المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة البقرة   {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ - الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط - جـ ١

[ياسين جاسم المحيمد]

الفصل: ‌ ‌سورة البقرة   {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ

‌سورة البقرة

{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأٌّخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

{الم} أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، تقول: هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة، أسماء العدد، إذا عدّوا يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة. وقد اختلف الناس في المراد بها، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى. {ذلك} ، ذا: إسم إشارة ثنائي الوضع لفظاً، ثلاثي الأصل، لا أحادي الوضع، وألفه ليست زائدة، خلافاً للكوفيين والسهيلي، بل ألفه منقبلة عن ياء، ولامه خلافاً لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني. ويقال فيه: ذا وذائه وهو يدل على القرب، فإذا دخلت الكاف فقلت: ذاك دل على التوسط، فإذا أدخلت اللام فقلت: ذلك دل على البعد، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد، فمتى كان مجرداً من اللام والكاف كان للقرب، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميراً، وقالوا: ألك في معنى ذلك؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو.

{لا} نافية، والنفي أحد أقسامها، وقد تقدمت. {ريب} ، الريب: الشك بتهمة راب حقق التهمة قال:

ليس في الحق يا أمية ريب

إنما الريب ما يقول الكذوب

ص: 12

{فيه} : في للوعاء حقيقة أو مجاز، أو زيد للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، وللموافقة على، والباء مثل ذلك زيد في المسجد {ولكم في القصاص حياة} (البقرة: 179) ادخلوا في أمم} (الأعراف: 38) لمسكم فيما أفضتم} (النور: 14)، في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (اليونس: 64) في جذوع النخل} (طه: 71) يذرؤكم فيه} (الشورى: 11) ، أي يكثركم به. الهاء المتصلة بفي من فيه ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتاب النحو. هدى} ، الهدى: مصدر هدي، وتقدم معنى الهداية، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه، يقولون: هذه هدي حسنة، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث. وقال ابن عطية: الهدي لفظ مؤنث، وقال اللحياني: هو مذكر. انتهى كلامه.

وهو على وزن فعلى أعني (هدى) ، كالسرى والبكى. وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجىء من فعلى مصدر سوى هذه الثلاثة، وليس بصحيح، فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت: لقيته لقى، وأنشدنا لبعض العرب:

وقد زعموا حلماً لقاك ولم أزد

بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلا

ص: 13

وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين، وفعل يكون جمعاً معدولاً وغير معدول، ومفرداً وعلماً معدولاً وغير معدول، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة، مثل ذلك: جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم. {للمتقين} المتقي اسم فاعل من اتقى، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس، وافتعل هنا: للاتخاذ أي اتخذ وقاية، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها افتعل، وهو: الاتخاذ، والتسبب، وفعل الفاعل بنفسه، والتخير، والخطفة، ومطاوعة أفعل، وفعل، وموافقة تفاعل، وتفعل، واستفعل، والمجرد، والإغناء عنه، مثل ذلك: اطبخ، واعتمل واضطرب، وانتخب، واستلب، وانتصف مطاوع أنصف، واغتم مطاوع غممته، واجتور، وابتسم، واعتصم، واقتدر، واستلم الحجر. وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف.

فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو: قال، والميم في نحو: ملك، وبعضهم يقول: إنها أسماء السور، قاله زيد بن أسلم.

ص: 14

وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان. وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا: لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ، والنصب بإضمار فعل، والجر على إضمار حرف القسم، هذا إذا جعلناها اسماً للسور، وأما إذا لم تكن إسماً للسور فلا محل لها، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أو رُدت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف، ومنه ما لا يمنع الصرف، وتفصيل ذلك في علم النحو.

ص: 15

وقد ركبوا وجوهاً من الإعراب في قوله: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} . والذي نختاره منها أن قوله: {ذلك الكتاب} جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف، وأسوغها في لسان العرب. ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرىء القيس، وشعر الأعشى، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات. فكما أن كلام الله من أفصح كلام، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه، هذا على أنا إنما نذكر كثيراً مما ذكروه لينظر فيه، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه، فقالوا: يجوز أن يكون ذلك خبر المبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبراً. وفي موضع خبر {الم} {ولا ريب} جملة تحتمل الاستئناف، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وأن تكون في موضع خبر لذلك، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر، إذا كان الكتاب خبراً، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين، لأن الأول مفرد والثاني جملة، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط، هذا مذهب سيبويه. وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا، فعملت عنده النصب والرفع، وتقرير هذا في كتب النحو. وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب، والفتح هو قراءة الجمهور.

ص: 16

وقرأ أبو الشعثاء: {لا ريب فيه} بالرفع، وكذا قراءة زيد بن علي حيث وقع، والمراد أيضاً هنا الاستغراق، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه، وصار نظير من قرأ:{فلا رفث ولا فسوق} (البقرة: 197) بالبناء والرفع، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم، ويحتمل نفي الوحدة، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا، أو يكون عملها إعمال ليس، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الإسم ونصبت الخبر، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الإسم خاصة، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الإسم معها، وذلك في مذهب سيبويه، وسيأتي الكلام مشبعاً في ذلك عند قوله تعالى: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (البقرة: 197) ، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة. وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير، فيه: بضم الهاء، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن أبي إسحاق: فهو بضم الهاء ووصلها بواو، وجوزوا في قوله: أن يكون خبراً للا على مذهب الأخفش، وخبراً لها مع اسمها على مذهب سيبويه، أن يكون صفة والخبر محذوف، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ريب فيتعلق به، إلا أنه يكون متعلقاً بنفس لا ريب، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه، لأنه يصير اسم لا مطولاً بمعموله نحو: لا ضارباً زيداً عندنا، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، وهو هنا معلوم، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب

ص: 17

{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} وبعضهم جعله على حذف مضاف، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره. وهذه التقادير لا يحتاج إليها. واختيار الزمخشري أن فيه خبر، وبذلك بني عليه سؤالاً وهو أن قال: هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى: {لا فيها غول} (الصافات: 47) ؟ وأجاب: بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد، وهو أن كتاباً غيره فيه الريب، كما قصد في قوله:{لا فيها غول} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر، ولا نعلم أحداً يفرق بين: ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا، قال علقمة بن عبدة:

تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها

ولا يخالطها في الرأس تدويم

ص: 18

وأبعد من ذهب إلى أن قوله: لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب. وجوزوا في قوله تعالى: {هدى للمتقين} أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ، وفيه في موضع الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك، وبقوله لا ريب فيه، ثم جاء هذا خبراً ثالثاً، أو كان الكتاب تابعاً وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب، أو في موضع نصب على الحال، وبولغ بجعل المصدر حالاً وصاحب الحال اسم الإشارة، أو الكتاب، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد، فيكون انتقال الريب مقيداً بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة. والأولى: جعل كل جملة مستقلة، فذلك الكتاب جملة، ولا ريب جملة، وفيه هدى للمتقين جملة، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض. فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل، كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين.

ص: 19

ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى، هو الكتاب أي الكامل في الكتب، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّمالذي قال فيه:{ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام: 38) ، فإذا كان جميع الأشياء فيه، فلا كتاب أكمل منه، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى. ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزا حقيقة لا مجاز فيها، وفي الثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام، إذ جعل القرآن ظرفاً والهدى مظروفاً، فألحق المعنى بالعين، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك: زيد في البيت. الذين يؤمنون بالغيب} : الإيمان: التصديق، {وما أنت بمؤمن لنا} (يوسف: 17) ، وأصله من الأمن أو الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صدقه، وأمن به: وثق به، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب، أو لمطاوعة فعل كأكب، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء، وهو يتعدى بالباء واللام فما آمن لموسى} (يونس: 83) ، والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. الغيب: مصدر غاب يغيب إذا توارى، وسمي المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب، وخفف نحو: لين في لين، والفارسي لا يرى ذلك قياساً في بنات الياء، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو، نحو: سيد وميت، وغيره قاسه فيهما. وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء. وخالف الفارسي في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ لا مقيس، وتقرير هذا في علم التصريف. ويقيمون الصلاة} والإقامة: التقويم، أقام العود قومه، أو الإدامة أقامت الغزالة سوق الضراب، أي أدامتها من قامت السوق، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر، والهمزة في أقام للتعدية. الصلاة: فعلة، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى، وهو عرق متصل بالظهر

ص: 20

يفترق من عند عجب الذنب، ويمتد منه عرقان في كل ورك عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاه وتحرك فسمي بذلك مصلياً.

{وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ} من حرف جر. وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة:

بذلنا مارن الخطي فيهم

وكل مهند ذكر حسام منا أن ذر قرن الشمس حتى

أغاب شريدهم قتر الظلام

وتأول ابن جني، رحمه الله، على أنه مصدر على فعل من منى يمنى أي قدر. واغتر بعضهم بهذا البيت فقال: وقد يقال منا. وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض، وزائدة وزيد لبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة والاستعلاء، ولانتهاء الغاية، وللفصل، ولموافقة الباء، ولموافقة في. مثل ذلك: سرت من البصرة إلى الكوفة، أكلت من الرغيف، ما قام من رجل، {يحلون فيها من أساور من ذهب} (الحج: 22) ، في آذانهم من الصواعق} (البقرة: 19) ، بالحياة الدنيا من الآخرة} (التوبة: 38) ، غدوت من أهلك} (آل عمران: 121) ، قربت منه، ونصرناه من القوم} (الأنبياء: 77) ، يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) ينظرون من طرف خفي} (الشورى: 45) ماذا خلقوا من الأرض} (فاطر: 40) . ما تكون موصولة، واستفهامية، وشرطية، وموصوفة، وصفة، وتامة. مثل ذلك: ما عندكم ينفذ مال هذا الرسول} (الفرقان: 7)، ما يفتح الله للناس من رحمة} (فاطر: 2) ، مررت بما معجب لك، لأمر ما جدع قصير أنفه، ما أحسن زيداً. رزقناهم} الرزق: العطاء، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن، والرزق المصدر، وقيل الرزق أيضاً مصدر رزقته أعطيته، {ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} (النحل: 75) ، وقال:

رزقت مالاً ولم ترزق منافعه

إن الشقي هو المحروم ما رزقا}

{يُنفِقُونَ} ، الإنفاق: الإنفاذ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد، والهمزة للتعدية، يقال نفق الشيء نفذ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب، ومنه: نافق، والنافقاء، ونفق..

ص: 21

{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} ، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين، أو البدل والنصب على المدح على القطع، أو بإضمار أعني على التفسير قالوا، أو على موضع المتقين، تخيلوا أن له موضعاً وأنه نصب، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل، لأنه هنا لا ينحل بحرف مصدر وفعل، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل، بل للمتقين بتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى، أي هدى كائن للمتقين، والرفع على القطع أي هم الذين، أو على الابتداء والخبر.

ص: 22

{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، أولئك المتقدمة، وأولئك المتأخرة، والواو مقحمة، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع، إما للنصب، وإما للرفع، وهذه الصفة جاءت للمدح. وقرأ الجمهور: يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر، وإذا أدرج بترك الهمز. وروي هذا عن عاصم، وقرأ رزين بتحريك الهمزة مثل: يؤخركم، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الإسم، كمررت بزيد، فتتعلق بالفعل، أو للحال فتتعلق بمحذوف، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به، فيتعين في هذا الوجه المصدر، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل، قالوا: وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول نحوه: هذا خلق لله، ودرهم ضرب الأمير، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم، أو على التخفيف من غيب كلين، فلا يكون إذ ذاك مصدراً وذلك على مذهب من أجاز التخفيف، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقلاً من كلام العرب.

{ويقيمون الصلاة} ، وقالوا: وقد يعبر بالإقامة عن الأداء، وهو فعلها في الوقت المحدود لها.

{وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ} ومن كتبت متصلة بما محذوفة النون من الخط، وكان حقها أن تكون منفصلة لأنها موصولة بمعنى الذي، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد، ولأنها قد أخفيت نون من في اللفظ فناسب حذفها في الخط، وهنا للتبعيض، إذ المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير والإسراف.

ص: 23

وجعل صلات الذين أفعالاً مضارعة، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل، لأنه عندهم مشعر بالثبوت والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناءً بما خول الله به العبد إشعاراً أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه، أي ومما رزقناهموه، واجتمعت فيه شروط جواز الحذف من كونه متعيناً للربط معمولاً لفعل متصرف تام. وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر، ومن شيء رزقناهمو لضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يجعل ما موصولة لعمومها، ولأن حذف العائد على الموصول أو جعل ما مصدرية، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق.

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن، وأجاز الفراء زيادتها، مثل ذلك: سرت إلى الكوفة، {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (النساء: 2) ، السجن أحب إلي} (يوسف: 33) ، والأمر إليك} (النمل: 33) ، والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر، وتكسر للمؤنث، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما، وربما فتحت للمؤنث، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو:

ولست بسائل جارات بيتي

أغياب رجالك أم شهود}

{وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو، ومدلول قبل متقدم، كما أن مدلول بعد متأخر. الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف {تلك الدار الآخرة} (القصص: 83) ، ولدار الآخرة} (يوسف: 109) .

ص: 24

وافعل بمعنى استفعل كابل بمعنى استبل. وقرأ الجمهور: {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} مبنياً للمفعول، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنياً للفاعل.

وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل، فيحتمل أن يراد مؤمنو أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي، فإن جعلت الموصول معطوفاً على الموصول اندرجوا في جملة المتقين، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين. وإن جعلته معطوفاً على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين. ويحتمل المغايرة في الوصف، فتكون الواو للجمع بين الصفات، ولا تغاير في الذوات بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل، نحو: أنزل المطر، وبناؤهما للفاعل في قراءة النخعي، وأبي حيوة، ويزيد بن قطيب، فاعله مضمر، قيل: الله أو جبريل. قالوا: وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله: {ومما رزقناهم} ، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، إذ لو جرى على الأول لجاء بما أنزلنا إليك، وما أنزلنا من قبلك، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة، فأقام الأكثر مقام الجميع، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يتقدم الإيمان بالمتأخر، لأن موجب الإيمان واحد. وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان.

وبالآخرة: تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي.

ص: 25

وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر. وإيراد هذه الجملة إسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان، لأن قولك: زيد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الإسم في الكلام بكونه مضمراً، وتصديره مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به. وذكر لفظة هم في قوله:{هم يوقنون} ، ولم يذكر لفظة هم في قوله:{ومما رزقناهم ينفقون} لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون. أولئك: اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث. والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وقال بعضهم: هو للرتبة الوسطى، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غيرحرف الخطاب، بخلاف أولالك. ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا ندخل عليه. وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك، وبني لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به، وحرك لالتقاء الساكنين، وبالكسر على أصل التقائهما. إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين، ويجوز أن يكون بدلاً وعطف بيان، ويمتنع الوصف لكونه أعرف. ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله:{على هدى} ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو كان مجروراً أو منصوباً، كان أولئك مبتدأ خبره {على هدى} ، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به.

وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى. ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف، أي من هدى ربهم.

ص: 26

وقرأ ابن هرمز: من ربهم بضم الهاء، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعى فيها سبق كسر أو ياء، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنياً على مبتدأ. وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقه أمر الدنيا، ومنها ما متعلقه أمر الآخرة، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة. ولما اختلف الخبران كما ذكرنا، أتى بحرف العطف في المبتدأ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه. ألا ترى إلى قوله تعالى:{أولئك هم الغافلون} (الأعراف: 179) بعد قوله: أولئك كالأنعام} (الأعراف: 179) كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خبراً عن أولئك، أو المبتدأ والمفلحون خبره، والجملة من قوله: هم المفلحون في موضع خبر أولئك، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو.

ص: 27

وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه، أو من يتوهم التشريك فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى:{وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا} (النجم: 4344)، وأنه هو أغنى وأقنى} (النجم: 44) ، وقوله: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى} (النجم: 45)، وأنه أهلك عادا الأولى} (النجم: 50) ، كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه. وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ. وأما قوله تعالى: وأنه هو رب الشعرى} (النجم: 49) ، فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم عُبِد من دون الله واتُّخذ إلهاً، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد. والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن، وذلك أنك إذا قلت: زيد المنطلق، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له: زيد المنطلق، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها، ودخلت هو فيه إذا قلت: زيد هو المنطلق.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَرِهِمْ غِشَوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} .

ص: 28

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ} ، إن: حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد الخبري، فينصب المسند إليه، ويرتفع المسند وجوباً عند الجمهور، ولها ولأخواتها باب معقود في النحو. وتأتي أيضاً حرف جواب بمعنى نعم خلافاً لمن منع ذلك.

{ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك، وأما سواء الواقع في الاستثناء في قولهم: قاموا سواك بمعنى قاموا غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ، مخالف في المعنى، فهو من باب المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء. الهمزة للنداء، وزيد وللاستفهام الصرف، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها، وقد يصحب الهمزة التقرير:{أأنت قلت للناس} (المائدة: 116) ؟ والتحقيق: ألستم خير من ركب المطايا. والتسوية: سواء عليهم أأنذرتهم} ، والتوبيخ:{أذهبتم طيباتكم} (الأحقاف: 20) ، والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد، وتعاقب حرف القسم الله لأفعلن. الإنذار: الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف، وإن لم تسع سمي إعلاماً وإشعاراً وإخباراً، ويتعدى إلى اثنين: إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} (النبأ: 40)، فقل أنذرتكم صاعقة} (فصلت: 13) ، والهمزة فيه للتعدية، يقال: نذر القوم إذا علموا بالعدو. وأم حرف عطف، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفرداً أو جملة في معنى المفرد سميت أم متصلة، وإذا انخرم هذان الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة، وتقرير هذا في النحو، ولا تزاد خلافاً لأبي زيد. لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص بالمضارع، اللفظ الماضي معنى، فعمل فيه ما يخصه، وهو الجزم، وله أحكام ذكرت في النحو.

ص: 29

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَرِهِمْ غِشَوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} الختم: الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به. القلب: مصدر قلب، والقلب: اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر، وكني به في القرآن وغيره عن العقل، وأطلق أيضاً على لب كل شيء وخالصه. السمع: مصدر سمع سمعاً وسماعاً وكني به في بعض المواضع عن الأذن. البصر: نور العين، وهو ما تدرك به المرئيات. الغشاوة: الغطاء، غشاه أي غطاه، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث، كما صححوا اشتقاقه، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون، الأول والثاني مبتدأ، فإنما هو في معنى من تمام صفة المتقين، وسواء وما بعده يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون لا موضع له من الإعراب، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس، والخبر قوله: لا يؤمنون، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيداً لمضمون الجملة، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره. والوجه الثاني: أن يكون له موضع من الإعراب، وهو أن يكون في موضع خبر إن، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب، إما خبر بعد خبر على ذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه، كقوله تعالى:{وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة} (المائدة: 9) ، أو يكون جملة دعائية وهو بعيد، وإذا كان لقوله تعالى: أأنذرتهم أم لم تنذرهم} موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن، والجملة في موضع رفع على الفاعلية، وقد اعتمد بكونه خبر الذين، والمعنى: إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه. وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسماً أو ما هو في تقديره، ومذهب هشام

ص: 30

وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة، وأجازوا: يعجبني يقوم زيد، وظهر لي أقام زيد أم عمرو، أي قيام أحدهما، ومذهب الفراء وجماعة: أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعال القلوب وعلق عنها، جاز أن تقع في موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا، ونسب هذا لسيبويه. قال أصحابنا: والصحيح المنع مطلقاً وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو. ويحتمل أن يكون قوله: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} مبتدأ وخبراً على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض، وتكون في موضع خبر إن، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره. وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} (إبراهيم: 21) ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} (الأعراف: 193) ، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها، اصبروا أو لا تصبروا، سواء عليكم} (الطور: 16) أي أصبرتم أم لم تصبروا، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام، نحو: سواء علي أي الرجال ضربت، قال زهير:

سواء عليه أي حين أتيته

أساعة نحس تتقي أم بأسعد

وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام، وهو الأصل، قال:

سواء صحيحات العيون وعورها

وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلاً بسواء أو مبتدأة، وإن لم تكن مصدرة بحرف مصدري حملاً على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى، نحو: قام زيد، وزيد قائم، وهو أكثر كلام العرب، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى، نحو: علمت أقام زيد أم قعد، لا يجوز تقديم الجملة على علمت، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاماً، بل الهمزة فيه للتسوية. ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو:

على حين عاتبت المشيب على الصبا

ص: 31

إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه، لكن لوحظ المعنى، وهو المصدر، فصحت الإضافة. والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه؟

وقرأ الجمهور: غشاوة بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث، والإسمية تدل على الثبوت. وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به. وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد، وهو منعهم من الإيمان، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله:{وجعل على بصره غشاوة} ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر، أي بغشاوة، وهو ضعيف. ويحتمل عندي أن تكون اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم، لأن معنى ختم غشي وستر، كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة. وقال أبو علي: وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب:

متقلداً سيفاً ورمحاً

وقول الآخر:

علفتها تبناً وماء بارداً

ص: 32

ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. انتهى كلام أبي علي، رحمه الله تعالى. ولا أدري ما معنى قوله: لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر، وكيف تحمل غشاوة المنصوب على ختم الذي هو فعل؟ هذا ما لا حمل فيه اللهم إلا إن أراد أن يكون قوله تعالى:{ختم الله على قلوبهم} دعاء عليهم لا خبراً، فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله، ويكون غشاة في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل: وغشى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على ختم عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء، نحو قولك: رحم الله زيداً وسقياً له، وتكون إذ ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار والمجرور. وأما إن جعلت ذلك خبراً محضاً وجعلت غشاوة في موضع المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل يقتصر فيه على مورد السماع.

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} .

من: موصولة، وشرطية، واستفهامية، ونكرة موصوفة.

يقول: القول: هو اللفظ الموضوع لمعنى وينطلق على اللفظ الدال على النسبة الإسنادية، وهو الكلام وعلى الكلام النفساني، ويقولون في أنفسهم:{لولا يعذبنا الله} (المجادلة: 8) ، وتراكيبه الستة تدل على معنى الخفة والسرعة، وهو متعد لمفعول واحد، فإن وقعت جملة محكية كانت في موضع المفعول، وللقول فصل معقود في النحو.

{إلا أنفسهم} إلا: حرف، وهو أصل لذوات الاستثناء، وقد يكون ما بعده وصفاً، وشرط الوصف به جواز صلاحية الموضع للاستثناء. وأحكام إلا مستوفاة في علم النحو.

ص: 33

{فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} ، المرض: مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، ومنه قيل: فلان يمرض الحديث أي يفسده ويضعفه.

وقيل: المرض: الفساد، وقال أهل اللغة: المرض والألم والوجع نظائر. الزيادة: قبلها يتعدى إلى اثنين من باب أعطى وكسى، وقد تستعمل لازماً نحو: زاد المال. {أليم} : فعيل من الألم بمعنى مفعل، كالسميع بمعنى المسمع، أو للمبالغة وأصله ألم. كان: فعل يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، فيدل على زمان مضمون الجملة فقط، أو عليه وعلى الصيرورة، وتسمى ناقصة وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلاً لازماً وتارة متعدياً، بمعنى كفل أو غزل: كنت الصبي كفلت، وكنت الصوف غزلته، وهذا من غريب اللغات، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافاً لأبي سعيد، وأحكامها مستوفاة في النحو.

ومن في قوله: {ومن الناس} للتبعيض، وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه. والألف واللام في الناس للجنس أو للعهد.

ص: 34

ومن: في قوله تعالى: {مَن يَقُولُ} نكرة موصوفة مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم الذكر. {ويقول} : صفة، هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه. وكأنه قال: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله:{من المؤمنين رجال صدقوا} (الأحزاب: 23) قال: إن جعلت اللام للجنس يعني في قوله: ومن الناس} ، قال: وإن جعلها للعهد فموصولة كقوله: {ومنهم الذين يؤذون النبي} (التوبة: 61) . واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة بمعنى الذي قال، لأن الذي يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير، ومن الناس فريق يقول: وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في الناس، إن كانت للجنس كانت من نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة، أمر لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد، ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة، ويجوز أن تكون للعهد، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره.

ص: 35

والذي نختار أن تكون من موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح. ألا ترى جعل من نكرة موصوفة إنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا الكلام ليس من المواضع التي تختص بالنكرة، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جداً، حتى أن الكسائي أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة، فلا نحمل كتاب الله ما أثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلاً الكسائي، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة. ومن: من الأسماء التي لفظها مفرد مذكر دائماً، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا كان معناها كذلك فتارة يراعي اللفظ فيفرد ما يعود على من مذكراً، وتارة يراعي المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك، وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو. قال ابن عطية: من يقول آمنا رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحد، لو قلت: ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجر، انتهى كلامه، وما ذكر من أنه لا يرجع من لفظ جمع إلى توحد خطأ، بل نص النحويون على جواز الجملتين، لكن البدء بالحمل على اللفظ ثم على المعنى أولى من الابتداء بالحمل على المعنى، ثم يرجع إلى الحمل على اللفظ، ومما رجع فيه إلى الإفراد بعد الجمع قول الشاعر:

لست ممن يكع أو يستكينو

ن إذا كافحته خيل الأعادي

وفي بعض هذه المسائل تفصيل، كما أشرنا إليه. {ويقول} : أفرد فيه الضمير مذكراً على لفظ من، {وآمنا} : جملة هي المقولة، فهي في موضع المفعول وأتى بلفظ الجمع رعياً للمعنى.

والباء في {بمؤمنين} زائدة والموضع نصب لأن ما حجازية وأكثر لسان الحجاز جر الخبر بالباء، وجاء القرآن على الأكثر، وجاء النصب في القرآن في قوله:{ما هذا بشراً} (يوسف: 31) وما هنّ أمّهاتهم} (المجادلة: 2) . وأما في أشعار العرب فزعموا أنه لم يحفظ منه أيضاً إلا قول الشاعر:

ص: 36

وأنا النذير بحرة مسودة

تصل الجيوش إليكم أقوادها} أبناؤها متكنفون أباهم

حنقوا الصدور وما هم أولادها

ولا تختص زيادة الباء باللغة الحجازية، بل تزاد في لغة تميم خلافاً لمن منع ذلك، وإنما ادعينا أن قوله:{بمؤمنين} في موضع نصب لأن القرآن نزل بلغة الحجاز، لأنه حين حذفت الباء من الخبر ظهر النصب فيه، ولها أحكام كثيرة في باب معقود في النحو. وإنما زيدت الباء في الخبر للتأكيد، ولأجل التأكيد في مبالغة نفي إيمانهم، جاءت الجملة المنفية إسمية مصدرة بهم، وتسلط النفي على إسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان، إذ لو جاء اللفظ منسحباً على اللفظ المحكي الذي هو: آمناً، لكان: وما آمنوا، فكان يكون نفياً للإيمان الماضي، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت مّا من الأوقات، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي، أي وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، ولم يردّ الله تعالى عليهم قولهم: آمنا، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب. وهم في قوله: {وما هم بمؤمنين} عائد على معنى من، إذ أعاد أولاً على اللفظ فأفرد الضمير في يقول، ثم أعاد على المعنى فجمع. وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدىء باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى. قال تعالى:{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا} (التوبة: 49)، ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن} (التوبة: 75) الآية، ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً} (الأحزاب: 31) .

ص: 37

وقراءة الجمهور: يخادعون الله، مضارع خادع. وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله، مضارع خدع المجرد، ويحتمل قوله:{يخادعون الله} أن يكون مستأنفاً، كأن قائلاً يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة؟ فقيل: يخادعون، ويحتمل أن يكون بدلاً من قوله: يقول آمنا، ويكون ذلك بياناً، لأن قولهم: آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة، فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال، وذو الحال الضمير المستكن في يقول، أي: ومن الناس من يقول آمنا، مخادعين الله والذين آمنوا. وجوّز أبو البقاء أن يكون حالاً، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو: بمؤمنين، وذو الحال: الضمير المستكن في اسم الفاعل. وهذا إعراب خطأ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال، وهو القيد، فنفته، ولذلك طريقان في لسان العرب: أحدهما: وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد، فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكاً فمهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك، وليس معنى الآية على هذا، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع، بل المعنى: نفي الإيمان عنهم مطلقاً. والطريق الثاني: وهو الأقل، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك: أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع.

ص: 38

والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال: ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى على إثبات الخداع، انتهى كلامه. فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة، وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه، والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء.

ومن قرأ: وما يخادعون أو يخدعون مبنياً للمفعول، فانتصاب ما بعد إلا على ما انتصب عليه زيد غبن رأيه، إما على التمييز على مذهب الكوفيين، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم بعضهم، وإما على إسقاط حرف الجر، أي: في أنفسهم، أو عن أنفسهم، أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون، فينتصب على أنه مفعول به، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدي بإلى في قوله:{الرفث إلى نسائكم} (البقرة: 187) ، ولا يقال رفث إلى كذا، وكما ضمن هل لك إلى أن تزكى} (النازعات: 18) ، معنى أجذبك، ولا يقال: إلا هل لك في كذا. وفي قراءة: وما يخدعون، فالتشديد إما للتكثير بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل، إذ هو مصير إلى عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو: قدر الله وقدر، وقد تقدم ذكر معاني فعل. وقراءة من قرأ: وما يخدعون، أصلها يختدعون فأدغم، ويكون افتعل فيه موافقاً لفعل نحو: اقتدر على زيد، وقدر عليه، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وهي اثنا عشر معنى، وقد تقدم ذكرها. وما يشعرون} : جملة معطوفة على: وما يخادعون إلا أنفسهم، فلا موضع لها من الإعراب، ومفعول يشعرون محذوف تقديره إطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم، روي ذلك عن ابن عباس، أو تقديره: هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم، روي ذلك عن زيد. ويحتمل أن يكون وما يشعرون: جملة حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك، لأنهم لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع

ص: 39

لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين. وجاء: يخادعون الله بلفظ المضارع لا بلفظ الماضي لأن المضي يشعر بالانقطاع بخلاف المضارع، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة، نحو: زيد يدع اليتيم، وعمرو يقري الضيف.

{فَزَادَهُمُ} ، ولم يقل: فزادها، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي فزاد الله قلوبهم مرضاً، والثاني: أنه زاد ذواتهم مرضاً لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد، فصح نسبة الزيادة إلى الذوات، ويكون ذلك تنبيهاً على أن في ذواتهم مرضاً، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياء إلا فعلاً واحداً ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين، إلا ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين، وقد جمعتها في بيتين في قصيدتي المسماة، بعقد اللآلي في القراءآت السبع العوالي، وهما:

وعشرة أفعال تمال لحمزة

فجاء وشاء ضاق ران وكملا

بزاد وخاب طاب خاف معاً

وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا

يعني أنه قد استثنى حمزة، {وإذ زاغت الأبصار} ، في سورة الأحزاب} (الآية: 10) ، {وإذا زاغت عنهم الأبصار} ، في سورة ص،} (الآية: 63) ، فلم يملها.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} .

ص: 40

الأرض: مؤنثة، وتجمع على أرض وأراض، وبالواو والنون رفعاً وبالياء والنون نصباً وجراً شذوذاً، فتفتح العين، وبالألف والتاء، قالوا: أرضات، والأراضي جمع جمع كأواظب. إنما: ما: صلة لأن وتكفها عن العمل، فإن وليتها جملة فعلية كانت مهيئة، وفي ألفاظ المتأخرين من النحويين وبعض أهل الأصول إنها للحصر، وكونها مركبة من ما النافية، دخل عليها إن التي للإثبات فأفادت الحصر، قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه أنها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيداً قائم، ولعل ما زيد قائم، فكذلك: إن زيداً قائم، وإنما زيد قائم، وإذا فهم حصر، فإنما يفهم من سياق الكلام لا أن إنما دلت عليه، وبهذا الذي قررناه يزول الإشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى:{إنما أنت منذر} (الرعد: 7)، قل إنما أنا بشر} (الكهف: 110) ، إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: 45) . وأعمال إنما قد زعم بعضهم أنه مسموع من لسان العرب، والذي عليه أصحابنا أنه غير مسموع.

ص: 41

{نحن} : ضمير رفع منفصل لمتكلم معه غيره أو لمعظم نفسه، وفي اعتلال بنائه على الضم أقوال تذكر في النحو. {ألا} : حرف تنبيه زعموا أنه مركب من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً، كقوله تعالى:{أليس ذلك بقادر} (القيامة: 40) ، ولكونها من المنصب في هذه لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقال ذلك الزمخشري. والذي نختاره أن ألا التنبيهية حرف بسيط، لأن دعوى التركيب على خلاف الأصل، ولأن ما زعموا من أن همزة الاستفهام دخلت على لا النافية دلالة على تحقق ما بعدها، إلى آخره خطاً، لأن مواقع ألا تدلّ على أن لا ليست للنفي، فيتم ما ادعوه، ألا ترى أنك تقول: ألا إن زيداً منطلق، ليس أصله لا أن زيداً منطلق، إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى: أليس ذلك بقادر} (القيامة: 40) ، لصحة تركيب، ليس زيد بقادر، ولوجودها قبل رب وقبل ليت وقبل النداء وغيرها مما لا يعقل فيه أن لا نافية، فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق، قام امرؤ القيس:

ألا رب يوم لك منهن صالح

ولا سيما يوم بدارة جلجل} وقال الآخر:

ألا ليت شعري كيف حادت وصلها

وكيف تراعي وصلة المتغيب

وقال الآخر:

ألا يا لقومي للخيال المشوق

وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي

وقال الآخر:

ألا يا قيس والضحاك سيرا

فقد جاوزتما خمر الطريق

إلى غير هذا مما لا يصلح دخول لا فيه. وأما قوله: لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يلتقي به القسم فغير صحيح، ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح، برب، وبليت، وبفعل الأمر، وبالنداء، وبحبذا، في قوله:

ألا حبذا هند وأرض بها هند

ص: 42

ولا يلتقي بشيء من هذا القسم وعلامة ألا هذه التي هي تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وتكون أيضاً حرف عرض فيليها الفعل، وإن وليها الاسم فعلى إضمار الفعل، وحرف جواب بقول القائل: ألم تقم فتقول: ألا بمعنى بلى؟ نقل ذلك صاحب كتاب «وصف المباني في حروف المعاني» قال: وهو قليل شاذ، وأما ألا التي للتمني في قولهم: إلا ماء، فذكرها النحاة في فصل لا الداخل عليها الهمزة. لكن: حرف استدراك، فلا يجوز أن يكون ما قبلها موافقاً لما بعدها، فإن كان نقيضاً أو ضداً جاز، أو خلافاً ففي الجواز خلاف، وفي التصحيح خلاف. وحكى أبو القاسم بن الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس، وحكى ذلك غيره عن الأخفش، وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف، ولم تقع في القرآن غالباً إلا وواو العطف قبلها، ومما جاءت فيه من غير واو قوله تعالى:{لكن الذين اتقوا ربهم} (آل عمران: 198)، لكن الله يشهد} (النساء: 166) ، وفي كلام العرب:

إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله

لكن وقائعه في الحرب تنتظر}

وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو. الكاف: حرف تشبيه تعمل الجر وأسميتها مختصة عندنا بالشعر، وتكون زائدة وموافقة لعلى، ومن ذلك قولهم: كخبر في جواب من قال كيف أصبحت، ويحدث فيها معنى التعليل، وأحكامها مذكورة في النحو.

ص: 43

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ} جملة شرطية، ويحتمل أن تكون من باب عطف الجمل استئنافاً ينعي عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم، ويحتمل أن يكون كلاماً، وفي الثاني جزء كلام لأنها من تمام الصلة. وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء أن تكون معطوفة على يكذبون، فإذ ذاك يكون لها موضع من الإعراب، وهو النصب، لأنها معطوفة على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم. وعلى الاحتمالين الأولين لا تكون جزءاً من الكلام، وهذا الوجه الذي أجازاه على أحد وجهي ما من قوله بما كانوا يكذبون خطأ، وهو أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر، فيكذبون قد حذف منه العائد على ما، وقوله: وإذا قيل لهم إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على ما، فبطل أن يكون معطوفاً عليه، إذ يصير التقدير: ولهم عذاب أليم بالذي كانوا، {إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} ، وهذا كلام غير منتظم لعدم العائد. وأما وجهها الآخر، وهو أن تكون ما مصدرية، فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضاً خطأ، إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها ضمير، والجملة المعطوفة عارية منه. وأما على مذهب الجمهور، فهذا الإعراب شائع، ولم يذكر الزمخشري، وأبو البقاء إعراب هذا سوى أن يكون معطوفاً على يكذبون، أو على يقول، وزعما أن الأول وجه، وقد ذكرنا ما فيه، والذي نختاره الاحتمال الأول، وهو أن تكون الجملة مستأنفة، كما قررناه، إذ هذه الجملة والجملتان بعدها هي من تفاصيل الكذب ونتائج التكذيب. ألا ترى قولهم:{إنما نحن مصلحون} ، وقولهم:{أنؤمن كما آمن السفهاء} ، وقولهم عند لقاء المؤمنين {آمنا} كذب محض؟ فناسب جعل ذلك جملاً مستقلة ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم، وهذا أولى من جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاك لا تكون

ص: 44

مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسماً، ومتممة لمعناه إن كان حرفاً. والجملة بعد إذا في موضع خفض بالإضافة، والعامل فيها عند الجمهور الجواب، فإذا في الآية منصوبة بقوله:{إنما نحن مصلحون} . والذي نختاره أن الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض بالإضافة، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها وإن قصرت عن عملها الجزم. على أن من النحويين من أجاز الجزم بها حملاً على متى منصوباً بفعل الشرط، فكذلك إذا منصوبة بفعل الشرط بعدها، والذي يفسد مذهب الجهور جواز: إذا قمت فعمر وقائم، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وجواز وقوع إذا الفجائية جواباً لإذا الشرطية، قال تعالى:{وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم} (يونس: 21) إذا لهم مكر في آياتنا، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وحذف فاعل القول هنا للإبهام، فيحتمل أن يكون الله تعالى، أو الرسول، أو بعض المؤمنين، وكل من هذا قد قيل، والمفعول الذي لم يسم فاعله، فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي: لا تفسدوا في الأرض} ، إلا أن ذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع الفاعل جملة، وليس مذهب جمهور البصريين.

ص: 45

وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على قوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله هو مضمر تقديره هو، يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى: حتى توارت بالحجاب سياق الكلام والمعنى، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد، ولا جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام، لأنه يبقي لا تفسدوا لا ارتباط له، إذ لا يكون معمولاً للقول مفسراً له.

وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجمة التي هي: لا تفسدوا، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف، ومنه زعموا مطية الكذب، قال: كأنه قيل، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، انتهى. فلم يجعله من باب الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، فعدل إلى الإسناد اللفظي، وهو الذي لا يختص به الاسم بل يوجد في الإسم والفعل والحرف والجملة، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي، وقد أمكن ذلك بالتخريج الذي ذكرناه. واللام في قوله: لهم، للتبليغ، وهو أحد المعاني السبعة عشر الت ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى: {الحمد لله.

ص: 46

وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم: {إنما نحن مصلحون، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح. وفي المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون. أقوال: أحدها:} قول ابن عباس: إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. والثاني: قول مجاهد وهو: أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد. والثالث: أن ممالأه النفس والهوى صلاح وهدى. والرابع: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحاً لهم، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، ولذلك قال:{ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. والخامس:} أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا: {إنما نحن مصلحون باجتناب ما نهينا عنه.

ويحتمل هم أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم وإن كان فصلاً، فعلى هذين الوجهين يكون المفسدون خبراً لأن، وأن يكون مبتدأ ويكون المفسدون خبره. والجملة خبر لأن، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند الكلام على قوله: {وأولئك هم المفلحون.

قالوا: ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون، أو أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت فتقطع التوبة، والأولى الأول.

والكلام على قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا، كالكلام على قوله تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا من حيث عطف هذه الجملة على سبيل الاستئناف، أو عطفها على صلة من قوله: من يقول، أو عطفها على يكذبون، ومن حيث العامل في إذا، ومن حيث حكم الجملة بعد إذا، ومن حيث المفعول الذي لم يسم فاعله.

ص: 47

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ كَمَآءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ} {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} ، السفه: الخفة. ومنه قيل للثوب الخفيف النسخ سفيه، وفي الناس خفة الحلم، قاله ابن كيسان، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم، قاله مؤرج، أو الظلم والجهل، قاله قطرب. والسفهاء جمع سفيه، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي بينه وبين مؤنثه التاء، والفعل منه سفه بكسر العين وضمها، وهو القياس لأجل اسم الفاعل. قالوا: ونقيض السفه: الرشد، وقيل: الحكمة، يقال رجل حكيم، وفي ضده سفيه، ونظير السفه النزق والطيش.

ص: 48

والكاف من قوله: {كما آمن الناس} في موضع نصب، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتاً لمصدر محذوف التقدير عندهم: آمنوا إيماناً كما آمن الناس، وكذلك يقولون: في سير عليه شديد، أو: سرت حثيثاً، إن شديداً وحثيثاً نعت لمصدر محذوف التقدير: سير عليه سيراً شديداً، وسرت سيراً حثيثاً. ومذهب سيبويه، رحمه الله، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها. وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف، نحو: مررت بكاتب ومهندس، أو واقعة خبراً، نحو: زيد قائم، أو حالاً، نحو: مررت بزيد راكباً، أو وصفاً لظرف، نحو: جلست قريباً منك، أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه، نحو: الأبطح والأبرق. وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف، ولا يكتفي عن الموصوف، ألا ترى أن سيبويه منع: ألا ماء ولو بارداً وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز: ولو بارداً، لأنه حال، وتقرير هذا في كتب النحو. وما، من:{كما آمن الناس} ، مصدرية التقدير كإيمان الناس، فينسبك من ما، والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف، أو حال على القولين السابقين، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر:

بما لستما أهل الخيانة والغدر

ولا توصل بالجملة الإسمية خلافاً لقوم، منهم: أبو الحجاج الأعلم، مستدلين بقوله:

وجدنا الحمر من شر المطايا

كما الحبطات شر بني تميم

ص: 49

وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء في ما من قوله: كما آمن، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في: ربما قام زيد، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية، وقد أمكن ذلك في: كما آمن الناس، فلا ينبغي أن تجعل كافة. والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس، فكأنه قال: الكاملون في الإنسانية، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة، ومن عداهم صورته صورة الناس، وليس من الناس لعدم تمييزه، كما قال الشاعر:

ليس من الناس ولكنه

يحسبه الناس من الناس

ص: 50

ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد، ويعني به رسول الله صلى الله عليه وسلّموأصحابه، قاله ابن عباس، أو عبد الله بن سلام، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود، قاله مقاتل، أو معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي. والأولى حملها على العهد، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان. والتشبيه في:{كما آمن الناس} إشارة إلى الإخلاص، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها. أنؤمن: معمول لقالوا، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء. ولما كان المأمور به مشبهاً كان جوابهم مشبهاً في قولهم:{أنؤمن كما آمن السفهاء} ، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في:{كما آمن الناس} . والألف واللام في السفهاء للعهد، فيعني به الصحابة، قاله ابن عباس؛ أو الصبيان والنساء، قاله الحسن، أو عبد الله بن سلام وأصحابه، قاله مقاتل، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين، أو الكاملون في السفه، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم. وأبعد من ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو: العيوق والدبران، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، فصاروا إذا قيل: السفهاء، فهم منه ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص. ويحتمل قولهم:{كما آمن السفهاء} أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذراً من الشماتة، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي إلى إدراك الحق، وهم كانوا في رئاسة ويسار، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به

ص: 51

السؤدد في الدنيا، وذلك هو غاية السفه عندهم. وفي قوله:{كما آمن السفهاء} إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء، وأكد ذلك بأن وبلفظ هم. وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو:(السفهاء ألا)، ففي ذلك أوجه:

أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر. والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً كحالها إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو: أواتي مضارع آتي، فاعل من أتيت، وجؤن تقول: أواتي وجون، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو عمرو. والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية. والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واواً. وأجاز قوم وجهاً خامساً: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو، وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريباً لها من الألف، والألف لا تقع بعد الضمة، والأعاريب الثلاثة التي جازت في: هم، في قوله:{هم المفسدون} ، جائزة في: هم، من قوله:{هم السفهاء} .

ص: 52

{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} اللقاء: استقبال الشخص قريباً منه، والفعل منه لقي يلقى، وقد يقال: لاقى، وهو فاعل بمعنى الفعل المجرّد، وسمع للقى أربعة عشر مصدراً، قالوا: لقى، لقيا، ولقية، ولقاة، ولقاء، ولقاء، ولقى، ولقي، ولقياء، ولقياء، ولقيا، ولقيانا، ولقيانة، وتلقاء. الخلو: الانفراد، خلا به أي انفرد، أو المضي، {قد خلت من قبلكم سنن} (آل عمران: 137) . الشيطان، فيعال عند البصريين، فنونه أصلية من شطن، أي بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أمية:

أيما شاطن عصاه عكاه

ثم يلقى في السجن والأكبال}

وقال رؤبة:

وفي أخاديد السياط المتن

شاف لبغي الكلب المشيطن

ووزنه فعلان عند الكوفيين، ونونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك، قال الشاعر:

قد تظفر العير في مكنون قائلة

وقد تشطو على أرماحنا البطل والشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب، قاله ابن عباس، وأنثاه شيطانة، قال الشاعر:

هي البازل الكوماء لا شيء غيرها

ص: 53

وشيطانة قد جن منها جنونها وشياطين: جمع شيطان، نحو غراثين في جمع غرثان، وحكاه الغراء، وهذا على تقدير أن نونه زائدة تكون نحو: غرثان، مع اسم معناه الصحبة اللائقة بالمذكور، وتسكينها قبل حركة لغة ربيعة وغنم، قاله الكسائي. وإذا سكنت فالأصح أنها اسم، وإذا ألقيت ألف اللام أو ألف الوصل، فالفتح لغة عامّة العرب، والكسر لغة ربيعة، وتوجيه اللغتين في النحو، ويستعمل ظرف مكان فيقع خبراً عن الجثة والأحداث، وإذا أفرد نوّن مفتوحاً، وهي ثلاثي الأصل من باب المقصور إذ ذاك لا من باب يد، خلافاً ليونس، وأكثر استعمال معاً حال، نحو: جميعاً، وهي أخص من جميع لأنها تشرك في الزمان نصاً، وجميع تحتمله. وقد سأل أحمد بن يحيى أحمد بن قادم عن الفرق بين: قام عبد الله وزيد معاً، وقام عبد الله وزيد جميعاً، قال: فلم يزل يركض فيها إلى الليل، وفرق ابن يحيى: بأن جميعاً يكون القيام في وقتين وفي وقت واحد، وأما إذا قلت: معاً، فيكون في وقت واحد.

قرأ ابن السميفع اليماني، وأبو حنيفة: وإذا لاقوا الذين، وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد معاني فاعل الخمسة، والواو المضمومة في هذه القراءة هي واو الضمير تحركت لسكون ما بعدها، ولم تعد لام الكلمة المحذوفة لعروض التحريك في الواو

وقيل: بمعنى الباء، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وهذا ضعيف، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه، والخليل، وتقرير هذا في النحو.

{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ} يعمهون: جملة في موضع الحال، نصب على الحال، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقاً بيمدهم، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم، قال: لأن العامل لا يعمل في حالين. انتهى كلامه.

ص: 54

وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحدة، فإن كانا لذوي حال جاز، نحو: لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حال واحد، كما ذكرناه، ففي إجازة ذلك خلاف. ذهب قوم إلى أن ذلك لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين، ولا ظرفي زمان، ولا ظرفي مكان، فكذلك لا يقضي حالين. وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل، أو معطوفاً، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة. قال بعضهم: إلا أفعل التفضيل، فإنها تعمل في ظرفي زمان، وظرفي مكان، وحالين لذي حال، فإن ذلك يجوز، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور. وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد، وإلى هذا أذهب، لأن الفعل الصادر من فاعل، أو الواقع بمفعول، يستحيل وقوعه في زمانين، وفي مكانين. وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد، إلا إن كانا ضدين، أو نقيضين. فيجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكاً راكباً، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين. فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد، والعامل فيهما واحد.

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} .

ص: 55

الاشتراء والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء والاعتياض منه، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع، وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل. الربح: هو ما يحصل من الزيادة على رأس المال. التجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرف في المال لطلب النموّ والزيادة. المهتدي: اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة، هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم. والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افعل، ولا تكون افتعل للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعَدّي، وقد وهم من زعم أنها تكون من اللازم، وأن ذلك قليل فيها، مستدلاً بقول الشاعر:

حتى إذا اشتال سهيل في السحر

كشعلة القابس ترمي بالشرر

لأن افتعل في البيت بمعنى، فعل. تقول: شال يشول، واشتال يشتال بمعنى واحد، ولا تتعقل المطاوعة، إلا بأن يكون المطاوع متعدياً.

أولئك: اسم أشير به إلى الذين تقدم ذكرهم، الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الإصلاح، وهم المفسدون، ونسبة السّفه للمؤمنين، وهم السفهاء، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار. وقرأ الجمهور: اشتروا الضلالة، بضم الواو. وقرأ أبو السماك قعنب العدوي: اشتروا الضلالة بالفتح. ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين، نحو:{وأن لو استقاموا} (الجن: 16) ، ووجه الفتح إتباعها لحركة الفتح قبلها. وأمال حمزة والكسائي الهدى، وهي لغة بني تميم، والباقون بالفتح، وهي لغة قريش. والاشتراء هنا مجاز كني به عن الاختيار، لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر، فكأنه قال: اختاروا الضلالة على الهدى، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشترى، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك، وهذا مفقود هنا.

ص: 56

وعطف: {فما ربحت} ، بالفاء، يدل على تعقب نفي الربح للشراء، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح. وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله:{فما ربحت تجارتهم} دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا. والذين إذا كان في صلة فعل، كان في معنى الشرط، ومثله {الذين ينفقون أموالهم} (البقرة: 274) ، وقع الجواب بالفاء في قوله: فلهم أجرهم} (البقرة: 274) ، وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم، انتهى. وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ، فتدخل الفاء في خبره، كما تدخل في جواب الشرط. وأما الذين خبر عن أولئك، وقوله: فما ربحت ليس بخبر، فتدخله الفاء، وإنما هي جملة فعلية معطوفة على صلة الذين، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله: فلهم أجرهم} خطأ، لأنه ليس بجواب، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين اشتروا مبتدأ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبراً لأولئك. ولتحقق مضي الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بدل منه، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول، ولإبدال الذين من أولئك، صار الذين مخصوصاً لأنه بدل من مخصوص، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبراً عنه.

وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافاً لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معاً، وخلافاً لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال: لشغل الإسم برفع كان، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالاً خبراً فأتى معرفة، فقيل: كان أخوك زيداً تغليباً للخبر، لا للحال.

ص: 57

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَتٍ لَاّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} .

لما: حرف نفي يعمل الجزم وبمعنى إلا، وظرفاً بمعنى حين عند الفارسي، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما، ولمجيء جوابها مصدراً بإذا الفجائية. الإضاءة: الإشراق، وهو فرط الإنارة. وحوله: ظرف مكان لا ينصرف، ويقال: حوال بمعناه، ويثنيان ويجمع أحوال، وكلها لا تنصرف وتلزم الإضافة.

والرجوع، إن لم يتعد، فهو بمعنى: العود، وإن تعدى فبمعنى: الإعادة. وبعض النحويين يقول: إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر.

{مثلهم} : مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده، والتقدير كائن كمثل، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر. وقال ابن عطية: الخبر الكاف، وهي على هذا اسم، كما هي في قول الأعشى:

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

انتهى.

وهذا الذي اختاره ينبأ به غير مختار، وهو مذهب أبي الحسن، يجوز أن تكون الكاف اسماً في فصيح الكلام، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله: فصيروا مثل: {كعصف مأكول} (الفيل: 5) . وحمله على ذلك، والله أعلم، وتقدم الكلام على الذي، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع، والذي نختاره أنه مفرد لفظاً وإن كان في المعنى نعتاً لما تحته أفراد، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد ناراً كأحد التأويلين في قوله:

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

ص: 58

ولا يحمل على المفرد لفظاً ومعنى بجمع الضمير في {ذهب الله بنورهم} ، وجمعه في دمائهم. وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة، فهو خطأ لإفراد الضمير في الصلة، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به. ألا ترى جمعه في قوله تعالى:{وخضتم كالذي خاضوا} (التوبة: 69) على أحد التأويلين، وجمعه في قول الشاعر:

يا رب عبس لا تبارك في أحد

في قائم منهم ولا فيمن قعدإلا الذي قاموا بأطراف المسد

ص: 59

وأما قول الفارسي: إنها مثل مَن، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف مَن، فلفظ مَن مفرد مذكر أبداً وليس كذلك الذي، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى:{وخضتم كالذي خاضوا} ، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين، قال: أحدهما: أن الذي لكونه صلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين، خطأ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب، كما كان للذي، ولما تخطى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت، قال: والثاني: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء؟ انتهى. وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك، بل هو مثله من حيث المعنى، ألا ترى أنه لا يكون واقعاً إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعاً لمذكر عاقل، ولكنه لما كان مبنياً التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجراً، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيراً.

ص: 60

وقرأ ابن السميفع: كمثل الذين، على الجمع، وهي قراءة مشكلة، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفاً لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه: أحدها: أن يكون إفراد الضمير حملاً على التوهم المعهود مثله في لسان العرب، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد، وهو الذين، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي، قول الشاعر، أنشده ابن الأعرابي:

كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً

تصبه على رغم عواقب ما صنع الثاني: أن يكون إفراد الضمير، وإن كان عائداً على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب، أنشد أبو الحسن:

وبالبدو منا أسرة يحفظوننا

سراع إلى الداعي عظام كراكره

أي كراكرهم.

والثالث: أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائداً على الذين، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد، التقدير استوقد هو، أي المستوقد، فيكون نحو قوله تعالى:{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} (يوسف: 35) أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل. أحدهما:} أن يكون حذف وأصله لهم، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد ناراً وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس، فيكون مثل قول الشاعر:

ولو أن ما عالجت لين فؤادها

فقسا استلين به للآن الجندل

ص: 61

يريد ما عالجت به، فحذف حرف الجر والضمير، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو، وضابطها أن يكون الضمير مجروراً بحرف جر ليس في موضع رفع، وأن يكون الموصول، أو الموصوف به الموصول، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظاً ومعنى، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق. والوجه الثاني: أن تكون الجملة الأولى الواقعة لا عائد فيها، لكن عطف عليها جملة بالفاء، وهي جملة لما وجوابها، وفي ذلك عائد على الذي، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر، فيكون شبيهاً بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم: زيد جاءت هند فضربتها، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما، وهو قوله تعالى:{ذهب الله بنورهم} ، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميفع.

والفاء في فلما للتعقيب، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره أن استوقد فهو فاسد من وجوه، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله:{فما ربحت تجارتهم} ، فأغنى عن إعادته هنا.

ص: 62

وأضاءت: قيل متعد وقيل لازم ومتعد، قالوا: وهو أكثر وأشهر، فإذا كان متعدياً كانت الهمزة فيه للنقل، إذ يقال: ضاء المكان، كما قال العباس بن عبد المطلب، في النبي عليه الصلاة والسلام: وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق. والفاعل إذ ذاك ضمير النار وما مفعولة وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله، وإذا كان لازماً فقالوا: إن الضمير في أضاءت للنار، وما زائدة، وحوله ظرف معمول للفعل، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى، أي: فلما أضاءت الجهة التي حوله، كما أنثوا على المعنى في قولهم: ما جاءت حاجتك. وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه، وهذا أولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب: جلست ما مجلساً حسناً، ولا قمت ما يوم الجمعة، والحمل على المعنى محفوظ، كما ذكرناه، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة، ولا حمل على المعنى.

ص: 63

وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فلما ضاءت ثلاثياً فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة وإما موصوفة، كما تقدم، ولما جوابها:{ذهب الله بنورهم} ، وجمع الضمير في: بنورهم حملاً على معنى الذي، إذ قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد، وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفاً لفهم المعنى، كما حذفوه في قوله:{فلما ذهبوا به وأجمعوا} (يوسف: 15)، الآية. قال الزمخشري: وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه، انتهى. وقوله: لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام، لأنه قدره خمدت، وأي استطالة في قوله: فلما أضاءت ما حوله} ، خمدت؟ بل هذا لما وجوابها، فلا استطالة بخلاف قوله:{فلما ذهبوا به} ، فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما، فلذلك كان الحذف سائغاً لاستطالة الكلام. وقوله: مع أمن الإلباس، وهذا أيضاً غير مسلم، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون {ذهب الله بنورهم} هو الجواب، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة، كان ذلك من باب اللغز، إذ تركت شيئاً يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئاً يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب {ذهب الله بنورهم} .

ص: 64

ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} ، فخرجوا ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفاً جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان، قالهما الزمخشري، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى:{ذهب الله بنورهم} والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما، وهو أن يكون قوله:{ذهب الله بنورهم} بدلاً من جملة التمثيل، على سبيل البيان، لا يظهر في صحته، لأن جملة التمثيل هي قوله:{مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} ، فجعله {ذهب الله بنورهم} بدلاً من هذه الجملة، على سبيل البيان، لا يصح، لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية، فقد ذكروا جوازه. ذلك. أما أن تبدل جملة فعلية من جملة إسمية فلا أعلم أحداً أجاز ذلك، والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها، ومن جعل الجواب محذوفاً جعل الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين. والباء في بنورهم للتعدية، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة. فإذا قلت: خرجت بزيد؛ فمعناه: أخرجت زيداً، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيداً، لم يلزم أنك قمت، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية. وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي، قال: تدخل الباء، يعني المعدية، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو: أقعدته، وقعدت به، وأدخلته الدار، ودخلت به، ولا يصح هذا في مثل: أمرضته، وأسقمته. فلا

ص: 65

بد إذن من مشاركة، ولو باليد، إذا قلت: قعدت به، ودخلت به. ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها.

والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر:

ديار التي كانت ونحن على منى

تحل بنا لولا نجاء الركائب

أي تحلنا، ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالاً غير محرمين، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراماً، فتصير حلالاً بعد ذلك؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، ولقوله تعالى:{تنبت بالدهن} (المؤمنون: 20) ، في قراءة من جعله رباعياً تخريج يذكر في مكانه، إن شاء الله تعالى. ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو. وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة.

ص: 66

وقرأ الجمهور: {في ظلمات} بضم اللام، وقرأ الحسن، وأبو السماك: بسكون اللام، وقرأ قوم: بفتحها. وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين، غير المضعف، ولا المعل اللام بالتاء. فإن اعتلت بالياء نحو: كلية، امتنعت الضمة، أو كان مضعفاً نحو: درة، أو معتل العين نحو: سورة، أو وصفاً نحو: بهمة امتنعت الفتحة والضمة. وقرأ قوم: إن ظلمات، بفتح اللام جمع ظلم، الذي هو جمع ظلمة. فظلمات على هذا جمع جمع، والعدول إلى الفتح تخفيفاً أسهل من ادعاء جمع الجمع، لأن العدول إليه قد جاء في نحو: كسرات جمع كسرة جوازاً، وإليه في نحو: جفنة وجوباً. وفعلة وفعلة أخوات، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت، وجمع الجمع ليس بقياس، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع. وقرأ اليماني: في ظلمة، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع، لأن كل واحد له ظلمة تخصه، فجمعت لذلك. وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات. وتكررت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ، وإن كان ترك متعدياً لواحد فيحتمل أن يكون: في ظلمات، في موضع الحال من المفعول، فيتعلق بمحذوف، {ولا يبصرون} في موضع الحال أيضاً، إما من الضمير في تركهم وإمّا من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالاً متداخلة، وهي في التقديرين حال مؤكدة. ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني، ولا يبصرون جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحال، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني، وإن كان يجوز ظننت زيداً منفرداً لا يخاف، وأنت تريد ظننت زيداً في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثاني أصله خبر المبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد،

ص: 67

إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار. فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار. ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرىء القيس:

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحول

على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكداً، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه.

قرأ الجمهور: {صم بكم عمي} ، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية، لكنها في موضع خبر واحد.

وقرأ عبد الله بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين: صماً بكماً عمياً، بالنصب، وذكروا في نصبه وجوهاً: أحدها: أن يكون مفعولاً ثانياً لترك، ويكون في ظلمات متعلقاً بتركهم، أو في موضع الحال، ولا يبصرون. حال. الثاني: أن يكون منصوباً على الحال من المفعول في تركهم، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما. الثالث: أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره: أعني. الرابع: أن يكون منصوباً على الحال من الضمير في يبصرون، وفي ذلك نظر. الخامس: أن يكون منصوباً على الذم، صماً بكماً، فيكون كقول النابغة:

أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تخادع

ص: 68

وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله:{فلما أضاءت ما حوله} ، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم. وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالة الرفع من أوصافهم. ألا ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب. ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم، ولم يبين جهة الضعف، ووجهه: أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الإسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم. فهم لا يرجعون: جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها.

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْبِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكفِرِينَ} .

ص: 69

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} . أو، لها خمسة معان: الشك، والإبهام، والتخيير، والإباحة، والتفصيل. وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول: أو لأحد الشيئين أو الأشياء. وقال السهيلي: أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح، لا أنها وضعت للشك، فقد تكون في الخبر، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب. وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين، وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال، وإنما دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره، ولو جمع بين المباحين لم يعص، علماً بأن أو ليست معتمدة هنا.

ووزن صيب فيعل عند البصريين، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم: صيقل بكسر القاف علم لامرأة، وليس وزنه فعيلاً، خلافاً للفراء. وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف. وقد تقدم الكلام على تخفيف مثل هذا.

ص: 70

{يَجْعَلُونَ أَصْبِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكفِرِينَ} . جعل: يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى لواحد، وبمعنى صير أو سمى فيتعدى لاثنين، وللشروع في الفعل فتكون من أفعال المقاربة، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورة في بابها. الأصبع: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، وذكروا فيها تسع لغات وهي: الفتح للهمزة، وضمها، وكسرها مع كل من ذلك للباء. وحكوا عاشرة وهي: أصبوع، بضمها، وبعد الباء واو. وجميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام، فإن بعض بني أسد يقولون: هذا إبهام، والتأنيث أجود، وعليه العرب غير من ذكر. الأذن: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا: أذينة، ولا تلحق في العدد، قالوا: ثلاث آذان، قال أبو ثروان في أحجية له:

ما ذو ثلاث آذان

يسبق الخيل بالرديان

يريد السهم وآذانه وقدده.

ص: 71

أو كصيب: معطوف على قوله: {كمثل الذي استوقد} (البقرة: 17) ، وحذف مضافان، إذ التقدير: أو: كمثل ذوي صيب، نحو قوله تعالى: كالذي يغشى عليه من الموت} (الأحزاب: 19) ، أي كدوران عين الذي يغشى عليه. وأو هنا للتفصيل، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير. وإن المعنى أيهما شئت مثلهم به، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه، ولا إلى أن أو للإباحة، ولا إلى أنها بمعنى الواو، كما ذهب إليه الكوفيون هنا. ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمتخاطبين، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى، ولا إلى كونها بمعنى بل، ولا إلى كونها للإبهام، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه. وهذه جملة خبرية صرف. ولأن أو بمعنى الواو، أو بمعنى بل، لم يثبت عند البصريين، وما استدل به مثبت ذلك مؤوّل، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى له هنا، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل.

والكاف في موضع رفع لأنها معطوفة على ما موضعه رفع. والجملة من قوله: {ذهب الله بنورهم} (البقرة: 17) إذا قلنا ليست جواب لما جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك أيضاً صم بكم عمي} (البقرة: 18) إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين. فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد منع ذلك أبو علي، وردّ عليه بقول الشاعر:

لعمرك والخطوب مغيرات

وفي طول المعاشرة التقالي} لقد باليت مظعن أمّ أوفى

ولكن أمّ أوفى لا تبالي

ففصل بين القسم وجوابه بجملتي الاعتراض. {من السماء} متعلق بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون في موضع الصفة فتعلق بمحذوف، وتكون من إذ ذاك للتبعيض، ويكون على حذف مضاف التقدير، أو كمطر صيب من أمطار السماء.

ص: 72

و {ظلمات} : مرتفع بالجار والمجرور على الفاعلية، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة، ويجوز أن تكون فيه من موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله:{من السماء} ، إما تخصيص العمل، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب {من السماء} ، وأجازوا أن يكون {ظلمات} مرفوعاً بالابتداء، وفيه في موضع الخبر. والجملة في موضع الصفة، ولا حاجة إلى هذا لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد، وبين أن تكون من قبيل الجمل، كان الأولى جعلها من قبيل المفرد. الإعراب، لأنها جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون، وقل: الجملة لها موضع من الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف، كأنه قيل: جاعلين، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه. والراجع على ذي الحال محذوف نابت الألف واللام عنه التقدير من صواعقه، ومن تتعلق بقوله يجعلون، وهي سببية، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلاً وزماناً، هكذا أعربوه، وفيه نظر لأن قوله:{من الصواعق} هو في المعنى مفعول من أجله، ولو كان معطوفاً لجاز، كقول الله تعالى:{ابتغاء مرضات الله} (البقرة: 207 و 265) وتثبيتاً من أنفسهم} (البقرة: 265)، وقول الراجز:

يركب كل عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور والهول من تهول الهبور

وقالوا أيضاً: يجوز أن يكون مصدراً، أي يحذرون حذر الموت، وهو مضاف للمفعول. وقرأ قتادة، والضحاك بن مزاحم، وابن أبي ليلى: حذار الموت، وهو مصدر حاذر، قالوا: وانتصابه على أنه مفعول له.

وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين هما: {يجعلون أصابعهم} ، و {يكاد البرق} ، وهما من قصة واحدة.

ص: 73

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَرَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَرِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .

يكاد: مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة، ووزنها فعل يفعل، نحو خاف يخاف، منقلبة عن واو، وفيها لغتان: فعل كما ذكرنا، وفعل، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا: كدت، وكدت، وكدن، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر:

وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي

ص: 74

وكيد خراش عند ذلك ييتم يريد، وكادت، وكاد، وليس، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا: كاد، وأوشك. وهذه الأفعال هي من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولها باب معقود في النحو، وهي نحو من ثلاثين فعلاً ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه «شرح جمل الزجاجي» وقال بعض المفسرين: يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، وقد أنشدوا في ذلك شعراً يلغز فيه بها، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره، والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو. كل: للعموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين، وقيل: هو تنوين الصرف، وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة، فيجيء منها الحال، ولا تعرف باللام عند الأكثرين، وأجاز ذلك الأخفش، والفارسي، وربما انتصب حالاً، والأصل فيها أن تتبع توكيداً كأجمع، وتستعمل مبتدأ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولاً، وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعمه. وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية، وإذا ابتدىء بها مضافة لفظاً إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة، فالأفصح إفراد العائد أو معنى لا لفظاً، فالأصل، وقد يحسن الإفراد وأحكام كل كثيرة. وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بـ «التذكرة» ، وسردنا منها جملة لينتفع بها، فإنها تكررت في القرآن كثيراً.

{لو} : عبارة سيبويه، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع.

وتكون لو أيضاً شرطاً في المستقبل بمعنى أن، ولا يجوز الجزم بها خلافاً لقوم، قال الشاعر:

لا يلفك الراجوك إلا مظهراً

خلق الكرام ولو تكون عديماً

ص: 75

وتشرب لو معنى التمني، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى:{فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم} (البقرة: 167) ، إن شاء الله تعالى، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافاً لزاعم ذلك. شاء} : بمعنى أراد، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى، وأكثر ما يحذف مع لو، لدلالة الجواب عليه. قال الزمخشري: ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد، يعني حذف مفعوليهما، قال: لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب، نحو قوله:

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته

وقوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه} (الأنبياء: 17)، ولو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى} (الزمر: 4) ، انتهى كلامه. قال صاحب التبيان، وذلك بعد أن أنشد قوله:

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

متى كان مفعول المشيئة عظيماً أو غريباً، كان الأحسن أن يذكر نحو: لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك، أو كالمنكر، فأنت تقصد إلى إثباته عنده، فإن لم يكن منكراً فالحذف نحو: لو شئت قمت. وفي التنزيل: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} (الأنفال: 31) ، انتهى. وهو موافق لكلام الزمخشري. وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من حيث عود الضمير، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه، فهما تركيبان فصيحان، وإن كان أحدهما أكثر. فأحدهما} الحذف ودلالة الجواب على المحذوف، إذ يكون المحذوف مصدراً دل عليه الجواب، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد، وهو الخبر في نحو: لولا زيد لأكرمتك، للطول بالجواب، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى. والثاني: أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله، نحو قوله تعالى:{لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه} (الأنبياء: 17)، وقول الشاعر:

ص: 76

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته

وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف، نحو قوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم:{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} (المدثر: 37) .

الجملة من قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} لا موضع لها من الإعراب إذ هي مستأنفة جواب قائل قال: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ، ويحتمل أن تكون في موضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم، والألف واللام في البرق للعهد، إذ جرى ذكره نكرة في قوله:{فيه ظلمات ورعد وبرق} (البقرة: 19)، فصار نظير: لقيت رجلاً فضربت الرجل، وقوله تعالى: أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل: 16) . وقرأ مجاهد، وعلي بن الحسين، ويحيى بن زيد: يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء، قال ابن مجاهد: وأظنه غلطاً واستدل على ذلك بأن أحداً لم يقرأ بالفتح إلا من خطف الخطفة} (الصافات: 10) . وقال الزمخشري: الفتح، يعني في المضارع أفصح، انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول: خطف بفتح الطاء، يخطف بالكسر. قال ابن عطية، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي، وابن مسعود: يختطف. وقرأ أبي: يتخطف. وقرأ الحسن أيضاً: يخطف، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضاً، والجحدري، وابن أبي إسحاق: يخطف، بفتح الياء، والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله يختطف. وقرأ الحسن أيضاً، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة: يخطف، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضاً الحسن، والأعمش: يخطف، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي: يخطف، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة من خطف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة: يخطف، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان، لأنه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير

ص: 77

حد التقائهما.

فهذا الحرف قرىء عشر قراءات: السبعة يخطف، والشواذ: يخطف يختطف يتخطف يخطف وأصله يتخطف، فحذف التاء مع الياء شذوذاً، كما حذفها مع التاء قياساً. يخطف يخطف يخطف يخطف، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها، فإما بحركة التاء، وهي الفتح مبينة أو مختلسة، أو بحركة التقاء الساكنين، وهي الكسر. وكسر الياء اتباع لكسرة الخاء، وهذه مسألة إدغام اختصم به، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم المفعول والمصدر، وتبيين ذلك في علم التصريف. ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال: يكاد ذلك يصيبهم. ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال: المعنى يكاد ذلك يبهرهم.

وكل: منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت: ما صحبتني أكرمتك، فالمعنى مدّة صحبتك لي أكرمك، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي، وما الظرفية يراد بها العموم، فإذا قلت: أصحبك ما ذر لله شارق، فإنما تريد العموم. فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما، فيكتفى فيه بمرة واحدة، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب.

وما أضاء: في موضع خفض بالإضافة، إذ التقدير كل إضاءة، وهو على حذف مضاف أيضاً، معناه: كل وقت إضاءة، فقام المصدر مقام الظرف، كما قالوا: جئتك خفوق النجم. والعامل في كلما قوله: مشوا فيه، وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير، كلما أضاء لهم البرق الطريق.

وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك: وإذا أظلم مبنياً للمفعول، وأصل أظلم أن لا يتعدى، يقال: أظلم الليل. وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعدياً بنفسه لمفعول، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله. قال الزمخشري: أظلم على ما لم يسم فاعله، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي:

هما أظلما حاليّ ثمت أجليا

ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

ص: 78

وهو أن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه، انتهى كلامه. فظاهره كما قلنا أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله، ولذلك استأنس بقول أبي تمام: هما أظلما حالي، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدى بحرف جر. ألا ترى كيف عدي أظلم إلى المجرور بعلى؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور، فيكون في موضع رفع، وكان الأصل: وإذا أظلم الليل عليهم، ثم حذف، فقام الجار والمجرور مقامه، نحو: غضب زيد على عمرو، ثم تحذف زيداً وتبني الفعل للمفعول فتقول: غضب على عمرو، فليس يكون التقدير إذ ذاك: وإذا أظلم الله الليل، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل. وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب:

من كان مرعى عزمه وهمومه

روض الأماني لم يزل مهزولاً

وكيف يستشهد بكلام من هو مولد، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره؟

ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير: ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم. والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في: {ذهب الله بنورهم} (البقرة: 17) ، هذا السياق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان.

{يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأٌّرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .

ص: 79

يا: حرف نداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها: أنادي، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها، وهي أعم حروف النداء، إذ ينادى بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب. وأمالها بعضهم، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل، والأصح أن لا ينوي بعدها منادى. أي: استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام، وموصولة، خلافاً لأحمد بن يحيى، إذ أنكر مجيئها موصولة، ولا تكون موصوفة خلافاً للأخفش. ها: حرف تنبيه، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالباً، أو مع اسم إشارة لا لبعد، ويفصل بها بين أي في النداء وبين المرفوع بعده، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد، يقولون: يا أيه الرجل، ويا أيتها المرأة.

وعطف قوله: {والذين من قبلكم} على الضمير المنصوب في خلقكم، والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان متأخراً في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره.

وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافاً للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادى توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافاً لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: يا أيها الرجل، فتقديره: يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.

ص: 80

وقرأ ابن السميفع: وخلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي:{والذين من قبلكم} فتح ميم من، قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله:

يا تيم تيم عدي لا أبا لكم

تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله:

من النفر اللائي الذين أذاهم

يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا

فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد. قال أصحابنا: وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه. وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذاهم، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم. وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله:{من قبلكم} ، وفي ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبراً نحو: نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم.

ص: 81

والموصول الثاني في قوله: {الذي جعل} يجوز رفعه ونصبه، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، فهو رفع على القطع، إذ هو صفة مدح، قالوا: أو على أنه مبتدأ خبره قوله: {فلا تجعلوا لله أنداداً} ، وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا، فلا يناسب دخول الفاء في الخبر. الثاني: أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه، فالذي مبتدأ، و {فلا تجعلوا لله أنداداً} جملة خبرية، والرابط لفظ الله من لله كأنه قيل:{فلا تجعلوا لله أنداداً} ، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه. ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن. أجاز أن تقول: زيد قام أبو عمرو، إذا كان أبو عمرو كنية لزيد، ونص سيبويه على منع ذلك. وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع، إذ هو وصف مدح، كما ذكرنا، ويجوز أن يكون وصفاً لما كان له وصفاً الذي خلقكم، وهو ربكم، قالوا: ويجوز نصبه على أن يكون نعتاً لقوله: {الذي خلقكم} ، فيكون نعتاً للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت. والذي نختاره أن النعت لا ينعت، بل النعوت كلها راجعة إلى منعوت واحد، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت، فيكون إذ ذاك نعتاً للنعت الأول، نحو قولك: يا أيها الفارس ذو الجمة. وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني، وما قبله ليس بملتبس، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني، وأجاز أيضاً نصبه بتتقون، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله. وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفاً آخر، لأن العطف أصله المغايرة.

وجعل: بمعنى صير، لذلك نصبت الأرض. وفراشاً، ولكم متعلق بجعل، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشاً وبناء على الحال، على أن يكون جعل بمعنى خلق، فيتعدى إلى واحد.

ص: 82

والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنه لو تأخر لكان نعتاً فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم. فأخرج به: والهاء في به عائدة إلى الماء، والباء معناها السببية. فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقي. ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيماً للباري. {من الثمرات} من للتبعيض، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية، نحو:{كم تركوا من جنات} (الدخان: 25)، وثلاثة قروء} (البقرة: 228) ، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله:

لنا الجفنات الغر يا معن في الضحى

ص: 83

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما} بأن هذا جمع قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول: الجفان وسيوفنا، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين: أحدهما: زيادة من في الواجب، وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش. والثاني: أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقاً لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئاً لا يمكن أن يكون رزقاً لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقاً لنا وبعضها لا يكون رزقاً لنا، وهو الواقع. وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق، إذ المعنى: وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج، ويكون على هذا رزقاً منصوباً على الحال إن أُريد به المرزوق كالطحن والرعي، أو مفعولاً من أجله إن أريد به المصدر، وشروط المفعول له فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقاً بأخرج، ويكون رزقاً مفعولاً بأخرج.

و {لكم} : إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولاً به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو: ضربت ابني تأديباً له، أي تأديبه، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي كائناً لكم، ويحتمل أن تكون لكم متعلقاً بأخرج، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقاً.

