حَيًّا فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ، وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَحْمَ حِمَارٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَهِمَ أَنَّهُ صَادَهُ؛ لِأَجْلِهِ وَأَمَّا رِوَايَةُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهُ» الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ فَقَدْ ضَعَّفَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ ثُمَّ إنَّهُ اسْتَقْوَى مِنْ الرِّوَايَاتِ رِوَايَةَ لَحْمِ حِمَارٍ قَالَ: لِأَنَّهَا لَا تُنَافِي رِوَايَةَ مَنْ رَوَى حِمَارًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسَمَّى الْجُزْءُ بِاسْمِ الْكُلِّ وَهُوَ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ اتَّفَقَتْ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِ الْحِمَارِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُهْدَى مِنْ الشِّقِّ الَّذِي فِيهِ الْعَجُزُ الَّذِي فِيهِ رِجْلُهُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ» بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ (وَالْعَقْرَبُ) يُقَالُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَقَدْ يُقَالُ: عَقْرَبَةٌ (وَالْفَأْرَةُ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا أَلِفًا (وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ زِيَادَةً ذَكَرَ الْحَيَّةَ

ص: 623

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَكَانَتْ سِتًّا وَقَدْ أَخْرَجَهَا بِلَفْظِ سِتٍّ أَبُو عَوَانَةَ وَسَرَدَ الْخَمْسَ مَعَ الْحَيَّةِ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد زِيَادَةُ السَّبُعِ الْعَادِي فَكَانَتْ سَبْعًا وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ زِيَادَةُ الذِّئْبِ وَالنَّمِرِ فَكَانَتْ تِسْعًا إلَّا أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَهُمَا فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَوَقَعَ ذِكْرُ الذِّئْبِ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا الْأَمْرَ لِلْمُحْرِمِ بِقَتْلِ الذِّئْبِ وَفِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَاتُ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ قَوْلِهِ:" خَمْسٌ " وَالدَّوَابُّ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ جَمْعُ دَابَّةٍ وَهُوَ مَا دَبَّ مِنْ الْحَيَوَانِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُسَمَّى الطَّائِرَ دَابَّةً وَهُوَ يُطَابِقُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} وَقِيلَ: يَخْرُجُ الطَّائِرُ مِنْ لَفْظِ الدَّابَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وَلَا حُجَّةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ هَذَا وَقَدْ اُخْتُصَّ فِي الْعُرْفِ لَفْظُ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ الْقَوَائِمِ وَتَسْمِيَتُهَا فَوَاسِقُ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ لُغَةً الْخُرُوجُ وَمِنْهُ {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أَيْ خَرَجَ وَيُسَمَّى الْعَاصِي فَاسِقًا لِخُرُوجِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ وَوُصِفَتْ الْمَذْكُورَةُ بِذَلِكَ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُحْرِمِ لَهَا، وَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فِي حِلِّ أَكْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَسَمَّى مَا لَا يُؤْكَلُ فِسْقًا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ غَيْرِهَا بِالْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ فَهَذِهِ ثَلَاثُ عِلَلٍ اسْتَخْرَجَهَا الْعُلَمَاءُ فِي حِلِّ قَتْلِ هَذِهِ الْخَمْسِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْفَتْوَى فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَلْحَقَ بِالْخَمْسِ كُلَّ مَا جَازَ قَتْلُهُ لِلْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي أَلْحَقَ كُلَّ مَا لَا يُؤْكَلُ إلَّا مَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ. وَهَذَا قَدْ يُجَامِعُ الْأَوَّلَ وَمَنْ قَالَ بِالثَّالِثِ خَصَّ الْإِلْحَاقَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْإِفْسَادُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي (قُلْت): وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا فَيَبْعُدُ الْإِلْحَاقُ لِغَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِهَا وَالْأَحْوَطُ عَدَمُ الْإِلْحَاقِ وَبِهِ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إلَّا أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا الْحَيَّةَ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ وَالذِّئْبَ لِمُشَارَكَتِهِ لِلْكَلْبِ فِي الْكَلْبِيَّةِ وَأَلْحَقُوا بِذَلِكَ مَنْ ابْتَدَأَ بِالْعُدْوَانِ وَالْأَذَى مِنْ غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالتَّعَدِّيَةُ بِمَعْنَى الْأَذَى إلَى كُلِّ مُؤْذٍ قَوِيٍّ بِالنَّظَرِ إلَى تَصَرُّفِ أَهْلِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْإِيمَاءِ بِالتَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ. انْتَهَى (قُلْت): وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ فِسْقِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ كَمَا عَرَفْت فَلَا يَتِمُّ تَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهَا عِلَّةً بِالْإِيمَاءِ فَلَا يَتِمُّ الْإِلْحَاقُ بِهِ وَإِذَا جَازَ قَتْلُهُنَّ لِلْمُحْرِمِ جَازَ لِلْحَلَالِ بِالْأَوْلَى وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ " يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ " عِنْدَ مُسْلِمٍ وَفِي لَفْظِ «لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ» فَدَلَّ أَنَّهُ يَقْتُلُهَا الْمُحْرِمُ فِي الْحَرَمِ وَفِي

ص: 624

688 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الْحِلِّ بِالْأَوْلَى وَقَوْلُهُ: (يَقْتُلْنَ) إخْبَارٌ بِحِلِّ قَتْلِهَا وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَبِلَفْظِ نَفْيِ الْجُنَاحِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ عَلَى قَاتِلِهِنَّ فَدَلَّ عَلَى حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَأَطْلَقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَفْظَ الْغُرَابِ وَقَيَّدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِالْأَبْقَعِ وَهُوَ الَّذِي فِي ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ بَيَاضٌ فَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ إلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِهَذَا وَهِيَ الْقَاعِدَةُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَالْقَدْحُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِالشُّذُوذِ وَتَدْلِيسُ الرَّاوِي مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ صَرَّحَ الرَّاوِي بِالسَّمَاعِ فَلَا تَدْلِيسَ وَبِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ عَدْلٍ ثِقَةٍ حَافِظٍ فَلَا شُذُوذَ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إخْرَاجِ الْغُرَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَيُقَالُ لَهُ: غُرَابُ الزَّرْعِ وَقَدْ احْتَجُّوا بِجَوَازِ أَكْلِهِ فَبَقَّى مَا عَدَاهُ مِنْ الْغِرْبَانِ مُلْحَقًا بِالْأَبْقَعِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَلْبِ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَتَقْيِيدُهُ بِالْعَقُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْعَقُورِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تَفْسِيرُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِالْأَسَدِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ تَفْسِيرُهُ بِالْحَيَّةِ، وَعَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ الذِّئْبُ خَاصَّةً، وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَا عَقَرَ النَّاسَ وَأَخَافَهُمْ وَعَدَا عَلَيْهِمْ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ، وَالذِّئْبُ هُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِك، فَقَتَلَهُ الْأَسَدُ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَحَلٍّ يُقَالُ لَهُ لُحَيٌّ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْحَجَّامَةِ لِلْمُحْرِمِ وَهُوَ إجْمَاعٌ فِي الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ إذَا كَانَ لِحَاجَةٍ فَإِنْ قَلَعَ مِنْ الشَّعْرِ شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ فِدْيَةُ الْحَلْقِ وَإِنْ لَمْ يَقْلَعْ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْحِجَامَةُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الرَّأْسِ حُرِّمَتْ إنْ قُطِعَ مَعَهَا شَعْرٌ لِحُرْمَةِ قَطْعِ الشَّعْرِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا شَعْرَ فِيهِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَا فِدْيَةَ وَكَرِهَهَا قَوْمٌ، وَقِيلَ: تَجِبُ فِيهَا الْفِدْيَةُ وَقَدْ نَبَّهَ الْحَدِيثُ عَلَى قَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْحَلْقِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِمَا تُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فَمَنْ احْتَاجَ إلَى حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِهِ أَوْ لُبْسِ قَمِيصِهِ مَثَلًا لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} الْآيَةَ وَبَيَّنَ قَدْرَ الْفِدْيَةِ الْحَدِيثُ.

ص: 625

689 -

«وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: حُمِلْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: مَا كُنْت أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِك مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً؟ قُلْت: لَا. قَالَ: فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

690 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، إنَّهَا لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَأَنَّهَا لَنْ تَحِلَّ؛ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى

وَهُوَ قَوْلُهُ وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَبِالرَّاءِ وَكَعْبٌ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إحْدَى وَخَمْسِينَ (قَالَ: حُمِلْت) مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ (إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: مَا كُنْت أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّ (الْوَجَعَ بَلَغَ بِك مَا أَرَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ الرُّؤْيَةِ (أَتَجِدُ شَاةً قُلْت: لَا. قَالَ: تَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تُطْعِمُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا فَقَالَ: أَتُؤْذِيك هَوَامُّك. قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَك» - الْحَدِيثُ " وَفِيهِ فَقَالَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} الْآيَةَ وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ بِأَلْفَاظٍ عَدِيدَةٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّسُكِ عَلَى النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ إذَا وُجِدَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَسَائِرِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الثَّلَاثِ جَمِيعًا، وَلِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ الْكَفَّارَاتِ: «خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى «عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنْ شِئْت فَانْسُكْ نَسِيكَةً وَإِنْ شِئْت فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ شِئْت فَأَطْعِمْ» - الْحَدِيثَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّخْيِيرَ إجْمَاعٌ وَقَوْلُهُ: " نِصْفُ صَاعٍ " أَخَذَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ بِظَاهِرِهِ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَصَاعُ مِنْ غَيْرِهَا.

ص: 626

شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إلَّا الْإِذْخِرَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم) أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ وَأَطْلَقَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ) أَيْ خَاطِبًا وَكَانَ قِيَامُهُ ثَانِيَ الْفَتْحِ «فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ» تَعْرِيفًا لَهُمْ بِالْمِنَّةِ الَّتِي مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْهِمْ وَهِيَ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ (وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ) فَفَتَحُوهَا عَنْوَةً «وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» هِيَ سَاعَةُ دُخُولِهِ إيَّاهَا «وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ؛ لِأَحَدٍ بَعْدِي فَلَا يُنَفَّرُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ صَيْدُهَا» أَيْ لَا يُزْعِجُهُ أَحَدٌ وَلَا يُنَحِّيهِ عَنْ مَوْضِعِهِ (وَلَا يُخْتَلَى) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ أَيْضًا (شَوْكُهَا) أَيْ لَا يُؤْخَذُ وَيُقْطَعُ (وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا) أَيْ لُقَطَتُهَا وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي رِوَايَةٍ (إلَّا لِمُنْشِدٍ) أَيْ مُعَرِّفٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ: مُنْشِدٌ وَطَالِبُهَا نَاشِدٌ «وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» أَمَّا أَخْذُ الدِّيَةِ أَوْ قَتْلُ الْقَاتِلِ «فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ «فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ عَنْوَةً لِقَوْلِهِ (لَمْ تَحِلَّ) وَقَوْلُهُ (سَلَّطَ) عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ (لَا تَحِلُّ) وَعَلَى ذَلِكَ الْجَمَاهِيرُ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَسِّمْهَا عَلَى الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَّمَ خَيْبَرَ وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَنَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَجَعَلَهُمْ الطُّلَقَاءَ وَصَانَهُمْ عَنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ لِلنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَاغْتِنَامِ الْأَمْوَالِ إفْضَالًا مِنْهُ عَلَى قَرَابَتِهِ وَعَشِيرَتِهِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ؛ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مِنْ خَصَائِصِ الْحَرَمِ أَنَّهُ لَا يُحَارَبُ أَهْلُهُ وَإِنْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِجَوَازِهِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ. وَتَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْقِتَالِ لِاعْتِذَارِهِ عَنْ ذَلِكَ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ مَعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا إذْ ذَاكَ مُسْتَحَقِّينَ لِلْقِتَالِ لِصَدِّهِمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَكُفْرِهِمْ وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَتَأَكَّدُ الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ تَرَخَّصَ أَحَدٌ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ» فَدَلَّ أَنَّ حِلَّ الْقِتَالِ فِيهَا مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم. وَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ تَنْفِيرِ صَيْدِهَا وَبِالْأَوْلَى تَحْرِيمُ قَتْلِهِ وَعَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ شَوْكِهَا وَيُفِيدُ تَحْرِيمُ قَطْعِ مَا لَا يُؤْذِي بِالْأَوْلَى.

وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى جَوَازِ

ص: 627

691 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا؛ لِأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْت فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَطْعِ الشَّوْكِ مِنْ فُرُوعِ الشَّجَرِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ وَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُهُ وَمِنْهُمْ الْهَادَوِيَّةُ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُؤْذِي فَأَشْبَهَ الْفَوَاسِقَ (قُلْت): وَهَذَا مِنْ تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى أَنَّك عَرَفْت أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ قَتْلِ الْفَوَاسِقِ هُوَ الْأَذِيَّةُ.

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ أَشْجَارِهَا الَّتِي لَمْ يُنْبِتْهَا الْآدَمِيُّونَ فِي الْعَادَةِ وَعَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ خَلَاهَا وَهُوَ الرَّطْبُ مِنْ الْكَلَأِ فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ الْحَشِيشُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ. وَأَفَادَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمَنْ يَعْرِفُ بِهَا أَبَدًا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا وَهُوَ خَاصٌّ بِلُقَطَةِ مَكَّةَ وَأَمَّا غَيْرُهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَقِطَهَا بِنِيَّةِ التَّمَلُّكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ بِهَا سُنَّةً وَيَأْتِي ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي قَوْلِهِ: «وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِلْوَلِيِّ وَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ.

وَقَوْلُهُ: (نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا) أَيْ نَسُدُّ بِهِ خَلَلَ الْحِجَارَةِ الَّتِي تُجْعَلُ عَلَى اللَّحْدِ وَفِي الْبُيُوتِ كَذَلِكَ يُجْعَلُ فِيمَا بَيْنَ الْخَشَبِ عَلَى السُّقُوفِ. وَكَلَامُ الْعَبَّاسِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَفَاعَةٌ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا اجْتِهَادٌ مِنْهُ لَمَّا عَلِمَ مِنْ أَنَّ الْعُمُومَ غَالَبَهُ التَّخْصِيصُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَقَدْ عَهِدَ مِنْ الشَّرْعِيَّةِ عَدَمَ الْحَرَجِ فَقَرَّرَ صلى الله عليه وسلم كَلَامَهُ. وَاسْتِثْنَاؤُهُ إمَّا بِوَحْيٍ أَوْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ» وَلَا مُنَافَاةَ فَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِحُرْمَتِهَا وَإِبْرَاهِيمُ أَظْهَرَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الْعِبَادِ (وَدَعَا لِأَهْلِهَا) حَيْثُ قَالَ {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} وَغَيْرَهَا مِنْ الْآيَاتِ «وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ» هِيَ عِلْمٌ بِالْغَلَبَةِ لِمَدِينَتِهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي هَاجَرَ إلَيْهَا فَلَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهَا إلَّا هِيَ «كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَإِنِّي دَعَوْت فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا» أَيْ فِيمَا يُكَالُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِكْيَالَانِ مَعْرُوفَانِ «بِمِثْلِ مَا دَعَا إبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الْمُرَادُ مِنْ تَحْرِيمِ مَكَّةَ تَأْمِينُ أَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُقَاتَلُوا وَتَحْرِيمُ مَنْ يَدْخُلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَتَحْرِيمُ صَيْدِهَا وَقَطْعِ شَجَرِهَا وَعَضْدِ

ص: 628

692 -

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

‌بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ وَدُخُولِ مَكَّةَ

693 -

«عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ فَخَرَجْنَا

شَوْكِهَا وَالْمُرَادُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ تَحْرِيمُ صَيْدِهَا وَقَطْعُ شَجَرِهَا وَلَا يَحْدُثُ فِيهَا حَدَثٌ. وَفِي تَحْدِيدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ خِلَافٌ وَرَدَ تَحْدِيدُهُ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ وَرُجِّحَتْ رِوَايَةُ " مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا " لِتَوَارُدِ الرُّوَاةِ عَلَيْهَا.

(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَرَاءٌ جَبَلٌ بِالْمَدِينَةِ إلَى ثَوْرٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ثَوْرٌ بِالْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ رَاءٌ فِي الْقَامُوسِ إنَّهُ جَبَلٌ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: وَفِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَكَابِرِ الْأَعْلَامِ إنَّ هَذَا تَصْحِيفٌ وَالصَّوَابُ إلَى أُحُدٍ؛ لِأَنَّ ثَوْرًا إنَّمَا هُوَ بِمَكَّةَ فَغَيْرُ جَيِّدٍ لِمَا أَخْبَرَنِي الشُّجَاعُ الثَّعْلَبِيُّ الشَّيْخُ الزَّاهِدُ عَنْ الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ حِذَاءَ أُحُدٍ جَانِحًا إلَى وَرَائِهِ جَبَلًا صَغِيرًا يُقَالُ لَهُ: ثَوْرٌ وَتَكَرَّرَ سُؤَالِي عَنْهُ طَوَائِفَ مِنْ الْعَرَبِ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الْأَرْضِ فَكُلٌّ أَخْبَرَنِي أَنَّ اسْمَهُ ثَوْرٌ وَلَمَّا كَتَبَ إلَيَّ الشَّيْخُ عَفِيفُ الدِّينِ الْمَطَرِيُّ عَنْ وَالِدِهِ الْحَافِظِ الثِّقَةِ قَالَ: إنَّ خَلْفَ أُحُدٍ عَنْ شِمَالِهِ جَبَلًا صَغِيرًا مُدَوَّرًا يُسَمَّى ثَوْرًا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ. انْتَهَى.

وَهُوَ لَا يُنَافِي حَدِيثَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا؛ لِأَنَّهُمَا حُرَّتَانِ يَكْتَنِفَانِهَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَعَيْرٌ وَثَوْرٌ مُكْتَنِفَانِ الْمَدِينَةِ فَحَدِيثُ " عَيْرٍ وَثَوْرٍ " يُفَسِّرُ اللَّابَتَيْنِ

(بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ وَدُخُولِ مَكَّةَ (أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْمَنَاسِكِ وَالْإِتْيَانَ بِهَا مُرَتَّبَةً وَكَيْفِيَّةَ وُقُوعِهَا وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ وَهُوَ وَافٍ بِجَمِيعِ ذَلِكَ.

ص: 629

مَعَهُ، حَتَّى إذَا أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ فَقَالَ: اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك حَتَّى إذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ إلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَرَقَى الصَّفَا، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ، وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا» - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَفِيهِ:

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، وَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَدَفَعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لِيُصِيبَ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ، السَّكِينَةَ " وَكُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنْ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 630

الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، كُلُّ حَصَاةٍ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ) عَبَّرَ بِالْمَاضِي؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ بَعْدَ تَقْضِي الْحَجَّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (فَخَرَجْنَا مَعَهُ) أَيْ مِنْ الْمَدِينَةِ «حَتَّى إذَا أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ امْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي» بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ ثُمَّ رَاءٍ هُوَ شَدُّ الْمَرْأَةِ عَلَى وَسَطِهَا شَيْئًا ثُمَّ تَأْخُذُ خِرْقَةً عَرِيضَةً تَجْعَلُهَا فِي مَحَلِّ الدَّمِ وَتَشُدُّ طَرَفَيْهَا مِنْ وَرَائِهَا وَمِنْ قُدَّامِهَا إلَى ذَلِكَ الَّذِي شَدَّتْهُ فِي وَسَطِهَا وَقَوْلُهُ (بِثَوْبٍ) بَيَانٌ لِمَا تَسْتَثْفِرُ بِهِ (وَأَحْرِمِي) فِيهِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ النِّفَاسُ صِحَّةَ عَقْدِ الْإِحْرَامِ (وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ صَلَاةَ الْفَجْرِ كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَاَلَّذِي فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ الْخَامِسَةُ هِيَ الظُّهْرُ وَسَافَرَ بَعْدَهَا (فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ) بِفَتْحِ الْقَافِ فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ فَوَاوٍ فَأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ - وَقِيلَ: بِضَمِّ الْقَافِ مَقْصُورٍ وَخَطِئَ مَنْ قَالَهُ - لَقَبٌ لِنَاقَتِهِ صلى الله عليه وسلم (حَتَّى إذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ) اسْمُ مَحَلٍّ (أَهَلَّ) رَفَعَ صَوْتَهُ (بِالتَّوْحِيدِ) أَيْ إفْرَادُ التَّلْبِيَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ» وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تُزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ: إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ (أَنَّ الْحَمْدَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ التَّعْلِيلُ «وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك حَتَّى إذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ» أَيْ مَسَحَهُ بِيَدِهِ وَأَرَادَ بِهِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ.

وَأَطْلَقَ الرُّكْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْيَمَانِيِّ (فَرَمَلَ) أَيْ فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ أَيْ أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ مُهَرْوِلًا (ثَلَاثًا) أَيْ مَرَّاتٍ (وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ فَصَلَّى) رَكْعَتِي الطَّوَافِ (وَرَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ) أَيْ بَابِ الْحَرَمِ (إلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا) أَيْ قَرُبَ مِنْ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . «ابْدَءُوا فِي الْأَخْذِ فِي السَّعْيِ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَرَقَى

ص: 631

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بِفَتْحِ الْقَافِ الصَّفَا حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ أَنْجَزَ وَعْدَهُ» بِإِظْهَارِهِ تَعَالَى لِلدِّينِ (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) يُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ) فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ (وَحْدَهُ) أَيْ مِنْ غَيْرِ قِتَالِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا سَبَبَ لِانْهِزَامِهِمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} أَوْ الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ تَحَزَّبَ لِحَرْبِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ هَزَمَهُمْ (ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) دَلَّ أَنَّهُ كَرَّرَ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ ثَلَاثَةً (ثُمَّ نَزَلَ مِنْ الصَّفَا) مُنْتَهِيًا (إلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي) قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ إسْقَاطُ لَفْظَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا وَهِيَ حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فَرْمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَسَقَطَ لَفْظُ " رَمَلَ " قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَكَذَا ذَكَرَهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ (حَتَّى إذَا صَعِدَ) مِنْ بَطْنِ الْوَادِي (مَشَى إلَى الْمَرْوَةِ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا) مِنْ اسْتِقْبَالِهِ الْقِبْلَةَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ.

(فَذَكَرَ) أَيْ جَابِرٌ (الْحَدِيثَ) بِتَمَامِهِ وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَحَلِّ الْحَاجَةِ (وَفِيهِ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ فَرَاءٍ وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَرَوَّوْنَ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِعَرَفَةَ مَاءٌ «تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى وَرَكِبَ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ» بِفَتْحِ الْكَافِّ ثُمَّ مُثَلَّثِهِ لَبِثَ (قَلِيلًا) أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ (حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَجَازَ) أَيْ جَاوَزَ الْمُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَقِفْ بِهَا.

(حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ) أَيْ قَرُبَ مِنْهَا لَا أَنَّهُ دَخَلَهَا بِدَلِيلٍ (فَوَجَدَ الْقُبَّةَ) خَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ (قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ فَرَاءٍ فَتَاءِ تَأْنِيثٍ، مَحَلٌّ مَعْرُوفٌ (فَنَزَلَ بِهَا) فَإِنَّ نَمِرَةَ لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ (حَتَّى إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ) مُغَيِّرٌ صِيغَةً مُخَفِّفٌ الْحَاءَ الْمُهْمَلَةَ أَيْ وَضَعَ عَلَيْهَا رَحْلَهَا «فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي وَادِي عَرَفَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ جَمْعًا مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ» وَجَعَلَ حَبْلَ فِيهِ ضَبْطَانِ بِالْجِيمِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ إمَّا مَفْتُوحَةٌ أَوْ سَاكِنَةٌ (الْمُشَاةِ) وَبِهَا ذِكْرُهُ فِي النِّهَايَةِ وَفَسَّرَهُ بِطَرِيقِهِمْ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ فِي الرَّمَلِ وَقِيلَ: أَرَادَ صَفَّهُمْ وَمُجْتَمَعَهُمْ فِي مَشْيِهِمْ تَشْبِيهًا بِحَبْلِ الرَّمَلِ (بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ).

قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَكَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي مِنْ جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ: قِيلَ: صَوَابُهُ حِينَ غَابَ الْقُرْصُ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ فَإِنَّ هَذِهِ قَدْ تُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَغِيبِ مُعْظَمِ الْقُرْصِ

ص: 632

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَأَزَالَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ: حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ (وَدَفَعَ وَقَدْ شَنَقَ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ ضَمَّ وَضَيَّقَ (لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لِيُصِيبَ مَوْرِكَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ (رَحْلِهِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَثْنِي الرَّاكِبُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ قُدَّامَ وَسَطِ الرَّحْلِ إذَا مَلَّ مِنْ الرُّكُوبِ (وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى) أَيْ يُشِيرُ بِهَا قَائِلًا «يَا أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» بِالنَّصْبِ أَيْ أَلْزَمُوا (كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا) بِالْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ حِبَالِ الرَّمَلِ وَحَبْلُ الرَّمَلِ مَا طَالَ مِنْهُ وَضَخُمَ (أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّهَا، يُقَالُ: صَعِدَ وَأَصْعَدَ (حَتَّى إذَا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ) أَيْ لَمْ يُصَلِّ (بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أَيْ نَافِلَةً «ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ» وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ فِي الْمُزْدَلِفَةِ يُقَالُ لَهُ: قُزَحٌ، بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ «فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ» أَيْ الْفَجْرُ (جِدًّا) بِكَسْرِ الْجِيمِ إسْفَارًا بَلِيغًا «فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ» بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الْفِيلِ حُسِرَ فِيهِ أَيْ كَلَّ وَأَعْيَا (فَحَرَّكَ قَلِيلًا) أَيْ حَرَّكَ لِدَابَّتِهِ لَتُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ وَذَلِكَ مَسَافَةٌ مِقْدَارَ رَمْيَةِ حَجَرٍ (ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى) وَهِيَ غَيْرُ الطَّرِيقِ الَّتِي ذَهَبَ فِيهَا إلَى عَرَفَاتٍ (الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى) وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ (حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ) وَهِيَ حَدٌّ لِمِنًى وَلَيْسَتْ مِنْهَا وَالْجَمْرَةُ اسْمٌ لِمُجْتَمَعِ الْحَصَى سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ يُقَالُ: أَجْمَرَ بَنُو فُلَانٍ إذَا اجْتَمَعُوا (فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا كُلُّ حَصَاةٍ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ) وَقَدْرُهُ مِثْلُ حَبَّةِ الْبَاقِلَاءِ (رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) بَيَانٌ لِمَحِلِّ الرَّمْيِ.

«ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ» فِيهِ حَذْفٌ أَيْ فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ وَهَذَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى» وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ صَلَّى بِمَكَّةَ ثُمَّ أَعَادَهُ بِأَصْحَابِهِ جَمَاعَةً بِمِنًى لِيَنَالُوا فَضْلَ الْجَمَاعَةِ خَلْفَهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا) وَفِيهِ زِيَادَاتٌ حَذَفَهَا الْمُصَنِّفُ وَاقْتَصَرَ عَلَى مَحَلِّ الْحَاجَةِ هُنَا.

(وَاعْلَمْ) أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمَلٍ مِنْ الْفَوَائِدِ وَنَفَائِسُ مِنْ مُهِمَّاتِ الْقَوَاعِدِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ وَأَكْثَرُوا، وَصَنَّفَ فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ جُزْءًا كَبِيرًا أَخْرَجَ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ مِائَةً وَنَيِّفًا وَخَمْسِينَ نَوْعًا قَالَ وَلَوْ تَقَصَّى لَزِيدَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ (قُلْت) وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَجِّهِ الْوُجُوبُ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَفْعَالَهُ فِي الْحَجِّ بَيَانٌ لِلْحَجِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْأَفْعَالُ فِي بَيَانِ الْوُجُوبِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ.

وَالثَّانِي:

ص: 633

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَمَنْ ادَّعَى عَدَمَ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَلِنَذْكُرْ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمُخْتَصَرُ مِنْ فَوَائِدِهِ وَدَلَائِلِهِ: فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ لِلنُّفَسَاءِ وَالْحَائِضِ وَلِغَيْرِهِمَا بِالْأَوْلَى وَعَلَى اسْتِثْفَارِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَعَلَى صِحَّةِ إحْرَامِهِمَا وَأَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ عَقِيبَ صَلَاةِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَهَّلَ بَعْدَهُمَا فَرِيضَةَ الْفَجْرِ وَأَنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيُسْتَحَبُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ زَادَ فَلَا بَأْسَ فَقَدْ زَادَ عُمَرُ رضي الله عنه " لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحُسْنِ لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا مِنْك وَمَرْغُوبًا إلَيْك) وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه " لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ " وَأَنَسٌ رضي الله عنه " لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا " وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَاجِّ الْقُدُومُ أَوَّلًا مَكَّةَ لِيَطُوفَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَأَنَّهُ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ قَبْلَ طَوَافِهِ ثُمَّ يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ وَالرَّمَلُ إسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا وَهُوَ الْخَبَبُ ثُمَّ يَمْشِي أَرْبَعًا عَلَى عَادَتِهِ وَأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ طَوَافِهِ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ وَيَتْلُو {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ثُمَّ يَجْعَلُ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ طَائِفٍ إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ.

وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُمَا وَاجِبَتَانِ أَمْ لَا فَقِيلَ بِالْوُجُوبِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ الطَّوَافُ وَاجِبًا وَجَبَتَا وَإِلَّا فَسُنَّةٌ وَهَلْ يَجِبَانِ خَلْفَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ حَتْمًا أَوْ يُجْزِئَانِ فِي غَيْرِهِ، فَقِيلَ: يَجِبَانِ خَلْفَهُ، وَقِيلَ: يُنْدَبَانِ خَلْفَهُ، وَلَوْ صَلَّاهُمَا فِي الْحَجَرِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي أَيِّ مَحَلٍّ مِنْ مَكَّةَ جَازَ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ.

وَوَرَدَ فِي الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ الْكَافِرُونَ وَالثَّانِيَةِ بَعْدَهَا الصَّمَدُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَشْرَعُ لَهُ الِاسْتِلَامُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا فَعَلَهُ عِنْدَ الدُّخُولِ وَاتَّفَقُوا أَنَّ الِاسْتِلَامَ سُنَّةٌ وَأَنَّهُ يَسْعَى بَعْدَ الطَّوَافِ وَيَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَرْقَى إلَى أَعْلَاهُ وَيَقِفُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى بِهَذَا الذِّكْرِ وَيَدْعُو ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي الْمُوَطَّإِ «حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى» وَقَدْ قَدَّمْنَا لَك أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ سَقْطًا فَدَلَّتْ رِوَايَةُ الْمُوَطَّإِ أَنَّهُ يَرْمُلُ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ بِهِ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ السَّبْعَةِ الْأَشْوَاطِ لَا فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ كَمَا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ بِالْبَيْتِ. وَأَنَّهُ يَرْقَى أَيْضًا عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا رَقَى عَلَى الصَّفَا وَيَذْكُرُ وَيَدْعُو وَبِتَمَامِ ذَلِكَ تَتِمُّ عُمْرَتُهُ فَإِنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ صَارَ حَلَالًا وَهَكَذَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ صلى الله عليه وسلم بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَارِنًا فَإِنَّهُ لَا يَحْلِقُ وَلَا يُقَصِّرُ وَيَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ.

ثُمَّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ ثَامِنُ ذِي الْحِجَّةِ يُحْرِمُ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ مِمَّنْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ وَيَطْلُعُ هُوَ وَمَنْ كَانَ قَارِنًا إلَى مِنًى كَمَا قَالَ جَابِرٌ «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى» أَيْ تَوَجَّهَ مَنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إحْرَامِهِ لِتَمَامِ حَجِّهِ وَمَنْ كَانَ قَدْ صَارَ حَلَالًا أَحْرَمَ

ص: 634

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَتَوَجَّهَ إلَى مِنًى.

وَتَوَجَّهَ صلى الله عليه وسلم إلَيْهَا رَاكِبًا فَنَزَلَ بِهَا وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ. وَفِيهِ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ وَفِي الطَّرِيقِ أَيْضًا، وَفِيهِ خِلَافٌ وَدَلِيلُ الْأَفْضَلِيَّةِ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم. وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمِنًى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأَنْ يَبِيتَ بِهَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَهِيَ لَيْلَةُ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَخْرُجُوا يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ مِنًى إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَرَفَاتٍ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ. وَأَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بِعَرَفَاتٍ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ بِنَمِرَةَ وَلَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَدْخُلْ إلَى الْمَوْقِفِ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ وَأَنْ لَا يُصَلِّيَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ النَّاسَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرَيْنِ وَهَذِهِ إحْدَى الْأَرْبَعِ الْخُطَبِ الْمَسْنُونَةِ وَالثَّانِيَةُ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَخْطُبُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالثَّالِثَةُ يَوْمَ النَّحْرِ وَالرَّابِعَةُ يَوْمَ النَّفْرِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

وَفِي قَوْلِهِ «ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ إلَى آخِرِهِ» سُنَنٌ وَآدَابٌ مِنْهَا أَنَّهُ يَجْعَلُ الذَّهَابَ إلَى الْمَوْقِفِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْوُقُوفَ رَاكِبًا أَفْضَلُ. وَمِنْهَا أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ وَهِيَ صَخَرَاتٌ مُفْتَرَشَاتٌ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ. وَمِنْهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الْوُقُوفِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَبْقَى فِي الْمَوْقِفِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ وَيَكُونُ فِي وُقُوفِهِ دَاعِيًا «فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ رَاكِبًا يَدْعُو اللَّهَ عز وجل وَكَانَ فِي دُعَائِهِ رَافِعًا يَدَيْهِ إلَى صَدْرِهِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ خَيْرَ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَذَكَرَ مِنْ دُعَائِهِ فِي الْمَوْقِفِ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ كَاَلَّذِي نَقُولُ وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ اللَّهُمَّ لَك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي وَإِلَيْك مَآبِي وَبِك تُرَاثِي اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَوَسْوَاسِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَمِنْهَا أَنْ يَدْفَعَ بَعْدَ تَحَقُّقِ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِالسَّكِينَةِ وَيَأْمُرُ بِهَا النَّاسَ إنْ كَانَ مُطَاعًا وَيَضُمُّ زِمَامَ مَرْكُوبِهِ لِئَلَّا يُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ إلَّا إذَا أَتَى جَبَلًا مِنْ جِبَالِ الرِّمَالِ أَرْخَاهُ قَلِيلًا لِيَخِفَّ عَلَى مَرْكُوبِهِ صُعُودَهُ فَإِذَا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ بِهَا وَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَهَذَا الْجَمْعُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِهِ فَقِيلَ: لِأَنَّهُ نُسُكٌ، وَقِيلَ: لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ وَأَنَّهُ لَا يُصَلِّي بَيْنَهُمَا شَيْئًا. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرَ) فِيهِ سُنَنٌ نَبَوِيَّةٌ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَى أَنَّهُ نُسُكٌ إنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ وَالْأَصْلُ فِيمَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حُجَّتِهِ الْوُجُوبُ كَمَا عَرَفْت وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ يَدْفَعَ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَأْتِي الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَيَقِفُ بِهِ وَيَدْعُو وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ مِنْ الْمَنَاسِكِ ثُمَّ يَدْفَعُ مِنْهُ عِنْدَ إسْفَارِ الْفَجْرِ إسْفَارًا بَلِيغًا فَيَأْتِي بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَيُسْرِعُ السَّيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ غَضَبِ اللَّهِ فِيهِ عَلَى أَصْحَابِ الْفِيلِ فَلَا يَنْبَغِي الْأَنَاةُ فِيهِ وَلَا الْبَقَاءُ بِهِ فَإِذَا أَتَى الْجَمْرَةَ - وَهِيَ