ص: 84

النهي متعلق بالأمر في قوله: {اعبدوا ربكم} ، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة، لأن أصل العبادة هو التوحيد. قال الزمخشري: متعلق بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطّلع في قوله:{لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطَّلع إلى إله موسى} (غافر: 36 37) ، في رواية حفص عن عاصم، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، انتهى كلامه. فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي، وهو لا يجوز على مذهب البصريين، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون، أجروا لعل مجرى هل. فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي. فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين.

ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تجعلوا له أنداداً.

{وأنتم تعلمون} : جملة حالية، ومفعول تعلمون متروك.

لا تنوب إنّ ومعمولاها مناب مفعوليها، بخلاف ظن، فإنها تنوب مناب مفعوليها، ولذلك سر ذكر في علم العربية.

{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ} .

ص: 85

{إن} : حرف ثنائي الوضع يكون شرطاً، وهو أصل أدواته، وحرف نفي، وفي إعماله أعمال ما الحجازية خلاف، وزائداً مطرداً بعد ما النافية، وقبل مدة الإنكار، ولا تكون بمعنى إذ خلا لزاعمه، ولا يعد من مواضعه المخففة من الثقيلة لأنها ثلاثية الوضع، ولذلك اختلف حكمها في التصغير. العبد: لغة المملوك الذكر من جنس الإنسان، وهو راجع لمعنى العبادة، وتقدم شرحها. الإتيان: المجيء، والأمر منه: ائت، كما جاء في لفظ القرآن، وشذ حذف فائه في الأمر قياساً واستعمالاً، قال الشاعر:

ت لي آل عوف فاندهم لي جماعة

وسلٍ آل عوف أي شيء يضيرها وقال آخر:

فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم

فتونا قفوا دونا إذن بالجرائم من مثله: المماثلة تقع بأدنى مشابهة، وقد ذكر سيبويه، رحمه الله، أن: مررت برجل مثلك، يحتمل وجوهاً ثلاثة، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظاً، ولذلك لحن بعض المولدين في قوله:

ومثلك من يملك الناس طراً

على أنه ليس في الناس مثل

ولا يكون محلاً خلافاً للكوفيين. وله في باب الصفة، إذا جرى على مفرد ومثنى ومجموع، حكم ذكر في النحو.

{دون} : ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية، ولا يتصرف فيه بغير من. قال سيبويه: وأما دونك فلا يرفع أبداً. قال افراء: وقد ذكر دونك وظروفاً نحوها لا تستعمل أسماء مرفوعة على اختيار، وربما رفعوا. وظاهر قول الأخفش: جواز تصرفه، خرج قوله تعالى، {ومنا دون ذلك} (الجن: 11) على أنه مبتدأ وبني لإضافته إلى المبنى، وقد جاء مرفوعاً في الشعر أيضاً، قال الشاعر:

ألم ترني أني حميت حقيبتي

وباشرت حد الموت والموت دونها}

ص: 86

وتجيء دون صفة بمعنى رديء، يقال: ثوب دون، أي رديء، حكاه سيبويه في أحد قوليه، فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون دون مشتركاً. {لن} : حرف نفي ثنائي الوضع بسيط، لا مركب من لا إن خلافاً للخليل في أحد قوليه، ولا نونها بدل من ألف، فيكون أصلها لا خلافاً للفرّاء، ولا يقتضي النفي على التأييد خلافاً للزمخشري في أحد قوليه، ولا هي أقصر نفياً من لا إذ لن تنفي ما قرب، ولا يمتد معنى النفي فيها كما يمتد في لا خلافاً لزاعمه، ولا يكون دعاء خلافاً لزاعمه، وعملها النصب، وذكروا أن الجزم بها لغة، وأنشد ابن الطراوة:

لن يخب الآن من رجائك من

حرك دون بابك الحلقة

ولها أحكام كثيرة ذكرت في النحو، ولما كانوا في ريب حقيقة، وكانت إن الشرطية إنما تدخل على الممكن أو المحقق المبهم زمان وقوعه، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها: إذاً، لأن إذا تفيد مضي ما أضيفت إليه، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى إذا. وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان حكماً ليست لغيرها من الأفعال الماضية، فلقوة كان زعم أن إن لا يقلب معناها إلى الاستقبال، بل يكون على معناه من المضي إن دخلت عليه إن، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها من الأفعال، وتأولوا ما ظاهره ما ذهب إليه المبرد، إما على إضمار يكن بعد إن نحو:{إن كان قميصه قدّ} (يوسف: 26) أي إن يكن كان قميصه، أو على أن المراد به التبيين، أي أن يتبين كون قميصه قدّ.

فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريب ماضياً، ويصير نظير ما لو جاء إن كنت أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول.

ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض. وما موصولة، أي من الذي نزلنا، والعائد محذوف، أي نزلناه، وشرط حذفه موجود. وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة.

ص: 87

و {نزلنا} لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما كان لازماً، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة، فإن جاء في لازم فهو قليل. قالوا: مات المال، وموت المال، إذا كثر ذلك فيه، وأيضاً، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل، أما أن يجعل اللازم متعدياً فلا، و {نزلنا} قبل التضعيف كان لازماً ولم يكن متعدياً، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلاً على أنه للنقل لا للتكثير، إذ لو كان للتكثير، وقد دخل على اللازم، بقي لازماً نحو: مات المال، وموّت المال.

فمن: للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورة أي بسورة كائنة من مثله.

وأجاز المهدوي وأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على تقدير أن يكون الضمير عائداً على المنزل، وتفسر المثلية بنظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي تعرفونها، ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص به القرآن، أو في غيوبه وصدقه، وأجازا على هذا الوجه أيضاً أن تكون زائدة.

وقد اختلف النحويون في إثبات هذا المعنى لمن، والذي عليه أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس، والفرق بين كونها للتبعيض ولبيان الجنس مذكور في كتب النحو. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين.

فمن متعلقة بقوله: فأتوا من مثل الرسول بسورة. ومعنى من على هذا الوجه ابتداء الغاية، ويجوز أن تكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف. وهي أيضاً لابتداء الغاية، أي بسورة كائنة من رجل مثل الرسول، أي ابتداء كينونتها من مثله.

ص: 88

قال الزمخشري: لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله، ولا يلزم ما قال الزمخشري، لأنه لو قيل: فإن لم تأتوا ولن تأتوا، كان المعنى على ما ذكر ويكون قد حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراً مفعول لم تفعلوا ولن تفعلوا. ألا ترى أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله فهما سيان في الحذف؟ وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم، قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا تنوين الاسم، كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.

ص: 89

وفي قوله: {ولن تفعلوا} إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة. أحدهما: صحة كون المتحدى به معجزاً، الثاني: الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصاً من الطاعنين عليه، فإذا لم ينقل على أنه إخبار بالغيب وكان ذلك معجزة. وأما ما أتى به مسيلمة الكذاب في هذره، وأبو الطيب المتنبي في عبره ونحوهما، فلم يقصدوا به المعارضة، إنما ادعوا أنه نزل عليهم وحي بذلك، فأتوا من ذلك باللفظ الغث، والمعنى السخيف، واللغة المهجنة، والأسلوب الرذل، والفقرة غير المتمكنة، والمطلع المستقبح، والمقطع المستوهن، بحيث لو قرن ذلك بكلامهم في غير ما ادّعوا أنه وحي، كان بينهما من التفاوت في الفصاحة والتباين في البلاغة ما لا يخفى عمن له يسير تمييز في ذلك: فكيف الجهابذة النقاد والبلغاء الفصحاء، فسلبهم الله فصاحتهم بادعائهم وافترائهم على الله الكذب. وقوله:{ولن تفعلوا} جملة اعتراض، فلا موضع لها من الإعراب، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى، لأنه لما قال: فإن لم تفعلوا، وكان معناه نفي في المستقبل مخرجاً ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لا يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه. واقتران الفعل بلن مميز لجملة الإعتراض من جملة الحال، لأن جملة الحال لا تدخل عليها لن، وكان النفي بلن في هذه الجملة دون لا، وإن كانتا أختين في نفي المستقبل، لأن في لن توكيداً وتشديداً، تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً، كما تفعل في: أنا مقيم، وإنني مقيم، قاله الزمخشري، وما ذكره هنا مخالف لما حكى عنه أن لن تقتضي النفي على التأبيد. وأما ما ذهب إليه ابن خطيب زملكي من أن لن تنفي ما قرب وأن لا يمتد النفي فيها، فكاد يكون عكس قول الزمخشري.

ص: 90

وهذه الأقوال، أعني التوكيد والتأبيد ونفي ما قرب: أقاويل المتأخرين، وإنما المرجوع في معاني هذه الحروف وتصرفاتها لأئمة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم. قال سيبويه، رحمه الله: ولن نفي لقوله: سيفعل، وقال: وتكون لا نفياً لقوله: تفعل، ولم تفعل، انتهى كلامه. ويعني بقوله: تفعل، ولم تفعل المستقبل، فهذا نص منه أنهما ينفيان المستقبل إلا أن لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال. فلن أخص، إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظاً. ولذلك وقع الخلاف في لا: هل تختص بنفي المستقبل، أم يجوز أن تنفي بها الحال؟ وظاهر كلام سيبويه، رحمه الله، هنا أنها لا تنفي الحال، إلا أنه قد ذكر في الاستثناء من أدواته لا يكون ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال لأنه بمعنى إلا، فهو للإنشاء، وإذا كان للإنشاء فهو حال، فيفيد كلام سيبويه في قوله: وتكون لا نفياً لقوله يفعل، ولم يفعل هذا الذي ذكر في الاستثناء، فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه، كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري: أولاً: من أن فيها توكيداً وتشديداً لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة، بخلاف لا، فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له، ولأن لا قد ينفى بها الحال قليلاً، فلن أخص بالاستقبال وأخص بالمضارع، ولأن ولن تفعلوا أخصر من ولا تفعلون، فلهذا كله ترجح النفي بلن على النفي بلا.

{فاتقوا النار} جواب للشرط.

ص: 91

والجملة من قوله: {أعدت للكافرين} في موضع الحال من النار، والعامل فيها: فاتقوا، قاله أبو البقاء، وفي ذلك نظر، لأن جعله الجملة حالاً يصير المعنى: فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين، وهي معدّة للكافرين، اتقوا النار أو لم يتقوها، فتكون إذ ذاك حالاً لازمة. والأصل في الحال التي ليست للتأكيد أن تكون منتقلة، والأولى عندي أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب، وكأنها سؤال جواب مقدّر كأنه لما وصفت بأن وقودها الناس والحجارة قيل: لمن أعدت؟ فقيل: أعدت للكافرين.

{وَبَشِّرِ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} .

تحت: ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من، نص على ذلك أبو الحسن. قال العرب: تقول تحتك رجلاك، لا يختلفون في نصب التحت.

والجملة في قوله: وبشر معطوفة على ما قبلها، وليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي بعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإزهاق، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق، قال هذا الزمخشري وتبعه أبو البقاء فقال: الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين، انتهى كلامه.

أن يكون وبشر في موضع الحال، فالأصح أن تكون جملة معطوفة على ما قبلها، وإن لم تتفق معاني الجمل، كما ذهب إليه سيبويه وهو الصحيح، وقد استدل لذلك بقول الشاعر:

تناغى غزالاً عند باب ابن عامر

وكحل مآقيك الحسان بإثمد

وبقول امرىء القيس:

وإن شفائي عبرة إن سفحتها

وهل عند رسم دارس من معوّل

ص: 92

وأجاز سيبويه: جاءني زيد، ومن أخوك العاقلان، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء و {الصالحات} : جمع صالحة، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل، قال الحطيئة:

كيف الهجاء وما ينفك صالحة

من آل لام بظهر الغيب تأتيني

فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم، و {بشر} يتعدى لمفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بإسقاط حرف الجر. فقوله:{أن لهم جنات} هو في موضع هذا المفعول، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياساً مطرداً، واختلفوا بعد حذف الحرف، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب؟ فمذهب الخليل والكسائي: أن موضعه جر، ومذهب سيبويه والفراء: أن موضعه نصب، والاستدلال في كتب النحو.

والألف واللام في {الأنهار} للجنس، قال الزمخشري: أو يراد أنهارها، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى:{واشتعل الرأس شيباً} (مريم: 4) ، وهذا الذي ذكره الزمخشري، وهو أن الألف واللام تكون عوضاً من الإضافة، ليس مذهب البصريين، بل شيء ذهب إليه الكوفيون، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى: مفتحة لهم الأبواب} (ص: 50) ، أي أبوابها. وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفاً، أي الأبواب منها، ولو كانت الألف واللام عوضاً من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام، وقال الشاعر:

قطوب رحيب الجيب منها رقيقة

بجس الندامى بضة المتجرد}

ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال.

ص: 93

والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب: نصب على تقدير كونه صفة للجنات، ورفع: على تقدير خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل هذا وجهين: إما أن يكون المبتدأ ضميراً عائداً على الجنات، أي هي {كلما رزقوا منها} ، أو عائداً على {الذين آمنوا} ، أي هم كلما رزقوا، والأولى الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدّر بالمفرد، فهي مفتقرة إلى الموصوف، أو إلى المبتدأ المحذوف. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا تقديره مرزوقين على الدوام، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال مقدرة، لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام. وأجاز أيضاً أن تكون حالاً من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله: تجري، فقربت من المعرفة، وتؤول أيضاً إلى الحال المقدرة. والأصل في الحال أن تكون مصاحبة، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره أبو البقاء. ومن: في قوله: منها، هي لابتداء الغاية، وفي:{من مثمرة} كذلك، لأنه بدل من قوله: منها، أعيد معه حرف كقوله تعالى:{كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} (الحج: 22) ، على أحد الاحتمالين، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل، كما ذكرناه، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف، أو على طريقة البدل، وهذا البدل هو بدل الاشتمال. وقد طول الزمخشري في إعراب قوله: من ثمرة، ولم يفصح بالبدل، لكن تمثيله يدل على أنه مراده، وأجاز أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك: رأيت منك أسداً، تريد أنت أسد، انتهى كلامه. وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك، ولو فرضنا مجيء من للبيان، لما صح تقديرها للبيان هنا، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدراً لموصول صفة، إن كان قبلها معرفة، نحو: فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30) ، أي الرجس

ص: 94

الذي هو الأوثان، وإن كان قبلها نكرة، فهو يعود على تلك النكرة نحو: من يضرب من رجل، أي هو رجل، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بياناً له، لا نكرة ولا معرفة، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها، وأن التقدير: كلما رزقوا منها رزقاً من ثمرة، فتكون من مبينة لرزقاً، أي: رزقاً هو ثمرة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله. وأما: رأيت منك أسداً، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أخذته منك.

{قَالُواْ هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} ، قالوا: هو العامل في كلما، وهذا الذي: مبتدأ معمول للقول. فالجملة في موضع مفعول.

ومن متعلقة برزقاً، وهي لابتداء الغاية. وقيل: مقطوع عن الإضافة، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله: أي من قبل المرزوق.

وقال بعض المفسرين: معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة، فعلى هذا القول يكون المبتدأ، هو نفس الخبر، ولا يكون التقدير مثل.

وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضاً مجاز، إلا أن هذا المجاز أكثر وأسوغ.

ومجيء الجملة المصدرة بماض حالاً ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام.

وانتصب متشابهاً على الحال من الضمير في به، وهي حال لازمه، لأن التشابه ثابت له، أتوا به أو لم يؤتوا.

ص: 95

فقال تعالى: {ولهم فيها أزواج} والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة. كما اخترنا في قوله: {كلما رزقوا} لأن جعلها استئنافاً يكون في ذلك اعتناء بالجملة، إذ سيقت كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلك غير ما هو أصل للحمل. وارتفاع أزواج على الابتداء، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه من الاستئناف أيضاً، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي: مطهرات، فجمع بالألف والتاء على طهرن. قال الزمخشري: هما لغتان فصيحتان، يقال: النساء فعلن، وهن فاعلات، والنساء فعلت، وهي فاعلة، ومنه بيت الحماسة:

وإذا العذارى بالدخان تقنت

واستعجلت نصب القدور فملت

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأٌّرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَتًا فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} .

ص: 96

أن: حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل الذي يليه مصدر، وعمله في المضارع النصب، إن كان معرباً، والجزم بها لغة لبني صباح، وتوصل أيضاً بالماضي المتصرف، وذكروا أنها توصل بالأمر، وإذا نصبت المضارع فلا يجوز الفصل بينهما بشيء. وأجاز بعضهم الفصل بالظرف، وأجاز الكوفيون الفصل بينها وبين معمولها بالشرط. وأجازوا أيضاً إلغاءها وتسليط الشرط على ما كان يكون معمولاً لها لولاه، وأجاز الفراء تقديم معمول معمولها عليها، ومنعه الجمهور. وأحكام أن الموصولة كثيرة، ويكون أيضاً حرف تفسير خلافاً للكوفيين، إذ زعموا أنها لا تأتي تفسيراً، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى:{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي} (البقرة: 125) ، إن شاء الله تعالى. وتكون أن أيضاً زائدة وتطرد زيادتها بعد لما، ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد، خلافاً لمن زاد على ذلك أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جواباً بالفعل الذي زيدت قبله، وبعد القسم قبل لو والجواب خلافاً لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لو والجواب، ولا تكون أن للمجازاة خلافاً للكوفيين، ولا بمعنى أن المكسورة المخففة من الثقيلة خلافاً للفارسي، ولا للنفي، ولا بمعنى إذ، ولا بمعنى لئلا خلافاً لزاعمي ذلك. وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف ثلاثي الوضع، وسأتي الكلام عليه عند أول ما يذكر، إن شاء الله تعالى.

ص: 97

والبعوضة: واحد البعوض، وهي طائر صغير جداً معروف، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع. أما: حرف، وفيه معنى الشرط، وبعضهم يعبر عنها بحرف تفصيل، وبعضهم بحرف إخبار، وأبدل بنو تميم الميم الأولى ياء فقالوا: أيما. وقال سيبويه في تفسير أما: أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها، إلا إن كانت الجملة دعاء فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء، وإذا فصل بها فلا بد من الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي أما، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن وفاقاً لسيبويه وأبي عثمان، وخلافاً للمبرد وابن درستويه، ولا بمعمول خبر ليت ولعل خلافاً للفراء. ومسألة أما علماً، فعالم يلزم أهل الحجاز فيه النصب وتختاره تميم، وتوجيه هاتين المسألتين مذكور في النحو.

ماذا: الأصل في ذا أنها اسم إشارة، فمتى أريد موضوعها الأصلي كانت ماذا جملة مستقلة، وتكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا خبره. وقد استعملت العرب ماذا ثلاثة استعمالات غير الذي ذكرناه أولاً: أحدها: أن تكون ما استفهاماً وذا موصولاً بدليل وقوع الاسم جواباً لها مرفوعاً في الفصيح، وبدليل رفع البدل قال الشاعر:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول

أنحب فيقضي أم ضلال وباطل

الثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاماً، وهذا الوجه هو الذي يقول بعض النحويين فيه: إن ذا لغو ولا يريد بذلك الزيادة بل المعنى أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاماً، ويدل على هذا الوصف وقوع الإسم جواباً لها منصوباً في الفصيح، وقول العرب: عماذا تسأل بإثبات ألف ما، وقول الشاعر:

يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم

لا يستفقن إلى الديرين تحتانا

ولا يصح موصولية ذا هنا، الثالث: أن تكون ما مع ذا اسماً موصولاً، وهو قليل، قال الشاعر:

دعي ماذا علمت سأتقيه

ص: 98

ولكن بالمغيب نبئيني

فعلى هذا الوجه والأول يكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من الإعراب ولا يتسلط على ماذا: وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا إن كان مما يمكن أن يتسلط. وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة موصوفة وجعل منه: دعي ماذا علمت.

كيف: اسم، ودخول حرف الجر عليها شاذ، وأكثر ما تستعمل استفهاماً، والشرط بها قليل، والجزم بها غير مسموع من العرب، فلا نجيزه قياساً، خلافاً للكوفيين وقطرب، وقد ذكر خلاف فيها: أهي ظرف أم اسم غير ظرف؟ والأول عزوه إلى سيبويه، والثاني إلى الأخفش والسيرافي، والبدل منها والجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوبان، ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ، ومنصوب إن كان ناسخاً.

وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب: يستحي بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، يجرونها مجرى يستبي. قال الشاعر:

ألا تستحي منا ملوك وتتقي

محارمنا لا يبوء الدم بالدم

والماضي: استحى، قال الشاعر:

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه

كرعن بست في إناء من الورد

واختلف النحاة في المحذوفة، فقيل لام الكلمة، فالوزن يستفع، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع. وقيل المحذوف العين، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل. وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين.

ص: 99

وقد تكلمنا على هذه المسألة في «كتاب التكميل لشرح التسهيل» من تأليفنا، وليس هذا الحذف مختصاً بالماضي والمضارع، بل يكون أيضاً في سائر التصرفات، كاسم الفاعل، واسم المفعول، وغير ذلك. وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعدياً بنفسه، ويكون متعدياً بحرف جر، يقال: استحييته واستحييت منه. فعلى هذا يحتمل {أن يضرب} أن يكون مفعولاً به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر. وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى:{أن لهم جنات} (البقرة: 25) ، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر؟.

ويضرب: قيل معناه: يبين، وقيل: يذكر، وقيل: يضع، من ضربت عليهم الذلة، وضرب البعث على بني فلان، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد، وقيل يضرب: في معنى يجعل ويصير، كما تقول: ضربت الطين لبناً، وضربت الفضة خاتماً. فعلى هذا يتعدى لاثنين، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظن وأخواتها، فيتعدى إلى اثنين، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو. وما: إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثل تزيد الكرة شياعاً، كما تقول: ائتني برجلٍ ما، أي: أيّ رجل كان. وأجاز الفراء، وثعلب، والزجاج: أن تكون ما نكرة، وينتصب بدلاً من قوله: مثلاً. وقرأ الجمهور: بنصب بعوضة. واختلف في توجيه النصب على وجوه:

ص: 100

أحدها: أن تكون صفة لما، إذا جعلنا ما بدلاً من مثل، ومثلاً مفعول بيضرب، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهام ما، وهو قول الفراء. الثاني: أن تكون بعوضة عطف بيان، ومثلاً مفعول بيضرب. الثالث: أن تكون بدلاً من مثل. الرابع: أن تكون مفعولاً ليضرب، وانتصب مثلاً حالاً من النكرة مقدمة عليها. والخامس: أن تكون مفعولاً ليضرب ثانياً، والأول هو المثل على أن يضرب يتعدى إلى اثنين. والسادس: أن تكون مفعولاً أول ليضرب، ومثلاً المفعول الثاني. والسابع: أن تكون منصوباً على تقدير إسقاط الجار، والمعنى {أن يضرب مثلاً} ما بين {بعوضة فما فوقها} ، وحكوا له عشرون ما ناقة فجملاً، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين، ونسبه المهدوي للكوفيين، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء، ويكون: مثلاً مفعولاً بيضرب على هذا الوجه، وأنكر هذا النصب، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه، أبو العباس. وتحرير نقل هذا المذهب: أن الكوفيين يزعمون أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي، فينتصب ما بعدها، سواء كان نكرة أم غير نكرة، ويعطف عليه بالفاء فقط، وتلزم ولا يصلح مكانها الواو، ولا ثم، ولا أو، ولا لا، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف، وهو بين. فلما حذف بين، قام هذا مقامه في الإعراب. ويقدرون الفاء بإلى، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع. حكى الكسائي عن العرب: مطرنا مازبالة فالثعلبية، وما منصوبة بمطرنا. وحكى الكسائي والفراء عن العرب: هي أحسن الناس ما قرنا، وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير، وتقول: هي حسنة ما قرنها إلى قدمها. قال الفراء: أنشدنا أعرابي من بني سليم:

يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم

ولا حبال محب واصل تصل

ص: 101

وقال الكسائي: سمعت أعرابياً نظر إلى الهلال فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك، وحكى الفراء عن العرب: الشنق ما خما فعشرين. والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى كذا، وما في هذا المعنى لا تسقط، فخطأ أن يقول: مطرنا زبالة فالثعلبية. وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا، والذي نختاره من هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح، وذلك الواحد هو مثلاً لقوله تعالى: ضرب مثل، ولأنه المقدم في التركيب، وصالح لأن ينتصب بيضرب. وما: صفة تزيد النكرة شياعاً، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس. وبعوضة: بدل لأن عطف البيان مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس. وقرأ الضحاك، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب: بعوضة بالرفع، واتفق المعربون على أنه خبر، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه خبراً، فقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة، وفي هذا وجهان: أحدهما: أن هذه الجملة صلة لما، وما موصولة بمعنى الذي، وحذف هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة. وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك في غير أيّ من الموصولات، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذا التخريج شاذة، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلاً، التقدير: مثلاً الذي هو بعوضة. والوجه الثاني: أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق، وقيل: خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما، على أن تكون استفهامية.

ص: 102

والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه، لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحاً على مذهب البصريين، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام، وما من قوله: فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف، أو موصوفة وصفتها الظرف، والموصوفة أرجح. وإن رفعنا بعوضة، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاماً، فذلك من عطف الجمل، أو كانت البعوضة خبراً لهو محذوفة، وما زائدة، أو صفة فعطف على البعوضة، إما موصولة أو موصوفة.

ص: 103

وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا، وهي ههنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام. أحدهما: أن تكون ما استفهاماً في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبر عن ما. وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف، إذ فيه شروط جواز الحذف، والتقدير ما الذي أراده الله. والثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاماً، وتركيب ذا مع ما، وتكون مفعولاً بإرادة التقدير، أي شيء أراده الله، وهذان الوجهان فصيحان. قال ابن عطية: واختلف النحويون في ماذا فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، وقيل: ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي، فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبره. انتهى كلام ابن عطية، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب وليست مسألة خلاف عند النحويين، بل كل من شدا طرفاً من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا، وكذا كل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا. وانتصاب مثلاً على التمييز عند البصريين، أي من مثل، وأجاز بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة، أي متمثلاً به، والعامل فيه اسم الإشارة، وهو كقولك لمن حمل سلاحاً رديئاً: ماذا أردت بهذا سلاحاً، فنصبه من وجهين: التمييز والحال من اسم الإشارة. وأجاز بعضهم أن يكون حالاً من الله تعالى، أي متمثلاً. وأجاز الكوفيون أن يكون منصوباً على القطع، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع، وجعلوا من ذلك.

وعالين قنوانا من البسر أحمرا

ص: 104

فأحمر عندهم من صفات البسر، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر، كذلك قالوا: ما أراد الله بهذا المثل. فلما لم يجر على إعراب هذا، انتصب مثلاً على القطع، وإذا قلت: عبد الله في الحمام عرياناً، ويجيء زيد راكباً، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي. وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو المنصوب على القطع، وما لا فمنصوب على الحال، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال، ولم يثبت البصريون النصب على القطع. والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحو، والمختار انتصاب مثل على التمييز، وجاء على معنى التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل، فجاء التمييز بعده مؤكداً للاسم الذي أشير إليه.

اختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى: {يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً} في موضع الصفة لمثل.

{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَسِقِينَ} والفاسقين: مفعول يضلّ لأنه استثناء مفرغ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوباً على الاستثناء. ويكون مفعول يضل محذوفاً تقديره: وما يضل به أحداً إلا الفاسقين، وليس بممتنع، وذلك أن الاسم بعد إلا: إما أن يفرغ له العامل، فيكون على حسب العامل نحو: ما قام إلا زيد، وما ضربت إلا زيداً، وما مررت إلا بزيد، إذا جعلت زيداً وبزيد معمولاً للعامل قبل لا، أو لا يفرغ. وإذا لم يفرغ، فأما أن يكون العامل طالباً مرفوعاً، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا، وإضماره إن كان مما يضمر، أو منصوباً، أو مجروراً، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإثباته. فإن حذفته كان الاسم الذي بعد إلا منصوباً على الاستثناء فتقول: ما ضربت إلا زيداً، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً، وما مررت إلا عمراً، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً، وما مررت إلا عمراً، قال الشاعر:

نجا سالم والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

ص: 105

يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف، وإن أثبته، ولم يحذفه، فله أحكام مذكورة. فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في الفاسقين أن يكون معمولاً ليضل، ويكون من الاستثناء المفرغ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء، ويكون معمول يضل قد حذف لفهم المعنى.

{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ} : يحتمل النصب والرفع. فالنصب من وجهين: إما على الاتباع، وإما على القطع، أي أذم الذين. والرفع من وجهين: إما على القطع، أي هم الذين، وإما على الابتداء، ويكون الخبر الجملة من قوله:{أولئك هم الخاسرون} . وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف، لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد، فالأولى من هذا الإعراب والأعاريب التي ذكرناها وأولاها الاتباع، ومن متعلقة بقوله ينقضون، وهي لابتداء الغاية.

وقيل: من زائدة وهو بعيد، والميثاق مفعول من الوثاقة، وهو الشدّ في العقد، وقد ذكرنا أنه العهد المؤكد باليمين. وليس المعنى هنا على ذلك، وإنما كني به عن الالتزام والقبول. قال أبو محمد بن عطية: هو اسم في موضع المصدر، كما قال عمرو ابن شييم:

أكفراً بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرتاعا

ص: 106

أراد بعد إعطائك، انتهى كلامه. ولا يتعين ما ذكر، بل قد أجاز الزمخشري أن يكون بعد التوثقة، كما أن الميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة، وظاهر كلام الزمخشري أن يكون مصدراً، والأصل في مفعال أن يكون وصفاً نحو: مطعام ومسقام ومذكار. وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج، وكلام أبي عبد الله بن مالك، وهما من أوعب الناس لأبنية المصادر، فلم يذكرا مفعالاً في أبنية المصادر. والضمير في ميثاقه عائد على العهد لأنه المحدث عنه، وأجيز أن يكون عائداً على الله تعالى، أي من توثيقه عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده على اختلاف التأويلين في الميثاق. قال أبو البقاء: إن أعدت الهاء على اسم الله كان المصدر مضافاً إلى الفاعل، وإن أعدتها إلى العهد كان مضافاً إلى المفعول، وهذا يدل على أن الميثاق عنده مصدر.

{وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} وما موصولة بمعنى الذي، وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد بينا ضعف القول بأن ما تكون موصوفة خصوصاً هنا، إذ يصير المعنى: ويقطعون شيئاً أمر الله به أن يوصل.

وأمر يتعدى إلى اثنين، والأول محذوف لفهم المعنى، أي ما أمر الله به، وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير في به تقديره به وصله، أي ما أمرهم الله بوصله، نحو قال الشاعر:

أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص

فتقصر عنها حقبة وتبوص

أي أمن ذكر سلمى نأيها.

ص: 107

وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون أن يوصل في موضع نصب بدلاً من ما، أي وصله، والتقدير: ويقطعون وصل ما أمر الله به. وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولاً من أجله، وقدره المهدوي كراهية أن يوصل، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل. وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أن يوصل في موضع رفع، أي هو أن يوصل. وهذه الأعاريب كلها ضعيفة، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحاً. والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله وسواه من الأعاريب، بعيد عن فصيح الكلام أفصح الكلام وهو كلام الله.

ص: 108

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَتًا فَأَحْيَكُمْ} {كيف} : قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ، فخرج عن حقيقة الاستفهام. وقيل: صحبه الإنكار والتعجب، والواو في قوله:{وكنتم أمواتاً فأحياكم} : واو الحال، نحو قوله تعالى:{وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة} (يوسف: 45)، ونادى نوح ابنه وكان في معزل} (هود: 42) . قال الزمخشري: فإن قلت فكيف صح أن يكون حالاً، وهو ماض؟ ولا يقال: جئت وقام الأسير، ولكن: وقد قام، إلا أن يضمر قد. قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتاً وحده، ولكن على جملة قوله: كنتم أمواتاً إلى ترجعون، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء؟ ثم يميتكم} بعد هذه الحياة؟ {ثم يحييكم} بعد الموت ثم يحاسبكم؟ انتهى كلامه. ونحن نقول: إنه على إضمار قد، كما ذهب إليه أكثر الناس، أي وقد كنتم أمواتاً فأحياكم. والجملة الحالية عندنا فعلية. وأما أن نتكلف ونجعل تلك الجملة اسمية حتى نفر من إضمار قد، فلا نذهب إلى ذلك، وإنما حمل الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميع الجمل مندرجة في الحال، ولذلك قال: فإن قلت، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة، وبأولها وبآخرها؟ انتهى كلامه.

ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال، إذ يحتمل أن يكون الحال قوله:{وكنتم أمواتاً فأحياكم} .

ص: 109

{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً} ولكم: متعلق بخلق، واللام فيه، قيل: للسبب، أي لأجلكم ولانتفاعكم، وقدر بعضهم لاعتباركم. وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصاً، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه. وقيل: للاختصاص، وهو أعم من التمليك، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولاً من أجله.

وانتصب جميعاً على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام، ومعنى جميعاً العموم.

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} وقد أعرب بعضهم سبع سموات بدلاً من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله، وهو إعراب صحيح، نحو: أخوك مررت به زيد، وأجازوا في سبع سموات أن يكون منصوباً على المفعول به، والتقدير: فسوى منهن سبع سموات، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. أما من حيث اللفظ فإن سوى ليس من باب اختار، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام، وأما من حيث المعنى فلأنه يدل على أن السموات كثيرة، فسوى منهن سبعاً، والأمر ليس كذلك، إذ المعلوم أن السموات سبع. وأجازوا أيضاً أن يكون مفعولاً ثانياً لسوى، ويكون معنى سوى: صير، وهذا ليس بجيد، لأن تعدي سوى لواحد هو المعلوم في اللغة، {فسواك فعدلك} (الانفطار: 7) ، قادرين على أن نسوّي بنانه} (القيامة: 4) . وأما جعلها بمعنى صير، فغير معروف في اللغة. وأجازوا أيضاً النصب على الحال، فتلخص في نصب سموات أوجه البدل باعتبارين، والمفعول به، ومفعول ثان، وحال، والمختار البدل باعتبار عود الضمير على ما قبله والحال، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق.

ص: 110

{بكل} متعلق بقوله: {عليم} ، وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم، أو بنفسه. وأما حالة التأخير فبنفسه لأنه من فعل متعد، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام ما ليس في فعلها ولا في اسم الفاعل، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي، إما أن يكون فعله متعدياً بنفسه، أو بحرف جر، فإن كان متعدياً بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو: زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا، لأن صبر يتعدى بعلى، وزهد يتعدى بفي، وإن كان متعدياً بنفسه. فإما أن يكون ما يفهم علماً وجهلاً، أو لا. إن كان مما يفهم علماً أو جهلاً تعدى المثال بالباء نحو: زيد عليم بكذا، وجهول بكذا، وخبير بذلك، وإن كان لا يفهم علماً ولا جهلاً فيتعدى باللام نحو قوله تعالى:{فعال لما يريد} (هود: 107) وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسه، لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل حكمه هكذا.m قال تعالى: ربكم أعلم بكم (الإسراء: 54)، وقال الشاعر:

أعطى لفارهة حلو مراتعها

وقال:

أكر وأحمى للحقيقة منهم

فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو قوله: تعالى {إن ربك هو أعلم من يضل} } (الأنعام: 117)، وقول الشاعر:

وأضرب منا بالسيوف القوانسا

أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعل التفضيل.

ص: 111

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأٌّرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} .

إذ: اسم ثنائي الوضع مبني لشبهه بالحرف وضعاً أو افتقاراً، وهو ظرف زمان للماضي، وما بعده جملة اسمية أو فعلية، وإذا كانت فعلية قبح تقديم الاسم على الفعل وإضافته إلى المصدرة بالمضارع، وعمل المضارع فيه مما يجعل المضارع ماضياً، وهو ملازم للظرفية إلا أن يضاف إليه زمان، ولا يكون مفعولاً به، ولا حرفاً للتعليل أو المفاجأة، ولا ظرف مكان، ولا زائدة، خلافاً لزاعمي ذلك، ولها أحكام غير هذا ذكرت في النحو.

وسبحان اسم وضع موضع المصدر، وهو مما ينتصب بإضمار فعل من معناه لا يجوز إظهاره، وهو من الأسماء التي لزمت النصب على المصدرية، ويضاف ويفرد، فإذا أفرد كان منوناً، نحو قول الشاعر:

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به

وقبلنا سبح الجودي والجمد

فقيل: صرفه ضرورة، وقيل: لجعله نكرة غير منون، نحو قول الشاعر:

أقول لما جاءني فخبره

سبحان من علقمة الفاخر

جعله علماً فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. وزعم بعض النحويين أنه إذا أفرد كان مقطوعاً عن الإضافة، فعاد إليه التنوين، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد، وقد ردّ هذا القول في كتب النحو.

ص: 112

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ} : واختلف المعربون في إذ، فذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى زيادتها، وهذا ليس بشيء، وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في علم النحو. وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى قد، التقدير: وقد قال ربك، وهذا ليس بشيء، وذهب بعضهم إلى أنه منصوب نصب المفعول به بأذكر، أي واذكر:{إذ قال ربك} ، وهذا ليس بشيء، لأن فيه إخراجها عن بابها، وهو أنه لا يتصرف فيها بغير الظرفية، أو بإضافة ظرف زمان إليها. وأجاز ذلك الزمخشري وابن عطية وناس قبلهما وبعدهما، وذهب بعضهم إلى أنها ظرف. واختلفوا، فقال بعضهم: هي في موضع رفع، التقدير: ابتداء خلقكم. وقال بعضهم: في موضع نصب، التقدير: وابتداء خلقكم، إذ قال ربك.

{إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً} ، لأن الفعل العامل في الظرف لا بد أن يقع فيه، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه، فلا لأنه لا يكون له ظرفاً. وذهب بعضهم إلى أن إذ منصوب يقال بعدها، وليس بشيء، لأن إذ مضافة إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وذهب بعضهم إلى أن نصبها بأحياكم، تقديره:{وهو الذي أحياكم} (الحج: 66) } ، {إذ قال ربك} ، وهذا ليس بشيء لأنه حذف بغير دليل، وفيه أن الإحياء ليس واقعاً في وقت قول الله للملائكة، وحذف الموصول وصلته، وإبقاء معمول الصلة. وذهب بعضهم إلى أنه معمول لخلقكم من قوله تعالى:{اعبدوا ربكم الذي خلقكم} (البقرة: 21) } {إذ قال ربك} ، فتكون الواو زائدة، ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التي كادت أن تكون سوراً من القرآن، لاستبداد كل آية منها بما سيقت له، وعدم تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي.

ص: 113

فهذه ثمانية أقوال ينبغي أن ينزّه كتاب الله عنها. والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: {قالوا أتجعل} ، أي وقت قول الله للملائكة:{إني جاعل في الأرض} ، {قالوا: أتجعل} ، كما تقول في الكلام: إذ جئتني أكرمتك، أي وقت مجيئك أكرمتك، وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا. فانظر إلى حسن هذا الوجه السهل الواضح، وكيف لم يوفق أكثر الناس إلى القول به، وارتبكوا في دهياء وخبطوا خبط عشواء.

واللام في للملائكة: للتبليغ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها اللام، ومعمول القول إني جاعل، وكان ذلك مصدراً بأن، لأن المقصود تأكيد الجملة المخبر بها، وإن هذا واقع لا محالة وإن تكسر بعد القول، ولفتحها بعده عند أكثر العرب شروط ذكرت في النحو، وبنو سليم يفتحونها بعده من غير شرط، وقال شاعرهم:

إذا قلت إني آيب أهل بلدة

نزعت بها عنها الولية بالهجر

جاعل: اسم فاعل بمعنى الاستقبال، ويجوز إضافته للمفعول إلا إذا فصل بينهما كهذا، فلا يجوز، وإذا جاز إعماله، فهو أحسن من الإضافة، نص على ذلك سيبويه، وقال الكسائي: هما سواء، والذي أختاره أن الإضافة أحسن، وقد ذكرنا وجه اختيارنا ذلك في بعض ما كتبناه في العربية. وفي الجعل هنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فيتعدى إلى واحد، قاله أبو روق، وقريب منه ما روي عن الحسن وقتادة أنه بمعنى فاعل، ولم يذكر ابن عطية غير هذا. والثاني: أنه بمعنى التصيير، فيتعدى إلى اثنين.

وقرأ ابن هرمز: ويسفك بنصب الكاف، فمن رفع الكاف عطف على يفسد، ومن نصب فقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام، وهو تخريج حسن وذلك أن المنصوب في جواب الاستفهام أو غيره بعد الواو بإضمار أن يكون المعنى على الجمع، ولذلك تقدر الواو بمعنى مع، فإذا قلت: أتأتينا وتحدثنا ونصبت، كأن المعنى على الجمع بين أن تأتينا وتحدثنا، أي ويكون منك إتيان مع حديث، وكذلك قوله:

أبيت ريان الجفون من الكرى

وأبيت منك بليلة الملسوع

ص: 114

معناه: أيكون منك مبيت ريان مع مبيتي منك بكذا، وكذلك هذا يكون منك جعل مفسد مع سفك الدماء. وقال أبو محمد بن عطية: النصب بواو الصرف قال: كأنه قال من يجمع أن يفسد وأن يسفك، انتهى كلامه. والنصب بواو الصرف ليس من مذاهب البصريين. ومعنى واو الصرف: أن الفعل كان يستحق وجهاً من الإعراب غير النصب فيصرف بدخول الواو عليه عن ذلك الإعراب إلى النصب كقوله تعالى: {ويعلم الذين يجادلون} (الشورى: 35) } ، في قراءة من نصب، وكذلك:{ويعلم الصابرين} (آل عمران: 142) } . فقياس الأول الرفع، وقياس الثاني الجزم، فصرفت الواو الفعل إلى النصب، فسميت واو الصرف، وهذا عند البصريين منصوب بإضمار أن بعد الواو. والعجب من ابن عطية أنه ذكر هذا الوجه أولاً وثنى بقول المهدوي، ثم قال: والأول أحسن. وكيف يكون أحسن وهو شيء لا يقول به البصريون وفساده مذكور في علم النحو؟

{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} : جملة حالية، {بِحَمْدِكَ} : في موضع الحال، والباء فيه للحال، أي نسبح ملتبسين بحمدك، كما تقول: جاء زيد بثيابه، وهي حال متداخلة لأنها حال في حال. وقيل: الباء للسبب، أي بسبب حمدك، والحمد مصدر مضاف إلى المفعول نحو قوله: من دعاء الخير، أي بحمدنا إياك. والفاعل عند البصريين محذوف في باب المصدر، وإن كان من قواعدهم أن الفاعل لا يحذف وليس ممنوع في المصدر، كما ذهب إليه بعضهم، لأن أسماء الأجناس لا يضمر فيها، لأنه لا يضمر إلا فيما جرى مجرى الفعل، إذ الإضمار أصل في الفعل، ومعنى التقديس كما ذكرنا التطهير، ومفعوله أنفسنا لك من الأدناس، قاله الضحاك وغيره.

ص: 115

واللام في لك زائدة، أي نقدّسك. وقيل: لام العلة متعلقة بنقدّس، قيل: أو بنسبّح وقيل: معدية للفعل، كهي في سجدت لله، وقيل: اللام للبيان كاللام بعد سقياً لك، فتتعلق إذ ذاك بمحذوف دلّ عليه ما قبله، أي تقديسنا لك. والأحسن أن تكون معدية للفعل، كهي في قوله:{يسبح لله} (الجمعة: 1) } ، و {سبح لله} (الحديد:1 الحشر: 1 الصف: 1) } . وقد أبعد من ذهب إلى أن هذه الجملة من قوله: {ونحن نسبح} استفهامية حذف منها أداة الاستفهام وأن التقدير، أو نحن نسبح بحمدك، أم نتغير، بحذف الهمزة من غير دليل، ويحذف معادل الجملة المقدرة دخول الهمزة عليها، وهي قوله: أم نتغير، وليس ذلك مثل قوله:

لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً

بسبع رمين الجمر أم بثمان

يريد: أبسبع، لأن الفعل المعلق قبل بسبع والجزء المعادل بعده يدلان على حذف الهمزة.

قال: {إني أعلم} ، مضارع علم وما مفعولة بها موصولة، قيل: أو نكرة موصوفة، وقد تقدم: أنا لا نختار، كونها نكرة موصوفة. وأجاز مكي بن أبي طالب والمهدوي وغيرهما أن تكون أعلم هنا اسماً بمعنى فاعل، وإذا كان كذلك جاز في ما أن تكون مجرورة بالإضافة، وأن تكون في موضع نصب، لأن هذا الاسم لا ينصرف، وأجاز بعضهم أن تكون أفعل التفضيل. والتقدير: أعلم منكم، وما منصوبة بفعل محذوف يدل عليه أعلم، أي علمت، وأعلم ما لا تعلمون.

ص: 116

وهذا القول فيه خروج عن الظاهر وادعاء حذفين: أحدهما: حذف المفضل عليه وهو منكم. والثاني: الفعل الناصب للموصول، وأما ما أجازه مكي فهو مبني على أمرين غير صحيحين. أحدهما: ادّعاءان أفعل تأتي بمعنى فاعل، وهذا قال به أبو عبيدة من المتقدمين، وخالفه النحويون وردوا عليه قوله، وقالوا: لا يخلو أفعل من التفضيل، وإن كان يوجد في كلام بعض المتأخرين أن أفعل قد يخلو من التفضيل، وبنوا على ذلك جواز مسألة يوسف أفضل إخوته، حتى أن بعضهم ذكر في جواز اقتياسه خلافاً، تسليماً منه أن ذلك مسموع من كلام العرب فقال: واستعماله عارياً دون من مجرداً عن معنى التفضيل، مؤولاً باسم فاعل أو صفة مشبهة، مطرد عند أبي العباس، والأصح قصره على السماع، انتهى كلامه. والأمر الثاني: أنه إذا سلم وجود أفعل عارياً من معنى التفضيل، فهو يعمل عمل اسم الفاعل أم لا. والقائلون بوجود ذلك لا يقولون بإعماله عمل اسم الفاعل إلا بعضهم، فأجاز ذلك، والصحيح ما ذهب إليه النحويون المتقدمون من كون أفعل لا يخلو من التفضيل، ولا مبالاة بخلاف أبي عبيدة لأنه كان يضعف في النحو، ولا بخلاف بعض المتأخرين لأنهم مسبوقون بما هو كالإجماع من المتقدمين، ولو سلمنا إسماع ذلك من العرب، فلا نسلم اقتياسه، لأن المواضع التي أوردت دليلاً على ذلك في غاية من القلة، مع أنها قد تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذلك، فلا نسلم كونه يعمل عمل اسم الفاعل. وكيف نثبت قانوناً كلياً ولم نسمع من العرب شيئاً من أفراد تركيباته لا يحفظ: هذا رجل أضرب عمراً، بمعنى ضارب عمراً، ولا هذه امرأة أقتل خالداً، بمعنى قاتلة خالداً، ولا مررت برجل أكسى زيداً جبة، بمعنى: كاس زيداً جبة. وهل هذا إلا إحداث تراكيب لم تنطق العرب بشيء من نظيرها؟ فلا يجوز ذلك. وكيف يعدل في كتاب الله عن الشيء الظاهر الواضح من كون أعلم فعلاً مضارعاً إلى هذا الذي هو؟ كما رأيت في علم النحو، وإنما طوّلت في هذه المسألة لأنهم يسلكون ذلك

ص: 117

في مواضع من القرآن سيأتي بيانها، إن شاء الله تعالى، فينبغي أن يتجنب ذلك. ولأن استعمال أفعل عارية من معنى التفضيل مشهور عند بعض المتأخرين، فنبهت على ما في ذلك، والمسألة مستوفاة الدلائل. تذكر في علم النحو.

{وَعَلَّمَءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا} وقرأ اليماني ويزيد اليزيدي: وعلم آدم مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به والتضعيف في علم للتعدية، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد، فعدي به إلى اثنين. وليست التعدية بالتضعيف مقيسة، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازماً أم كان متعدياً، نحو: علم المتعدية إلى واحد. وأما إن كان متعدياً إلى اثنين، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاث. وقد وهم القاسم بن علي الحريري في زعمه في شرح «الملحة» له أن علم تكون منقولة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتصير بالتضعيف متعدية إلى ثلاثة، ولا يحفظ ذلك من كلامهم.

وقد ذهب بعض النحويين إلى اقتباس التعدية بالتضعيف. قال الإمام أبو الحسين بن أبي الربيع في كتاب «التلخيص» من تأليفه: الظاهر من مذهب سيبويه أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدي واللازم.

وقد تقدم لنا أن اللام عوض من الإضافة ليس مذهب البصريين، ويحتمل أن يكون التقدير مسميات الأسماء، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

{فَقَالَ} : الفاء: للتعقيب.

ص: 118

{إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} شرط جوابه محذوف تقديره فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق، ولا يكون أنبئوني السابق هو الجواب، هذا مذهب سيبويه وجمهور البصريين، وخالف الكوفيون وأبو زيد وأبو العباس، فزعموا أن جواب الشرط هو المتقدّم في نحو هذه المسألة، هذا هو النقل المحقق، وقد وهم المهدوي، وتبعه ابن عطية، فزعما أن جواب الشرط محذوف عند المبرد، التقدير: فأنبئوني، إلا إن كانا اطلعا على نقل آخر غريب عن المبرد يخالف مشهور ما حكاه الناس، فيحتمل. وكذلك وهم ابن عطية وغيره، فزعما أنّ مذهب سيبويه تقديم الجواب على الشرط، وأن قوله: أنبئوني المتقدم هو الجواب.

أبعد من جعل إن بمعنى إذ، فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية.

{قَالُواْ سُبْحَنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ} : أي تنزيهك عن الادعاء وعن الاعتراض. وقيل: معناه تنزيه لك بعد تنزيه لفظه لفظ تثنية، والمعنى كذلك كما قالوا في لبيك، ومعناه: تلبية بعد تلبية. وهذا قول غريب يلزم عنه أن مفرده يكون سبحاً، وأنه لا يكون منصوباً بل مرفوعاً، وأنه لم تسقط النون للإضافة، وأنه التزم فتحها. والكاف في سبحانك مفعول به أضيف إليه. وأجاز بعضهم أن يكون فاعلاً، لأن المعنى تنزهت. وقد ذكرنا، حين تكملنا على المفردات، أنه منصوب على معنى المصدر بفعل من معناه واجب الحذف. وزعم الكسائي أنه منادى مضاف، ويبطله أنه لا يحفظ دخول حرف النداء عليه، ولو كان منادى لجاز دخول حرف النداء عليه.

ص: 119

وخبر: لا علم، في الجار والمجرور. وتقدم لنا الكلام في لا ريب فيه، ولا علم مثله، فأغنى عن إعادته. وما موصولة يحتمل أن تكون في موضع نصب على الاستثناء، والأولى أن تكون في موضع رفع على البدل. وحكى ابن عطية عن الزهراوي: أن موضع ما من قولهم: ما {علمتنا} ، نصب بعلمتنا، وهذا غير معقول. ألا ترى أن ما موصولة، وأن الصلة: علمتنا، وأن الصلة لا تعمل في الموصول ولكن يتكلف به وجه وهو أن يكون استثناء منقطعاً فيكون معنى إلا: لكن، على التقدير الذي استقر في الاستثناء المنقطع، وتكون ما شرطية منصوبة بعلمتنا، ويكون الجواب محذوفاً.

و {أنت} : يحتمل أن يكون توكيداً للضمير، فيكون في موضع نصب، أو مبتدأ فيكون في موضع رفع، والعليم خبره، أو فضلاً فلا يكون له موضع من الإعراب، على رأي البصريين، ويكون له موضع من الإعراب على رأي الكوفيين. فعند الفراء موضعه على حسب الاسم قبله، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده.

{قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} ؛ جواب فلما، وقد تقدّم ذكر الخلاف في لما المقتضية للجواب، أهي حرف أم ظرف؟ ورجحنا الأول وذكرنا أنه مذهب سيبويه. وألم: أقل تقرير، لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كان الكلام في كثير من المواضع تقريراً نحو قوله تعالى:{ألست بربكم} (الأعراف: 172) } ؟ {ألم نشرح لك صدرك} (الشرح: 1) } ؟ {ألم نربِّك فينا وليداً} (الشعراء: 18) } ؟ ولذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو: ووضعنا، ولبثت، ولكم فيه.

وقد تقدم أن اللام في نحو: قلت لك، أو لزيد، للتبليغ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها فيها.

والخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوباً أو مجروراً جار هنا، وقد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا.

ص: 120

وقد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه: قال المهدوي: ويجوز أن يكون قوله: أعلم اسماً بمعنى التفضيل في العلم، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية: وإذا قدر الأول اسماً، فلا بد من إضمار فعل ينصب غيب، تقديره: إني أعلم من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلاً مضارعاً أخصر وأبلغ. انتهى. وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم. والذي ذكر المهدوي في تفسيره ما نصه:{وأعلم ما تبدون} ، يجوز أن ينتصب ما بأعلم على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم، أو يكون ما جراً بالإضافة، ويجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم وتنصب ما به، فيكون بمعنى حواج بيت الله، انتهى. فأنت ترى أنه لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل وأنه لم يجز الجر في ما والنصب، وتكون أفعل اسماً إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل، ولا يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل، وخفض ما بالإضافة ألبتة.

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأًّدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَفِرِينَ} .

ص: 121

{إبليس} : اسم أعجميّ منع الصرف للعجمة والعلمية، قال الزجاج: ووزنه فعليل، وأبعد أبو عبيدة وغيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، ووزنه على هذا، فعيل، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية، واعتذر من قال بالاشتقاق فيه عن منع الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء، وردّنا: غريض، وإزميل، وإخريط، وإجفيل، وإعليط، وإصليت، وإحليل، وإكليل، وإحريض. وقد قيل: شبه بالأسماء الأعجمية، فامتنع الصرف للعلمية، وشبه العجمة، وشبه العجمة هو أنه وإن كان مشتقاً من الإبلاس فإنه لم يسم به أحد من العرب، فصار خاصاً بمن أطلقه الله عليه، فكأنه دليل في لسانهم، وهو علم مرتجل. وقد روي اشتقاقه من الإبلاس عن ابن عباس والسدي، وما إخاله يصح. الإباء: الامتناع، قال الشاعر:

وأما أن تقولوا قد أبينا

فشرّ مواطن الحسب الإباء

والفعل منه: أبى يأبى، ولما جاء مضارعه على يفعل بفتح العين وليس بقياس أحرى، كأنه مضارع فعل بكسر العين، فقالوا فيه: يئبى بكسر حرف المضارعة، وقد سمع فيه أبي بكسر العين فيكون بأبي على هذه اللغة قياساً، ووافق من قال أبي بفتح العين على هذه اللغة. وقد زعم أبو القاسم السعدي أن أبى يأتي بفتح العين لا خلاف فيه، وليس بصحيح، فقد حكى أبى بكسر العين صاحب «المحكم» . وقد جاء يفعل في أربعة عشر فعلاً وماضيها فعل، وليست عينه ولا لامه حرف حلق. وفي بعضها سمع أيضاً فعل بكسر العين، وفي بعض مضارعها سمع أيضاً يفعل ويفعل بكسر العين وضمها، ذكرها التصريفيون. الاستكبار والتكبر: وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها استفعل، وهي مذكورة في شرح نستعين.

ص: 122

وإذ: ظرف كما سبق فقيل بزيادتها. وقيل: العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر. وقيل: هي معطوفة على ما قبلها، يعني قوله:{وإذ قال ربك} (البقرة: 30) } ، ويضعف الأول بأن الأسماء لا تزاد، والثاني أنها لازم ظرفيتها، والثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ الأولى في إذ هذه. وقيل: العامل فيها أبى، ويحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله:{فسجدوا} ، تقديره: انقادوا وأطاعوا.

وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وسليمان بن مهران: بضم التاء {للملائكةُ} ، اتباعاً لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة. قال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، وقال الفارسي: هذا خطأ، وقال ابن جني: لأن كسرة التاء كسرة إعراب، وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر، إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو:{وقالت اخرج} (يوسف: 31) } . وقال الزمخشري: لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم: {الحمد لله} ، انتهى كلامه. وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة، وقد نقل أنها لغة أزدشنوءة، فلا ينبغي أن يخطأ القارىء بها ولا يغلط، والقارىء بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضاً عن عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة، وهو شيخ نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، وقد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل، ووجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل، والتاء في الملائكة تسقط أيضاً لأنها ليست بأصل. ألا تراهم قالوا: الملائك؟ وقيل: ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها.

{فَسَجَدُواْ} واللام في لآدم للتبيين، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح {الحمد لله} . {إلا إبليس} : هو مستنثى من الضمير في {فسجدوا} ، وهو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب، وهو استثناء متصل عند الجمهور.

وقيل: هو استثناء منقطع.

ص: 123

والخلاف الذي أشرنا إليه هو أنك إذا قلت: قام القوم إلا زيداً، فمذهب الكسائي أن التخريج من الاسم، وأن زيداً غير محكوم عليه بقيام ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد قام، وأن يكون غير قائم. ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول، والصحيح مذهبنا، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، ومفعول أبى محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، قال الشاعر:

أبى الضيم والنعمان يحرق نابه

عليه فأفضى والسيوف معاقله

والتقدير: أبى السجود، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ الفعل المنفي، قال تعالى:{ويأبى الله إلا أن يتم نوره} (التوبة: 32) } ، ولا يجوز: ضربت إلا زيداً على أن يكون استثناء مفرغاً لأن إلا لا تدخل في الواجب، وقال الشاعر:

أبى الله إلا عدله ووفاءه

فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

{وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّلِمِينَ} .

{رغداً} : أي واسعاً كثيراً لا عناء فيه، قال امرؤ القيس:

بينما المرء تراه ناعماً

يأمن الأحداث في عيش رغد

ص: 124

وتميم تسكن الغين. وزعم بعض الناس أن كل اسم ثلاثي حلقي العين صحيح اللام يجوز فيه تحريك عينه وتسكينها، مثل: بحر وبحر، ونهر ونهر، فأطلق هذا الإطلاق، وليس كذلك، بل ما وضع من ذلك على فعل بفتح العين لا يجوز فيه التسكين نحو: السحر لا يقال فيه السحر، وإنما الكلام في فعل المفتوح الفاء الساكن العين، وفي ذلك خلاف. ذهب البصريون إلى أن فتح ما ورد من ذلك مقصور على السماع، وهو مع ذلك مما وضع على لغتين، لا أن أحدهما أصل للآخر. وذهب الكوفيون إلى أن بعضه ذو لغتين، وبعضه أصله التسكين ثم فتح. وقد اختار أبو الفتح مذهب الكوفيين، والاستدلال مذكور في كتب النحو. {حيث} : ظرف مكان مبهم لازم الظرفية، وجاء جره بمن كثيراً وبفي، وإضافة لدى إليه قليلاً، ولإضافتها لا ينعقد منها مع ما بعدها كلام، ولا يكون ظرف زمان خلافاً للأخفش، ولا ترفع اسمين نائبة عن ظرفين، نحو: زيد حيث عمر، وخلافاً للكوفيين، ولا يجزم بها دون ما خلافاً للفراء، ولا تضاف إلى المفرد خلافاً للكسائي، وما جاء من ذلك حكمنا بشذوذه، وهي مبنية وتعتقب على آخرها الحركات الثلاث، ويجوز: حوث، بالواو وبالحركات الثلاث. وحكى الكسائي أن إعرابها لغة بني فقعس.

ص: 125

و {أنت} : توكيد للضمير المستكن في أسكن، وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوباً. {وزوجك} : معطوف على ذلك الضمير المستكن، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت، ولا يجوز عند البصريين العطف عليه دون تأكيد أو فصل يقوم مقام التأكيد، أو فصل بلا بين حرف العطف والمعطوف، وما سوى ذلك ضرورة وشاذ. وقد روي: قم وزيد، وأجاز الكوفيون العطف على ذلك الضمير من غير توكيد ولا فصل. وتظافرت نصوص النحويين والمعربين على ما ذكرناه من أن وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن، ويكون إذ ذاك من عطف المفردات. وزعم بعض الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون من عطف الجمل، التقدير: ولتسكن زوجك، وحذف: ولتسكن، لدلالة اسكن عليه، وأتى بنظائر من هذا الباب نحو: لا نخلفه نحن ولا أنت، ونحو: تقوم أنت وزيد، ونحو: ادخلوا أولكم وآخركم، وقوله:

نطوف ما نطوف ثم يأوي

ذوو الأموال منا والعديم

إذا أعربناه بدلاً لا توكيداً، هو على إضمار فعل، فتقديره عنده، ولا تخلفه أنت، ويقوم زيد، وليدخل أولكم وآخركم، ويأوي ذوو الأموال. وزعم أنه استخرج ذلك من نص كلام سيبويه، وليس كما زعم بل نص سيبويه على مسألة العطف في كتابه، كما ذهب إليه النحويون. قال سيبويه، رحمه الله: وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو الضمير المرفوع، وذلك فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد الله، ثم ذكر تعليل الخليل لقبحه، ثم قال: فإن نعته حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيد. وقال الله عز وجل: {اذهب أنت وربك فقاتلا} (المائدة: 24) واسكن أنت وزوجك الجنة} (البقرة: 35)(الأعراف: 19) ، انتهى.

فهذا نص من سيبويه على أنه من عطف المظهر على المضمر، وقد أجمع النحويون على جواز: تقوم عائشة وزيد، ولا يمكن لزيد أن يباشر العامل، ولا نعلم خلافاً أن هذا من عطف المفردات. ولتكميل الكلام على هذه المسألة مكان غير هذا.

ص: 126

والأصل في: كل أؤكل. الهمزة الأولى هي المجتلبة للوصل، والثانية هي فاء الكلمة، فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ، فوليت همزة الوصل الكاف، وهي متحركة، وإنما اجتلبت للساكن، فلما زال موجب اجتلابها زالت هي. قال ابن عطية وغيره: وحذفت النون من كلا للأمر، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكر ليس على طريقة البصريين، فإن فعل الأمر عندهم مبني على السكون، فإذا اتصل به ضمير بارز كانت حركة آخره مناسبة للضمير، فتقول: كلي، وكلا، وكلوا، وفي الإناث يبقى ساكناً نحو: كلن. وللمعتل حكم غير هذا، فإذا كان هكذا فقوله: وكلا، لم تكن فيه نون فتحذف للأمر، وإنما يكون ما ذكره على مذهب الكوفيين، حيث زعموا أن فعل الأمر معرب، وأن أصل: كل لتأكل، ثم عرض فيه من الحذف بالتدريج إلى أن صار: كل. فأصل كلا: لتأكلا، وكان قبل دخول لام الأمر عليه فيه نون، إذ كان أصله: تأكلان، فعلى قولهم يتم قول ابن عطية: إن النون من كلا حذفت للأمر.

وانتصاب {رغداً} ، قالوا: على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره أكلا رغداً. وقال ابن كيسان: هو مصدر في موضع الحال، وفي كلا الإعرابين نظر. أما الأول: فإن مذهب سيبويه يخالفه، لأنه لا يرى ذلك، وما جاء من هذا النوع جعله منصوباً على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل. وأما الثاني: فإنه مقصور على السماع. وشاء في وزنه خلاف، فنقل عن سيبويه: أن وزنه فعل بكسر العين فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت، واللام ساكنة للضمير، فالتقى ساكنان، فحذفت لالتقاء الساكنين، وكسرت الشين لتدل على أن المحذوف هو ياء، كما صنعت في بعت.

ص: 127

{الشجرة} : نعت لإسم الإشارة، فتكونا منصوب جواب النهي، ونصبه عند سيبويه والبصريين بأن مضمرة بعد الفاء، وعند الجرمي بالفاء نفسه، وعند الكوفيين بالخلاف. وتحرير القول في هذه المذاهب يذكر في كتب النحو. وأجازوا أن يكون فتكونا مجزوماً عطفاً على تقربا، قاله الزجاج وغيره، نحو قوله:

فقلت له صوب ولا تجهدنه

فيذرك من أعلى القطاة فتزلق

والأول أظهر لظهور السببية، والعطف لا يدل عليها.

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} .

{بعض} : أصله مصدر بعض يبعض بعضاً، أي قطع، ويطلق على الجزء، ويقابله كل، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام، قالوا: مررت ببعض قائماً، وبكل جالساً، وينوي فيهما الإضافة، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام، ولذلك خطؤا أبا القاسم الزجاجي في قوله: ويبدل البعض من الكل، ويعود الضمير على بعض، إذا أريد به جمع مفرداً ومجموعاً. وكذلك الخبر والحال والوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه.

المستقر: مستفعل من القرار، وهو اللبث والإقامة، ويكون مصدراً وزماناً ومكاناً لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف، فيكون لما ذكر بصورة المفعول.

الآية: العلامة، ويجمع آيا وآيات، قال النابغة:

توهمت آيات لها فعرفتها

لستة أعوام وذا العام سابع

ص: 128

ووزنها عند الخليل وسيبويه: فعلة، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس. وعند الكسائي: فاعلة، حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة، فتثقل، وعند الفراء: فعلة، فأبدلت العين ألفاً استثقالاً للتضعيف، كما أبدلت في قيراط وديوان، وعند بعض الكوفيين: فعلة: استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفاً لانكسارها وتحرك ما قبلها، وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف.

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَنُ عَنْهَا} : الهمزة: كما تقدم في أزل للتعدية، والمعنى: جعلهما زلاً بإغوائه وحملهما على أن زلاً وحصلا في الزلة، هذا أصل همزة التعدية. وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل، فلا يقع إذ ذاك الفعل. تقول: أضحكت زيداً فما ضحك وأبكيته فما بكى، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البقاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه، والأصل هو الأول.

ص: 129

{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا} وهذه الجملة في موضع الحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا. فصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالاً أكثر من انفراد الضمير. وفي كتاب الله تعالى:{ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} (الزمر: 60) ، وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذاً، خلافاً للفراء ومن وافقه كالزمخشري. وقد روى سيبويه عن العرب كلمته: فوه إلى فيّ، ورجع عوده على بدئه، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر، والجملة حال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها، فلا يكون ذلك شاذاً. وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ، فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأموراً به، أو كالمأمور. ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكاً كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوباً بالحال فيكون مأموراً بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور به؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك.

وقوله: لبعض متعلق بقوله عدوّ، واللام مقوية لوصول عدوّ إليه، وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد.

ص: 130

{وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} : مبتدأ وخبر. لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، ولا يجوز {في الأرض} أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد، أو المصدر، أي استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر الموصول لا يجوّز بعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبراً، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه، أو في موضع الحال من مستقر، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر، وهو عامل معنوي، والحال متقدمة على جزأي الإسناد، فلا يجوز ذلك، وصار نظير: قائماً زيد في الدار، أو قائماً في الدار زيد، وهو لا يجوز بإجماع.

ص: 131

{وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ} ويتعلق إلى بمحذوف، أي ومتاع كائن إلى حين، أو بمتاع، أي واستمتاع إلى حين، وهو من باب الإعمال، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول، لأن متعلقه فضلة، فالأولى حذفه، ولا جائز أن يكون من أعمال الأول، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن على الأولى. والأفصح لا يقال إنه لا يجوز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان كل من مستقرّ ومتاع يقتضيه من جهة المعنى بسبب أن الأول لا يجوز أن يتعلق به إلى حين، لأنه يلزم من ذلك الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف، والمصدر موصول فلا يفصل بينه وبين معموله، لأن المصدر هنا لا يكون موصولاً، وذلك أن المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر بحرف مصدري مع الفعل، وهذا هو الموصول، وإنما كان موصولاً باعتبار تقديره بذلك الحرف الذي هو موصول بالفعل، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدر لا يكون موصولاً، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث، نحو وله: لزيد معرفة بالنحو، وبصر بالطب، وله ذكاء ذكاء الحكماء. فمثل هذا لا يتقدر بحرف مصدري والفعل، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف لم يحكم على الاسم بعده، لا برفع ولا بنصب، قالوا: فإذا قلت: يعجبني قيام زيد، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد، وممكن أن زيداً يعرا منه القيام، ولا يقصد فيه إلى إفادة المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى، أو يفعله فيما يستقبل، بل تكون النية في الإخبار كالنية في: يعجبني خاتم زيد المحدود المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر. على هذه الطريقة لا يقضى عليه برفع، ولا يؤكد، ولا ينعت، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما يستعمل مع المخفوضات الصحاح، انتهى.

ص: 132

فأنت ترى تجويزهم أن لا يكون موصولاً مع المصدر الذي يمكن أن يكون موصولاً، وهو قولهم: يعجبني قيام زيد، فكيف مع ما لا يجوز أن يكون موصولاً نحو: ما مثلنا به من قوله: له ذكاء ذكاء الحكماء، وبصر بالطب، ونحو ذلك، فكذلك يكون مستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولاً. ولا يمتنع أن يعمل في الجار والمجرور، وإن لم يكن موصولاً، كما مثلنا في قوله: له معرفة بالنحو، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح الأفعال، حتى الأسماء الأعلام، نحو قولهم: أنا أبو المنهال بعض الأحيان، وأنا ابن ماوية إذ جدّ النقر. وأما أن تعمل في الفاعل، أو المفعول به فلا. وأما إذا قلنا بمذهب الكوفيين، وهو أن المصدر إذا نون، أو دخلت عليه الألف واللام، تحققت له الاسمية وزال عنه تقدير الفعل، فانقطع عن أن يحدث إعراباً، وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب، فيمكن أيضاً أن يخرج عليه قوله تعالى:{مستقر ومتاع إلى حين} ، ولا يبعد على هذا التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما، لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في الظرف أو المجرور من الاسم العلم.

ص: 133

{جَمِيعاً} : حال من الضمير في {اهبطوا} ، وأبعد ابن عطية في قوله: كأنه قال هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً، فجعله نعتاً لمصدر محذوف، أو لاسم فاعل محذوف، كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره، لأنه قال: أولاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا. فإذا كان حالاً من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولاً، فكيف يقدر ثانياً؟ كأنه قال: هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً. فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره. وأبعد غيره أيضاً في زعمه أن التقدير: وقلنا اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعاً، فجعل ثم حالاً محذوفة لدلالة جميعاً عليها، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا عليه. ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول: أي فقلنا: إما يأتينكم.

ص: 134

{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى} وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد، والنون في يأتينكم نون التوكيد، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن:{فإما ترين} (مريم: 26)، وإما ينزغنك} (الأعراف: 200) ، فإما نذهبن} (الزخرف: 41) . قال أبو العباس المهدوي: إن: هي، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت، يعني ما لم تدخل النون، فما تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره. وتبعه ابن عطية في هذا فقال: فإن هي للشرط، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون، انتهى كلامه. وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما، هو مذهب المبرد والزجاج، زعما أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو: والله لأخرجن. وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة. وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها، وإن كان الإثبات أحسن. وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون، قال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بما، انتهي كلامه. وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما، قال الشنفري:

فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً

على رقة أحفى ولا أتنعل}

وقال آخر:

يا صاح إما تجدني غير ذي جدة

فما التخلي عن الإخوان من شيمي

وقال آخر:

زعمت تماضر أنني إما أمت

تسددا بينوها الأصاغر خلتي

والقياس يقبله، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون، نحو قول الشاعر:

إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلاً

فالله يحفظ ما تبقى وما تذر

فكما جاءت هنا زائدة بعد أن، فكذلك في نحو: إما تقم يأتينكم، مبني مفتوح الآخر. واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين: وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى «بالتكميل لشرح التسهيل» .

ص: 135

{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} فمن تبع: الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله: {فإما يأتينكم} . وقال السجاوندي: الجواب محذوف تقديره فاتبعوه، انتهى. فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده:{فمن تبع هداي} . وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن: من، في قوله: فمن تبع، شرطية، وأن جواب هذا الشرط هو قوله:{فلا خوف} ، فتكون الآية فيها شرطان. وحكي عن الكسائي أن قوله:{فلا خوف} جواب للشرطين جميعاً، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في «كتاب التكميل» ، ولا يتعين عندي أن تكون من شرطية، بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه:{والذين كفروا وكذبوا} (البقرة: 39) ، فأتى به موصولاً، ويكون قوله: فلا خوف} جملة في موضع الخبر. وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً، فإن الشروط المسوّغة لذلك موجودة هنا.

ص: 136

{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} : قرأ الجمهور بالرفع والتنوين، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في {ولا هم يحزنون} ، فرفعوا للتعادل. قال ابن عطية: والرفع على إعمالها إعمال ليس، ولا يتعين ما قاله، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين: أحدهما: أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً، ويمكن النزاع في صحته، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه. والثاني: حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما. ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم، فينفي كل فرد فرد من مدلول الخوف، وأما الرفع فيجوزه وليس نصاً، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر. وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال. وقد ذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس، فالأولى أن يكون مبتدأ، كما ذكرناه، إذا كان مرفوعاً منوناً، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون عري من التنوين لأنه على نية الألف واللام، فيكون التقدير: فلا الخوف عليهم، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب: سلام عليكم، بغير تنوين. قالوا: يريدون السلام عليكم، ويكون هذا التخريج أولى، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين، وإذا دخلت على المعارف لم تجز مجرى ليس، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي، وتأوله النحاة وهو:

وحلت سواد القلب لا أنا باغياً

سواها ولا في حبها متراخياً

وقد لحنوا أبا الطيب في قوله:

فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً

ص: 137

{ِوَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} وبآياتنا متعلق بقوله: {وكذبوا} ، وهو من إعمال الثاني، إن قلنا: إن كفروا، يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا: لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال، ويحتمل الوجهين. و {أولئك} مبتدأ، {وأصحاب} : خبر عنه، والجملة خبر عن قوله:{والذين كفروا} ، وجوزوا أن يكون أولئك بدلاً وعطف بيان، فيكون أصحاب النار، إذ ذاك، خبراً عن الذين كفروا.

{هم فيها خالدون} . ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية، كما جاء في مكان آخر:{أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها} (الأحقاف: 14) ، فيكون، إذ ذاك، لها موضع من الإعراب نصب. ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما انبهم في قوله: أولئك أصحاب النار} ، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران، بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك موضع من الإعراب. ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي هو: أولئك، فيكون قد أخبر عنه بخبرين: أحدهما مفرد، والآخر جملة، وذلك على مذهب من يرى ذلك، فيكون في موضع رفع.

{يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّىَ فَارْهَبُونِ * وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّىَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَآتُواْ الزَّكَوةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} .

ص: 138

ابن: محذوف اللام، وقيل: الياء خلاف، وفي وزنه على كلا التقديرين خلاف، فقيل: فعل، وقيل: فعل. فمن زعم أن أصله ياء جعله مشتقاً من البناء، وهو وضع الشيء على الشيء. والابن فرع عن الأب، فهو موضوع عليه، وجعل قولهم: البنوّة شاذ كالفتوّة، ومن زعم أن أصله واو، وإليه ذهب الأخفش، جعل البنوّة دليلاً على ذلك، ولكون اللام المحذوفة واواً أكثر منها ياء. وجمع ابن جمع تكسير، فقالوا: أبناء، وجمع سلامة، فقالوا: بنون، وهو جمع شاذ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد، فلم يقولوا: ابنون، ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع التكسير، فألحقت التاء في فعله، كما ألحقت في فعل جمع التكسير، قال النابغة:

قالت بنو عامر خالو بني أسد

يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام

وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغراً، قال يسدد:

أبينوها الأصاغر خلتي

وهو شاذ أيضاً.

{إسرائيل} : اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، وقد ذكروا أنه مركب من إسرا: وهو العبد، وإيل: اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه عبد الله، وذلك باللسان العبراني.

ص: 139

{أول} : عند سيبويه: أفعل، وفاؤه وعينه واوان، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد، لم يحفظ منه إلا: ددن، وققس، وببن، وبابوس. وقيل: إن بابوساً أعجمي، وعند الكوفيين أفعل من وأل إذا لجأ، فأصله أوأل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام، وهذا تخفيف غير قياسي، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. وقال بعض الناس: هو أفعل من آل يؤل، فأصله أأول، ثم قلب فصار أوأل أعفل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام. وهذان القولان ضعيفان، ويستعمل أول استعمالين: أحدهما: أن يجري مجرى الأسماء، فيكون مصروفاً، وتليه العوامل نحو: أفكل، وإن كان معناه معنى قديم، وعلى هذا قول العرب: ما تركت له أولاً ولا آخراً، أي ما تركت له قديماً ولا حديثاً. والاستعمال الثاني: أن يجري مجرى أفعل التفضيل، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظاً بها، أو مقدرة، وبالألف واللام، وبالإضافة. وقالت العرب: ابدأ بهذا أول، فهذا مبني على الضم باتفاق، والخلاف في علة بنائه ذلك لقطعه عن الإضافة، والتقدير: أول الأشياء، أم لشبه القطع عن الإضافة، والتقدير: أول من كذا. والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة، والخلاف إذا بني، أهو ظرف أو اسم غير ظرف؟ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفاً، أو لا يشترط ذلك فيه، وكل هذا مستوفى في علم النحو.

ص: 140

{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وانجزام المضارع بعد الأمر نحو: اضرب زيداً يغضب، يدل على معنى شرط سابق، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئاً آخر، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول: أضرب زيداً، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلاً، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه. وقد اختلف النحويون في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط، فإذا قلت: اضرب زيداً يغضب، ضمن اضرب معنى: أن تضرب، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف. وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط، ومعنى النيابة أنه كان التقدير: اضرب زيداً، إن تضرب زيداً يغضب، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها. وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنى إن. وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية، وفي الحقيقة، العمل إنما هو للشرط المقدر، وهو اختيار الفارسي والسيرافي، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل. والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو.