ص: 635

694 -

وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

695 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَحَرْت هَا هُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْت

جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ - نَزَلَ بِبَطْنِ الْوَادِي وَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كُلُّ حَصَاةٍ كَحَبَّةِ الْبَاقِلَا يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ. ثُمَّ يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْمَنْحَرِ فَيَنْحَرُ إنْ كَانَتْ عِنْدَهُ بَدَنٌ يُرِيدُ نَحْرَهَا وَأَمَّا هُوَ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ نَحَرَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَكَانَ مَعَهُ مِائَةُ بَدَنَةٍ فَأَمَرَ عَلِيًّا عليه السلام بِنَحْرِ بَاقِيهَا ثُمَّ رَكِبَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَمِنْ بَعْدِهِ يَحِلُّ لَهُ كُلَّ مَا حَرُمَ بِالْإِحْرَامِ حَتَّى وَطْءَ النِّسَاءِ وَأَمَّا إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يَطُفْ هَذَا الطَّوَافَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ مَا عَدَا النِّسَاءِ فَهَذِهِ الْجُمَلُ مِنْ السُّنَنِ وَالْآدَابِ الَّتِي أَفَادَهَا هَذَا الْحَدِيثُ الْجَلِيلُ مِنْ أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم تُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَفِي كَثِيرٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الْجَلِيلُ مِمَّا سُقْنَاهُ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَثِيرٌ فِي وُجُوبِهِ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ وَفِي لُزُومِ الدَّمِ بِتَرْكِهِ وَعَدَمِ لُزُومِهِ وَفِي صِحَّةِ الْحَجِّ إنْ تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا وَعَدَمِ صِحَّتِهِ وَقَدْ طُوِّلَ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ وَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ الْآتِي بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هُوَ الْمُمْتَثِلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَالْمُقْتَدَى بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ.

(وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ) سَقَطَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ نُسْخَةِ الشَّارِحِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا فَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّ فِيهِ صَالِحَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ ضَعَّفُوهُ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ كُلِّ تَلْبِيَةٍ يُلَبِّيهَا الْمُحْرِمُ فِي أَيِّ حِينٍ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرَاغِ مِنْهَا انْتِهَاءُ وَقْتِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَهُوَ عِنْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ.

ص: 636

هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

696 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَحَرْت هَا هُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ» جَمْعُ رَحْلٍ وَهُوَ الْمَنْزِلُ «وَوَقَفْت هَا هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» وَحَدُّ عَرَفَةَ مَا خَرَجَ عَنْ وَادِي عَرَفَةَ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ مِمَّا يَلِي بَسَاتِينَ بَنِي عَامِرٍ «وَوَقَفْت هَا هُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَفَادَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَحَدٍ نَحْرُهُ حَيْثُ نَحَرَ وَلَا وُقُوفُهُ بِعَرَفَةَ وَلَا جَمْعٍ حَيْثُ وَقَفَ بَلْ ذَلِكَ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِمْ حَيْثُ نَحَرُوا فِي أَيِّ بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ مِنًى فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُمْ وَفِي أَيِّ بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ وَقَفُوا أَجْزَأَ وَهَذِهِ زِيَادَاتٌ فِي بَيَانِ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم أَفَادَ تَقْرِيرُهُ لِمَنْ حَجَّ مَعَهُ مِمَّنْ لَمْ يَقِفْ فِي مَوْقِفِهِ وَلَمْ يَنْحَرْ فِي مَنْحَرِهِ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ حَجَّ مَعَهُ أُمَمٌ لَا تُحْصَى وَلَا يَتَّسِعُ لَهَا مَكَانُ وُقُوفِهِ وَنَحْرِهِ هَذَا وَالدَّمُ الَّذِي مَحَلُّهُ مِنًى هُوَ دَمُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْإِحْصَارِ وَالْإِفْسَادِ وَالتَّطَوُّعِ بِالْهَدْيِ، وَأَمَّا الَّذِي يَلْزَمُ الْمُعْتَمِرَ فَمَحَلُّهُ مَكَّةُ وَأَمَّا سَائِرُ الدِّمَاءِ اللَّازِمَةِ مِنْ الْجَزَاءَاتِ فَمَحَلُّهَا الْحَرَمُ الْمُحَرَّمُ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هَذَا إخْبَارٌ عَنْ دُخُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ دَخَلَهَا مِنْ مَحَلٍّ يُقَالُ لَهُ كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِّ وَالْمَدُّ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَهِيَ الثَّنِيَّةُ الَّتِي يَنْزِلُ مِنْهَا إلَى الْمُعَلَّاةِ مَقْبَرَةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَتْ صَعْبَةَ الْمُرْتَقَى فَسَهَّلَهَا مُعَاوِيَةُ ثُمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ ثُمَّ الْمَهْدِيُّ ثُمَّ سُهِّلَتْ كُلُّهَا فِي زَمَنِ سُلْطَانِ مِصْرَ الْمُؤَيَّدِ فِي حُدُودِ عِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَأَسْفَلُ مَكَّةَ هِيَ الثَّنِيَّةُ السُّفْلَى يُقَالُ لَهَا كَذَا بِضَمِّ الْكَافِّ وَالْقَصْرُ عِنْدَ بَابِ الشَّبِيكَةِ، وَيَقُولُ أَهْلُ مَكَّةَ: افْتَحْ وَادْخُلْ وَضُمَّ وَاخْرُجْ وَوَجْهُ دُخُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا أُسْلِمُ حَتَّى أَرَى الْخَيْلَ تَطْلُعُ مِنْ كَدَاءَ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: مَا هَذَا قَالَ: شَيْءٌ طَلَعَ بِقَلْبِي وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُطْلِعُ الْخَيْلَ مِنْ هُنَالِكَ أَبَدًا قَالَ الْعَبَّاسُ فَذَكَّرْت أَبَا سُفْيَانَ بِذَلِكَ لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا» .

ص: 637

697 -

«وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

698 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا.

وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْف قَالَ حَسَّانُ فَأَنْشَدَهُ شِعْرًا.

عَدِمْت بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَرَوْهَا

تُثِيرُ النَّقْعَ مَطْلَعُهَا كَدَاءَ

فَتَبَسَّمَ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: اُدْخُلُوهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانُ».

وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِحْبَابِ الدُّخُولِ مِنْ حَيْثُ دَخَلَ صلى الله عليه وسلم وَالْخُرُوجِ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ فَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ وَأَنَّهُ يَعْدِلُ إلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْبَعْضُ: إنَّمَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الثَّنِيَّةَ الْعُلْيَا الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْأَبْطُحِ وَالْمَقَابِرِ إذَا دَخَلَ مِنْهَا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يَأْتِي مِنْ وُجْهَةِ الْبَلَدِ وَالْكَعْبَةِ وَيَسْتَقْبِلُهَا اسْتِقْبَالًا مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ بِخِلَافِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْ النَّاحِيَةِ السُّفْلَى؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ الْبَلَدَ وَالْكَعْبَةَ فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ مَا يَلِيه مِنْهَا مُؤَخَّرًا لِئَلَّا يَسْتَدْبِرَ وَجْهَهَا.

«وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ لَيْلَةَ قُدُومِهِ بِذِي طُوًى» فِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثَةُ الطَّاءِ وَيُنَوَّنُ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ (حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ أَنَّهُ فَعَلَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَارًا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ سَوَاءٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ

ص: 638

699 -

وَعَنْهُ رضي الله عنهما قَالَ: «أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا أَرْبَعًا، مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

700 -

«وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ كَانَ إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوَّلُ مَا يَقْدَمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

رَوَاهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا) وَحَسَّنَهُ أَحْمَدُ وَقَدْ رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ " رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ جَاءَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ مُرَجِّلًا رَأْسَهُ فَقَبَّلَ الْحَجَرَ وَسَجَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا " وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيِّ «قَالَ: رَأَيْت مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنَ جَعْفَرٍ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَقَالَ: رَأَيْت خَالِي ابْنَ عَبَّاسٍ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ وَقَالَ: رَأَيْت عُمَرَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ وَقَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ» وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَالْتَزَمَهُ، وَقَالَ: رَأَيْت رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِك حَفِيًّا» يُؤَيِّدُ هَذَا فَفِيهِ شَرْعِيَّةُ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ وَالسُّجُودِ عَلَيْهِ.

(وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَهُ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ (أَنْ يَرْمُلُوا) بِضَمِّ الْمِيمِ (ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ) أَيْ يُهَرْوِلُونَ فِيهَا فِي الطَّوَافِ (وَيَمْشُوا أَرْبَعًا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

700 -

«وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ كَانَ إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوَّلُ مَا يَقْدَمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ «وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا وَفِي رِوَايَةٍ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدُمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

وَأَصْلُ ذَلِكَ وَوَجْهُ حِكْمَتِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ

ص: 639

701 -

وَعَنْهُ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

702 -

«وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَقَالَ: إنِّي أَعْلَمُ إنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ وَإِنَّهُمْ حِينَ رَأَوْهُمْ يَرْمُلُونَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى وَهَنَتْهُمْ أَنَّهُمْ لَأَجْلَدَ مِنْ كَذَا وَكَذَا» وَفِي لَفْظٍ لِغَيْرِهِ " إنْ هُمْ إلَّا كَالْغِزْلَانِ " فَكَانَ هَذَا أَصْلَ الرَّمَلِ وَسَبَبُهُ إغَاظَةُ الْمُشْرِكِينَ وَرَدُّ قَوْلِهِمْ وَكَانَ هَذَا فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ صَارَ سُنَّةً فَفَعَلَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ وَإِسْلَامِ مَنْ فِي مَكَّةَ وَإِنَّمَا لَمْ يَرْمُلُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْحَجَرِ عِنْدَ قُعَيْقِعَانَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ مَنْ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقَصْدِ إغَاظَةِ الْأَعْدَاءِ بِالْعِبَادَةِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي إخْلَاصَ الْعَمَلِ بَلْ هُوَ إضَافَةُ طَاعَةٍ إلَى طَاعَةٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} .

(وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ «لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ) اعْلَمْ أَنَّ لِلْبَيْتِ أَرْبَعَةَ أَرْكَانٍ: الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ، ثُمَّ الْيَمَانِي وَيُقَالُ لَهُمَا: الْيَمَانِيَانِ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَقَدْ تُشَدَّدُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمَا: الْيَمَانِيَانِ تَغْلِيبًا كَالْأَبَوَيْنِ وَالْقَمَرَيْنِ، وَالرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ يُقَالُ لَهُمَا الشَّامِيَّانِ وَفِي الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ فَضِيلَتَانِ كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام وَالثَّانِيَةُ كَوْنُهُ فِي الْحَجَرِ وَأَمَّا الْيَمَانِيُّ فَفِيهِ فَضِيلَةٌ كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ وَأَمَّا الشَّامِيَّانِ فَلَيْسَ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْفَضِيلَتَيْنِ فَلِهَذَا خُصَّ الْأَسْوَدُ بِسُنَّتَيْ التَّقْبِيلِ وَالِاسْتِلَامِ لِلْفَضِيلَتَيْنِ، وَأَمَّا الْيَمَانِيُّ فَيَسْتَلِمُهُ مَنْ يَطُوفُ وَلَا يُقَبِّلُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَضِيلَةً وَاحِدَةً وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى‌

‌ اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ

وَاتَّفَقَ الْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ الطَّائِفُ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي وَكَانَ فِيهِ - أَيْ فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ - خِلَافٌ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَانْقَرَضَ الْخِلَافُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتَلِمَانِ وَعَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ.