إياي: منصوب بفعل محذوف مقدراً بعده لانفصال الضمير، وإياي ارهبوا، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله، وهم من السجاوندي، إذ قدره وارهبوا إياي، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله، لأن قبله أمر، ولأن فيه تأكيداً، إذ الكلام مفروغ في قالب جملتين. ولو كان ضمير رفع لجاز، لكن يفوت هذان المعنيان. وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة.

ص: 141

والفاء في قوله: فارهبون، دخلت في جواب أمر مقدّر، والتقدير: تنبهوا فارهبون. وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه: تقول: كل رجل يأتيك فاضرب، لأن يأتيك صفة ههنا، كأنك قلت: كل رجل صالح فاضرب، انتهى. قال ابن خروف: قوله كل رجل يأتيك فاضرب، بمنزلة زيداً فاضرب، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل، فانتصب كل وهو أحسن من: زيداً فاضرب، انتهى. ولا يظهر لي وجه إلا حسنية التي أشار إليها ابن خروف، والذي يدل على أن هذا التركيب، أعني: زيداً فاضرب، تركيب عربي صحيح، قوله تعالى:{بل الله فاعبد} (الزمر: 66)، وقال الشاعر:

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

{وَإِيَّىَ فَارْهَبُونِ}

قال بعض أصحابنا: الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في: زيداً فاضرب، تنبه: فاضرب زيداً، ثم حذف تنبه فصار: فاضرب زيداً. فلما وقعت الفاء صدراً قدّموا الاسم إصلاحاً للفظ، وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، انتهى ما لخص من كلامه. وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير وإياي ارهبوا، تنبهوا فارهبون، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر، وليست مؤخرة من تقديم. والوجه الثاني: أن يكون التقدير وتنبهوا فارهبون، ثم قدّم المفعول فانفصل، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف، فالتقى بعد حذفه حرفان: الواو العاطفة والفاء، التي هي جواب أمر، فتصدّرت الفاء، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحاً للفظ، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولاً لفعل محذوف، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به، ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو: ضربتك إياك، وما في قوله:{بما أنزلت} موصولة، أي بالذي أنزلت، والعائد محذوف تقديره: أنزلته، وشروط جواز الحذف فيه موجودة.

ص: 142

وأبعد من جعل ما مصدرية، وأن التقدير: وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام. {مصدّقاً} . وعلى القول الأول يكون {لما معكم} من تمام {مصدقاً} ، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية، كهي في قوله تعالى:{فعال لما يريد} (هود: 107)(البروج: 16) . وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله: لما معكم} . ولا نقول: يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية، فهو كالحرف الزائد، وصار نظير: زيد ضارب، مجردة لهند، التقدير: ضارب هنداً مجردة، ثم تقدمت هذه الحال، وهذا جائز عندنا، ويبعد أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين: أحدهما: الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر. والوجه الثاني: أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به، ويراد به المنزل، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعدياً للمفعول. والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف، وهي حال مؤكدة، والعامل فيها أنزلت. وقيل: حال من ما في قوله: بما أنزلت، وهي حال مؤكدة أيضاً.

{وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} : أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة، فإنه يبقى مفرداً مذكراً، والنكرة تطابق ما قبلها، فإن كان مفرداً كان مفرداً، وإن كان تثنية كان تثنية، وإن كان جمعاً كان جمعاً، فتقول: زيد أفضل رجل، وهند أفضل امرأة، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال. ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا. وأجاز أبو العباس: إخوتك أفضل رجل، بالإفراد، ومنع ذلك الجمهور. وإن كانت صفة، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد، قال الشاعر: أنشده الفراء:

وإذا هم طعموا فألأم طاعم

ص: 143

وإذا هم جاعوا فشرّ جياع فأفرد بقوله: طاعم، وجمع بقوله: جياع. وإذا أفردت النكرة الصفة، وقبل أفعل التفضيل جمع، فهو عند النحويين متأوّل، قال الفراء: تقديره من طعم، وقال غيره: يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنى جمع، كأنه قال: فألأم طاعم، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه. وقال بعض الناس: يكون التجوز في الجمع، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم، فالمعنى: كل واحد من الزيدين أفضل عالم. وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع. وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى، فإذا قلت: أبوك أفضل عالم، فتقديره عندهم: أبوك الأفضل العالم، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى. وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو.

{وَإِيَّىَ فَاتَّقُونِ} : الكلام عليه إعراباً، كالكلام على قوله:{وإيّاي فارهبون. {وَلَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَطِلِ} . وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق، كقولك: خلطت الماء باللبن، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يتيمز الحق من الباطل، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة، كهي في كتبت بالقلم، قال: كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.

ص: 144

{وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} : مجزوم عطفاً على تلبسوا، والمعنى: النهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالجزم نهياً عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوباً على إضمار أن، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف. والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو، وهذا مذكور في علم النحو. وما جوزوه ليس بظاهر، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحباً على الجمع بين الفعلين، كما إذا قلت: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه: النهي عن الجمع بينهما، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما، وذلك منهي عنه، فلذلك رجح الجزم.

وقرأ عبد الله: {وتكتمون الحق} ، وخرج على أنها جملة في موضع الحال، وقدره الزمخشري: كاتمين، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع، إذا وقعت حالاً لا تدخل عليها الواو، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره: وأنتم تكتمون الحق، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك أن يقال: لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي، على من يرى جواز ذلك، وهو سيبويه وجماعة، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، وكلا التخريجين تخريج شذوذ.

{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومفعول تعلمون محذوف اقتصاراً، وقال ابن عطية: وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، انتهى.

ص: 145

ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق، قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، انتهى. يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله: وتكتمون.

والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلاً من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار.

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَبَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَجِعُونَ} .

والفعل منه: أمر يأمر، على: فعل يفعل، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول: مر زيداً وإتمامه قليل، أو مر زيداً، فإن تقدم الأمر واو أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدّى إلى مفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازاً تحفظ ولا يقاس عليها. {بالصبر} صبر يصبر على فعل يفعل، وأصله أن يتعدى لواحد. قال الشاعر:

فصبرت عارفة لذلك حرّة

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعدّ. وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، خلافاً لأبي زيد السهيلي، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء. والظنّ أيضاً يستعمل بمعنى: التهمة، فيتعدى إذ ذاك لواحد، قال الفراء: الظنّ يقع بمعنى الكذب، والبصريون لا يعرفون ذلك.

{وَتَنسَوْنَ} : معطوف على تأمرون.

{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} الجملة حالية.

ص: 146

{خَيْرٌ وَأَبْقَى} : مذهب سيبويه والنحويين: أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل {أو لم يسيروا} (الروم: 9)(فاطر: 44)(غافر: 21) أثم إذا ما وقع، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام، قدمت على حرف العطف، وذلك بخلاف هل. وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها، ولا تقديم ولا تأخير، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل} . فعلى قول الجماعة يكون التقدير: فألا تعقلون، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير: أتعقلون فلا تعقلون، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف.

{إِلَاّ عَلَى الْخَشِعِينَ} : استثناء مفرغ.

ويجوز في {الَّذِينَ} الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب، وذلك صفة مدح، فالقطع أولى بها.

والظن في كلا استعماليه من اليقين، أو الشك يتعدّى إلى اثنين، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وإنّ الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول: ظننت أن تقوم، وظننت أنك تقوم. وفي توجيه ذلك خلاف. مذهب سيبويه: أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب. ومذهب أبي الحسن وأبي العباس: أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول، والثاني مقدّر، فإذا قلت: ظننت أن زيداً قائم، فتقديره: ظننت قيام زيد كائناً أو واقعاً، والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو.

ص: 147

{أَنَّهُم مُّلَقُوا رَبِّهِمْ} ، الملاقاة: مفاعلة تكون من اثنين، لأن من لاقاك فقد لاقيته. وقال المهدوي والماوردي وغيرهما: الملاقاة هنا، وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك، فهي من الواحد كقولهم: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقى، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل، انتهى كلامه. ويحتاج إلى شرح، وذلك أنه ضعفه من حيث أن مادة لقي تتضمن معنى الملاقاة، بمعنى أن وضع هذا الفعل، سواء كان مجرداً أو على فاعل، معناه واحد من حيث أن من لقيك فقد لقيته، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن يكون لواحد. وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد، وهذا أحد معاني فاعل، وهو أن يوافق الفعل المجرد. وقول ابن عطية: وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك. وقوله: بل فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد، وهو خلاف فاعل، لأنه يدل على الاشتراك، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من باب: عاقبت اللص، حيث أن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل. وهذه الإضافة غير محضة، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال، أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول، وإضافته إليه.

ص: 148

{يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لَاّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِذْ نَجَّيْنَكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} .

{فَضَّلْتُكُمْ} وفعله فعّل يُفَعِّلُ، وأصله أن يتعدى بحرف الجر، وهو على ثم بحذف على، على حد قول الشاعر، وقد جمع بين الوجهين:

وجدنا نهشلاً فضلت فقيما

كفضل ابن المخاض على الفصيل

وأما في الفضلة من الشيء، وهي البقية، فيقال: فضل يفضل، كالذي قدمناه، وفضل يفضل، نحو: سمع يسمع، وفضل يفضل، بكسرها من الماضي، وضمها من المضارع، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها، والصواب الفتح.

الآل: قيل بمعنى الأهل، وزعم أن ألفه بدل عن هاء، وأن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة، وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة، والآل من يؤول من قرابة أو ولي أو مذهب، فألفه بدل من واو. ولذلك قال يونس: في تصغيره أويل، ونقله الكسائي نصاً عن العرب، وهذا اختيار أبي الحسن بن الباذش، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن الهاء تبدل همزة، كما ذكر أن الهمزة تبدل هاء في: هرقت، وهيا، وهرحت، وهياك. وقد خصوا آلا بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالباً، فلا يقال: آل الإسكاف والحجام، قال الشاعر:

نحن آل اللَّه في بلدتنا

لم نزل آلا على عهد إرم

ص: 149

قال الأخفش: لا يضاف آل إلا إلى الرئيس الأعظم، نحو: آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة، قيل: وفيه نظر، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان فقالوا: آل المدينة، وآل البصرة. وقال الكسائي: لا يجوز أن يقال: فلان من آل البصرة، ولا من آل الكوفة، بل يقال: من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة، انتهى قوله. وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس وإلى الضمير، قال الشاعر:

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

وقال هدبة:

أنا الفارس الحامي حقيقة والدي

وآلي كما تحمي حقيقة آلكا

وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر، فمنع من ذلك الكسائي، وأبو جعفر النحاس، وأبو بكر الزبيدي، وأجاز ذلك غيرهم. وجمع بالواو والنون رفعاً وبالياء والنون جراً ونصباً، كما جمع أهل فقالوا: آلون.

{وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ} ثم عطف التفضيل على النعمة، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف، وأنه يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل، وقال الشاعر:

أكر عليهم دعلجاً ولبانه

إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما دعلج: هنا اسم فرس، ولبانه: صدره.

{وَاتَّقُواْ يَوْمًا لَاّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} وانتصاب يوماً، إما على الظرف والمتقى محذوف تقديره: اتقوا العذاب يوماً، وإما على المفعول به اتساعاً أو على حذف مضاف، أي عذاب يوم، أو هول يوم. وقيل معناه: جيئوا متقين، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء، فإذ ذاك ينتصب يوماً على الظرف.

ص: 150

قرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ، أي أغنى، وقيل جزا، وأجزا، بمعنى واحد، وهذه الجملة صفة لليوم، والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير: لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل، ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولاً اتساعاً. وهذا اختيار أبي عليّ، وإيّاه نختار. قال المهدوي: والوجهان، يعني تقديره: لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. وقال الكسائي: لا يكون المحذوف إلا لهاء، قال: لا يجوز أن تقول: هذا رجل قصدت، ولا رأيت رجلاً أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه، انتهى. وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز، ومنه قوله:

فما أدري أغيرهم تناء

وطول العهد أم مال أصابوا

يريد: أصابوه، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه، أو الضمير هو الظاهر، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط، ولا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها ويوم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: واتقوا يوماً يوم لا تجزي، فحذف يوم لدلالة يوماً عليه، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى:{هذا يوم لا ينطقون} (المرسلات: 35) ، ونظير يوم لا تملك، لا تحتاج الجملة إلى ضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلاً، وهو بدل كل من كل، ومنه قول الشاعر:

رحم الله أعظماً دفنوها

بسجستان طلحة الطلحات}

ص: 151

في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة. وقد قالت العرب: يعجبني الإكرام عندك سعد، بنية: يعجبني الإكرام إكرام سعد. وحكى الكسائي عن العرب: أطعمونا لحماً سميناً شاة ذبحوها، أي لحم شاة. وحكى الفراء عن العرب: أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنه، الدقيق عظمه، على تقديره: لو تعلمون علم الكبيرة سنه، فحذف الثاني اعتماداً على الأول، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في: يعجبني القيام زيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب.

ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة، فلا يظهر فيها إعراب، فيتنافر مع إعراب ما قبله، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى. ولم أر أحداً من المعربين والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا التخريج، بل هم مجمعون على أن الجملة صفة ليوم، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضاً من الجمل المعطوفة على {لا تجزي} ، أي ولا يقبل منها شفاعة فيه، ولا يؤخذ منها عدل فيه، ولا هم ينصرون فيه، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلى إضمار هذه الرّوابط. وانتصاب شيئاً على أنه مفعول به، أي لا يقضي شيئاً، أي حقاً من الحقوق، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر، أي: ولا تجزي شيئاً من الجزاء، قاله الأخفش، وفيه إشارة إلى القلة، كقولك: ضربت شيئاً من الضرب.

ص: 152

{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} ويحتمل رفع هذا الضمير وجهين من الإعراب. أحدهما: وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر. والوجه الثاني: وهو أغمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله، يفسر فعله الفعل الذي بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وذلك أن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل، كهمزة الاستفهام. فكما يجوز في: أزيد قائم، وأزيد يضرب، الرفع على الاشتغال، فكذلك هذا، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فعلية.

والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب، فالأفصح الحمل على الفعل، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولاً، ويقوي عود الضمير إلى نفس الثانية بناء الفعل للمفعول، إذا لو كان عائداً على نفس الأولى لكان مبنياً للفاعل، كقوله: لا تجزي. ومن المفسرين من جعل الضمير في ولا هم عائداً على النفسين معاً، قال: لأن التثنية جمع قالوا.

ص: 153

{وَإِذْ نَجَّيْنَكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ} : تقدم الكلام على إذ في قوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل} (البقرة: 30) . ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولاً به بإضمار اذكر أو ادّعى زيادتها، فقياس قوله هناك إجازته هنا، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا أن ادّعى مدّع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا، كأنه قال: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم، ووقت تنجيتكم. ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي: واتقوا يوماً} . وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولاً به بأذكر، لا ظاهرة ولا مقدرة، لأن ذلك تصرف فيها، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو. وإذا كان كذلك، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف، ويكون العامل فيه فعلاً محذوفاً يدل عليه ما قبله، تقديره: وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه.

{يَسُومُونَكُمْ} : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال: أي سائميكم، وهي حال من آل فرعون. {وسوء العذاب} : أشقه وأصعبه وانتصابه، مبني على المراد بيسومونكم، وفيه للمفسرين أقوال: السوم: بمعنى التكليف أو الإبلاء، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولاً ثانياً السام، أي يكلفونكم.

وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون {سُوءَ الْعَذَابِ} مفعولاً على إسقاط حرف الجر. وقال بعض الناس: ينتصب سوء العذاب نصب المصدر، ثم قدره سوماً شديداً.

{يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} ويذبحون بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو قوله تعالى:{يلق أثاماً يضاعف له العذاب} (الفرقان: 68)، وقول الشاعر:

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا}

ص: 154

ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف لثبوته في إبراهيم. وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف. وقال الفراء: الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب، غير الذبح، ويجوز أن يكون يذبحون: في موضع الحال، من ضمير الرفع في: يسومونكم، ويجوز أن يكون مستأنفاً.

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَكُمْ وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَلِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .

{موسى} : اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية. يقال: هو مركب من مو: وهو الماء، وشاو: وهو الشجر. فلما عرّب أبدلوا شينه سيناً، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي. وقد اختلفوا في اشتقاقه، فقال مكيّ: موسى مفعل من أوسيت، وقال غيره: هو مشتق من ماس يميس، ووزنه: فعلى، فأبدلت الياء واواً الضمة ما قبلها، كما قالوا: طوبى، وهي من ذوات الياء، لأنها من طاب يطيب. وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين. وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل، وذلك فيما لا ينصرف. واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً، واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى، بالإجماع على صرفه نكرة، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة. الأربعون: ليس بجمع سلامة، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع، ومدلوله معروف، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم.

ص: 155

الاتخاذ: افتعال من الأخذ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء، فتقول: ايتخذ كهمزة إيمان إذ أصله: إإمان، وكقولهم: ائتزر: افتعل من الإزار، فمتى كانت فاء الكلمة واواً أو ياء، وبنيت افتعل منها، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال، فتقول: اتصل واتسر من الوصل واليسر، فإن كانت فاء الكلمة همزة، وبنيت افتعل، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها. هذ هو القياس، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم، قالوا: إتمن، وأصله: إئتمن. وعلى هذا جاء: اتخذ. ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي، عرف بابن النحاس، رحمه الله، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر: أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه لغة أنه يقال: وخذ بالواو، فجاء هذا على الأصل في البدل، وإن كان مبنياً على اللغة القليلة، وهذا أحسن، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة، وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة. وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية، إذ قلت: قالت العرب تخذ بكسر الخاء، بمعنى: أخذ، قال: تعالى: {لتخذت عليه أجراً} (الكهف: 77) ، في قراء من قرأ كذلك، وأنشد الفارسي، رحمه الله:

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

ص: 156

نسيفاً كأفحوص القطاة المطوّق} فعلى قوله: التاء أصل، وبنيت منه افتعل، فقلت: اتخذ، كما تقول: اتبع، مبنياً من تبع، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ، فزعم أن أصله: اتخذ، وحذف كما حذف اتقى، فقالوا: تقى، واستدل على ذلك بقولهم: تخذ بفتح التاء مخففة، كما قالوا: يتقى ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة. ورد السيرافي هذا القول وقال: لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء، بل كانت تكون مفتوحة، كقاف تقي، وأما يتخذ فمحذوف مثل: يتسع، حذف من المضارع دون الماضي، وتخذ بناء أصلي، انتهى. وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو: تخذ يتخذ تخذاً، قال الشاعر:

ولا تكثرن اتخذ العشار فإنها

تريد مباآت فسيحاً بناؤها

وذكر المهدوي في «شرح الهداية» : أن الأصل واو مبدلة من همزة، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، فصار في اتخذ أقوال: أحدها: التاء الأولى أصل. الثاني: أنها بدل من واو أصلية. الثالث: أنها بدل من تاء أبدلت من همزة. الرابع: أنها بدل من واو أبدلت من همزة، واتخذ تارة يتعدى لواحد، وذلك نحو قوله تعالى:{اتخذت بيتاً} (العنكبوت: 41)، وتارة لاثنين نحو قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} (الفرقان: 43) : بمعنى صير. العجل} : معروف، وهو ولد البقرة الصغير الذكر. بعد: ظرف زمان، وأصله الوصف، كقبل، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة، ويعرب بحركتين، فإذا قلت: جئت بعد زيد، فالتقدير: جئت زماناً بعد زمان مجيء زيد، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها.

شكر يشكر شكراً وشكوراً، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها، وهو قسم برأسه، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك. وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر، ثم أسقط اتساعاً.

ص: 157

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} : معطوف على: وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف. بكم: متعلق بفرّقنا، والباء معناها: السبب، أي بسبب دخولكم، أو المصاحبة: أي ملتبساً، كما قال:

تدوس بنا الجماجم والتريبا

أي ملتبسة بنا.

{وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ} والهمزة في أغرقنا للتعدية، ويعدى أيضاً بالتضعيف.

{وأنتم تنظرون} : جملة حالية.

{وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا، على أنها هي الموعودة، أو على حذف مضاف التقدير تمام، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه، قاله الأخفش، فيكون مثل قوله:

فواعديه سر حتى مالك

أو النقا بينهما أسهلا أي إتيان سر حتى مالك، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه، والمواعدة لم تقع كذلك. وليلة: منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة، نحو:

على أنني بعدما قد مضى

ثلاثون للهجر حولاً كميلا وعشرين منها أصبعاً من ورائنا

ولا تعريف للتمييز، خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة. وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب: ما فعلت العشرون الدرهم، وما جاء نحو: هذا مما يدل على التعريف، وذلك مذكور في علم النحو.

ص: 158

{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلاً، كما قال:{واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار} (الأعراف: 148) ، على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير: يكون ثم جملة محذوفة يدل علىها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلهاً، ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفاً لدلالة المعنى، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلهاً، والأرجح القول الأوّل، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع، وفي: اتخذ قوم موسى} (الأعراف: 148)، وفي: اتخذوه وكانوا ظالمين} (الأعراف: 148)، وفي: إن الذين اتخذوا العجل} (الأعراف: 152)، وفي قوله في هذه السورة أيضاً: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} (البقرة: 54) ، لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة.

{وأنتم ظالمون} : جملة حالية.

{وَإِذْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَالْفُرْقَانَ} أو القرآن. والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلّمحتى آمن به، حكاه ابن الأنباري، أو القرآن على حذف مفعول، التقدير: ومحمداً الفرقان، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب، وقالوا: هو كقول الشاعر:

وزججن الحواجب والعيونا

التقدير: وكحلن العيون. ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة، لأنه لا دليل على هذا المحذوف، ويصير نظير: أطعمت زيداً خبزاً ولحماً، ويكون: اللحم أطعمته غير زيد، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك، وليس مثل ما مثلوا به من: وزججن الحواجب والعيون، لما هو مذكور في النحو.

ص: 159

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

{خيرٌ} : هي أفعل التفضيل، حذفت همزتها شذوذاً في الكلام فنقص بناؤها فانصرفت، كما حذفوها شذوذاً في الشعر من أحب للتي للتفضيل، وقال الأحوص:

وزادني كلفاً بالحب أن منعت

وحب شيء إلى الإنسان ما منعا

وقد نطقوا بالهمزة في الشعر، قال الشاعر:

بلال خير الناس وابن الأخير

واسم المفعول، تقول: يرى وترى ونرى وأرى زيداً، وأريت زيداً، ورَزيداً، ومر زيداً، ومرى. وتثبت في الرؤية والرأي والرؤيا والمرأى والمرئي والمرأة واسترأى وأرأى من كذا، وفي ما أرأاه وأرئه في التعجب. وهذا الحذف الذي ذكرناه هو إذا كان مدلول رأى ما ذكرناه من الإبصار في يقظة أو نوم أو الاعتقاد، فإن كانت رأى بمعنى أصاب رئته، فلا تحذف الهمزة، بل تقول: رآه يرآه: أي أصاب رئته، نقله صاحب كتاب الأمر. ولغة تميم إثبات الهمزة فيما حذف منه غيرهم، فيقولون: يرأى وأرئي؟ وقال بعض العرب: فجمع بين حذف الهمزة والإثبات:

ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر

ومن يتمل العيش يرأى ويسمع

ص: 160

واللام في قوله: {لقومه} ، للتبليغ، و {يا قوم} : منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وقد حذفت واجتزىء بالكسرة عنها، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن. وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ: يا عبادي فاتقون، بإثبات الياء ساكنة، ويجوز فتحها، فتقول: يا غلامي، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفاً، فتقول: يا غلاماً. وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها، فتقول: يا غلام، وأجازوا ضمه وهو على نية الإضافة فتقول: يا غلام، تريد: يا غلامي. وعلى ذلك قراءة من قرأ: قل {ربّ احكم بالحق} (الأنبياء: 112)، قال ربّ السجن أحب إليّ} (يوسف: 33) ، هكذا أطلقوا، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلاً أو اسماً، إن كان فعلاً فلا يجوز بناؤه على الضم، ومثل الفعل بمثل: يا ضاربي، فلا يجيز في هذا يا ضارب.

والباء في {باتخاذكم العجل} سببية.

وقرأ الجمهور: بظهور حركة الإعراب في بارئكم، وروي عن أبي عمرو: الاختلاس، روى ذلك عنه سيبويه، وروى عنه: الإسكان، وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة، فإنه يجوز تسكين مثل إبل، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل، ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن، وما ذهب إليه ليس بشيء، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولغة العرب توافقه على ذلك، فإنكار المبرد لذلك منكر، وقال الشاعر:

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثماً من الله ولا واغل

وقال آخر:

رحت وفي رجليك ما فيهما

وقد بداهنك من المئزر

وقال آخر:

أو نهر تيرى فما تعرفكم العرب

ص: 161

وقد خلط المفسرون هنا في الردّ على أبي العباس، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركة إعراب. قال الفارسي: أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمرو ما حكاه أبو زيد من قوله تعالى:{ورسلنا لديهم يكتبون} (الزخرف: 80) . وقراءة مسلمة ابن محارب: وبعولتهنّ أحقّ بردّهن في ذلك} (البقرة: 288) . وذكر أبو عمرو: أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحوه، ومثل تسكين بارئكم، قراءة حمزة، ومكر السيىء} (فاطر: 43) . وقرأ الزهريّ: باريكم، بكسر الياء من غير همز، وروي ذلك عن نافع. ولهذه القراءة تخريجان أحدهما:} أن الأصل الهمز، وأنه من برأ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس، إذ قياس هذا التخفيف جعلها بين بين. والثاني: أن يكون الأصل باريكم، بالياء من غير همز، ويكون مأخوذاً من قولهم: بريت القلم، إذا أصلحته، أو من البري: وهو التراب، ثم حرك حرف العلة، وإن كان قياسه تقديراً لحركة في مثل هذا رفعاً وجراً، وقال الشاعر:

خبث الثرى كأبي الأزيد

وهذا كله تعليل شذوذ.

والفاء في قوله: {فاقتلوا أنفسكم} ، إن قلنا: إن التوبة هي نفس القتل، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، فتكون هذه الجملة بدلاً من قوله، فتوبوا، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية. وإن قلنا: إن القتل هو تمام توبتهم، فتكون الفاء للتعقيب. {لكم} : متعلق بخير إن كان للتفضيل، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف، أي خير كائن لكم. والتخريجان يجريان في نصب قوله:{عند بارئكم} .

ص: 162

{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} : ظاهره أنه إخبار من الله تعالى بالتوبة عليهم، ولا بد من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم. وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو: إذ في قوله: {وإذ قال موسى لقومه} (البقرة: 67) . وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجاً تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة، هي وحرف الشرط، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدليل عليه. وأما فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفياً بلا في الكلام الفصيح، نحو قوله:

فطلقها فلست لها بكفؤ

وإن لا يعل مفرقك الحسام}

التقدير: وأن لا تطلقها يعل، فإن كان غير منفي بلا، فلا يجوز ذلك إلا في ضرورة، نحو قوله:

سقته الرواعد من صيف وإن

من خريف فلن يعدما

التقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، وذلك على أحد التخريجين في البيت، وكذلك حذف فعل الشرط وفعل الجواب دون أن يجوز في الضرورة، نحو قوله:

قالت بنات العمّ يا سلمى وإن

كان عيياً معدماً قالت وإن

التقدير: وإن كان عيياً معدماً أتزوجه. وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معاً، وإبقاء الجواب، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب. وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله ولتعليل ما ذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو. وظاهر قوله:{فتاب عليكم} أنه كما قلنا: إخبار عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك. وقال ابن عطية: معناه على الباقين، وجعل الله القتل لمن قتل شهادة، وتاب على الباقين وعفا عنهم، انتهى كلامه. {إنه هو التواب الرحيم} : تقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله تعالى في قصة آدم: {فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} (البقرة: 37) ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

ص: 163

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى} : هذه محاورة بني إسرائيل لموسى، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا. والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين، قاله ابن مسعود وقتادة، وذكر في اختيار السبعين كيفية ستأتي، إن شاء الله تعالى، في مكانها في الأعراف. وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمه الله، قاله ابن زيد. وقيل: الذين انفردوا مع هارون ولم يعبدوا العجل.

{حتى نرى الله جهرة} حتى: هنا حرف غاية، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرّؤية أن تكون مناماً أو علماً بالقلب. والمعنى حتى نرى الله عياناً، وهو مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية، فانتصابها على حدّ قولهم: قعد القرفصاء، وفي نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو. والأصح أن يكون منصوباً بالفعل السابق يعدى إلى النوع، كما تعدّى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير الحذف، أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو: رجل صوم، لأن المبالغة لا تراد هنا.

{وأنتم تنظرون} : جملة حالية.

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} : مفعول على إسقاط حرف الجرّ، أي بالغمام، كما تقول: ظللت على فلان بالرداء، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللاً. فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه، بجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم: عدّلت زيداً، أي جعلته عدلاً، فكذلك هذا معناه: جعلنا الغمام عليكم ظلة، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل، فيكون التضعيف أصله للتعدية، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى، فكان الأصل: وظللناكم، أي أظللناكم بالغمام، نحو ما ورد في الحديث:«سبعة يظلهم الله في ظله» ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهه مما يمكن تعديته بعلى، فعداه بعلى. وقد تقدم ذكر معاني فعل.

ص: 164

{من طيبات} : من: للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له. وقول من زعم أنها للبدل، إذ هو معنى مختلف في إثباته، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك.

وما في قوله: {ما رزقناكم} موصولة، والعائد محذوف، أي ما رزقناكموه، وشروط الحذف فيه موجودة، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير، ويكون يطلق المصدر على المفعول، والأول أسبق إلى الذهن.

{وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : لكن هنا وقعت أحسن موقع، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب، نحو قوله تعالى:{وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) ، وكذلك العكس، نحو قوله تعالى: ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} (البقرة: 13) ، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون يدل عليه ما قبلها بوجه ما.

وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين، ويليه أن تقع بين النقيضين، ويليه أن تقع بين الخلافين، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين. أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك: ما زيد قائم، ولكن هو ضاحك، وقد تكلم على ذلك في علم النحو. واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو: ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو. وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها، نحو قوله:{وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) } ويظلمون: صورته صورة المضارع، وهو ماض من حيث المعنى، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.

ص: 165

ولم يذكره ابن مالك في «التسهيل» ولا فيما وقفنا عليه من كتبه، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله:{أنفسهم} ، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيداً لما يدل عليه ما قبله. فليس ذكره ضروريًّا، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد، وذلك أنك تقول: ما ضربت زيداً ولكن ضربت عمراً، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافياً لما قبلها، ولذلك يجوز أن تقول: ما ضربت زيداً ولكن عمراً، فلست مضطراً لذكر العامل. فلما كان معنى قوله:{ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} في معنى: {ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) ، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطراً إليه، إذ لو قيل: وما ظلمونا ولكن أنفسهم، لكان كلاماً عربياً، ويكتفى بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.

ص: 166

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَيَكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْاْ فِى الأٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} .

ص: 167

خطايا: فجمع خطية مشددة عند الفراء، كهدية وهدايا، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل. فعند سيبويه: أصله خطائيّ، مثل: صحائف، وزنه، فعائل، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار: خطأي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فصار: خطآء، فوقعت همزة بين ألفين، والهمزة شبيهة بالألف فصار: كأنه اجتمع ثلاثة أمثال، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا، كهدايا ومطايا. وعند الخليل أصله: خطايىء، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي، المقلوب من فعائل، ثم عمل فيه العمل السابق في قول سيبويه.

وملخص ذلك: أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة، على رأي سيبويه، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي هي لام الكلمة، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة في المفرد، على رأي الخليل. وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب «التكميل لشرح التسهيل» من تأليفنا.

التبديل: تغيير الشيء بآخر. تقول: هذا بدل هذا: أي عوضه، ويتعدّى لاثنين، الثاني أصله حرف جر: بدلت ديناراً بدرهم: أي جعلت ديناراً عوض الدرهم، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول: بدلت زيداً ديناراً بدرهم: أي حصلت له ديناراً عوضاً من درهم، وقد يجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، قال تعالى:{فأولئك يبدّل الله سيئاتهم} (الفرقان: 70) ، أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات، وقد وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل، والمنصوب هو الذاهب، حتى قالوا: ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته، وصوابه: لو أبدل ظاء بضاد.

ص: 168

العصا: مؤنث، والألف منقلبة عن واو، قالوا: عصوان، وعصوته: أي ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذاً، قالوا: أعص، أصله أعصوو، على فعول قياساً، قالوا: عصى، أصله عصوو، ويتبع حركة العين حركة الصاد، قال الشاعر:

ألا إن لا تكن إبل فمعزى

كائن قرون جلتها العصى

اثنتا: تأنيث اثنين، وكلاهما له إعراب المثنى، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد، فيقال: أثن، ولا أثنة، ولامهما محذوفة، وهي ياء، لأنه من ثنيتا.

أناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإذا سمي به مذكر صرف، وقول الشاعر:

وإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي

منع صرفه، إما لأنه علم على مؤنث، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين. مشرب: مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه: كسرت ودخل، أو أعلت: كرمى وغزا. وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون.

{مَّا سَأَلْتُمْ} سأل يسأل: على وزن خاف يخاف، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب. {سلهم أيّهم بذلك زعيم} ، قالوا: لأن السؤال سبب إلى العلم فأجري مجرى العلم.

النبيء: مهموز من أنبأ، فعيل: بمعنى مفعل، كسميع من أسمع، وجمع على النبآء، ومصدره النبوءة، وتنبأ مسيلمة، كل ذلك دليل على أن اللام همزة. وحكى الزهراوي أنه يقال: نبؤ، إذا ظهر فهو نبيء، وبذلك سمي الطريق الظاهر: نبيئاً. فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل، كشريف من شرف، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز، ثم سهل. وقيل: مشتق من نبا ينبو، إذا ظهر وارتفع.

ص: 169

وانتصاب هذه على ظرف المكان، لأنه إشارة إلى ظرف المكان، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول: ضربت هذا الضرب، وصمت هذا اليوم. هذا مذهب سيبويه في دخل، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في، فإن كان الظرف مجازياً تعدّت بفي، نحو: دخلت في غمار الناس، ودخلت في الأمر المشكل. ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل: دخلت البيت، مفعول به لا ظرف مكان، وهي مسألة تذكر في علم النحو. والألف واللام في القرية للحضور، وانتصاب القرية على النعت، أو على عطف البيان، كما مرّ في إعراب الشجرة من قوله:{ولا تقربا هذه الشجرة} (البقرة: 35)(الأعراف: 19) ، وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه، فهي في: ولا تقربا هذه} مفعول به، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه.

{وَادْخُلُواْ الْبَابَ} : الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية.

{سُجَّدًا} : نصب على الحال من الضمير في ادخلوا.

والحال المقدرة موجودة في لسان العرب. من ذلك ما في كتاب سيبويه: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً. وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيراً، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة، كان أولى.

{وَقُولُواْ حِطَّةٌ} قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله:

صبر جميل فكلانا مبتلي

والأصل صبراً. انتهى كلامه، وهو حسن. ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي:

صبراً جميلاً فكلانا مبتلي

بالنصب. والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر:

إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة

معتقة مما تجيء به التجر

ص: 170

روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة، وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به، إلا إن كان المفرد مصدراً نحو: قلت قولاً، أو صفة لمصدر نحو: قلت حقاً، أو معبراً به عن جملة نحو: قلت شعراً وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول، فصار كالقهقرى من الرجوع، وحطة ليس واحداً من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو الإسناد المعنوي.

أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكي به الجمل لا المفردات، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى:{يقال له إبراهيم} (الأنبياء: 60) إلى تأويل، وأما تشبيهه إياه بقوله:

سمعت الناس ينتجعون غيثاً

وجدنا في كتاب بني تميم

أحق الخيل بالركض المعار}

فليس بسديد، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفرداً وقد يكون جملة. وأما القول فلا يقع إلا على الجمل، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره، وليس حطة منها.

{وَقُولُواْ} وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر. وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) ، وذكرنا الخلاف في ذلك.

ص: 171

{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وهذه الجملة معطوفة على: {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} ، وليست معطوفة على نغفر فتكون جواباً، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الأعراف في قوله {سنزيد} ؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجداً. والقول حطة، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله. {قولاً غير الذي قيل لهم} (الأعراف: 161) :} ولما كان محذوفاً ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها. والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولاً غيره، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غير ليدل على أن المحذوف هو هذا المظهر، وهو الذي قيل لهم. وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل، والمنصوب هو الحاصل. {بما كانوا} ، ما: مصدرية التقدير بكونهم مضى {يفسقون} . وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، وهو بعيد. فيفسقون يحتمل الحال، وإن كان قد وقع على ما مى من المخالفات التي فسقوا بها، فهو مضارع وقع موضع الماضي، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام.

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} وقيل: مفعول استسقى محذوف، أي استسقى موسى ربه، فيكون المستسقى منه هو المحذوف، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله:{إذ استسقاه قومه} (الأعراف: 160)، أي طلبوا منه السقيا. وقال بعض الناس: وحذف المفعول تقديره استسقى ماء، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب، كان يسمع من كلامهم: استسقى زيد ربه الماء، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقى منه ومرة إلى المستسقي، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب.

ص: 172

{فَانفَجَرَتْ} : الفاء للعطف على جملة محذوفة، التقدير: فضرب فأنفجرت، كقوله تعالى:{أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} (الشعراء: 63) أي فضرب فانفلق.

وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل: فانفلق، هي الفاء التي في ضرب، وأن المحذوف هو المعطوف عليه، وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل. وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه، وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود، قال تعالى:{فأرسلون يوسف أيّها الصّدّيق} (يوسف: 45)، التقدير: فأرسلوه فقال: فحذف المعطوف عليه والمعطوف، وإذا جاز حذفهما معاً، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى. وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف، بل هي جواب شرط محذوف، قال: فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: فتاب عليكم} (البقرة: 54) ، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ، أه كلامه.

ص: 173

وقد تقدّم لنا الردّ على الزمخشري في هذا التقدير في قوله: {فتاب عليكم، بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز، وبينا ذلك هناك، وفي قوله أيضاً إضمار قد إذ يقدر، فقد تاب عليكم، وقد انفجرت، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك، إنما تكون بغير فاء، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهاره قد، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضياً لفظاً ومعنى، نحو قوله: وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك، وإذا كان ماضياً لفظاً ومعنى، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط. ومعلوم أن الانفجار على ما قدّر يكون مترتباً على أن يضرب، وإذا كان مترتباً على مستقبل، وجب أن يكون مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضياً نحو الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إليّ فق دأحسنت إليك، ويحتاج إلى تأويل، كما ذكرنا. وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي نحو: إن زرتني فغفر الله لك. وأيضاً فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق، ولذلك قال: قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا، وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع، إذ يصير مستقبلاً لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلاً عن وجوده، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي، وفاسد من حيث المعنى، فوجب طرحه، وأين هذا من قوله: وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ؟

{منه} متعلق بقوله: فانفجرت، ومن هنا لابتداء الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب.

ص: 174

{اثنتا عشرة} : التاء في اثنتا للتأنيث، وفي ثنتا للإلحاق، وهذه نظير ابنة وبنت. وعشرة في موضع خفض بالإضافة، وهو مبني لوقوعه موقع النون، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز. ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه رفعاً وانقلابها نصباً وجراً، وأن عشرة مبني؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها، فلا يقال: اثنتا عشرتك. وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني، ولم يجعل الإنقلاب دليل الإعراب.

{عيناً} : منصوب على التمييز، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور، وأجاز الفراء أن يكون جمعاً.

{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} وعلم هنا متعدّية لواحد أجريت مجرى عرف، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب.

{مِن رِّزْقِ اللَّهِ} ، من: لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض.

{يُخْرِجْ لَنَا} : جزمه على جواب الأمر الذي هو ادع، وقد مر نظيره في {أوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) . وقيل: ثم محذوف تقديره: وقل له اخرج فيخرج، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج. وقيل: جزم يخرج بلام مضمرة، وهي لام الطلب، أي ليخرج، وهذا عند البصريين لا يجوز. مما تنبت الأرض} : مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضية: أي مأكولاً مما تنبت، هذا على مذهب سيبويه. وقال الأخفش: من زائدة، التقدير: ما تنبت، وما موصولة، والعائد محذوف تقديره، تنبته، وفيه شروط جواز الحذف، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره: من إنبات الأرض. قال أبو البقاء: لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات، لأن الإنبات مصدر، والمحذوف جوهر، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز، إذ المنبت هو الله تعالى، لكنه لما جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها.

ص: 175

{مِن بَقْلِهَا} : هذا بدل من قوله: {مما تنبت الأرض} ، على إعادة حرف الجرّ، وهو فصيح في الكلام، أعني أن يعاد حرف الجرّ في البدل. فمن على هذا التقدير تبعيضية، كهي في مما تنبت، ويتعلق بيخرج، إمّا الأولى، وإمّا أخرى مقدّرة على الخلاف الذي في العامل في البدل، هل هو العامل الأول، أو ذلك على تكرار العامل؟ والمشهور هذا الثاني، وأجاز المهدويّ أيضاً، وابن عطية، وأبو البقاء أن تكون من في قوله:{من بقلها} لبيان الجنس، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص، ثم اختلفوا، فقال أبو البقاء: موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره: مما تنبته الأرض كائناً من بقلها، وقدّم ذكر هذا الوجه قال: ويجوز أن تكون بدلاً من ما الأولى بإعادة حرف الجر. وأما المهدوي، وابن عطية فزعما مع قولهما: إن من في {من بقلها} بدل من قوله: {مما تنبت} ، وذلك لأن من في قوله {مما تنبت} للتبعيض، ومن في قوله {من بقلها} على زعمهما لبيان الجنس. فقد اختلف مدلول الحرفين، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين، فلا يجوز البدل إلا إن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله:{مما تنبت الأرض} لبيان الجنس، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل على كونها لبيان الجنس. والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض، وأمّا أن تكون لبيان الجنس، فقد أباه أصحابنا وتأوّلوا ما استدلّ به مثبت ذلك.

ص: 176

{الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ} ، والذي: مفعول أتستبدلون، وهو الحاصل، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل، كما قررناه في غير مكان. {هو أدنى} : صلة للذي، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين، إذ لا طول في الصلة، وأدنى: خبر عن هو، وهو: أفعل التفضيل، ومن وما دخلت عليه حذفاً للعلم، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبراً، فإن وقع غير خبر مثل كونه حالاً أو صفة قل الحذف وتقديره: أدنى من ذلك الطعام الواحد، وحسن حذفهما أيضاً كون المفضل عليه مذكوراً بعد ذلك، وهو قوله:{بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ} .

{اهْبِطُواْ مِصْرًا} وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الإسم العلم. والمراد بقوله: {أن تبوّآ لقومكما بمصر بيوتاً} (يونس: 87)، قالوا: وصرف، وإن كان فيه العلمية والتأنيث، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين، لخفة الإسم لسكون وسطه، قاله الأخفش، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف. وشبهه الزمخشري في منع الصرف، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الإسم بكونه ثلاثياً ساكن الوسط، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند، أو مشبه لنوح، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي: التأنيث والعلمية والعجمة. فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث، على أن من النحويين من خالف في هند، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله:

لم تتلفع بفضل ميزرها دعد

ولم تسق دعد في العلب}

وبخلاف نوح، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط، وأما إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياساً على هند، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفاً، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب، فوجب اطراحه.

ص: 177

{فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} : هذه الجملة جواب للأمر، كما يجاب بالفعل المجزوم، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه: هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبطوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال: أن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك محذوفان: أحدهما: ما يربط هذه الجملة بما قبلها، وتقديره: فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني: الضمير العائد على ما، تقديره: ما سألتموه، وشروط جواز الحذف فيه موجودة.

{وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} : تقدم تفسير باء، فعلى من قال: باء: رجع، تكون الباء للحال، أي مصحوبين بغضب، ومن قال: استحق، فالباء صلة نحو: لا يقرأن بالسور: أي استحقوا غضباً، ومن قال: نزل وتمكن أو تساووا، والباء ظرفية، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني لا تتعلق، وعلى الثالث بنفس باء. وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب، فعلى هذا تتعلق بباء، ويكون مفعول باء محذوفاً، أي استحقوا العذاب بسبب غضب الله عليهم.

{مِّنَ اللَّهِ} يحتمل أن يكون متعلقاً بباؤا إذا كان باء بمعنى رجع، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى، فبعصيانهم رجعوا منه، أي من عنده بغضب. ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف ويكون في موضع الصفة، أي بغضب كائن من الله، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق، أو بمعنى نزل وتمكن، ويبعد الوجه الأول.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} والإشارة إلى المباءة وهو مبتدأ، والجار والمجرور بعده خبر، والباء للسبب، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم.

{بِغَيْرِ الْحَقِّ} : متعلق بقوله: وتقتلون، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون، أي تقتلونهم مبالغة. قيل: ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف، أي قتلا بغير حق. وعلى كلا الوجهين هو توكيد.

{ذلِكَ بِمَا عَصَواْ} وما: في قوله {بِمَا عَصَواْ} مصدرية، أي ذلك بعصيانهم.

ص: 178

{إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَعَمِلَ صَلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآءَاتَيْنَكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ * فَجَعَلْنَهَا نَكَلاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} .

هاد: ألفه منقلبة عن واو، والمضارع يهود، ومعناه: ثاب، أو عن ياء والمضارع يهيد، إذا تحرك. والأولى الأول لقوله تعالى:{إنا هدنا إليك} (الأعراف: 156) .

ص: 179

لولا: للتحضيض بمنزلة هلا، فيليها الفعل ظاهراً أو مضمراً، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب، ويجيء بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء، وبفعل محذوف عند الكسائي، وبالابتداء عند البصريين، والخبر محذوف عند جمهورهم، وعند بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في «منهج السالك» من تأليفنا، وليست جملة الجواب الخبر، خلافاً لأبي الحسين بن الطراوة، وإن وقع بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين، ويجوز أن يقع بعدها ضمير الجرّ فتقول: لولاني ولولاك ولولاه، إلى آخرها، وهو في موضع جر بلولا عند سيبويه، وفي موضع رفع عند الأخفش، استعير ضمير الجر للرفع، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم: ما أنا كانت، ولا أنت كانا. والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. ومن ذهب إلى أن لولا نافية، وجعل من ذلك {فلولا كانت قرية آمنت} (يونس: 98) ، فبعيد قوله عن الصواب. خلف: ظرف مكان مبهم، وهو متوسط التصرف، ويكون أيضاً وصفاً، يقال رجل خلف: بمعنى رديء.

{مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} ، من: مبتدأة، ويحتمل أن تكون شرطية، فالخبر الفعل بعدها، وإذا كانت موصولة، فالخبر قوله:{فلهم أجرهم} ، ودخلت الفاء في الخبر، لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر، وقد تقدم ذكرها. واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله:{من آمن} في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ، وإن الرابط محذوف تقديره: من آمن منهم، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين، أعني: الذي هو صلة الذين، والذي هو صلة من.

ص: 180

ومن أعرب من مبتدأ، فإنما جعلها شرطية. وقد ذكرنا جواز كونها موصولة، وأعربوا أيضاً من بدلاً، فتكون منصوبة موصولة. قالوا: وهي بدل من اسم إن وما بعده، ولا يتم ذلك أيضاً إلا على تقدير تغاير الإيمانين، كما ذكرنا، إذا كانت مبتدأة. والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن، فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة، فلهم أجرهم. ودخلت الفاء في الخبر، لأن الموصول ضمن معنى الشرط، ولم يعتد بدخول إن على الموصول، وذلك جائز في كلام العرب، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك. ومن زعم أن من آمن معطوف على ما قبله، وحذف منه حرف العطف، التقدير: ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب.

{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} أجرهم: مرفوع بالابتداء، ولهم في موضع الخبر. وعند الأخفش والكوفيين: إن أجرهم مرفوع بالجار والمجرور. {عند ربهم} : ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في لهم، ويحتمل أن ينتصب على الحال، والعامل فيه محذوف تقديره: كائناً عند ربهم.

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} والواو في قوله: ورفعنا، واو العطف: على تفسير ابن عباس، لأن أخذ الميثاق كان متقدّماً، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور. وأما على تفسير أبي مسلم: فإنها واو الحال، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم، نحو قوله تعالى:{ونادى نوح ابنه وكان في معزل} (هود: 42) ، أي وقد كان في معزل.

{خُذُواْ مَآءَاتَيْنَكُم} وما موصول، والعائد عليه محذوف، أي: ما آتيناكموه.

وقرأ ابن مسعود: تذكروا، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا.

ص: 181

{فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: موجود، وما يشبهه مما يليق بالموضع. وعليكم: متعلق بفضل، أو معمول له، فلا يكون في موضع الخبر. والتقدير:{فلولا فضل الله عليكم ورحمته} موجودان، {لكنتم} : جواب لولا. والأكثر أنه إذا كان مثبتاً تدخله اللام، ولم يجىء في القرآن مثبتاً إلا باللام، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى:{وهمّ بها} (يوسف: 24)، جواب: لولا قدم فإنه لا لام معه. وقد جاء في كلام العرب بغير لام، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر، قال الشاعر:

لولا الحياء ولولا الدين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وقد جاء في كلامهم بعد اللام، قد، قال الشاعر:

لولا الأمير ولولا حق طاعته

لقد شربت دماً أحلى من العسل

وقد جاء في كلامهم أيضاً حذف اللام وإبقاء قد نحو: لولا زيد قد أكرمتك.

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ} اللام في لقد: هي لام توكيد، وتسمى: لام الابتداء في نحو: لزيد قائم. ومن أحكامها: أن ما كان في حيزها لا يتقدّم عليها، إلا إذا دخلت على خبر إن على ما قرر في النحو. وقد صنف بعض النحويين كتاباً في اللامات ذكرها فيه وأحكامها. ويحتمل أن تكون جواباً لقسم محذوف، ولكنه جيء على سبيل التوكيد.

منكم: في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف تقديره: كأثنين منكم، ومن للتبعيض.

في السبت: متعلق باعتدوا، إما على إضمار يوم، أو حكم.

{قِرَدَةً خَسِئِينَ} : كلاهما خبر كان.

ص: 182

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِىَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البَقَرَ تَشَبَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأٌّرْضَ وَلَا تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَاّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الئَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

ص: 183

بين: ظرف مكان متوسط التصرف، تقول: هو بعيد بين المنكبين، ونقي بين الحاجبين. قال تعالى:{هذا فراق بيني وبينك} (الكهف: 78)، ودخولها إذا كانت ظرفاً: بين ما تمكن البينية فيه، والمال بين زيد وبين عمرو، مسموع من كلامهم، وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما، أو الألف، فيزول عنها الاختصاص بالأسماء، فيليها إذ ذاك الجملة الإسمية والفعلية، وربما أضيفت بينا إلى المصدر. ولبين في علم الكوفيين باب معقود كبير اللون: معروف، وجمعه على القياس ألوان. واللون: النوع، ومنه ألوان.

الآن: ظرف زمان، حضر جميعه أو بعضه، والألف واللام فيه للحضور. وقيل: زائدة، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة. وزعم الفراء أنه منقول من الفعل، يقال: آن يئين أيناً: أي حان.

و {أن تذبحوا} في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط الحرف، أي بأن تذبحوا. ولحذف الحرف هنا مسوّغان: أحدهما: أنه يجوز فيه، إذا كان المفعول متأثراً بحرف الجر، أن يحذف الحرف، كما قال:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

والثاني: كونه مع إن، وهو يجوز معه حذف حرف الجر إذا لم يلبس.

{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله: {أتتخذنا هزواً} ، فإما أن يريد به اسم المفعول، أي مهزوأ، كقوله: درهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة، أي أتتخذنا نفس الهزؤ، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلاً، أو على حذف مضاف، أي مكان هزء، أو ذوي هزء.

{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِىَ} ، وجزم يبين على جواب الأمر. وما هي: مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الله: سل لنا ربك يبين ما هي، ومفعول يبين: هي الجملة من المبتدأ والخبر، والفعل معلق، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي، لأن التبيين يلزمه الإعلام.

ص: 184

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} : صفة لبقرة، والصفة إذا كانت منفية بلا، وجب تكرارها، كما قال:

وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل

فإن جاءت غير مكرّرة، فبابها الشعر، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل، فقدر مبتدأ محذوفاً، أي (لا هي فارض ولا بكر) ، فقد أبعد، لأن الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أن لا حذف.

{بين ذلك} : يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد، فقيل: أشير بذلك إلى مفرد، فكأنه قيل: عوان بين ما ذكر، فصورته صورة المفرد، وهو في المعنى مثنى، لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعاً حقيقة، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، قالوا: وقد أجري الضمير مجرى اسم الإشارة، قال رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

قيل له: كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت: كأنها، فيعود على الخطوط، أو كأنهما، فيعود على السواد والبلق؟ فقال: أردت كان ذاك، وقال لبيد:

إن للخير وللشرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل

قيل: أرادوا كلا ذينك، فأطلق المفرد وأراد به المثنى، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك، فيكون أطلق ذلك ويريد به ذينك، وهذا مجمل غير الأوّل. والذي أذهب إليه غير ما ذكروا، وهو أن يكون ذلك مما حذف منه المعطوف، لدلالة المعنى عليه، التقدير: عوان بين ذلك وهذا، أي بين الفارض والبكر، فيكون نظير قول الشاعر:

فما كان بين الخير لو جاء سالماً

أبو حجر إلا ليال قلائل أي: فما كان بين الخير وباغيه، فحذف لفهم المعنى. {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81) أي والبرد.

وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية، أي: فافعلوا أمركم، ويكون المصدر بمعنى المفعول، أي مأموركم، وفيه بعد.

وفي جزم: {يبين} ، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله، فأغنى عن ذكره.

ص: 185

{لَوْنُهَا} : ذكروا في إعرابه وجوهاً: أحدها: أنا فاعل مرفوع بفاقع، وفاقع صفة للبقرة. الثاني: أنه مبتدأ وخبره فاقع. والثالث: أنه مبتدأ، و {تسرّ الناظرين} خبر. وأنث على أحد معنيين: أحدهما: لكونه أضيف إلى مؤنث، كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه. والثاني: أنه يراد به المؤنث، إذ هو الصفرة، فكأنه قال: صفرتها تسر الناظرين، فحمل على المعنى كقولهم: جاءته كتابي فاحتقرها، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب الأوّل، لأن إعراب لونها مبتدأ، وفاقع خبر مقدّم لا يجيزه الكوفيون، أو تسرّ الناظرين خبره، فيه تأنيث الخبر، ويحتاج إلى تأويل، كما قررناه. وكون لونها فاعلاً بفاقع جار على نظم الكلام، ولا يحتاج إلى تقديم، ولا تأخير، ولا تأويل، ولم يؤنث فاقعاً وإن كان صفة لمؤنث، لأنه رفع السبي، وهو مذكر فصار نحو: جاءتني امرأة حسن أبوها، ولا يصح هنا أن يكون تابعاً لصفراء على سبيل التوكيد، لأنه يلزم المطابقة، إذ ذاك للمتبوع. ألا ترى أنك تقول أسود حالك، وسوداء حالكة، ولا يجوز سوداء حالك؟ فأمّا قوله:

وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً

كأن ذكي المسك فيها يفتق

ص: 186

فبابه الشعر، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة وهذه الجملة صفة للبقرة، وقد تقدّم قول من جعلها خبراً، كقوله: لونها، وفيه تكلف قد ذكرناه. وجاء هذا الوصف بالفعل، ولم يجيء باسم الفاعل، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدّد. ولما كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدّد، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله، لأنه ناشىء عن الوصف قبله، أو كالناشىء، لأن اللون إذا كان بهجاً جميلاً، دهشت فيه الأبصار، وعجبت من حسنه البصائر، وجاء بوصف الجمع في الناظرين، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها، متلذذة فيها بالنظر. فليست مما تعجب شخصاً دون شخص، ولذلك أدخل الألف واللام التي تدل على الاستغراق، أي هي بصدد من نظر إليها سرّ بها، وإن كان النظر هنا من نظر القلب، وهو الفكر، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله، من تحسين لونها وتكميل خلقها. والضمير في تسرّ عائد على البقرة، على تقدير أن تسرّ صفة، وإن كان خبراً، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه. وقد تقدّم توجيه التأنيث، ولذلك من قرأ يسرّ بالياء، فهو عائد على اللون، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ، ويسر خبراً، ويكون فاقعاً صفة تابعة لصفراء، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو:

وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً

على قلة ذلك، ويحتمل أن يكون لونها فاعلاً بفاقع، ويسر إخبار مستأنف.

ص: 187

{إِنَّ البَقَرَ تَشَبَهَ عَلَيْنَا} وقرأ ابن أبي إسحاق: تشابهت، بتشديد الشين مع كونه فعلاً ماضياً، وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنتا عشرة قراءة. وتوجيه هذه القراآت ظاهر، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت، فقال بعض الناس: لا وجه لها. وتبيين ما قاله: إن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيه، والماضي لا يكون فيه تاآن، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى. ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله: اشابهت، والتاء هي تاء البقرة، وأصله أن البقرة اشابهت علينا، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل، أو اشابهت أصله: تشابهت، فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل. فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة، صار اللفظ: أن البقرة اشابهت، فظن السامع أن تاء البقرة هي تاء في الفعل، إذ النطق واحد، فتوهم أنه قرأ: تشابهت، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق، فإنه رأس في علم النحو، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو. وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم، كالفرزدق، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب، فكيف يقرأ قراءة لا وجه لها، وأن البقر تعليل للسؤال، كما تقول: أكرم زيداً إنه عالم، فالحامل لهم على السؤال هو حصول تشابه البقر عليهم.

{وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} : وجواب هذا الشرط محذوف يدل عليه مضمون الجملة، أي إن شاء الله اهتدينا، وإذ حذف الجواب كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ومنفياً بلم، وقياس الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب، فكان الترتيب أن يقال في الكلام: إن زيداً لقائم إن شاء الله، أي: إن شاء الله فهو قائم، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها، ليحصل توافق رؤوس الآي.

ص: 188

{لَاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأٌّرْضَ وَلَا تَسْقِى الْحَرْثَ} لا ذلول؛ صفة للبقرة، على أنه من الوصف بالمفرد، ومن قال هو من الوصف بالجملة، وأن التقدير: لا هي ذلول، فبعيد عن الصواب. وتثير الأرض: صفة لذلول، وهي صلة داخلة في حيز النفي، والمقصود نفي إثارتها الأرض، أي لا تثير فتذل، فهو من باب:

على لاحب لا يهتدي بمناره

{وَلَا تَسْقِى الْحَرْثَ} : نفي معادل لقوله: لا ذلول. والجملة صفة، والصفتان منفيتان من حيث المعنى، كما أن لا تسقي منفي من حيث المعنى أيضاً.

قال الزمخشري: لا ذلول، صفة لبقرة بمعنى: بقرة غير ذلول، يعني: لم تذلل للحرث وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها بسقي الحروث. ولا: الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. انتهى كلامه. ووافقه على جعل لا الثانية مزيدة صاحب «المنتخب» ، وما ذهبا إليه ليس بشيء، لأن قوله: لا ذلول، صفة منفية بلا، وإذا كان الوصف قد نفي بلا، لم تكرار لا النافية، لما دخلت عليه، تقول: مررت برجل لا كريم ولا شجاع، وقال تعالى:{ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب} (المرسلات: 30 31) وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم} (الواقعة: 43 44) لا فارض ولا بكر} ، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار، لأن المستفاد منها النفي، إلا إن ورد في ضرورة الشعر، وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية، كان غير جائز لما ذكرناه من وجوب تكرار لا النافية، وعلى ما قدراه كان نظير: جاءني رجل لا كريم، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر، كما نبهنا عليه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال لأنها من نكرة. انتهى كلامه.

ص: 189

والجملة التي أشار إليها هي قوله: تثير الأرض، والنكرة هي قوله: لا ذلول، أو قوله: بقرة، فإن عنى بالنكرة بقرة، فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازاً حسناً، وإن عنى بالنكرة لا ذلول، فهو قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه، ولا أمعن النظر في كتابه، بل قد أجاز سيبويه في كتابه، في مواضع مجيء الحال من النكرة، وإن لم توصف، وإن كان الإتباع هو الوجه والأحسن، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة، وقد يجوز نصبه على نصب: هذا رجل منطلقاً، يريد على الحال من النكرة، ثم قال: وهو قول عيسى، ثم قال: وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله حالاً، ولم يجعله صفة، ومثل ذلك: مررت برجل قائماً، إذا جعلت المرور به في حال قيام، وقد يجوز على هذا: فيها رجل قائماً، ومثل ذلك: عليه مائة بيضاء، والرفع الوجه، وعليه مائة ديناً، الرفع الوجه، وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: مررت بماء قعدة رجل، والوجه الجر، وكذلك قال سيبويه في باب ما ينتصب، لأنه قبيح أن يكون صفة فقال: راقود خلا وعليك نحى سمناً، وقال في باب نعم، فإذا قلت لي عسل ملء جرة، وعليه دين شعر كلبين، فالوجه الرفع، لأنه صفة، والنصب يجوز كنصبه، عليه مائة بيضاء، فهذه نصوص سيبويه، ولو كان ذلك غير جائز، كما قال ابن عطية، لما قاسه سيبويه، لأن غير الجائز لا يقال به فضلاً عن أن يقاس، وإن كان الإتباع للنكرة أحسن، وإنما امتنعت في هذه المسألة، لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قول الضعفاء في صناعة الإعراب، الذين لم يطلعوا على كلام الإمام.

ص: 190

وأجاز بعض المعربين أن يكون: تثير الأرض، في موضع الحال من الضمير المستكن في ذلول تقديره: لا تذل في حال إثارتها، والوجه ما بدأنا به أولاً، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: لا ذلول، بالفتح. قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك، أي حيث هي، وهو نفي لذلها، ولأن توصف به فيقال: هي ذلول، ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان، أي فيهم، أو حيث هم. انتهى كلامه. فعلى ما قدره يكون الخبر محذوفاً، ويكون قوله: تثير الأرض، صفة لاسم لا، وهي منفية من حيث المعنى، ولذلك عطف عليها جملة منفية، وهو قوله: ولا تسقي الحرث، وإذا تقرر هذا، فلا يجوز أن يكون {تثير الأرض ولا تسقي الحرث} خبراً، لأنه كان يتنافر هذا التركيب مع ما قبله، لأن قوله:{قال إنها بقرة} يبقى كلاماً منفلتاً مما بعده، إذ لا تحصل به الإفادة إلا على تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف، ويكون محط الخبر هو قوله:{مسلمة لا شية فيها} ، لأنها صفة في اللفظ، وهي الخبر في المعنى، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنى نافياً ذلة هذه البقر، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بني معها، ولا يجوز أن تقع هذه الجملة أعني لا ذلول، على قراءة السلمي، في موضع الصفة على تقدير أن تثير وما بعدها الخبر، لأنه ليس فيها عائد على الموصوف الذي هو بقرة، إذ العائد الذي في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا، ولا يتخيل أن قوله:{لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} على تقدير أن تثير، وما بعده خبر يكون دالاً على نفي ذلول مع الخبر عن الوجود، لأن ذلك كان يكون غير مطابق لما عليه الوجود، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى أرضهم وإلى حرثها؛ والألف واللام للعهد. فكما يتعقل انتفاء ذلول مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة، لأنك قيدت الخبر بتقديرك حيث هي، فصلح هذا النفي، كذلك يتعقل انتفاء ذلول مع الخبر عنه، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص، وهو الأرض والحرث، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا

ص: 191

ساقية حيث تلك البقرة، كذلك تقدر ما من ذلول تثير أرضهم ولا تسقي حرثهم. فكلاهما نفي قد تخصص، إما بالخبر المحذوف، وإما بتعلق الخبر المثبت.

وقد انتفى وصف البقرة بذلول وما بعدها، إما بكون الجملة صفة والرابط الخبر المحذوف، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، إذ لم تشتمل على رابط يربطها بما قبلها، إذا جعلت تثير خبرأ لا يقال أن الرابط هنا هو العموم، إذ البقرة فرد من أفراد اسم الجنس، لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو: زيد نعم الرجل، على خلاف في ذلك، ولعل الأصح خلافه. وباب نعم باب شاذ لا يقاس عليه، لو قلت زيد لا رجل في الدار، ومررت برجل لا عاقل في الدار، وأنت تعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم، لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار، انتفى زيد فيها، وإذا قلت: لا عاقل في الدار، انتفى العقل عن المرور به، لم يجز ذلك، فلذلك اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقي خبراً للا ذلول، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، وتدل على نفي الإثارة ونفي السقي، من حيث المعنى، لا من حيث كون الجملتين صفة للبقرة. وأما تمثيل الزمخشري بذلك، بمررت بقوم لا بخيل ولا جبان فيهم، أو حيث هم، فتمثيل صحيح، لأن الجملة الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم، إنما الرابط هذا الضمير، وكذلك ما قرره هو الرابط فيه الضمير، إذ قدره لا ذلول هناك، أي حيث هي، فهذا الضمير عائد على البقرة، وحصل به الربط كما حصل في تمثيله بقوله: فيهم، أو: حيث هم، فتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى:{لا ذلول} في قراءة السلمي يتخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير حذف خبر، والثاني: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير أن تكون خبر لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. وكانت قراءة الجمهور أولى، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة، ولأن في قراءة أبي عبد الرحمن، على أحد تخريجيها، تكون قد بدأت

ص: 192

بالوصف بالجملة وقدّمته على الوصف بالمفرد، وذلك مخصوص بالضرورة عند بعض أصحابنا، لأن لا ذلول المنفي معها جملة ومسلمة مفرد، فقد قدّمت الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد، والمفعول الثاني لتسقي محذوف، لأن سقي يتعدى إلى اثنين.

{مُسَلَّمَةٌ لَاّ شِيَةَ فِيهَا} : قال أبو محمد بن عطية: ومسلمة، بناء مبالغة من السلامة، وقاله غيره، فقال: هي من صيغ المبالغة، لأن وزنها مفعلة من السلامة، وليس كما ذكر، لأن التضعيف الذي في مسلمة ليس لأجل المبالغة، بل هو تضعيف النقل والتعدية، يقال: سلم كذا، ثم إذا عدّيته بالتضعيف، فالتضعيف هنا كهو في قوله: فرحت زيداً، إذ أصله: فرح زيد، وكذلك هذا أصله: سلم زيد، ثم يضعف فيصير يتعدّى. فليس إذن هنا مبالغة بل هو المرادف للبناء المتعدّي بالهمزة.

{قَالُواْ الئَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} : وانتصاب الآن على الظرفية، وهو ظرف يدل على الوقت الحاضر، وهو قوله لهم:{إنها بقرة لا ذلول} إلى {لا شية فيها} ، والعامل فيه جئت.

{وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} : وكاد في الثبوت تدل على المقاربة. فإذا قلت: كاد زيد يقوم، فمعناه مقاربة القيام، ولم يتلبس به. فإذا قلت: ما كاد زيد يقوم، فمعناه نفي المقاربة، فهي كغيرها من الأفعال وجوباً ونفياً. وقد ذهب بعض الناس إلى أنها إذا أثبتت، دلت على نفي الخبر، وإذا نفيت، دلت على إثبات الخبر، مستدلاً بهذه الآية، لأن قوله تعالى:{فذبحوها} يدل على ذلك، والصحيح القول الأول.

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} : معطوف على قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه} .

{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} ، ما: منصوب باسم الفاعل، وهو موصول معهود.

{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} : جملة معطوفة على قوله: {قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} .

والجملة من قوله تعالى: {واللَّه مخرج ما كنتم تكتمون} اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه.

ص: 193

{ويريكم آياته} : ظاهر هذا الكلام الاستئناف، ويجوز أن يكون معطوفاً على يحيي.

{فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ} والكاف المفيدة معنى التشبيه: حرف وفاقاً لسيبويه وجمهور النحويين، خلافاً لمن ادعى أنها تكون اسماً في الكلام، وهو عن الأخفش. فتعلقه هنا بمحذوف، التقدير: فهي كائنة كالحجارة، خلافاً لابن عصفور، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو. والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس.

{أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، أو: بمعنى الواو، أو بمعنى أو للإبهام، أو للشك، أو للتخيير، أو للتنويع، أقوال، وذكر المفسرون مثلاً لهذه المعاني، والأحسن القول الأخير.

ص: 194

وانتصاب قسوة على التمييز، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل، لأن كلا منهما ينتصب عنه التمييز، تقول: زيد كعمرو حلماً، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل، منقول من المبتدأ، وهو نقل غريب، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافاً إليه مقامه. تقول: زيد أحسن وجهاً من عمرو، وتقديره: وجه زيد أحسن من وجه عمرو، فأخرت وجهاً وأقمت ما كان مضافاً مقامه، فارتفع بالابتداء، كما كان وجه مبتدأ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك: من وجه عمرو، وإقامة عمرو مقامه، فقلت: من عمرو، وإنما كان الأصل ذلك، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه، ونظير هذا: مررت بالرجل الحسن الوجه، أو الوجه أصل هذا الرفع، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه، وإنما أوضحنا هذا، لأن ذكر مجيء التمييز منقولاً من المبتدأ غريب، وأفرد أشدّ، وإن كانت خبراً عن جمع، لأن استعمالها عنا هو بمن، لكنها حذفت، وهو مكان حسن حذفها، إذ وقع أفعل التفضيل خبراً عن المبتدأ وعطف، أو أشد، على قوله: كالحجارة، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد، كما تقول: زيد على سفر، أو مقيم، فالضمير الذي في أشدّ عائد على القلوب، ولا حاجة إلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون التقدير: أو هي أشدّ قسوة، فيصير من عطف الجمل. والثاني: أن يكون، التقدير: أو مثل أشدّ، فحذف مثل وأقيم أشدّ مقامه، ويكون الضمير في أشدّ إذ ذاك غير عائد على القلوب، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشدّ قسوة من الحجارة، فالضمير في أشدّ عائد على ذلك الموصوف بأشدّ المحذوف. ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الأعمش، بنصب الدال عطفاً على، كالحجارة، قاله الزمخشري. وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة. وأما على قراءة الرفع، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه، ولا إضمار فيه، فكان أرجح.

ص: 195

وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على الزمخشري قوله: إنه معطوف على الكاف، فقال: هو على مذهب الأخفش، لا على مذهب سيبويه، لأنه لا يجيز أن يكون إسماً إلا في الشعر، ولا يجيز ذلك في الكلام، فكيف في القرآن؟ فأولى أن يكون: أشدّ، خبر مبتدأ مضمر، أي وهي أشدّ. انتهى كلامه. وما ذهب إليه الزمخشري صحيح، ولا يريد بقوله: معطوف على الكاف، أن الكاف اسم، إنما يريد معطوفاً على الجار والمجرور، لأنه في موضع مرفوع، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور. وقوله: فالأولى أن يكون أشدّ خبر مبتدأ مضمر، أي هي أشدّ، قد بينا أن الأولى غير هذا، لأنه تقدير لا حاجة إليه.

قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال أشدّ قسوة؟ وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب، قلت: لكونه أبين وأدل على فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدّة، كأنه قيل: اشتدّت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة. انتهى كلامه. ومعنى قوله: وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة، والنقص مثبت. وفي كونه من أفعل، أو من كون، أو من مبني للمفعول خلاف. وقرأ أبو حيوة: أو أشدّ قساوة، وهو مصدر لقسا أيضاً.

ص: 196

{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَرُ} وقرأ الجمهور: وإنّ مشدّدة، وقرأ قتادة: وإن مخففة، وكذا في الموضعين بعد ذلك، وهي المخففة من الثقيلة، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون معملة، ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه، التقدير: وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار، وكذلك ما فيها، كقوله تعالى:{وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: 164) ، أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} (النساء: 159) ، أي وما من أهل الكتاب أحد، وحذف هذا المبتدأ أحسن، دلالة المعنى عليه، إلا أنه يشكل معنى الحصر، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعدّدة، فمنها ما يتفجر منه الأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله. وإذا حصرت، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها، أي تتفجر منه الأنهار، ويتشقق منه الماء، ويهبط من خشية الله. ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية، إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع فيه، إذا أرد الله ذلك. فإذا تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير: أن يقرأ طلحة، وإن بالتخفيف. وأما إن صح عنه أنه يقرأون بالتشديد، فيعسر توجيه ذلك.

وأما من زعم أن إن المشدّدة هي بمعنى ما النافية، فلا يصح قوله، ولا يثبت ذلك في لسان العرب. ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد، مع قراءة إن بالتشديد، بأن يكون اسم إن محذوفاً لفهم المعنى، كما حذف في قوله:

ولكن زنجيّ عظيم المشافر

وفي قوله:

فليت دفعت الهم عني ساعة

وتكون لما بمعنى حين، على مذهب الفارسي، أو حرف وجوب لوجوب، على مذهب سيبويه. والتقدير: وإن منها منقاداً، أو ليناً، وما أشبه هذا. فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وصاحبها، فحذف الاسم وحده أسهل.

ص: 197

{وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وبغافل: في موضع نصب، على أن تكون ما حجازية. ويجوز أن تكون في موضع رفع، على أن تكون ما تميمية، فدخلت الباء في خبر المبتدأ، وسوّغ ذلك النفي. ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول: زيد بقائم، ولا: ما زيد إلا بقائم. قال ابن عطية: وبغافل في موضع نصب خبر ما، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه، بل القائلون قائلان، قائل: بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه، وتبعه الزمخشري. وقائل: بأنه يجوز أن يجر بالباء، وهو الصحيح. وقال الفرزدق:

لعمرك ما معن بتارك حقه

وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيراً.

ص: 198

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ قَالُواْءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ إِلَاّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} .

التحديث: الإخبار عن حادث، ويقال منه يحدث، وأصله من الحدوث، وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالث بالباء، فيقال: حدثت زيداً عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين، فيتعدى إلى ثلاثة، وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى ثلاثة غير: أعلم، وأرى ونبأ، وأما حدّث فقد أنشدوا بيت الحارث بن حلزة:

أو منعتم ما تسألون فمن

حدثتموه له علينا العلاء

ص: 199

وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة، ويحتمل أن يكون التقدير: حدثتموا عنه. والجملة بعده حال. كما خرج سيبويه قوله: ونبئت عبد الله، أي عن عبد الله، مع احتمال أن يكون ضمن نبئت معنى: أعلمت، لكن رجح عنده حذف حرف الجر على التضمين. وإذا احتمل أن يخرج بيت الحارث على أن يكون مما حذف منه الحرف، لم يكن فيه دليل على إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة بنفسه، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك، إلا أن يثبت من لسان العرب.

ويل: الويل مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم: وأل مصنوع، ولم يجىء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا: ويل، وويح، وويس، وويب، ولا يثنى ولا يجمع. ويقال: ويله، ويجمع على ويلات. قال:

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

وإذا أضيف ويل، فالأحسن فيه النصب، قال تعالى:{ويلكم لا تفتروا على الله كذباً} (طه: 61) . وزعم بعض أنه إذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب، وإذا أفردته اختير الرفع، قال: فويل للذين} ، ويجوز النصب، قال:

فويلاً لتيم من سرابيلها الخضر

الكسب: أصله اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضر، ومنه:{بلى من كسب سيئة} } (البقرة: 81) ، والفعل منه يجيء متعدياً إلى واحد، تقول: كسبت مالاً، وإلى اثنين تقول: كسبت زيداً مالاً. وقال ابن الأعرابي؛ يقال: كسب هو نفسه وأكسب غيره، وأنشد:

فأكسبني مالاً وأكسبته حمداً

بلى: حرف جواب لا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى، ومعناها: ردّه، سواء كان مقروناً به أداة الإستفهام، أو لم يكن، وقد وقع جواباً للاستفهام في مثل: هل يستطيع زيد مقاومتي؟ إذا كان منكراً لمقاومة زيد له، لما كان معناه النفي، ومما وقعت فيه جواباً للاستفهام قول الحجاف بن حكيم:

بل سوف نبكيهم بكل مهند

ونبكي نميراً بالرماح الخواطر

وقعت جواباً للذي قال له، وهو الأخطل:

ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر

بقتلي أصيبت من نمير بن عامر

ص: 200

وبلى عندنا ثلاثي الوضع، وليس أصله بل، فزيدت عليها الألف خلافاً للكوفيين.

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} : والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها، والتقدير: أفتطعمون، فالفاء للعطف، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت عليها. والزمخشري يزعم أن بين الهمزة والفاء فعل محذوف، ويقر الفاء على حالها، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها، وهو خلاف مذهب سيبويه، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها، نحو قوله:{أو من ينشأ في الحلية} (الزخرف: 18)، أفمن يعلم أنما أنزل إليك} (الرعد: 19) ، أفمن هو قائم} (الرعد: 33) . أن يؤمنوا} معمول لتطمعون على إسقاط حرف الجر، التقدير: في أن يؤمنوا، فهو في موضع نصب، على مذهب سيبويه، وفي موضع جر، على مذهب الخليل والكسائي. ولكم: متعلق بيؤمنوا، على أن اللام بمعنى الباء، وهو ضعيف، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم.