ص: 640

703 -

وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٍ.

«وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَقَالَ: إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْت عُمَرَ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِك حَفِيًّا» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَقَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ: أَرَأَيْت إنْ غُلِبْت فَقَالَ: دَعْ أَرَأَيْت بِالْيَمَنِ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ» وَرَوَى الْأَزْرَقِيُّ حَدِيثَ عُمَرَ بِزِيَادَةٍ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ؛ قَالَ وَأَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: فِي كُتُبِ اللَّهِ؛ قَالَ: وَأَيْنَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} قَالَ فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ صُلْبِهِ فَقَرَّرَهُمْ أَنَّهُ الرَّبُّ وَهُمْ الْعَبِيدُ ثُمَّ كَتَبَ مِيثَاقَهُمْ فِي رِقٍّ وَكَانَ لِهَذَا الْحَجَرِ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ فَقَالَ لَهُ افْتَحْ فَاك فَأَلْقَمَهُ ذَلِكَ الرِّقَّ وَجَعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ: تَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاك بِالْإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الرَّاوِي: فَقَالَ عُمَرُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَعِيشَ فِي قَوْمٍ لَسْت فِيهِمْ يَا أَبَا الْحَسَنِ " قَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَخَشِيَ عُمَرُ أَنْ يَفْهَمُوا أَنَّ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِ بَعْضِ الْأَحْجَارِ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يُعْلِمَ النَّاسَ أَنَّ اسْتِلَامَهُ اتِّبَاعٌ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا لِأَنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِذَاتِهِ كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ فِي الْأَوْثَانِ.

703 -

وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٍ (وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ هِيَ عَصًا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ مَعَهُ وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَأْتِي هَذَا الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

ص: 641

704 -

وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ وَيَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ» وَرَوَى الْأَزْرَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " قَالَ: إنَّ هَذَا الرُّكْنَ يَمِينُ اللَّهِ عز وجل فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهِ عِبَادَهُ مُصَافَحَةَ الرَّجُلِ أَخَاهُ " وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْهُ " الرُّكْنُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا خَلْقَهُ وَاَلَّذِي نَفْسُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَسْأَلُ اللَّهَ عِنْدَهُ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ " وَحَدِيثُ أَبِي الطُّفَيْلِ دَالٌ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ اسْتِلَامِهِ بِالْيَدِ اسْتِلَامُهُ بِآلَةٍ وَيُقَبِّلُ الْآلَةَ كَالْمِحْجَنِ وَالْعَصَا وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ قَبَّلَ يَدَهُ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ " أَنَّهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ لِعَطَاءٍ: هَلْ رَأَيْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَلَمُوا قَبَّلُوا أَيْدِيَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَ عُمَرَ وَأَبَا سَعِيدٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ إذَا اسْتَلَمُوا قَبَّلُوا أَيْدِيَهُمْ " فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِلَامُهُ؛ لِأَجْلِ الزَّحْمَةِ قَامَ حِيَالَهُ وَرَفَعَ يَدَهُ وَكَبَّرَ؛ لِمَا رَوَى «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا عُمَرُ إنَّك رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمُ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِي الضُّعَفَاءَ إنْ وَجَدَتْ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَزْرَقِيُّ وَإِذَا أَشَارَ بِيَدِهِ فَلَا يُقَبِّلُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَبِّلُ إلَّا الْحَجَرَ أَوْ مَا مَسَّ الْحَجَرَ.

(وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ) الِاضْطِبَاعُ افْتِعَالٌ مِنْ الضَّبُعِ وَهُوَ الْعُضْوُ وَيُسَمَّى التَّأَبُّطَ؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ الْإِبِطِ وَيُبْدِي ضَبْعَهُ الْأَيْمَنَ وَقِيلَ: يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْإِزَارَ أَوْ الْبُرْدَ وَيَجْعَلُهُ تَحْتَ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِي طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ جِهَتَيْ صَدْرِهِ وَظَهْرِهِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " اضْطَبَعَ فَكَبَّرَ وَاسْتَلَمَ وَكَبَّرَ ثُمَّ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَطَوَافً كَانُوا إذَا بَلَغُوا الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَتَغَيَّبُوا مِنْ قُرَيْشٍ مَشَوْا ثُمَّ يَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ يَرْمُلُونَ تَقُولُ قُرَيْشُ كَأَنَّهُمْ الْغِزْلَانُ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ سُنَّةً وَأَوَّلُ مَا اضْطَبَعُوا فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى الرَّمَلِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُمْ ثُمَّ صَارَ سُنَّةً وَيَضْطَبِعُ

ص: 642

705 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

706 -

«وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّقَلِ، أَوْ قَالَ فِي الضَّعَفَةِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فِي الْأَشْوَاطِ السَّبْعَةِ فَإِذَا قَضَى طَوَافَهُ سَوَّى ثِيَابَهُ وَلَمْ يَضْطَبِعْ فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَقِيلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى لَا غَيْرُ.

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِهْلَالَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَأَوَّلُ وَقْتِهِ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ إلَى الشُّرُوعِ فِي الْإِحْلَالِ وَهُوَ فِي الْحَجِّ إلَى أَنْ يَأْخُذَ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَفِي الْعُمْرَةِ إلَى الطَّوَافِ. وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَبَّرَ مَكَانَ التَّلْبِيَةِ فَلَا نَكِيرَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَسًا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فَيُقِرُّ كُلًّا عَلَى مَا قَالَهُ إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي صِفَةِ غُدُوِّهِمْ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَاتٍ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بَعْدَ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ.

«وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّقَلِ» بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَهُوَ مَتَاعُ الْمُسَافِرِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ (أَوْ قَالَ فِي الضَّعَفَةِ) شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي (مِنْ جَمْعٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ عَلَى الْمُزْدَلِفَةِ سُمِّيَتْ بِهِ؛ لِأَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ لَمَّا أَهَبَطَا اجْتَمَعَا بِهَا كَمَا فِي النِّهَايَةِ (بِلَيْلٍ) وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَبِيتِ بِجَمْعٍ وَأَنَّهُ لَا يُفِيضُ مَنْ بَاتَ بِهَا إلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِهَا ثُمَّ يَقِفُ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَلَا يَدْفَعُ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ إسْفَارِ الْفَجْرِ جِدًّا وَيَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَدْ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ لَا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ، فَخَالَفَهُمْ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَنَحْوَهُ دَلَّ عَلَى الرُّخْصَةِ لِلضَّعَفَةِ فِي عَدَمِ اسْتِكْمَالِ الْمَبِيتِ. وَالنِّسَاءُ كَالضَّعَفَةِ أَيْضًا لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ» بِضَمِّ الظَّاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ

ص: 643

707 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ: أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ ثَبْطَةً - تَعْنِي ثَقِيلَةً - فَأَذِنَ لَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

708 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ

وَسُكُونِهَا جَمْعُ ظَعِينَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَعَلَى الْهَوْدَجِ بِلَا امْرَأَةٍ كَمَا فِي النِّهَايَةِ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ وَكَانَتْ ثَبْطَةً بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَسَّرَهَا قَوْلُهُ تَعْنِي ثَقِيلَةً فَأَذِنَ لَهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا) عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَكِنْ لِلْعُذْرِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ (وَكَانَتْ ثَبْطَةً) وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَيَلْزَمُ مَنْ تَرَكَهُ دَمٌ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ إنْ تَرَكَهُ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا دَمَ وَيَبِيتُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ وَقِيلَ: سَاعَةً مِنْ النِّصْفِ الثَّانِي وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وَاَلَّذِي فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم الْمَبِيتَ بِهَا إلَى أَنْ صَلَّى الْفَجْرَ، وَقَدْ قَالَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» .

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ) وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْحَسَنَ الْعُرَنِيَّ بَجَلِيٌّ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مُنْقَطِعٌ قَالَ أَحْمَدُ: الْحَسَنُ الْعُرَنِيُّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِنْ كَانَ الرَّامِي مِمَّنْ أُبِيحَ لَهُ التَّقَدُّمُ إلَى مِنًى وَأُذِنَ لَهُ فِي عَدَمِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

(الْأَوَّلُ) جَوَازُ الرَّمْيِ مِنْ بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ قَالَهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ.

(الثَّانِي) لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

(الثَّالِثُ) لَا يَجُوزُ لِلْقَادِرِ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلِمَنْ لَهُ عُذْرٌ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ قَوْلُ الْهَادَوِيَّةِ.

(وَالرَّابِعُ) لِلثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلْقَادِرِ وَهَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا وَأَرْجَحُهَا قِيلًا.

ص: 644

709 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

710 -

وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ - يَعْنِي بِالْمُزْدَلِفَةِ - فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَرَمَتْ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الرَّمْيِ قَبْلَ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَقَرَّرَهُ وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ قَبْلَ الْفَجْرِ لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا عُذْرَ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ الْهَادَوِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ لِلْقَادِرِ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَّا أَنَّهُمْ أَجَازُوا لِلْقَادِرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى جَوَازِ الرَّمْيِ مِنْ بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّهُ لَا رَمْيَ إلَّا مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلْقَادِرِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ لَهُ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ انْقِطَاعٌ فَقَدْ عَضَّدَهُ فِعْلُهُ مَعَ قَوْلِهِ " خُذُوا عَنِّي " الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.

(وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، كُوفِيٌّ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَصَدْرُ حَدِيثِهِ أَنَّهُ قَالَ «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي جَمْعًا فَقُلْت: جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ فَأَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي وَأَتْعَبْت نَفْسِي وَاَللَّهِ مَا تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ» ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ هَذِهِ يَعْنِي بِالْمُزْدَلِفَةِ فَوَقَفَ مَعَنَا أَيْ فِي مُزْدَلِفَةَ حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» رَوَاهُ

ص: 645

711 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «إنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، فَأَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِشُهُودِ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ وَالْوُقُوفِ بِهَا حَتَّى يَدْفَعَ الْإِمَامُ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. وَدَلَّ عَلَى إجْزَاءِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فِي نَهَارِ يَوْمِ عَرَفَةَ إذَا كَانَ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ أَوْ فِي لَيْلَةِ الْأَضْحَى وَأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ قَضَى تَفَثَهُ وَهُوَ قَضَاءُ الْمَنَاسِكِ، وَقِيلَ: إذْهَابُ الشَّعْرِ وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ حَجُّهُ.

فَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا بِمُزْدَلِفَةَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَتِمُّ الْحَجَّ وَإِنْ فَاتَهُ وَيَلْزَمُ فِيهِ دَمٌ وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى أَنَّهُ رُكْنٌ كَعَرَفَةَ وَهَذَا مَفْهُومٌ دَلِيلُهُ وَيَدُلُّ لَهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيّ «وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ جَمْعًا فَلَا حَجَّ لَهُ» وقَوْله تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ مِنْ فِعْلِ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَأَتَى بِالْكَمَالِ مِنْ الْحَجِّ وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ «أَنَّهُ أَتَاهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَقَالُوا: كَيْف الْحَجُّ؟ فَقَالَ: الْحَجُّ عَرَفَةَ مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَفِي رِوَايَةٍ؛ لِأَبِي دَاوُد «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» وَمِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ «الْحَجُّ عَرَفَةَ الْحَجُّ عَرَفَةَ» قَالُوا: فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمُرَادِ وَأَجَابُوا عَنْ زِيَادَةٍ «وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ جَمْعًا فَلَا حَجَّ لَهُ» بِاحْتِمَالِهَا التَّأْوِيلَ أَيْ فَلَا حَجَّ كَامِلَ الْفَضِيلَةِ وَبِأَنَّهَا رِوَايَةٌ أَنْكَرَهَا أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ وَأَلَّفَ فِي إنْكَارِهَا جُزْءًا وَعَنْ الْآيَةِ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ لَا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ وَبِأَنَّهُ فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا لِلْوَاجِبِ الْمُسْتَكْمِلِ الْفَضِيلَةِ.