والواو في قوله: {وقد كان فريق} ، وفي قوله:{وهم يعلمون} ، واو الحال. ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله:{أفتطمعون} ؟ ويحتمل أن يكون: {أن يؤمنوا} .

وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله: {وهم يعلمون} ، قوله:{عقلوه} ، والظاهر القول الأول، وهو قوله:{يحرفونه} .

{بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} . وقد جوّزوا في ما أن تكون نكرة موصوفة، وأن تكون مصدرية، أي بفتح الله عليكم. والأولى الوجه الأول.

ص: 201

{لِيُحَآجُّوكُم} : هذه لام كي، والنصب بأن مضمرة بعدها، وهي جائزة الإضمار، إلا إن جاء بعدها لا، فيجب إظهارها. وهي متعلقة بقوله:{أتحدثونهم} ، فهي لام جر، وتسمى لام كي، بمعنى أنها للسبب، كما أن كي للسبب. ولا يعنون أنّ النصب بعدها بإضمار كي، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي، فتقول: لكي أكرمك، لأن الذي يضمر إنما هو: أن لا: كي، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي، أو أن. وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن، إنما ذلك على سبيل التأكيد. وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو. وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله: فتح، وليس بظاهر إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى، فيمكن أن يصير المعنى: أن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به، فآل أمره إلى أن حاجوهم به، فصار نظير:{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً} (القصص: 8) . لم يلتقطوه لهذا الأمر، إنما آل أمره إلى ذلك. ومن لم يثبت لام الصيرورة، جعلها لام كي، على تجوّز عند ربكم} معمول لقوله:{ليحاجوكم} .

{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} : وقد تقدم لنا أن مثل {أفلا تعقلون} (البقرة: 44)، أو لا يعلمون} (البقرة: 77) ، أن الفاء والواو فيهما للعطف، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدّمت. وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك، فأغنى عن إعادته. وأن الله يعلم} : يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى واحد كعرف، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى اثنين، كظننت، وهذا على رأي سيبويه. وأما الأخفش، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد، ويجعل الثاني محذوفاً، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف، والعائد على ما محذوف تقديره: يسرّونه ويعلنونه.

ص: 202

{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ} : جملة في موضع الصفة، والكتاب هو التوراة.

{إِلَاّ أَمَانِىَّ} : استثناء منقطع، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع، وهو الذي يتوجه عليه العامل. ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أمانيّ لكان مستقيماً؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان، أحدهما: النصب على الاستثناء، وهي لغة أهل الحجاز. والوجه الثاني: الاتباع على البدل بشرط التأخر، وهي لغة تميم. فنصب أماني من الوجهين.

{وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} إن هنا: هي النافية، بمعنى ما، وهم: مرفوع بالابتداء، وإلا يظنون: في موضع الخبر، وهو من الاستثناء المفرغ. وإذا كانت إن نافية، فدخلت على المبتدأ والخبر، لم يعمل عمل ما الحجازية، وقد أجاز ذلك بعضهم، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره، والصحيح أنه لا يجوز، لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو:

إن هو مستولياً على أحد

إلا على أضعف المجانين

وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما، وليس في كتابه نص على ذلك.

{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ} وهو نكرة فيها معنى الدعاء، فلذلك جاز الابتداء بها، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوّغاً، وذكرناها في كتاب «منهج المسالك» من تأليفنا.

{ثُمَّ يَقُولُونَ} ومعمول القول هذه الجملة التي هي: {هذا من عند الله ليشتروا} ، علة في القول، وهي لام كي، وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر، فيتعلق بيقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار، وبنو العنبر يفتحون لام كي، قال مكي في إعراب القرآن له. {به ثمناً قليلاً} ، به: متعلق بقوله: ليشتروا، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم:{هذا من عند الله} .

ص: 203

{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا} وهمزة الوصل من اتخذ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام، ومن سهل بنقل حركتها على اللام وحذفها قال: قل اتخذتم، بفتح اللام، لأن الهمزة كانت مفتوحة. وعند الله: ظرف منصوب باتخذتم، وهي هنا تتعدى لواحد، ويحتمل أن تتعدى إلى اثنين، فيكون الثاني الظرف، فيتعلق بمحذوف.

{فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط، كقوله: أيقصدنا زيد؟ فلن نجيب من برنا. وقد تقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنى الشرط؟ أم يكون الشرط محذوفاً بعدها؟ ولذلك قال الزمخشري:{فلن يخلف} متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عنده عهداً فلن يخلف الله عهده، كأنه اختار القول الثاني من أن الشريط مقدر بعد هذه الأشياء. وقال ابن عطية:{فلن يخلق الله عهده} ، اعتراض في أثناء الكلام، كأنه يريد أن قوله:{أم تقولون} معادل لقوله: {قل أتخذتم عند الله عهداً} ، فصارت هذه الجملة، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل، جملة اعتراضية، فلا يكون لها موضع من الإعراب.

{بلى} : حرف جواب يثبت به ما بعد النفي، فإذا قلت: ما قام زيد، فقلت: نعم، كان تصديقاً في نفي قيام زيد. وإذا قلت: بلى، كان نقضاً لذلك النفي.

{مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} من: يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون موصولة، والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر، إذا كان المبتدأ موصولاً، موجودة هنا، ويحسنه المجيء في قسيمه بالذين، وهو موصول.

ص: 204

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَ بَنِى إِسْرءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَرِهِمْ تَظَهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَرَى تُفَدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلَاّ خِزْىٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالأٌّخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} .

ص: 205

{وَذِى الْقُرْبَى} ذو: بمعنى صاحب، وهو من الأسماء الستة التي ترفع، وفيها الواو، وتنصب وفيها الألف، وتجرّ وفيها الياء. وأصلها عند سيبويه، ذوي، ووزنها عنده: فعل، وعند الخليل: ذوّة، من باب خوّة، وقوّة، ووزنها عنده فعل، وهو لازم الإضافة، وتنقاس إضافته إلى اسم جنس، وفي إضافته إلى مضمر خلاف، وقد يضاف إلى العلم وجوباً، إذا اقترنا وضعاً، كقولهم: ذو جدن، وذو يزن، وذو رعين، وذو الكلاع، وإن لم يقترنا وضعاً، فقد يجوز، كقولهم: في عمرو، وقطرى: ذو عمرو، وذو قطرى، ويعنون به صاحب هذا الإسم. وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع، وكذلك: أنا ذوبكة، واللهم صلّ على محمد وعلى ذويه. ومما أضيف إلى العلم، وأريد به معنى: ذي مال، ومما أضيف إلى ضمير العلم، وأضيف أيضاً إلى ضمير المخاطب، قال الشاعر:

وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما

رجونا قدماً من ذويك الأفاضل وقد أتت ذو في لغة طيّ موصولة، ولها أحكام في النحو.

{وَالْيَتَمَى} : فعالى، وهو جمع لا ينصرف، لأن الألف فيه للتأنيث، ومفرده: يتيم، كنديم، وهو جمع على غير قياس، وكذا جمعه على أيتام.

الدم: معروف، وهو محذوف اللام، وهي ياء، لقوله:

جرى الدميان بالخبر اليقين

أو: واو، لقولهم: دموان، ووزنه فعل. وقيل: فعل، وقد سمع مقصوراً، قال:

غفلت ثم أتت تطلبه

فإذا هي بعظام ودما

وقال:

ولكن على أعقابنا يقطر الدما

في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدّد الميم، قال الشاعر:

أهان دمّك فرغاً بعد عزته

يا عمرو نعيك إصراراً على الحسد

الديار: جمع دار، وهو قياس في فعل الاسم، إذا لم يكن مضاعفاً، ولا معتل لام نحو: طلل، وفنى. والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو، إذ أصله دوار، وهو قياس، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعاً واحد معتل العين، كثوب وحوض ودار، بشرط أن يكون فعالاً صحيح اللام. فإن كان معتله، لم يبدل نحو: رواو، وقالوا: في جمع طويل: طوال وطيال.

ص: 206

{الدُّنْيَا} : تأنيث الأدنى، ويرجع إلى الدنو، بمعنى القرب. والألف فيه للتأنيث، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر، نحو قوله:

في سعي دنيا طالما قد مدّت

والدنيا تارة تستعمل صفة، وتارة تستعمل استعمال الأسماء، فإذا كانت صفة، فالياء مبدلة من واو، إذ هي مشتقة من الدنو، وذلك نحو: العليا. ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء} (يونس: 24) ، فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمال الأسماء، فكذلك. وقال أبو بكر بن السرّاج: في المقصور والممدود} له الدنيا مؤنثة مقصورة، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دنوى، مثل: شروى، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء، لأنهم يستثقلون الضمة والواو.

وإذ: معطوف على الظروف السابقة قبل هذا.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لا يعبدون، بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق. وقرأ أبيّ وابن مسعود: لا يعبدوا، على النهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوهاً.

ص: 207

أحدها: أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة، وهو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز على الصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولاً في المعنى لميثاق، إذ يحتمل أن يكون مصدراً، أو حكمه حكم المصدر. وإذا كان كذلك، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلاً في المعنى، أو مفعولاً لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل، وهنا ليس المعنى على أن ينحل، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح، بل لو فرضنا كونه مصدراً حقيقة: لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد، لم ينحل لحرف مصدري والفعل: لا يقال: أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ولا كان من ضربا زيداً، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية: أن يتقدر المصدّر بحرف مصدري والفعل، وردّ ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالاً: المبرد وقطرب، قالوا: ويجوز أن يكون حالاً مقارنة، وحالاً مقدرة. الوجه الثاني: أن تكون الجملة جواباً لقسم محذوف دل عليه قوله: {أخذنا ميثاق بني إسرائيل} ، أي استحلفناهم والله لا يعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد. الوجه الثالث: أن تكون أن محذوفة، وتكون أن وما بعدها محمولاً على إضمار حرف جر، التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر، إذ حذفه مع أن، وأن جائز مطرد، إذ لم يلبس، ثم حذف بعد ذلك، أن، فارتفع الفعل، فصار لا تعبدون، قاله الأخفش، ونظيره من نثر العرب: مره يحفرها، ومن نظمها قوله:

ألا أيهذا الزّاجري احضر الوغى

ص: 208

أصله: مره بأن يحفرها. وعن: أن أحضر الوغى، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه. وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه، فمن النحويين من منعه، وعلى ذلك متأخرو أصحابنا. وذهب جماعة من النوحيين إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع. ثم اختلفوا فقيل: يجب رفع الفعل إذ ذاك، وهذا مذهب أبي الحسن. ومنهم من قال بنفي العمل، وهو مذهب المبرد والكوفيين. والصحيح: قصر ما ورد من ذلك على السماع.

ص: 209

وفي انتصاب {إحساناً} على وجوه: أحدها: أن يكون معطوفاً على لا تعبدون، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل، إذ التقدير عند هذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي وببر الوالدين، أو بإحسان إلى الوالدين، ويكون انتصاب إحساناً على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، فالعامل فيه الميثاق، لأنه به يتعلق الجار والمجرور، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات. الوجه الثاني: أن يكون متعلقاً بإحساناً، ويكون إحساناً مصدراً موضوعاً موضع فعل الأمر، كأنه قال: وأحسنوا بالوالدين. قالوا: والباء ترادف إلى في هذا الفعل، تقول: أحسنت به وإليه بمعنى واحد، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف، أي وأحسنوا ببر الوالدين، المعنى: وأحسنوا إلى الوالدين ببرهما. وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظاً به. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض، إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول، نحو: ضربا زيداً، وليس بشيء، لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولاً بأن ينحل لحرف مصدري والفعل، أما إذا كان غير موصول، فلا يمتنع تقديمه عليه. فجائز أن تقول: ضربا زيداً، وزيداً ضربا، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر، أو للمصدر النائب عن الفعل، لأن ذلك الفعل هو أمر، والمصدر النائب عنه أيضاً معناه الأمر. فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم. الوجه الثالث: أن يكون العامل محذوفاً، ويقدر: وأحسنوا، أو ويحسنون بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف، فتقديره: وأحسنوا، مراعاة للمعنى، لأن معنى لا تعبدون: لا تعبدوا، أو تقديره: ويحسنون، مراعاة للفظ لا تعبدون، وإن كان معناه الأمر. وبهذين قدر الزمخشري هذا المحذوف. الوجه الرابع: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: واستوصوا بالوالدين، وينتصب إحساناً

ص: 210

على أنه مفعول، قاله المهدوي: الوجه الخامس: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: ووصيناهم بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مفعول من أجله، أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً منا كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه، لأن فيه حذف حرف مصدري، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها. الوجه السادس: أن يكون التقدير: أن لا تعبدوا، فحذف أن وارتفع الفعل، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله:{ميثاق بني إسرائيل} . وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه. الوجه السابع: أن تكون محكية بحال محذوفة، أي قائلين لا تعبدون إلا الله، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله، قاله الفراء، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود، والعطف عليه قوله:{وقولوا للناس حسناً} . الوجه الثامن: أن يكون المحذوف القول، أي وقلنا لهم:{لا تعبدون إلا الله} ، وهو نفي في معنى النهي أيضاً. قال الزمخشري: كما يقول تذهب إلى فلان، تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه. انتهى كلامه، وهو حسن. الوجه التاسع: أن يكون التقدير أن لا تعبدون، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة، لأن في قوله:{أخذنا ميثاق بني إسرائيل} معنى القول، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر. وفي جواز حذف أن المفسرة نظر. الوجه العاشر: أن تكون الجملة تفسيرية، فلا موضع لها من الإعراب، وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق، فمن قرأ بالياء، فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة، ومن قرأ بالتاء، فهو التفات، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب، ليكون أدعى للقبول، وأقرب للامتثال، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب، ومع جعل الجملة مفسرة، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي، إذ تبعد حقيقة

ص: 211

الخبر فيه.

{

إِلَاّ اللَّهَ} : استثناء مفرّع، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله.

والمختار، الوجه الثاني: لعدم الإضمار فيه، ولاطراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر.

{وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ} : معطوف على قوله: {وبالوالدين} .

وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسناً بفتح الحاء والسين. وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر: حسناً بضمهما. وقرأ أبي وطلحة بن مصرّف: حسنى، على وزن فعل. وقرأ الجحدري: إحساناً. فأما قراءة الجمهور حسناً، فظاهره أنه مصدر، وأنه كان في الأصل قولاً حسناً، أما على حذف مضاف، أي ذا حسن، وأما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه، وقيل: يكون أيضاً صفة، لا أن أصله مصدر، بل يكون كالحلو والمرّ، فيكون الحسن والحسن لغتين، كالحزن والحزن، والعرب والعرب. وقيل: انتصب على المصدر من المعنى، لأن المعنى: وليحسن قولكم حسناً. وأما من قرأ: حسناً بفتحتين، فهو صفة لمصدر محذوف، أي وقولوا للناس قولاً حسناً. وأما من قرأ بضمتين، فضمة السين إتباع لضمة الحاء. وأما من قرأ: حسنى، فقال ابن عطية: رده سيبويه، لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدراً، كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى كلامه. وفي كلامه ارتباك، لأنه قال: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، وليس على ما ذكر. أما أفعل فله استعمالات: أحدها: أن يكون بمن ظاهرة، أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، فهذا لا يتعرف بحال، بل يبقى نكرة. والاستعمال الثاني: أن يكون بالألف واللام، فإذ ذاك يكون معرفة بهما. الثالث: أن يضاف إلى معرفة، وفي التعريف بتلك الإضافة خلاف، وذلك نحو: أفضل القوم. وأما فعلى فلها استعمالان: أحدهما: بالألف واللام، ويكون معرفة بهما. والثاني: بالإضافة إلى معرفة نحو: فضلى النساء. وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل، فقول ابن عطية: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا

ص: 212

معرفة، ليس بصحيح. وقوله: إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل، إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدراً، وليس كذلك، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدراً إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة. فلا يجوز أن يعتقد في فعلى، التي مذكرها أفعل، أنها تصير مصدراً إذا زال منها معنى التفضيل. ألا ترى أن كبرى وصغرى وجلى وفضلى، وما أشبه ذلك، لا ينقاس جعل شيء منها مصدراً بعد إزالة معنى التفضيل؟ بل الذي ينقاس على رأي أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل، صارت بمعنى: كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة. كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنى التفضيل، كان أكبر بمعنى كبير، وأفضل بمعنى فاضل، وأطول بمعنى طويل. ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائداً إلى حسنى، لا إلى فعلى، ويكون استثناء منقطعاً، كأنه قال: إلا أن يزال عن حسنى، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدراً، كالعقبى. ومعنى قوله: وهو وجه القراءة بها، أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين: أحدهما: المصدر، كالبشرى، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول: حسن حسنى، كما تقول: رجع رجعى، وبشر بشرى، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدراً لا ينقاس. والوجه الثاني: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أي وقولوا للناس كلمة حسنى، أو مقالة حسنى. وفي الوصف بها وجهان: أحدهما: أن تكون باقية على أنها للتفضيل، واستعمالها بغير ألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر، وقد جاء ذلك في الشعر، قال الشاعر:

وإن دعوت إلى جلى ومكرمة

يوماً كرام سراة الناس فادعينا

ص: 213

فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة. والوجه الثاني: أن تكون ليست للتفضيل، فيكون معنى حسنى: حسنة، أي وقولوا للناس مقالة حسنة، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته في معنى: حسن إخوته. وأما من قرأ: إحساناً فيكون نعتاً لمصدر محذوف، أي قولاً إحساناً، وإحساناً مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي قولا ذا حسن، كما تقول: أعشبت الأرض إعشاباً، أي صارت ذات عشب.

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} ونصب: قليلاً، على الاستثناء، وهو الأفصح، لأن قبله موجب. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: إلا قليل، بالرفع. وقرأ بذلك أيضاً قوم، قال ابن عطية: وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم، وجاز ذلك، يعني البدل، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي، لأن توليتم معناه النفي، كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل، انتهى كلامه. والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز، لو قلت: قام القوم إلا زيد، بالرفع على البدل، لم يجز، قالوا: لأن البدل يحلّ محلّ المبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب. وأما ما اعتلّ به من تسويغ ذلك، لأن معنى توليتم النفي، كأنه قيل: لم يفوا إلا قليل، فليس بشيء، لأن كل موجب، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضدّه، كان كذلك، فليجز: قام القوم إلا زيد، لأنه يؤوّل بقولك: لم تجلسوا إلا زيد. ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل، فتبني عليه كلامها، وإنما أجاز النحويون: قام القوم إلا زيد بالرفع، على الصفة. وقد عقد سيبويه في ذلك باباً في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل. وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، {ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء: 22) .

وقليل بها الأصوات إلا بغامها

ص: 214

وسوى بين هذا، وبين قراءة من قرأ:{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} (النساء: 95) ، برفع غير، وجوّز في نحو: ما قام القوم إلا زيد، بالرفع البدل والصفة، وخرّج على ذلك قول عمرو بن معدي كرب:

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان}

قال: كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال الشماخ:

وكل خليل غيرها ضم نفسه

لوصل خليل صارم أو معارز

ومما أنشده النحويون:

لدم ضائع نأت أقربوه

عنه إلا الصبا وإلا الجنوب

وأنشدوا أيضاً:

وبالصريمة منهم منزل خلق

عاف تغير إلا النؤى والوتد

قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره، من حيث أنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر. وقال أيضاً: وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا: عطف البيان. وقال غيره: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس. وقال المبرد: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل، وتحرير ذلك نتكلم عليه في علم النحو، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه ابن عطية في تخريج هذه القراءة، لم يذهب إليه نحوي. ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف، كأنه قال: امتنع قليل أن يكون توكيداً للمضمر المرفوع المستثنى منه. ولولا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما. وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: إلا قليل منكم لم يتول، كما قالوا: ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه. وهذه أعاريب من لم يمعن في النحو.

{وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} : جملة حالية، قالوا: مؤكدة. وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه، ومن خالف بينهما تكون الحال مبينة، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ} : الكلام على: {تسفكون} ، كالكلام على:{لا تعبدون} إلا الله من حيث الإعراب.

ص: 215

{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة، فالمختار أن أنتم مبتدأ، وهؤلاء خبر، وتقتلون حال. وقد قالت العرب: ها أنت ذا قائماً، وهاأنا ذا قائماً. وقالت أيضاً: هذا أنا قائماً، وها هو ذا قائماً، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ، وكأنه قال: أنت الحاضر، وأنا الحاضر، وهو الحاضر. والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال. ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوباً على الحال، فيما قلناه من قولهم: ها أنت ذا قائماً ونحوه.

ص: 216

قال ابن عطية: وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد شيخنا، هؤلاء: رفع بالابتداء، وأنتم خبر مقدّم، وتقتلون حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود، فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول: هذا زيد منطلقاً، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه، لا الإخبار بأن هذا هو زيد. انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا غرناظة، يعرف بابن الباذش، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد، مؤلف كتاب «الإقناع في القراآت» ، وله اختيارات في النحو، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، وعلق عنه في النحو على كتاب «الجمل والإيضاح» ومسائل من كتاب سيبويه. توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ، وهؤلاء الخبر، إلى عكس هذا. والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل. قالوا: وهو حال منه، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب «منهج السالك» من تأليفنا، فيطالع هناك، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء، ونقل جوازه عن الفراء، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره، جنوحاً إلى مذهب الفراء، فيكون على هذا القول يقتلون خبراً عن أنتم. وفضل بين المبتدأ والخبر بالنداء. والفصل بينهما بالنداء جائز، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر. وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة، وقد أنشدوا أبياتاً حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة، من ذلك قول رجل من طيّىء:

إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم

ص: 217

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ، ويقتلون الخبر، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون، فيكون إذ ذاك منصوباً بأعني. وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات، ولا بأسماء الإشارة. والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أياً نحو: اللهم اغفر لنا، أيتها العصابة، أو معرّفاً بالألف واللام نحو: نحن العرب أقرى الناس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقد يكون علماً، كما أنشدوا:

بنا تميماً يكشف الضباب. اهـ.

وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم، كما مثلناه. وقد جاء بعد ضمير مخاطب، كقولهم: بك الله نرجو الفضل. وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي، وهو خبر عن أنتم، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو.

ص: 218

{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وارتفاع هو على الابتداء، وهو إما ضمير الشأن، والجملة بعده خبر عنه، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبراً، وفيه ضمير عائد على الإخراج، إذ النية به التأخير. ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذا كان متحملاً ضميراً مرفوعاً. فلا يجيزون: قائم زيد، على أن يكون قائم خبراً مقدّماً، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم، وإخراجهم مرفوع به مفعولاً لم يسم فاعله، وتبعهم على هذا المهدوي. ولا يجيز هذا الوجه البصريون، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها، وإذا جعلت قوله محرّم خبراً عن هو، وإخراجهم مرفوعاً به، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة. وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا. وأجازوا أيضاً أن يكون هو مبتدأ، ليس ضمير الشأن، بل هو عائد على الإخراج، ومحرّم خبر عنه، وإخراجهم بدل. وهذا فيه خلاف. منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل، ومنهم من منع. وأجازه الكسائي، وفي بعض النقول. وأجاز الكوفيون أن يكون هو عماداً، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل، وقد تقدّم مع الخبر. والتقدير: وإخراجهم هو محرّم عليكم، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ، أقدم معه الفصل. قال الفراء: لأن الواو ها هنا تطلب الاسم، وكل موضع تطلب فيه الاسم، فالعماد فيه جائز. ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم: أحدهما: وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة، إذ التقدير: وإخراجهم هو محرّم، فمحرّم نكرة لا تقارب المعرفة. الثاني: أن فيه تقديم الفصل، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطاً بين المبتدأ والخبر، أو بين ما هما أصله، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو.

ص: 219

ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد، وهو أنه قال: قيل في هو إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرّم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو. انتهى ما نقله في هذا القول، وهذا خطأ من وجهين. أحدهما: أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي. أما البصري، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة، وأما الكوفي، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى، نحو قولك: ظننته قائماً الزيدان. والثاني: أنه جعل إخراجهم بدلاً من ضمير الأمر، وضمير الأمر لا يعطف عليه، ولا يبدل منه، ولا يؤكد. قال ابن عطية: وقيل هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفي، وليست هنا بالتي هي عماد، ومحرم على هذا ابتداء، وإخراجهم خبر. انتهى ما نقله في هذا القول. والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر على المبتدأ، فإعراب محرم عندهم خبر متقدم، وإخراجهم مبتدأ، وهو المناسب للقواعد، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة، ولا مسوغ لها، ويكون الخبر معرفة، بل المستقر في لسانهم عكس هذا، إلا إن كان يرد في شعر، فيسمع ولا يقاس عليه. قال ابن عطية: وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر. انتهى ما نقله في هذا القول. وهذا القول ضعيف جداً، إذ لا موجب لتقدّم الضمير، ولا لبروزه بعد استتاره، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير، إذ على هذا القول يكون محرّم خبراً مقدّماً، وإخراجهم مبتدأ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عارياً من الضمير، إلا إذا رفع الظاهر. ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ، ولا جائز أن يكون فاعلاً مقدّماً. قال ابن عطية: وقيل هو ضمير الإخراج، تقديره: وإخراجهم محرم عليكم. انتهى ما نقله في هذا القول، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم،

ص: 220

ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره، ويكون إخراجهم تفسيراً لذلك المضمر، إلا على أن يكون إخراجهم بدلاً من الضمير. وقد تقدم أن في ذلك خلافاً، منهم من أجاز ومنهم من منع.

{فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلَاّ خِزْىٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا} إلاّ خزي: استثناء مفرّغ، وهو خبر المبتدأ. ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة، وتفصيل ذلك: أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلاّ، فإما أن يكون هو الأوّل، أو منزلاً منزلته، أو وصفاً، إن كان الأول في المعنى، أو منزلاً منزلته، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور. وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأوّل، وإن كان وصفاً أجاز الفراء فيه النصب، ومنعه البصريون. ونقل عن يونس: إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائناً ما كان، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس، قال: لا خلاف بين النحويين في قولك: ما زيد إلا أخوك، إنه لا يجوز إلا بالرفع. قال: فإن قلت ما أنت إلا لحيتك، فالبصريون يرفعون، والمعنى عندهم: ما فيك إلا لحيتك، وكذا: ما أنت إلا عيناك. وأجاز في هذا الكوفيون النصب، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر، إلا أن يعرف المعنى، فتضمر ناصباً نحو: ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى، وما أنت إلا عمامتك تحسيناً ورداءك تزييناً.

ص: 221

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالأٌّخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} والذين: خبر عن أولئك، فلا يخفف معطوف على الصلة، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً، تقول: جاءني الذي قتل زيداً بالأمس، وسيقتل غداً أخاه، إذ الصلاة هي جمل، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضياً أو غيره، وعلى اختيار التوافق في الصيغة، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بصلته خبراً. وفلا يخفف: خبر بعد خبر، وعلل دخول الفاء لأن الذين، إذا كانت صلته فعلاً، كان فيها معنى الشروط، وهذا خطأ، لأن الموصول هنا أعربه خبراً عن أولئك، فليس قوله فلا يخفف خبراً عن الموصول، إنما هو خبر عن أولئك، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبراً عنه. وجوز أيضاً أن يكون أولئك مبتدأ، والذين مبتدأ ثان، وفلا يخفف خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك. قيل: ولم يحتج إلى عائد، لأن الذين هم أولئك، كما تقول: هذا زيد منطلق، وهذا خطأ، لأن كل جملة وقعت خبراً لمبتدأ فلا بد فيها من رابط، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط. وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره، فلا بد من الرابط. وليس نظير ما مثل به من قوله: هذا زيد منطلق، لأن زيد منطلق خبران عن هذا، وهما مفردان، أو يكون زيد بدلاً من هذا، ومنطلق خبراً. وأما أن يكون هذا مبتدأ، وزيد مبتدأ ثانياً، ومنطلق خبراً عن زيد، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا، فلا يجوز لعدم الرابط. وأيضاً فلو كان هنا رابط، لما جاز هذا الإعراب، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه، فلا يشبه اسم الشرط، إذ يزول العموم باختصاصه، ولأن صلة الذين ماضية لفظاً ومعنى. ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً.

ص: 222

{وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} : جملة إسمية معطوفة على جملة فعلية، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال، فيكون هم مرفوعاً بفعل محذوف يفسره ما بعده، على حدّ قوله:

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله: {فلا يخفف} ، وهو جملة فعلية، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل، لا اختصاصاً ولا أولوية، فتكون كان والهمزة خلافاً لأبي محمد بن السيد، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا، أولى من الابتداء، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل، لأنه أعم، إلا إن جعل الفاعل عاماً، فيكون ولا هم ينصرهم أحد، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد، ويفوت الإيجاز، مع أن قوله:{ولا هم ينصرون} يفيد ذلك، أعني العموم.

ص: 223

{وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَبٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَفِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَلِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَنُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الأٌّخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَدِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ

ص: 224

أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .

بئس: فعل جعل للذّم، وأصله فعل، وله ولنعم باب معقود في النحو.

{وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ} : تقدّم الكلام في هذه اللام، ويحتمل أن تكون للتأكيد، وأن تكون جواب قسم.

والكتاب هنا: التوراة، في قول الجمهور، والألف واللام فيه للعهد، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا. وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي، وموسى هو الثاني عنده.

{وَقَفَّيْنَا} : هذه الياء أصلها الواو، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء، كما تقول: غزيت من الغزو. والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين، لأن قفوت يتعدى إلى واحد. تقول: قفوت زيداً أي تبعته، فلو جاء على التعدية لكان: وقفيناه من بعده الرسل، وكونه لم يجىء كذلك في القرآن، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفاً. ألا ترى إلى قوله:{ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم} (الحديد: 27) ، ولكنه ضمن معنى جئنا، كأنه قال: وجئنا من بعده بالرسل، يقفو بعضهم بعضاً، ومن في: من بعده} : لابتداء الغاية، والباء في بالرسل متعلقة بقفينا، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص، ويحتمل أن تكون للعهد.

ص: 225

{أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ} : الهمزة أصلها للاستفهام، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطف الجملة على ما قبلها، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها، كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول. ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى:{كلما رزقوا منها} (البقرة: 25)، فأغنى عن إعادته. والناصب لها قوله: استكبرتم} .

{فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} : ظاهره أنه معطوف على قوله: استكبرتم، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرون على قتله، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله. وتهيأ لهم ذلك، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه. واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وهو قتله. وأجاز أبو القاسم الراغب أن يكون {ففريقاً كذبتم} معطوفاً على قوله:{وأيدناه} ، ويكون قوله: أفكلما مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر في ترتيب الكلام الأول، وهذا أيضاً محتمل، وأخر العامل وقدّم المفعول ليتواخى رؤوس الآي، وثم محذوف تقديره: ففريقاً منهم كذبتم.

{بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} : بل: للإضراب، وليس إضراباً عن اللفظ المقول، لأنه واقع لا محالة، فلا يضرب عنه.

ص: 226

{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} : انتصاب قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي فإيماناً قليلاً يؤمنون، قاله قتادة. وعلى مذهب سيبويه: انتصابه على الحال، التقدير: فيؤمنونه، أي الإيمان في حال قلته. وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف، أي فزماناً قليلاً يؤمنون، لقوله تعالى:{آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره} (آل عمران: 72) . وجوزوا أيضاً انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون، ثم لما أسقط الباء تعدى إليه الفعل، وهو قول معمر. وجوّزوا أيضاً أن يكون حالاً من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون، المعنى: أي فجمعاً قليلاً يؤمنون، أي المؤمن منهم قليلاً.

وما في قوله: {ما يؤمنون} ، زائدة مؤكدة، دخلت بين المعمول والعامل، نظير قولهم: رويد ما الشعر، وخرج ما أنف خاطب بدم. ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر. والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول، وهو أن يكون المعنى: فإيماناً قليلاً يؤمنون، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل، ولموافقته ظاهر قوله تعالى:{فلا يؤمنون إلا قليلاً} (النساء: 46) . وأما قول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت، وأنهم يريدون لا تنبت شيئاً، فإنما ذلك لأن قليلاً انتصب على الحال من أرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية، والتقدير: قليلاً إنباتها، أي لا تنبت شيئاً، وليست ما زائدة، وقليلاً نعت لمصدر محذوف، تقدير الكلام: تنبت قليلاً، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض، لأن قولك: تنبت قليلاً، لا يدل على نفي الإنبات رأساً، وكذلك لو قلنا: ضربت ضرباً قليلاً، لم يكن معناه ما ضربت أصلاً.

{مِنْ عِندِ اللَّهِ} : في موضع الصفة.

ص: 227

{مُصَدِّقٌ} : صفة ثانية، لا يقال: إنه يحتمل أن يكون {من عند الله} متعلقاً بجاءهم، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما. وفي مصحف أبيّ مصدقاً، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب، وإن كان نكرة. وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط، فقد تخصصت بالصفة، فقربت من المعرفة.

واختلفوا في جواب ولما الأولى، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، واختاره الزمخشري وقدره نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه.

ص: 228

{وَكَانُواْ} ، يجوز أن يكون معطوفاً على جاءهم، فيكون جواب لما مرتباً على المجيء والكون. ويحتمل أن يكون جملة حالية، أي وقد كانوا، فيكون الجواب مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون. وظاهر كلام الزمخشري أن قوله: وكانوا أليست معطوفة على الفعل بعد لما، ولا حالاً لأنه قدّر جواب لما محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون، فدل على أن قوله: وكانوا، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله: ولما. {مِن قَبْلُ} : أي من قبل المجيء، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة. وقدره غيره: كفروا، فحذف لدلالة كفروا به عليه، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله:{فلما جاءهم} ، جواب لما الأولى، وكفروا، جواب لقوله: فلما جاءهم. وهو عنده نظير قوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف} (البقرة: 38) . قال: ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو: كفروا به، وكرر لما لطول الكلام، ويقيد ذلك تقريراً للذنب وتأكيداً له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم، لما جاء زيد، فلما جاء خالد أقبل جعفر، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته، ولا حجة في هذا المختلف فيه، فالأولى أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه، وأن يكون التقدير: لما جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم} كذبون.

ص: 229

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} : تقدّم الكلام على بئس، وأما ما فاختلف فيها، ألها موضع من الإعراب أم لا. فذهب الفرّاء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب، كحبذا، هذا نقل ابن عطية عنه. وقال المهدوي: قال الفرّاء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعاً من الإعراب. واختلف، أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بما، التقدير: بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم، وبه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً، واشتروا صفة له، والتقدير: بئس شيئاً شيء اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف، فهو في موضع رفع، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء، من أن ما موضعها نصب على التمييز، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم، التقدير: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم. فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها، فلا موضع لها من الإعراب. وأن يكفروا على هذا القول بدل، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو كفرهم. فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة: أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها، أو صفة لشيء المحذوف المخصوص بالذم فموضعها رفع، وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي شيء اشتروا به أنفسهم. وعزي هذا القول، أعني أن ما معرفة تامة لا موصولة، إلى الكسائي. وقال الفراء والكسائي، فيما نقل عنهما: أن ما موصولة بمعنى الذي، واشتروا: صلة، وبذلك قال الفارسي، في

ص: 230

أحد قوليه، وعزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه قال: فالتقدير على هذا القول: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، كقولك: بئس الرجل زيد، وما في هذا القول موصولة. انتهى كلامه، وهو وهم على سيبويه. وذهب الكسائي فيما نقل عنه المهدوي وابن عطية إلى أن ما وبعدها في موضع رفع، على أن تكون مصدرية، التقدير: بئس اشتراؤهم. قال ابن عطية: وهذا معترض، لأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير. انتهى كلامه. وما قاله لا يلزم إلا إذا نص على أمر مرفوع ببئس، أما إذا جعله المخصوص بالذم، وجعل فاعل بئس مضمراً والتمييز محذوفاً، لفهم المعنى. التقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض، لكن يبطل هذا القول الثاني عود الضمير في به على ما، وما المصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف على مذهب الجمهور، إذ الأخفش يزعم أنها اسم. والكلام على هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في علم النحو.

{أَن يَكْفُرُواْ} : تقدم أن موضعه رفع، إما، على أن يكون مخصوصاً بالذم عند من جعل ما قبله من قوله:{بئسما اشتروا به} غير تام، وفيه الأعاريب التي في المخصوص بالذم، إذا تأخر، أهو مبتدأ، والجملة التي قبله خبر مبتدأ محذوف على ما تقرر قبل؟ وأجاز الفراء على هذا التقدير أن يكون بدلاً من الضمير في به، فيكون في موضع خبر.

{بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا} وانتصابه على أنه مفعول من أجله وظاهره أن العامل فيه يكفروا، أي كفرهم لأجل البغي. وقال الزمخشري: هو علة اشتروا، فعلى قوله يكون العامل فيه اشتروا. وقيل: هو نصب على المصدر لا مفعول من أجله، والتقدير: بغوا بغياً، وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه.

ص: 231

{أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ} : أن: مع الفعل بتأويل المصدر، وذلك المصدر المقدر منصوب على أنه مفعول من أجله، أي بغوا لتنزيل الله. وقيل: التقدير بغياً على أن ينزّل الله لأن معناه حسداً على أن ينزّل الله، أي على ما خص الله به نبيه من الوحي، فحذفت على، ويجيء الخلاف الذي في أنّ وأن، إذا حذف حرف الجر منهما، أهما في موضع نصب أم في موضع خفض؟ وقيل: أن ينزّل في موضع جر على أنه بدل اشتمال من ما في قوله: {بما أنزل الله} ، أي بتنزيل الله، فيكون مثل قول الشاعر:

أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص

{مِن فَضْلِهِ} : من لابتداء الغاية، والفضل هنا الوحي والنبوة. وقد جوّز بعضهم أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش، فيكون في موضع المفعول، أي أن ينزل الله فضله. {عَلَى مَن يَشَآءُ} . على متعلقة بينزل، و {من} هنا موصولة، وقيل نكرة موصوفة. و {يشاء} على القول الأول: صلة، فلا موضع لها من الإعراب، وصفة على القول الثاني، فهي في موضع خفض، والضمير العائد على الموصول أو الموصوف محذوف تقديره يشاؤه. {مِنْ عِبَادِهِ} : جار ومجرور في موضع الحال، تقديره كائناً من عباده.

{وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} : الألف واللام في الكافرين للعهد.

{وَيَكْفُرونَ} : جملة استؤنف بها الإخبار عنهم، أو جملة حالية، العامل فيها قالوا: أي وهم يكفرون.

{فَلِمَ} : الفاء: جواب شرط مقدر، التقدير: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم {تقتلون أنبياء الله} وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر.

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قيل: إن نافية أي ما كنتم مؤمنين.

ص: 232

قيل: والأظهر أن إن شرطية، والجواب محذوف، التقدير: فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد، لكن حذف الشرط من الأول وأبقى جوابه وهو:{فلم تقتلون} ؟ وحذف الجواب من الثاني وأبقى شرطه. وقال ابن عطية: و {إن كنتم} : شرط، والجواب متقدم. ولا يتمشى قوله هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط، وليس مذهب البصريين إلا أبا زيد الأنصاري والمبرد منهم.

{وَأُشْرِبُواْ} : عطف على قالوا سمعنا وعصينا. فيكون معطوفاً على قالوا، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة، قلتم كذا وكذا وأشربتم، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل، أو الواو للحال، أي وقد أشربوا والعامل قالوا، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالاً، والقول الأول هو الظاهر.

{بِكُفْرِهِمْ} : الظاهر أن الباء للسبب، أي الحامل لهم على عباده العجل هو كفرهم السابق، قيل: ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع، يعنون أن يكون للحال، أي مصحوباً بكفرهم.

{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَنُكُمْ} المخصوص بالذمّ محذوف بعدما، فإن كانت منصوبة، فالتقدير: بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل، فيكون يأمركم صفة للتمييز، أو يكون التقدير: بئس شيئاً شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف، أو يكون التقدير: بئس شيئاً ما يأمركم، أي الذي يأمركم، فيكون يأمركم به إيمانكم. والمخصوص مقدر بعد ذلك، أي قتل الأنبياء، وكذا وكذا. فيكون ما موصولة، أو يكون التقدير: بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون ما تامّة. وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعاً من الإعراب.

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، قيل: إن نافية، وقيل: شرطية.

ص: 233

{خَالِصَةً} واختلفوا في إعراب خالصة، فقيل: نصب على الحال، ولم يحك الزمخشري غيره، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر، لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده. وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية، إذ قالا: ويجوز أن يكون نصب خالصة على الحال، وعند الله خبر كان. وقيل: انتصاب خالصة على أنه خبر كان، فيجوز في لكم أن يتعلق بكانت، لأن كان يتعلق بها حرف الجر، ويجوز أن يتعلق بخالصة. ويجوز أن تكون للتبيين، فيتعلق بمحذوف تقديره: لكم، أعني نحو قولهم: سقياً لك إذ تقديره: لك أدعو.

وذكروا في ما من قوله: {بما قدمت} ، أنها تكون مصدرية، والظاهر أنها موصول، والعائد محذوف.

ص: 234

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ} : الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ووجد هنا متعدّية إلى مفعولين: أحدهما الضمير، والثاني أحرص الناس. وإذا تعدّت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدّية إلى اثنين، كقوله تعالى:{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} (الأعراف: 102) . وكونها هنا تعدّت إلى مفعولين، هو قول من وقفنا على كلامه من المفسرين. ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب، ويكون انتصاب أحرص على الحال، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة، وهو قول الفارسي. وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور. أما من قال بأنها محضة، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة، فلا يجوز عنده في أحرص} النصب على الحال. وأحرص هنا هي أفعل التفضيل، وهي مؤولة. بمعنى من، وقد أضيف إلى معرفة، فيجوز فيها الوجهان: أحدهما: أن يفرد مذكره، وإن كانت جارية على مفرد ومثنى ومجموع، ومذكر ومؤنث. والثاني: أن يطابق ما قبلها. فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة، لكان أحارص الناس، أو أحرصي الناس. ومن الوجه الثاني قوله: أكابر مجرميها، كلا الوجهين فصيح. وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد. وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد، وليس بصحيح. وإذا أضيفت إلى معرفة، كهذين الموضعين، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه، ولذلك منع البصريون يوسف أحسن إخوته، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل، وتأولوا ما ورد مما يشبهه، وشذ نحو قوله:

يا رب موسى أظلمي وأظلمه

يريد: أظلمنا حيث لم يضف أظلم إلى ما هو بعضه.

ص: 235

{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت أفعل التفضيل، فيكون ذلك من الحمل على المعنى، لأن معنى {أحرص الناس} : أحرص من الناس. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف، أي وأحرص من الذين أشركوا، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه. وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب، فكانوا أحب الناس في البعد منه، لأن من توقع شراً كان أنفر الناس عنه، فلما كانت الحياة سبباً في تباعد العقاب، كانوا أحرص الناس عليها. وعلى هذا الذي تقرّر من اتصال، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل، فلا بد من ذكر من، لأن أحرص الناس جرى على اليهود، فلو عطفت بغير من لكان معطوفاً على الناس، فيكون في المعنى: ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته، لأن اليهود ليسوا من المشركين، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا، لا إذا قلنا: إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل، فإنه يصح ذلك. وأما قول من زعم أن قوله:{ومن الذين أشركوا} معطوفاً على الضمير في قوله: ولتجدنهم، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهو معنى يصح، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة.

وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في: {ومن الذين أشركوا} لعطف مفرد على مفرد، وأما إذا كانت لعطف الجمل، فيكون إذ ذاك منقطعاً من الدخول تحت أفعل التفضيل، ويكون ابتداء، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضاً.

ص: 236

و {يود أحدهم} صفة لمبتدأ محذوف، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها، كقوله تعالى:{وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: 164)، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} (النساء: 159) ، وكقول العرب: منا ظعن ومنا أقام، وعلى أن تكون الواو في ومن الذين أشركوا} لعطف المفرد على المفرد، قالوا: ويكون قوله: {يود أحدهم} جملة في موضع الحال، أي وادًّا أحدهم، قالوا: ويكون حالاً من الذين، فيكون العامل أحرص المحذوف، أو من الضمير في أشركوا، فيكون العامل أشركوا. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب في {ولتجدنهم} ، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادًّا أحدهم، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.

{لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} : مفعول الودادة محذوف تقديره: يود أحدهم طول العمر. وجواب لو محذوف تقديره: لو يعمر ألف سنة لسر بذلك، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه. هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان. وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن، فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود، كأنه قال: يود أحدهم تعمير ألف سنة. فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف، وعلى القول الأول لا يكون لقوله:{لو يعمر ألف سنة} محل إعراب. وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول، كما ذكرنا، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو.

ولا تحتاج لو، إذا كانت للتمني، إلى جملة جوابية، لأن معناها معنى: يا ليتني أعمر، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية. فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال: أن تكون حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن تكون مصدرية، وأن تكون للتمني محكية.

ص: 237

{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} : الضمير من قوله: وما هو عائد على أحدهم، وهو اسم ما، وبمزحزحه خبر ما، فهو في موضع نصب، وذلك على لغة أهل الحجاز. وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك، وأن يعمر فاعل بمزحزحه، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعميره. وجوّزوا أيضاً في هذا الوجه، أعني: أن يكون الضمير عائداً على أحدهم، أن يكون هو مبتدأ، وبمزحزحه خبر. وأن يعمر فاعل بمزحزحه، فتكون ما تميمية. وهذا الوجه، أعني أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية. وأجازوا أن يكون هو ضميراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله:{لو يعمر} ، وأن يعمر بدل منه، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ. وقيل: هو كناية عن التعمير، وأن يعمر بدل منه، ولا يعود هو على شيء قبله. والفرق بين هذا القول والذي قبله، أن مفسر الضمير هنا هو البدل، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر. وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق. فهذا يفسره ما قبله، وذاك يفسره ما بعده. وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن يكون هو مبهماً، وأن يعمر موضحه. يعني: أن يكون هو لا يعود على شيء قبله، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر. وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين، وهو أن مفسر ضمير الشأن، وهو المسمى عندهم بالمجهول، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسناداً معنوياً نحو: ظننته قائماً زيد، وما هو بقائم زيد، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم، وبقائم في موضع الخبر، وزيد فاعل بقائم. وكان المعنى عندهم: ما هو يقوم زيد، ولذلك أعربوا في: ظننته قائماً زيد، الهاء ضمير المجهول، وهي مفعول ظننت، وقائماً المفعول الثاني، وزيد فاعل بقائم. ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرّح بجزأيها سالمة من حرف جر. قال

ص: 238

ابن عطية، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد. انتهى كلامه، ويحتاج إلى تفسير، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدّم مع الخبر على المبتدأ، فإذا قلت: ما زيد هو القائم، جوّزوا أن تقول: ما هو القائم زيد. فتقدير الكلام عندهم، وما تعميره هو بمزحزحه. ثم قدم الخبر مع العماد، فجاء: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، أي تعميره، ولا يجوز ذلك عند البصريين، لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطاً. وتلخص في هذا الضمير: أهو عائد على أحدهم؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر؟ أو هو ضمير الشأن؟ أو عماد؟ أقوال خمسة، أظهرها الأول.

{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} وما: في بما، موصولة، والعائد محذوف، أي يعملونه. وجوّزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم.

ص: 239

{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَفِرِينَ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَءَايَتٍ بَيِّنَتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلَاّ الْفَسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ كِتَبَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَنُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَرُوتَ وَمَرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} .

ص: 240

جبريل: اسم ملك علم له، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف، للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة. ومعنى جبر: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي، ولأنه لو كان مركباً تركيب الإضافة لكان مصروفاً. وقال المهدوي: ومن قال: جبر، مثل: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، جعله بمنزلة حضرموت. انتهى كلامه. يعني أنه يجعله مركباً تركيب المزج، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب. وليس ما ذكر بصحيح، لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة، فيلزم الصرف في الثاني، وإجراء الأول بوجوه الإعراب، أو لا يلحظ، فيركبه تركيب المزج. فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف، فكونه لم يسمع فيه الإضافة، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج. وقد تصرّفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة. قالوا: جبريل: كقنديل، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص.

{سليمان} : اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية، والعجمة، ونظيره من الأعجمية، في أن في آخره ألفاً ونوناً: هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون: كعثمان، لأن زيادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف. والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية.

ومعمول القول: الجملة بعد ومن هنا شرطية.

ص: 241

{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} : ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، فلو قلت: من يكرمني؟ فزيد قائم، لم يجز. وقوله:{فإنه نزله على قلبك} ، ليس فيه ضمير يعود على من. وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري، وهو خطأ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير، ولمضي فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: فعداوته لا وجه لها، أو ما أشبه هذا التقدير.

{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : انتصاب مصدقاً على الحال من الضمير المنصوب في {نزله} ، إن كان يعود على القرآن، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالاً من المجرور المحذوف لفهم المعنى، لأن المعنى: فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقاً. والثاني: أن يكون حالاً من جبريل. وما: في لما الموصولة.

{مَن كَانَ عَدُوًّا} ومن: في قوله: {من كان عدوًّا} شرطية. واختلف في الجواب فقيل: هو محذوف، تقديره: فهو كافر، وحذف لدلالة المعنى عليه. وقيل الجواب:{فإن الله عدوّ للكافرين} .

وهذه الجملة الواقعة خبراً للشرط، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط. والرابط هنا الاسم الظاهر وهو:

{وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلَاّ الْفَسِقُونَ} والألف واللام في الفاسقون، إما للجنس، وإما للعهد، و {إلا الفاسقون} : استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء، فأجاز: ما قام إلا زيداً، على مراعاة ذلك المحذوف، إذ لو كان لم يحذف، لجاز النصب، ولا يجيز ذلك البصريون.

ص: 242

{أَوَكُلَّمَا عَهَدُواْ عَهْدًا} وقرأ الجمهور: أو كلما، بفتح الواو. واختلف في هذه الواو فقيل: هي زائدة، قاله الأخفش. وقيل: هي أو الساكنة الواو، وحركت بالفتح، وهي بمعنى بل، قاله الكسائي. وكلا القولين ضعيف. وقيل: واو العطف، وهو الصحيح. وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين: أن الأصل تقديم هذه الواو، والفاء، وثم، على همزة الاستفهام، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وأن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفاً معطوفاً عليه، مقدّراً بين الهمزة وحرف العطف، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات؟ {وكلما عاهدوا} . وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى «بالتكميل لشرح التسهيل» .

وانتصاب {عهداً} على أنه مصدر على غير الصدر، أي معاهدة، أو على أنه مفعول على تضمين عاهد معنى: أعطى، أي أعطوا عهداً. وقرىء: عهدوا، فيكون عهداً مصدراً.

{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، وهو الظاهر، فيكون أكثرهم مبتدأ، ولا يؤمنون خبر عنه، وقيل: يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات، ويكون أكثرهم معطوفاً على فريق، أي نبذه فريق منهم، بل أكثرهم، ويكون قوله:{لا يؤمنون} ، جملة حالية، العامل فيها نبذه، وصاحب الحال هو أكثرهم.

{وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ} وقرأ ابن أبي عبلة: مصدّقاً بالنصب على الحال، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله:{من عند الله} .

{نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ} : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة، وهو مفعول ثانٍ لأوتوا، على مذهب الجمهور، ومفعول أول على مذهب السهيلي. وقد تقدّم القول في ذلك. {كِتَبَ اللَّهِ} : هو مفعول بنبذ.

{كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : جملة حالية، وصاحب الحال فريق، والعامل في الحال نبذ.

ص: 243

{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ} : والجملة من قوله: واتبعوا، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله: ولما جاءهم إلى آخرها.

وما موصولة، صلتها {تتلو} ، وهو مضارع في معنى الماضي، أي ما تلت. وقال الكوفيون: المعنى: ما كانت تتلو، لا يريدون أن صلة ما محذوفة، وهي كانت وتتلو، في موضع الخبر، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي، كما أنك إذا قلت: كان زيد يقوم، هو إخبار بقيام زيد، وهو ماض لدلالة كان عليه.

{وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} واستعمال لكن هنا حسن، لأنها بين نفي وإثبات. وقرىء: ولكنّ بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو. وقرىء: بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي. وإذا خففت، فهل يجوز إعمالها؟ مسألة خلاف الجمهور: على المنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها، ونقل ذلك غيره عن الأخفش، والصحيح المنع. وقال الكسائي والفراء: الاختيار، التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها. كبل: فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل، لأن بل لا تدخل عليها الواو، فإذا كانت لكن مشدّدة عملت عمل إن، ولم تكن عاطفة. انتهى الكلام. وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة، وهي مسألة خلاف الجمهور على أن لكنّ تكون عاطفة. وذهب يونس إلى أنها ليست من حروف العطف، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى:{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله} (الأحزاب: 40) . وأما إذا جاءت بعدها الجملة، فتارة تكون بالواو، وتارة لا يكون معها الواو، كما قال زهير:

إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره

لكن وقائعه في الحرب تنتظر

ص: 244

وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم: ما قام زيد لكن عمرو، وما ضربت زيداً لكن عمراً، وما مررت بزيد لكن عمرو، فهو من تمثيلهم، لا أنه مسموع من العرب. ومن غريب ما قيل في لكن: إنها مركبة من كلم ثلاث: لا للنفي، والكاف للخطاب، وأن التي للإثبات والتحقيق، وأن الهمزة حذفت للاستثقال، وهذا قول فاسد، والصحيح أنها بسيطة.

{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} : الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه، فالظاهر أنه يعود على الشياطين، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم، وهو اختيار الزمخشري. وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في كفروا. قالوا: أو خبراً ثانياً. وقيل: حال من الشياطين. ورد بأن لكن لا تعمل في الحال، وقيل: بدل من كفروا، بدل الفعل من الفعل، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى. والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم.

{وَمَآ أُنزِلَ} : ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب، وأنه معطوف على قوله:{السحر} ، وظاهر العطف التغاير، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحراً. وقيل: هو معطوف على {ما تتلو الشياطين} ، أي {واتبعوا ما تتلو الشياطين} .

وقيل: ما في موضع جر عطفاً على ملك سليمان.

وقيل: ما حرف نفي، والجملة معطوفة على {وما كفر سليمان} .

{هَرُوتَ وَمَرُوتَ} : قرأ الجمهور: بفتح التاء، وهما بدل من الملكين، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما. وقيل: بدل من الناس، فتكون الفتحة علامة للنصب، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين. وقيل: هما قبيلتان من الشياطين، فعلى هذا يكونان بدلاً من الشياطين، وتكون الفتحة علامة للنصب، على قراءة من نصب الشياطين. وأما من رفع الشياطين، فانتصابهما على الذم، كأنه قال: أذم هاروت وماروت، أي هاتين القبيلتين، كما قال الشاعر:

أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تخادع

ص: 245

وهذا على قراءة الملكين، بفتح اللام. وأما من قرأ بكسرها، فيكونان بدلاً من الملكين، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه. وقرأ الحسن والزهري: هاروت وماروت بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف، أي هما هاروت وماروت، أن كانا ملكين. وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين، الأول أو الثاني، على قراءة من رفعه، إن كانا شيطانين. وتقدّم لنا القول في هاروت وماروت، وأنهما أعجميان. وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت، وهو الكسر، وقوله خطأ، بدليل منعهم الصرف لهما، ولو كانا، كما زعم، لانصرفا، كما انصرف جاموس إذا سميت به. واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحراً.

ص: 246

{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} : قرأ الجمهور: بالتشديد، من علم على بابها من التعليم. وقالت طائفة: هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف، والهمزة بمعنى واحد، فهو من باب الإعلام، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرّف. وما يعلمان: من أعلم قال: لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه. والضمير في يعلمان عائد على الملكين، أي وما يعلم الملكان. وكذلك قراءة أبي، أي بإظهار الفاعل لا إضماره. وقيل: عائد على هاروت وماروت، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه، وفي الثاني على البدل، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام، فزيدت هنا لتأكيد ذلك، بخلاف قولك: ما قام من رجل، فإنها زيدت لاستغراق الجنس، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة، وأن يكون قبلها غير واجب. وقد أمعنا الكلام على زيادة من في كتاب «منهج السالك» من تأليفنا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد، والأول أظهر. {حَتَّى يَقُولَا} : حتى هنا: حرف غاية، والمعنى انتفاء تعليمهما، أو إعلامهما على اختلاف القولين في يعلمان إلى أن يقولا:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} . وقال أبو البقاء: حتى هنا بمعنى إلا أن، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره. وقد ذكره ابن مالك في «التسهيل» وأنشد عليه في غيره:

ليس العطاء من الفضول سماحة

حتى تجود وما لديك قليل

قال: يريد إلا أن تجود، وما في {إنما} كافة، لأن عن العمل، فيصير من حروف الابتداء. وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما، نحو: إنما زيداً قائم.

ص: 247

{فَيَتَعَلَّمُونَ} : قال الفراء، واختاره الزجاج، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فيأبون فيتعلمون. وقال الفرّاء أيضاً: هو عطف على {يعلمون الناس السحر} ، فيتعلمون منهما. وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون، وقد قال منهما. وأجازه أبو علي وغيره، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون، وإن كان التعليم من الملكين خاصة، والضمير في منهما راجع إليهما، لأن قوله: فيتعلمون منهما، إنما جاء بعد ذكر الملكين. وقال سيبويه: هو معطوف على كفروا، قال: وارتفعت فيتعلمون، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلمون. يريد سيبويه: أنّ فيتعلمون ليس بجواب لقوله: فلا تكفر، فينصب كما نصب {لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب} (طه: 61) ، لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية، ليس سبباً لتعلم من يتعلم. وكفروا: في موضع فعل مرفوع، فعطف عليه مرفوع، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا، أو على يعلمون، بأن فيه إضمار الملكين. قيل: ذكرهما من أجل أن التقدير: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما} ، لأن قوله:{فيتعلمون منهما} إنما جاء بعد ذكر الملكين، كما تقدّم. وقد نقل عن سيبويه أن قوله: فيتعلمون، هو على إضمارهم، أي فهم يتعلمون، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد، وجمع حملاً على المعنى، كما قال تعالى:{فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة: 47) . وهذا العطف، وإن كان على منفي، فذلك المنفي هو موجب في المعنى، لأن معناه: إنهما يعلمان كل واحد، إذا قالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر} . وذكر الزجاج هذا الوجه. وقال الزجاج أيضاً: الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون، واستغنى عن ذكر يعلمان، بما

ص: 248

في الكلام من الدليل عليه. وقال أبو علي: لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان، لأنه موجود في النص. انتهى كلام أبي علي، وهو كلام فيه مغالطة، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان، الداخل عليها ما النافية في قوله: ولا ما يعلمان، فيكون يعلمان موجوداً في النص، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية. وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص. وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته، لأنه كان مولعاً بذلك. وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس. انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف، وأكثره كلام المهدوي، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك. وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقديره: فيأبون فيتعلمون، أو يعلمان فيتعلمون، أي على مثبت، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية، أو معطوفاً على يعلمون الناس، أو معطوفاً على كفروا، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى. فتلك أقوال ستة، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير.

{مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} : ما موصولة، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأجل عود الضمير عليها. والمصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف في قول الجمهور.

{وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ} وبضارين: في موضع نصب على أن ما حجازية، أو في موضع رفع على أن ما تميمية. والضمير في به عائد على ما في قوله:{ما يفرقون} . وقرأ الجمهور: بإثبات النون في بضارين. وقرأ الأعمش: بحذفها، وخرّج ذلك على وجهين: أحدهما: أنها حذفت تخفيفاً، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام. والثاني: أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به، كما قال:

هما أخوا في الحرب من لا أخا له

وكما قال:

كما حط الكتاب بكف يوماً يهودي

ص: 249

وهذا اختيار الزمخشري، ثم استشكل ذلك، لأن أحداً مجرور بمن، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة؟ فقال: فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد، وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور. انتهى. وهذا التخريج ليس بجيد، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه، لأنه مشغول بعامل جر، فهو المؤثر فيه لا الإضافة. وأما جعل حرف الجر جزءاً من المجرور، فهذا ليس بشيء، لأنه مؤثر فيه. وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، والأجود التخريج الأول، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها. فمن النثر قول العرب: قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، يريدون: ثنتان ومائتان.

{مِنْ أَحَدٍ} ، من زائدة، وأحد: مفعول بضارين. ومن تزاد في المفعول، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو: ما ضربت من رجل، وما ضرب زيد من رجل. وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل، لأن المعنى: وما يضرون من أحد. {إلا بإذن الله} : مستثنى مفرغ من الأحوال، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعل في قوله:{بضارين} ، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو:{من أحد} ، ويحتمل أن يكون حالاً من به، أي السحر المفرق به، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرب المحذوف.

{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ} والظاهر أن {ولا ينفعهم} معطوف على {يضرهم} ، وكلا الفعلين صلة لما، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وجوز بعضهم أن يكون {لا ينفعهم} على إضمار هو، أي وهو لا ينفعهم، فيكون في موضع رفع، وتكون الواو للحال، فتكون جملة حالية، وهذا ضعيف.

ص: 250

{وَلَقَدْ عَلِمُواْ} وعلم: هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين، وعلقت عن الجملة، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت. والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. واللام في:{لَمَنِ اشْتَرَاهُ} هي لام الابتداء، وهي المانعة من عمل علم، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق، وأجازوا حذفها، وهي باقية على منع العمل، وخرجوا على ذلك:

إني وجدت ملاك الشيمة الأدب

يريد لملاك الشيمة. ومن هنا موصولة، وهي مرفوعة بالابتداء. والجملة من قوله:{مَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} في موضع الخبر. واللام في لقد للقسم. هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين. وجملة {ولقد علموا} مقسم عليها التقدير: والله لقد علموا. والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها. وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسماً عليهما، وتكون من للشرط، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: اللام في {لمن اشتراه} هي التي يوطأ بها القسم مثل: {لئن لم تنته} (مريم: 46)(الشعراء: 166 167) ، ومن في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط وجواب القسم ما له في الآخرة من خلاق} . انتهى كلامه. فاشتراه في القول الأول صلة، وفي هذا القول خبر عن من، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم، لأنه اجتمع قسم وشرط، ولم يتقدّمهما ذو خبر، فكان الجواب للسابق، وهو القسم، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ. هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه. وفي كلا القولين يكون:{لمن اشتراه} ، في موضع نصب: بيعلموا. وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط، وقال هذا ليس موضع شرط، ولم ينقل عنه توجيه، كونه ليس موضع شرط. وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى، لأن الاشتراء قد وقع، وجعله شرطاً لا يصح، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى. فلما كان كذلك، كان ليس موضع شرط.

ص: 251

{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} : تقدّم القول في بئس، وفي ما الواقعة بعدها، ومعناه: ذمّ ما باعوا به أنفسهم. والضمير في به عائد على السحر، أو الكفر. والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره: على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر، أو الكفر. وجواب لو محذوف تقديره:{لو كانوا يعلمون} . ذمّ ذلك لما باعوا أنفسهم.

{وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ واتَّقَوْا} : وأنهم آمنوا، يتقدّر بمصدر كأنه قيل: ولو إيمانهم، وهو مرفوع. فقال سيبويه: هو مرفوع بالابتداء، أي ولو إيمانهم ثابت. وقال المبرد: هو مرفوع على الفاعلية، أي ولو ثبت إيمانهم. ففي كل من المذهبين حذف للمسند، وإبقاء المسند إليه. والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو.

{لَمَثُوبَةٌ} : اللام لام الابتداء، لا الواقعة في جواب لو، وجواب لو محذوف لفهم المعنى، أي لا ثيبوا، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم، وترتبه عليهما، هذا قول الأخفش، أعني أن الجواب محذوف. وقيل: اللام هي الواقعة في جواب لو، والجواب: هو قوله: {لمثوبة} ، أي الجملة الإسمية. والأول اختيار الراغب، والثاني اختيار الزمخشري. قال: أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في جواب لو، لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في: سلام عليكم لذلك، انتهى كلامه. ومختاره غير مختار، لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً للو، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه. ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل، وليس مثل سلام عليكم، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب. ووجه من أجاز ذلك قوله: بأن مثوبة مصدر يقع للماضي والاستقبال، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب «التكميل» من تأليفنا، بأشبع من هذا.

ص: 252

{مِنْ عِندِ اللَّهِ} : هذا الجار والمجرور في موضع الصفة، أي كائنة من عند الله. وهذا الوصف هو المسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة.

{خير} خبر لقوله: {لمثوبة} ، وليس خير هنا أفعل تفضيل، بل هي للتفضيل، لا للأفضلية. فهي كقوله:{أفمن يلقى في النار خير} (فصلت: 40)، وخير مستقرّا} (الفرقان: 24) .

فشركما لخيركما الفداء

{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} : جواب لو محذوف: التقدير: لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيراً.

ص: 253

{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَرَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَرَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَبَ كَذَلِكَ قَالَ

ص: 254

الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

{ذو} : يكون بمعنى صاحب، وتثنى، وتجمع، وتؤنث، وتلزم الإضافة لاسم جنس ظاهر. وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف، المشهور: المنع، ولا خلاف أنه مسموع، لكن من منع ذلك خصه بالضرورة. وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع، أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع. فمن الأول قولهم: ذو يزن، وذو جدن، وذو رعين، وذو الكلاع. فتجب الإضافة إذ ذاك. ومن الثاني قولهم: في تبوك، وعمرو، وقطرى: ذو تبوك، وذو عمرو، وذو قطرى. والأكثر أن لا يعتد بلفظ ذو، بل ينطق بالاسم عارياً من ذو. وما جاء من إضافته لضمير العلم، أو لضمير مخاطب لا ينقاس، كقولهم: اللهم صل على محمد وعلى ذويه، وقول الشاعر:

وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما

رجوناه قدماً من ذويك الأفاضل

ومذهب سيبويه: أن وزنه فعل، بفتح العين، ومذهب الخليل: أن وزنه فعل، بسكونها. واتفقوا على أنه يجمع في التكسير على أفعال. قالوا: أذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو، وفي النصب بالألف، وفي الجر بالياء. وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء، فذلك على جهة الجوار. وفيما أعربت به هذه الأسماء عشرة مذاهب ذكرت في النحو، وقد جاءت ذو أيضاً موصولة، وذلك في لغة طيّئ، ولها أحكام، ولم تقع في القرآن.

{تلك} : من أسماء الإشارة، يطلق على المؤنثة في حالة البعد، ويقال: تلك وتيلك وتالك، بفتح التاء وسكون اللام، وبكسرها وياء بعدها، وكسر اللام وبفتحها، وألف بعدها وكسر اللام، قال:

إلى الجودي حتى صار حجراً

وحان لتالك الغمر انحسارا

ص: 255

{هاتوا} : معناه أحضروا، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتي، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب، وللزوم الألف، إذ لو كانت همزة لظهرت، إذ أزال موجب إبدالها، وهو الهمزة قبلها، فليس وزنها أفعل، خلافاً لمن زعم ذلك، بل وزنها فاعل كرام. وهي فعل، خلافاً لمن زعم أنها اسم فعل، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها. ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر، وهو الزمخشري، وهو أمر وفعله متصرف. تقول: هاتي يهاتي مهاتاة، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه، خلافاً لمن زعم ذلك. وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف، لأن الأصل أن لا حذف، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان. فمعنى هات أحضر، ومعنى ائت أحضر. وتقول: هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين، تصرفها كرامي.

قال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه: يهود فيها وجهان، أحدهما: أن تكون جمع يهودي، فتكون نكرة مصروفة. والثاني: أن تكون علماً لهذه القبيلة، فتكون ممنوعة الصرف. انتهى كلامه. وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا: اليهود، إذ لو كان علماً لما دخلته، وعلى الثاني قال الشاعر:

أولئك أولى من يهود بمدحة

إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنب

ليس: فعل ماض، خلافاً لأبي بكر بن شقير، وللفارسي في أحد قوليه، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما، ووزنها فعل بكسر العين. ومن قال: لست بضم اللام، فوزنها عنده فعل بضم العين، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين، لم يسمع منه إلا قولهم: هيؤ الرجل، فهو هيىء، إذا حسنت هيئته. وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو.

{لَا تَقُولُواْ رَعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا} وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حيوة، وابن محيصن:{راعنا} بالتنوين، جعله صفة لمصدر محذوف، أي قولاً راعناً، وهو على طريق النسب كلابن وتامر.

ص: 256

{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} ومن، في قوله:{من أهل الكتاب} ، تبعيضية، فتتعلق بمحذوف، أي كائنين من أهل الكتاب. ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا، وبه قال الزمخشري، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان. {ولا المشركين} ، معطوف على:{من أهل الكتاب} . ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي، صاحب «التنبيه» ، كلاماً يرد فيه على الشيعة، ومن قال بمقالتهم: في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح، للعطف في قوله:{وأرجلكم} (المائدة: 6)، على قوله: برؤوسكم} (المائدة: 6)، خرج فيه أبو إسحاق قوله: وأرجلكم بالجر، على أنه من الخفض على الجوار، وأن أصله النصب فخفض عطفاً على الجوار. وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك، وجعل منه قوله: ولا المشركين} ، في هذه الآية، منسوخة، بالإعلام بنسخها، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية. وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين. تقول: نسخ زيد الشيء، أي أزاله، وأنسخه إياه عمرو: أي جعل عمرو زيداً ينسخ الشيء، أي يزيله. وقال ابن عطية: التقدير ما ننسخك من آية، أي ما نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً. وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضاً هو جعل الهمزة للتعدية، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف، أهو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ. وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ. وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو: أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضاً، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له، قال: ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، أي ذلك فعلنا، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك، أو بمثله، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها

ص: 257

عائدين على الضمير في ننسأها. انتهى كلامه. وذهل عن القاعدة النحوية، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وما في قوله:{ما ننسخ} شرطية، وقوله: أو {ننسها} ، عائد على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى، إنما يعود عليها لفظاً لا معنى، فهو نظير قولهم: عندي درهم ونصفه، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية. التقدير: أو ما ننسأ من آية، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء، لكن يبقى قوله:{ما ننسخ من آية} مفلتاً من الجواب، إذ لا رابط فيه منه له، وذلك لا يجوز، فبطل هذا المعنى.

{من آية} ، من: هنا للتبعيض، وآية مفرد وقع موقع الجمع، ونظيره فارس في قولك: هذا أول فارس، التقدير: أول الفوارس.

ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولاً لفعل الشرط، لأنه مخصص له، إذ في اسم الشرط عموم، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم. لو قلت: من يضرب أضرب، كان عاماً في مدلول من. فإذا قلت: من رجل، اختص جنس الرجال بذلك، ولم يدخل فيه النساء، وإن كان مدلول من عامًّا للنوعين جائز، تقول: ما تضرب زيداً أضرب مثله، التقدير: أي ضرب تضرب زيداً أضرب مثله، وقال الشاعر:

نعب الغراب فقلت بين عاجل

ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب

وهذا فاسد، لأن ما إذا جعلتها للنسخ، عري الجواب من ضمير يعود عليها، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط. ألا ترى أنك لو قلت: أي ضرب يضرب هنداً أضرب أحسن منها، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدّمه غير موجب، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين. والشرط ليس من قبيل غير الموجب، فلا يجوز: إن قام من رجل أقم معه، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين.

ص: 258

وقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} (البينة: 1) ، وأن الأصل هو الرفع، أي ولا المشركون، عطفاً على الذين كفروا، وهذا حديث من قصر في العربية، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح. ودخلت لا في قوله: ولا المشركين} ، للتأكيد، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها. ولم تأت في قوله:{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} لمعنى يذكر هناك، إن شاء الله تعالى.

{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} : في موضع المفعول بيود، وبناؤه للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وللتصريح به في قوله:{من ربكم} . ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله: {من ربكم} . {من خير} ، من: زائدة، والتقدير: خير من ربكم، وحسن زيادتها هنا، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي، فليس نظير: ما يكرم من رجل، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى، لأنه إذا نفيت الودادة، كان كأنه نفى متعلقها، وهو الإنزال، وله نظائر في لسان العرب، من ذلك قوله تعالى:{أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر} (الأحقاف: 33) . فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء، وكذلك قول العرب: ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيد، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول، وإن لم يباشره حرف النفي، لأن المعنى: ما يقول ذلك أحد إلا زيد، فيما أظن. وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل. وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان، فيجوز زيادتها، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره. ويزيد الأخفش: أنه يجيز زيادتها في المعرفة. وذهب قوم إلى أن من للتبعيض، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم، ويكون المعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.

ص: 259

{مِّن رَّبِّكُمْ} : من: لابتداء الغاية، كما تقول: هذا الخير من زيد. ويجوز أن تكون للتبعيض، المعنى من خير كائن من خيور ربكم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله:{ينزل} ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضاف، كما قدّرناه.

{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازماً، أي ينفرد، أو متعدياً، أي يفرد، إذ الفعل يأتي كذلك. يقال: اختصّ زيد بكذا، واختصصته به، ولا يتعين هنا تعديه، كما ذكر بعضهم، إذ يصح، والله يفرد برحمته من يشاء، فيكون من فاعلة، وهو افتعل من: خصصت زيداً بكذا. فإذا كان لازماً، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو: اضطررت، وإذا كان متعدياً، كان موافقاً لفعل المجرّد نحو: كسب زيد مالاً، واكتسب زيد مالاً.

{مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ} وما من قوله: ما ننسخ، شرطية، وهي مفعول مقدم.

وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة: ما ننسخ من الإنساخ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال: ليست لغة، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية، لأن المعنى يجيء: ما يكتب من آية، أي ما ينزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً. وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نجده منسوخاً، كما يقال: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً، وأبخلته إذا وجدته بخيلاً. قال أبو عليّ: وليس نجده منسوخاً إلا بأن ينسخه، فتتفق القراءات في المعنى، وإن اختلفا في اللفظ. انتهى كلامه. فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب.

{نَأْتِ} : هو جواب الشرط، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين، وهذا أحسن التراكيب في فعلي الشرط والجزاء، وهو أن يكونا مضارعين. {بِخَيْرٍ مِّنْهَا} : الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل.

ص: 260

وذهب قوم إلى أن خيراً هنا ليس بأفعل التفضيل، وإنما هو خير من الخيور، كخير في قوله:{أن ينزل عليكم من خير من ربكم} (البقرة: 105) ، فهو عندهم مصدر، ومن لابتداء الغاية.

ومن: في {مِّن دُونِ اللَّهِ} متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم، وهو يتعلق بمحذوف، إذ هو في موضع الخبر، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية، ويجوز أن تكون حجازية على مذهب من يجيز تقدم خبرها، إذا كان ظرفاً أو مجروراً. أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية.

{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} وأم: هنا منقطعة، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة، فالمعنى: بل أتريدون، فبل تفيد الإضراب عما قبله، ومعنى الإضراب هنا: هو الانتقال من جملة إلى جملة، لا على سبيل إبطال الأولى. وقد تقدّم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول. وقد بينا ضعف ذلك. وقالت فرقة: أم استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون. وهذان القولان ضعيفان. والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة. فالمتصلة: شرطها أن يتقدّمها لفظ همزة الاستفهام، وأن يكون بعدها مفرد، أو في تقدير المفرد. والمنفصلة: ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معاً، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط، أو مرادفة لبل فقط، أو زائدة، فأقوال ضعيفة.

{كما سئل} : الكاف في موضع نصب، فعلى رأي سيبويه: على الحال، وعلى المشهور من مذاهب المعربين: نعت لمصدر محذوف، فيقدر على قولهم: سؤالاً كما سئل، ويقدر على رأي سيبويه: أن تسألوه، أي السؤال كما سئل، وما مصدرية التقدير كسؤال. وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، التقدير: الذي سئله موسى.

ص: 261

{مُوسَى مِن قَبْلُ} : يتعلق هذا الجار بقوله: سئل، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف. فلذلك بنيت قبل على الضم، والتقدير: من قبل سؤالكم.

{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} : هذا جواب الشرط.

{لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا} : الكلام في لو هنا، كالكلام عليها في قوله:{يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} (البقرة: 96) . فمن قال: إنها مصدرية، قال: لو، والفعل في تأويل المصدر، وهو مفعول. ودّ: أي ودّ ردّكم، ومن جعلها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، جعل الجواب محذوفاً، وجعل مفعول ودّ محذوفاً التقدير: ودّ ردّكم كفاراً، لو يردونكم كفاراً لسرّوا بذلك. وقال بعض الناس تقديره: لو يردونكم كفاراً لودوا ذلك. فودّ دالة على الجواب، ولا يجوز لودّ الأولى أن تكون هي الجواب، لأن شرط لو أن تكون متقدّمة على الجواب. انتهى. وهذا الذي قدره ليس بشيء، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله: لودوا ذلك، كان ذلك دالاً على أن الودادة لم تقع، لأنه جواب للو، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره، فامتنع وقوع الودادة، لامتناع وقوع الرد. والغرض أن الودادة قد وقعت.

ويرد هنا بمعنى يصير، فيتعدّى إلى مفعولين: الأول هو ضمير الخطاب، والثاني كفاراً، وقد أعربه بعضهم حالاً، وهو ضعيف، لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها، وهذا لا بد منه في هذا المكان. ومن متعلقة بيرد، وهي لابتداء الغاية، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع، ومن فسر كثيراً بواحد أو باثنين، فجعل الواو له أو لهما، ليس على الأصل.

ص: 262

{حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} : انتصاب حسداً على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه ودّ، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفاراً هو الحسد، وجوزوا فيه أن يكون مصدراً منصوباً على الحال، أي حاسدين، ولم يجمع لأنه مصدر، وهذا ضعيف، لأن جعل المصدر حالاً لا ينقاس. وجوزوا أيضاً أن يكون نصبه على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى، التقدير: حسدوكم حسداً. والأظهر القول الأول، لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله. ويتعلق المجرور الذي هو:{من عند أنفسهم} ، إما بملفوظ به وهو ود، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق. ألا ترى إلى قوله تعالى:{من بعد ما تبين لهم الحق} (البقرة: 109) ؟ وإما بمقدر، فيكون في موضع الصفة، التقدير: حسداً كائناً من عند أنفسهم. وعلى كلا التقديرين يكون توكيداً.

{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} والقول في إعراب ما ومن خير، كالقول في إعراب:{ما ننسخ من آية} ، من أنهم قالوا: يجوز أن تكون ما مفعولة، ومن خير: حال أو مصدر، ومن خير: مفعول، أو مفعولة، ومن خير: تمييز أو مفعولة، ومن خير، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه. لأنفسكم: متعلق بتقدموا، وهو على حذف مضاف.

ص: 263

{تجدوه} جواب الشرط، والهاء عائدة على ما، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية. ونفس ذلك المنقضي لا يوجد، فإنما ذلك على حذف مضاف، أي تجدوا ثوابه. فجعل وجوب ما ترتب على وجوداً له، وتجدوه متعد إلى واحد، لأنه بمعنى الإصابة. والعامل في قوله:{عند الله} ، إما نفس الفعل، أو محذوف، فيكون في معنى الحال من الضمير، أي تجدوه مدّخراً ومعدًّا عند الله. والظرفية هنا المكانية ممتنعة، وإنما هي مجاز بمعنى القبل، كما تقول لك: عندي يد، أي في قبلي، أو بمعنى في علم الله نحو:{وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة} (الحج: 47) ، أي في علمه وقضائه، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيماً كقوله: إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته} (الأعراف: 206) .

{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَرَى} ومن فاعلة بيدخل، وهو من الاستثناء المفرّغ، والمعنى: لن يدخل الجنة أحد إلا من. ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلاً، أو يكون منصوباً على الاستثناء، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف، ويجعله هو الفاعل، ويحذفه، وهو لو كان ملفوظاً به لجاز البدل والنصب على الاستثناء، فكذلك إذا كان محذوفاً وحمل أولاً على لفظ من، فأفرد الضمير في كان، ثم حمل على المعنى، فجمع في خبر كان فقال:{هوداً أو نصارى} . وهود: جمع هائد، كعائد وعود. وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصري. وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو: من كان قائمين الزيدون، ومن كان قائمين الزيدان. فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك. وذهب قوم إلى المنع، وإليه ذهب أبو العباس، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية، فإن هوداً في الأظهر جمع هائد، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبين مؤنثها بالتاء، وكقول الشاعر:

وأيقظ من كان منكم نياماً

ص: 264

فنيام: جمع نائم، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء، وقدم هوداً على نصارى لتقدمها في الزمان. وقرأ أبي: إلا من كان يهودياً أو نصرانياً، فحمل الإسم والخبر معاً على اللفظ، وهو الإفراد والتذكير.

{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم. وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث، فحمله الزمخشري على الجمع قال: أشير بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم. انتهى كلامه. وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول، فيبعد أن يشار إليها. وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف، وفيه قلب الوضع، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ، وأمانيهم خبر. فقلب هو الوضع، إذ قال: إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه. وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ، فلا يجوز تقديمه، مثل: زيد زهير، نص على ذلك النحويون. فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة، إذ جعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً كقولك: الأسد زيد شجاعة، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم:{لن يدخل الجنة} ، أي تلك المقالة أمانيهم، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل على من كتاب الله ولا من أخبار من رسول، وإنما ذلك على سبيل التمني. وإن كانوا هم حازمين بمقالتهم، لكنها لما لم تكن عن برهان، كانت أماني، والتمني يقع بالجائز والممتنع. فهذا من الممتنع، ولذلك أتى بلفظ الأماني، ولم يأت بلفظ مرجوّاتهم، لأن الرجاء يتعلق بالجائز، تقول: ليتني طائر، ولا يجوز، لعلني طائر، وإنما أفرد المبتدأ لفظاً، لأنه كناية عن المقالة، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير،

ص: 265

فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين، ولذلك جمع الخير، فطابق من حيث المعنى في الجمعية. وقد تقدّم شرح الأماني في قوله:{لا يعلمون الكتاب إلا أماني} (البقرة: 78)، فيحتمل أن يكون المعنى: تلك أكاذيبهم وأباطيلهم، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم، أو تلك تلاواتهم.

{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} : الكلام في: من، كالكلام في: من، من قوله:{من كسب سيئة} (البقرة: 81) ، والأظهر أنها مبتدأة، وجوّزوا أن تكون فاعلة، أي يدخلها من أسلم، وإذا كانت مبتدأة، فلا يتعين أن تكون شرطية. فالجملة بعدها هي الخبر، وجواب الشرط فله أجره} . وإذا كانت موصولة، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية، وإذا كانت من فاعلة فقوله:{فله أجره} جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن.

{وَهُوَ مُحْسِنٌ} : جملة حالية، وهي مؤكدة من حيث المعنى.

{فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} : العامل في عند هو العامل في له.

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَرَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ} وعلى شيء: في موضع خبر ليس، ويحتمل أن يكون المعنى: على شيء يعتد به في الدين، فيكون من باب حذف الصفة، نظير قوله:

لقد وقعت على لحم

أي لحم منيع، وأنه ليس من أهلك، أي من أهلك الناجين، لأنه معلوم أن كلاً منهم على شيء.

{وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَبَ} : جملة حالية.

ص: 266

{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره: قولاً مثل ذلك القول، {قال الذين لا يعلمون} ، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال، التقدير: مثل ذلك القول قاله، أي قال القول الذين لا يعلمون، وهذا على رأي سيبويه. وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. وقيل: ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون.

وجوّزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء، والجملة بعده خبر، والعائد محذوف تقديره: مثل ذلك قاله الذين. ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول، لأن قال قد أخذ مفعوله، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف، أو على أنه مفعول ليعلمون، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى. قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى. انتهى ما قالوه في هذا الوجه، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسماً، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، مع أنه قد تؤوّل ما ورد من ذلك وأجاز ذلك، أعني أن تكون اسماً في الكلام، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه، وذلك نحو: زيد ضربته. نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر، وأنشدوا:

وخالد يحمد ساداتنا

بالحق لا يحمد بالباطل

أي: يحمده ساداتنا. وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو: هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو.

ص: 267

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلَاّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَنِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَبَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَبِ الْجَحِيمِ * وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لَاّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} .

ص: 268

{المشرق والمغرب} : مكان الشروق والغروب، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل، بكسر العين شذوذاً، والقياس الفتح، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعه، فقياس صوغ المصدر منه، والزمان والمكان مفعل، بفتح العين. أين: من ظروف المكان، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه، وفي الشرط معنى حرفه، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما، ومما جاء فيه شرطاً بغير ما قوله:

أين تضرب بنا العداة تجدنا

وزعم بعضهم أن أصل أين: السؤال عن الأمكنة. ثم: ظرف مكان يشار به للبعيد، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة، وهو لازم للظرفية، لم يتصرف فيه بغير من يقول: من ثم كان كذا. وقد وهم من أعربها مفعولاً به في قوله: {وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} (الإنسان: 20) . بل: مفعول رأيت محذوف. لولا} : حرف تحضيض، وجاء ذلك في القرآن كثيراً، وحكمها حكم هلا، وتأتي أيضاً حرف امتناع لوجود، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً، وتلك لا يليها إلا الاسم، على خلاف في إعرابه.

الرضا: معروف، ويقابله الغضب، وفعله رضي يرضى رضاً بالقصر، ورضاء بالمد، ورضواناً، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى، قال:

إذا رضيت عليّ بنو قشير

وخرج على أن يكون على بمعنى عن، أو على تضمين رضي معنى عطف، فعدي بعلى كما تعدى عطف.

ومن: استفهام، وهو مرفوع بالابتداء. و {أظلم} : أفعل تفضيل، وهو خبر عن من.

ص: 269

ومن في قوله: {ممن منع} ، موصولة بمعنى الذي. وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة. {أن يذكر} : يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لمنع، أو مفعولاً من أجله، فيتعين حذف مضاف، أي دخول مساجد الله، أو ما أشبه ذلك، أو بدلاً من مساجد بدل اشتمال، أي ذكر اسم الله فيها، أو مفعولاً على إسقاط حرف الجر، أي من أن يذكر. فلما حذفت من انتصب على رأي، أو بقي مجروراً على رأي.

{أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلَاّ خَآئِفِينَ} : إلا خائفين: نصب على الحال، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال.

{فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، هذا جواب الشرط، وهي جملة ابتدائية.

{وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} والجمهور على قراءة: وقالوا بالواو، وهو آكد في الربط، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها. وقيل: هو عطف على قوله: {وسعى في خرابها} ، فيكون معطوفاً على معطوف على الصلة، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وهذا بعيد جداً، ينزه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما: قالوا بغير واو، ويكون على استئناف الكلام، أو ملحوظاً فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو. وقال الفارسي: وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام. تقدم أن اتخذ: افتعل من الأخذ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله:{اتخذت بيتاً} (العنكبوت: 41)، قالوا: معناه صنعت وعملت، وإلى اثنين فتكون بمعنى: صير. وكلا الوجهين يحتمل هنا.

وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير، كان أحد المفعولين محذوفاً، التقدير: وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولداً. والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد، قال تعالى:{وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} (مريم: 88)، ما اتخذ الله من ولد} (المؤمنون: 91) ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} (مريم: 92) .

{بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ} قال سيبويه: وأما ما، فإنها مبهمة تقع على كل شيء.

ص: 270

وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل، إلا إذا اختلط بمن يعقل، فيقع عليهما، كما ذكرناه، أو كان واقعاً على صفات من يعقل، فيعبر عنها بما. وأما أن يقع لمن يعقل، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده، فلا. وقد أجاز ذلك بعض النحويين، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل، وقد يؤول، فيؤول قوله: سبحان ما سخركن، على أن سبحان غير مضاف، وأنه علم لمعنى التسبيح، فهو كقوله:

سبحان من علقمة الفاخر

وما: ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا. والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى.

و {كُلٌّ لَّهُ} : مرفوع بالابتداء، والمضاف إليه محذوف.

و {قَنِتُونَ} : خبر عن كل، وجمع حملاً على المعنى. وكلّ، إذا حذف ما تضاف إليه، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع، ومراعاة اللفظ فتفرد. وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا، لأنها فاصلة رأس آية، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال تعالى:{وكلّ كانوا ظالمين} (الأنفال: 54)، وكلّ أتوه داخرين} (النمل: 87) ، وكلّ في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33) . وقد جاء إفراد الخبر كقوله: قل كلّ يعمل على شاكلته} (الإسراء: 84) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر.

ص: 271

{بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ} وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. فالمجرور مشبه بالمفعول، وأصله الأول بديع سمواته، ثم شبه الوصف فأضمر فيه، فنصب السموات، ثم جر من نصب. وفيه أيضاً ضمير يعود على الله تعالى، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت سمواته، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره. وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري، إلا أنه قال: وبديع السموات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهذا ليس عندنا. كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها. والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض، وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية. فإذا قلنا: زيد قائم أبوه، فقائم رافع للأب على حدّ رفع ضارب له. إذا قلت: زيد ضارب أبوه عمراً، لا تقول: إن قائماً هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب، وإذا كان كذلك، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرّر في علم العربية، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوّز فيمكن، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلاً بها قبل أن يشبه.

وقرأ المنصور: بديع بالنصب على المدح، وقرىء بالجرّ على أنه بدل من الضمير في له.

{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقال الزمخشري: كن فيكون، من كان التامة.

وقرأ الجمهور: فيكون بالرفع، ووجه على أنه على الاستئناف، أي فهو يكون، وعزي إلى سيبويه. وقال غيره: فيكون عطف على يقول، واختاره الطبري وقرّره.

ص: 272

وقرأ ابن عامر: فيكون بالنصب، وفي آل عمران:{كن فيكون} (آل عمران: 47) ونعلمه، وفي النحل، وفي مريم، وفي يس، وفي المؤمن. ووافقه الكسائي في النحل ويس، ولم يختلف في كن فيكون الحق} في آل عمران} (59 60) . {وكن فيكون قوله الحق} في الأنعام} (73) أنه بالرفع، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن، لأنه جاء بلفظ الأمر، فشبه بالأمر الحقيقي. ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحو: ائتني فأكرمك، إذ المعنى: أن تأتني أكرمك. وهنا لا ينتظم ذلك، إذ يصير المعنى: إن يكن يكن، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء، إما بالنسبة إلى الفاعل، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه، أو في شيء من متعلقاته. وحكى ابن عطية، عن أحمد بن موسى، في قراءة ابن عامر: أنها لحن، وهذا قول خطأ، لأن هذه القراءة في السبعة، فهي قراءة متواترة، ثم هي بعد قراءة ابن عامر، وهو رجل عربي، لم يكن ليلحن. وقراءة الكسائي في بعض المواضع، وهو إمام الكوفيين في علم العربية، فالقول بأنها لحن، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى.

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ} : ومعمول القول، الجملة التخضيضية وهي:{لولا يكلمنا الله} .

{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} : تقدم الكلام في إعراب كذلك، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله:{والذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 21) .

وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف.

{إِنَّا أَرْسَلْنَكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وبالحق في موضع الحال، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك. وانتصاب بشيراً ونذيراً على الحال من الكاف، ويحتمل أن يكون حالاً من الحق.

ص: 273

{وَلَا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَبِ الْجَحِيمِ} : قراءة الجمهور: بضم التاء واللام. وقرأ أبي: وما تسأل. وقرأ ابن مسعود: ولن تسأل، وهذا كله خبر. فالقراءة الأولى، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة، وهو الأظهر، ويحتمل أن تكون في موضع الحال. وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف.

وقرأ نافع ويعقوب: ولا تسأل، بفتح التاء وجزم اللام، وذلك على النهي.

{وَلَن تَرْضَى} واللام في لئن تسمى الموطئة والمؤذنة، وهي تشعر بقسم مقدر قبلها، ولذلك يبنى ما بعد الشرط على القسم لا على الشرط، إذ لو بني على الشرط لدخلت الفاء في قوله:{ما لك} .

ص: 274

و {الذين} : مبتدأ، فإن أريد به الخصوص في من اهتدى، صح أن يكون {يتلونه} خبراً عنه، وصح أن يكون حالاً مقدرة إما من ضمير المفعول، وإما من الكتاب، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له، ولا كان هو متلواً لهم، ويكون الخبر إذ ذاك في الجملة من قوله:{أولئك يؤمنون به} . وجوز الحوفي أن يكون يتلونه خبراً، وأولئك وما بعده خبر بعد خبر. قال مثل قولهم: هذا حلو حامض، وهذا مبني على أنه هل يقتضي المبتدأ الواحد خبرين؟ ألم لا يقتضي إلا إذا كان في معنى خبر واحد كقولهم: هذا حلو حامض، أي مز، وفي ذلك خلاف. وإن أريد بالذين آتيناهم الكتاب العموم، كان الخبر أولئك يؤمنون به، قالوا، ومنهم ابن عطية: ويتلونه حال لا يستغنى عنها، وفيها الفائدة، ولا يجوز أن يكون خبراً، لأنه كان يكون كل مؤمن يتلو الكتاب، وليس كذلك بأي تفسير فسرت التلاوة. ونقول: ما لزم في الامتناع من جعلها خبراً، يلزم في الحال، لأنه ليس كل مؤمن يكون على حالة التلاوة بأي تفسير فسرتها. وانتصب {حق تلاوته} على المصدر، كما تقول: ضربت زيداً حق ضربه، وأصله تلاوة حقاً. ثم قدّم الوصف، وأضيف إلى المصدر، وصار نظير: ضربت شديد الضرب، إذ أصله: ضرباً شديداً. وجوزوا أن يكون وصفاً لمصدر محذوف، وأن يكون منصوباً على الحال من الفاعل، أي يتلونه محقين. وقال ابن عطية: وحق مصدر والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرّف، وإنما جازت عنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرّف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: رجل واحد أمه، ونسيج وحده. انتهى كلامه.

{وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ} وهم: محتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون فصلاً. وعلى كلا التقديرين يكون في ذلك توكيد.

ص: 275

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَتِ مَنْءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ} .

ص: 276

الذرية: النسل، مشتقة من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو الذر. ويضم ذالها، أو يكسر، أو يفتح. فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية، فعيلة من ذرأ الله الخلق، وأصله ذريئة، فخففت الهمزة بإبدالها ياء، كما خففوا همزة النسيء فقالوا: النسيّ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد. ويجوز أن تكون فعولة من ذروت، الأصل ذرووة، أبدلت لام الفعل ياء. اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المد ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها، لأن الياء تطلب الكسر. ويجوز أن تكون فعيلة من ذررت، أصلها ذريوة، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت ياء المد فيها. ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت، فأصلها أن تكون فعولة ذروية، وإن كان فعيلة ذريية، ثم أدغم. ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة، أو فعليه من الذر غير منسوبة، أو فعيلة، كمريقة، أو فعول، كسبوح وقدوس، أو فعلولة، كقردودة الظهر، فضم أولها إن كان اسماً، كقمرية، وإن كانت منسوبة، كما قالوا في النسب إلى الدهر: دهري، وإلى السهل، سهلي. وأصل فعيلة من الذر: ذريرة، وفعولة من الذر: ذرورة، وكذلك فعلولة، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف، كما قالوا في تسررت؛ تسريت. وأما من كسر ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق، كبطيخة، فأبدلت الهمزة ياء، وأدغمت في ياء المد، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة، أو فعليل، كحلتيت. ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت، أو فعيلة ذريئة من ذريت. وأما من فتح ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ، مثل سكينة، أو فعولة من هذا أيضاً، كخروبة. فالأصل ذروءة، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً، وقلبت الواو ياء وأدغمت. ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة، كبرنية، أو

ص: 277

منسوبة إلى الذر، أو فعولة، كخروبة من الذر أصلها ذرورة، ففعل بها ما تقدم، أو فعلولة، كبكولة، فالأصل ذرورة أيضاً، أو فعيلة، كسكينة ذريرة، فقلبت الراء ياء في ذلك كله، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة، كسكينة، فالأصل ذريوة، أو من ذريت ذريية، أو فعولة من ذروت أو ذريت. وأما من بناها على فعلة، كجفنة، وقال ذرية، فإنها من ذريت.

{الْمَصِيرُ} : مفعل من صار يصير، فيكون للزمان والمكان، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين، لأن ما كسرت عين مضارعه فقياسه ما ذكرناه، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كالصحيح، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان. الثاني: أنه مخير فيه. الثالث: أنه يقتصر على السماع، فما فتحت فيه العرب فتحنا، وما كسرت كسرنا. وهذا هو الأولى.

الاصطفاء: الانتجاب والاختيار، وهو افتعال من الصفو، وهو الخالص من الكدر والشوائب، أبدلت من تائه طاء، كان ثلاثيه لازماً. صفا الشيء يصفو، وجاء الافتعال منه متعدياً، ومعنى الافتعال هنا: التخير، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل.

وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه.

وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول. انتهى كلامه، وفيه بعض تلخيص. وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور. وقد جاء في كلام العرب مثل: ضرب غلامه زيداً، وقال: وقاس عليه بعض النحويين، وتأول بعضه الجمهور، أو حمله على الشذوذ. وقد طول الزمخشري في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في «الكشاف» ، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية.

ص: 278

{قَالَ إِنِّى جَعِلُكَ} : تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً، كانت قال استئنافاً، فكأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: {قال إني جاعلك للناس إماماً} . وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً، إذ ابتلاه، ويجوز أن يكون بياناً لقوله: ابتلى، وتفسيراً له. {للناس} : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس: في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، التقدير: إماماً كائناً للناس، قالوا: ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير، فيتعدى لاثنين، الأول: الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل، والثاني: إماماً.

{قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى} ، قال الزمخشري: عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف، لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يعد، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها، لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف، لأنه نصب، فيجعل من في موضع نصب، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع، على مذهب سيبويه، لفوات المحرز، وليس نظير: سأكرمك، فتقول: وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه المعنى أن يكون {من ذريتي} متعلقاً بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً.

ص: 279

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل: جعل هنا بمعنى: خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره: مثابة كائنة، إذ هو في موضع الصفة. وقيل: يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس.

والظاهر أن قوله: {وأمناً} ، معطوف على قوله:{مثابة} ، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر، التقدير: واجعلوه آمناً، أي جعلناه مثابة للناس، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد. فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل، وكان البيت محرّماً بحكم الله، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ:{واتخذوا} على الأمر، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات.

{أَن طَهِّرَا} يحتمل أن تكون أن تفسيرية، أي طهرا، ففسر بها العهد، ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بأن طهرا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين. إذا حذف من أن حرف الجر، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره، وفي ذلك نظر، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل، ولا أحفظ من كلامهم: عجبت من أن أضرب زيداً، ولا يعجبني أن أضرب زيداً، فتوصل بالأمر، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر.

ص: 280

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} : ذكروا أن العامل في إذ ذكر محذوفة، ورب: منادى مضاف إلى الياء، وحذف منه حرف النداء، والمضاف إلى الياء فيه لغات، أحسنها: أن تحذف منه ياء الإضافة، ويدل عليها بالكسرة، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو، وسيأتي منها في القرآن شيء، ونتكلم عليه في مكانه، إن شاء الله تعالى.

{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَتِ} ومن: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل: هي لبيان الجنس، ومن بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه، والثانية بالتنصيص عليه، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً، إذ أريد بالعام الخاص. هذه فائدة هذين البدلين، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم، وهو البدل، إذ ذكر مرتين.

ص: 281

{قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : قرأ الجمهور من السبعة: فأمتعه، مشدّداً على الخبر. وقرأ ابن عامر: فأمتعه، مخففاً على الخبر. وقرأ هؤلاء: ثم اضطره خبراً. وقرأ يحيى بن وثاب: فأمتعه مخففاً، ثم أضطره بكسر الهمزة، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن: ثم أضطره، بإدغام الضاد في الطاء خبراً. وقرأ يزيد بن أبي حبيب: ثم اضطره بضم الطاء، خبراً. وقرأ أبي بن كعب: فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما. وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما: {فأمتعه قليلاً ثم أضطره} على صيغة الأمر فيهما، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على إبراهيم، لما دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب. ومن: على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع، على أن تكون موصولة أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً. وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على الله تعالى، ومن: يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره: قال الله وارزق من كفر فأمتعه، ويكون فأمتعه معطوفاً على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن. ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء، إما موصولاً، وإما شرطاً، والفاء جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط. ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطاً، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط، لا الفعل الواقع جزاء، ولا إذا كانت موصولة، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيهاً، للموصول باسم الشرط. فكما لا يفسر الجزاء، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء. وأما إذا كان أمراً، أعني الخبر نحو: زيداً فاضربه، فيجوز أن يفسر، ولا يجوز أن تقول: زيداً فتضربه على الاشتغال، ولجواز: زيداً فاضربه على الأمر، علة مذكورة في كتب النحو. قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون

ص: 282

من مبتدأ، وفأمتعه الخبر، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقاً لصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. والكفر لا يستحق به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو الخبر محذوفاً، وفأمتعه دليل عليه جاز، تقديره: ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن يكفر ارزق. ومن على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل الشرط. انتهى كلامه. وقوله أولاً لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح، لأن الخبر مستحق بالصلة، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر. ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضاً. فلو كان التمتع قليلاً ليس مستحقاً بالصلة، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة، ناسب أن يقع خبراً من حيث وقع جزاء، وقد جوّز هو ذلك. وأما تقدير زيادة الفاء، وإضمار الخبر، وإضمار جواب الشرط، إذا جعلنا من شرطية، فلا حاجة إلى ذلك، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار. وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها، ونحن ننزه القرآن عن ذلك. وقال الزمخشري:{ومن كفر} : عطف على {من آمن} ، كما عطف {ومن ذريتي} على الكاف في {جاعلك} . انتهى كلامه. وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك. وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح، لأنه يتنافى في تركيب الكلام، لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم: وارزق من كفر، لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في ومن كفر. وإذا قدرته أمراً، تنافى مع قوله:{فأمتعه} ، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبة التمتع

ص: 283

وإلجائهم إليه تعالى، وأن كلاً من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى، وذلك لا يجوز إلا على بعد، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أي قال إبراهيم: وارزق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار. ثم ناقض الزمخشري قوله هذا، أنه عطف على من، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك.

فظاهر قوله والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال، ومن كفر عائد على الله، وأن من كفر منصوب بارزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى، وهو يناقض ما قدم أولاً من أن من كفر معطوف على من آمن.

وانتصاب {قليلاً} على أنه صفة لظرف محذوف، أي زماناً قليلاً، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي تمتيعاً قليلاً، على تقدير الجمهور، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف، الدال عليه الفعل، وذلك على مذهب سيبويه.

وقراءة يحيى بن وثاب: ثم إضطره بكسر الهمزة. قال ابن عطية، على لغة قريش، في قولهم: لا إخال، يعني بكسر الهمزة. وظاهر هذا النقل في أن ذلك، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر، وهو ما أوله همزة وصل. وفي نحو إخال، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون. فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها، أو ذا ياء مزيدة في أوله، وذلك نحو: علم يعلم، وانطلق ينطلق، وتعلم يتعلم، إلا إن كان حرف المضارعة ياء، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء، بل يفتحها. وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل، مذاهب تذكر في علم النحو، وإنما المقصود هنا: أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحاً.

ص: 284

وقراءة ابن محيصن: ثم اطره، بإدغام الضاد في الطاء. قال الزمخشري: هي لغة مرذولة، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف ضم شفر. انتهى كلامه. إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب، فالأوجه البيان، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل: مضرب، كما قيل: مصبر في مصطبر. قال سيبويه: وقد قال بعضهم: مطجع، في مضطجع ومضجع أكثر، وجاز مطجع، وإن لم يجز في مصطبر مطبر، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد. فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع، وإلى قوله: ومضجع أكثر، فيدل على أن مطجعا كثير؟ وألا ترى إلى تعليله، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت، ولم يفعل ذلك بالصاد، وإبداء الفرق بينهما؟ وهذا كله من كلام سيبويه، يدل على الجوار. وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى:{الأرض ذلولاً} (الملك: 15) ، رواه اليزيدي، عن أبي عمرو، وهو ضعيف. وفي الشين في قوله تعالى: لبعض شأنهم} (النور: 62)، والأرض شيئاً} (النحل: 73) ، وهو ضعيف أيضاً. وأما الشين فأدغمت في السين. روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى: إلى ذي العرش سبيلاً} (الإسراء: 42) ، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو، وهو رأس من رؤوس البصريين. وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي: إن نشأ نخسف بهم} (سبأ: 9) ، وهو إمام الكوفيين. وأما الراء، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها، ولا في النون. وأجاز ذلك في اللام: يعقوب، وأبو عمرو، والكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرؤاسي، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين، حكوه سماعاً عن العرب. وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها، وذكر الخلاف فيها، لئلا يتوهم من قول الزمخشري: لا تدغم فيما يجاورها، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين. فأوردت هذا

ص: 285

الخلاف فيها، تنبيهاً على أن ذلك ليس بإجماع، إذ إطلاقه يدل على المنع ألبتة. وقراءة ابن أبي حبيب: بضم الطاء، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء، وهو شاذ. وأما قراءة أبي بالنون فيهما، فهي مخالفة لرسم المصحف، فهي شاذة. وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد، أو ليكون ذلك جملتين، جملة بالدعاء لمن آمن، وجملة بالدعاء على من كفر، فلا يندرجان تحت معمول واحد، بل أفرد كلاً بقول. واضطره على هذه القراءة، هو بفتح الراء المشدّدة، كما تقول: عضه بالفتح، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك. ولو قرأ على لغة قومه، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله: ثم أضطره. ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب، بحيث لا يجد محيصاً عنه إذا حد، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره. ومفهوم الشرط هنا ملغي، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين. وبئس المصير} المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى، أي وبئس المصير النار، إن كان المصير اسم مكان، وإن كان مصدراً على رأي من أجاز ذلك فالتقدير: وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ} : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها. ويرفع في معنى رفع، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي، لأنها ظرف لما مضى من الزمان. والرفع حالة الخطاب قد وقع. وقال الزمخشري: هي حكاية حال ماضية، وفي ذلك نظر.

{مِنَ الْبَيْتِ} : يحتمل أن يكون متعلقاً بيرفع، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد، فيتعلق بمحذوف تقديره: كائنة من البيت. ولم تضف القواعد إلى البيت، فكان يكون الكلام قواعد البيت، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين. {وإسماعيل} : معطوف على إبراهيم.

ص: 286

ومن جعل الواو في {وإسماعيل} واو الحال، أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر، التقدير: وإسماعيل يقول: {ربنا تقبل منا} ، فيكون إبراهيم مختصاً بالبناء، وإسماعيل مختصاً بالدعاء. ومن ذهب إلى العطف، جعل {ربنا تقبل منا} معمولاً لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معاً، في موضع نصب على الحال تقديره: وإذ يرفعان القواعد قائلين: {ربنا تقبل منا} . ويؤيد هذا التأويل أن العطف في {وإسماعيل} أظهر من أن تكون الواو واو الحال. وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ، فلا يكون في موضع الحال.

ص: 287

{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ} وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله: ومن ذريتنا، للتبيين، قال كقوله:{وعد الله الذين آمنوا منكم} (النور: 55) ، وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك. وتقدّم شرح الأمة، والمراد به هنا: الجماعة، أو الجيل، والمعنى: على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله: واجعل، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير، فالمعنى: واجعل ناساً من ذريتنا أمة مسلمة لك، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله: واجعل من ذريتنا} بمعنى: أوجد وأخلق. وإن كان من جهة المعنى صحيحاً، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد. ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة، لأنه إن كان من باب عطف المفردات، فهو مشترك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد. وإن كان من باب عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق. والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد، فكذلك المحذوف. ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى:{هو الذي يصلي عليكم وملائكته} (الأحزاب: 43) أن يكون التقدير: وملائكته يصلون، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة} ، و {من ذريتنا} حال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال، و {مسلمة} المفعول الثاني، وكان الأصل: اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك، قال: فالواو داخلة في الأصل على أمة، وقد فصل بينهما بقوله: من ذريتنا، وهو جائز، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف، وجعلوا قوله:

يوماً تراها كشبه أردية العصب ويوماً أديمها نغلا من الضرورات، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، فصار نظير: ضربت الرجل، ومتجردة المرأة تريد: والمرأة متجردة، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة.

ص: 288

ومعنى {أرنا} : أي بصرنا. إن كانت من رأى البصرية. والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد، وإن كانت من رؤية القلب، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين، نحو قوله:

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة

إذا ما رأته عامر وسلول

وقال الكميت:

بأي كتاب أم بأية سنة

ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب

فإذا دخلت عليها همزة النقل، تعدت إلى ثلاثة، وليس هنا إلا اثنان، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين. وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب، وشرحها بقوله: عرف، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب. وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر، وعن طائفة أنها من رؤية القلب. قال ابن عطية: وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود:

أريني جواداً مات هزلاً لأنني

أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا

ص: 289

انتهى كلام ابن عطية وقوله. ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى. إذا كانت قلبية، تعدت إلى اثنين، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة، وقوله: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة. وإذا كان كذلك، ثبت أن لرأى، إذا كانت قلبية، استعمالين: أحدهما: أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف، والثاني: أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين. واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية، لا دليل فيه، بل الظاهر أنها بصرية، والمعنى على أبصريني جواداً. ألا ترى إلى قوله: مات هزلاً؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات رأى القلبية متعدية لواحد إلى سماع. وقد قال ابن مالك، وهو حاشد لغة، وحافظ نوادر: حين عدى ما يتعدى إلى اثنين، فقال في «التسهيل» ، ورأى لا لإبصار، ولا رأى، ولا ضرب، فلو كانت رأى بمعنى عرف، لنفى ذلك، كما نفى عن رأى المتعدية إلى اثنين، كونها لا تكون لإبصار، ولا رأى، ولا ضرب.

{إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} : يجوز في أنت: الفصل والتأكيد والابتداء.

{يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَتِكَ} جملة في موضع الصفة {لرسولاً} . وقيل: في موضع الحال منه.

{إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} وأنت: يجوز فيها ما جاز في {أنت السميع العليم} .

{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} : ومن: اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء.

ص: 290

{ومن سفه} : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في {يرغب} ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء، والرفع أجود على البدل، لأنه استثناء من غير موجب، ومن في من سفه موصولة، وقيل: نكرة موصوفة، وانتصاب نفسه على أنه تمييز، على قول بعض الكوفيين، وهو الفراء، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم، أو مفعول به، إمّا لكون سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعف، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى، أي جهل، وهو قول الزجاج وابن جني، أو أهلك، وهو قول أبي عبيدة، أو على إسقاط حرف الجر، وهو قول بعض البصريين، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه، حكاه مكي. أما التمييز فلا يجيزه البصريون، لأنه معرفة، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة، وأما كونه مشبهاً بالمفعول، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة، ولا يجوز في الفعل، تقول: زيد حسن الوجه، ولا يجوز حسن الوجه، ولا يحسن الوجه. وأما إسقاط حرف الجر، وأصله من سفه في نفسه، فلا ينقاس، وأما كونه توكيداً وحذف مؤكده ففيه خلاف. وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني: أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد، وأما التضمين فلا ينقاس، وأما نصبه على أن يكون مفعولاً به، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه، فهو الذي نختاره، لأن ثعلباً والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى، كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة. قال الزمخشري: سفه نفسه: امتهنها واستخف بها، وأصل السفه، الخفة، ومنه زمام سفيه. وقيل: انتصاب النفس على التمييز نحو: غبن رأيه، وألم رأسه، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:

ولا بفزارة الشعر الرقابا

أجب الظهر ليس له سنام

وقيل: معناه سفه في نفسه فحذف لجار، كقولهم: زيد ظني مقيم، أي في ظني، والوجه هو الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث:«الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس» . انتهى كلامه. فأجاز نصبه على المفعول به، إلا أن قوله: ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:

ص: 291

ولا بفزارة الشعر الرقابا

أجب الظهر ليس له سنام

ليس بصحيح، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة. والشعر جمع أشعر، وكذلك أجب الظهر هو أيضاً من باب الصفة المشبهة، وأجب أفعل اسم وليس بفعل. وقبل النصف الأول قوله:

فما قومي بثعلبة بن سعدى

وقبل الآخر قوله:

ونأخذ بعده بذناب عيش

فليس نحوه، لأن نفسه انتصب بعد فعل، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم، وهما من باب الصفة المشبهة.

{وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ} وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي وأنه لصالح في الآخرة. وقال بعضهم: هو على إضمار، أعني: فهو للتبيين، كلك بعد سقيا، وإنما لم يتعلق بالصالحين، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك. وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك، إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً، قال: لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما. وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة، بل معرفة، كهي في الرجل، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك.

{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ} والعامل في إذ: قال أسلمت. وقيل: ولقد اصطفيناه، أي اخترناه في ذلك الوقت، وجوّز بعضهم أن يكون بدلاً من قوله:{في الدنيا} ، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله:{ولقد اصطفيناه} ، وجعل العامل في الحال اصطفيناه، وقيل: محذوف تقديره أذكر. وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدّرة، يبقى قوله:{قال أسلمت} ، لا ينتظم مع ما قبله، إلا إن قدر، يقال: فحذف حرف العطف، أو جعل جواباً لكلام مقدّر، أي ما كان جوابه؟ قال: أسلمت.

ص: 292

{وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَبَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَرَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُواْءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَبِدونَ * قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَدَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا

ص: 293

كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .

و {يعقوب} عربي، وهو ذكر القبج، وهو مصروف، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً. ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه، أو سمي بذلك لكثرة عقبه، فقوله فاسد، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي، فكان يكون مصروفاً.

{إسحاق} : اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية، وإسحاق: مصدر أسحق، ولو سميت به لكان مصروفاً، وقالوا في الجمع: أساحقة وأساحيق، وفي جمع يعقوب: يعاقبة ويعاقيب، وفي جمع إسرائيل: أسارلة. وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل: براهمة وسماعلة، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة وزناديق. وقال أبو العباس: هذا الجمع خطأ، لأن الهمزة ليست زائدة، والجمع: أباره وأسامع، ويجوز: أباريه وأساميع، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال: إبراهيمون، وإسماعيلون، وإسحاقون، ويعقوبون. وحكى الكوفيون أيضاً: براهم، وسماعل، وأساحق، ويعاقب، بغير ياء ولا هاء. وقال الخليل وسيبويه: براهيم، وسماعيل. وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة، لأن هذا ليس موضع زيادتها. وأجاز ثعلب: براه، كما يقال في التصغير: بريه. وقال أبو جعفر الصفار: أما إسرائيل، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال: أساريل. وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. انتهى.

ص: 294

قرأ الجمهور: {ويعقوب} بالرفع، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي، والضرير، وعمرو بن فائد الأسواري: بالنصب. فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفاً على إبراهيم، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه، أي ووصى يعقوب بنيه. ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره محذوف تقديره: قال يا بني إن الله اصطفى، والأول أظهر. وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه، أي ووصى بها نافلته يعقوب، وهو ابن ابنه إسحاق. وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط. {يا بني} : من قرأ {ويعقوب} بالنصب، كان يا بني من مقولات إبراهيم، ومن رفع على العطف فكذلك، أو على الابتداء، فمن كلام يعقوب. وإذا جعلناه من كلام إبراهيم، فعند البصريين هو على إضمار القول، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك، لأن الوصية في معنى القول، فكأنه قال: قال إبراهيم لبنيه يا بني، ونحوه قول الراجز:

رجلان من ضبة أخبرانا

إنا رأينا رجلاً عريانا

بكسر الهمزة على إضمار القول، أو معمولاً لا خبراناً على المذهبين.

وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك: أن يا بني، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها. ومن لم يثبت معنى التفسير، لأن جعلها هنا زائدة، وهم الكوفيون.

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} وقيل: أم هنا بمعنى: بل، والمعنى بل كنتم.

ص: 295

وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية. انتهى ما ذكره. ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام. وأين ذلك؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن. وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه. ومنه:{أم يقولون افتراه} (يونس: 38)(هود: 13)(هود: 35) . انتهى، وهذا أيضاً قول غريب. وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال: المشهور أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. الثاني:} أنها للإضراب فقط، بمعنى بل. الثالث بمعنى همزة الاستفهام فقط.

فالآية منافية لقولهم، فيكف يقال لهم:{أم كنتم شهداء} ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة، على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} ؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ انتهى كلامه. وملخصه: أنه جعل أم متصلة، وأنه حذف قبلها ما يعادلها، ولا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك، لا في شعر ولا غيره، فلا يجوز: أم زيد؟ وأنت تريد: أقام عمرو أم زيد؟ ولا أم قام خالد؟ وأنت تريد: أخرج زيد؟ أم قام خالد؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف. إن الكلام في معنى: أي الأمرين وقع؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة. وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك: بلى وعمراً، جواباً لمن قال: ألم تضرب زيداً؟ ونحو قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} (البقرة: 60) ، أي فضرب فانفجرت. وندر حذف المعطوف عليه مع أو، نحو قوله:

فهل لك أو من والد لك قبلنا

أراد: فهل لك من أخ أو من والد؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله:

فيا عجباً حتى كليب تسبني

أي: يسبني الناس حتى كليب، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف، قال:

ص: 296

دعاني إليها القلب إني لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها

يريد: أم غير رشد، فحذف لدلالة الكلام عليه، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه. فالمعنى: أقام زيد أم لم يقم، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله: أرشد طلابها، أي أم غير رشد. ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دل عليها المعنى. ألا ترى إلى قوله:{تقيكم الحر} (النحل: 81) ، كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء، وذلك على جهة الظرف، لا على جهة المفعول، كأنه قيل: حاضري كلامه في وقت حضور الموت.

{إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} ، إذ: بدل من إذ في قوله: {إذ حضر} ، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل. وزعم القفال أن إذ وقت للحضور، فالعامل فيه حضر، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين، وإن اختلف عاملهما.

{مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى} ما: استفهام عما لا يعقل، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده. فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل.

ص: 297

{قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ} : هذه قراءة الجمهور. وقرأ أبي: وإله إبراهيم، بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وأبو رجاء: وإله أبيك. فأما على قراءة الجمهور، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك، أو عطف بيان. وإذا كان بدلاً، فهو من البدل التفصيلي، ولو قرىء فيه بالقطع، لكان ذلك جائزاً. وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوباً على إضمار، أعني: وأما قراءة أبيّ فظاهرة، وأما على قراءة ابن عباس، ومن ذكر معه، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلاً منه، أو عطف بيان. وقيل: هو جمع سقطت منه النون للإضافة، فقد جمع أب على أبين نصباً وجراً، وأبون رفعاً، حكى ذلك سيبويه، وقال الشاعر:

فلما تبين أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا

وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير.

{إِلَهًا وَاحِدًا} : يجوز أن يكون بدلاً، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة، ويجوز أن يكون حالاً، ويكون حالاً موطئة نحو: رأيتك رجلاً صالحاً. فالمقصود إنما هو الوصف، وجيء باسم الذات توطئة للوصف. وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص، أي يريد بإلهك إلهاً واحداً. وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً. وفائدة هذه الحال، أو البدل، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام.

ص: 298

{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} : وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في {نعبد} ، والأول أبلغ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله:{نعبد} ، فيكون أحد شقي الجواب. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي: ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون. والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة، نحو قوله:

ماذا ولا عتب في المقدور رمت

إما تخطيك بالنجح أو خسر وتضليل

وقال:

ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً

والحق يدفع ترهات الباطل أو بين جزأي إسناد، نحو قوله:

وقد أدركتني والحوادث جمة

أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل أو بين فعل شرط وجزائه، أو بين قسم وجوابه، أو بين منعوت ونعته، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم مّا. وهذه الجملة التي هي قوله:{ونحن له مسلمون} ليست من هذا الباب، لأن قبلها كلاماً مستقلاً، وبعدها كلام مستقل، وهو قوله:{تلك أمّة قد خلت} . لا يقال: إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب، حكاه الله عنهم، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر عنهم بما أخبر تعالى. والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين، يئكد بها ويقوي ما تضمن كلامه. فتبين بهذا كله أن قوله:{ونحن له مسلمون} ليس جملة اعتراضية. وقال ابن عطية: {ونحن له مسلمون} ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا ونحن نكون. ويحتمل أن يكون في موضع الحال. والعامل {نعبد} والتأويل الأول أمدح. انتهى كلامه. ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة، وهي قوله: كذلك كنا، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار، لأنه يصح عطفها على {نعبد إلهك} ، كما ذكرناه وقررناه قبل. ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار، مع صحة المعنى، كان أولى من حمله على الإضمار.

ص: 299

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} والجملة من قوله: قد خلت، صفة لأمّة.

{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم} : وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد، أي لها ما كسبته. وجوّزوا أن تكون ما مصدرية، أي لها كسبها، وكذلك ما في قوله:{ولكم ما كسبتم} . ويجوز أن تكون الجملة من قوله: {لها ما كسبت} استئنافاً، ويجوز أن تكون جملة خالية من الضمير في خلت، أي انقضت مستقراً ثابتاً، لها ما كسبت. والأظهر الأول، لعطف قوله:{ولكم ما كسبتم} على قوله: {لها ما كسبت} . ولا يصح أن يكون {ولكم ما كسبتم} عطفاً على جملة الحال قبلها، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين، وعطف الحال على الحال، يوجب اتحاد الزمان.

{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ} قرأ الجمهور: بنصب ملة بإضمار فعل. إما على المفعول، أي بل نتبع ملة، لأن معنى قوله:{كونوا هوداً أو نصارى} : اتبعوا اليهودية أو النصرانية. وإما على أنه خبر كان، أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملة إبراهيم، كما قال عدي بن حاتم: إني من دين، أي من أهل دين، قاله الزجاج. وإما على أنه منصوب على الإعراء، أي الزموا ملة إبراهيم، قاله أبو عبيد. وإما على أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي نقتدي ملة، أي بملة.

وقرأ ابن هرمز الأعرج، وابن أبي عبلة:{بل ملة إبراهيم} ، برفع ملة، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي بل الهدى ملة، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته، أي أهل ملته، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي بل ملة إبراهيم حنيفاً ملتنا.

ص: 300

{حَنِيفًا} : ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم، أي في حال حنيفيته، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم. قال الزمخشري: كقولك رأيت وجه هند قائمة، وأنه منصوب بإضمار فعل، حكاه ابن عطية. وقال: لأن الحال تعلق من المضاف إليه. انتهى. وتقدير الفعل نتبع حنيفاً، وأنه منصوب على القطع، حكاه السجاوندي، وهو تخريج كوفي، لأن النصب على القطع إنما هو مذهب الكوفيين. وقد تقدم لنا الكلام فيه، واختلاف الفراء والكسائي، فكان التقدير: بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما نكره، لم يمكن اتباعه إياه، فنصبه على القطع. أما الحال من المضاف إليه، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة، فنحن لا نجيزه، سواء كان جزءاً مما أضيف إليه، أو كالجزء، أو غير ذلك. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتاب «منهج المسالك» من تأليفنا. وأما النصب على القطع، فقد ردّ هذا الأصل البصريون. وأما إضمار الفعل فهو قريب، ويمكن أن يكون منصوباً على الحال من المضاف، وذكر {حنيفاً} ولم يؤنث لتأنيث {ملة} ، لأنه حمل على المعنى، لأن الملة هي الدين، فكأنه قيل: نتبع دين إبراهيم حنيفاً. وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه. قال: قيل إن حنيفاً حال من إبراهيم، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالاً من الملة، وإن خالفها بالتذكير، لأن الملة في معنى الدين. ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز:{ديناً قيماً ملة إبراهيم} (الأنعام: 161) ؟ فإذا جعلت حنيفاً حالاً من الملة، فالناصب له هو الناصب للملة، وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال. انتهى كلامه. وتكون حالاً لازمة، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية، وكذلك يلزم من جعل حنيفاً} حالاً من إبراهيم أن يكون حالاً لازمة، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية.

ص: 301

{وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى} : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان، وجوّزوا أن يكون:{وما أوتي موسى وعيسى} في موضع رفع بالابتداء، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي، فيكون في موضع رفع. والخبر في قوله {من ربهم} ، أو لا نفرق، أو يكون:{وما أوتي موسى وعيسى} معطوفاً على المجرور قبله، {وما أوتي النبيون} رفع على الابتداء، و {من ربهم} الخبر، أو لا نفرق هو الخبر. والظاهر أن من ربهم في موضع نصب، ومن لابتداء الغاية، فتتعلق بما أوتي الثانية، أو بما أوتي الأولى، وتكون الثانية توكيداً. ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله:{وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم} (84) ؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول، فتتعلق بمحذوف، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم.

{بِمِثْلِ مَآءَامَنتُمْ بِهِ} وأما قراءة الجمهور، فخرجت الباء على الزيادة، والتقدير: إيماناً مثل إيمانكم، كما زيدت في قوله:{وهزّي إليك بجذع النخلة} (مريم: 25) .

وسود المحاجر لا يقرأن بالسور

{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة: 195)، وتكون ما مصدرية. وقيل: ليست بزائدة، وهي بمعنى على، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به، وكون الباء بمعنى على، قد قيل به، وممن قال به ابن مالك، قال ذلك في قوله تعالى: من إن تأمنه بقنطار} (آل عمران: 75)، أي على قنطار. وقيل: هي للاستعانة، كقولك: عملت بالقدوم، وكتبت بالقلم، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم، وذلك فرار من زيادة الباء، لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياساً.

{وَنَحْنُ لَهُ} ، وهو الله تعالى. وقيل: يعود على ما، وتكون إذ ذاك موصولة. وأما مثل، فقيل: زائدة، والتقدير: فإن آمنوا بما آمنتم به، قالوا: كهي في قوله: {ليس كمثله شيء} (الشورى: 11) ، أي ليس كهو شيء، وكقوله:

فصيروا مثل كعصف مأكول

وكقوله:

يا عاذلي دعني من عذلكا

مثلي لا يقبل من مثلكها

وقيل: ليست بزائدة.

ص: 302

وجواب الشرط قوله: {فقد اهتدوا} ، وليس الجواب محذوفاً، كهو في قوله:{وإن يكذبوك فقد كذبت رسل} (فاطر: 4) .

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} وقرأ الجمهور: صبغة الله بالنصب، ومن قرأ برفع ملة، قرأ برفع صبغة، قاله الطبري. وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة. فأما النصب، فوجه على أوجه، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله:{قولوا آمنا بالله} .

وقيل: عن قوله: {ونحن له مسلمون. وقيل: عن قوله: فقد اهتدوا وقيل: هو نصب على الإغراء، أي الزموا صبغة الله. وقيل: بدل من قوله: ملة إبراهيم، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله: ونحن له عابدون، إلا إن قدر هناك قول، وهو إضمار، لا حاجة تدعو إليه، ولا دليل من الكلام عليه. وأما البدل، فهو بعيد، وقد طال بين المبدل ومنه والبدل بجمل، ومثل ذلك لا يجوز. والأحسن أن يكون منتصباً انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: قولوا آمنا.

ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل: 88)، إذ قبله: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} (النمل: 88)، معناه: صنع الله ذلك صنعه، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة، كما تقول لرجل يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، يريد رجلاً يصطنع الكرم. وأما قراءة الرفع، فذلك خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك الإيمان صبغة الله.

{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} : وانتصاب صبغة هنا على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ. وقد ذكرنا أن ذلك غريب، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزاً نقل من المبتدأ، والتقدير: ومن صبغته أحسن من صبغة الله. فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين، لا بين الصابغين.

ص: 303

{وَنَحْنُ لَهُ عَبِدونَ} : متصل بقوله: {آمنا بالله} ، ومعطوف عليه. قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة، أو نصب على الإغراء، بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه. وانتصابها يعني: صبغة الله على أنها مصدر مؤكد، هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام. انتهى. وتقديره: في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد، لأن الإغراء، إذا كان بالظرف والمجرور، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بالزموا صبغة الله.

{وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} جملة حالية.

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى} : قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: أم تقولون بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. فأما قراءة التاء، فيحتمل أم فيه وجهين. أحدهما: أن تكون فيه أم متصلة، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المحاجة في الله، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه، أنهم كانوا يهوداً ونصارى، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ، لأن كلاً من المستفهم عنه ليس بصحيح. الوجه الثاني: أن تكون أم فيه منقطعة، فتقدّر ببل والهمزة، التقدير: بل أتقولون، فأضرب عن الجملة السابقة، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة، على سبيل الإنكار أيضاً.

وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء، لا تكون إلا منقطعة. انتهى.

والأحسن أن تكون أم في القراءتين معاً منقطعة.

والقول في أو في قوله: {هوداً أو نصارى} ، قد تقدّم في قوله:{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} (البقرة: 111) . وقوله: كونوا هوداً أو نصارى} (البقرة: 135) ، وأنها للتفضيل، أي قالت اليهود: هم يهود، وقالت النصارى: هم نصارى.

ص: 304

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَدَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ} : من الله: يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم، ويكون على حذف مضاف، أي كتم من عباد الله شهادة عنده.

ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف، إذ الظرف في موضع الصفة، والتقدير: شهادة كائنة عنده من الله.

وهو قوله {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه} (آل عمران: 187) الآية. وقال ابن عطية في هذا الوجه: فمن على هذا متعلقة بعنده، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز.

ومن في قوله: شهادة من الله، مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان، إذا شهدت له، ومثله:{براءة من الله ورسوله} (التوبة: 1) . انتهى. فظاهر كلامه: أن من الله في موضع الصفة لشهادة، أي كائنة من الله، وهو وجه ثالث في العامل في من. والفرق بينه وبين ما قبله: أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد، وفي هذا الوجه اثنان، وكان جعل من معمولاً للعامل في الظرف، أو في موضع الصفة لشهادة، أحسن من تعلق من بكتم.

ص: 305

{سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ بِكُلِّءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ

ص: 306

الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاٌّتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّبِرِينَ * وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَاّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأٌّمَوَالِ وَالأٌّنفُسِ وَالثَّمَرَتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتٌ مِّن رَّبهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .

ص: 307

أما وسط، بسكون السين، فهو ظرف المكان، وله أحكام مذكورة في النحو. وأضاع الرجل الشيء: أهمله ولم يحفظه، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعاً، وضاع المسك يضوع: فاح. الانقلاب: الانصراف والارتجاع، وهو للمطاوعة، قلبته فانقلب. عقب الرجل: معروف، والعقب: النسل، ويقال: عقب، بسكون القاف. الرأفة والرحمة: متقاربان في المعنى. وقيل: الرأفة أشد الرحمة، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول، كضروب، وجاء على فعل، كحذر، وجاء على فعل، كندس، وجاء على فعل، كصعب. التقلب: التردّد، وهو للمطاوعة، قلبته فتقلب. الشطر: النصف، والجزء من الشيء والجهة.

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قال قوم، منهم المازني والمبرد والفارسي: إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلاً، إذ هو اسم غير مصدر. قال سيبويه: ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت عدة. وذهب قوم، منهم المازني، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه. قال، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر، وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذاً، منبهة على الأصل المتروك في المصادر. والذي سوّغ عندي إقرار الواو، وإن كان مصدراً، أنه مصدر ليس بجار على فعله، إذ لا يحفظ وجه يجه، فيكون المصدر جهة. قالوا: وعد يعد عدة، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر. ولما فقد يجه، ولم يسمع، لم يحذف من وجهة، وإن كان مصدراً، لأنه ليس مصدراً ليجه، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد، لأن الفعل منه: توجه واتجه. فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول.

{يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه، وهنا عدي بإلى.

ص: 308

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} : الكاف: للتشبيه، وذلك: اسم إشارة، والكاف في موضع نصب، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف، وإما لكونه حالاً. والمعنى: وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك، لكن تقدم لفظ يهدي، وهو دال على المصدر، وهو الهدى.

{لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} تكون على بمعنى اللام، كقوله:{وما ذبح على النصب} (المائدة: 3)، أي للنصب. وقيل: معناه ليكون إجماعكم حجة، ويكون الرسول عليكم شهيداً، أي محتجاً بالتبليغ.

واللام في قوله: {لتكونوا} هي، لام كي، أو لام الصيروة عند من يرى ذلك، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً، أو عدولاً ظاهراً. وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً، فظاهر أيضاً، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية، أو بأي معنى فسرت شهادته، ففي ذلك الشرف التامّ لهم، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليهم. ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له، جيء بكلمة على، وتأخر حرف الجر في قوله:{على الناس} ، عما يتعلق به. جاء ذلك على الأصل، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول. وأما في قوله:{عليكم شهيداً} فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله: عليكم، فكان قوله: شهيداً، تمام الجملة، ومقطعها دون عليكم. وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم؛ وتأخير على: لاختصاصهم يكون الرسول شهيداً عليهم، فهو مبني على مذهبه: أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص. وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان.

ص: 309

{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} : جعل هنا: بمعنى صير، فيتعدى لمفعولين: أحدهما {القبلة} ، والآخر {التي كنت عليها} . والمعنى: وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم صار يصلي إلى الكعبة. وتكون {القبلة} : هو المفعول الثاني، {التي كنت عليها} : هو المفعول الأول، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال. فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني. ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً؟ والمعنى هنا على هذا التقدير: وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس، قبلتك الآن إلا لنعلم. ووهم الزمخشري في ذلك، فزعم أن {التي كنت عليها} : هو المفعول الثاني لجعل، قال: التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل. تريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة، تألفاً لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة، يعني: وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً، انتهى ما ذكره.

ص: 310

وقد أوضحنا أن {التي كنت عليها} : هو المفعول الأول. وقيل: هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة. والمعنى: وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم، فيكون ذلك على معنى: أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ. وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله:{التي كنت عليها} ، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين. وقيل: التي كنت عليها صفة للقبلة، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني، فقيل: تقديره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم. وقيل: التقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم. وقيل: ذلك على حذف مضاف، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله: لنعلم، كما تقول: ضرب زيد للتأديب، أي كائن وموجود للتأديب، أي بسبب التأديب. وعلى كون التي صفة، يحتمل أن يراد بالقبلة: الكعبة، ويحتمل أن يراد بيت المقدس، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه. وقال ابن عباس: القبلة في الآية: الكعبة، وكنت بمعنى: أنت، كقوله تعالى:{كنتم خير أمّة} (آل عمران: 110) } بمعنى: أنتم. انتهى. وهذا من ابن عباس، إن صح تفسير معنى، لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد. وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير، ما نقله النحويون، أن كان تكون بمعنى صار، ومن صار إلى شيء واتصف به، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه. فإذا قلت: صرت عالماً، صح أن تقول: أنت عالم، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه. فتفسير ابن عباس: كنت بأنت، هو من هذا القبيل، فهو تفسير معنى، لا تفسير إعراب. وكذلك من صار خير أمّة، صح أن يقال فيه: أنتم خير أمّة.

ص: 311

{إِلَاّ لِنَعْلَمَ} : استثناء مفرّغ من المفعول له، وفيه حصر السبب، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا. أو نعلم هنا متعدّ إلى واحد، وهو الموصول، فهو في موضع نصب، والفعل بعده صلته. وقال بعض الناس: نعلم هنا متعلقة، كما تقول: علمت أزيد في الدر أم عمرو، حكاه الزمخشري. وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء، ويتبع في موضع الجر، والجملة في موضع المفعول بنعلم. وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم، لم يبق لقوله:{ممن ينقلب} ، ما يتعلق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بقوله:{يتبع} ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية، لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما المعنى على أن يتعلق بنعلم، كقولك: علمت من أحسن إليك ممن أساء. وهذا يقوي أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن. وقرأ الزهري: ليعلم، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى، فحذف وبنى الفعل للمفعول، وعلم غير الله تعالى حادث، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث، وكان التقدير: ليعلم الرسول والمؤمنون.

{وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله:{وما جعلنا القبلة} ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميتوجه إليها، وهي بيت المقدس، قبل التحويل، قاله أبو العالية والأخفش. وقيل: يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس.

ص: 312

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ} : تقدّم حديث البراء، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية. وقوله:{سيقول السفهاء} : أيهما نزل قبل؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد، في بعض المواضع، ومنه:{قد يعلم ما أنتم عليه} (النور: 64) } ، {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك} (الحجر: 97) } ، {قد يعلم الله المعوقين منكم} (الأحزاب: 18) } . وقال الشاعر:

لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم

مرابط للأمهار والعكر الدثر

قال الزمخشري: قد نرى: ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية، كقوله:

قد أترك القرن مصفراً أنامله

انتهى. وشرحه هذا على التحقيق متضادّ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى. ورب، على مذهب المحققين من النحويين، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه، أو لتقليل نظيره. ثم قال: ومعناه كثرة الرؤية، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور. ثم هذا المعنى الذي ادّعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة. هذا التركيب، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي، ولا غير المضي، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة، لا يقال فيه: قلب بصره في السماء، وإنما يقال: قلب إذا ردّد. فالتكثير، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب، نحو: قطعته فتقطع، وكسرته فتكسر، وما طاوع التكثير ففيه التكثير.

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ} وهو من الكناية بالكل عن الجزء، ولا يحسن أن يقال: إنه على حذف مضاف، ويكون التقدير بصر وجهك، لأن هذا لا يكاد يستعمل، إنما يقال: بصرك وعينك وأنفك؛ لا يكاد يقال: أنف وجهك، ولا خد وجهك. {في السماء} : متعلق بالمصدر، وهو تقلب، وهو يتعدى بفي، فهي على ظاهرها.

ص: 313

{فلنولينك قبلة ترضاها:} هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها. وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها.

{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} : هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان، أيّ في موضع كنتم، وهو شرط وجزاء، والفاء جواب الشرط، وكنتم في موضع جزم. وحيث: هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية، الخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال، والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة فينا في اسم الشرط، لأن الشرط مبهم. فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط، وجوزي بها، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال. وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها، وخلاف الفراء في ذلك.

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} {من ربهم} : جار ومجرور في موضع الحال، أي ثابتاً من ربهم.

ص: 314

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ بِكُلِّءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} واللام في: ولئن، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم. فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف، والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم وهو قوله:{ما تبعوا} ، ولذلك لم تدخله الفاء. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل. المعنى: أي ما يتبعون قبلتك، لأن الشرط قيد في الجملة، والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي. ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى:{ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون} (الروم: 51) } ، التقدير: ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جواباً للقسم المحذوف، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل، فهو ماضٍ من حيث اللفظ، مستقبل من حيث المعنى، لأن الشرط قيد فيه، كما ذكرنا. وجواب الشرط في الآيتين محذوف، سد مسده جواب القسم، ولذلك أتى فعل الشرط ماضياً في اللفظ، لأنه إذا كان الجواب محذوفاً، وجب مضي فعل الشرط لفظاً، إلا في ضرورة الشعر، فقد يأتي مضارعاً. وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو، ولذلك كانت ما في الجواب، فجعل ما تبعوا جواباً لإن، لأن إن بمعنى لو، فكما أن لو تجاب بما، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو، لم يكن جوابها مصدراً بما، بل لا بد من الفاء. تقول: إن تزرني فما أزورك، ولا يجوز: ما أزورك. وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة جواب إن عليه. وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط، جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم. وليس هذا مذهب البصريين، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو. واستعمال إن بمعنى لو قليل، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها. وقال ابن عطية: وجاء جواب لئن كجواب لو، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي

ص: 315

والوقوع، وإن تطلب الاستقبال، لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم. فالجواب إنما هو للقسم، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه. انتهى كلامه.

وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد، لأن أوله يقتضي أن الجواب لإن، وقوله بعد: فالجواب إنما هو للقسم، يدل على أن الجواب ليس لإن، والتعليل بعد بقوله، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، لا يصلح أن يعلل به قوله: فالجواب إنما هو للقسم، بل يصح أن يكون تعليلاً، لأن الجواب لإن، وأجريت في ذلك مجرى لو. وأما قوله: هذا قول سيبويه، فليس في كتاب سيبويه، إلا أن ما تبعوا جواب القسم، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل. قال سيبويه: وقالوا لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل. وقال أيضاً. وقال تعالى:{ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} (فاطر: 41) } : أي ما يمسكهما. وقال بعض الناس: كل واحدة من: لئن ولو، تقوم مقام الأخرى، ويجاب بما يجاب به، ومنه:{ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا} (الروم: 51) } ، لأن معناه: ولو أرسلنا ريحاً. وكذلك لو يجاب جواب لئن، كقولك: لو أحسنت إليّ أحسن إليك، هذا قول الأخفش والفرّاء والزّجاج. وقال سيبويه: لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى، لأن معناهما مختلف، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال، تقديره: لا يتبعون، وليظلن. انتهى كلامه.

وتلخص من هذا كله أن في قوله: {ما تبعوا} قولين: أحدهما: أنها جواب قسم محذوف، وهو قول سيبويه. والثاني: أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج.

{وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} . هذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله:{بتابع} ، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها، لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم.

ص: 316

وقرأ بعض القراء: {بتابع قبلتهم} على الإضافة، وكلاهما فصيح، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته، وقد تقدم في أيهما أقيس.

{إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ} : قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف الذي أذنت بتقديره اللام في لئن، ودل على جواب الشرط، لا يقال: إنه يكون جواباً لهما، لامتناع ذلك لفظاً ومعنى. أما المعنى، فلأن الاقتضاء مختلف. فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه، لأن القسم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له. وأما اللفظ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم، لم يحتج إلى مزيد رابط، وإذا كانت جواب شرط، احتاجت لمزيد رابط، وهو الفاء. ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معاً. ودخلت إذاً بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر. فلم تتقدّم، لأنه سبق قسم وشرط، والجواب هو للقسم. فلو تقدمت، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم يتأخر، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي: فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة. وتحرير معنى إذن صعب، وقد اضطرب الناس في معناها، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء. واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه، وقد أمعنا الكلام في ذلك في كتاب «التكميل» من تأليفنا، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان مسبباً عما قبلها، فهي في ذلك على وجهين: أحدهما: أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها. مثال ذلك أزورك فتقول: إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك.

ص: 317

وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها مذكورة في النحو. الوجه الثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وذلك نحو: إن تأتني إذن آتك، ووالله إذن لأفعلن. فلو أسقطت إذن، لفهم الارتباط. ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: أزورك فتقول: إذن أنا أكرمك، وجاز توسطها نحو: أنا إذاً أكرمك، وتأخرها. وإذا تقرر هذا، فجاءت إذاً في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم.

{يَعْرِفُونَهُ} : جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو {الذين آتيناهم} ، وجوز أن يكون الذين مجروراً على أنه صفة للظالمين، أو على أنه بدل من الظالمين، أو على أنه بدل من {الذين أوتوا الكتاب} في الآية التي قبلها، ومرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، ومنصوباً على إضمار، أعني: وعلى هذه الأعاريب يكون قوله: {يعرفونه} ، جملة في موضع الحال، إما من المفعول الأول في آتيناهم، أو من الثاني الذي هو الكتاب، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما. والظاهر هو الإعراب الأول، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر.

ص: 318

{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} ، الكاف: في موضع نصب، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفاناً مثل عرفانهم. {أبناءهم} : أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف، كان التقدير: يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم. وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى، ومعرفة متعلقها المحسوس.

{وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {وهم يعلمون} : جملة حالية، أي عالمين بأنه حق. ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم. وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة.

ص: 319

{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} : قرأ الجمهور: برفع الحق على أنه مبتدأ، والخبر هو من ربك، فيكون المجرور في موضع رفع. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق من ربك، والضمير عائد على الحق المكتوم، أي ما كتموه هو الحق من ربك، ويكون المجرور في موضع الحال، أو خبراً بعد خبر. وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه. والألف واللام في الحق للعهد، وهو الحق الذي عليه الرسول، أو الحق الذي كتموه، أو للجنس على معنى: أن الحق هو من الله، لا من غيره، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله، كالذي عليه الرسول، وما لم تثبت حقيقته، فليس من الله، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب. وقرأ علي بن أبي طالب: الحق بالنصب، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم، فيكون التقدير: يكتمون الحق من ربك، قاله الزمخشري؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون، قاله ابن عطية، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل، كقوله:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

أي يسبقه شيء. وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره: الزم الحق من ربك، ويدل عليه الخطاب بعده:{فلا تكونن من الممترين} .

ص: 320

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} : قرأ الجمهور: ولكل: منوناً، وجهة: مرفوعاً، هو موليها: بكسر اللام اسم فاعل. وقرأ ابن عامر: هو مولاها، بفتح اللام اسم مفعول وهي، قراءة ابن عباس. وقرأ قوم شاذاً: ولكل وجهة، بخفض اللام من كل من غير تنوين، وجهة: بالخفض منوناً على الإضافة، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى، أي هو موليها وجهه أو نفسه، قاله ابن عباس وعطاء والربيع، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ: هو مولاها. وقيل: هو عائد على الله تعالى، قاله الأخفش والزجاج، أي الله موليها إياه، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها. فمعنى هو موليها على هذا التقدير: شارعها ومكلفهم بها. والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة. وأما قراءة من قرأ: ولكل وجهة على الإضافة، فقال محمد بن جرير: هي خطأ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر، أحد القراء السبعة، وقد وجهت هذه القراءة.

قال الزمخشري: المعنى: ولكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدّم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه. انتهى كلامه، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام. لا يجوز أن يقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه. وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة. كان قوياً، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدماً، ولا يمكن أن يكون العامل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا:

سراقة للقرآن يدرسه

ص: 321

وليس نظير ما مثل به من قوله: لزيد ضربت، أي زيداً ضربت، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد، ولا يجوز أن يقدر عامل في {لكل وجهة} يفسره قوله {موليها} ، كتقديرنا زيداً أنا ضاربه، أي اضرب زيداً أنا ضاربه، فتكون المسألة من باب الاشتغال، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر. تقول: زيداً مررت به، أي لابست زيداً، ولا يجوز: بزيد مررت به، فيكون التقدير: مررت بزيد مررت به، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر، بل إذا أردت الاشتغال نصبته، هكذا جرى كلام العرب. قال تعالى:{والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً} (الإنسان: 31) } . وقال الشاعر:

أثعلبة الفوارس أم رباحا

عدلت به طهية والخشابا

ص: 322

وأما تمثيله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي. فإن قلت: لم لا تتوجه هذه القراءة على أن {لكل وجهة} في موضع المفعول الثاني لموليها، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ، وهو الهاء، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف، وأنث على معنى الطوائف، وقد تقدم ذكرهم، ويكون التقدير: وكل وجهة الله مولى الطوائف أصحاب القبلات؟ فالجواب: أنه منع من هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله، إذا تقدّم. أما ما يتعدى إلى اثنين، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم، ولا إذا تأخر. وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة. ومول هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين، فلذلك لا يجوز هذا التقدير. وقال ابن عطية، في توجيه هذه القراءة: أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله:{لكل وجهة} على الأمر في قوله: {فاستبقوا الخيرات} ، للاهتمام بالوجهة، كما تقدم المفعول. انتهى كلام ابن عطية، وهو توجيه لا بأس به.

ص: 323

{فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَتِ} : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح. وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة، أو قبلة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها. قال قتادة: الاستباق في أمر الكعبة رغماً لليهود بالمخالفة. وقال ابن زيد: معناه: سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات، وهي الجهات المسامتة للكعبة، وإن اختلفت. وذكرنا أن استبق بمعنى: تسابق، فهو يدل على الاشتراك. {إنا ذهبنا نستبق} (يوسف: 17) } ، أي نتسابق، كما تقول: تضاربوا. واستبق لا يتعدى، لأن تسابق لا يتعدى، وذلك أن الفعل المتعدي، إذا بنيت من لفظ، معناه: تفاعل للاشتراك، صار لازماً، تقول: ضربت زيداً، ثم تقول: تضاربنا، فلذلك قيل: إن إلى هنا محذوفة، التقدير: فاستبقوا إلى الخيرات. قال الراعي:

ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل

سواكم فإني مهتد غير مائل

يريد ومن يمل إلى سواكم.

{لِئَلَاّ يَكُونَ} : هذه لام كي، وأن بعدها لا النافية، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم: أن لا تفعل أفعل. وكتبت في المصحف: لا ما بعدها ياء، بعدها لام ألف، فجعلوا صورة للهمزة الياء، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء. وقرأ الجمهور بالتحقيق: وهذه أن واجبة الإظهار هنا، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية، لأن في ذلك قلقاً في اللفظ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع، فإذا أثبتوها، فهو الأصل، وهو الأقل في كلامهم، وإذا حذفوها، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.

ص: 324

واللام في لئلا لام الجر، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر، أي لانتفاء الحجة عليكم. وتتعلق هذه اللام، قيل: بمحذوف، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة في ذلك {لئلا يكون} . وقيل: تتعلق بولوا، والقراءة بالياء، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين، فسهل التذكير جداً، وخبر كان قوله:{للناس} ، و {عليكم} : في موضع نصب على الحال، وهو في الأصل صفة للحجة، فلما تقدم عليها انتصب على الحال، والعامل فيها محذوف، ولا جائز أن يتعلق بحجة، لأنه في معنى الاحتجاج، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل لا يتقدم على عامله. وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة، هكذا نقلوا، ويحتمل أن يكون عليكم الخبر، وللناس متعلق بلفظ يكون، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور.

ص: 325

{إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} ، قرأ الجمهور: إلا جعلوها أداة استثناء، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد: ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح. فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب {الذين ظلموا} مبتدأ، والجملة من قوله:{فلا تخشوهم واخشوني} في موضع الخبر، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل. المعنى: كأنه قيل: من يظلم من الناس، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم. و {اخشوني} : فلا تخالفوا أمري، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال، أي لا تخشوا الذين ظلموا، لا تخشوهم، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصباً بفعل مقدر على الإغراء. ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين، جعلها حرف جر، وتأوّلها بمعنى مع. وأما على قراءة الجمهور، فالاستثناء متصل، قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكاناً حسناً، كان أولى من غيره.

وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة، يضعونها موضع الحجة، وليست بحجة. ومثار الخلاف هو: هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول، فهو استثناء منقطع، وإن كان الثاني، فهو استثناء متصل.

ص: 326

وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلاً من ضمير الخطاب في عليكم، ويكون التقدير: لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون، بتولية وجوهكم إلى القبلة. ونقل السجاوندي أن قطرباً قرأ: إلا على الذين ظلموا، وهو بدل أيضاً على إظهار حرف الجر، كقوله:{للذين استضعفوا لمن آمن منهم} (الأعراف: 75) } ، وهذا ضعيف، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، ولا يجوز ذلك إلى على مذهب الأخفش. وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن إلا في الآية بمعنى الواو، وجعل من ذلك قوله:

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروانا

وقوله:

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

التقدير: عنده والذين ظلموا، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو، لا يقوم عليه دليل، والاستثناء سائغ فيما ادّعى فيه أن إلا بمعنى الواو، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو. وقال الزجاج: هذا خطأ عند حذاق النحويين، وأضعف من هذا زعم من زعم أن إلا بمعنى بعد، أي بعد الذين ظلموا، وجعل من ذلك {إلا ما قد سلف} (النساء: 22) } ، أي بعد ما قد سلف، {وإلا الموتة الأولى} (الدخان: 56) } ، أي بعد الموتة الأولى.

ص: 327

{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} : الكاف هنا للتشبيه، وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف. واختلف في تقديره، فقيل التقدير: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام إرسال الرسول فيكم. ومتعلق الإتمامين مختلف، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا. أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله:{ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك} (البقرة: 128) } ، والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله:{ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} (البقرة: 129) } ، وقيل: التقدير: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً، كتحقق إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً، كتحقق إرسالنا وثبوته. وقيل: متعلق بقوله: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} ، أي جعلاً مثل ما أرسلنا، وهو قول أبي مسلم، وهذا بعيد جدًّا، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من {نعمتي} ، أي:{ولأتمّ نعمتي عليكم} مشبهة إرسالنا فيكم رسولاً، أي مشبهة نعمة الإرسال، فيكون على حذف مضاف. وقيل: الكاف منقطعة من الكلام قبلها، ومتعلقة بالكلام بعدها، والتقدير: قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسول، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. انتهى. فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف، أي اذكروني ذكراً مثل ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فائته بكرمك، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم.

ص: 328

{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً} وما: في كما، مصدرية، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، ورسولاً بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولاً، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله، ومع الكلام الذي بعده، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل. وكذلك جعل ما كافة، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر، لولايتها الجمل الإسمية، نحو قول الشاعر:

لعمرك إنني وأبا حميد

كما النشوان والرجل الحليم

ص: 329

وقول من قال إن: {كما أرسلنا} ، متعلق بما بعده، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب، قال: لأن الأمر إذا كان له جواب، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه، قال: لو قلت: كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني، لأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر، أو بمضمر، وكذلك:{فاذكروني أذكركم} ، هو أمر له جواب، فلا تتعلق كما به، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، وهو قولك: إذا أتاك فلان فائته ترضه، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر، والأول أفصح وأشهر. وتقول: كما أحسنت إليك فأكرمني، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني، إذ لا جواب له. انتهى كلامه. ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها، وهو:{لأتم نعمتي عليكم} ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو. وما ذهب إليه مكي من إبطال أن، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء، لأن الكاف، إما أن تكون للتشبيه، أو للتعليل. فإن كانت للتشبيه، فتكون نعتاً لمصدر محذوف، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل، مثال ذلك: أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك، فيجوز تقديم هذا المصدر. وإن كانت للتعليل، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل، مثال ذلك: أكرمني لإكرامي لك أكرمك، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته، كما وفاذكروني جوابين للأمر، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب، ولأن ذلك التشبيه فاسد، لأن المصدر لا يشبه الجواب، وكذلك التعليل. أما المصدر التشبيهي، فهو وصف في الفعل المأمور به، فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف. وعلى هذا لا يشبه الجواب، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل. وأما التعليل، فكذلك أيضاً ليس

ص: 330

مترتباً على وقوع الفعل، بل الفعل مترتب على وجود العلة، فهو نقيض الجواب، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل، والعلة مترتب عليها وجود الفعل، فلا تشبيه بينهما، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله: فاذكروني، هو الفاء، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً، وتبعد زيادة الفاء. فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام.