(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: إنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَفِيضُونَ) أَيْ مِنْ مُزْدَلِفَةَ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ الْإِشْرَاقِ أَيْ اُدْخُلْ فِي الشُّرُوقِ (ثَبِيرُ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إلَى مِنًى وَهُوَ أَعْظَمُ جِبَالِ مَكَّةَ «وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ فَأَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةٍ " كَيْمَا نُغَيِّرُ " أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ

ص: 646

712 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم قَالَا: «لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

713 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهُوَ مِنْ الْإِغَارَةِ الْإِسْرَاعِ فِي عَدْوِ الْفَرَسِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَشْرَعُ الدَّفْعَ وَهُوَ الْإِفَاضَةُ قَبْلَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ " حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ".

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم قَالَا: «لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِمْرَارِ فِي التَّلْبِيَةِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى يَرْمِيَ الْجَمْرَةِ. وَهَلْ يَقْطَعُهُ عِنْدَ الرَّمْيِ بِأَوَّلِ حَصَاةٍ أَوْ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْهَا؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْأَوَّلِ وَأَحْمَدُ إلَى الثَّانِي وَدَلَّ لَهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ «فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ فَلَمَّا رَجَعَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ» وَمَا رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ «الْفَضْلِ أَنَّهُ قَالَ: أَفَضْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَيُكَبِّرْ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مَعَ آخِرِ حَصَاةٍ» وَهُوَ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: " حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ " أَيْ أَتَمَّ رَمْيَهَا وَلِلْعُلَمَاءِ خِلَافٌ مَتَى يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ بَيَّنَتْ وَقْتَ تَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا.

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ) عِنْدَ رَمْيِهِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ وَرَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَدًّا عَلَى مَنْ يَرْمِيهَا مِنْ فَوْقِهَا وَاتَّفَقُوا أَنَّ سَائِرَ الْجِمَارِ تُرْمَى مِنْ فَوْقِهَا وَخَصَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَعْمَالِ الْحَجِّ مَذْكُورَةٌ فِيهَا أَوْ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَكْثَرِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَفِيهِ جَوَازُ أَنْ يُقَالَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يُكْرَهُ وَلَا دَلِيلَ لَهُ.

ص: 647

714 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

715 -

«وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ ثُمَّ يُسْهِلُ، فَيَقُومُ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَقْتِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ الثَّلَاثِ الْجِمَارِ مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.

«وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا» بِضَمِّ الدَّالِ وَبِكَسْرِهَا أَيْ الدَّانِيَةِ إلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَهِيَ أَوَّلُ الْجَمَرَاتِ الَّتِي تُرْمَى ثَانِي النَّحْرِ «بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ ثُمَّ يُسْهِلُ» بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَقْصِدُ السَّهْلَ مِنْ الْأَرْضِ (فَيَقُومُ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ) أَيْ يَمْشِي إلَى جِهَةِ شِمَالِهِ لِيَقِفَ دَاعِيًا فِي مَقَامٍ لَا يُصِيبُهُ الرَّمْيُ فَيُسْهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

فِيهِ مَا قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْمَاضِيَةُ مِنْ الرَّمْيِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ لِكُلِّ جَمْرَةٍ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ. وَفِيهِ زِيَادَةٌ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بَعْدَ الرَّمْيِ لِلْجَمْرَتَيْنِ وَيَقُومُ طَوِيلًا يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى، وَقَدْ فَسَّرَ مِقْدَارَ الْقِيَامِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُومُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ بِمِقْدَارِ مَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَأَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ " قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ

ص: 648

716 -

وَعَنْهُ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: وَالْمُقَصِّرِينَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

مَالِكٌ " أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ " وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ لِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ.

(وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ» أَيْ الَّذِينَ حَلَقُوا رُءُوسَهُمْ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا (قَالُوا): يَعْنِي السَّامِعِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: إنَّهُ لَمْ يَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّرُقِ عَلَى الَّذِي تَوَلَّى السُّؤَالَ بَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ عَنْهُ (وَالْمُقَصِّرِينَ) هُوَ مِنْ عَطْفِ التَّلْقِينِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَارْحَمْ الْمُقَصِّرِينَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: " وَالْمُقَصِّرِينَ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ مَرَّتَيْنِ وَعَطَفَ الْمُقَصِّرِينَ فِي الثَّالِثَةِ وَفِي رِوَايَاتٍ أَنَّهُ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا ثُمَّ عَطَفَ الْمُقَصِّرِينَ ثُمَّ إنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ مَتَى كَانَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَجَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقِيلَ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ وَبِمِثْلِهِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِتَظَافُرِ الرِّوَايَاتِ بِذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ وَأَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ هَذَا وَيَجِبُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ اسْتِكْمَالُ حَلْقِهِ عِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقِيلَ: هُوَ الْأَفْضَلُ وَيُجْزِئُ الْأَقَلُّ فَقِيلَ: الرُّبْعُ، وَقِيلَ: النِّصْفُ، وَقِيلَ: أَقَلُّ مَا يَجِبُ حَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَقِيلَ: شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْخِلَافُ فِي التَّقْصِيرِ فِي التَّفْضِيلِ مِثْلُ هَذَا وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَيَكُونُ مِقْدَارَ أُنْمُلَةٍ، وَقِيلَ: إذَا اقْتَصَرَ عَلَى دُونِهَا أَجْزَأَ وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ثُمَّ هُوَ أَيْ تَفْضِيلُ الْحَلْقِ عَلَى التَّقْصِيرِ أَيْضًا فِي حَقِّ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ، وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَهُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ " ثُمَّ يَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا " وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ اسْتِوَاءُ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ وَفَصَّلَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ فَقَالَ: إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَطْلُعُ شَعْرُهُ فَالْأَوْلَى لَهُ الْحَلْقُ وَإِلَّا فَالتَّقْصِيرُ لِيَقَعَ الْحَلْقُ فِي الْحَجِّ وَبَيَّنَ وَجْهَ التَّفْصِيلِ فِي الْفَتْحِ.

وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِنَّ التَّقْصِيرُ إجْمَاعًا وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ وَإِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عليه السلام -

ص: 649

717 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

نَهَى أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا وَهَلْ يُجْزِئُ لَوْ حَلَقَتْ؟ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُجْزِئُ وَيُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ.

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) أَيْ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَخْطُبُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ (فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ فَقَالَ رَجُلٌ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ (لَمْ أَشْعُرْ) أَيْ لَمْ أَفَطِنْ وَلَمْ أَعْلَمْ (فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ: اذْبَحْ) أَيْ الْهَدْيَ، وَالذَّبْحُ مَا يَكُون فِي الْحَلْقِ (وَلَا حَرَجَ) أَيْ لَا إثْمَ (وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُر فَنَحَرْت) النَّحْرَ مَا يَكُونُ فِي اللَّبَّةِ (قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ) جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ «قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ اعْلَمْ أَنَّ الْوَظَائِفَ عَلَى الْحَاجِّ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعٌ الرَّمْيُ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ نَحْرُ الْهَدْيِ أَوْ ذَبْحُهُ ثُمَّ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْمَشْرُوعُ فِيهَا وَهَكَذَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى فَنَحَرَ وَقَالَ لِلْحَالِقِ: خُذْ» وَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا لِلْحَاجِّ مُطْلَقًا وَنَازَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْقَارِنِ فَقَالَ: لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَطُوفَ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَأْخِيرِهَا وَأَنَّهُ لَا ضِيقَ وَلَا إثْمَ عَلَى مَنْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْعُلَمَاءُ إلَى الْجَوَازِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ لِلسَّائِلِ (وَلَا حَرَجَ) فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ وَالْفِدْيَةِ مَعًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الضَّيِّقِ يَشْمَلُهَا قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَمْ يُسْقِطْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَرَجَ إلَّا وَقَدْ أَجْزَأَ الْفِعْلَ إذْ لَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ لَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ وَالنِّسْيَانَ لَا يَضَعَانِ عَنْ الْمُكَلَّفِ الْحُكْمَ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي الْحَجِّ كَمَا لَوْ تَرَكَ الرَّمْيَ وَنَحْوَهُ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ بِتَرْكِهِ نَاسِيًا

ص: 650

718 -

وَعَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

أَوْ جَاهِلًا لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَأَمَّا الْفِدْيَةُ فَالْأَظْهَرُ سُقُوطُهَا عَنْ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَعَدَمِ سُقُوطِهَا عَنْ الْعَالَمِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْقَوْلُ بِسُقُوطِ الدَّمِ عَنْ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي دُونَ الْعَامِدِ قَوِيٌّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ بِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَهَذِهِ السُّؤَالَاتُ الْمُرَخَّصَةُ بِالتَّقْدِيمِ لَمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ إنَّمَا قُرِنَتْ بِقَوْلِ السَّائِلِ (لَمْ أَشْعُرْ) فَيَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ لَا حَرَجَ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا فِي النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَيَبْقَى الْعَامِدُ عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ وَالْقَائِلُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَغَيْرِهِ قَدْ مَشَى أَيْضًا عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ إذَا رُتِّبَ عَلَى وَصْفٍ يُمْكِنُ بِأَنْ يَكُونَ مُعْتَبِرًا لَمْ يَجُزْ إطْرَاحُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الشُّعُورِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ وَالْحُكْمُ عُلِّقَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ إطْرَاحُهُ بِإِلْحَاقِ الْعَامِدِ بِهِ إذْ لَا يُسَاوِيه قَالَ: وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِ الرَّاوِي (فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ) إلَى آخِرِهِ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَاعًى فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِي الْأَخْبَارَ مِنْ الرَّاوِي تَتَعَلَّقُ بِمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَهُوَ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِّ السَّائِلِ وَالْمُطْلَقِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصِّينَ بِعَيْنِهِ فَلَا تَبْقَى حُجَّةٌ فِي حَالِ الْعَمْدِ.

718 -

وَعَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(وَعَنْ الْمِسْوَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ فَرَاءٍ (ابْنُ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ زُهْرِيٌّ قُرَشِيٌّ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَفِظَ عَنْهُ انْتَقَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ قَتَلَ عُثْمَانَ إلَى مَكَّةَ وَلَمْ يَزَلْ بِهَا إلَى أَنْ حَاصَرَهَا عَسْكَرُ يَزِيدَ فَقَتَلَهُ حَجَرٌ مِنْ حِجَارِ الْمَنْجَنِيقِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ الْمَشْرُوعَ تَقْدِيمُ الْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ فَقِيلَ: حَدِيثُ الْمِسْوَرِ هَذَا إنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ حَيْثُ أُحْصِرَ فَتَحَلَّلَ صلى الله عليه وآله وسلم بِالذَّبْحِ وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ (بَابَ النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ) وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ يَخْتَصُّ بِالْمُحْصَرِ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ بِمَعْنَاهُ هَذَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ بِطُولِهِ فِي كِتَابِ

ص: 651

719 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

720 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإِنَّمَا يُقَصِّرْنَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

721 -

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

الشُّرُوطِ وَفِيهِ «أَنَّهُ قَالَ؛ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا» وَفِيهِ «قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ لَهُ صلى الله عليه وسلم اُخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بَدَنَك فَخَرَجَ فَنَحَرَ بَدَنَهُ ثُمَّ دَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ» الْحَدِيثَ وَكَانَ الْأَحْسَنُ تَأْخِيرَ الْمُصَنِّفِ لَهُ إلَى بَابِ الْإِحْصَارِ.

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ مَدَارُهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقُ يَحِلُّ كُلَّ مُحْرِمٍ عَلَى الْمُحْرِمِ إلَّا النِّسَاءَ فَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهُنَّ إلَّا بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى حَلِّ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ إلَّا الْوَطْءَ بَعْدَ الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ وَإِنَّمَا يُقَصِّرْنَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا الْحُكْمِ فِي الشَّرْحِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّهِنَّ الْحَلْقُ فَإِنْ حَلَقْنَ أَجْزَأَ.

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ» وَهِيَ مَاءُ زَمْزَمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَرِفُونَهُ بِاللَّيْلِ

ص: 652

722 -

وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ، لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.

723 -

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ» . الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَيَجْعَلُونَهُ فِي الْحِيَاضِ سَبِيلًا (فَأَذِنَ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ ثَانِي النَّحْرِ وَثَالِثِهِ إلَّا لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ وَهَذَا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ.

وَالْحَنَفِيَّةُ قَالَتْ: إنَّهُ سُنَّةٌ قِيلَ: إنَّهُ يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِالْعَبَّاسِ دُونَ غَيْرِهِ وَقِيلَ: بَلْ وَبِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سِقَايَتِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ لَهُ وَحْدَهُ إعْدَادُ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ وَهَلْ يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ أَوْ يَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا حِفْظُ مَالِهِ وَعِلَاجُ مَرِيضِهِ وَهَذَا الْإِلْحَاقُ رَأْيُ الشَّافِعِيِّ وَيَدُلُّ لِلْإِلْحَاقِ الْحَدِيثُ:

وَهُوَ قَوْلُهُ (وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ رضي الله عنه) هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَوْ عُمَرُ أَوْ عَمْرٌو حَلِيفُ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنْ الْأَنْصَارِ شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدُ بَعْدَهَا وَقِيلَ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَإِنَّمَا خَرَجَ إلَيْهَا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّهُ إلَى أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُمْ وَضَرَبَ لَهُ سَهْمَهُ وَأَجَّرَهُ فَكَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَقَدْ بَلَغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ» جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ يَنْفِرُونَ وَلَا يَبِيتُونَ بِمِنًى (ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَيْنِ) أَيْ يَرْمُونَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْيَوْمُ الَّذِي فَاتَهُمْ الرَّمْيُ فِيهِ هُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي (ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ) أَيْ الْيَوْمَ الرَّابِعَ إنْ لَمْ يَتَعَجَّلُوا (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ) فَإِنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ عَدَمُ الْمَبِيتِ بِمِنًى وَأَنَّهُ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْعَبَّاسِ وَلَا بِسِقَايَتِهِ وَأَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ أَحَدٌ سِقَايَةً جَازَ لَهُ مَا جَازَ؛ لِأَهْلِ سِقَايَةِ زَمْزَمَ.

(وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

ص: 653

724 -

وَعَنْ سَرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ رضي الله عنها قَالَتْ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الرُّءُوسِ فَقَالَ: أَلَيْسَ هَذَا أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟» الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

فِيهِ شَرْعِيَّةُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَيْسَتْ خُطْبَةَ الْعِيدِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ فِي حَجَّتِهِ وَلَا خَطَبَ خُطْبَتَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخُطَبَ الْمَشْرُوعَاتِ فِي الْحَجِّ ثَلَاثٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ الْأُولَى سَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ وَالثَّانِيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالثَّالِثَةُ ثَانِيَ النَّحْرِ وَزَادَ الشَّافِعِيُّ رَابِعَةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَجَعَلَ الثَّالِثَةَ فِي ثَالِثِ النَّحْرِ لَا فِي الثَّانِيَةِ قَالَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ النَّفْرِ وَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: إنَّ خُطْبَةَ يَوْمَ النَّحْرِ لَا تُعَدُّ خُطْبَةً إنَّمَا هِيَ وَصَايَا عَامَّةٌ لَا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي الْحَجِّ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ سَمَّوْهَا خُطْبَةً وَبِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَقَاصِدِ الْخُطْبَةِ كَمَا أَفَادَهُ لَفْظُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا؟ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ ذِي الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ: أَلَيْسَ الْبَلْدَةُ الْحَرَامُ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ " فَاشْتَمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى تَعْظِيمِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَشَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ رُجُوعِهِمْ كُفَّارًا وَعَنْ قِتَالِهِمْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَالْأَمْرِ بِالْإِبْلَاغِ عَنْهُ وَهَذِهِ مِنْ مَقَاصِدِ الْخُطَبِ وَيَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ خُطْبَةِ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ.

(وَعَنْ سَرَّاءَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَمْدُودَةً (بِنْتُ نَبْهَانَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَتْ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الرُّءُوسِ فَقَالَ: أَلَيْسَ هَذَا أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ " وَهَذِهِ هِيَ الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ وَيَوْمُ الرُّءُوسِ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ بِالِاتِّفَاقِ وَقَوْلُهُ: " أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ " يَحْتَمِلُ أَفْضَلَهَا وَيَحْتَمِلُ الْأَوْسَطَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْهَا، وَلَفْظُ حَدِيثِ «السَّرَّاءِ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَتْ: وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَدْعُونَهُ يَوْمَ الرُّءُوسِ؟ قَالُوا:

ص: 654

725 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَسَعْيُك بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا أَوْسَطُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ قَالَ: إنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا أَلَا وَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا حَتَّى تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلَا فَلْيُبَلِّغْ أَدْنَاكُمْ أَقْصَاكُمْ أَلَا هَلْ بَلَّغْت فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَمْ يَلْبَثْ إلَّا قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ».

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك». رَوَاهُ مُسْلِمٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيه طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ فَالْأَحَادِيثُ مُتَوَارِدَةٌ عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالطَّوَافَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ التَّمَامَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَطُفْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا، وَقَدْ اكْتَفَى صلى الله عليه وسلم بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ وَكَانَ قَارِنًا كَمَا هُوَ الْحَقُّ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ زِيَادُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ فِي الْمِيزَانِ: زِيَادُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعَنْهُ رُوِيَ حَدِيثُ «الْقَارِنُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ» وَاعْلَمْ «أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ قَدْ أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ وَلَكِنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اُرْفُضِي عُمْرَتَك» قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى رَفْضِهَا إيَّاهَا رَفْضُ الْعَمَلِ فِيهَا وَإِتْمَامُ أَعْمَالِهَا الَّتِي هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَتَقْصِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ فَأَمَرَهَا صلى الله عليه وسلم بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَأَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَتَصِيرُ قَارِنَةً وَتَقِفُ بِعَرَفَاتٍ وَتَفْعَلُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ فَتُؤَخِّرُهُ حَتَّى تَطْهُرَ.

وَمِنْ أَدِلَّةِ أَنَّهَا صَارَتْ قَارِنَةً قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا: " طَوَافُك بِالْبَيْتِ " الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ أَنَّهَا كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" اُرْفُضِي عُمْرَتَك " بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فَلَيْسَ مَعْنَى اُرْفُضِي الْعُمْرَةَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَإِبْطَالِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهِمَا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِالتَّحَلُّلِ مِنْهُمَا بَعْدَ فَرَاغِهَا.

ص: 655

726 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

727 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

728 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ - أَيْ النُّزُولَ بِالْأَبْطَحِ - وَتَقُولُ: إنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلًا أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الرَّمَلُ الَّذِي سَلَفَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ» بِالْمُهْمَلَتَيْنِ فَمُوَحَّدَةٌ بِزِنَةِ مُكْرَمٍ اسْمُ مَفْعُولٍ الشِّعْبُ الَّذِي مَخْرَجُهُ إلَى الْأَبْطَحِ وَهُوَ خِيفَ بَنِي كِنَانَةَ «ثُمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ» أَيْ طَوَافِ الْوَدَاعِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ النَّفْرِ الْآخَرِ، وَهُوَ ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجِمَارَ يَوْمَ النَّفْرِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَأَخَّرَ صَلَاةَ الظُّهْرِ حَتَّى وَصَلَ الْمُحَصَّبَ ثُمَّ صَلَّى الصَّلَوَاتِ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ.

وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ هَلْ التَّحْصِيبُ سُنَّةٌ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: سُنَّةٌ، وَقِيلَ: لَا إنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ تَأَسِّيًا بِهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَنَاسِكِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَإِلَى مِثْلِهِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ كَمَا دَلَّ لَهُ الْحَدِيثُ.

728 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ - أَيْ النُّزُولَ بِالْأَبْطَحِ - وَتَقُولُ: إنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلًا أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَوْلُهُ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْ النُّزُولَ بِالْأَبْطَحِ وَتَقُولُ: إنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلًا أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْ أَسْهَلَ لِخُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ، قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي نُزُولِهِ فِيهِ إظْهَارُ نِعْمَةِ اللَّهِ بِاعْتِزَازِ

ص: 656

729 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْحَائِضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

730 -

وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

دِينِهِ وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِ وَظُهُورِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فَإِنَّ هَذَا الْمَحَلَّ هُوَ الَّذِي تَقَاسَمَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ عَلَى قَطِيعَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَكَتَبُوا صَحِيفَةَ الْقَطِيعَةِ فِي الْقِصَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَإِذَا كَانَتْ الْحِكْمَةُ هِيَ هَذِهِ فَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَجْمَعِينَ فَيَنْبَغِي نُزُولُهُ لِمَنْ حَجَّ مِنْ الْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ أُمِرَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (النَّاسُ) نَائِبُ الْفَاعِلِ «أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْحَائِضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الْآمِرُ لِلنَّاسِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ الْمُخَفِّفُ عَنْ الْحَائِضِ وَغَيَّرَ الرَّاوِي الصِّيغَةَ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ «كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْصَرِفُ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَخَالَفَ النَّاصِرُ وَمَالِكٌ وَقَالَا: لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا خَفَّفَ عَنْ الْحَائِضِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ التَّخْفِيفَ دَلِيلُ الْإِيجَابِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّخْفِيفِ وَالتَّخْفِيفُ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا فَلَا تَنْتَظِرُ الطُّهْرَ وَلَا يَلْزَمُهَا دَمٌ بِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ سَاقِطٌ عَنْهَا مِنْ أَصْلِهِ. وَوَقْتُ طَوَافِ الْوَدَاعِ مِنْ ثَالِثِ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ إجْمَاعًا وَهَلْ يُجْزِئُ قَبْلَهُ وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ إجْزَائِهِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْمَنَاسِكَ وَاخْتَلَفُوا إذَا أَقَامَ بَعْدَهُ هَلْ يُعِيدُهُ أَمْ لَا؟ قِيلَ: إذَا بَقِيَ بَعْدَهُ لِشِرَاءِ زَادٍ وَصَلَاةِ جَمَاعَةٍ لَمْ يُعِدْهُ وَقِيلَ: يُعِيدُهُ إذَا قَامَ لِتَمْرِيضٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعِيدُ وَلَوْ أَقَامَ شَهْرَيْنِ. ثُمَّ هَلْ يَشْرَعُ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ؟ قِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْحَجِّ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ أَيْضًا وَإِلَّا لَزِمَهُ دَمٌ.

ص: 657

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما) هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا) الْإِشَارَةُ تُفِيدُ أَنَّهُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْخِطَابِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ مَا زِيدَ فِيهِ (أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ) وَفِي رِوَايَةٍ خَيْرٌ وَفِي أُخْرَى تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ «فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ» وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ زَنْجُوَيْهِ وَابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ " أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ " أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ» وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ.

(قُلْت): فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمِائَةِ صَلَاةٍ أَيْ مِنْ صَلَاةِ مَسْجِدِي فَتَكُونُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ فَيَتَوَافَقُ الْحَدِيثَانِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: رَوَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِسَنَدٍ كَالشَّمْسِ فِي الصِّحَّةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَدَدُهُمْ فِيمَا اطَّلَعْت عَلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ دَالٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمَسْجِدَيْنِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ مَسَاجِدِ الْأَرْضِ وَعَلَى تَفَاضُلِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا وَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَعْدَادُ الْمُضَاعَفَةِ كَمَا عَرَفْت وَالْأَكْثَرُ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْأَقَلِّ وَالْحُكْمُ لِلْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ وَسَبَقَتْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً بِالْمَوْجُودِ فِي عَصْرِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ لِقَوْلِهِ فِي مَسْجِدِي فَالْإِضَافَةُ لِلْعَهْدِ.