{وَاشْكُرُواْ لِي} تقدّم تفسير الشكر، وعداه هنا باللام، وكذلك {أن اشكر لي ولوالديك} (لقمان: 14) } ، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر، وتارة تتعدّى بنفسها، كما قال عمرو بن لجاء التميمي:

هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم

فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل

وفي إثبات هذا النوع من الفعل، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر، بحق الوضع فيهما خلاف. وقالوا: إذا قلت: شكرت لزيد، فالتقدير: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه. ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. وقال ابن عطية: واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه: نعمتي وأيادي، وكذلك إذا قلت: شكرتك، فالمعنى: شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر: ذكر اليد وذكر مسديها معاً، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، انتهى كلامه، ويحتاج، كونه يتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف جر، فتقول: شكرت لزيد صنيعه، لسماع من العرب، وحينئذ يصار إليه.

{وَلَا تَكْفُرُونِ} : وهو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان، لكان: ولا تكفرون، أو: ولا تكفروا بي. وعنده يكون نون الوقاية، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفاً لتناسب الفواصل.

ص: 331

{وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَاّ تَشْعُرُونَ} وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم أموات، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء، مندرجاً تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. لكن يرجح الوجه الأول، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله:{ولكن لا تشعرون} ، لأن معناه: أن حياتهم لا شعور لكم بها.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأٌّمَوَالِ} بشيء: متعلق بقوله: {ولنبلونكم} ، والباء فيه للإلصاق، وأفرده ليدل على التقليل، إذ لو جمعه فقال: بأشياء، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده. وقد قرأ الضحاك: بأشياء، فلا يكون حذف فيما بعدها، فيكون من في موضع الصفة، بخلاف قراءة الجمهور: بشيء، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص. وعطف ونقص على قوله: بشيء، أي: ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص، ويحسن العطف تنكيرها، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره: وشيء من نقص. و {من الأموال} : متعلق بنقص، لأنه مصدر نقص، وهو يتعدّى إلى واحد، وقد حذف، أي: ونقص شيء. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص. وتكون من لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف، أي ونقص شيء من الأموال، وتكون من إذ ذاك للتبعيض. وقالوا: يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات.

ص: 332

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ * إِلَاّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاخْتِلَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأٌّسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً

ص: 333

فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَرِجِينَ مِنَ النَّارِ} .

{الَّذِينَ إِذَآ أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ} : يجوز في الذين أن يكون منصوباً على النعت للصابرين، وهو ظاهر الإعراب، أو منصوباً على المدح، فيكون مقطوعاً، أو مرفوعاً على إضمار هم على وجهين: إما على القطع، وإما على الاستئناف، كأنه جواب لسؤال مقدر، أي: من الصابرون؟ قيل: هم الذين الذين إذا. وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ، وأولئك عليهم خبره، وهو محتمل. {مصيبة} : اسم فاعل من أصابت، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه، وصارت كناية عن الداهية، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل. و {أصابتهم مصيبة} : من التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً، ومنه:{أزفت الآزفة} (النجم: 57) } ، {إذا وقعت الواقعة} (الواقعة: 1) } .

{قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ} : قالوا: جواب إذا، والشرط وجوابه صلة للذين. وإنا: أصله إننا، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل، فحذفت نون من إن. وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية، لأنها ظرف، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت، فقالوا: إن زيد لقائم، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال، فلذلك عملت، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير. ولله: معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور.

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتٌ مِّن رَّبهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، أولئك مبتدأ، وصلوات: ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور، أي: أولئك مستقرة عليهم صلوات، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ، والجار والمجرور في موضع خبره. والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول، لأنه يكون إخباراً عن المبتدأ بالجملة.

ص: 334

ويحتمل أن تكون من تبعيضية، فيكون ثم حذف مضاف، أي صلوات من صلوات ربهم. وأتى بلفظ الرب، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به. وإن كان أريد بالرحمة الصلوات، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة، لأنها قد تقيدت. وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات، فيقدر: ورحمة منه، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم. ويحتمل أن يكون:{من ربهم} ، متعلقاً بقوله:{عليهم} ، فلا يكون صفة، بل يكون معمولاً للرافع لصلوات، وترتب على مقام الصبر. ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل.

وتارة بالجمع: {جميع لدينا محضرون} (يس: 32 (يس: 53) } ، وينتصب حالاً: جاء زيد وعمرو جميعاً، ويؤكد به بمعنى كلهم: جاء القوم جميعهم، أي كلهم، ولا يدل على الاجتماع في الزمان، إنما يدل على الشمول في نسبة الفعل.

{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} : ومن شرطية.

{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وفيه الخلاف السابق، أموضعها بعد الحذف جر أم نصب؟ وجوّز بعض من لا يحسن علم النحو أن يكون:{أن يطوّف} ، في موضع رفع، على أن يكون خبراً أيضاً، قال التقدير: فلا جناح الطواف بهما، وأن يكون في موضع نصب على الحال، والتقدير: فلا جناح عليه في حال تطوّفه بهما، قال: والعامل في الحال العامل في الجر، وهي حال من الهاء في {عليه} . وهذان القولان ساقطان، ولولا تسطيرهما في بعض كتب التفسير لما ذكرتهما.

ص: 335

{ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} : فيحتمل من أن يكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون شرطية. وقرأ حمزة، والكسائي: يطوّع مضارعاً مجزوماً بمن الشرطية، وافقهما زيد ورويس في الأول منهما، وانتصاب خيراً على المفعول بعد إسقاط حرف الجر، أي بخير، وهي قراءة ابن مسعود، قرأ: يتطوّع بخير. ويطوّع أصله: يتطوّع كقراءة عبد الله، فأدغم. وأجازوا جعل {خيراً} نعتاً لمصدر محذوف، أي ومن يتطوع تطوعاً خيراً.

{فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} : هذه الجملة جواب الشرط. وإذا كانت من موصولة في احتمال أحد وجهي من في قراءة من قرأ تطوّع فعلاً ماضياً، فهي جملة في موضع خبر المتبدأ، لأن تطوّع إذ ذاك تكون صلة.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى} : أمر محمد صلى الله عليه وسلّمونعته واتباعه. وتتعلق من بمحذوف، لأنه في موضع الحال أي كائناً من البينات والهدى.

{مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} : الضمير المنصوب في {بيناه} عائد على الموصول الذي هو {ما أنزلنا} ، وضمير الصلة محذوف، أي ما أنزلناه. وقرأ الجمهور:{بيناه} مطابقة لقوله: {أنزلنا} . وقرأ طلحة بن مصرف: بينه: جعله ضمير مفرد غائب، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب.

{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ} : هذه الجملة خبر إن.

وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد، تنبيهاً على ذلك الوصف القبيح، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى:{إن الذين يكتمون} .

{إِلَاّ الَّذِينَ تَابُواْ} : هذا استثناء متصل.

ص: 336

{إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} : والجملة من قوله: {وهم كفار} ، جملة حالية، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها، خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً، وهو الفراء، وتبعه الزمخشري، وبيان ذلك في علم النحو. والجملة من قوله:{عليهم لعنة الله} خبر إن، و {لعنة الله} مبتدأ، خبره {عليهم} . والجملة من قوله:{عليهم لعنة الله} خبر عن أولئك. والأحسن أن يكون لعنة فاعلاً بالمجرور قبله، لأنه قد اعتمد خبراً بكونه لذي خبر، فيرفع ما بعده على الفاعلية، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد، بخلاف الإعراب الأول، فإنك أخبرت عنه بجملة.

ص: 337

وقرأ الجمهور: {وَالْمَلئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، بالجر عطفاً على اسم الله. وقرأ الحسن: والملائكة والناس أجمعون، بالرفع. وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر، وقدروه: أن لعنهم الله، أو: أن يلعنهم الله. وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لأن والفعل. والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل، لأنه لا يراد به العلاج. وكان المعنى: أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص، لا على سبيل الحدوث. ونظير ذلك:{ألا لعنة الله على الظالمين} (هود: 18) } ، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين، وقولهم له ذكاء الحكماء. ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل، بل صار ذلك على معنى قولهم: له وجه وجه القمر، وله شجاعة شجاعة الأسد، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع الأسد. ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر، أعني لعنة الله بأن والفعل، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع، لأنه لا طالب له. ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر؟ فقد تغير المصدر بتنوينه، ولذلك حمل سيبويه قولهم: هذا ضارب زيد غداً وعمراً، على إضمار فعل: أي ويضرب عمراً، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع. ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت: هذا ضارب زيداً وتنون؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون، فهي مسألة خلاف. البصريون يجيزون ذلك فيقولون: عجبت من ضرب زيد عمراً. والفراء يقول: لا يجوز ذلك، بل إذا نون المصدر لم يجىء بعده فاعل مرفوع. والصحيح مذهب الفراء، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم

ص: 338

من السماع، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل. فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر، لأنا نقول: لا نسلم أنه مصدر ينحل، لأن والفعل، فيكون عاملاً. سلمنا، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً. سلمنا، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه. وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه. أولاها: أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف، التقدير: وتلعنهم الملائكة، كما خرج سيبويه في: هذا ضارب زيد وعمراً: أنه على إضمار فعل: ويضرب عمراً. الثاني: أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف، أي لعنة الله ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو:{واسئل القرية} (يوسف: 82) } . الثالث: أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم.

{خَلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} إلا أن الجملة من قوله: {لا يخفف} هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين، أي غير مخفف عنهم العذاب. فهي حال متداخلة، أي حال من حال، لأن خالدين حال من الضمير في عليهم. ومن أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد، أجاز أن تكون الجملة من قوله:{لا يخفف} ، حال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون: لا يخفف جملة استئنافية، فلا موضع لها من الإعراب.

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وإله: خبر عن إلهكم، وواحد: صفته، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله، ومنع الاقتصار عليه، فهو شبيه بالحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً.

ص: 339

وتقدم الكلام على إعراب الإسم بعد لا في قوله: {لا ريب فيه} (البقرة: 2) } ، والخبر محذوف، وهو بدل من اسم لا على الموضع، ولا يجوز أن يكون خبراً. كما جاز ذلك في قولك: زيد ما العالم إلا هو، لأن لا لا تعمل في المعارف، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبنى الإسم معها هو مرفوع بها، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعاً بها، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها، وهو مذهب سيبويه، فلا يجوز أيضاً، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة، والخبر معرفة، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي. وتقرير البدل فيه أيضاً مشكل على قولهم: إنه بدل من إله، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد. والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من إله ولا من رجل في قولك: لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، فالتقدير: لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب، فليس بدلاً على موضع اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا، أي من الضمير العائد على اسم لا. قال بعضهم: وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل، قال: ولا يجوز فيه النصب هاهنا، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك، والنصب على أن الاعتماد على الأول. انتهى كلامه. ولا فرق في المعنى بين: ما قام القوم إلا زيد، وإلا زيداً، من حيث أن زيداً مستثنى من جهة المعنى. إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب، فأعربوا ما كان تابعاً لما قبله بدلاً، وأعربوا هذا منصوباً على الاستثناء، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية، والنصب جائز، ولا نعلم في ذلك خلافاً.

ص: 340

فإن {لا إله} في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.

وما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله:{لا إله} ، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده ومسند إليه. فالمسند إليه هو إله، والمسند هو الكون المطلق، ولذلك ساغ حذفه، كما ساغ بعد قولهم: لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره: لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، ووجب حذفه عند التميميين. وإذا كان الخبر كوناً مطلقاً، كان معلوماً، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو: لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا إن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه.

ويجوز ارتفاع {الرحمن} على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله:{وإلهكم} ، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار: إله واحد خبر، و {لا إله إلا هو} خبر ثان، و {الرحمن الرحيم} خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك: ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد. قالوا: ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكساني أنه يجيز وصف الضمير الغائب.

ص: 341

{وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ} وجعل الصفة موصولاً، صلته تجري: فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها. وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر. والألف واللام فيه للجنس، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري. {بما ينفع الناس} : يحتمل أن تكون ما موصولة، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد، فتكون الباء للحال. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما، فتكون الباء للسبب. واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر، لأنه ذكرها في معرض الامتنان.

{وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ} : أي من جهة السماء. من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما، أي والذي أنزله الله من السماء. ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله:{من السماء} ، بدل اشتمال، فهو على نية تكرار العامل، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى، أو للتبعيض، وتتعلق بأنزل. ولا يقال: كيف تتعلق بأنزل من الأولى والثانية، لأن معنييهما مختلفان. {فأحيا به الأرض بعد موتها} : عطف على صلة ما، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات، وبه عائد على الموصول. وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره. وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها، كأنه دفين فيها، وهي له قبر.

ص: 342

{وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره: وبث فيها من كل دابة. لكن حذف هذا الضمير، إذا كان مجروراً بالحرف، له شرط، وهو أن يدخل على الموصول، أو الموصوف بالموصول، أو المضاف إلى الموصول حرف جر، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع، وأن لا يكون محصوراً، ولا في معنى المحصور، وأن يكون متعيناً للربط. وهذا الشرط مفقود هنا. قال الزمخشري: فإن قلت قوله: {وبث فيها} ، عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأن قوله:{فأحيا به الأرض} عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، وكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة. ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. انتهى كلامه، ولا طائل تحته. وكيفما قدّرت من تقديرية، لزم أن يكون في قوله:{وبث فيها من كل دابة} ضمير يعود على الموصول، سواء أعطفته على أنزل، أو على فأحيا، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول. والذي يتخرّج على الآية، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله:{وما أنزل} ، التقدير: وما بث فيها من كل دابة، فيكون ذلك أعظم في الآيات، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها، وما أودع في كل شكل، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة، وذلك من الفيل إلى الذرة، وما أوجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر. فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي، غير أن

ص: 343

عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب، وإن كان البصريون لا يقيسونه، فقد قاسه غيرهم، قال بعض طيّي:

ما الذي دأبه احتياط وحزم

وهواه أطاع مستويان

أي: والذي أطاع، وقال حسان:

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

أي: ومن يمدحه، وقال آخر:

فوالله ما نلتم وما نيل منكم

بمعتدل وفق ولا متقارب

يريد: ما الذي نلتم وما نيل منكم، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى:{وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} (العنكبوت: 46) } ، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى:{والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} (النساء: 136) } . وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه، وقد جاء ذلك في أشعارهم، قال:

وإن لساني شهدة يشتفى بها

وهو على من صبه الله علقم

يريد: من صبه الله عليه، وقال:

لعلّ الذي أصعدتني أن تردني

إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر

يريد: أصعدتني به. فعلى هذا القول يكون {من كل دابة} في موضع المفعول، ومن تبعيضية. وعلى مذهب الأخفش، يجوز أن تكون زائدة، وكل دابة هو نفس المفعول، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً، أي: وبثه، وتكون من حالية، أي: كائناً من كل دابة، فهي تبعيضية، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك.

{وَتَصْرِيفِ الرِّيَحِ} ومن قرأ بالتوحيد، فإنه يريد الجنس، فهو كقراءة الجمع. والرياح في موضع رفع، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل، أي وتصريف الرياح، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول، أي وتصريف الله الرياح.

ص: 344

{بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} : انتصاب بين على الظرف، والعامل فيه المسخر، أي سخر بين كذا وكذا، أو محذوف تقديره كائناً بين، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر. {لآيات لقوم يعقلون} : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها، إذ لو كان يليها، ما جاز دخولها، وهي لام التوكيد، فصار في الجملة حرفا تأكيد: إن واللام. و {لقوم} : في موضع الصفة، أي كائنة لقوم. والجملة صفة لقوم، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً.

ص: 345

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} : ومن: مبتدأ موصول، أو نكرة موصوفة، وأفرد يتخذ حملاً على لفظ من، ومن دون الله متعلق بيتخذ، ودون هنا بمعنى غير، وأصلها أن يكون ظرف مكان، وهي نادرة التصرف إذ ذاك. قال ابن عطية: ومن دون: لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام، وتفسير دون بسوى، أو بغير، لا يطرد. انتهى. تقول: فعلت هذا من دونك، أي وأنت غائب. وتقول: اتخذت منك صديقاً، واتخذت من دونك صديقاً. فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقاً. وتقول: قام القوم دون زيد. فالذي يفهم من هذا: أن المعنى أن زيداً لم يقم، فدلالتها دلالة غير في هذا. والذي ذكر النحويون، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان، وأنها قليلة التصرف نادرته. وقد حكى سيبويه أيضاً أنها تكون بمعنى رديء، تقول: هذا ثوب دون أي رديء، فإذا كانت ظرفاً، دلت على انحطاط المكان، فتقول: قعد زيد دونك، فالمعنى: قعد زيد مكاناً دون مكانك، أي منحطاً عن مكانك. وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول: زيد دون عمرو في الشرف، تريد المكانة لا المكان. ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء، ونحن نوضحه فنقول: إذا قلت: اتخذت من دونك صديقاً، فأصله: اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقاً، فهو ظرف مجازي. وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه، لزم أن يكون غيراً، لأنه ليس إياه، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيراً، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك. وانتصب {أنداداً} هنا على المفعول بيتخذ، وهي هنا متعدية إلى واحد، نحو قولك: اتخذت منك صديقاً، وهي افتعل من الأخذ.

ص: 346

وجاء الضمير في {يحبونهم} ضمير من يعقل. وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد: المجموع من الأوثان والرؤساء، وتكون الآية عامة. وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في:{يحبونهم} ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم. والجملة من يحبونهم صفة للأنداد، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ، ويجوز أن تكون صفة لمن، إذا جعلتها نكرة موصوفة. وجاز ذلك، لأن في يحبونهم ضمير أنداد، أو ضمير من، وأعاد الضمير على من جمعاً على المعنى، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ، إذ أفرد الضمير، وقد وقع الفصل بين الجملتين، وهو شرط على مذهب الكوفيين.

ص: 347

{كَحُبِّ اللَّهِ} ، الكاف في موضع نصب، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف، على رأي سيبويه، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، على رأي جمهور المعربين، التقدير: على الأول يحبونهموه، أي الحب مشبهاً حب الله، وعلى الثاني تقديره: حباً مثل حب الله، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب، والفاعل محذوف، التقدير: كحبهم الله، أو كحب المؤمنين الله، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين، حب الأنداد وحب الله. وقال ابن عطية: حب: مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر، تقديره: كحبكم الله، أو كحبهم، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة. انتهى كلامه. فقوله: مضاف إلى الفاعل المضمر، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل، وإنما سماه مضمراً لما قدره كحبكم أو كحبهم، فأبرزه مضمراً حين أظهر تقديره، أو يعني بالمضمر المحذوف، وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذف إضماراً. وإنما قلت ذلك، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف، وإنما يكون مضمراً في المصدر. وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس، كالزيت والقمح، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها. وقال الزمخشري: كحب الله: كتعظيم الله والخضوع له، أي كما يحب الله، على أنه مصدر من المبني للمفعول، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه، لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم الله، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه، {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت: 65) } . انتهى كلامه. واختار كون المصدر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهي مسألة خلاف. أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول؟ فيجوز: عجبت من ضرب زيد، على أنه مفعول لم يسم فاعله، ثم يضاف إليه، أم لا يجوز ذلك؟ فيه ثلاثة مذاهب، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو: عجبت من جنون بالعلم زيد، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله، أو

ص: 348

من فعل يجوز أن يبنى للفاعل، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول، ويمتنع في الثاني، وأصحها المنع مطلقاً. وتقرير هذا كله في النحو. وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين، أو ضميرهم، وهو مروي عن ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والمبرد، وقال: ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد:{والذين آمنوا أشد حباً لله} ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله، لأنهم أشركوها مع الله تعالى، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها. وقرأ أبو رجاء العطاردي: يحبونهم، بفتح الياء، وهي لغة، وفي المثل السائر: من حب طبّ، وجاء مضارعه على يحب، بكسر العين شذوذاً، لأنه مضاعف متعد، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو: مده يمده، وجر يجره.

ص: 349

{وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} : وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حباً، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من وادٍ واحد. وأنت لو قلت: ما أحب زيداً، لم يكن ذلك تعجباً من فعل الفاعل، إنما يكون تعجباً من فعل المفعول، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل. لا تقول: ما أضرب زيداً، على أن زيداً حل به الضرب. وإذا تقرر هذا، فلا يجوز زيد أحب لعمرو، لأنه يكون المعنى: أن زيداً هو المحبوب لعمرو. فلما لم يجز ذلك، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك، فتقول: ما أشد حب زيد لعمرو، وزيد أشد حباً لعمرو من خالد لجعفر. على أنهم قد شذوا فقالوا: ما أحبه إليّ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس، ويعدل على الصحيح الفصيح. وانتصاب حباً على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره: حبهم لله أشد من حب أولئك لله، أو لأندادهم على اختلاف القولين.

ص: 350

{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} : وأيضاً فقدر جواب لو، وهو غير مترتب على ما يلي لو، لأن رؤية السامع، أو النبي صلى الله عليه وسلّمالظالمين في وقت رؤيتهم، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعاً. وصار نظير قولك: يا زيد لو ترى عمراً في وقت شربه، لأقر أن الله قادر عليه، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. وعلى من قرأ: ولو يرى، بالياء من أسفل وفتح، أن يكون تقدير الجواب: لعلموا أن القوة لله جميعاً، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا، وإن كان ضميراً يقدر ولو يرى هو، أي السامع، كان التقدير: لعلم أن القوة لله جميعاً. ومنهم من قدر الجواب محذوفاً بعد قوله {وأن الله شديد العذاب} ، وهو قول أبي الحسن الأخفش، وأبي العباس المبرد، وتقديره: على قراءة ولو ترى بالخطاب، لاستعظمت ما حل بهم، وعلى قراءة ولو يرى للغائب، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير: لاستعظم ذلك، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل، كان التقدير: لاستعظموا ما حل بهم. وإذا كان الجواب مقدراً آخر الكلام، وكانت أن مفتوحة، فتوجيه فتحها على تقديرين: أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً. وأما من قرأ بالتاء، فتكون أن مفعولاً من أجله، أي لأن القوة لله جميعاً، ومن كسر أن مع قراءة التاء في ترى، وقدر الجواب آخر الكلام، فهي، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة، دالة على التعليل، تقول: لا تهن زيداً إنه عالم، ولا تكرم عمراً إنه جاهل، فهي على معنى المتفوحة من التعليل، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف. وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو، أي لقالوا إن القوة، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف، أي لاستعظموا ذلك،

ص: 351

ومفعول: ترى محذوف، أي ولو رأى الظالمون حالهم. وترى في قوله: ولو ترى، يحتمل أن تكون بصرية، وهو قول أبي علي، ويحتمل أن تكون عرفانية. وإذا جعلت أن معمولة ليرى، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين، سدت أن مسدهما، على مذهب سيبويه. والذين ظلموا، إشارة إلى متخذي الأنداد، ونبه على العلية، أو يكون عاماً، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار. لكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد. وقراءة ابن عامر: إذ يرون، مبنياً للمفعول، هو من أريت المنقولة من رأيت، بمعنى أبصرت. ودخلت إذ، وهي للظرف الماضي، في أثناء هذه المستقبلات، تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه، كما يقع الماضي المستقبل في قوله:{ونادى أصحاب النار} (الأعراف: 50) } ، وكما جاء:

بقيت وفري وانحرفت عن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

لأنه علق ذلك على مستقبل، وهو قوله:

إن لم أشن على ابن هند غارة

لم تخل يوماً من نهاب نفوس وحذف جواب لو، لفهم المعنى، كثير في القرآن، وفي لسان العرب. قال تعالى:{ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت} (سبأ: 51) } ، {ولو ترى إذ وقفوا على النار} (الأنعام: 27) } ، {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} (الرعد: 31) } ، وقال امرؤ القيس:

وجدك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب.

وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور. والقوة هنا مصدر أريد به الجنس، التقدير: أن القوى مستقرة لله جميعاً، ولا يجوز أن تكون حالاً من القوة، لأن العامل في القوة أن، وأن لا تعمل في الأحوال.

وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت: إن الله قوي، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف. وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة.

ص: 352

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأٌّسْبَابُ} : لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم، معتقدين أنهم سبب نجاتهم، لم تغن شيئاً، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم، تبرؤا منهم. وإذ: بدل من: إذ يرون العذاب. وقيل: معمولة لقوله شديد العذاب. وقيل: لمحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا، هم رؤساؤهم وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، قاله الحسن وقتادة أيضاً والسدي؛ أو عام في كل متبوع، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ. وقراءة الجمهور: اتبعوا الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل.

ص: 353

وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء، وأنها إذا سقطت الفاء، انجزم الفعل في هذا الموضع، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضاً، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جواباً للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء. والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني، ليس أصلها، وإنما ذلك بالحمل على حرف التمني الذي هو ليت. والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء، إنما هو لتضمنها معنى الشرط، أو دلالتها على كونه محذوفاً بعدها، على اختلاف القولين، فصارت لو فرع فرع، فضعف ذلك فيها.g والكاف في كما: في موضع نصب، إما نعتاً لمصدر محذوف، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين، في غير ما موضع من هذا الكتاب. وما في كما: مصدرية، التقدير: تبرؤا مثل تبرئهم، أو فنتبرأه، أي فنتبرأ التبرؤ مشابهاً لتبرئهم. وقال ابن عطية: الكاف من قوله: كما في موضع نصب على النعت، إما لمصدر، أو لحال، تقديرها: متبرئين. كما انتهى كلامه. أما قوله على النعت، إما لمصدر، فهو كلام واضح، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا. وأما قوله: أو لحال، تقديرها: متبرئين كما، فغير واضح، لأنا لو صرحنا بهذه الحال، لما كان كما منصوباً على النعت لمتبرئين، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل، لا من صفات الفاعل. وإذا كان كذلك، لم ينتصب على النعت للحال، لأن الحال هنا من صفات الفاعل، ولا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنها إذ ذاك تكون حالاً مؤكدة، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظاً بها. أما أن تقدر حالاً ونجعلها مؤكدة، فلا حاجة إلى ذلك. وأيضاً فالتوكيد ينافي الحذف، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضاً. فلو صرح بهذه الحال، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتاً لمصدر محذوف، أو حالاً من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها، مثال ذلك: هم محسنون إليّ كما أحسنوا

ص: 354

إلى زيد. فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين، إنما هو من صفات الإحسان، التقدير: على الإعراب المشهور إحساناً مثل إحسانهم إلى زيد.

{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَتٍ عَلَيْهِمْ} : الكاف عند بعضهم في موضع رفع، وقدروه الأمر كذلك، أو حشرهم كذلك، وهو ضعيف، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأصل. والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال، {يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} ، فيكون نعتاً لمصدر محذوف، فيكون في موضع نصب. وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله: كذلك، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض. والأجود تشبيه الآراءة بالآراءة، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة، فتكون حسرات منصوباً على الحال، وأن تكون قلبية، فتكون مفعولاً ثالثاً، قالوا: ويكون ثم حذف مضاف، أي على تفريطهم. وتحسر: يتعدى بعلى، تقول: تحسرت على كذا، فعلى هنا متعلقة بقوله: حسرات. ويحتمل أن تكون في موضع الصفة، فالعامل محذوف، أي حسرات كائنة عليهم.

{وَمَا هُم بِخَرِجِينَ مِنَ النَّارِ} : وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد. وقال الزمخشري: هم بمنزلته في قوله:

هم يفرشون اللبد كل طمرّه

في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص.

ص: 355

{يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الأٌّرْضِ حَلَلاً طَيِّباً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَاّ النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَبِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .

ألفى: وجد، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف، ومن منع جعل الثاني حالاً، والأصح كونه مفعولاً لمجيئه معرفة، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل.

ص: 356

{مما في الأرض} ، من: تبعيضية، وما: موصولة، ومن: في موضع المفعول، نحو: أكلت من الرغيف، و {حلالاً} : حال من الضمير المستقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليه. وقال مكي بن أبي طالب: حلالاً: نعت لمفعول محذوف تقديره شيئاً حلالاً، قال ابن عطية: وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده، وبعده أنه مما حذف الموصوف، وصفته غير خاصة، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول. وإذا كانت الصفة هكذا، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه. وأجاز قوم أن ينتصب {حلالاً} على أنه مفعول بكلوا، وبه ابتدأ الزمخشري. ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا، أو متعلقة بمحذوف، فيكون حالاً، والتقدير: كلوا حلالاً مما في الأرض. فلما قدمت الصفة صارت حالاً، فتعلقت بمحذوف، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف. وقال ابن عطية: مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالاً مفعولاً بكلوا، تأمل. انتهى.

{طيباً} : انتصب صفة لقوله: {حلالاً} ، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد، وهو قول مالك وغيره، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ، وهو قول الشافعي وغيره. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. وقيل: انتصب {طيباً} على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلاً طيباً، وهو خلاف الظاهر. وقال ابن عطية: ويصح أن يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره: مستطيبين، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فلأن طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير، لأن الضمير جمع، وطيب مفرد، وليس طيب بمصدر، فيقال: لا يلزم المطابقة.

ص: 357

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِءَابَآءَنَآ} وأدغم الكسائي لام بل في نون نتبع، وأظهر ذلك غيره. وبل هنا عاطفة جملة على جملة محذوفة، التقدير: لا نتبع ما أنزل الله، {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} . ولا يجوز أن يعطف على قوله:{اتبعوا ما أنزل الله} . وعليه متعلق بقوله: ألفينا، وليست هنا متعدية إلى اثنين، لأنها بمعنى وجد، التي بمعنى أصاب.

ص: 358

{أَوَلَوْ كَانَءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} : الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم، وأما الواو بعد الهمزة، فقال الزمخشري: الواو للحال، ومعناه: أيتبعونهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب؟ وقال ابن عطية: الواو لعطف جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزام هذا، أي هذه حال آبائهم. انتهى كلامه. وظاهر قول الزمخشري أن الواو للحال، مخالف لقول ابن عطية إنها للعطف، لأن واو الحال ليست للعطف. والجمع بينهما أن هذه الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق، هي جملة شرطية. فإذا قال: اضرب زيداً ولو أحسن إليك، المعنى: وإن أحسن، وكذلك: اعطوا السائل ولو جاء على فرس؛ ردّوا السائل ولو بشق تمرة، المعنى فيها: وإن. وتجيء لو هنا تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل. ولذلك لا يجوز: اضرب زيداً ولو أساء إليك، ولا أعطوا السائل ولو كان محتاجاً، ولا ردوا السائل ولو بمائة دينار. فإذا تقرر هذا، فالواو في ولو في المثل التي ذكرناها عاطفة على حال مقدرة، والعطف على الحال حال، فصح أن يقال: إنها للحال من حيث أنها عطفت جملة حالية على حال مقدرة. والجملة المعطوفة على الحال حال، وصح أن يقال: إنها للعطف من حيث ذلك العطف، والمعنى: والله أعلم إنكار اتباع آبائهم في كلّ حال، حتى في الحالة التي لا تناسب أن يتبعوا فيها، وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية. ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على لو، إذا كانت تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها. وإن كانت الجملة الواقعة حالاً فيها ضمير يعود على ذي الحال، لأن مجيئها عارية من الواو يؤذن

ص: 359

بتقييد الجملة السابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال. فهما معنيان مختلفان، والفرق ظاهر بين: أكرم زيداً لو جفاك، أي إن جفاك، وبين أكرم زيداً ولو جفاك. وانتصاب شيئاً على وجهين: أحدهما: على المفعول به فعم جميع المعقولات، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئاً بل أشياء. والثاني: أن يكون منصوباً على المصدر، أي شيئاً من العقل، وإذا انتفى، انتفى سائر العقول، وقدم نفي العقل، لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرّفات، وأخر نفي الهداية، لأن ذلك مترتب على نفي العقل، لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل، وعدم العقل عدم لها.

{

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميراً يعود على ما، وهو المنعوق به. وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميراً عائداً على الذي ينعق، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفاً لفهم المعنى تقديره: بما لا يسمع منه، وليس فيه شروط جواز الحذف، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره. واختلف ما يتعلقان به، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق، والثاني من تعلق بيسمع. وقد جاء في كلامهم مثل هذا.

ص: 360

وقد اختلف في كلام سيبويه فقيل: هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، وقيل: هو تفسير إعراب، وهو أن في الكلام حذفين: حذف من الأول، وهو حذف داعيهم، وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذف من الثاني، وهو حذف المنعوق به، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتاً، ولا يعرفون ما وراءها. وفي هذا الوجه حذف كثير، إذ فيه حذف معطوفين، إذ التقدير الصناعي: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به.

وقد بقي شيء من الكلام عليها، فنقول: ومثل الذين مبتدأ، خبره {كمثل} ، والكاف للتشبيه. شبه الصفة بالصفة، أي صفتهم كصفة الذي ينعق. ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة، فقوله ليس بشيء، لأن الصفة ليست عين الصفة، فلا بد من الكاف التي تعطي التشبيه. بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها، لأن به تصحيح المعنى. والذي ينعق، لا يراد به مفرد، بل المراد الجنس.

{إِلَاّ دُعَآءً وَنِدَآءً} : هذا استثناء مفرّغ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله. وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغاً وأن إلاّ زائدة، والدعاء والنداء منفي سماعهما، والتقدير: بما لا يسمع دعاء ولا نداء، وهذا ضعيف، لأن القول بزيادة إلا، قول بلا دليل. وقد ذهب الأصمعي، رحمه الله، إلى ذلك في قوله:

حراجيج ما تنفك إلا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا

وضعف قوله في ذلك، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به، فنثبت لها الزيادة.

{إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وإيا هنا مفعول مقدم، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه، لأنه عائد على الله تعالى، كما في قولك:{وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) } ، وهذا من المواضع التي يجب فيها انفصال الضمير، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر، لم ينفصل إلا في ضرورة، قال:

إليك حتى بلغت إياكا

ص: 361

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} : تقدم الكلام على إنما في قوله: {إنما نحن مصلحون} (البقرة: 11) } . وقرأ الجمهور: حرم مسنداً إلى ضمير اسم الله، وما بعده نصب، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية. وقرأ ابن أبي عبلة: برفع الميتة وما بعدها، فتكون ما موصولة اسم إن، والعائد عليها محذوف، أي إن الذي حرمه الله الميتة، وما بعدها خبران. وقرأ أبو جعفر: حرم، مشدداً مبنياً للمفعول، فاحتملت ما وجهين: أحدهما: أن تكون موصولة اسم إن، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران. والوجه الثاني: أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: إنما حرم، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً، والميتة وما بعدها مرفوع. ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل، والميتة فاعل يحرم، إن كانت ما مهيئة، وخبر إن، إن كانت ما موصولة.

{وأهلّ} : مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله. والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله: به، والضمير في به عائد على ما، إذ هي موصولة بمعنى الذي.

وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر، وجعله بعضهم حالاً من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله: اضطر، وقدره: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيداً في الأكل، لا في الاضطرار.

{أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَاّ النَّارَ} : أتى بخبر إن جملة، لأنها أبلغ من المفرد، وصدر بأولئك، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة.

{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ} : هذا الخبر الثاني عن أولئك.

{وَلَا يُزَكِّيهِمْ} : هذا هو الخبر الثالث.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : هذا هو الخبر الرابع لأولئك.

ص: 362

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى} ، أولئك: اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم، وذكر ما أوعدوا به.

{فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} : اختلف في ما، فالأظهر أنها تعجبية، وهو قول الجمهور من المفسرين. وقد جاء:{قتل الإنسان ما أكفره} (عبس: 17) } ، {أسمع بهم وأبصر} (مريم: 38) } . وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو. الأول قول سيبويه والجمهور، والثاني قول الفراء وابن درستويه، والثالث والرابع للأخفش. وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية، أهو فعل؟ وهو مذهب البصريين، أم اسم؟ وهو مذهب الكوفيين. وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به؟.

وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم.

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ} واختلف في إعراب {ذلك} فقيل: هو منصوب بفعل محذوف تقديره: فعلنا ذلك، وتكون الباء في {بأن الله} متعلقة بذلك الفعل المحذوف. وقيل: مرفوع، واختلفوا، أهو فاعل، والتقدير: وجب ذلك لهم؟ أم خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلك؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق. فاختلفوا، أم مبتدأ، والخبر قوله:{بأن الله نزل} ؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور، وهو العذاب، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه، وأقام السبب مقام المسبب.

ص: 363

{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَبِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّنثَى بِالاٍّنْثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يأُولِي الأَلْبَبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَلِدَيْنِ وَالأٌّقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

قبل: ظرف مكان، تقول: زيد قبلك.

ص: 364

أولو: من الأسماء التي هي في الرفع بالواو، وفي الجرّ والنصب بالياء. ومعنى أولوا: أصحاب، ومفرده من غير لفظه، وهو ذو بمعنى: صاحب. وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ، ومؤنثه أولات بمعنى: صاحبات، وإعرابها كإعرابها، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف، ولو سميت باولو، زدت نوناً فقلت: جاء من أولون، ورأيت أولين، ومررت بأولين، نص على ذلك سيبويه، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل لإضافة. كما تقول: ضاربو زيد، وضاربين زيداً.

{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس، وأن تولوا في موضع الاسم، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي، وهذه القراءة من وجه أولى، وهو أن جعل فيها اسم ليس: أن تولوا، وجعل الخبر البر، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللأم، وقراءة الجمهور أولى، من وجه، وهو أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيهاً لها بما.. أراد الحكم عليها بأنها حرف، كما لا يجوز توسيط خبر ما، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبورود ذلك في كلام العرب.

قال الشاعر:

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

وليس سواء عالم وجهول

وقال الآخر:

أليس عظيماً أن تلمَّ ملمّةٌ

وليس علينا في الخطوب معوَّلُ

وقرأه: بأن تولوا، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان أن وصلتها. قال الشاعر:

أليسَ عجيباً بأن الفتى

يصابُ ببعض الذي في يديه

أدخل الباء على اسم ليس، وإنما موضعها الخبر، وحسَّنَ ذلك في البيت ذكرُ العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة، وصار معنى الكلام: أعجب بأن الفتى، ولو قلت: أليس قائماً بزيد لم يجز.

ص: 365

و {البرّ} اسم جامع للخير، وتقدم الكلام فيه، وانتصابُ {قبل} على الظرف وناصبه {تولوا} .

{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ} وإمّا أن يكون على حذف من الأول، أي: ولكنّ ذا البر، قاله الزجاج. أو من الثاني أي: برُّ من آمن، قاله قطرب، وعلى هذا خرَّجه سيبويه، قال في كتابه: وقال جل وعز: {ولكنّ البرَّ من آمن} وإنما هو: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله. انتهى.

وإنما اختار هذا سيبويه لأن السابق، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى، ونظير ذلك: ليس الكرم أن تبذل درهماً، ولكنَّ الكرم بذل الآلاف، فلا يناسب: ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلَاّ إن كان قبله: ليس الكريم بباذل درهم.

وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل، تقول: بررت أبرّ، فأنا برّ وبارّ، قيل: فبني تارة على فعل، نحو: كهل، وصعب، وتارة على فاعل، والأولى ادّعاء حذف الألف من البرّ، ومثله: سرٌّ، وقرّ، ورَبٌّ، أي: سارّ، وقار، وبارّ، ورابُّ.

وقال الفراء: {من آمن} ، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبراً للأوّل، كأنه قال: ولكن البر الإيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد الفراء:

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى

ولكنما الفتيان كل فتى ندب

جعل نبات اللحية خبراً للفتى، والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى، وقرأ نافع، وابن عامر:{ولكن} بسكون النون خفيفة، ورفع البرّ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ، والإعراب واضح، وقد تقدّم نظير القراءتين في {ولكن الشياطين كفروا} (البقرة: 102) } .

ص: 366

{عَلَى حُبِّهِ} متعلق بـ {آتى} وهو حال، والمعنى: أنه يعطي المال محباً له، أي: في حال محبته للمال واختياره وإيثاره، وهذا وصف عظيم، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشي تعلق المحب بمحبوبه، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله، كما جاء: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، والظاهر أن الضمير في {حبه} عائد على المال لأنه أقرب مذكور، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلَاّ بدليل، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتى، كما فسرناه، وقيل: الفاعل المؤتون، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم، وإلى الأول ذهب ابن عباس، أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره، فقول ابن الفضل: إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى، أي: على حب الإيتاء، بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به، وعلى أبعد من المال، وأما المعنى فلأن من فعل شيئاً وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها، وقال زهير:

تراه إذا ما جئته متهللاً

كأنك تعطيه الذي أنت سائله وقول من أعاده على الله تعالى أبعد، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافاً للفاعل، وهو أيضاً بعيد.

قال ابن عطية: ويجيء قوله {على حبه} اعتراضاً بليغاً أثناء القول انتهى كلامه.

فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك، لأن شرط ذلك أن تكون جملة، وأن لا يكون لها محل من الإعراب، وهذه ليست بجملة، ولها محل من الإعراب. وإن أراد بالاعتراض فصلاً بين المفعولين بالحال فيصح، لكن فيه إلباس، فكان ينبغي أن يقول فصلاً بليغاً بين أثناء القول.

{ذَوِى الْقُرْبَى} وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور، {المال} هو المفعول الثاني.

ص: 367

ولما كان المقصود الأعظم هو ايتاء المال على حبه قدّم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى.

وأما على مذهب السهيلي فإن {المال} عنده هو المفعول الأول، و {ذوي القربى} وما بعده هو المفعول الثاني، فأتى التقديم على أصله عنده. و {اليتامى} معطوف على {ذوي القربى} حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى.

{وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ} : على صلة من وصلة من، آمن وآتى، وتقدمت صلة من التي هي: آمن.

{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُواْ} : والموفون معطوف على من آمن، وقيل: رفعه على إضمار، وهم الموفون، والعامل في: إذا.

{وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} : انتصب: والصابرين على المدح، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو.

وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: والصابرون، عطفاً على: الموفون، وقال الفارسي: إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من موضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الإختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملة واحدة. انتهى كلامه.

ص: 368

قال الراغب: وإنما لم يقل: ووفى، كما قال: وأقام، لأمرين: أحدهما: اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح، والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلَاّ منها، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر الوفاء بالعهد، وهو مما تقضي به العقود المجردة، صار عطفه على الأول أحسن، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه جامعاً للفضائل، إذ لا فضيلة إلَاّ وللصبر فيها أثر بليغ، غيرَّ إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد. انتهى كلامه.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وتنوع هنا الخبر عن أولئك، فأخبر عن أولئك الأول: بالذين صدقوا، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر، وأخبر عن أولئك الثاني: بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد، بل صار سجية لهم ووصفاً لازماً، ولكونه أيضاً وقع فاصلة آية، لأنه لو كان فعلاً ماضياً لما كان يقع فاصلة.

وقيل: يأتي كتب بمعنى جعل، ومنه {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (المجادلة: 22) } {فسأكتبها للذين يتقون} (الأعراف: 156) } وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب، و {في القتلى} في هنا للسببية، أي: بسبب القتلى، مثل:«دخلت امرأة النار في هرة» .

{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّنثَى بِالاٍّنْثَى} فالألف واللام تدل على الحصر، كأنه قيل: لا يؤخذ الحرّ إلَاّ بالحر، ولا يؤخذ العبد إلَاّ بالعبد، ولا تؤخذ الأنثى إلَاّ بالأنثى.

ص: 369

وأعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر، وهي ذوات ابتدىء بها، والجار والمجرور أخبار عنها، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية، فليس ذلك على حدّ قولهم: زيد بالبصرة، وإنما هي للسبب، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه، إذ الكون الخاص لا يجوز حذفه إلَاّ في مثل هذا، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدّم القصاص في القتلى، فالتقدير: الحر مقتول بالحر، أي: بقتله الحر، فالباء للسبب على هذا التقدير، ولا يصح تقدير العامل كوناً مطلقاً، ولو قلت: الحر كائن بالحر، لم يكن كلاماً إلاّ إن كان المبتدأ مضافاً قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيجوز، والتقدير: قتل الحر كائن بالحر، أي: بقتل الحر، ويجوز أن يكون الحر مرفوعاً على إضمار فعل يفسره ما قبله، التقدير: يقتل الحر بقتله الحر، إذ في قوله:{القصاص في القتلى} دلالة على هذا الفعل.

{فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ} وارتفاع: مَنْ، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة، والظاهر أن: من، هو القاتل والضمير في {له} و {من أخيه} عائد عليه، و {شيء} : هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو معنى المصدر، وبني (عفا) ، للمفعول، وإن كان لازماً، لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله:{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} (الحاقة: 13) } .

وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية، تقول: عفوت عن زيد، وعفوت عن ذنب زيد، فإذا عديت إليهما معاً تعدت إلى الجاني باللام، وإلى الذنب بعن، تقول: عفوت لزيد عن ذنبه.

ص: 370

وإذا ثبت أن عفا يكون بمعنى محا فلا يبعد حمل الآية عليه، ويكون إسناد عفي لمرفوعه إسناداً حقيقياً لأنه إذ ذاك مفعول به صريح، وإذا كان لا يتعدّى كان إسناده إليه مجازاً وتشبيهاً للمصدر بالمفعول به، فقد يتعادل الوجهان أعني: كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات، وعفا المتعدي لمعنى محا لتعلقه بمرفوعه تعلقاً حقيقياً.

وقد جوز ابن عطية أن يكون عفى بمعنى: ترك، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل، قال: والأول أجود بمعنى أن يكون عفى لا يتعدى إلى مفعول به، وإن ارتفاع بشيء، هو لكونه مصدراً أقيم مقام الفاعل، وتقدم قول الزمخشري: أن عفى بمعنى: ترك لم يثبت.

{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ} . ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم، أو الواجب كذا قدره ابن عطية، وقدره الزمخشري: فالأمر اتباع، وجوز أيضاً رفعه بإضمار فعل تقديره: فليكن اتباع، وجوّزوا أيضاً أن يكون مبتدأً محذوف الخبر وتقديره، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية، وقدروه أيضاً متأخراً تقديره، فاتباع بالمعروف عليه.

قال ابن عطية بعد تقديره: فالحكم أو الواجب اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله {فإمساك بمعروف} (البقرة: 229) } وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله: {فضرب الرقاب} (محمد: 4) } انتهى.

ص: 371

ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلَاّ ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله: {قالوا سلاماً قال سلام} (الذاريات: 25) } فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا. وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري: فليكن، فهو ضعيف إذ: كان، لا تضمر غالباً إلَاّ بعد أن الشرطية، أو: لو، حيث يدل على إضمارها الدليل، و {بالمعروف} متعلق بقوله: فاتباع، وارتفاع:{وأداء} لكونه معطوفاً على اتباع، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في:{فاتباع} ، ويكون بإحسان متعلقاً بقوله: وأداء، وجوزوا أن يكون: وأداء، مبتدأ، وبإحسان، هو الخبر، وفيه بعد، والفاء في قوله: فاتباع، جواب الشرط إن كانت مَن شرطاً، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت مَن موصولة.

{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قال الزمخشري: ويحتمل: مَن في قوله: {فمن اعتدى} أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة.

{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جواب الشرط، أو خبر عن الموصول.

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ولا ضرورة تدعو إلى أن: كتب، أصله: العطف على. {كتب عليكم القصاص في القتلى} {وكتب عليكم} وإن الواو حذفت للطول، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت.

ص: 372

وبني {كتب} للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، وللاختصار، إذ معلوم أنه الله تعالى، ومرفوعُ: كتب الظاهر أنه الوصية، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل، لا سيما هنا، إذ طال بالمجرور والشرطين، ولكونه مؤنثاً غير حقيقي، وبمعنى الإيصاء. وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه، ولا يجوز أن يكون من معنى: كتب، لمضي كتب واستقبال الشرطين. ولكن يكون المعنى: كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيراً فليوص. ودل على هذا الجواب سياق الكلام. والمعنى: ويكون الجواب محذوفاً جاء فعل الشرط بصيغة الماضي، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جواباً فيكون ذلك المقدر جواباً للشرط الأول، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفاً يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف، فيكون المحذوف دل على محذوف، والشرط الثاني شرط في الأول، فلذلك يقتضي أن يكون متقدّماً في الوجود، وإن كان متأخراً لفظاً. واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جواباً للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في كتاب «التكميل» من تأليفنا، فيؤخذ منه.

وقيل: جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى (كتب عليكم الوصية) ويتجوز بلفظ: كتب، عن لفظ: يتوجه إيجاب الوصية عليكم. حتى يكون مستقبلاً فيفسر الجواب، لأن مستقبل، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفاً محضاً لا شرطاً، فيكون إذ ذاك العامل فيها: كتب، على هذا التقدير، ويكون جواب:{إن ترك خيراً} محذوفاً يدل عليه: كتب، على هذا التقدير، ولا يجوز عند جمهور النحاة أن يكون إذا معمولاً للوصية لأنها مصدر وموصول، ولا يتقدّم معمول الموصول عليه، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدّم المعمول إذا كان ظرفاً على العامل فيه إذا لم يكن موصولاً محضاً، وهو عنده المصدر، والألف واللام في نحو: الضارب والمضروب، وهذا الشرط موجود هنا، وإلى هذا ذهب في قوله:

أبعلي هذا بالرحى المتقاعس

فعلق: بالرحى، بلفظ: المتقاعس.

ص: 373

وقال أبو محمد بن عطية: ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون: كتب، هو العامل في: إذا، والمعنى: توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجيه الإيجاب: بكتب، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب، وجواب الشرطين: إذا، وإن، مقدر يدل عليه ما تقدّم من قوله:{كتب عليكم} كما تقول: شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه. وفيه تناقض لأنه قال: العامل في إذا: كتب، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً، ثم قال: وجواب الشرطين: إذا وإن مقدّر يدل عليه ما تقدّم إلى آخر كلامه، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها إما الجواب، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلَاّ على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه، ويفرع على أن الجواب هو العامل في: إذا.

ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال: وجواب الشرطين: إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم، وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب.

والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً وهذا اصطلاحه، قال في تفسيره: والوصية فاعل كتب، وذكر فعلها للفاصل، ولأنها بمعنى: أن يوصي، ولذلك ذكر الراجع في قوله فمن بدّله بعدما سمعه. اهـ.

ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً سهو من الناسخ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء، على تقدير الفاء، والخبر إمّا محذوف، أي: فعليه الوصية. وإمّا منطوق به، وهو قوله:{للوالدين والأقربين} أي: فالوصية للوالدين والأقربين، وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم، والمفعول الذي لم يسم فاعله: بكتب، مضمر. أي: الإيصاء يفسره ما بعده.

ص: 374

قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه: ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد، هو العامل في إذا، وترتفع الوصية بالابتداء، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه الله:

من يفعل الحسنات الله يحفظه

ويكون رفعها بالابتداء بتقدير: فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال: فالوصية للوالدين. اهـ. كلامه. وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر، ثم قال: إن الوصية فيه جواب الشرطين، وقد تقدّم إبداء تناقض ذلك، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطاً، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطاً فتناقضا، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً وغير شرط في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملاً وفي إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل في: إذا، لفظ الإيصاء بحذف، أو ضمير الإيصاء: لا، جائز أن يقدره لفظ الأيصاء حذف، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه، وابن عطية قدر لفظ: الأيصاء، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل، وأما قوله: وفيه جواب الشرطين، فليس بصحيح، فإنا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جواباً على حذفه، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه:

من يفعل الحسنات الله يحفظه

وهو تحريف على سيبويه، وإنما سيبويه أيده في كتابه:

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشر بالشر عند الله مثلان

وأما قوله: بتقدير فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال: فالوصية للوالدين، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلَاّ في ضرورة الشعر، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.

ص: 375

قال سيبويه: وسألته، يعنى الخليل، عن قوله: إن تأتني أنا كريم، قال: لا يكون هذا إلَاّ أن يضطر شاعر من قِبَل: إن أنا كريم، يكون كلاماً مبتداً، والفاء، وإذ لا يكونان إلَاّ معلقتين بما قبلها، فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء، وقد قاله الشاعر مضطراً، وأنشد البيت السابق:

من يفعل الحسنات

وذكر عن الأخفش: أن ذلك على إضمار الفاء، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلَاّ في اضطرار، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجارّ والمجرور الذي هو: عليكم، وهو قول لا بأس به على ما نقرره، فنقول: لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيراً تشوّف السامع لذكر المكتوب ما هو، فتكون الوصية مبتدأ، أو خبراً المبتدأ على هذا التقدير، ويكون جواباً السؤال مقدر، كأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً؟ فقيل: الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة، أو: المكتوب الوصية للوالدين والأقربين، ونظيره: ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد، فيكون هذا جواب بالسؤال مقدر، كأنه قال: من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن، وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء، وضمير الإيصاء والوالدان معروفان، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى:{وبالوالدين إحساناً} (البقرة: 83) } .

{وَالأٌّقْرَبِينَ} جمع الأقرب، وظاهره أنه أفعل تفضيل.

ص: 376

{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} انتصب حقاً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي: حق ذلك حقاً، قاله ابن عطية، والزمخشري. وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله:{على المتقين} إذن يتعلق على بحقاً، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو، وأما جعله صفة: لحقاً أي: حقاً كائناً على المتقين، فذلك يخرجه عن التأكيد، لأنه إذ ذاك يتخصص بالصفة، وجوز المعربون أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، إمّا لمصدر من: كتب عليكم، أي: كتباً حقاً، وإما لمصدر من الوصية أي إيصاءً حقاً، وأبعد من ذهب إلى أنه منصوب: بالمتقين، وأن التقدير: على المتقين حقاً، كقوله:{أولئك هم المؤمنون حقاً} (الأنفال: 4) } لأنه غير المتبادر إلى الذهن، ولتقدمه على عامله الموصول، والأولى عندي أن يكون مصدراً من معنى: كتب، لأن معنى: كتبت الوصية، أي: وجبت وحقت، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر، كقولهم: قعدت جلوساً.

{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} : الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء، أي: فمن بدّل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود بعدما سمعه سماع تحقق وتثبت، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول: هند خرجت. والشمس طلعت، ولا يجوز طلع إلَاّ في الشعر، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم، ومنه:

كخرعوبة البانة المنفطر

ذهب إلى المعنى: القضيب، كأنه قال: كقضيب البانة، ومنه في العكس: جاءته كتابي، فاحتقرها على معنى الصحيفة.

ص: 377

والضمير في {سمعه} عائد على الإيصاء كما شرحناه، وقيل: يعود على أمر الله تعالى في هذه الآية.

وقيل: الهاء، في:{فمن بدّله} عائدة إلى الفرض، والحكم، والتقدير: فمن بدل الأمر المقدم ذكره، ومَنْ: الظاهر أنها شرطية، والجواب:{فإنما إثمه} وتكون: مَنْ، عامة في كل مبدل: مَنْ رضي بغير الوصية في كتابة، أو قسمة حقوق، أو شاهد بغير شهادة، أو يكتمها، أو غيرهما ممن يمنع حصول المال ووصوله إلى مستحقه، وقيل: المراد بِمَنْ: متولي الإيصاء دون الموصي والموصى له، فإنه هو الذي بيده العدل والجنف والتبديل والإمضاء، وقيل: المراد: بِمَنْ: هو الموصي، نهي عن تغيير وصيته عن المواضع التي نهى الله عن الوصية إليها، لأنهم كانوا يصرفونها إلى الأجانب، فأمروا بصرفها إلى الأقربين.

ويتعين على هذا القول أن يكون الضمير في قوله: {فمن بدّله} وفي قوله: {بعدما سمعه} عائداً على أمر الله تعالى في الآية، وفي قوله:{بعدما سمعه} دليل على أن الإثم لا يترتب إلَاّ بشرط أن يكون المبدل قد علم بذلك، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله. {فإنما إثمه} : الضمير عائد على الإيصاء المبدل، أو على المصدر المفهوم من بدّله، أي: فإنما إثم التبديل على المبدل.

{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ومَنْ: شرطية، والجواب: فلا إثم عليه، {ومن موص} متعلق، بخاف، أو بمحذوف تقديره: كائناً من موصٍ، وتكون حالاً، إذ لو تأخر لكان صفة، كقوله:{جنفاً أو إثماً} فلما تقدم صار حالاً، ويكون الخائف في هذين التقديرين، ليس الموصي، ويجوز أن يكون: مَنْ، لتبيين جنس الخائف، فيكون الخائف بعض الموصين على حد: مَنْ جاءك مِنْ رجل فأكرمه، أي: مَن جاءك مِن الرجال فالجائي رجل، والخائف هنا موصٍ.

ص: 378

{فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} : الضمير عائد على الموصي والورثة، أو على الموصى لهما وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدل على ذلك لفظ: الموصي، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، كما قيل في قوله:{وآداء إليه} أي: إلى العافي، لدلالة من عفى له، ومنه ما أنشده الفراء رحمه الله تعالى:

وما أدري إذا يممت أرضاً

أريد الخير أيهما يليني

فقال: أيهما، فأعاد الضمير على الخير والشر، وإن لم يتقدم ذكر الشر، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر.

ص: 379

{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلَا تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ

ص: 380

إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .

وبناء {كُتب} للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو: الله تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبنى الفعل للفاعل، كما قال تعالى:{كتب ربكم على نفسه الرحمة} (الأنعام: 54) } {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} (المجادلة: 21) } {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (المجادلة: 22) } وهذا من لطيف علم البيان.

أما بناء الفعل للفاعل في قوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (المائدة: 45) } فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين.

والألف واللام في: الصيام، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به، أو للجنس إن كانت لم تسبق.

وجاء هذا المصدر على فعال، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل، وهو فعل الواوي العين، الصحيح الآخر، وإلبناءآن هما فعول وفعال، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين، وقد جاء منه شيء على الأصل: كالفؤور، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال: الفؤور.

{كَمَا كُتِبَ} الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق، أي: كتباً مثل ما كتب أو كتبه، أي: الكتب منها كتب، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب، وإن كان متعلقه مختلفاً بالعدد أو بغيره، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل، وعطاء، وتكون إذ ذاك ما مصدرية.

وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام، أي: مشبها ما كتب على الذين من قبلكم، وتكون ما موصولة أي: مشبهاً الذي كتب عليكم، وذو الحال هو: الصيام، والعامل فيها العامل فيه، وهو: كتب عليكم.

ص: 381

وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف، التقدير: صوماً كما، وهذا فيه بُعد، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح، هذا إن كانت ما مصدرية، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضاً بُعد، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلَاّ على تأويل بعيد.

وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله: الصيام، قال: إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بكما، إذ لا ينعت بها إلَاّ النكرات، فهي بمنزلة:{كتب عليكم الصيام} انتهى كلامه، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة، وجعل من ذلك قوله تعالى:{وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس: 37) } ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون، وتلخص في: ما، من قوله: كما وجهان أحدهما: أن تكون مصدرية، وهو الظاهر، والآخر: أن تكون موصولة، بمعنى: الذي.

ص: 382

{أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ} وانتصاب قوله: {أياماً} على إضمار فعل يدل عليه ما قبله، وتقديره: صوموا أياماً معدودات، وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله: الصيام، وهو اختيار الزمخشري، إذ لم يذكره غيره، قال: وانتصاب أياماً بالصيام كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة ـ انتهى كلامه ـ وهو خطأ، لأن معمول المصدر من صلته، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله:{كما كتب} فكما كتب ليس لمعمول المصدر، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتاً لمصدر محذوف، أو في موضع الحال، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير: أن تعريف الصيام جنس، فيوصف بالنكرة، لم يجز أيضاً، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله، فإن قدَّرت الكاف نعتاً لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وضعَّفناه قبل، فيكون التقدير: صوماً كما كتب، جاز أن يعمل في {أياماً الصيام} ، لأنه إذ ذاك العامل في صوماً هو المصدر، فلا يقع الفصل بينهما بما ليس لمعمول للمصدر، وأجازوا أيضاً انتصاب أياماً على الظرف، والعامل فيه كتب، وأن يكون مفعولاً على السعة ثانياً، والعامل فيه كتب، وإلى هذا ذهب الفراء، والحوفي، وكلا القولين خطأ.

أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام، فلو قال الإنسان لوالده وكان ولد يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولاً لسرني، لأن، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه، وأما النصب على المفعول اتساعاً فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفاً لكتب، وقد بينا أن ذلك خطأ.

ص: 383

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وموضع أو على السفر، نصب لأنه معطوف على خبر: كان، ومعنى: أو هنا التنويع، وعدل عن اسم الفاعل وهو: أو مسافر إلى، أو على سفر، إشعاراً بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر، بخلاف المرض، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار، فهو قهري، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلي عليه، ولذلك يقال: فلان على طريق، وراكب طريق إشعاراً بالاختيار، وأن الإنسان مستولٍ على السفر مختارٌ لركوب الطريق فيه.

{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وقدر: قبل، أي: فعليه عدة وبعد أي: أمثل له، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب، أو: فالحكم عدة.

ص: 384

وقرىء: فعدة، بالنصب على إضمار فعل، أي: فليصم عدة، وعدة هنا بمعنى معدود، كالرعي والطحن، وهو على حذف مضاف، أي: فصوم عدة ما أفطر، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام، التقدير: فافطر فعدة، ونظيره في الحذف:{أن أضرب بعصاك البحر فانفلق} (الشعراء: 63) } أي: فضرب فانفلق. ونكر {عدة} ولم يقل: فعدتها، أي: فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاءً، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه، والعدة المعدود، فكان التنكير أخصر و {من أيام} في موضع الصفة لقوله فعدة، وأخر: صفة لأيام، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة. فمن الأول:{إلا أياماً معدودة} (البقرة: 80) } ومن الثاني: {إلا أياماً معدودات} (آل عمران: 24) } فمعدودات: جمع لمعدودة. وأنت لا تقول: يوم معدودة، إنما تقول: معدود، لأنه مذكر، لكن جاز ذلك في جمعه، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث، فكان، يكون: من أيام أخرى، وإن كان جائزاً فصيحاً كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله {فعدة} ، فلا يدرى أهو وصف لعدة، أم لأيام، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصوراً، بخلاف:{أخر} فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو، وهي جمع أخرى مقابلة أخر؟ وأخر مقابل أخريين؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة، مقابلة الأخر المقابل للأول، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة. وقد اختلفا حكماً ومدلولاً. أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة، وأما اختلاف المدلول: فلأن مدلول أخرى، التي جمعها أخر التي لا تنصرف، مدلول: غير، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول: متأخرة، وهي قابلة الأولى. قال تعالى:{قالت أولاهم لأخراهم} (الأعراف: 39) } فهي بمعنى: الآخرة، كما قال تعالى:{وإن لنا للآخرة والأولى} (الليل: 13) } وأخر الذي مؤنثه: أخرى مفردة آخر التي لا تنصرف بمعنى: غير، لا

ص: 385

يجوز أن يكون ما اتصل به إلَاّ مِن جنس ما قبله، تقول: مررت بك وبرجل آخر، ولا يجوز: اشتريت هذا الفرس وحماراً آخر، لأن الحمار ليس من جنس الفرس، فأما قوله:

صلى على عزة الرحمان وابنتها

ليلى، وصلى على جاراتها الأخر فإنه جعل: ابنتها جارة لها، ولولا ذلك لم يجز، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابنا «التكميل» .

{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قرأ الجمهور: يطيقونه مضارع أطاق، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق، كقولهم أطول في أطال، وهو الأصل. وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء، والمسموع منه: أجود، وأعول، وأطول. وأغيمت السماء، وأخيلت، وأغيلت المرأة وأطيب، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين، إلَاّ أبا زيد الأنصاري فإنه يرى التصحيح في ذلك مقيساً إعتباراً بهذه الالفاظ النزرة المسموع فيها الإعتلال والنقل على القياس.

وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه: يطوّقونه، مبنياً للمفعول من طوّق على وزن قطع.

وقرأ الجمهور: فدية طعام مسكين، بتنوين الفدية، ورفع طعام، وإفراد مسكين، وهشام كذلك إلا أنه قرأ: مساكين بالجمع، وقرأ نافع، وابن ذكوان، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية، لأنها مصدر. ومن نوّن كان طعام بدلاً من فدية، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي. ومن لم ينوّن فأضاف كان في ذلك تبيين أيضاً وتخصص بالإضافة، وهي إضافة الشيء إلى جنسه، لأن الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام يعم الفدية وغيرها، وفي «المنتخب» أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. قال: لأن الفدية لها ذات، وصفتها أنها طعام، وهذا ليس بجيد، لأن طعاماً ليس بصفة، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف.

ص: 386

أما إذا كان مصدراً فإنه لا يوصف به إلاّ عند إرادة المبالغة، ولا معنى لها هنا، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جارياً على فعلٍ ولا منقاساً، فلا تقول: في مضروب ضراب، ولا في مقتول قتال، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن، لا يوصف بشيء منها، ولا يعمل عمل المفعول، ألا ترى أنه لا يجوز فيها مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته، ومن قرأ مساكين، قابل الجمع بالجمع، ومن أفرد فعلى مراعاة إفراد العموم أي: وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين، ونظيره:

لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضي لبانات ويسأم سائم

ص: 387

وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس، فلو كان هذا التركيب: كتب عليكم شهر رمضان صيامه، لكان البدل إذ ذاك صحيحاً. وعكس: ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره: صيام شهر رمضان، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة، وهو بعيد، ويجوز على بُعدٍ أن يكون بدلاً من أيام معدودات، على قراءة عبد الله، فإنه قرأ: أيامٌ معدودات، بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: المكتوب صومه أيام معدودات. ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب «البديع» له في القرآن؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قراء ذلك على إضمار فعل تقديره: صوموا شهر رمضان، وجوزوا فيه أن يكون بدلاً من قوله:{أياماً معدودات} قاله الأخفش، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل، وأن يكون منصوباً على الإغراء تقديره إلزموا شهر رمضان، قاله أبو عبيدة والحوفي، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوباً بقوله:{وأن تصوموا} حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال: وقرىء بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من:{أياماً معدودات} ، أو على أنه مفعول، وأن تصوموا. انتهى كلامه؛ وهذا لا يجوز، لأن تصوموا صلة لأن، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير، لأن تصوموا في موضع مبتدأ، أي: وصيامكم خير لكم، ولو قلت: أن يضرب زيداً شديد، وأن تضرب شديد زيداً، لم يجز.

وأدغمت فرقة شهر رمضان. قال ابن عطية: وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم، نحو: هذا ثوب بكر، لأن فيه لكونه حرف علة مدّا أمّا، ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين، ولا على ما اختاروه، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه.

ص: 388

{الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} : تقدّم إعرابه، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن.

{هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ} انتصاب: هدىً، على الحال وهو مصدر وضع موضع إسم الفاعل، أي: هادياً للناس، فيكون: للناس، متعلقاً بلفظ. هدىً، لما وقع موقع هادٍ، وذو الحال القرآن، والعامل: أنزل، وهي حال لازمة، لأن كون القرآن هدىً هو لازم له، وعطف قوله: وبينات، على: هدىً، فهو حال أيضاً.

{مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} هذا في موضع الصفة لقوله: هدى وبينات، أي: أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته.

ص: 389

وقال ابن عطية: اللام في الهدى للعهد، والمراد الأول. انتهى كلامه. يعني: أنه أتى به منكراً أولاً، ثم أتى به معرفاً ثانياً، فدل على أنه الأول كقوله تعالى:{كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل: 16) } فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه، ومن ذلك قولهم: لقيت رجلاً فضربت الرجل، فالمضروب هو الملقى؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني، فيصح المعنى، لأنه لو أتى فعصاه فرعون، أو: لقيت رجلاً فضربته لكان كلاماً صحيحاً، ولا يتأتى هذا الذي قاله ابن عطية هنا، لأنه ذكر هو والمعربون: أن هدىً منصوب على الحال وصف في ذي الحال، وعطف عليه وبينات، فلا يخلو قوله: من الهدى، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله: هدى، أو لقوله: وبينات، أو لهما، أو متعلق بلفظ بينات، لا جائز أن يكون صفة لهدى، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً. كلاً بالنسبة لماهيته، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط، لأن وبينات معطوف على هدى، وهدى حال، والمعطوف على الحال حال، والحال وصف في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت بينات بقوله: من الهدى، خصصها به، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معاً، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محال، ولا جائز أن يتعلق بلفظ: وبينات، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به، فهو كالوصف، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف.

وأيضاً فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: وبينات منه أي: من ذلك الهدى، لم يصح، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضاً منهما.

ص: 390

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الألف واللام في الشهر للعهد، ويعني به شهر رمضان، ولذلك ينوب عنه الضمير، ولو جاء: فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحاً، وإنما أبرزه ظاهراً للتنويه به والتعظيم له، وحسن له أيضاً كونه من جملة ثانية.

ومعنى شهود الشهر الحضور فيه. فانتصاب الشهر على الظرف، والمعنى: أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم، إذ الأمر يقتضي الوجوب، وهو قوله: فليصمه، وقالوا على انتصاب الشهر: أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد.

وقيل: انتصاب الشهر على أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم.

وقال الزمخشري: الشهر منصوب على الظرف، وكذلك الهاء في: فليصمه، ولا يكون مفعولاً به، كقولك: شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر. انتهى كلامه.

وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره: فمن شهد منكم دخول الشهر، أي: من حضر. وقيل: التقدير هلال الشهر، وهذا ضعيف، لأنك لا تقول: شهدت الهلال، إنما تقول: شاهدت، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك.

و {منكم} ، في موضع الحال، ومن الضمير المستكن في شهد، فيتعلق بمحذوف تقديره كائناً منكم.

وقال أبو البقاء: منكم، حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد، فتناقض، لأن جعلها حالاً يوجب أن يكون العامل محذوفاً، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالاً، فتناقض. ومَنْ، من قوله {فمن شهد} ، الظاهر أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، وقد مر نظائره.

ص: 391

وقرأ الجمهور بسكون اللام في: فليصمه، أجروا ذلك مجرى: فعل، فخففوا، وأصلها الكسر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري، وأبو حيوة، وعيسى الثقفي، وكذلك قرؤا لام الأمر في جميع القرآن نحو:{فليكتب وليملل} (البقرة: 282) } بالكسر، وكسر لام الأمر، وهو مشهور لغة العرب، وعلة ذلك ذكرت في النحو. ونقل صاحب «التسهيل» أن فتح لام الأمر لغة، وعن ابنه أن تلك لغة بني سليم. وقال: حكاها الفراء. وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة، ونقل صاحب كتاب «الإعراب» ، وهو: أبو الحكم بن عذرة الخضراوي، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها، قال: فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم. انتهى كلامه. وذلك نحو: لينبذن، ولتكرم زيداً، وليكرم عمراً وخالداً، وقوموا فلأصل لكم.

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قالوا: يريد هنا بمعنى أراد، فهو مضارع أريد به الماضي، والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل، فهي ثابتة له تعالى دائماً، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية.

{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} : قرأ أبو بكر، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وروي: مشدد الميم مفتوح الكاف، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف، وفي اللام أقوال.

الأول: قال ابن عطية: هي اللام الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى، ويريد إكمال العدة، وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكلموا العدة، هذا قول البصريين، ونحوه، قول أبي صخر:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تخيل لي ليلى بكل طريق

ص: 392

انتهى كلامه. وهو كما جوّزه الزمخشري. قال: كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر، ويريد لتكملوا، لقوله:{يريدون ليطفئوا} (الصف: 8) } وفي كلامه أنه معطوف على اليسر، وملخص هذا القول: أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل، وهو مما نصوا على أنه قليل، أو ضرورة، لكن يحسن ذلك هنا، بعده عن الفعل بالفصل، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله، وهو: اليسر، وفصل بينهما بجملة وهي: ولا يريد بكم العسر، بعد الفعل عن اقتضائه، فقوي باللام، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت، لأنه بالتقدم وتأخر العامل ضعف العامل عن الوصول إليه، فقوي باللام، اذ أصل العامل أن يتقدم، وأصل المعمول أن يتأخر عنه، لكن في هذا القول إضمار إن بعد اللام الزائدة، وفيه بعد. وفي كلام ابن عطية تتبع، وهو في قوله: وهي، يعني باللام مع الفعل، يعني تكملوا مقدرة بأن، وليس كذلك، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر، ويبين ذلك أنه قال: كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا العدة، فأظهر أن بعد اللام، فتصحيح لفظه أن تقول: وهي مع الفعل مقدران بعدها، وقوله: هذا قول البصريين ونحوه، قول أبي صخر:

أريد لأنسى ذكرها.....

ليس كما ذكر، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى:{يريد الله ليبين لكم} (النساء: 26) } {يريدون ليطفئوا} (الصف: 8) } و {أن يطفئوا} (التوبة: 32) } {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} (الأحزاب: 33) } . وقال الشاعر:

أريد لأنسى ذكرها.....

وقال تعالى: {وأمرنا لنسلم} (الأنعام: 71) } {وأن أسلم} (غافر: 66) } وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر، كأنه قال: الإرداة للتبيين، وإرادتي لهذا، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب «التكميل في شرح التسهيل» فتطالع هناك.

ص: 393

وتلخص مما ذكرناه أن ما قال: من أنه قول البصريين ليس كما قال: إنما يتمشى قوله: وهي، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء، لا على قول البصريين. وتناقض قول ابن عطية أيضاً لأنه قال: هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة. ثم قال: وهي الفعل مقدرة بأن، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءاً من المفعول، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءاً من المفعول، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل، فهي جزء له، والشيء الواحد لا يكون جزءاً لشيء غير جزءٍ له، فتناقض.

وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفاً على: اليسر، فلا يمكن إلَاّ بزيادة اللام وإضمار: أن بعدها، أو يجعل اللام لمعنى: أن، فلا تكون أن مضمرة بعدها، وكلاهما ضعيف.

القول الثاني: أن تكون اللام في {ولتكملوا العدة} لام الأمر قال ابن عطية، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام. انتهى كلامه. ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا: أمر الفاعل المخاطب فيه التفات، قالوا: أحدهما لغة رديئة قليلة، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأرم قبلها، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة، وهو، أن يكون الفعل عارياً من حرف المضارعة ومن اللام، ويضعف هذا القول أيضاً أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام، فلو كانت لام الأمر لكانت كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر، وقول ابن عطية: والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام، يعني: أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل، وإذا كانت كاللام في: ضربت لزيد، كانت من قبل عطف المفردات.

ص: 394

القول الثالث: أن تكون اللام للتعليل، واختلف قائلو هذا القول على أقوال. أحدها: أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة، التقدير: لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة، قاله الزمخشري. ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول: إرادة اليسر. الثاني: أن يكون بعد الواو فعل محذوف هو المعلل، التقدير: وفعل هذا لتكملوا العدة، قاله الفراء. الثالث: أن يكون معطوفاً على علة محذوفة وقد حذف معلولها، التقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا، قاله الزجاج. الرابع: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد التعليل، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، قال ابن عطية: وهذا قول بعض الكوفيين. الخامس: أن الواو زائدة، التقدير: يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة، وهذا قول ضعيف. السادس: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد قوله؛ {ولعلكم تشكرون} وتقديره: شرع ذلك. قاله الزمخشري، قال ما نصه: شرع ذلك، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله: لتكملوا، علة الأمر بمراعاة العدة، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، ولعلكم تشكرون، علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلَاّ النقاد المحذق من علماء البيان انتهى كلامه.

والألف واللام في قوله: {ولتكملوا العدة} الظاهر أنها للعهد، فيكون ذلك راجعاً إلى قوله:{فعدة من أيام أخر} أي: وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها، وقيل: عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوماً أم كان ثلاثين، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه.

{وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} معطوف على: ولتكملوا العدة، والكلام في اللام كالكلام في لام: ولتكملوا.

ص: 395

إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن: على، متعلقاً، بتكبروا المضمنة معنى الحمد، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدّرها، والتقدير الإعرابي هو، أن تقول: كأنه قيل: ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم، كما قدّر الناس في قولهم: قتل الله زياداً عني أي: صرف الله زياداً عني بالقتل، وفي قول الشاعر:

ويركب يوم الروع فينا فوارس

بصيرون في طعن الأباهر والكلى أي: تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر، والظاهر في: ما، أنها مصدرية أي: على هدايتكم، وجوّزوا أن تكون: ما، بمعنى الذي، وفيه بعد، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما: حذف العائد على: ما، أي: على الذي هداكموه وقدّرناه منصوباً لا مجروراً بإلى، ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً. والثاني: حذف مضاف به يصح الكلام، التقدير: على اتباع الذي هداكموه، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام.

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} والكاف في: سألك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله {الذي أنزل فيه القرآن} أي على رسول الله صلى الله عليه وسلّمفكأنه قيل: أنزل عليك فيه القرآن، فجاء هذا الخطاب مناسباً لهذا المحذوف.

والفاء في قوله: فإني قريب، جواب إذا، وثم قول محذوف تقديره: فقل لهم إني قريب لأنه لا يترتب على الشرط القرب، إنما يترتب الإخبار عن القرب.