(قُلْت) وَلِقَوْلِهِ هَذَا وَمِثْلُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ الِاخْتِصَاصِ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ وَقَالَ الْآخَرُونَ: إنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لِلْمَوْجُودِ حَالَ تَكَلُّمِهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ كُلُّ مَا زِيدَ فِيهِ دَاخِلٌ فِي الْفَضِيلَةِ وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ الْمَدِينَةِ لَا أَنَّهَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا يَزِيدُ فِيهِ.

(قُلْت): بَلْ فَائِدَةُ الْإِضَافَةِ الْأَمْرَانِ مَعًا قَالَ: مَنْ عَمَّمَ الْفَضِيلَةَ فِيمَا زِيدَ فِيهِ: أَنَّهُ يَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَوْ مُدَّ هَذَا الْمَسْجِدَ إلَى صَنْعَاءَ لَكَانَ مَسْجِدِي» وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ مَرْفُوعًا «هَذَا مَسْجِدِي وَمَا زِيدَ فَهُوَ مِنْهُ» وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ وَهُوَ وَاهٍ، وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ أَيْضًا حَدِيثًا آخَرَ فِي مَعْنَاهُ إلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ مُعْضِلٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " زَادَ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَامِيَّةٍ ثُمَّ قَالَ: لَوْ زِدْنَا فِيهِ

ص: 658

731 -

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

حَتَّى يَبْلُغَ الْجَبَّانَةَ كَانَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ الْمَدَنِيُّ مَتْرُوكٌ وَلَا يَخْفَى عَدَمُ نُهُوضِ هَذِهِ الْآثَارِ إذْ الْمَرْفُوعُ مُعْضِلٌ وَغَيْرُهُ كَلَامُ صَحَابِيٍّ.

ثُمَّ هَلْ تَعُمُّ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ أَوْ تَخُصُّ بِالْأَوَّلِ قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهَا تَعُمُّهُمَا وَخَالَفَهُ الطَّحْطَاوِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: يُمْكِنُ بَقَاءُ حَدِيثِ " أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ " عَلَى عُمُومِهِ فَتَكُونُ النَّافِلَةُ فِي بَيْتِهِ فِي مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ تُضَاعَفُ عَلَى صَلَاتِهَا فِي الْبَيْتِ بِغَيْرِهَا وَكَذَا فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلَ مُطْلَقًا.

(قُلْت) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُضَاعَفَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَا فِي الْبُيُوتِ فِي الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ إذَا لَمْ تَرِدْ فِيهِمَا الْمُضَاعَفَةُ بَلْ فِي مَسْجِدَيْهِمَا، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّهَا تُضَاعَفُ النَّافِلَةُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَصَلَاتُهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ (قُلْت) يَدُلُّ؛ لِأَفْضَلِيَّةِ النَّافِلَةِ فِي الْبُيُوتِ مُطْلَقًا مُحَافَظَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ فِي بَيْتِهِ وَمَا كَانَ يَخْرُجُ إلَى مَسْجِدِهِ إلَّا لِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ مَعَ قُرْبِ بَيْتِهِ مِنْ مَسْجِدِهِ ثُمَّ هَذَا التَّضْعِيفُ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ بَلْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: كُلُّ عَمَلٍ فِي الْمَدِينَةِ بِأَلْفٍ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْجُمُعَةُ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ جُمُعَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَشَهْرُ رَمَضَانَ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ وَقَرِيبٌ مِنْهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ.

‌بَابُ الْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ

الْحَصْرُ الْمَنْعُ قَالَهُ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالْإِحْصَارُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالْمَرَضِ وَالْعَجْزِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا وَإِذَا كَانَ بِالْعَدُوِّ قِيلَ لَهُ: الْحَصْرُ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

(عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَلَقَ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِمَاذَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ

ص: 659

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَقَالَ الْأَكْثَرُ: يَكُونُ مِنْ كُلِّ حَابِسٍ يَحْبِسُ الْحَاجَّ مِنْ عَدُوٍّ وَمَرَضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَفْتَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا لُدِغَ بِأَنَّهُ مُحْصَرٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: إنَّهُ يَكُونُ بِالْمَرَضِ وَالْكِبَرِ وَالْخَوْفِ وَهَذِهِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَيُقَاسُ عَلَيْهَا سَائِرُ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا إحْصَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَدُوِّ فَالْعَامُّ لَا يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أُخَرَ:

أَحَدُهَا: أَنَّهَا خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ لَا حَصْرَ بَعْدَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَاصٌّ بِمِثْلِ مَا اتَّفَقَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَنْ أَحَصَرَهُ عَدُوٌّ كَافِرٌ.

الثَّالِثُ أَنَّ الْإِحْصَارَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعَدُوِّ كَافِرًا كَانَ أَوْ بَاغِيًا وَالْقَوْلُ الْمُصَدَّرُ هُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ إلَّا آثَارٌ وَفَتَاوَى لِلصَّحَابَةِ. هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ» قَالُوا: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ كَمَا عَرَفْت وَلَمْ يَقْصِدْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّمَا قَصَدَ وَصْفَ مَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَرْتِيبٍ، وَقَوْلُهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ هُوَ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم هَدْيٌ نَحَرَهُ هُنَالِكَ وَلَا يَدُلُّ كَلَامُهُ عَلَى إيجَابِهِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْهَدْيِ عَلَى الْمَحْصِرِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى وُجُوبِهِ وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَالَ: لَا يَجِبُ وَالْحَقُّ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ كُلِّ الْمُحْصَرِينَ هَدْيٌ وَهَذَا الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم سَاقَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ مُتَنَفِّلًا بِهِ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الْآيَةَ، لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَحَقَّقْنَاهُ فِي مِنْحَةِ الْغَفَّارِ حَاشِيَةِ ضَوْءِ النَّهَارِ.

وَقَوْلُهُ: (حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا) قِيلَ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أُحْصِرَ وَالْمُرَادُ مِنْ أُحْصِرَ عَنْ النَّفْلِ وَأَمَّا مَنْ أُحْصِرَ عَنْ وَاجِبِهِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَا كَلَامَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ إنْ مُنِعَ مِنْ أَدَائِهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ فَإِنَّ ظَاهِرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا وَلَا كَلَامَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ فِي عَامِ الْقَضَاءِ وَلَكِنَّهَا عُمْرَةٌ أُخْرَى لَيْسَتْ قَضَاءً عَنْ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. أَخْرَجَ مَالِكٌ بَلَاغًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْحُدَيْبِيَةَ فَنَحَرُوا الْهَدْيَ وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الْهَدْيُ» ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ يَقْضُونَ شَيْئًا وَلَا أَنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَحَيْثُ أُحْصِرَ ذَبَحَ وَحَلَّ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ تَوَاطُؤِ أَحَادِيثِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ رِجَالٌ مُعَرَّفُونَ ثُمَّ اعْتَمَرُوا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ فَتَخَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ وَلَوْ لَزِمَهُمْ الْقَضَاءُ؛ لِأَمْرِهِمْ بِأَنْ لَا يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ وَقَالَ: إنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَضِيَّةَ لِلْمُقَاضَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ

ص: 660

732 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

733 -

وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كُسِرَ، أَوْ عَرِجَ، فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَا: صَدَقَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ

بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ لَا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ قَضَاءَ تِلْكَ الْعُمْرَةِ.

وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَنَحَرَ هَدْيَهُ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ نَحَرَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أَنَّهُمْ نَحَرُوهُ فِي الْحِلِّ وَفِي مَحَلِّ نَحْرِ الْهَدْيِ لِلْمَحْصَرِ أَقْوَالٌ:

الْأَوَّلُ: لِلْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَذْبَحُ هَدْيَهُ حَيْثُ يَحِلُّ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ.

الثَّانِي: لِلْهَادَوِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْحَرُهُ إلَّا فِي الْحَرَمِ.

الثَّالِثِ: لِابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْبَعْثَ بِهِ إلَى الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ فِي مَحِلِّهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَعْثَ بِهِ إلَى الْحَرَمِ نَحَرَهُ فِي مَحَلِّ إحْصَارِهِ، وَقِيلَ: إنَّهُ نَحَرَهُ فِي طَرَفِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مِنْ الْحَرَمِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بِنْتِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَرِيمَةَ رَوَى عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا اشْتَرَطَ فِي إحْرَامِهِ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ: إنَّ عُذْرَ الْإِحْصَارِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَرَضُ، قَالَ: يَصِيرُ الْمَرِيضُ مُحْصَرًا لَهُ حُكْمُهُ. وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْصَرًا بَلْ يَحِلُّ حَيْثُ حَصَرَهُ الْمَرَضُ وَلَا يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْمُحْصَرَ مِنْ هَدْيٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاشْتِرَاطُ وَلَا حُكْمَ لَهُ، قَالُوا: وَحَدِيثُ ضُبَاعَةَ قِصَّةُ عَيْنٍ مَوْقُوفَةٍ مَرْجُوحَةٍ أَوْ مَنْسُوخَةٍ أَوْ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ وَعَدَمُ النَّسْخِ وَالْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَسَائِرُ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمِدَةِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِأَسَانِيدَ كَثِيرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.

وَدَلَّ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي إحْرَامِهِ فَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ وَيَصِيرُ مُحْصَرًا لَهُ حُكْمُ الْمُحْصَرِ عَلَى مَا هُوَ الصَّوَابُ عَلَى أَنَّ الْإِحْصَارَ يَكُونُ بِغَيْرِ الْعَدُوِّ.

ص: 661

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كُسِرَ، أَوْ عَرِجَ، فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَا: صَدَقَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ (وَعَنْ عِكْرِمَةَ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عِكْرِمَةُ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَصْلُهُ مِنْ الْبَرْبَرِ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ وَنُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَقَدْ أَطَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي مُقَدِّمَةِ الْفَتْحِ وَأَطَالَ الذَّهَبِيُّ فِيهِ فِي الْمِيزَانِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى إطْرَاحِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ (عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي غَزِيَّةَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ (الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه الْمَازِنِيِّ نِسْبَةً إلَى جَدِّهِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كُسِرَ) مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ (أَوْ عَرِجَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِقَوْلِهِ: (فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ) إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى بِالْفَرِيضَةِ (قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما مِنْ ذَلِكَ فَقَالَا: صَدَقَ) فِي إخْبَارِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ) وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ فَأَصَابَهُ مَانِعٌ مِنْ مَرَضٍ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ أَوْ غَيَّرَهُ فَإِنَّهُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَانِعِ يَصِيرُ حَلَالًا فَأَفَادَتْ الثَّلَاثَةُ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَخْرُجُ عَنْ إحْرَامِهِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا بِالْإِحْصَارِ بِأَيِّ مَانِعٍ كَانَ، أَوْ بِالِاشْتِرَاطِ، أَوْ بِحُصُولِ مَا ذَكَرَ مِنْ حَادِثِ كَسْرٍ أَوْ عَرَجٍ وَهَذَا فِيمَنْ أُحْصِرَ وَفَاتَهُ الْحَجُّ.

وَأَمَّا مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ لِغَيْرِ إحْصَارٍ فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِ فَذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِإِحْرَامِهِ الَّذِي أَحْرَمَهُ لِلْحَجِّ بِعُمْرَةٍ وَعَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: " سَأَلْت عُمَرَ عَمَّنْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَقَدْ أَحْرَمَ بِهِ فَقَالَ: يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ لَقِيتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَهُ " أَخْرَجَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَقِيلَ: يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَيَسْتَأْنِفُ لَهَا إحْرَامًا آخَرَ، وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ لِفَوَاتِ الْحَجِّ وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذْ يَشْرَعُ لَهُ التَّحَلُّلُ وَقَدْ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَالْأَظْهَرُ مَا قَالُوا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْإِيجَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 662