{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أجيب: إما صفة لقريب، أو خبر بعد خبر، وروعي الضمير في: فإني، فلذلك جاء أجيب، ولم يراع الخبر فيجيء: يجيب، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب: أشهرهما: مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا، وكقولهم:{بل أنتم قوم تفتنون} (النمل: 47) } {بل أنتم قوم تجهلون} (النمل: 55) } . وكقول الشاعر:

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة

ص: 396

والطريق الثاني: مراعاة الخبر كقولك: أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ يريد الخير، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم بـ «منهج السالك» والعامل في: إذا، قوله أجيب.

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} وقرأ الجمهور: أحل، مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وقرىء، أحل مبنياً للفاعل، ونصب: الرفث به، فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله، وأما أن يكون من باب الالتفات، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، لأن قبله:{فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي} ولكم، متعلق بأحل، وهو التفات، لأن قبله ضمير غائب، وانتصاب: ليلة، على الظرف، ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس، قالوا: والناصب لهذا الظرف: أحل، وليس بشيء، لأن: ليلة، ليس بظرف لأحل، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث، لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا، فلا يتقدّم معموله، لكن يقدّر له ناصب، وتقديره: الرفث ليلة الصيام، فحذف، وجعل المذكور مبنياً له كما قالوا في قوله:

وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان

أن تقديره: إذعان للذلة إذعان، وكما خرّجوا قوله:{إني لكما لمن الناصحين} (الأعراف: 21) } {وإني لعملكم من القالين} (الشعراء: 168) } أي ناصح لكما، وقال: لعملكم، فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول، وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر، وأضيفت: الليلة، إلى الصيام على سبيل الاتساع، لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلَاّ بصوم جزء منها صحت الإضافة.

ص: 397

{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل هي مستأنفة.

{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} : إن كانت: عَلِم، معداة تعدية عرف، فسدت أن مسد المفعول، أو التعدية التي هي لها في الأصل، فسدّت مسدّ المفعولين، على مذهب سيبويه.

{وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ومن الأولى، هي لابتداء الغاية، قيل: وهي مع ما بعدها في موضع نصب، لأن المعنى: حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود، كما يقال: بانت اليد من زندها، أي فارقته، ومن، الثانية للتبعيض، لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله، ويتعلق أيضاً بيتبين، وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد، وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى، فَمِنْ الأولى هي لابتداء الغاية، ومِنْ الثانية هي للتبعيض. ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معاً، على قول الزجاج، لأن الفجر عنده فجران، فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد، بل يكون جنساً.

قيل: ويجوز أن يكون {من الفجر} حالاً من الضمير في الأبيض، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، أي: كائناً من الفجر.

ص: 398

{وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} والناصب للظرف: تأكلوا، والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص، ثم بين المعاني. وفي قوله: بينكم، يقع لما هم يتعاطونه من ذلك، لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك، وقيل: انتصاب: بينكم، على الحال من: أموالكم، فيتعلق بمحذوف أي: كائنة بينكم، وهو ضعيف، والباء في: بالباطل، للسبب وهي تتعلق: بتأكلوا، وجوزوا أن تكون بالباطل، حالاً من الأموال، وأن تكون حالاً من الفاعل.

{وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ} هو مجزوم بالعطف على النهي، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام، وكذا هي في مصحف أبيّ، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية. والظاهر، أن الضمير في: بها، عائد على الأموال، فنهوا عن أمرين: أحدهما: أخذ المال بالباطل، والثاني: صرفه لأخذه بالباطل، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوباً على جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري، وحكى ابن عطية أنه قيل: تدلوا، في موضع نصب على الظرف، قال: وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى.

ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي، وتجويز الزمخشري ذلك هنا، فتلك مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالنصب.

ص: 399

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَبِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَقَتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَفِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلَا عُدْوَنَ إِلَاّ عَلَى الظَّلِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلَا تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ

ص: 400

وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة، وإن كان من سأل اثنين، كما روي، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلَاّ من واحد منهم أو اثنين، وهذا كثير في كلامهم، قيل: أو لكون الإثنين جمعاً على سبيل الاتساع والمجاز.

والكاف: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و: يسألونك، خبر، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال.

و: عن، متعلقة بقوله: يسألونك، يقال: سأل به وعنه، بمعنى واحد.

{قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} والحج: معطوف على قوله: للناس، قالوا: التقدير ومواقيت للحج، فحذف الثاني اكتفاءً بالأوّل.

{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} والباء في: بأن تأتوا زائدة في خبر ليس، وبأن تأتوا، خبر ليس، ويتقدّر بمصدر، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى، وبالأعرف عما دونه في التعريف، لأن: أن وصلتها، عندهم بمنزلة الضمير.

و: مِنْ، متعلقة: بتأتوا، وهي لابتداء الغاية، والضمير في: أبوابها، عائد على البيوت. وعاد كضمير المؤنث الواحدة، لأن البيوت جمع كثرة، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير، والأفصح في كثيره أن يفرد. كهو في ضمير المؤنث الواحدة، ويجوز العكس. وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره، والأفصح أن يجمع الضمير. ولذلك جاء في القرآن:{هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ} (البقرة: 187) } ونحوه، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح.

ص: 401

وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيف: ولكنّ، ورفع: البرّ، والباقون بالتشديد والنصب.

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ضمير المفعول عائد على: الذين يقاتلونكم.

{وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} و: مِنْ حيثُ، متعلق بقوله: وأخرجوهم، وقد تصرف في: حيث، بدخول حرف الجر عليها: كمن، والباء، وفي، وبإضافة لدى إليها.

وضمير النصب في: أخرجوكم، عائد على المأمورين بالقتل، والإخراج، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم، جعل إخراج بعضهم، وهو أجلهم قدراً رسول الله صلى الله عليه وسلّموالمهاجرون، إخراجاً لكلهم.

{وَلَا تُقَتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَتِلُوكُمْ فِيهِ} و: حتى، هنا للغاية، وفيه متعلق بيقاتلوكم، والضمير عائد على عند، تعدى الفعل إلى ضمير الظرف فاحتيج في الوصول إليه إلى: في، هذا، ولم يتسع فتعدى، الفعل إلى ضمير الظرف تعديته للمفعول به الصريح، لا يقال: إن الظرف إذا كان غير متصرف لا يجوز أن يتعدى الفعل إلى ضميره بالاتساع، لان ظاهره لا يجوز فيه ذلك، بل الاتساع جائز إذ ذاك. ألا ترى أنه يخالفه في جره بغي وإن كان الظاهر لا يجوز فيه ذلك؟ فكذلك يخالفه في الاتساع. فحكم الضمير إذ ذاك ليس كحكم الظاهر.

{كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَفِرِينَ} الكاف في موضع رفع لأنها خبر عن المبتدأ الذي هو خبر الكافرين.

{وَقَتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ضمير المفعول عائد على من قاتله وهم كفار مكة، والفتنة هنا الشرك وما تابعه من أذى المشركين، أمروا بقتالهم حتى لا يعبد غير الله، ولا يسن بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع، والسدي. أعني: أن الفتنة هنا والشرك وما تابعه من الأذى، وقيل: الضمير لجميع الكفار أمروا بقتالهم وقتلهم في كل مكان.

و: حتى، هنا للغاية، أو للتعليل.

ص: 402

{فَإِنِ انتَهَواْ فَلَا عُدْوَنَ إِلَاّ عَلَى الظَّلِمِينَ} متعلق الانتهاء محذوف، التقدير: عن الشرك بالدخول في الاسلام، أو عن القتال.

ألا ترى قوله: فوضع قوله: إلَاّ على الظالمين، موضع: على المنتهين؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرم الجاهل وما أكرم إلَاّ العالم؟ وإلَاّ على الظالمين، استثناء مفرغ من الأخبار على الظالمين في موضع رفع على أنه خبر لا، على مذهب الأخفش، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع: لا عدوان، على مذهب سيبويه. وقد تقدّم التنبيه على ذلك، وجاء: بعلى، تنبيهاً على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه.

ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي: إلَاّ على الظالمين منهم، أو بالاندراج في عموم الظالمين، فكان الربط بالعموم.

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَتُ قِصَاصٌ} والشهرُ، مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبراً، فلا بد من حذف التقدير: انتهاك حرمة الشهر الحرام، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام؛ والألف واللام في الشهر، في اللفظ هي للعهد.

والألف واللام للعهد في الحرمات.

{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقيل: الباء زائدة، أي: مثل اعتدائه، وهو نعت لمصدر محذوف، أي: اعتداءً مماثلاً لاعتدائه.

{وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} إلَاّ أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس، وقيل: مفعول ألقى محذوف، التقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، وتتعلق الباء بتلقوا، أو تكون الباء للسبب، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك.

ص: 403

والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو: بأيديكم، لكنه ضمن: ألقى، معنى ما يتعدى بالباء، فعداه بها، كأنه قيل: ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة. كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض أي: طرحت جنبي على الأرض، ويكون إذ ذاك قد عبّر عن الأنفس بالأيدي، لأن بها الحركة والبطش والامتناع، فكأنه يقول: إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك، ولا يهمل ما وضع له، ويفضي به إلى الهلاك.

{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} وما، من قوله:{فما استيسر} موصولة، وهي مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر، قاله الأخفش، أو: في موضع نصب: فليهدِ، قاله أحمد بن يحيى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب له استيسر، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد، أي: يسر، بمعنى: استغنى وغني، واستصعب وصعب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل.

ومن، هنا تبعيضية، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما، فيتعلق بمحذوف التقدير: كائناً من الهدي، ومن أجاز أن يكون: من، لبيان الجنس، أجاز ذلك هنا. والألف واللام في: الهدي، للعموم.

وأما المجاز ففي المفعول، فالتقدير: شعر رؤوسكم، فهو على حذف مضاف.

ص: 404

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} ومنكم، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال، لأنه قبل تقدّمه كان صفة: لمريضاً، فلما تقدّم انتصب على الحال. ومِنْ، هنا للتبعيض. وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقاً: بمريضاً، وهو لا يكاد يعقل، و: أو به أذى من رأسه، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات، فتكون معطوفاً على قوله: مريضاً، ويرتفع: أذى، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به، التقدير: أو كائناً به أذىً من رأسه، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد، فيكون تلك الجملة معطوفة على قوله: مريضاً، وهي في موضع مفرد، لأن المعطوف على المفرد مفرد، في التقدير: إذا كان جملة، ويرتفع، أذى، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر، فهو: في موضع رفع، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب، وأجازوا أن يكون معطوفاً على إضمار: كان، لدلالة: كان، الأولى، عليها. التقدير: أو كان به أذى من رأسه، فاسم كان على هذا إمّا ضمير يعود على: من؛ وبه أذى، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان، وإما: أذى وبه، في موضع خبر كان، وأجاز أبو البقاء أن يكون، أو به أذى من رأسه، معطوفاً على كان، وأذى، رفع بالابتداء، وبه، الخبر متعلق بالاستقرار، والهاء في. به، عائدة على: من، وكان قد قدم أبو البقاء أن: من، شرطية، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية، والمعطوف على الشرط شرط، فيجب فيه ما يجب في الشرط، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون: من، موصولة. لأنها إذ ذاك مضمنة معنى إسم الشرط، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية، والباء في: به، للإلصاق، ويجوز أن تكون ظرفية، ومن رأسه، يجوز أن يكون متعلقاً بما يتعلق به: به، وأن يكون في موضع الصفة لـ: أذىً، وعلى التقديرين يكون: مِنْ، لابتداء الغاية.

ص: 405

{فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ارتفاع: فدية، على الابتداء، التقدير: فعليه فدية، أو على الخبر، أي: فالواجب فدية. وذكر بعض المفسرين أنه قرىء بالنصب على إضمار فعل التقدير: فليفد فدية.

و {من صيام} ، في موضع الصفة، وأو، هنا للتخيير، فالفادي مخير في أيّ الثلاثة شاء.

{فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} والفاء في: فاذا أمنتم، للعطف وفي: فمن تمتع، جواب الشرط، وفي: فما، جواب للشرط الثاني. ويقع الشرط وجوابه جواباً للشرط بالفاء، لا نعلم في ذلك خلافاً لجواب نحو: إن دخلتِ الدار فإن كلمتِ زيداً فأنت طالق.

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} مفعول: يجد، محذوف لفهم المعنى، التقدير: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه. {فصيام ثلاثة أيام} : ارتفع صيام على الإبتداء، أي: فعليه، أو على الخبر، أي: فواجب. وقرىء: فصيامَ، بالنصب أي: فليصم صيام ثلاثة أيام، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة.

ص: 406

{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قرأ زيد بن علي، وابن أبي عبدة: وسبعة، بالنصب. قال الزمخشري: عطفاً على محل ثلاثة أيام، كأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام كقولك: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} (البلد: 14 15) } انتهى. وخرجه الحوفي، وابن عطية على إضمار فعل، أي: فليصوموا، أو: فصوموا سبعة، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز، ومجيء: وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به، كما قيل: وسبعة أيام، فحذف لدلالة ما قبله عليه، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفاً، وعليه جاء: ثم اتبعه بست من شوال، وحكى الكسائي: صمنا من الشهر خمساً، والعامل في: إذا، هو صيام ثلاثة أيام، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين، كما تقول: أكرمت زيداً يوم الخميس وعمراً يوم الجمعة.

وإذا، هنا محض ظرف، ولا شرط فيها، وفي: رجعتم، التفات، وحمل على معنى: من، أما الالتفات. فإن قوله:{فمن تمتع} {فمن لم يجد} اسم غائب، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع، ولو راعى اللفظ لأفرد، ولفظ الرجوع مبهم، وقد جاء تبيينه في السنة.

{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقال الزجاج: جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة، لأن الواو قد تقوم مقام: أو، ومنه {مثنى وثلاث ورباع} (النساء: 3) (فاطر: 1) } فأزال احتمال التخيير، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين، لأن الواو لا تكون بمعنى: أو.

ص: 407

وقال الزمخشري: الواو، قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن، وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً، أو واحداً منهما كان ممتثلاً؟ ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة. انتهى كلامه. وفيه نظر، لأنه لا تتوهم الإباحة هنا، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير، لأن التخيير قد يكون في الواجبات.

وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة.

{وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف، ثم ذكر، من هي له حقيقة، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون إسناد للموصوف.

ص: 408

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَبِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأٌّخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

والتنوين في عرفات ونحوه تنوين مقابلة، وقيل: تنوين صرف، واعتذر عن كونه منصرفاً مع التأنيث والعلمية، بأن التأنيث إنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، وإن كان بالتقدير: كسعاد، فلا يصح تقديرها في عرفات، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما تقدر تاء التأنيث في بنت، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث، فأنث تقديرها. انتهى هذا التعليل وأكثره للزمخشري، وأجراه في القرآن مجرى ما لم يسم فاعله من إبقاء التنوين في الجر، ويجوز حذفه حالة التسمية، وحكى الكوفيون، والأخفش إجراء ذلك وما أشبهه مجرى فاطمة، وأنشدوا بيت امرىء القيس:

تنوّرتها من أذرعات وأهلها

ص: 409

بيثرب أدنى دارها نظر عالي بالفتح.

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ} والحج أشهر، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف، إذ الأشهر ليست الحج، وذلك الحذف إما في المبتدأ، فالتقدير: أشهر الحج، أو وقت الحج، أو: في الخبر، أي: الحج حج أشهر، أو يكون: الأصل في أشهر، فاتسع فيه، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب، ولا يمتنع في العربية.

قال ابن عطية: ومن قدر الكلام: في أشهر، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ بنصبها أحد. انتهى كلامه. ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر، كما ذكر ابن عطية: لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبراً عن المصادر، فإنه يجوز عندهم الرفع والنصب، وسواء كان الحدث مستغرقاً للزمان أو غير مستغرق، وأما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل، وهو: أن الحدث إما أن يكون مستغرقاً للزمان، فيرفع، ولا يجوز فيه النصب، أو غير مستغرق فمذهب هشام أنه يجب في الرفع، فيقول: ميعادك يوم، وثلاثة أيام، وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر، لأن: أشهراً، نكرة غير محصورة.

وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه، فيمكن أن يكون له القولان، قول البصريين، وقول هشام، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله {إن عدة الشهور} (التوبة: 36) فإنه جاء على: فعول، وهو جمع الكثرة.

{فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} و: مَنْ، شرطية أو موصولة، و: فيهن، متعلق بفرض، والضمير عائد على: أشهر، ولم يقل: فيها، لأن أشهراً جمع قلة، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجري مجرى الجمع مطلقاً للعاقلات على الكثير المستعمل أيضاً، وقال قوم: هما سواء في الاستعمال.

ص: 410

{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} و: الفاء، في: فلا رفث، هي الداخلة في جواب الشرط، إن قدر: من، شرطاً، وهو الأظهر، أو في الخبر إن قدر: من، موصولاً.

وقرأ ابن مسعود والأعمش: رفوث، وقد تقدّم أن الرفث والرفوث مصدران. وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة، ورويت عن عاصم في بعض الطرق، وهو طريق المفضل عن عاصم، وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة. وقرأ الكوفيون، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين؛ وقرأ ابن كثير، وأبو عمر برفع: فلا رفث ولا فسوق، والتنوين، وفتح: ولا جدال، من غير تنوين.

فأمّا من رفع الثلاثة فإنه جعل: لا، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء، والخبر عن الجميع هو قوله: في الحج، ويجوز أن يكون خبراً عن المبتدأ الأول، وحذف خبر الثاني. والثالث للدلالة، ويجوز أن يكون خبراً عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني للدلالة، ولا يجوز أن يكون خبراً عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل.

قيل: ويجوز أن تكون: لا، عاملة عمل ليس فيكون: في الحج، في موضع نصب، وهذا الوجه جزم به ابن عطية، فقال: و: لا، في معنى ليس في قراءة الرفع، وهذا الذي جوّزه وجزم به ابن عطية ضعيف، لأن إعمال: لا، إعمال: ليس، قليل جداً، لم يجىء منه في لسان العرب إلَاّ ما لا بال له، والذي يحفظ من ذلك قوله:

تعزّ فلا شيء على الأرض باقياً

ولا وزرٌ مما قضى الله واقياً

أنشده ابن مالك، ولا أعرف هذا البيت إلَاّ من جهته، وقال النابغة الجعدي:

وحلت سواد القلب لا أنا باغياً

سواها ولا في حبها متراخياً

وقال آخر:

أنكرتها بعد أعوام مضين لها

لا الدار دار ولا الجيرانُ جيرانا

وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر:

من صدّ عن نيرانها

ص: 411

فأنا ابن قيس لا براح وهذا كله يحتمل التأويل، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهي من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح.

وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر، والعامل فيها أفعال من لفظها، التقدير: فلا يرفث رفثاً، ولا يفسق فسوقاً، ولا يجادل جدالاً. و: في الحج، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع.

وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين، فالخلاف في الحركة، أهي حركة إعراب أو حركة بناء؟ الثاني قول الجمهور، والدلائل مذكورة في النحو، وإذا بني معها على الفتح فهل المجموع من لا والمبني معها في موضع رفع على الابتداء؟ وإن كانت: لا، عاملة في الاسم النصب على الموضع، ولا خبر لها، أو ليس المجموع في موضع مبتدأ؟ بل. لا، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع، وما بعدها خبر: لا، إذا أجريت مجرى. إن، في نصب الاسم ورفع الخبر، قولان للنحويين، الأول: قول سيبويه، والثاني: الأخفش، فعلى هذين القولين يتفرّع إعراب: في الحج، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه، وفي موضع خبر: لا، على مذهب الأخفش.

وأما قراءة من رفع ونون: فلا رفث ولا فسوق، وفتح من غير تنوين: ولا جدال، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء، وعلى مذهب سيبويه: إن المفتوح مع: لا، في موضع رفع على الابتداء، يكون: في الحج، خبراً عن الجميع، لأنه ليس فيه، إلَاّ العطف، عطف مبتدأ على مبتدأ.

وأمّا قول الأخفش فلا يصح أن يكون: في الحج، إلَاّ خبراً للمبتدأين، أو: لا، أو خبر للا، لاختلاف المعرب في الحج، يطلبه المبتدأ أو تطلبه لا فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبراً عنهما.

ص: 412

وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه: و: لا، بمعنى ليس في قراءة الرفع، وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، و: في الحج، خبر: لا جدال، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي، وقد خولف في ذلك بل: في الحج، هو خبر الكل، إذ هو في موضع رفع في الوجهين، لأن: لا، إنما تعمل على بابها فيما يليها، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء، وظنّ أبو علي أنها بمنزلة: ليس، في نصب الخبر، وليس كذلك، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و: في الحج، هو الخبر انتهى كلامه. وفيه مناقشات.

الأولى: قوله و: لا، بمعنى: ليس، وقد قدّمنا أن كون: لا، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد، وبينا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الابتداء.

الثانية: قوله: وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها: ليس، لا يجوز حذفه لا اختصاراً، ولا اقتصاراً، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله:

يرجو جوارك حين ليس مجير

على طريق الضرورة أو الندور، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه.

الثالثة: قوله بل: في الحج، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين، يعني بالوجهين: كونها بمعنى: ليس، وكونها مبنية مع: لا، وهذا لا يصح، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش، وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الابتداء فيقتضي أن يكون خبراً للمبتدأ على مذهب سيبويه، على ما قدمناه من الخلاف، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون: في الحج، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين.

ص: 413

الرابعة: قوله: لأن: لا، إنما تعمل على بابها فيما تليها، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء، هذا تعليل لكون: في الحج، خبراً للكل، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب إليه، وقد بينا أن ذلك لا يجوز، لأنها إذا كانت بمعنى: ليس، كان خبرها في موضع نصب، ولا يناسب هذا التعليل إلَاّ كونها تعمل عمل إن فقط، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخفش، لأنه على مذهب الأخفش يكون: في الحج، في موضع رفع بلا، و: لا، هي العاملة الرفع، فاختلف المعرب على مذهبه، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء، وقراءة الفتح في: ولا جدال، هي على عمل: لا، عمل إن.

الخامسة: قوله: وظنّ أبو علي أنها بمنزلة: ليس، في نصب الخبر وليس كذلك، هذا الظنّ صحيح، وهو كما ظنّ، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على أن: لا، بمعنى ليس أتت به منصوباً في شعرها، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا، فأجازه أبو علي، مثل هذا في القرآن لا ينبغي.

السادسة: قوله: بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و: في الحج، هو الخبر، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى: ليس، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء، وأن الخبر يكون مرفوعاً لذلك المبتدأ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى: ليس، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعاً، لأنه ليس لنا إلَاّ صورة: لا رجل قائم، ولا امرأة. فرجل هنا مبتدأ، وقائم خبر عنه، وهي غير عاملة، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس، وارتفاع الإسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعاً بالابتداء، وإلَاّ فلا يمكن العلم بذلك أصلاً لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ، والمرفوع بعده خبره.

ص: 414

وقال الزمخشري: وقرأ أبو عمرو، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج.

والتفرقة في قراءة ابن كثير، وابن عمر، وبأن الأوّلين في معنى النهي، والثالث خبر، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت: مَنْ، شرطية، وفي موضع الخبر، إن كانت: مَنْ، موصولة. وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط، إذا كان الشرط بالإسم، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى، ولا رابط هنا ملفوظ به، فوجب أن يكون مقدراً. ويحتمل وجهين.

أحدهما: أن يقدر: منه، بعد: ولا جدال، ويكون: منه، في موضع الصفة، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم: السمن منوان بدرهم أي: منوان منه، ومنه صفة للمنوين.

والثاني: أن يقدر بعد الحج، وتقديره: في الحج منه أوله، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط.

وللكوفيين تخريج في مثل هذا، وهو أن تكون الألف واللام عوضاً من الضمير، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله: في الحج، في حجه، فنابت الألف واللام عن الضمير، وحصل بها الربط.

قال بعضهم: وكرر في الحج، فقال: في الحج، ولم يقل: فيه، جرياً على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر، كقول الشاعر:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

انتهى كلامه، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول، ولمجيئه في جملة غير الجملة الأولى، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائداً على: من، لا على: الحج، أي: في فارض الحج.

{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} هذه جملة شرطية، وتقدّم الكلام على إعراب نظيرها في قوله:{ما ننسخ من آية} (البقرة: 106) .

وجواب الشرط وهو: يعلمه الله، والضمير في: يعلمه، عائد على: ما، من قوله: وما تفعلوا، و: من، في موضع نصب، ويتعلق بمحذوف.

ص: 415

وقد خبط بعض المعربين فقال: إن: من خير، متعلق: بتفعلوا، وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره: وما تفعلوه فعلاً من خير يعلمه الله، جزم بجواب الشرط، والهاء في: يعلمه الله، يعود إلى خير انتهى قوله.

ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن: من خير، متعلق: بتفعلوا، ثم قال: وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر. فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفاً، فيناقض هذا القول كون: من، يتعلق: بتفعلوا، لأن: من، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوفاً وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم، فالهاء عائدة على الاسم، أعني: اسم الشرط، واذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على إسم الشرط، وذلك لا يجوز، لو قلت: من يأتني يخرج خالد، ولا يقدر ضميراً يعود على إسم الشرط، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف، فإنه يجوز خلوّ الجملة من الضمير نحو: إن تأتني يخرج خالد.

{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أو يكون مفعول: تزودوا، محذوفاً تقديره، وتزودوا التقوى، أو: من التقوى، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهراً ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر، ولو لم يحذف المفعول لأتى به مضمراً عائداً على المفعول، أو كان يأتي ظاهراً تفخيماً لذكر التقوى، وتعظيماً لشأنها.

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} وتقدم إعراب مثل: أن تبتغوا، في قوله:{فلا جناح عليه أن يطوف فيهما} (البقرة: 158) و: من ربكم، متعلق: بتبتغوا، و: من، لابتداء الغاية، أو بمحذوف، وتكون صفة لفضل. فتكون: من، لابتداء الغاية أيضاً، أو للتبعيض، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي: من فضول.

ص: 416

{فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَتٍ} و: من، في قوله: من عرفات، لابتداء الغاية، وهي تتعلق: بأفضتم. وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه، ويقتضي ذلك جواز الوقوف، بأي نواحيها وقف، والجمهور على أن عرنة من عرفات. وحكى الباجي، عن ابن حبيب: أن عرنة في الحل، وعرنة في الحرم، وقيل: الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة، ومن قال: بطن عرنة من عرفات، فلو وقف بها فروي عن ابن عباس، والقاسم، وسالم أنه: من أفاض من عرنة لا حج له، وذكره ابن المنذر عن الشافعي، وأبو المصعب عن مالك، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام. ويهريق دماً، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضاً.

وروي: عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة؛ وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء، فهي كظاهر الآية.

وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيراً جميلاً، ولا يطؤوا ضعيفاً، ولا يؤذوا ماشياً، إذ كان صلى الله عليه وسلّمإذا دفع من عرفات أعنق، وإذا وجد فرجة نص. والعنق: سير سريع مع رفق، والنص: سير شديد فوق العنق، قاله الأصمعي، والنضر بن شميل. ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس.

{فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الفاء جواب إذا.

{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} والكاف في: كما، للتشبيه، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف، وإما على الحال. وقد تقدّم هذا البحث في غير موضع.

ص: 417

ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف، فيكون التقدير: كما هداكم، أي: اذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم، وحكى سيبويه: كما أنه لا يعلم، فتجاوز الله عنه، أي: لأنه لا يعلم، وثبت لها هذا المعنى الأخفش، وابن برهان. وما، في: كما، مصدرية أي: كهدايته إياكم، وجوّز الزمخشري، وابن عطية أن تكون: ما، كافة للكاف عن العمل، والفرق بينهما أن: ما، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، والكافة لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة، والأوْلى حملها على أن: ما، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد، وعلي بن مسعود بن الفرّحال صاحب «المستوفي» واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر:

لعمرك إنني وأبا حميدٍ

كما النشوان والرجل الحليم أريد هجاءه وأخاف ربي

وأعلم أنه عبد لئيم

{وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} إن هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية. واللام في: لمن، وما أشبهه فيها خلاف: أهي لام الابتداء لزمت للفرق؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق؟ ومذهب الفراء. في نحو هذا هي النافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلاّ، وذهب الكسائي إلى أنّ: بمعنى: قد، إذا دخل على الجملة الفعلية، وتكون اللام زائدة، وبمعنى: ما، النافية إذا دخل على الجملة الإسمية، واللام بمعنى إلاّ، ودلال هذه المسألة تذكر في علم النحو.

فعلى قول البصريين: تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها، وعلى مذهب الفراء: مثبتة إثباتاً محصوراً، وعلى مذهب الكسائي: مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول البصريين.

ص: 418

و {من قبله} ، يتعلق بمحذوف، ويبينه قوله:{لمن الضالين} ، التقدير: وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله: من الضالين، وقد تقدّم نظير هذا.

{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وقد جوّز بعض النحويين أن: ثم، تأتي بمعنى الواو، فلا ترتيب.

و: مِنْ حيث، متعلق: بأفيضوا، و: مِنْ، لابتداء الغاية، و: حيث، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان.

{مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم.

قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول: الناسِ، كالقاضِ والهادِ، قال: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما كون جوازه مقروءاً به فلا أحفظه. انتهى كلامه.

فقوله: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقاً، ولم يجزه سيبويه إلاّ في الشعر، وأجازه الفرّاء في الكلام. وأما قوله: وأما جوازه مقروءاً به فلا أحفظه، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره.

قال أبو العباس المهدوي: أفاض الناسي بسعيد بن جبير، وعنه أيضاً: الناسِ بالكسر من غير ياء. انتهى قول أبي العباس المهدوي.

{وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ} و: استغفر، يتعدى لاثنين، الثاني منهما بحرف الجر، وهو من: فعول، استغفرت الله من الذنب، وهو الأصل، ويجوز أن تحذف: من، كما قال الشاعر:

أستغفر الله ذنباً لست محصيه

ص: 419

رب العباد إليه الوجه والعمل تقديره: من ذنب، وذهب أبو الحسن بن الطراوة إلى أن: استغفر، يتعدى بنفسها إلى مفعولين صريحين، وأن قولهم: استغفر الله من الذنب، إنما جاء على سبيل التضمين، كأنه قال: تبت إلى الله من الذنب، وهو محجوج بقول سيبويه، ونقله عن العرب وذلك مذكور في علم النحو، وحذف هنا المفعول الثاني للعلم به، ولم يجىء في القرآن مثبتاً، لا مجروراً بمن، ولا منصوباً، بخلاف: غفر، فإنه تارة جاء في القرآن مذكوراً مفعوله، كقوله:{ومن يغفر الذنوب إلا الله} (آل عمران: 135) وتارة محذوفاً. كقوله تعالى: يغفر لمن يشاء} (المائدة: 18) وجاء: استغفر، أيضاً معدّى باللام، كما قال تعالى: فاستغفروا لذنوبهم} (آل عمران: 135) واستغفر لذنبك} (غافر: 55) وكأن هذه اللام، والله أعلم، لام العلة، وأن ما دخلت عليه مفعول من أجله، واستفعل هنا للطلب، كاستوهب واستطعم واستعان، وهو أحد المعاني التي جاء لها استفعل، وقد ذكرنا ذلك في قوله: وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) .

{فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} فاذكروا الله: هذا جواب: إذ.

ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ: كذكركم آباؤكم، برفع الآباء، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ: أباكم، على الإفراد، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر، والمصدر مضاف إلى المفعول، التقدير: كما يذكركم آباؤكم. والمعنى: ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه. ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد، بل آباء.

ص: 420

و: أو، هنا قيل: للتخيير، وقيل: للإباحة، وقيل: بمعنى بل أشدّ، جوزوا في إعرابه وجوهاً اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعد أشدّ تمييزاً بعد أفعل التفضيل، فلا يمكن إقراره تمييزاً إلَاّ بهذه التقادير التي قدّروها، ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله، تقول: زيد أحسن وجهاً، لأن الوجه ليس زيداً فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو: زيد أفضل رجلٍ. فعلى هذا يكون التركيب في مثل: أضرب زيداً كضرب عمرو خالداً أو أشدّ ضرب، بالجر لا بالنصب، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه.

أحدها: أن يكون معطوفاً على موضع الكاف في: ذكركم، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف، أي: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد، وجعلوا الذكر ذكراً على جهة المجاز، كما قالوا: شاعر شعر، قاله أبو علي وابن جني.

الثاني: أن يكون معطوفاً على آبائكم، قاله الزمخشري، قال: بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم، على أن ذكراً من فعل المذكور انتهى. وهو كلام قلق، ومعناه: أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير: أو قوماً أشد ذكراً من آبائكم، فكان القوم مذكورين، والذكر الذي هو تمييز بعد أشدّ هو من فعلهم، أي من فعل القوم المذكورين، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم، ومعنى قوله: من آبائكم أي: من ذكركم لآبائكم.

الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل الكون. والكلام محمول على المعنى. التقدير: أو كونوا أشد ذكراً له منكم لآبائكم. ودل عليه أن معنى: فاذكروا الله؛ كونوا ذاكريه.

قال أبو البقاء: قال: وهذا أسهل من حمله على المجاز، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني.

وجوزوا الجر في أشد على وجهين. أحدهما: إن يكون معطوفاً على: ذكركم، قاله الزجاج، وابن عطية، وغيرهما. فيكون التقدير: أو كذكر أشدّ ذكراً، فيكون إذ ذاك قد جُعل للذكر ذكر.

ص: 421

الثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير المجرور بالمصدر في: كذكركم، قاله الزمخشري. قال ما نصه: أو أشدّ ذكراً في موضع جر، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: كذكركم، كما تقول: كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكراً، وفي قول الزمخشري: العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكراً يماثل ذكر آبائهم أو أشدّ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون: أشدّ، منصوباً على الحال، وهو نعت لقوله: ذكراً لو تأخر، فلما تقدّم انتصب على الحال، كقولهم:

Y لمية موحشاً طلل

فلو تأخر لكان: لمية طلل موحش، وكذلك لو تأخر هذا لكان: أو ذكراً أشدّ، يعنى: من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك: أو ذكراً أشدّ، معطوفاً على محل الكاف من: كذكركم، ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً، لقوله: فاذكروا كذكركم، في موضع الحال، لأنه في التقدير: نعت نكرة تقدّم عليهما فانتصب على الحال، ويكون: أو أشدّ، معطوفاً على محل الكاف حالاً معطوفة على حال، ويصير كقوله: أضرب مثل ضرب فلان ضرباً، التقدير ضرباً مثل ضرب فلان، فلما تقدّم انتصب على الحال، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع. ولو تقدّم لكان: فاذكروا ذكراً كذكركم، فكان اللفظ يتكرر، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ، فلهذا المعنى، ولحسن القطع، تأخر.

ص: 422

لا يقال في الوجه الأول: إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو: أو، وبين المعطوف الذي هو: ذكراً، بالحال الذي هو: أشدّ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسماً أو ظرفاً أو مجروراً، وأن يكون حرف العطف على أزيد من حرف، وقد وجد هذا الشرط الآخر، وهو كون الحرف على أزيد من حرف، وفقد الشرط الأول، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور، بل هو حال، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى، فهي شبيهة بالحرف، فيجوز فيها ما جاز في الظرف. وهذا أولى من جعل: ذكراً، تمييزاً لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى، فيكون: للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف، أو يجره عطفاً على ذكر المجرور بالكاف، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي: كونوا أشدّ، أو للذاكر الذكر، وبأن ينصبه عطفاً على: آباءكم، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفاً على المضاف إليه الذكر، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف، فينبغي أن ينزه القرآن عنها.

{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا} هذا وجعل في زائدة، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط، وكذلك جعل في بمعنى: من، حتى يكون في موضع المفعول، وحذف مفعولي آتى، وأحدهما جائز اختصاراً واقتصاراً، لأن هذا باب: أعطى، وذلك جائز فيه.

ص: 423

{وَفِي الأٌّخِرَةِ حَسَنَةً} : الواو فيها لعطف شيئين على شيئين، فعطفت في الآخرة حسنة، على: الدنيا حسنة، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، تقول: أعلمت زيداً أخاك منطلقاً وعمراً أباه مقيماً، إلَاّ إن ناب عن عاملين ففيه خلاف، وفي الجواز تفصيل. وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم، فأجاز ذلك مستدلاً به على ضعف مذهب الفارسي في أن ذلك مخصوص بالشعر، لأن الآية ليست من هذا الباب، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، وإنما الذي وقع فيه خلاف أبي علي هو: ضربت زيداً وفي الدار عمراً، وإنما يستدل على ضعف مذهب أبي علي بقوله تعالى:{الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} (الطلاق: 12) وبقوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (النساء: 58) وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو.

وقال القيثري: واللام في النار لام الجنس.

{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} و: من، في قوله: مما كسبوا، يحتمل أن تكون للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا، ويحتمل أن يكون للسبب، و: ما، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي: من كسبهم، وقيل: أولئك، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط، ولم يذكر ابن عطية غيره. وذكره الزمخشري بإزائه.

ص: 424

{وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأٌّرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَئِكَةُ وَقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * سَلْ بَنِى إِسْرَءِيلَ كَمْ آتَيْنَهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

ص: 425

وهذا كله يدل على زيادة النون في: جهنم وامتنعت الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل: هي أعجمية وأصلها كهنام، فعربت بإبدال من الكاف جيماً. وبإسقاط الألف، ومنعت الصرف على هذا للعجمة والعلمية.

حسب: بمعنى: كافٍ، تقول أحسبني الشيء: كفاني، فوقع حسب موقع: محسب، ويستعمل مبتدأ فيجر خبره بباء زائدة، وإذا استعمل خبراً لا يزاد فيه الباء وصفة فيضاف، ولا يتعرف إذا أضيف إلى معرفة، تقول: مررت برجل حسبك، ويجيء معه التمييز نحو: برجل حسبك من رجل ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإن كان صفة لمثنى أو مجموع أو مؤنث لأنه مصدر.

{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة مَنْ، فهي صلة، وجوزوا أن تكون حالاً معطوفة على: ويشهد إذا كانت حالاً، أو حالاً من الضمير المستكن في: ويشهد.

وإذا كان الخصام جمعاً، كان ألدّ من إضافة بعض إلى كل، وإذا كان مصدراً فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل فهو كالجمع في أن أفعل بعض ما أضيف إليه، وإن تأولت أفعل على غير بابها، فألدّ من باب إضافة الصفة المشبهة.

يعني أن: أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي إضافة على معنى: في، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلَاّ لما هي بعض له، وفيه إثبات الإضافة بمعنى في، وهو قول مرجوح في النحو.

{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأٌّرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} وقرأ الجمهور: ويهلك، من أهلك. عطفاً على: ليفسد، وقرأ أبي: وليهلك، بإظهار لام العلة، وقرأ قوم: ويهلك، من أهلك، وبرفع الكاف. وخرج على أن يكون عطفاً على قوله: يعجبك، أو على: سعى، لأنه في معنى: يسعى، وأما على الاستئناف، أو على إضمار مبتدأ، أي: وهو يهلك.

ص: 426

وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وابن محيصن: ويهلك من هلك، وبرفع الكاف، والحرث والنسل على الفاعلية، وكذلك رواه حماد بن سلمة عن ابن كثير، وعبد الوراث عن أبي عمرو، وحكى المهدوي أن الذي رواه حماد عن ابن كثير، إنما هو: ويهلك من أهلك، وبضم الكاف، الحرث بالنصب.

وقرأ قوم: ويهلك من هلك، وبفتح اللام، ورفع الكاف ورفع الحرث، وهي لغة شاذة نحو: ركن يركن، ونسبت هذه القراءة إلى الحسن الزمخشري.

قال الزمخشري: وروي عنه، يعني عن الحسن، ويهلك مبنياً للمفعول، فيكون في هذه اللفظة ست قراءآت: ويهلك وليهلك ويهلك، وما بعد هذه الثلاثة منصوب، لأن في الفعل ضمير الفاعل، ويهلك ويهلك ويهلك، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل، وهذه الجملة الشرطية إما مستأنفة، وتم الكلام عند قوله: وهو ألدّ الخصام، وإما معطوفة على صلة مَنْ أو صفتها، من قوله: ويعجبك.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} تحتمل أيضاً هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله:{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} (البقرة: 11) و: ما، الذي أقيم مقام الفاعل، فأغنى عن ذكره هنا.

فالباء، على كلامه للتعدية، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم، نحو:{لذهب بسمعهم وأبصارهم} (البقرة: 20) أي: لأذهب سمعهم، وندرت التعدية بالباء في المتعدي، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي أصككت الحجر الحجر، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة، أي: أخذته مصحوباً بالإثم، أو مصحوبة بالإثم، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل، ويحتمل أن تكون سببية، والمعنى: أن إثمه السابق كان سبباً لأخذ العزة له، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى، فتكون الباء هنا: كمن، في قول الشاعر:

أخذته عزة من جهله

ص: 427

فتولى مغضباً فعل الضَّجر} وعلى أن تكون: الباء، سببية فسره الحسن، قال. أي من أجل الإثم الذي في قلبه، يعني الكفر.

{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} أي: كافيه جزاءً وإذلالاً جهنم، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل: بحسبه، لأنه جعله اسم فعل، إما بمعنى الفعل الماضي، أي: كفاه جهنم، أو: بمعنى فعل الأمر، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل، وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم، وهو الغاية في الذل، ولما كان قوله: اتق الله، حل به ما أمر أن يتقيه، وهو: عذاب الله، وفي قوله: فحسبه جهنم، استعظام لما حل به من العذاب، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به.

{وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} تقدّم الكلام في: بئس، والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو، لكن التفريع على مذهب البصريين في أن: بئس ونعم، فعلان جامدان، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما، وأن المخصوص بالذّم، إن تقدم، فهو مبتدأ، وإن تأخر فكذلك، هذا مذهب سيبويه. وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدّم، والتقدير: ولبئس المهاد جهنم. أو: هي، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذمّ إذا تأخر كان خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء، لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها، إذ ليس لها موضع من الإعراب، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية، لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها، فصارت مرتبطة غير مرتبطة، وذلك لا يجوز.

ص: 428

وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد. كان فيما قبله ما يدل على حذفه، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدّم، وأنت لا ترى فرقاً بين قولك: زيد نعم الرجل، ونعم الرجل زيد، كما لا تجد فرقاً بين: زيد قام أبوه، وبين: قام أبوه زيد، وحسن حذف المخصوص بالذمّ هنا كون المهاد وقع فاصلة، وكثيراً ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله:{فنعم المولى ونعم النصير} (الحج: 78) ولبئس مثوى المتكبرين} (النحل: 29) .

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} وانتصاب: ابتغاء، على أنه مفعول من أجله، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم، إنما هو طلب رضى الله تعالى، وهو مستوفٍ لشروط المفعول من أجله من كونه مصدراً متحد الفاعل والوقت، وهذه الإضافة، أعني: إضافة المفعول من أجله، هي محضة، خلافاً للجرمي، والرياشي، والمبرّد، وبعض المتأخرين، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة، وهذا مذكور في كتب النحو.

{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} ولذلك جاء بقوله {كافة} وانتصاب {كافة} على الحال من الفاعل في: ادخلوا، والمعنى ادخلوا في السلم جميعاً، وهي حال تؤكد معنى العموم، فتفيد معنى: كل، فإذا قلت: قام الناس كافة، فالمعنى قاموا كلهم، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون حالاً من السلم، أي في شرائع الإسلام كلها، أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون: كافة، حالاً من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، قال الشاعر:

السلم يكون تأخذ منها ما رضيت به

والحرب تكفيك من أنفاسها جُرع

ص: 429

وتعليله جواز أن يكون: كافة، حالاً من السلم بقوله: لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، ليس بشيء، لأن التاء في: كافة، وإن كان أصلها للتأنيث، ليست فيها إذا كانت حالاً للتأنيث، بل صار هذا نقلاً محضاً إلى معنى: جميع وكل، كما صار: قاطبة، وعامة، إذا كان حالاً نقلاً محضاً إلى معنى: كل وجميع. فإذا قلت: قام الناس كافة، أو قاطبة، أو عامة، فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث، كما لا يدل عليه: كل، ولا جميع.

وقوله: فيكون الحال من شيئين، يعني: من الفاعل في ادخلوا، ومن السلم، وهذا الذي ذكره محتمل، ولكن الأظهر أنه حال من ضمير الفاعل، وذلك جائز، يعني: مجيء الحال الواحدة من شيئين، وفي ذلك تفصيل ذكر في النحو.

وقوله: نحو قوله: {فأتت به قومها تحمله} (مريم: 27) يعني أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت، ومن الضمير المجرور بالباء، هذا المثال ليس بمطابق للحال من شيئين، لأن لفظ: تحمله، لا يحتمل شيئين، ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كان اللفظ يحتملهما، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين، والإخبار بتلك الحال عنهما، فمتى صح ذلك صحت الحال، ومتى امتنع امتنعت. مثال ذلك قوله:

وعلقت سلمى وهي ذات موصد

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم} فصغيرين: حال من الضمير في علقت، ومن سلمى، لأنه يصلح أن يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم، ومثله:

خرجت بها نمشي تجرّ وراءنا

فنمشي حال من التاء في: خرجت، ومن الضمير المجرور في بها، ويصلح أن تقول: أنا وهي نمشي، وهنا لا يصلح أن تكون تحمله خبراً عنهما، لو قلت: هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبراً، نحو قوله: هند وزيد تكرمه، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أنّ يقدر إلاّ بمفرد، فيمتنع أن يكون حالاً من ذوي حال، ولذلك أعرب المعربون في:

خرجت بها نمشي تجر وراءنا

ص: 430

نمشي: حالاً منهما، وتجر حالاً من ضمير المؤنث خاصة، لأنه لو قيل: أنا وهي تجر وراءنا لم يجز أن يكون تجر خبراً عنها، لأن تجر وتحمل إنما يتقدران بمفرد، أي حاملة وجارة، وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالاً منهما.

و {كافة} لدلالته على معنى: جميع، يصلح أن يكون حالاً من الفاعل في: ادخلوا، ومن السلم، بمعنى شرائع الإسلام، لأنك لو قلت: الرجال والنساء جميع في كذا، صح أن يكون خبراً.

لا يقال كافة لا يصلح أن يكون خبراً، لا تقول: الزيدون والعمرون كافة، في كذا، فلا يجوز أن يقع حالاً على ما قررت، لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة: كافة، إذ لم يتصرف فيها، بل التزم نصبها على الحال، لكن مرادفها يصح فيه ذلك، وقوله: والمراد بالكافة الجماعة التي يكف مخالفها، يعني: أن هذا في أصل الوضع، ثم صار الاستعمال لها لمعنى: جميعاً، كما قال هو وغيره، وكافة: معناه جميعاً.

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَئِكَةُ} ؟ هل: هنا للنفي، المعنى: ما ينظرون، ولذلك دخلت إلَاّ، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها: إلَاّ، كثير الاستعمال في القرآن، وفي كلام العرب، قال تعالى:{وهل نجازي إلَاّ الكفور} (سبأ: 17) فهل يهلك إلا القوم الظالمون} (الأنعام: 47) وقال الشاعر:

وهل أنا إلَاّ من غزية إن غوت

غويت، وإن ترشد غزية أرشد} و: ينظرون، هنا معناه: ينتظرون، تقول العرب: نظرت فلاناً انتظره، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلَاّ بحرف جر. قال امرؤ القيس:

فإنكما إن تنظراني ساعة

من الدهر تنفعي لدى أم جندب ومفعول: ينظرون، هو ما بعد إلَاّ، أي: ما ينتظرون إلَاّ إتيان الله، وهو استثناء مفرع، قيل: وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى، وكان مضافاً إلى الوجه، وإنما هو من الانتظار. انتهى.

ص: 431

وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال: هو من النظر، وهو تردد العين. وهو معدى بإلى، لكنها محذوفة، والتقدير: هل ينظرون إلَاّ إلى أن يأتيهم الله؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد، ولا لبس هنا، فحذفت: إلى، وقوله: وكان مضافاً إلى الوجه يشير إلى قوله: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} (القيامة: 23) فكذلك ليس بلازم، قد نسب النظر إلى الذوات كثيراً كقوله: أفلا ينظرون إلى الإبل} (الغاشية: 17) أرني أنظر إليك} (الأعراف: 143) والضمير في: ينظرون، عائد على الذالين، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.

و: في ظلل، متعلق بيأتيهم، وجوّزوا أن يكون حالاً فيتعلق بمحذوف، و: من الغمام، في موضع الصفة لظلل، وجوّزوا أن يتعلق بيأتيهم، أي من ناحية الغمام، فتكون: مِن، لابتداء الغاية، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وأبو جعفر: والملائكةِ، بالجر عطفاً على: في ظلل، أو عطفاً على الغمام، فيختلف تقدير حرف الجر، إذ على الأول التقدير: وفي الملائكة، وعلى الثاني التقدير: ومن الملائكة.

وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على: الله، وقيل: في هذا الكلام تقديم وتأخير، فالإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة، والتقدير: إلَاّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل، فالمضاف إلى الله تعالى هو الإتيان فقط، ويؤيد هذا قراءة عبد الله، إلَاّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل.

{وَقُضِىَ الأَمْرُ} معطوف على قوله: يأتيهم، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع، والتقدير: ويقضي الأمر، ويحتمل أن يكون هذا إخباراً من الله تعالى، أي: فرغ من أمرهم بما سبق في القدر، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر.

ص: 432

وقرأ معاذ بن جبل: وقضاء الأمر، قال: قال الزمخشري: على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة، وقال غيره بالمدّ والخفض عطفاً على الملائكة، وقيل: ويكون: في، على هذا بمعنى الباء، أي: بظلل من الغمام، وبالملائكة، وبقضاء الأمر.

وقرأ يحيى بن معمر: وقضي الأمور، بالجمع، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، ولأنه لو أبرز وبني الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات.

{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} وإذا كان الفعل مبنياً للمفعول فالفاعل المحذوف، إما الله تعالى، يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة، أو ذوو الأمور، لما كانت ذواتهم وصفاتهم شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محاسبون مجزيون، كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها، قيل: أو يكون ذلك على مذهب العرب في قولهم: فلان معجب بنفسه، ويقول الرجل لغيره: إلى أين يُذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. انتهى. وملخصه: إنه يبني الفعل للمفعول ولا يكون ثم فاعل، وهذا خطأ، إذ لا بد للفعل من تصوّر فاعل، ولا يلزم أن يكون الفاعل للذهاب أحداً، ولا الفاعل للإعجاب، بل الفاعل غيره، فالذي أعجبه بنفسه هو رأيه، واعتقاده بجمال نفسه، فالمعنى أنه أعجبه رأيه، وذهب به رأيه، فكأنه قيل: أعجبه رأيه بنفسه، وإلى أين يذهب بك رأيك أو عقلك؟ ثم حذف الفاعل، وبني الفعل للمفعول.

ص: 433

{سَلْ بَنِى إِسْرَءِيلَ كَمْ آتَيْنَهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} {وكم} في موضع نصب على أنها مفعول ثان {لآتيناهم} على مذهب الجمهور، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده، وجعل ذلك من باب الإشتغال، قال: وكم، في موضع نصب إمّا بفعل مضمر بعدها، لأن لها صدر الكلام تقديره: كم آتيناهم، أو بإتيانهم. انتهى. وهذا غير جائز إن كان قوله: من آية تمييزاً لكم، لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الإشتغال. ونظير ما أجاز أن يقول: زيداً ضربت، فتعرب زيداً مفعولاً بفعل محذوف يفسره ما بعده، التقدير: زيداً ضربت ضربت، وكذلك: الدرهم أعطيت زيداً، ولا نعلم أحداً ذهب إلى ما ذهب إليه، بل نصوص النحويين، سيبويه فمن دونه، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده، وإن كان تمييز: كم، محذوفاً.

ص: 434

وأطلقت: كم، على القوم أو الجماعة، فكان التقدير: كم من جماعة آتيناهم، فيجوز ذلك، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على: كم، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون: كم، في موضع رفع بالابتداء، والجملة من قوله: آتيناهم، في موضع الخبر، والعائد محذوف، التقدير: آتيناهموه، أو آتيناهموها، وهذا لا يجوز عند البصريين إلَاّ في الشعر، أو في شاذ من القرآن، كقراءة من قرأ {أفحكم الجاهلية يبغون} (المائدة: 50) برفع الحكم، وقال ابن مالك: لو كان المبتدأ غير: كل، والضمير مفعول به، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلَاّ في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار، ويرونه ضعيفاً انتهى. فإذا كان لا يجوز إلَاّ في الاضطرار، أو ضعيفاً، فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك؟ ورجحانه. وهو أن تكون في موضع نصب على ما قررناه. وكم، هنا استفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الاستفهام، وقد يخرج الاستفهام عن حقيقته إذا تقدّمه ما يخرجه، نحو قولك: سواء عليك أقام زيد أم قعد، و: ما أبالي أقام زيد أم قعد، وقد عملت أزيد منطلق أو عمرو وما أدري أقريب أم بعيد، فكل هذا صورته صورة الاستفهام، وهو على التركيب الاستفهامي وأحكامه، وليس على حقيقة الاستفهام.

وهذه الجملة من قوله: {كم آتيناهم} في موضع المفعول الثاني: لسل، لأن سأل يتعدى لإثنين؛ أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف جر، إما عن، وإما الباء. وقد جمع بينهما في الضرورة نحو:

فأصبحن لا يسألنه عن بما به

و: سأل، هنا معلقة عن الجملة الاستفهامية، فهي عاملة في المعنى، غير عاملة في اللفظ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلَاّ الجار، قالوا: وإنما علقت: سل، وإن لم تكن من أفعال القلوب، لأن السؤال سبب للعلم، فأجرى السبب مجرى المسبب في ذلك، وقال تعالى:{سلهم أيهم بذلك زعيم} (القلم: 40) وقال الشاعر:

سائل بني أسد ما هذه الصوت

وقال:

ص: 435

واسأل بمصقلة البكري ما فعلا

وأجاز الزمخشري أن تكون: كم، هنا خبرية، قال: فإن قلت: كم استفهامية أم خبرية؟

قلت: يحتمل الأمرين، ومعنى الاستفهام فيها التقدير. انتهى كلامه. وهو ليس بجيد، لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال، لأنه يصير المعنى: سل بني إسرائيل، وما ذكر المسؤول عنه، ثم قال: كثيراً من الآيات آتيناهم، فيصير هذا الكلام مفلتاً مما قبله، لأنه جملة: كم آتيناهم، صار خبراً صرفاً لا يتعلق به: سل، وأنت ترى معنى الكلام، ومصب السؤال على هذه الجملة، فهذا لا يكون إلَاّ في الإستفهامية، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف، وهو المفعول الثاني: لسل، ويكون المعنى: سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم أخبر تعالى أن كثيراً من الآيات آتيناهم.

{مِنْءَايَةٍ} تمييز لـ: كَمْ، ويجوز دخول: من، على تمييز الاستفهامية والخبرية، سواء وليها أم فصل بينهما، والفصل بينهما بجملة، وبظرف، ومجرور، جائز على ما قررنا في النحو، وأجاز ابن عطية أن يكون: من آية، مفعولاً ثانياً: لآتيناهم، وذلك على التقدير الذي قدّره قبل من جواز نصب: كم، بفعل محذوف يفسره: آتيناهم، وعلى التقدير الذي قررناه من أن: كم، تكون كناية عن قوم أو جماعة، وحذف تمييزها لفهم المعنى، فإذا كان كذلك، فإن كانت: كم، خبرية فلا يجوز أن تكون: من آية، مفعولاً ثانياً، لأن زيادة: من، لا تكون في الإيجاب على مذهب البصريين غير الأخفش، وإن كانت استفهامية فيمكن أن يقال: يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما قبله، وفيه بعد، لأن متعلق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: كم من درهم أعطيته من رجل، على زيادة: من، في قولك: من رجل، لكان فيه نظر، وقد أمعنا الكلام على زيادة: من، في «منهج السالك» من تأليفنا.

{مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} وأتى بلفظ: من، إشعاراً بابتداء الغاية.

ص: 436

{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقرىء: ومن يبدل بالتخفيف، و. يبدلَ، يحتاج لمفعولين: مبدل ومبدل له، فالمبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بحرف جر، والبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه، ويجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، وتقدم الكلام على هذا في قوله:{فبدل الذين ظلموا} (البقرة: 59) وإذا تقرر هذا، فالمفعول الواحد هنا محذوف، وهو البدل، والأجود أن يقدر مثل ما لفظ به في قوله: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} (إبراهيم: 28) : فكفراً هو البدل، ونعمة الله، هو المبدل، وهو الذي أصله: أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر، فالتقدير إذن: ومن يبدل نعمة الله كفراً، وجاز حذف المفعول الواحد وحرف الجر لفهم المعنى، ولترتيب جواب الشرط على ما قبله فإنه يدل على ذلك، لأنه لا يترتب على تقدير: أن يكون النعمة هي البدل، والكفر هو المبدل أن يجاب بقوله: فإن الله شديد العقاب} خبر يتضمن الوعيد، ومن حذف حرف الجر لدلالة المعنى قوله:{فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) أي: بسيئاتهم، ولا يصح أن يكون التقدير: سيئاتهم بحسنات، فتكون السيئات هي البدل، والحسنات هي المبدل، لأن ذلك لا يترتب على قوله: إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً} (مريم: 60) فإن الله شديد العقاب} خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط، تقديره: فإن الله شديد العقاب له، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب الكوفيين، فيغني عن الربط لقيامها مقام الضمير، والأَوْلى أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة ما بعده عليه، التقدير: يعاقبه.

ص: 437

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا} وقراءة الجمهور: زين، على بناء الفعل للمفعول، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث، وقرأ ابن أبي عبلة: زينت، بالتاء وتوجيهها ظاهر، لأن المسند إليه الفعل مؤنث، وحذف الفاعل لفهم المعنى، وهو: الله تعالى، يؤيد ذلك قراءة مجاهد، وحميد بن قيس، وأبي حيوة: زين، على البناء للفاعل، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، إذ قبله:{فإن الله شديد العقاب} .

{وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ} وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله: زين، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل، لأنه كان يلزم اتحاد الزمان، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا، فليس أمراً متجدّداً، وصدرت الثانية بالمضارع، لأنها حالة تتجدّد كل وقت وقيل: هو على الاستئناف أي: الفعل المضارع، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمار هم التقدير: وهم يسخرون، فيكون خبر مبتدأ محذوف، ويصير من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية.

{وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ} فوق: ظرف مكان، فقيل: هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة.

وانتصاب: يوم القيامة، على الظرف، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبراً، أي: كائنون هم يوم القيامة، ولما فهموا من فوق أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه، وبين من تضاف هي إليه، كقولك: زيد فوق عمرو في المنزل، حتى كأنه قيل: زيد أعلى من عمرو في المنزلة، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه، قال ابن عطية: وهذا كله من التحميلات، حفظ لمذهب سيبويه، والخليل، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك. إنتهى كلامه.

ص: 438

وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل، فالبصريون يمنعون: زيد أحسن أخوته، والكوفيون يجيزونه، وأما أن ذلك في: فوق، فلا نعلمه، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى، وأعلى أفعل تفضيل، نقل الخلاف إليها، والذي نقوله: إن فوق لا تقتضي التشريك في التفضيل، وإنما تدل على مطلق العلوّ، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علوّ، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية، وإنما هي تدل على مطلقها، ولا نقول: إنها مرادفة لأسفل، لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بمن، كقوله: الركب أسفل منكم، كما أن أعلى كذلك.

{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ومفعول يشاء محذوف، التقدير: من يشاء أن يرزقه، دل عليه ما قبله، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها: الفعل، والفاعل، والمفعول الأول وهو: من، فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر، وإن كان للفاعل فهو من صفاته، أو للمفعول فهو من صفاته، فإذا كان للفعل كان المعنى: يرزق من يشاء رزقاً غير حساب، أي: غير ذي حساب، ويعني بالحساب: العد، فهو لا يحصي ولا يحصر من كثرته، أو يعني به المحاسبة في الآخرة، أي: رزقاً لا يقع عليه حساب في الآخرة، وتكون على هذا الباء زائدة.

وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال: المعنى يرزق الله غير محاسب عليه، أي متفضلاً في إعطائه لا يحاسب عليه، أو غير عادٍ عليه ما يعطيه، ويكون ذلك مجازاً عن التقتير والتضييق، فيكون: حساب مصدراً عبر به عن اسم الفاعل من: حاسب، أو عن اسم الفاعل من: حسب، وتكون الباء زائدة في الحال، وقد قيل: إن الباء زيدت في الحال المنفية، وهذه الحال لم يتقدمها نفي، ومما قيل: إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر:

فما رجعت بخائبة ركاب

ص: 439

حكيم بن المسيب منتهاهاأي: فما رجعت خائبة، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدراً عبر به عن اسم المفعول، أي: غير محاسب على ما يعطي تعالى، أي: لا أحد يحاسب الله تعالى على ما منح، فعطاؤه غمراً لا نهاية له.

وإذا كان: لمن، وهو المفعول الأول ليرزق، فالمعنى: إن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه الله تعالى، فيكون أيضاً حالاً منه، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب، أو المفعول من حسب، أي: غير معدود عليه ما رزق، أو على حذف مضاف أي: غير ذي حساب، ويعني بالحساب: المحاسبة أو العد، والباء زائدة في هذه الحال أيضاً. ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى: أنه يرزق من حيث لا يحتسب، أي: من حيث لا يظن، ولا يقدر أن يأتيه الرزق، كما قال:{ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 3) فيكون حالاً أيضاً أي: غير محتسب، وهذه الأوجه كلها متكلفة، وفيها زيادة الباء.

والأولى أن تكون الباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بباء الحال، وعلى هذا يصلح أن تكون: للمصدر، وللفاعل، وللمفعول، ويكون الحساب مراداً به المحاسبة، أو العد، أي: يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق، أو: ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق.

ص: 440

وكون الباء لها معنى أَوْلى من كونها زائدة، وكون المصدر باقياً على المصدرية أولى من كونه مجازاً عن اسم فاعل أو إسم مفعول وكونه مضافاً لغير أولى من جعله مضافاً لذي محذوفة، ولا تعارض بين قوله:{جزاء من ربك عطاء حساباً} (النبأ: 36) أي: محسباً أي: كافياً من: أحسبني كذا، إذا كفاك، وبغير حساب معناه العد، أو المحاسبة، أو لاختلاف متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة، فبغير حساب في التفضل المحض، وعطاءً حساباً في الجزاء المقابل للعمل، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما: فبغير حساب في الدنيا إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه، وفي الآخرة يحاسب، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به، فبغير حساب الله تعالى وهو حال منه، أي: يرزق ولا يحاسب عليه، أو ولا يعد عليه، وحساباً صفة للعطاء، فقد اختلف من جهة من قاما به، وزال بذلك التعارض.

ص: 441

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ * يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَلِدَيْنِ وَالأٌّقْرَبِينَ وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ

ص: 442

فِيهَا خَلِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

حسب: بكسر السين: يحسب، بفتحها في المضارع وكسرها، من أخوات: ظن، في طلبها إسمين: هما في مشهور قول النحاة: مبتدأ وخبر، ومعناها نسبة الخبر عن المتيقن إلى المسند إليه، وقد يأتي في المتيقن قليلاً، نحو قوله:

حسبت التقى والجود خير تجارة

رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً ومصدرها: الحسبان، ويأتي: حسب أيضاً بمعنى: احمرّ تقول: حسب الرجل يحسب، وهو أحسب، كما تقول: شقر فهو أشقر، ولحسب أحكام ذكرت في النحو.

لما: الجازمة حرف، زعموا أنه مركب من: لم وما، ولها أحكام تخالف فيها: لم، منها: أنه يجوز حذف الفعل بعدها إذا دل على حذفه المعنى، وذلك في فصيح الكلام، ومنها: أنه يجب اتصال نفيها بالحال، ومنها: أنها لا تدخل على فعل شرط ولا فعل جزاء.

زلزل: قلقل وحرّك، وهو رباعي عند المصريين: كدحرج، هذا النوع من الرباعي فيه خلاف للكوفيين والزجاج مذكور في النحو.

ماذا: إذا أفردت كل واحدة منهما على حالها كانت: ما يراد بها الاستفهام، وذا: للإشارة، وإن دخل التجوّز فتكون: ذا، موصولة، لمعنى: الذي، والتي، وفروعها، وتبقى ما على أصلها من الاستفهام، فتفتقر: ذا، إذ ذاك إلى صلة، وتكون مركبة مع: ما، الاستفهامية، فيصير دلالة مجموعهما دلالة: ما، الاستفهامية لو انفردت، ولهذا قالت العرب: عن ماذا تسأل؟ بإثبات ألف: ما، وقد دخل عليها حرف الجر وتكون مركبة مع: ما، الموصولة، أو: ما، النكرة الموصوفة، فتكون دلالة مجموعهما دلالة: ما الموصولة، أو الموصوفة، لو انفردت دون: ذا، والوجه الآخر هو عن الفارسي.

ص: 443

عسى: من أفعال المقاربة، وهي فعل، خلافاً لمن قال: هي حرف ولا تتصرف، ووزنها: فعل، فإذا أسندت إلى ضمير متكلم أو مخاطب مرفوع، أو نون أناث، جاز كسر سينها ويضمر فيها للغيبة نحو: عسيا وعسوا، خلافاً للرماني، ذكر الخلاف عنه ابن زياد البغدادي، ولا يخص حذف: إن، من المضارع بالشعر خلافاً لزاعم ذلك، ولها أحكام كثيرة ذكرت في علم النحو، وهي: في الرجاء تقع كثيراً، وفي الإشفاق قليلاً قال الراغب.

زال: من أخوات كان، وهي التي مضارعها: يزال، وهي من ذوات الياء، ووزنها فعل بكسر العين، ويدل على أن عينها ياء ما حكاه الكسائي في مضارعها، وهو: يزيل، ولا تستعمل إلَاّ منفية بحرف نفي، أو بليس، أو بغير أو: لا، لنهي أو دعاء.

{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وانتصاب: مبشرين ومنذرين، على الحال المقارنة.

{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ} معهم حال من الكتاب: وليس تعمل فيه أنزل، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال، وليسوا متصفين، وهي حال مقدرة أي: وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم، لكنه انتهى إليهم.

والكتاب: إما أن تكون أل فيه للجنس، وإما أن تكون للعهد على تأويل: معهم، بمعنى مع كل واحد منهم، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب، وهو التوراة. قاله الطبري، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع، وقد قيل به.

ويحتمل: بالحق، أن يكون متعلقاً: بأنزل، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل، لأنه يراد به المكتوب، أو بمحذوف، فيكون في موضع الحال من الكتاب، أي مصحوباً بالحق، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها، وهذه الجملة معطوفة على قوله:{فبعث الله} .

ص: 444

{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} اللام لام العلة، ويتعلق بأنزل، والضمير في: ليحكم، عائد على الله في قوله: فبعث الله، وهو المضمر في: أنزل، وهذا هو الظاهر، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس، وقيل: عائد على الكتاب أي: ليحكم الكتاب بين الناس، ونسبة الحكم إليه مجاز، كما أسند النطق إليه في قوله:{هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} (الجاثية: 29) وكما قال:

ضربت عليك العنكبوت نسيجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل} ولأن الكتاب هو أصل الحكم، فأسند إليه رداً للأصل، وهذا قول الجمهور، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل: النبي، قال: ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أنه يحتمل ما قاله، فيعود على أفراد الجمع، أي: ليحكم كل نبي بكتابه، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على الله تعالى، ويبين عوده على الله تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم، بالنون، وهو متعين عوده على الله تعالى، ويكون ذلك التفاتاً إذ خرج من ضمير الغائب في: أنزل، إلى ضمير المتكلم، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفاً قال: ما معناه لأن مكياً لم يحكِ عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه، وهي: ليحكم، على بناء الفعل للمفعول، ونقل مكي لنحكم بالنون.

وفي القراءة التي نقل الناس من قوله: وليحكم، حذف الفاعل للعلم به، والأولى أن يكون الله تعالى.

قالوا: ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون. وهي ظرف مكان، وهو هنا مجاز، وانتصابه بقوله: ليحكم، وفيما، متعلق به أيضاً، و: فيه، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الإتفاق.

قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد، صلى الله عليه وسلم أو دينه، أو: هما، أو: كتابه.

ص: 445

{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} الضمير من قوله: وما اختلف فيه، يعود على، ما عاد عليه في: فيه، الأولى، وقد تقدّم أنها عائدة على: ما، وشرح ما المعنى: بما، أهو الدين، أو محمد صلى الله عليه وسلم أم دينه؟ أم هما؟ أم كتابه؟

والضمير في: أوتوه، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في: فيه، وقيل: الضمير في: فيه، عائد على الكتاب، وأوتوه عائد أيضاً على الكتاب، التقدير: وما اختلف في الكتاب إلَاّ الذين أوتوه، أي: أوتوا الكتاب.

وقال الزجاج: الضمير في: فيه، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم أي: وما اختلف في النبي صلى الله عليه وسلّمإلَاّ الذين أوتوه، أي: أوتوا علم نبوّته، فعلوا ذلك للبغي، وعلى هذا يكون الكتاب: التوراة، والذين أوتوه اليهود.

وقيل: الضمير في: فيه، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما، وقيل: يعود الضمير في: فيه، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه.

وقال مقاتل: الضمير عائد على الدين، أي: وما اختلف في الدين. انتهى.

والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في: أوتوه وفيه الأولى والثانية، يعود على: ما، الموصولة في قوله: فما اختلفوا فيه، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله، بينه بما نزل في الكتاب، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله:{ليحكم} .

وانتصاب: بغياً، على أنه مفعول من أجله، و: بينهم، في موضع الصفة له، فتعلق بمحذوف، أي: كائناً بينهم، وأبعد من قال: إنه مصدر في موضع الحال، أي: باغين.

ص: 446

{إلَاّ الذين أوتوه} ، استثناء مفرغ، وهو فاعل اختلف، و:{من بعد ما جاءتهم} ، متعلق باختلف، وبغياً منصوب باختلف، هذا قول بعضهم، قال: ولا يمنع إلَاّ من ذلك، كما تقول: ما قام زيد إلَاّ يوم الجمعة. انتهى كلامه. وهذا فيه نظر، وذلك أن المعنى على الاستثناء، والمفرغ في الفاعل، وفي المجرور، وفي المفعول من أجله، إذ المعنى: وما اختلف فيه إلَاّ الذين أوتوه إلَاّ من بعد ما جاءتهم البينات إلَاّ بغياً بينهم. فكل واحد من الثلاثة محصور.

وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها، شيئان دون الأول من غير عطف، وهو لا يجوز، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوي بعدها إلَاّ، فصارت كالملفوظ بها، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل، ولذلك تأولوا قوله تعالى:{وما أرسلنا من قبلك إلَاّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر} (النحل: 43 44) على إضمار فعل التقدير: أرسلناهم بالبينات والزبر، ولم يجعلوا بالبينات متعلقاً بقوله: وما أرسلنا، لئلا يكون: إلَاّ، قد استثنى بها شيئان: أحدهما رجالاً، والآخر: بالبينات، من غير عطف.

وقد منع أبو الحسن وأبو علي: ما أخذ أحد إلَاّ زيد درهماً، وما: ضرب القوم إلَاّ بعضهم بعضاً. واختلفا في تصحيحها، فصححها أبو الحسن بأن يقدّم على المرفوع الذي بعدها، فيقول: ما أخذ أحد زيد إلَاّ درهماً، فيكون: زيد، بدلاً من أحد، ويكون: إلَاّ، قد استثني بها شيء واحد، وهو الدرهم. ويكون إلَاّ درهماً إستثناء مفرغاً من المفعول الذي حذف، ويصير المعنى: ما أخذ زيد شيئاً إلَاّ درهماً. وتصحيحها عند أبي علي بأن يزيد فيها منصوباً قبل إلَاّ فيقول: ما أخذ أحد شيئاً إلَاّ زيد درهماً. و: ما ضرب القوم أحداً إلَاّ بعضهم بعضاً، فيكون المرفوع بدلاً من المرفوع، والمنصوب بدلاً من المنصوب، هكذا خرجه بعضهم.

ص: 447

قال ابن السراح: أعطيت الناس درهماً إلَاّ عمراً جائز، ولا يجوز أعطيت الناس درهماً إلَاّ عمر الدنانير، لأن الحرف لا يستثنى به إلَاّ واحد، فإن قلت: ما أعطيت الناس درهماً إلَاّ عمراً دانقاً، على الاستثناء، لم يجز، أو على البدل جاز، فتبدل عمراً من الناس، ودانقاً من درهم، كأنك قلت: ما أعطيت إلَاّ عمراً دانقاً. ويعني: أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين.

قال بعض أصحابنا: ما قاله ابن السراح فيه ضعف، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلَاّ، فأشبه المعطوف بحرف، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلَاّ بدلان. انتهى كلامه.

وأجاز قوم أن يقع بعد إلَاّ مستثنيان دون عطف، والصحيح أنه لا يجوز، لأن إلَاّ هي من حيث المعنى معدية، ولولا إلَاّ لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها، فهي: كواو مع وكالهمزة: التي جعلت للتعدية في بنية الفعل، فكما أنه لا تعدّى: واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلَاّ بحرف عطف، فكذلك إلَاّ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق: من بعد ما جاءهم البينات، وينتصب: بغياً، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله، وتقديره: اختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات بغياً بينهم.

{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} الذين آمنوا: هم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والضمير: فيما اختلفوا، عائد على الذين أوتوه، أي لما اختلف فيه من اختلف، ومن الحق تبيين المختلف فيه، و: من، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من: ما، فتكون للتبعيض، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك، التقدير: لما اختلفوا فيه الذي هو الحق. والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام، ويدل عليه قراءة عبد الله: لما اختلفوا فيه من الإسلام.

ص: 448

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} و: أم، هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة فتتضمن إضراباً، وهو انتقال من كلام إلى كلام، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير، وهي التي عبر عنها أبو محمد بن عطية: بأن أم قد تجيء ابتداء كلام، وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة، ألف استفهام.

فقوله: قد تجيء ابتداء كلام ليس كما ذكر، لأنها تتقدّر، ببل والهمزة، فكما أن: بل، لا بد أن يتقدّمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل، فكذلك ما تضمن معناه.

وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الاستفهام، ويبتدأ بها، فهذا يقتضي أن يكون التقدير: أحسبتم؟ وقال الزجاج: بمعنى بل، قال:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها، أم أنت في العين أملح؟ ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة، فتقدير الآية: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، فصبروا على استهزاء قومهم بهم، أفتسلكون سبيلهم؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم؟

فتلخص في أم هنا أربعة أقوال: الانقطاع على أنها بمعنى بل والهمزة، والاتصال: على إضمار جملة قبلها، والاستفهام بمعنى الهمزة، والإضراب بمعنى بل؛ والصحيح هو القول الأوّل.

ومفعولا: حسبتم، سدّت أن مسدّهما على مذهب سيبويه، وأما أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأوّل، والمفعول الثاني محذوف، وقد تقدم هذا المعنى في قوله:{الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} (البقرة: 46) .

{ِوَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} الجملة حال، التقدير: غير آتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم.

و: لما، أبلغ في النفي من: لم، لأنها تدل على نفي الفعل متصلاً بزمان الحال، فهي لنفي التوقع.

ص: 449

والمثل: الشبه، إلَاّ أنه مستعار لحال غريبة، أو قضية عجيبة لها شأن، وهو على حذف مضاف، التقدير: مثل محنة الذين خلوا من قبلكم وعلى حذف موصوف تقديره: المؤمنين.

والذين خلوا من قبلكم، متعلق بخلوا، وهو كأنه توكيد، لأن الذين خلوا يقتضي التقدم.

{مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ} هذه الجملة تفسير للمثل وتبيين له، فليس لها موضع من الإعراب، وكأن قائلاً قال: ما ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء والضراء.

والمسّ هنا معناه: الإصابة، وهو حقيقة في المسّ باليد، فهو هنا مجاز.

وأجاز أبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم: مستهم، في موضع الحال على إضمار قد، وفيه بعد، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في: خلوا.

{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} وقرأ الجمهور: حتى، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية، وإما على التعليل، أي: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، أو: وزلزلوا كي يقول الرسول، والمعنى الأول أظهر، لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين.

وقرأ نافع برفع، يقول: بعد حتى، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالاً في حين الإخبار، نحو: مرض حتى لا يرجونه، وإما أن يكون حالاً قد مضت، فيحكيها على ما وقعت، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين، والمراد به هنا المضي، فيكون حالاً محكية، إذ المعنى: وزلزلوا فقال الرسول، وقد تكلمنا على مسائل: حتى، في كتاب «التكميل» وأشبعنا الكلام عليها هناك، وتقدّم الكلام عليها في هذا الكتاب.

{وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ} يحتمل معه أن يكون منصوباً بيقول، ويحتمل أن يكون منصوباً بآمنوا.

ص: 450

{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} والضمير المرفوع في: يسألونك، للمؤمنين، والكاف لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم و: ماذا، يحتمل هنا النصب والرفع، فالنصب على أن: ماذا، كلها استفهام، كأنه قال: أي شيء ينفقون؟ فماذا منصوب بينفقون، والرفع على أن: ما. وحدها هي الاستفهام، وذا موصولة بمعنى الذي، وينفقون صلة لذا، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي ينفقون به؟ فتكون: ما، مرفوعة بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبره، وعلى كلا الإعرابين فيسألونك معلق، فهو عامل في المعنى دون اللفظ، وهو في موضع المفعول الثاني ليسألونك، ونظيره ما تقدم من قوله:{سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} (البقرة: 211) على ما شرحناه هناك.

و: ماذا، سؤال عن المنفق، لا عن المصرف وكأن في الكلام حذفاً تقديره: ولمن يعطونه؟ ونظير الآية في السؤال والتعليق. قول الشاعر:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول

إلَاّ أن: ماذا، هنا مبتدأ، وخبر، ولا يجوز أن يكون مفعولاً بيحاول، لأن بعده:

أنحبُ فيُقضى، أم ضلال وباطل

ويضعف أن يكون: ماذا كله مبتدأ، و: يحاول، الخبر لضعف حذف العائد المنصوب من خبر المبتدأ دون الصلة، فإن حذفه منها فصيح، وذكر ابن عطية: أن: ماذا، إذا كانت اسماً مركباً فهي في موضع نصب، إلَاّ ما جاء من قول الشاعر:

وماذا عسى الواشون أن يتحدَّثوا

سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق فإن عسى لا تعمل في: ماذا، في موضع رفع، وهو مركب إذ لا صلة لذا. انتهى.

وإنما لم يكن: لذا، في البيت صلة لأن عسى لا تقع صلة للموصول الإسمي، فلا يجوز لذا أن تكون بمعنى الذي، وما ذكره ابن عطية من أنه إذا كانت اسماً مركبة فهي في موضع نصب، إلَاّ، في ذلك البيت لا نعرفه، بل يجوز أن نقول: ماذا محبوب لك؟ و: من ذا قائم؟ على تقدير التركيب، فكأنك قلت: ما محبوب؟ ومن قائم؟ ولا فرق بين هذا وبين من ذا تضربه؟ على تقديره: من تضربه؟ وجعل: من، مبتدأ.

ص: 451

{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} ما: في الموضعين شرطية منصوبة بالفعل بعدها، ويجوز أن تكون: ما، من قوله:{قل ما أنفقتم} موصولاً، وأنفقتم، صلة، و: للوالدين، خبر، فالجار والمجرور في موضع المفرد، أو في موضع الجملة على الخلاف الذي في الجار والمجرور الواقع خبراً، أو هو معمول لمفرد، أو لجملة.

وإذا كانت: ما، في: ما أنفقتم، شرطية، فهذا الجار والمجرور في موضع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو أو فمصرفه للوالدين.

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وقرأ الجمهور: كتب، مبنياً للمفعول على النمط الذي تقدّم قبل هذا من لفظ: كتب، وقرأ قوم: كتب مبنياً للفاعل، وينصب القتال، والفاعل ضمير في كتب يعود على اسم الله تعالى.

{وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} والظاهر عود: هو، على القتال، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من: كتب، أي: وكتبه وفرضه شاق عليكم، والجملة حال، أي: وهو مكروه لكم بالطبيعة، أو مكروه قبل ورود الأمر.

{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} . عسى هنا للإشفاق لا للترجي، ومجيئها للإشفاق قليل، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر، ولو كانت ناقصة لكانت مثل قوله تعالى:{فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا} (محمد: 22) فقوله: أن تكرهوا، في موضع رفع بعسى، وزعم الحوفي في أنه في موضع نصب، ولا يمكن إلَاّ بتكلف بعيد، واندرج في قوله: شيئاً القتال، لأنه مكروه بالطبع لما فيه من التعرض للأسر والقتل، وإفناء الأبدان، وإتلاف الأموال. والخير الذي فيه هو الظفر. والغنيمة بالاستيلاء على النفوس، والأموال أسراً وقتلاً ونهباً وفتحاً، وأعظمها الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله مراراً.

ص: 452

والجملة من قوله: وهو خير لكم، حال من قوله: شيئاً، وهو نكرة، والحال من النكرة أقل من الحال من المعرفة، وجوّزوا أن تكون الجملة في موضع الصفة، قالوا: وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها، إذ كانت حالاً. انتهى. وهو ضعيف، لأن الواو في النعوت إنما تكون للعطف في نحو: مررت برجل عالم وكريم، وهنا لم يتقدم ما يعطف عليه، ودعوى زيادة الواو بعيدة، فلا يجوز أن تقع الجملة صفة.

{وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} عسى هنا للترجي، ومجيئها له هو الكثير في لسان العرب، وقالوا: كل عسى في القرآن للتحقيق، يعنون به الوقوع إلَاّ قوله تعالى:{عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً} (التحريم: 5) .

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} وضمير الفاعل في يسألونك، قيل: يعود على المشركين، سألوا تعييباً لهتك حرمة الشهداء، وقصداً للفتك، وقيل: يعود على المؤمنين، سألوا استعظاماً لما صدر من ابن جحش واستيضاحاً للحكم.

وقرأ الجمهور: قتال فيه، بالكسر وهو بدل من الشهر، بدل اشتمال. وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير، وهو معنى قول الفراء، لأنه قال: مخفوض بعن مضمرة، ولا يجعل هذا خلافاً كما يجعله بعضهم، لأن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي، والفراء.

لا فرق بين هذه الأقوال، هي كلها ترجع لمعنى واحد.

ص: 453

وقال أبو عبيدة: قتال فيه، خفض على الجوار، قال ابن عطية: هذا خطأ. إنتهى. فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة، فهو كما قال ابن عطية: وجه الخطاً فيه هو أن يكون تابعاً لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعاً من حيث المعنى، وهنا لم يتقدّم لا مرفوع، ولا منصوب، فيكون: قتال، تابعاً له، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض، فخفضه بكونه جاور مخفوضاً أي: صار تابعاً له، ولا نعني به المصطلح عليه، جاز ذلك ولم يكن خطأ، وكان موافقاً لقول الجمهور، إلَاّ أنه أغمض في العبارة، وألبس في المصطلح.

وقرأ ابن عباس، والربيع، والأعمش: عن قتال فيه، بإظهار: عن، وهكذا هو في مصحف عبد الله.

وقرىء شاذاً: قتال فيه، بالرفع، وقرأ عكرمة: قتل فيه قل قتل فيه، بغير ألف فيهما.

ووجه الرفع في قراءة: قتال فيه، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ، وسوغ جواز الإبتداء فيه، وهو نكرة، لنية همزة الاستفهام، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من: الشهر الحرام، لأن: سأل، قد أخذ مفعوليه، فلا يكون في موضع المفعول، وإن كانت هي محط السؤال، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره: أجائز قتال فيه؟ قيل: ونظير هذا، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام، إنما سألوا: أيجوز القتال في الشهر الحرام؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه.

ص: 454

{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} هذه الجملة مبتدأ وخبر، و: قتال، نكرة، وسوغ الابتداء بها كونها وصفت بالجار والمجرور، وهكذا قالوا، ويجوز أن يكون: فيه، معمولاً لقتال، فلا يكون في موضع الصفة، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضاً لجواز الابتداء بالنكرة، وحدّ الاسم إذا تقدّم نكرة، وكان إياها، أن يعود معرفاً بالألف واللام، تقول: لقيت رجلاً فضربت الرجل، كما قال تعالى:{كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل: 16) قيل: وإنما لم يعد بالألف واللام هنا لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسؤول عنه. حتى يعاد بالألف واللام، بل المراد تعظيم: أي قتال كان في الشهر الحرام، فعلى هذا: قتال الثاني، غير الأوّل انتهى.

وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم، إذ كانت النكرة السابقة، بل هي فيه للعهد السابق، وقيل: في «المنتخب» : إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى.

{وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} هذه جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى: {فيه كبير} ، وكلا الجملتين مقولة، أي: قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير، وقل لهم: صدّ عن كذا إلى آخره، أكبر من القتال، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من القول، بل إخبار مجرد عن أن الصدّ عن سبيل الله، وكذا وكذا، أكبر.

وتقدّم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر، فالمبتدأ: صدّ، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور، فساغ الابتداء، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما، أي: وصدّكم المسلمين عن سبيل الله.

و: {كفر به} ، معطوف على: وصدّ، وهو أيضاً مصدر لازم حذف فاعله، تقديره: وكفركم به، والضمير في: به، يعود على السبيل لأنه هو المحدّث عنه بأنه صدّ عنه.

ص: 455

وقرىء شاذاً {والمسجدُ الحرام} بالرفع، ووجهه أنه عطفه على قوله:{وكفر به} ، ويكون على حذف مضاف، أي: وكفر بالمسجد الحرام، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها، فنقول: اختلفوا فيما عطف عليه {والمسجد} ، فقال ابن عطية، والزمخشري، وتبعا في ذلك المبرد: هو معطوف على: سبيل الله، قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفاً على: سبيل الله، كان متعلقاً بقوله: وصدّ إذ التقدير: وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فهو من تمام عمل المصدر، وقد فصل بينهما بقوله: وكفر به، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول، وقيل: معطوف على الشهر الحرام، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام، إذ لم يشكوا في تعظيمه، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله، فخافوا من الإثم. وكان المشركون عيروهم بذلك، انتهى.

ويحتمل أن يكون: وصد، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر: قتال، عليه، التقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به كبير، كما تقول: زيد قائم وعمرو، أي: وعمرو قائم، وأجيبوا بأن: القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه، وكونه معطوفاً على الشهر الحرام متكلف جداً، ويبعد عنه نظم القرآن، والتركيب الفصيح، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر، تقديره: ويصدون عن المسجد الحرام، كما قال تعالى:{هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام} (الفتح: 25) قال بعضهم: وهذا هو الجيد، يعنى من التخاريج التي يخرج عليه، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر، وهو لا يجوز في مثل هذا إلَاّ في الضرورة، نحو قوله:

أشارت كليب بالأكف الأصابع

ص: 456

أي: إلى كليب، وقيل: هو معطوف على الضمير في قوله: وكفر به، أي: وبالمسجد الحرام، قاله الفراء، ورد بأن هذا لا يجوز إلَاّ بإعادة الجار، وذلك على مذهب البصريين.

والذي نختاره أنه يجوز ذلك في الكلام مطلقاً، لأن السماع يعضده، والقياس يقويه. أما السماع فما روي من قول العرب: ما فيها غيره وفرسه، بجر الفرس عطفاً على الضمير في غيره، والتقدير: ما فيها غيره وغير فرسه، والقراءة الثانية في السبعة:{تساءلون به والأرحام} (النساء: 1) أي: وبالأرحام وتأويلها على غير العطف على الضمير، مما يخرج الكلام عن الفصاحة، فلا يلتفت إلى التأويل. قرأها كذلك ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والنخعي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وأبي رزين، وحمزة.

ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ذلك ضرورة، فمنه قول الشاعر:

نعلق في مثل السواري سيوفنا

فما بينها والأرض غوط نفانف

وقال آخر:

هلا سألت بذي الجماجم عنهم

وأبي نعيم ذي اللواء المحرق

وقال آخر:

بنا أبداً لا غيرنا يدرك المنى

وتكشف غماء الخطوب الفوادح

وقال آخر:

إذا أوقدوا ناراً لحرب عدوهم

فقد خاب من يصلى بها وسعيرها

وقال آخر:

لو كان لي وزهير ثالث وردت

من الحمام عدانا شر مورود

وقال رجل من طيّئ:

إذا بنا، بل أنيسان، اتّقت فئة

ظلت مؤمنة ممن تعاديها

وقال العباس بن مرادس:

أكر على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها

وأنشد سيبويه رحمه الله:

فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب

وقال آخر:

أبك آية بي أو مصدّر

ص: 457

من حمر الجلة جأب جسور فأنت ترى هذا السماع وكثرته، وتصرّف العرب في حرف العطف، فتارة عطفت بالواو، وتارة بأو، وتارة ببل، وتارة بأم، وتارة بلا، وكل هذا التصرف يدل على الجواز، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله تعالى:{وعليها وعلى الفلك تحملون} (المؤمنون: 12) فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً} (فصلت: 11) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب} (الأنعام: 164) وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله: ومن لستم له برازقين} (الحجر: 20) عطفاً على قوله: لكم فيها معايش} (الأعراف: 10)(الحجر: 20) أي: ولمن. وقوله: وما يتلى عليكم} عطفاً على الضمير في قوله: فيهنّ، أي: وفيما يتلى عليكم.

وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة من غير إعادة جار، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلَاّ مع الإعادة لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه، وإذا تقرّر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها، كأن يخرج عطف: والمسجد الحرام، على الضمير في: به، أرجح، بل هو متعين، لأن وصف الكلام، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك.

ص: 458

{وإخراج أهله} ، معطوف على المصدر قبله، وهو مصدر مضاف للمفعول، التقدير: وإخراجكم أهله، والضمير في: أهله، عائد على: المسجد الحرام، وجعل، المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة، ولم يجعل المقيمين من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول، كما قال تعالى:{وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلَاّ المتقون} (الأنفال: 34) و: منه، متعلق بإخراج، والضمير في: منه، عائد على المسجد الحرام، وقيل: عائد على: سبيل الله، وهو الإسلام، والأول أظهر. و: أكبر، خبر عن المبتدأ الذي هو: وصد، وما عطف عليه، ويحتمل أن يكون خبراً عن المجموع، ويحتمل أن يكون خبراً عنها باعتبار كل واحد واحد، كما تقول: زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد، نزيد: كل واحد منهم أفضل من خالد، وهذا الظاهر لا المجموع، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل: بمن، الداخلة على المفضول في التقدير، وتقديره: أكبر من القتال في الشهر الحرام، فحذف للعلم به.

وقيل: وصد مبتدأ. و: كفر، معطوف عليه، وخبرهما محذوف لدلالة خبر: وإخراج، عليه. والتقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر، ولا يجتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون: أكبر، خبراً عن الثلاثة.

و {عند الله} ، منصوب بأكبر، ولا يراد: بعند، المكان بل ذلك مجاز.

وذكر ابن عطية، والسجاوندي عن الفراء أنه قال: وصد عطف على كبير، قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: وكفر به، عطف أيضاً على كبير، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بيِّن فساده. انتهى كلام ابن عطية، وليس كما ذكر، ولا يتعين ما قاله من أن: وكفر به، عطف على كبير، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله: وصد عن سبيل الله، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين. أحدهما: أنه كبير، والثاني: أنه صد عن سبيل الله.

ص: 459

{وَلَا يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} الضمير في: يزالون، للكفار، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله: يسألونك، هو الكفار، والضمير المنصوب في: يقاتلونكم، خوطب به المؤمنون.

و: {حتى يردوكم} ، يحتمل الغاية، ويحتمل التعليل، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين: بيقاتلونكم، وقال ابن عطية: ويردوكم، نصب بحتى لأنها غاية مجردة، وقال الزمخشري: وحتى، معناها التعليل، كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة، أي: يقاتلونكم كي يردوكم. انتهى. وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين، وهو: المقاتلة، ذكر لها علة توجيهاً، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل، وذلك بخلاف الغاية، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه، فزمان وجوده مقيد بغايته، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية.

و: {عن دينكم} ، متعلق: بيردوكم، والدين هنا الإسلام، و: إن استطاعوا، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله، التقدير: إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم، ومن جوّز تقديم جواب الشرط، قال: ولا يزالون، هو الجواب.

وقال الزمخشري: إن استطاعوا، استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبقِ عليّ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. انتهى قوله: ولا بأس به.

{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ} ارتد: افتعل من الرد، وهو الرجوع، كما قال تعالى:{فارتدا على آثارهما قصصاً} (الكهف: 64) وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين، إذا كانت عنده، بمعنى: صير وجعل، من ذلك قوله: فارتد بصيراً} (يوسف: 96) أي: صار بصيراً.k

ص: 460

و: منكم، في موضع الحال من الضمير المستكن في: يرتدد، العائد على: من، و: من، للتبعيض، و: عن دينه، متعلق بيرتدد.

والجملة من قوله: وهو كافر، في موضع الحال من الضمير المستكن في: فيمت، وكأنها حال مؤكدة، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد. وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد، إذ تكرر الضمير فيها مرتين، بخلاف المفرد، فإنه فيه ضمير واحد.

{وَأُوْلئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} تقدّم تفسير هذه الجملة، فأغنى عن إعادته، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتداء إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية، ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله:{فأولئك حبطت أعمالهم} فتكون داخلة في الجزاء، لأن المعطوف على الجزاء جزاء، وهذا الوجه أولى، لأن القرب مرجح، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال.

{إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد. وأتى خبر: أن، جملة مصدرية.

ص: 461

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَمَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَا تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأًّنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .

أنى: اسم ويستعمل شرطاً ظرف مكان، ويأتي ظرف زمان بمعنى: متى واستفهاماً بمعنى: كيف، وهي مبنية لتضمن معنى حرف الشرط، وحرف الاستفهام، وهو في موضع نصب لا يتصرف فيه بغير ذلك البتة.

ص: 462

{وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وقرأ الجمهور: العفو، بالنصب وهو منصوب بفعل مضمر تقديره: قل ينفقون العفو، وعلى هذا الأولى في قوله: ماذا ينفقون؟ أن يكون ماذا في موضع نصب ينفقون، ويكون كلها استفهامية، التقدير: أي شيء ينفقون؟ فاجيبوا بالنصب ليطابق الجواب السؤال.

ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا موصولة بمعنى الذي، وهي خبره، ولا يكون إذ ذاك الجواب مطابقاً للسؤال من حيث اللفظ، بل من حيث المعنى، ويكون العائد على الموصول محذوفاً لوجود شرط الحذف فيه، تقديره: ما الذي ينفقونه؟.

وقرأ أبو عمرو: قل العفو، بالرفع، والأولى إذ ذاك أن تكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: قل المنفق العفو، وأن يكون: ما، في موضع رفع بالابتداء، و: ذا، موصول، كما قررناه ليطابق الجواب السؤال، ويجوز أن يكون ماذا كله استفهاماً منصوباً بينفقون، وتكون المطابقة من حيث المعنى لا من جهة اللفظ، واختلف عن ابن كثير في العفو، فروي عنه النصب كالجمهور، والرفع كأبي عمرو.

وقال ابن عطية، وقد ذكر القراءتين في العفو ما نصّه: وهذا متركب على: ما، فمن جعل ما ابتداء، وذا خبره بمعنى الذي، وقدّر الضمير في ينفقونه عائداً قرأ العفو بالرفع لتصح مناسبة الحمل، ورفعه على الابتداء تقديره: العفو إنفاقكم، أو الذي ينفقون العفو، ومن جعل ماذا إسماً واحداً مفعولاً: ينفقون، قرأ العفو بالنصب بإضمار فعل، وصح له التناسب، ورفع العفو مع نصب: ما، جائز ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها. انتهى كلامه. وتقديره: العفو إنفاقكم، ليس بجيد، لأنه أتى بالمصدر، وليس السؤال عن المصدر، وقوله: جائز، ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها ليس كما ذكر، بل هو جائز، وليس بضعيف.

ص: 463

{كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَمَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ} الكاف للتشبيه وهي في موضع نعت لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه، أي: تبييناً مثل ذلك يبين، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه، أي: يبين التبيين مماثلاً لذلك التبيين، واسم الاشارة الأقرب أن يعود إلى الأقرب من تبينه حال المنفق، قاله ابن الأنباري، وقال الزمخشري: ما يؤول إليه وهو تبيين أن العفو أصلح من الجهد في النفقة. أو حكم الخمر والميسر، والإنفاق القريب أي: مثل ما يبين في هذا يبين في المستقبل.

وكاف الخطاب إما أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم أو للسامع أو للقبيل، فلذلك أفرد أو للجماعة المؤمنين فيكون بمعنى: كذلكم، وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد، وذلك في إسم الإشارة، ويؤيد هذا هنا قوله:{يبين لكم} فأتى بضمير الجمع فدل على أن الخطاب للجمع.

{لكم} متعلق: بيبين، واللام فيها للتبليغ، كقولك: قلت لك، ويبعد فيها التعليل.

{فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ} وجوّزوا أن يكون، في الدنيا، متعلقاً بقوله: يبين لكم الآيات، لا: بتتفكرون، ويتعلق بلفظ: يبين، أي: يبين الله في الدنيا والآخرة. وروي هذا عن الحسن.

ولا بد من تأويل على هذا إن كان التبيين للآيات يقع في الدنيا، فيكون التقدير في أمر الدنيا والآخرة، وإن كان يقع فيهما، فلا يحتاج إلى تأويل، لأن الآيات، وهي: العلامات يظهرها الله تعالى في الدنيا والآخرة.

ص: 464

وجعل بعضهم هذا القول من باب التقديم والتأخير، إذ تقديره عنده: كذلك يبيّن الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلّكم تتفكرون. وقال: ويمكن الحمل على ظاهر الكلام لتعلق: في الدنيا والآخرة، بتتفكرون، ففرض التقديم والتأخير، على ما قاله الحسن، يكون عدولاً عن الظاهر لا الدليل، وإنه لا يجوز، وليس هذا من باب التقديم والتأخير، لأن: لعل، هنا جارية مجرى التعليل، فهي كالمتعلقة: بيبين، وإذا كانت كذلك فهي والظرف من مطلوب: يبين، وتقدّم أحد المطلوبين، وتأخر الآخر، لا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير.

ويحتمل أن تكون: لعلكم تتفكرون، جملة اعتراضية، فلا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير، لأن شرط جملة الإعتراض أن تكون فاصلة بين متقاضيين.

قال ابن عطية، وقال مكي: معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة، يدل عليهما وعلى منزلتهما، لعلكم تتفكرون في تلك الآيات. قال ابن عطية: فقوله: في الدنيا، متعلق على هذا التأويل: بالآيات، انتهى كلامه. وشرح مكي الآية بأن جعل الآيات منكرة، حتى يجعل الظرفين صفة للآيات، والمعنى عنده: آيات كائنة في الدنيا والآخرة، وهو شرح معنى لا شرح إعراب، وما ذكره ابن عطية من أنه متعلق على هذا التأويل بالآيات؛ إن عنى ظاهر ما يريده النحاة بالتعلق فهو فاسد، لأن الآيات لا يتعلق بها جار ومجرور، ولا تعمل في شيء البتة، وإن عنى أنه يكون الظرف من تمام الآيات، وذلك لا يتأتى إلَاّ باعتقاد أن تكون في موضع الحال، أي: كائنة في الدنيا والآخرة، ولذلك فسره مكي بما يقتضي أن تكون صفة، إذ قدّر الآيات منكرة، والحال والصفة سواء في أن العامل فيهما محذوف إذا كانا ظرفين أو مجرورين، فعلى هذا تكون: في الدنيا، متعلقاً بمحذوف لا بالآيات، وعلى رأي الكوفيين، تكون الآيات موصولاً وصل بالظرف؛ ولتقرير مذهبهم ورده موضع غير هذا.

ص: 465

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَمَى} : والظاهر أن السائل جمع الإثنين بواو الجمع وهي للجمع به وقيل به.

{قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} وإصلاح: مبتدأ وهو نكرة، ومسوغ جواز الإبتداء بالنكرة هنا هو التقييد بالمجرور الذي هو: لهم، فإما أن يكون على سبيل الوصف، أو على سبيل المعمول للمصدر، و: خير، خبر عن إصلاح، وإصلاح كما ذكرنا مصدر حذف فاعله، فيكون: خير، شاملاً للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول، فتكون الخيرية للجانبين معاً، أي إن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح والمصلح، فيتناول حال اليتيم، والكفيل، وقيل: خير للولي، والمعنى: إصلاحه من غير عوض ولا أجرة خير له وأعظم أجراً، وقيل: خير، عائد لليتيم، أي: إصلاح الولي لليتيم، ومخالطته له، خير لليتيم من إعراض الولي عنه، وتفرده عنه، ولفظ: خير، مطلق فتخصيصه بأحد الجانبين يحتاج إلى مرجح، والحمل على الإطلاق أحسن.

{وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ} وجواب الشرط فإخوانكم، وهو خبر مبتدأ محذوف أي: فهم إخوانكم، وقرأ أبو مجلز: فإخوانكم على إضمار فعل التقدير: فتخالطون إخوانكم، وجاء جواب السؤال بجملتين: إحداهما: منعقدة من مبتدأ وخبر؛ والثانية: من شرط وجزاء.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ومن، متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدّى بمن، كأن المعنى: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح.

وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد، أي: المفسد في مال اليتيم من المصلح فيه، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب.

ص: 466

{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} ومفعول: شاء، محذوف لدلالة الجواب عليه، التقدير: ولو شاء الله إعناتكم، واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه، وقرأ الجمهور لأعنتكم بتخفيف الهمزة، وهو الأصل، وقرأ البزي من طريق أبي ربيعة «بتليين الهمزة» وقرىء بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام كقراءة من قرأ: فلا ثم عليه، بطرح الهمزة.

{وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} وأمة: مبتدأ، ومسوّغ جواز الابتداء الوصف، و: خير، خبر. وقد استدل بقوله: خير، على جواز نكاح المشركة لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك، ويكون النهي أوّلاً على سبيل الكراهة، قالوا: والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين، ولا حجة في ذلك، لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد. لا على سبيل الوجود، ومنه:{أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} (الفرقان: 24) و: العسل أحلى من الخل؛ وقال عمر، في رسالته لأبي موسى: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية فقد اشترك النفعان في مطلق النفع أصلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى، فالحكم بهذا النفع الدنيوي لا يقتضي التسويغ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع، ولا يقتضي ذلك الإباحة، وما من شيء محرم إلَاّ يكاد يكون فيه نفع مّا.

وهذه التأويلات في أفعل التفضيل هو على مذهب سيبويه والبصريين في أن لفظة: أفعل، التي للتفضيل، لا تصح حيث لا اشتراك، كقولك: الثلج أبرد من النار، والنور أضوء من الظلمة؛ وقال الفراء وجماعة من الكوفيين: يصح حيث الاشتراك، وحيث لا يكون اشتراك؛ وقال ابراهيم بن عرفة: لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجاباً باللأوّل، ونفياً عن الثاني، فعلى قول هو لا يصح أن لا يكون خير في المشركة وإنما هو في الأمة المؤمنة.

ص: 467

{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} لو: هذه بمعنى إن الشرطية، نحو:«ردّوا السائل ولو بظلف شاة محرق» . والواو في: ولو، للعطف على حال محذوفة، التقدير: خير من مشركة على كل حال، ولو في هذه الحال، وقد ذكرنا أن هذا يكون لاستقصاء الأحوال، وأن ما بعد لو هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه مّا، فالإعجاب منافٍ لحكم الخيرية.

{وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ} القراءة بضم التاء إجماع من القراء، والخطاب للأولياء، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: ولا تنكحوا المشركين المؤمنات.

{أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} و: إلى، متعلق بيدعون كقوله:{والله يدعو إلى دار السلام} (يونس: 25) ويتعدى أيضاً باللام، كقوله:

دعوت لما نابني مسوراً

ومفعول يدعون محذوف: إما اقتصاراً إذ المقصود إثبات أن من شأنهم الدعاء إلى النار من غير ملاحظة مفعول خاص، وإما اختصاراً، فالمعنى: أولئك يدعونكم إلى النار.

{وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} وقرأ الجمهور: والمغفرة، بالخفض عطفاً على الجنة.

وقرأ الحسن: والمغفرة، بالرفع على الابتداء، والخبر: قوله: {بإذنه} أي: والمغفرة حاصلة بتيسيره وتسويفه، وتقدم الإذن، وعلى قراآت الجمهور يكون بإذنه متعلقاً بقوله: يدعو.

و: للناس، متعلق: بيبين، و: اللام، معناها الوصول والتبليغ، وهو أحد معانيها المذكورة في أول الفاتحة.

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} والضمير في: ويسألونك، ضمير جمع، فالظاهر أن السائل عن ذلك هو ما يصدق عليه الجمع، لا اثنان ولا واحد، وجاء: ويسألونك، هنا وقبله في {ويسألونك عن اليتامى} وقبله {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} بالواو العاطفة على {يسألونك عن الخمر والميسر} قيل: لأن السؤال عن الثلاثة في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: جمعوا لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا وكذا.

ص: 468

وقيل هذه سؤالات ثلاثة بغير واو {يسألونك عن الأهلة} (البقرة: 189) يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم} (البقرة: 215) يسألونك عن الشهر الحرام} (البقرة: 217) وثلاثة: يسألونك عن الخمر} قيل إنها جاءت بغير واو العطف لأن سؤالهم عن تلك الحوادث وقع في أوقات متباينة متفرّقة، فلم يؤت فيها بحرف العطف، لأن كلاًّ منها سؤال مبتدأ. انتهى.

والخطاب في: ويسألونك، وفي: قل للنبي صلى الله عليه وسلم والضمير في: هو، عائد على المحيض.

{من حيث أمركم الله} حيث: ظرف مكان.

{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ونساؤكم: مبتدأ، وحرث لكم: خبر، إما على حذف أداة التشبيه، أي: كحرث لكم ويكون نساؤكم على حذف مضاف، أي: وطء نسائكم كالحرث لكم، شبه الجماع بالحرث، إذ النطفة كالبذر، والرحم كالأرض، والولد كالنبات، وقيل: هو على حذف مضاف أي: موضع حرث لكم، وهذه الكناية في النكاح من بديع كنايات القرآن، قالوا: وهو مثل قوله تعالى: {يأكل الطعام} (الفرقان: 7) ومثل قوله: وأرضاً لم تطؤوها} (الأحزاب: 27) على قول من فسره بالنساء، ويحتمل أن يكون: حرث لكم، بمعنى: محروثه لكم، فيكون من باب إطلاق المصدر، ويراد به اسم المفعول.

{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وأنى بمعنى متى؟ قاله الضحاك، فيكون إذ ذاك ظرف زمان.

وقد فسر الناس أنَّى في هذه الآية بهذه الألفاظ، وفسرها سيبويه بكيف، ومن أين باجتماعهما؟ وقال النحويون: أنَّى، لتعميم الأحوال، وقد تأتي: أنى، بمعنى: متى، وبمعنى: أين، وتكون استفهاماً وشرطاً، وجعلوها في الشرطية ظرف مكان فقط.

ص: 469

قالوا والعامل في أنَّى فأتوا، وهذا الذي قالوه لا يصح، لأنا قد ذكرنا أنها تكون استفهاماً أو شرطاً، لا جائز أن تكون هنا شرطاً، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان، فيكون ذلك مبيحاً لإتيان النساء في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما قبله، لأنه معمول لفعل الشرط، كما أن فعل الشرط معمول له، ولا جائز أن يكون استفهاماً، لأنها إذا كانت استفهاماً اكتفت بما بعدها من فعل كقوله {أنَّى يكون لي ولد} (آل عمران: 47) ومن اسم كقوله: أنَّى لك هذا} (آل عمران: 37) ولا يفتقر إلى غير ذلك، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها.

وعلى تقدير أن يكون استفهاماً لا يعمل فيها ما قبلها، وأنها تكون معمولة للفعل بعدها، فتبين على وجهي: أنَّى، أنها لا تكون معمولة لما قبلها، وهذا من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر.

والذي يظهر، والله أعلم، أنها تكون شرطاً لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها، وتكون قد جعلت فيها الأحوال. كجعل الظروف المكانية، وأجريت مجراها تشبيهاً للحال بالظرف المكاني، وقد جاء نظير ذلك في لفظ: كيف، خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم: كيف تكون أكون، وقال تعالى:{بل يداه مبسوطتاه ينفق كيف يشاء} (المائدة: 64) فلا يجوز أن تكون هنا استفهاماً، وإنما لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف، ويدل عليه ما قبله، تقديره: أنى شئتم فأتوه، وكيف يشاء ينفق، كما حذف جواب الشرط في قولك: أضرب زيداً أنى لقتيه، التقدير أنى لقيته فاضربه.

فإن قلت: قد أخرجت: أنَّى، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل: كيف، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط، فهل الفعل الماضي الذي هو: شئتم، في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفاً؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد: كيف، في قولهم: كيف تصنع أصنع؟.

ص: 470

فالجواب أنه يحتمل الأمرين، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم بها إذا كانت ظرفاً صريحاً، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف، وبينهما علاقة واضحة، إذ كل منهما على معنى: في، بخلاف: كيف، فإنه لم يستقر فيها الجزم ومن أجاز الجزم بها، فإنما قاله بالقياس، والمحفوظ عن العرب الرفع في الفعل بعدها، حيث يقتضي جملة أخرى.

{وَقَدِّمُواْ لأًّنفُسِكُمْ} مفعول قدّموا محذوف، فقيل: التقدير ذكر الله عند القربان، أو: طلب الولد والإفراط شفعاء، قاله ابن عباس، أو: الخير، قاله السدي، أو: قدم صدق، قاله ابن كيسان، أو: الأجر في تجنب ما نهيتم وامتثال ما أمرتم به، قاله ابن عطية، أو: ذكر الله على الجماع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره» . أو التسمية على الوطء، حكاه الزمخشري. أو: ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وهو خلاف ما نهيتكم عنه، قاله الزمخشري، وهو قول مركب من قول: من قبله.

والذي يظهر أن المعنى: وقدّموا لأنفسكم طاعة الله، وامتثاله ما أمر، واجتناب ما نهى عنه لأنه تقدّم أمر ونهي، وهو الخير الذي ذكره في قوله:{وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} ولذلك جاء بعده {واتقوا الله} أي: اتقو الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وهو تحذير لهم من المخالفة، ولأن العظيم الذي تقدّم يحتاج إلى أن يقدّم معك ما تقدّم به عليه مما لا تفتضح به عنده، وهو العمل الصالح.

ص: 471

{وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَقُوهُ} الظاهر أن الضمير المجرور في: ملاقوه، عائد على الله تعالى، وتكون على حذف مضاف، أي: ملاقو جزائه على أفعالكم، ويجوز أن يعود على المفعول المحذوف الذي لقوله: وقدّموا، أي: واعلموا أنكم ملاقو ما قدّمتم من الخير والطاعة، وهو على حذف مضاف أيضاً، أي: ملاقوا جزائه، ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول قدموا المحذوف، وفي ذلك رد على من ينكر البعث والحساب والمعاد، سواء عاد على الله تعالى أو على معمول قدّموا، أو على الجزاء.

ص: 472

{وَلَا تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأًّيْمَنِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لَاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَنِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ * الطَّلَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَنٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَاّ أَن يَخَافَآ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ}

وتستعمل: اليمين، للجهة التي تكون للعضو المسمى باليمين، فتنصب على الظرف، تقول: زيد يمين عمرو.

{وَلَا تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأًّيْمَنِكُمْ} {لأيمانكم} تحتمل اللام أن تكون متعلقة، بعرضة، فتكون كالمقوية للتعدي، أو معداً ومرصداً لأيمانكم، ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله: {ولا تجعلوا فتكون للتعليل، أي: لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم.

ص: 473

{أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} قال الزجاج، وتبعه التبريزي: أن تبروا، في موضع رفع بالابتداء، وقدر التبريزي خبر المبتدأ المحذوف بأن المعنى: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس خير لكم من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، وهذا الذي ذهب إليه الزجاج والتبريزي ضعيف، لأن فيه اقتطاع: أن تبروا، مما قبله، والظلم هو اتصاله به، ولأن فيه حذفاً لا دليل عليه وقال الزمخشري: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، عطف بيان لأيمانكم، أي للأمور المحلوف عليها التي هي: البر والتقوى والإصلاح بين الناس. إنتهى كلامه وهو ضعيف، لأن فيه مخالفة للظاهر، لأن الظاهر من الأيمان هي الأقسام، والبر والتقوى والإصلاح هي المقسم عليها، فهما متباينان، فلا يجوز أن يكون عطف بيان على الإيمان، لكنه لما تأول الأيمان على أنها المحلوف عليها، ساغ له ذلك، وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الأيمان بالأشياء المحلوف عليها، وعلى مذهبه تكون: أن تبروا، في موضع جر، ولو ادعى أن يكون: أن تبروا، وما بعده بدلاً من: أيمانكم، لكان أولى، لأن عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام.

وذهب الجمهور إلى أن قوله: أن تبروا، مفعول من أجله، ثم اختلفوا في التقدير، فقيل: كراهة أن تبروا، قاله المهدوي، أو لترك أن تبروا، قاله المبرد، وقيل: لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا، قال أبو عبيدة، والطبري كقوله:

فخالف فلا والله تهبط تلعة

أي: لا تهبط، وقيل: إرادة أن تبروا، والتقادير الأول متلاقية حيث المعنى.

ص: 474

وقال الزمخشري: ويتعلق: أن تبروا، بالفعل و: بالعرضة، أي: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. إنتهى. ولا يصح هذا التقدير، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي، لأنه علق: لأيمانكم، بتجعلوا، وعلق: لأن تبروا بعرضة، فقد فصل بين: عرضة، وبين: لأن تبروا بقوله: لأيمانكم، وهو أجنبي منهما، لأنه معمول عنده لتجعلوا، وذلك لا يجوز، ونظير ما أجازه أن تقول: أمرر وأضرب بزيد هنداً، فهذا لا يجوز، ونصوا على أنه لا يجوز: جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق، لما فيه من الفصل بالأجنبي.

والذي يظهر لي أن تبروا، في موضع نصب على إسقاط الخافض، والعمل فيه قوله: لأيمانكم، التقدير: لأقسامكم على أن تبروا، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى، وجعله معرضاً لأقسامهم على البر والتقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة، لما نخاف في ذلك من الحنث، فكيف إذا كانت أقساماً على ما تنافي البر والتقوى والإصلاح؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظماً واقعاً كل لفظ منه مكانه الذي يليق به، فصار في موضع: أن تبروا، ثلاثة أقوال: الرفع على الابتداء، والخلاف في تقدير الجر، والجر على وجهين: عطف البيان، والبدل والنصب على وجهين: إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره، وإما على أن يكون معمولاً: لأيمانكم، على إسقاط الخافض.

{لَاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَنِكُمْ} باللغو: متعلق: بيؤاخذكم، والباء سببية، مثلها في {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} (النحل: 61) فكلا أخذنا بذنبه} (العنكبوت: 40) : وفي أيمانكم، متعلق بالفعل، أو بالمصدر، أو بمحذوف، أي: كائناً في أيمانكم، فيكون حالاً، ويقربه أنك لو جعلته في صلة: الذي، ووصفت به اللغو لاستقام.

ص: 475

وفي قوله: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} محذوف تقديره: ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم، وحذف لدلالة ما قبله عليه، و: ما، في قوله: بما، موصولة، والعائد محذوف، ويحتمل أن تكون مصدرية، ويحسنه مقابلته بالمصدر، وهو قوله: باللغو، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة.

{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} و: من، يتعلق بقوله: يؤلون، وآلى لا يتعدّى بمن، فقيل: من، بمعنى: على، وقيل: بمعنى في، ويكون ذلك على حذف مضاف، أي: على ترك وطء نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم. وقيل: من، زائدة والتقدير: يؤلون أن يعتزلوا نسائهم. وقيل: يتعلق بمحذوف، والتقدير: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فتتعلق بما تتعلق به لهم المحذوف، قاله الزمخشري، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه، وإنما يتعلق بيؤلون على أحد وجهين: إما أن يكون: من، للسبب أي: يحلفون بسبب نسائهم، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع، فيعدى بمن، فكأنه قيل: للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم، و: من نسائهم، عام في الزوجات من حرة وأمّة وكتابية ومدخول بها وغيرها.

{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} هذا من باب إضافة المصدر إلى ما هو ظرف زمان في الأصل، لكنه اتسع فيه فصير مفعولاً به، ولذلك صحت الإضافة إليه، وكان الأصل: تربصهم أربعة أشهر، وليست الإضافة إلى الظرف من غير اتساع، فتكون الإضافة على تقدير: في، خلافاً لمن ذهب إلى ذلك.

{وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَقَ} وانتصاب الطلاق: إما على إسقاط حرف الجر، وهو على، لأن عزم يتعدى بعلى كما قال:

عزمت على إقامة ذي صباح

وأما إن تضمن: عزم، معنى: نوى، فيتعدى إلى مفعول به.

فليوقعوه، أي: الطلاق، ويظهر أن جواب الشرط محذوف، تقديره:

ص: 476

{وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} {والمطلقات} مبتدأ و {يتربصنّ} خبر عن المبتدأ، وصورته صورة الخبر، وهو أمر من حيث المعنى، وقيل: هو أمر لفظاً ومعنىً على إضمار اللام أي: ليتربصن، وهذا على رأي الكوفيين، وقيل: والمطلقات على حذف مضاف، أي: وحكم المطلقات ويتربصن على حذف: أن، حتى يصح خبراً عن ذلك المضاف المحذوف، التقدير: وحكم المطلقات أن يتربصن، وهذا بعيد جداً.

وقال الزمخشري، بعد أن قال: هو خبر في معنى الأمر، قال: فإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد الأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه، موجوداً، ونحوه قولهم في الدعاء: رحمه الله، أخرج في صورة الخبر عن الله ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاد فضل تأكيد، ولو قيل: ويتربصن المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. انتهى. وهو كلام حسن، وإنما كانت الجملة الابتدائية فيها زيادة توكيد على جملة الفعل والفاعل لتكرار الاسم فيها مرتين: إحداهما بظهوره، والأخرى بإضماره، وجملة الفعل والفاعل يذكر فيها الإسم مرة واحدة.

ص: 477

و: بأنفسهن، متعلق: بتربص، وظاهر الباء مع تربص أنها للسبب، أي: من أجل أنفسهن، ولا بد أن ذلك من ذكر الأنفس، لأنه لو قيل في الكلام: يتربص بهن لم يجز، لأنه فيه تعدية الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل إلى الضمير المجرور، نحو: هند تمر بها، وهو غير جائز، ويجوز هنا أن يكون زائدة للتوكيد، والمعنى: يتربصن أنفسهن، كما تقول: جاء زيد بنفسه، وجاء زيد بعينه، أي: نفسه وعينه، لا يقال: إن التوكيد هنا لا يجوز، لأنه من باب توكيد الضمير المرفوع المتصل، وهو النون التي هي ضمير الإناث في: تربصن، وهو يشترط فيه أن يؤكد بضمير منفصل، وكان يكون التركيب: يتربصن هن بأنفسهن، لأن هذا التوكيد، لما جرّ بالباء، خرج عن التبعية، وفقدت فيه العلة التي لأجلها امتنع أن يؤكد الضمير المرفوع المتصل، حتى يؤكد بمنفصل، إذا أريد التوكيد للنفس والعين، ونظير جواز هذا: أحسن بزيد وأجمل، التقدير: وأجمل به، فحذف وإن كان فاعلاً، هذا مذهب البصريين، ولأنه لما جرّ بالباء خرج في الصورة عن الفاعل، وصار كالفضلة، فجاز حذفه: هذا على أن الأخفش ذكر في المسائل جواز: قاموا أنفسهم، من غير توكيد، وفائدة التأكيد هنا: أنهنّ يباشرن التربص، وزوال احتمال أن غيرهنّ تباشر ذلك بهنّ، بل هنّ أنفسهنّ هنّ المأمورات بالتربص، إذ ذاك أدعى لوقوع الفعل منهنّ، فاحتيج إلى ذلك التأكيد لما في طباعهنّ من الطموح إلى الرجال والتزويج، فمتى أكد الكلام دل على شدة المطلوبة.

وانتصاب: ثلاثة، على أنه ظرف، إذ قدرنا: تربص، قد أخذ مفعوله، والمعنى: مدة ثلاثة قروء، وقيل: انتصابه على أنه مفعول، أي: ينتظرن معنى ثلاثة قروء، وكلا الإعرابين منقول.

ص: 478

{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} و: لهنّ، متعلق: بيحل، واللام للتبليغ، و: ما، في: ما خلق، الأظهر أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة، والعائد محذوف أيضاً التقدير: خلقه. و: في أرحامهنّ، متعلق، بخلقه، وجوّز أن تكون في أرحامهنّ حالاً من المحذوف، قيل: وهي حال مقدرة، لأنه وقت خلقه ليس بشيء حتى يتم خلقه.

وقرأ مبشر بن عبيد: في أرحامهنّ وبردّهنّ، بضم الهاء فيهما والضم هو الأصل، وإنما كسرت لكسرة ما قبلها.

{إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} . هذا شرط جوابه محذوف على الأصح من المذاهب، حذف لدلالة ما قبله عليه، ويقدر هنا من لفظه، أي: إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر، فلا يحل لهنّ ذلك والمعنى: أن من اتصف بالإيمان لا يقدم على ارتكاب ما لا يحل له، وعلق ذلك على بهذا الشرط، وإن كان الإيمان حاصلاً لهنّ إيعاداً وتعظيماً للكتم، وهذا كقولهم: إن كنت مؤمناً فلا تظلم، وإن كنت حراً فانتصر. يجعل ما كان موجوداً كالمعدوم، ويعلق عليه، وإن كان موجوداً في نفس الأمر.

والمعنى: إن كنّ مؤمنات فلا يحل لهنّ الكتم، وأنت مؤمن فلا تظلم، وأنت حر فانتصر، وقيل: في الكلام محذوف: أي، إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر حق الإيمان.

وقيل: إن، بمعنى: إذ، وهو ضعيف.

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وقرأ أبي: بردتهِنَّ بالتاء بعد الدال، وتتعلق: الباء، وفي، بقوله: أحق، وقيل: تتعلق: في، بردهنّ؛ وأشار بقوله: في ذلك، إلى الأجل الذي أمرت أن تتربص فيه، وهو زمان العدة وقيل: في الحمل المكتوم، والضمير في: بعولتهن، عائد على المطلقات، وهو مخصوص بالرجعيات.

{إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَحاً} هذا شرط آخر حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه.

ص: 479

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ومثل، مبتدأ، و: لهنّ، هو في موضع الخبر، و: بالمعروف، يتعلق به: لهنّ، أي: ومثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ كائن لهنّ على أزواجهنّ، وقيل: بالمعروف، هو في موضع الصفة: لمثل، فهو في موضع رفع، وتتعلق إذ ذاك بمحذوف.

{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} و: درجة، مبتدأ، و: للرجال، خبره، وهو خبر مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة، و: عليهن، متعلق بما تعلق به الخبر من الكينونة والاستقرار، وجوّزوا أن يكون: عليهنّ، في موضع نصب على الحال، لجواز أنه لو تأخر لكان وصفاً للنكرة، فلما تقدّم انتصب على الحال، فتعلق إذ ذاك بمحذوف وهو غير العامل في الخبر، ونظيره: في الدار قائماً رجل، كان أصله: رجل قائم، ولا يجوز أن يكون: عليهن، الخبر، و: للرجال، في موضع الحال، لأن العامل في الحال إذ ذاك معنوي، وقد تقدّمت على جزأي الجملة، ولا يجوز ذلك، ونظيره: قائماً في الدار زيد. وهو ممنوع لا ضعيف كما زعم بعضهم، فلو توسطت الحال وتأخر الخبر، نحو: زيد قائماً في الدار، فهذه مسألة الخلاف بيننا وبين أبي الحسن، أبو الحسن يجيزها، وغيره يمنعها.

فعلى هذا الألف واللام في الطلاق للعهد في الطلاق السابق.

ص: 480

{الطَّلَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَنٍ} والطلاق مصدر طلقت المرأة طلاقاً، ويكون بمعنى التطليق. كالسلام بمعنى التسليم، وهو مبتدأ، ومرتان خبره، وهو على حذف مضاف، أي: عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة، أو الطلاق الشرعي المسنون مرتان، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف حتى يكون الخبر هو المبتدأ، و: مرتان، تثنية حقيقة، لأن الطلاق الرجعي أو المسنون، على اختلاف القولين، عدده هو مرتان على التفريق، وقد بينا كونه يكون على التفريق. وقال الزمخشري: ولم يرد بالمرتين التثنية والتكرار كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} (الملك: 4) أي: كرة بعد كرة، لا كرتين اثنتين، ونحو ذلك من التتالي التي يراد بها التكرير، قولهم: لبيك، وسعديك، وحنانيك، وهذا ذيك، ودواليك. انتهى كلامه. وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك، ومخالف لما في نفس الأمر.

والذي يدل عليه ظاهر اللفظ: أن: الطلاق، الألف واللام فيه للعهد.

وقال في «المنتخب» ما ملخص منه: الطلاق مرتان، قال قوم هو مبتدأ لا تعلق له بما قبله، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع دفعة واحدة، وهذا تفسير من قال: الجمع بين الثلاث حرام، وهو مذهب أبيّ، وجماعة من الصحابة. والألف واللام للاستغراق، والتقدير: كل الطلاق مرتان، ومرة ثالثة، وهذا يفيد التفرق لأن المرّات لا تكون إلَاّ بعد تفرق الاجتماع، ولفظه خبر، ومعناه الأمر.

ص: 481

وارتفاع قوله: {فإمساك} على الابتداء والخبر محذوف قدره ابن عطية متأخراً تقديره: أمثل وأحسن، وقدره غيره متقدماً أي: فعليكم إمساك بمعروف، وجوّز فيه ابن عطية أن يكون خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فالواجب إمساك، و: بمعروف، وبإحسان، يتعلق كل منهما بما يليه من المصدر، و: الباء، للإلصاق، وجوز أن يكون المجرور صفة لما قبله، فيتعلق بمحذوف، وقالوا: يجوز في العربية ولم يقرأ به نصب إمساك، أو تسريح، على المصدر أي: فأمسكوهنّ إمساكاً بمعروف، أو سرّحوهنّ تسريحاً بإحسان.

{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} {وشيئاً} نكرة في سياق النهي فتعم، و: مما، متعلق بقوله: تأخذوا، أو بمحذوف فيكون في موضع نصب على الحال من قوله: شيئاً، لأنه لو تأخر لكان نعتاً له.

ص: 482

{إِلَاّ أَن يَخَافَآ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الألف واللام في يخافا ويقيما عائد على صنفي الزوجين، وهو من باب الالتفات، لأنه إذا اجتمع مخاطب وغائب، وأسند إليهما حكم كان التغليب للمخاطب، فتقول: أنت وزيد تخرجان، ولا يجوز يخرجان، وكذلك مع التكلم نحو: أنا وزيد نخرج، ولما كان الاستثناء بعد مضي الجملة للخطاب جاز الالتفات، ولو جرى على النسق الأول لكان: إلَاّ أن تخافوا أن لا تقيموا، ويكون الضمير إذ ذاك عائداً على المخاطبين وعلى أزواجهم، والمعنى: إلَاّ أن يخافا أي: صنفا الزوجين، ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من حقوق الزوجية، بما يحدث من بغض المرأة لزوجها حتى تكون شدة البغض سبباً لمواقعة الكفر، كما في قصة جميلة مع زوجها ثابت، {وأن يخافا} قيل: في موضع نصب على الحال، التقدير: إلَاّ خائفين، فيكون استثناء من الأحوال، فكأنه قيل: فلا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً في كل حال إلَاّ في حال الخوف أن لا يقيما حدود الله، وذلك أنّ: أن، مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدر في موضع اسم الفاعل فهو منصوب على الحال، وهذا في إجازته نظر، لأن وقوع المصدر حالاً لا ينقاس، فأحرى ما وقع موقعه، وهو: أن الفعل، ويكثر المجاز فإن الحال إذ ذاك يكون: أن والفعل، الواقعان موقع المصدر الواقع موقع اسم الفاعل.

ص: 483

وقد منع سيبويه وقوع: أن والفعل، حالاً، نص على ذلك في آخر: هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات، والذي يظهر أنه استثناء من المفعول له، كأنه قيل: ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب إلَاّ بسبب خوف عدم إقامة حدود الله، فذلك هو المبيح لكم الأخذ، ويكون حرف العلة قد حذف مع: أن، وهو جائز فصيحاً كثيراً، ولا يجيء هنا، خلاف الخليل وسيبويه، أنه إذا حذف حرف الجر من: أن، هل ذلك في موضع نصب أو في موضع جر؟ بل هذا في موضع نصب، لأنه مقدر بالمصدر لو صرح به كان منصوباً، واصلاً إليه العامل بنفسه، فكذلك هذا المقدر به، وهذا الذي ذكرناه من أنَّ: أن والفعل، إذا كانا في موضع المفعول من أجله، فالموضع نصب لا غير، منصوص عليه من النحويين، ووجهه ظاهر.

وقرأ عبد الله: إلَاّ أن يخافوا أن لا يقيموا حقوق، أي إلَاّ أن يخاف الأزواج والزوجات، وهو من باب الالتفات إذ لو جرى عليه النسق الأول لكان بالتاء، وروي عن عبد الله أنه قرأ أيضاً: إلَاّ أن تخافوا بالتاء.

وقرأ حمزة، ويعقوب، ويزيد بن القعقاع؛ إلَاّ أن يُخافوا، بضم الياء، مبنياً للمفعول، والفاعل المحذوف: الولاة.

وأن لا يقيما، في موضع رفع بدل من الضمير أي: إلَاّ أن يخاف عدم إقامتهما حدود الله، وهو بدل اشتمال، كما تقول: الزيدان أعجباني حسنهما، والأصل: إلَاّ أن يخافوا، أنها: الولاة، عدم إقامتهما حدود الله.

ص: 484

وقال ابن عطية: في قراءة يخافا بالضم، أنها تعدت خاف إلى مفعولين: أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر بتقدير حرف جر بمحذوف، فموضع أن خفض الجار المقدر عند سيبويه، والكسائي، ونصب عند غيرهما، لأنه لما حذف الجار المقدر وصل الفعل إلى المفعول الثاني، مثل: استغفر لله ذنباً، وأمرتك الخير. إنتهى كلامه. وهو نص كلام أبي علي الفارسي نقله من كتابه، إلا التنظير باستغفر، وليس بصحيح تنظير ابن عطية خاف باستغفر، لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين، كاستغفر الله، ولم يذكر ذلك النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل أحدهما بحرف الجر، بل إذا جاء: خفت زيداً ضربه عمراً، كان ذلك بدلاً، إذ: من ضربه عمراً كان مفعولاً من أجله، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان، وقد وهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه، والذي نقله أبو علي وغيره أن مذهب سيبويه أن الموضع بعد الحذف نصب، وبه قال الفراء، وأن مذهب الخليل أنه جر، وبه قال الكسائي. وقدَّر غير ابن عطية ذلك الحرف المحذوف: على، فقال: والتقدير إلَاّ أن يخافا على أن يقيما، فعلى هذا يمكن أن يصح قول أبي علي وفيه بعد. وقد طعن في هذه القراءة من لا يحسن توجيه كلام العرب، وهي قراءة صحيحة مستقيمة في اللفظ وفي المعنى، ويؤيدها قوله بعد: فإن خفتم، فدل على أن الخوف المتوقع هو من غير الأزواج، وقد اختار هذه القراءة أبو عبيد.

ص: 485

قال أبو جعفر الصفار: ما علمت في اختيار حمزة أبعد من هذا الحرف لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى، أما الإعراب فإن يحتج له بقراءة عبد الله بن مسعود: إلَاّ أن يخافوا أن لا يقيموا، فهو في العربية إذ ذاك لما لم يسم فاعله، فكان ينبغي أن لو قيل إلَاّ أن يخافا أن لا يقيما؟ وقد احتج الفراء لحمزة، وقال: إنه اعتبر قراءة عبد الله: إلَاّ أن يخافوا، وخطأه أبو علي، وقال: لم يصب، لأن الخوف في قراءة عبد الله واقع على: أن؛ وفي قراءة حمزة واقع على الرجل والمرأة، وأما اللفظ فإن كان صحيحاً فالواجب أن يقال: فإن خيفا، وإن كان على لفظ: فإن، وجب أن يقال إلَاّ أن يخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيمتوهنّ شيئاً إلَاّ أن يخاف غيركم، ولم يقل جل وعزّ: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان، وقد صح عن عمر وعثمان أنهما أجازا الخلع بغير سلطان. إنتهى كلام الصفار، وما ذكره لا يلزم، وتوجيه قراءة الضم ظاهر، لأنه لما قال: ولا يحل لكم وجب على الحكام منه من أراد أن يأخذ شيئاً من ذلك، ثم قال: إلَاّ أن يخافا، فالضمير للزوجين، والخائف محذوف وهم: الولاة والحكام والتقدير: إلَاّ أن يخاف الأولياء الزوجين أن لا يقيما حدود الله، فيجوز الافتداء، وتقدم تفسير الخوف هنا.

ص: 486

وأما قوله: فوجب أن يقال: فإن خيفا فلا يلزم، لأن هذا من باب الالتفات، وهو في القرآن كثير، وهو من محاسن العربية، ويلزم من فتح الياء أيضاً على قول الصفار أن يقرأ: فإن خافا، وإنما هو في القراءتين على الالتفات، وأما تخطئة الفراء فليست صحيحة، لأن قراءة عبد الله: إلَاّ أن يخافوا، دلالة على ذلك، لأن التقدير: إلَاّ أن يخافوهما أن لا يقيما، والخوف واقع في قراءة حمزة على أن، لأنها في موضع رفع على البدل من ضميرهما، وهو بدل الاشتمال كما قررناه قبل، فليس على ما تخيله أبو علي، وذلك كما تقول: خيف زيد شره، وأما قوله: يبعد من جهة المعنى، فقد تقدّم الجواب عنه، وهو أن لهما المنع من ذلك، فمتى ظنوا أو أيقنوا ترك إقامة حدود الله، فليس لهم المنع من ذلك، وقد اختار أبو عبيدة قراءة الضم، لقوله تعالى: فإن خفتم، فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا.

وقد قيل: إن قوله: {ولا يحل لكم} إلى آخره، جملة معترضة بين قوله:{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وبين قوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} .

{فإن خفتم} : الضمير للأولياء أو السلطان، فإن لم يكونوا فلصلحاء المسلمين، وقيل: عائد على المجموع من قام به أجزأ.

{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} هذا جواب الشرط.

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} و: تلك، مبتدأ، و: حدود الله، الخبر.

{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ} و: من، شرطية، والفاء في: فأولئك، جواب الشرط، و: حمل، يتعدّ على اللفظ، فأفرد، و: أولئك، على المعنى. فجمع وأكد بقوله: هم، وأتى في قوله: الظالمون، بالألف واللام التي تفيد الحصر، أو المبالغة في الوصف، ويحتمل: هم، أن تكون فصلاً مبتدأ وبدلاً.

ص: 487

{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

{فَإِن طَلَّقَهَا} قيل: الضمير عائد على: زوج، النكرة، وهو الثاني، وأتى بلفظ: إن، دون إذا تنبيهاً على أن طلاقه يجب أن يكون على ما يخطر له دون الشرط. انتهى.

{أَن يَتَرَاجَعَآ} أي: في أن يتراجعا، والضمير في: عليهما، وفي: أن يتراجعا، على ما فسروه، عائد على الزوج الأوّل والزوجة التي طلقها الزوج الثاني.

و: {إن ظنا} ، شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه.

قال الزمخشري: ومن فسر العلم هنا بالظن فقد وهم من طريق اللفظ، والمعنى: لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم زيد، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظناً. انتهى كلامه.

وما ذكره من: أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد، قد قاله غيره، قالوا: إن أن الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعلا تحقيق، نحو: العلم واليقين والتحقيق، وإنما يعمل في أن المشددة، قال أبو علي الفارسي في «الإيضاح» : ولو قلت علمت أن يقوم زيد، فنصبت الفعل: بأن، لم يجز، لأن هذا من مواضع: أن، لأنها مما قد ثبت واستقر، كما أنه لا يحسن: أرجو أنك تقوم، وظاهر كلام أبي علي الفارسي مخالف لما ذكره سيبويه من أن يجوز أن تقول: ما علمت إلَاّ أن يقوم زيد، فأعمل: علمت، في: أن.

قال بعض أصحابنا: ووجه الجمع بينهما أن: علمت، قد تستعمل ويراد بها العلم القطعي، فلا يجوز وقوع: أن، بعدها كما ذكره الفارسي، وقد تستعمل ويراد بها الظن القوي، فيجوز أن يعمل في: أن، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم القطعي قوله:{فإن علمتموهنّ مؤمنات} (الممتحنة: 10) فالعلم هنا إنما يراد به الظن القوي، لأن القطع بإيمانهنّ غير متوصل إليه وقول الشاعر:

وأعلم علم حق غير ظن

ص: 488

وتقوى الله من خير المعاد} فقوله: علم حق، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق، وكذلك قوله: غير ظن، يدل عليه أنه يقال: علمت وهو ظان، ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من أن: علمت، قد يعمل في: أن، إذا أريد بها غير العلم القطعي قول جرير:

نرضى عن الله أن الناس قد علموا

أن لا يدانينا من خلقه بشرفأتى بأن، الناصبة للفعل بعد علمت. انتهى كلامه.

وثبت بقول جرير وتجويز سيبويه أن: علم، تدخل على أن الناصبة، فليس بوهم، كما ذكر الزمخشري من طريق اللفظ.

والفاء في: فلا تحل، جواب الشرط، وله، ومن بعد، وحتى، ثلاثتها تتعلق بتحل، واللام معناها التبليغ، ومن ابتداء الغاية، وحتى للتعليل. وبُني لقطعه عن الإضافة، إذ تقديره من بعد الطلاق الثالث، و {زوجاً} أتى به للتوطئة، أو للتقييد أظهرهما الثاني؛ فإن كان للتوطئة لا للتقييد فيكون ذكره على سبيل الغلبة لأن الإنسان أكثر ما يتزوج الحرائر، ويصير لفظ الزوج كالملغى، فيكون في ذلك دلالة على أن الأمة إذا بتّ طلاقها ووطئها سيدها حلّ للأول نكاحها، إذ لفظ الزوج ليس بقيد؛ وإن كان للتقييد، وهو الظاهر، فلا يحللها وطء سيدها.

والفاء في: {فلا جناح} ، جواب الشرط قبله، و {عليهما} ، في موضع الخبر، أما المجموع: جناح، إذ هو مبتدأ على رأي سيبويه، وإما على أنه خبر: لا، على مذهب أبي الحسن، و: أن يتراجعا، أي: في أن يتراجعا، والخلاف بعد حذف: في، أبقى: أن، مع ما بعدها في موضع نصب، أم في موضع جر، تقدم لنا ذكره، و: أن يقيما، في موضع المفعولين سد مسدهما لجريان المسند والمسند إليه في هذا الكلام على مذهب سيبويه، والمفعول الثاني محذوف على مذهب أبي الحسن، وأبي العباس.

ص: 489

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} تلك: مبتدأ، و: حدود خبر، و: يبينها يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، ويجوز أن يكون في موضع الحال، أي مبينة، والعامل فيها اسم الإشارة، وذو الحال: حدود الله، كقوله تعالى:{فتلك بيوتهم خاوية} (النمل: 52) و: لقوم، متعلق: بيبينها، و: تلك، إشارة إلى ما تقدم من الأحكام، وقرىء: نبينها، بالنون على طريق الالتفات، وهي قراءة تروى عن عاصم.

ص: 490

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُواْ آيَتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَبِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَجَهُنَّ إِذَا تَرَضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَاّ وُسْعَهَا لَا تُضَآرَّ وَلِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

وانتصب: ضراراً، على أنه مفعول من أجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، أي: مضارين لتعتدوا، أي: لتظلموهن، وقيل: لتلجئوهن إلى الافتداء.

ص: 491

واللام: لام كي، فإن كان ضراراً حالاً تعلقت اللام به، أو: بلا تمسكوهن، وإن كان مفعولاً من أجله تعلقت اللام به، وكان علة للعلة، تقول: ضربت ابني تأديباً لينتفع، ولا يجوز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلَاّ بالعطف، أو على البدل، ولا يمكن هنا البدل لأجل اختلاف الإعراب، ومن جعل اللام للعاقبة جوّز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة، وهما مختلفان.

وانتصب: هزؤاً، على أنه مفعول ثانٍ: لتتخذوا، وتقول: هزأ به هزؤاً استخف.

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَبِ وَالْحِكْمَةِ} هذا أمر معطوف على أمر في المعنى، وهو: ولا تتخذوا آيات لله هزواً، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة، ولكنها بني عليها المصدر، ويريد: النعم الظاهرة والباطنة، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوّة محمد علية الصلاة والسلام.

و: {ما أنزل عليكم} ، معطوف على نعمة، وهو تخصيص بعد تعميم.

فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون: عليكم، في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة عليكم، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون: عليكم، متعلقاً بلفظ النعمة، ويكون إذ ذاك مصدراً من: أنعم، على غير قياس، كنبات من أنبت.

وعليكم، الثانية متعلقة بأنزل، و: من، في موضع الحال، أي: كائناً من الكتاب، ويكون حالاً من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول المحذوف، إذ تقديره: وما أنزل عليكم. ومن أثبت لمن معنى البيان للجنس جوز ذلك هنا، كأنه قيل: وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة.

ص: 492

{يَعِظُكُم بِهِ} يذكركم به، والضمير عائد على: ما، من قوله: وما أنزل، وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في: أنزل، والعامل فيها: أنزل، وجوزوا في: ما، من قوله: وما أنزل، أن يكون مبتدأ. و: يعظكم، جملة في موضع الخبر، كأنه قيل: والمنزله الله من الكتاب والحكمة يعظكم به، وعطفه على النعمة أظهر.

{أَن يَنكِحْنَ أَزْوَجَهُنَّ} هو في موضع نصب على البدل من الضمير بدل اشتمال، أو على أن أصله من أن ينكحن، وينكحن مضارع نكح الثلاثي.

{إِذَا تَرَضَوْاْ} : الضمير عائد على الخطاب والنساء، وغلب المذكر، فجاء الضمير بالواو، ومن جعل للأولياء ذكراً في الآية قالوا: احتمل أن يعود على الأولياء والأزواج.

والعامل في: إذا، ينكحن.

{بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} الضمير في: بينهم، ظرف مجازي ناصبه: تراضوا، بالمعروف: ظاهره أنه متعلق بتراضوا، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط، وقيل: مهر المثل، وقيل: المهر والإشهاد. ويجوز أن يتعلق: بالمعروف، بينكحن، لا: بتراضوا، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا ينتفي، بل هو من الفصل الفصيح، لأنه فصل بمعمول الفعل، وهو قوله:{إذا تراضوا} فإذا منصوب بقوله: {أن ينكحن} و: بالمعروف، متعلق به، فكلاهما معمول للفعل.

{ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} و: ذلك، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب، وهو: هذا، وإن كان الحكم قريباً ذكره في الآية، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء، ومعنى: يوعظ به أي يذكر به، ويخوّف. و: منكم، متعلق بكان، أو: بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في: يؤمن.

{وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} {يرضعن أولادهنّ} صورته خبر محتمل أن يكون معناه خبراً، أي: في حكم الله تعالى الذي شرعه.

ص: 493

ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله: {والمطلقات يتربصن} (البقرة: 228) .

{لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} واللام في: لمن، قيل: متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، وتكون اللام على هذا للتعليل أي: لأجله، فتكون: مَنْ واقعة على الأب، كأنه قيل: لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء، وقيل: اللام للتبيين، فيتعلق بمحذوف كهي في قولهم: سقياً لك: وفي قوله تعالى: {هيت لك} (يوسف: 23) فاللام لتبيين المدعو له بالسقي، وللمهيت به، وذلك أنه لما قدم قوله: يرضعن أولادهن حولين كاملين} بين أن هذا الحكم إنما هو: لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات، فتكون: من، واقعة على الأم، كأنه قيل:{لمن أراد أن يتم الرضاعة} من الوالدات. أو تكون، مَنْ، واقعة على الوالدات والمولود له، كل ذلك يحتمله اللفظ.

وقرأ الجمهور: أن يتم الرضاعة بالياء من: أتم، ونصب الرضاعة. وقرأ مجاهد، والحسن، وحميد، وابن محيصن، وأبو رجاء: تتم، بالتاء من تم، ورفع الرضاعة. وقرأ أبو حنيفة، وابن أبي عبلة، والجارود بن أبي سبرة كذلك، إلَاّ أنهم كسروا الراء من الرضاعة، وهي لغة: كالحضارة والحضارة، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء وبكسرها دون الهاء، والكوفيون يعكسون ذلك، وروي عن مجاهد أنه قرأ: الرضعة، على وزن القصعة، وروي عن ابن عباس أنه قرأ: أن يكمل الرضاعة، بضم الياء، وقرىء: أن يتم، برفع الميم، ونسبها النحويون إلى مجاهد، وقد جاز رفع الفعل بعد أن في كلام العرب في الشعر. أنشد الفراء رحمه الله تعالى:

أن تهبطين بلاد قو

م يرتعون من الطلاح

وقال الآخر:

أن تقرآن على أسماء، ويحكما

مني السلام، وأن لا تُبْلِغَا أحدا وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع، وترك إعمالها حملاً على: ما، أختها في كون كل منهما مصدرية، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة، وشذ وقوعها موقع الناصبة، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير:

ص: 494

ترضى عن الله أن الناس قد علموا

أن لا يدانينا من خلقه بشروالذي يظهر أن إثبات النون في المضارع المذكور مع: أن، مخصوص بضرورة الشعر، ولا يحفظ أن غير ناصبة إلَاّ في هذا الشعر، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد، وما سبيله هذا، لا تُبني عليه قاعدة.

{وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} المولود جنس، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و: أل، كمن، و: ما، يعود الضمير على اللفظ مفرداً مذكراً، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث، وهنا عاد الضمير على اللفظ، فجاء له. ويجوز في العربية أن يعود على المعنى، فكان يكون: لهم، إلَاّ أنه لم يقرأ به، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور، وحذف الفاعل، وهو: الوالدات، و: المفعول به وهو: الأولاد، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل، وهذا على مذهب البصريين، أعني: أن يقام الجار مقام الفاعل إذا حذف نحو: مرّ بزيد.

وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلَاّ فيما حرف الجر فيه زائد، نحو: ما ضرب من أحدٍ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم.

ص: 495

واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل، فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع، كما أن: يقوم من؟ زيد يقوم. في موضع رفع، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل، وإبهامه من حيث إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر، أو ظرف زمان، أو ظرف مكان، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر، والتقدير: سير هو، يريد: أي سير السير، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل، وهذا سائغ عند بعض البصريين، وممنوع عند محققي البصريين، والنظر في الدلائل هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في عالم النحو.

وقد وهم بعض كبرائنا، فذكر في كتابه المسمى بـ «الشرح لجمل الزجاجي» أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلَاّ السهيلي، فإنه منع ذلك، وليس كما ذكر، إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء، والكسائي، وهشام. والتفصيل في المجرور. وممن تبع السهيلي على قوله: تلميذه أبو علي الزيدي شارح «الجمل» .

{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَاّ وُسْعَهَا} وقراءة الجمهور: {لا تُكلف نفسٌ} مبني للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، وحذف للعلم به. وقرأ أبو رجاء: لا تكلف، بفتح التاء، أي: لا تتكلف، وارتفع نفس على الفاعلية، وحذفت إحدى التاءين على الخلاف الذي بيننا وبين بعض الكوفيين، و: تكلف تفعل، مطاوع فعل نحو: كسرته فتكسر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها تفعل.

وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أنه قرأ: لا نكلف نفساً بالنون، مسنداً الفعل إلى ضمير الله تعالى، و: نفساً، بالنصب مفعول.

ص: 496

{لَا تُضَآرَّ وَلِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبان، عن عاصم: لا تضارّ، بالرفع أي: برفع الراء المشددة، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها من قوله:{لا تُكلف نفس إلَاّ وسعها} لاشتراك الجملتين في الرفع، وإن اختلف معناهما، لأن الأولى خبرية لفظاً ومعنى، وهذه خبرية لفظاً نهيية في المعنى. وقرأ باقي السبعة: لا تضار، بفتح الراء، جعلوه نهياً، فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وسكنت الراء الأولى للإدغام، فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح لموافقة الألف التي قبل الراء، لتجانس الألف والفتحة، ألا تراهم حين رخموا: أسحارّاً، وهم اسم نبات، إذا سمي به حذفوا الراء الأخيرة، وفتحوا الراء الساكنة التي كانت مدغمة في الراء المحذوفة، لأجل الألف قبلها، ولم يكسروها على أصل التقاء الساكنين، فراعوا الألف وفتحوا، وعدلوا عن الكسر وإن كان الأصل؟ وقرأ: لا يضارِّ بكسر الراء المشددة على النهي. وقرأ أبو جعفر الصفار: لا تضار، بالسكون مع التشديد، أجرى الوصل مجرى الوقف، وروي عنه: لا تضار، بإسكان الراء وتخفيفها، وهي قراءة الأعرج من ضار يضير، وهو مرفوع أجري الوصل فيه مجرى الوقف. وقال الزمخشري: اختلس الضمة فظنه الراوي سكوناً. انتهى. وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم، ولا نذهب إلى ذلك.

ووجَّه هذه القراءة بعضهم بأن قال: حذف الراء الثانية فراراً من التشديد في الحرف المكرر، وهو الراء، وجاز أن يجمع بين الساكنين: إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، ولأنَ مدة الألف تجري مجرى الحركة. انتهى.

وروي عن ابن عباس: لا تضارر، بفك الإدغام وكسر الراء الأولى وسكون الثانية. وقرأ ابن مسعود: لا تضارر، بفك الإدغام أيضاً وفتح الراء الأولى وسكون الثانية، قيل: ورواها أبان عن عاصم.

ص: 497

والإظهار في نحو هذين المثلين لغة الحجاز، فأما من قرأ بتشديد الراء، مرفوعة أو مفتوحة أو مكسورة، فيحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل، ويحتمل أن يكون مبنياً للمفعول كما جاء في قراءة ابن عباس، وفي قراءة ابن مسعود؛ ويكون ارتفاع: والدة ومولود، على الفاعلية إن قدر الفعل مبنياً للفاعل، وعلى المفعولية إن قدر الفعل مبنياً للمفعول، فإذا قدرناه مبنياً للفاعل، فالمفعول محذوف تقديره: لا تضارر والدةُ زوجَها بأن تطالبه بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة وغير ذلك من وجوه الضرر، ولا يضارر مولودٌ له زوجته بمنعها ما وجب لها من رزق وكسوة، وأخذ ولدها مع إيثارها إرضاعه، وغير ذلك من وجوه الضرر.

والباء في: بولدها، وفي: بولده، باء السبب.

ويعني بقوله: أن تكون الباء من صلته، يعني متعلقة بتضار، ويكون ضار بمعنى أضر، فاعل بمعنى أفعل، نحو: باعدته وأبعدته، وضاعفته وأضعفته، وكون فاعل بمعنى أفعل هو من المعاني التي وضع لها فاعل، تقول: أضرّ بفلان الجوع، فالجار والمجرور هو المفعول به من حيث المعنى، فلا يكون المفعول محذوفاً، بخلاف التوجيه الأول، وهو أن تكون الباء للسبب، فيكون المفعول محذوفاً كما قدرناه.

والظاهر أن الباء للسبب، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارَرْ، براءين، الأولى مفتوحة، وهي قراءة عمر بن الخطاب.

وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول، فإذا كان الفعل مبنياً للمفعول تعين كون الباء للسبب، وامتنع توجيه الزمخشري أن: ضارٌ به في معنى: أضرَّ به، والتوجيه الآخر أن: ضارٌ به بمعنى: ضره، وتكون الباء زائدة، ولا تنقاس زيادتها في المفعول، مع أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه، وهو كون الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى، وإن كان كل واحد منهما مرفوعاً والآخر منصوباً.

ص: 498

{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} هذا معطوف على قوله: {وعلى المولود له} والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله: بالمعروف، اعتراض بهما بين المتعاطفين.

فعلى هذه الأقوال تكون: الألف واللام في قوله: {وعلى الوارث} كأنها نابت عن الضمير العائد على: المولود له، كأنه قيل: وعلى وارث المولود له.

{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الضمير في: أرادا، عائد على الوالدة والمولود له.

وقرىء: فإن أراد، ويتعلق عن تراض، بمحذوف لأنه في موضع الصفة لقوله:{فصالاً} ، أي: فصالاً كائنا، وقدّره الزمخشري صادراً. و: عن، للمجاوزة مجازاً، لأن ذلك معنى من المعاني لا جرم.

{فلا جناح عليهما} هذا جواب الشرط، وقبل هذا الجواب جملة محذوفة بها يصح المعنى، التقدير: ففصلاه، أو ففعلا ذلك، والمعنى: فلا جناح عليهما في الفصال.

{وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ} و: استرضع، فيه خلاف، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه، أو إلى مفعولين الثاني بحرف جر، قولان.

ص: 499

فالأول: قول الزمخشري، قال: استرضع منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي، واسترضعها الصبي، فتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة. والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول. إنتهى كلامه. وهو نقلٌ من نقلٍ، الأصل رضع الولد، ثم تقول: أرضعت المرأة الولد، ثم تقول استرضعت المرأة الولد، واستفعل هنا للطلب أي: طلبت من المرأة إرضاع الولد، كما تقول استسقيت زيداً الماء، واستطعمت عمراً الخبز، أي: طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض، كذلك: أولادكم، منصوب لا على إسقاط الخافض.

والثاني: قول الجمهور، وهو أن يتعدى إلى اثنين، الثاني بحرف جر، وحذف من قوله: أولادكم، والتقدير: لأولادكم، وقد جاء استفعل أيضاً للطلب معدى بحرف الجر في الثاني، وإن كان في: أفعل، معدى إلى اثنين. تقول: أفهمني زيد المسألة، واستفهمت زيداً عن المسألة، فلم يجىء: استطعمت، ويصير نظير: استغفرت الله من الذنب، ويجوز حذف: من، فتقول: الذنب، وليس في قولهم: كان فلان مسترضعاً في بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه، أو بحرف جر.

{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} هذا جواب الشرط، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى، التقدير: فاسترضعتم أو فعلتم ذلك فلا جناح عليكم في الاسترضاع {إذا سلمتم ما آتيتم}

و {إِذَا سَلَّمْتُم} شرط، قالوا: وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه، وذلك المعنى هو العامل في: إذا، وهو متعلق بما تعلق به: عليكم. إنتهى.

ص: 500