المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال: - الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط - جـ ٥

[ياسين جاسم المحيمد]

الفصل: وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال:

وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال: ويجوز الكسر لأنّ في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل وكل ما كان من جنس الصناعة مكسور مثل القصارة والخياطة وتبع الزمخشري الزجاج فقال: وقرىء {من ولايتهم} بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث ووجه الكسر أنّ تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً، وقال أبو عبيد والذي عندنا الأخذ بالفتح في هذين الحرفين نعني هنا، وفي الكهف لأنّ معناهما من الموالاة لأنها في الدين، وقال الفرّاء: يريد من مواريثهم فكسر الواو وأجب إليّ من فتحها لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة وقد ذكر الفتح والكسر في المعنيين جميعاً، وقرأ السلمي والأعرج بما يعملون بالياء على الغيبة.

إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبيروَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأٌّرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} . الضمير المنصوب في {تفعلوه} عائد على الميثاق.

‌سورة التوبة

مائة وتسعة وعشرون آية مدنية

المرصد: مفعل من رصد يرصد رقب، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً. وقال عامر بن الطفيل:

ولقد علمت وما إخالك ناسياً

أن المنية للفتى بالمرصد الآل الحلف والجؤار، ومنه قول أبي جهل.

لآل علينا واجب لا نضيعه

متين قواه غير منتكث الحبل كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار، وله أليل أي أنين يرفع به صوته. وقيل: القرابة. وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر:

أفسد الناس خلوف خلفوا

قطعوا الآل وأعراق الرحم وظاهر البيت أنه في العهد. ومن القرابة قول حسان:

لعمرك أن لك من قريش

ص: 232

كل السقب من رأل النعام وسميت إلَاّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق. وقيل: من أل البرق لمع. وقال الأزهري: الأليل البريق، يقال: أل يؤل صفا ولمع. وقال القرطبي: مأخوذ من الحدة، ومنه الآلة الحربة. وإذن مؤللة محددة، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه: أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها، والعهد يسمى إلَاّ لصفائه، ويجمع في القلة الآل، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمة فأبدلها ألفاً، وأدغمت اللام في اللام، الذمة؛ العهد. وقال أبو عبيدة: الأمان. وقال الأصمعي: كل ما يجب أن يحفظ ويحمى.

أبى يأبى منع، قال:

أبى الضيم والنعمان يخرق نابه

عليه فافضى والسيوف معاقله وقال:

أبى اللَّه إلا عدله ووفاءه

فلا النكر معروف ولا العرف ضائع ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة.

شفاه: أزال سقمه. العشيرة جماعة مجتمعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة. اقترف اكتسب. كسد الشيء كساداً وكسوداً بار ولم يكن له نفاق. الموطن: الموقف والمقام، قال الشاعر:

وكم موطن لولاي طحت كما هوى

بإجرامه من قلة النيق منهوي ومثله الوطن. حنين: وادٍ بين مكة والطائف، وقيل: واد إلى جنب ذي المجاز.

العيلة: الفقر، عال يعيل افتقر. قال:

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل الجزية: ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها. أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل.

ص: 233

المضاهاة: المماثلة والمحاكاة، وثقيف تقول: المضاهأة بالهمز، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها، إلا إنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت: توضيت، وقريت، وأخطيت فيمكن. وأما ضهيأ بالهمز مقصوراً فهمزته زائدة كهمزة عرفىء، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث. حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال: جمع بين علامتي تأنيث. ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال. فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين، لأصالة همزة المضاهاأة، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث..

وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم. ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، على إضمار مبتدأ أي: هذه براءة. وقرأ عيس بن عمر براءة بالنصب. قال ابن عطية: أي الزموا، وفيه معنى الاغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة.

ص: 234

وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن اللَّه بريء من المشركين ورسولهبَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِى الأٌّرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَفِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأٌّكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَاّ الَّذِينَ عَهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ

ص: 235

كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَاّ الَّذِينَ عَهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَمُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَسِقُونَ * اشْتَرَوْاْ بِئَايَتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَوةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الأٌّيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلَا تُقَتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * مَا كَانَ

ص: 236

لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَلِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَجِدَ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءاتَى الزَّكَوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ * أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ

ص: 237

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَجَهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * الَّذِينَءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَنٍ وَجَنَّتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ * قُلْ إِن كَانَءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَنُكُمْ وَأَزْوَجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ * لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآءُ الْكَفِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ

ص: 238

الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَهِهِمْ يُضَهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَرَهُمْ وَرُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَحِداً لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ} قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل: وإذن بكسر الهمة ويكون الذال. وقرأ الحسن والأعرج: إن الله بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأنّ، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين، أو لأنّ الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وزيد بن علي، ورسوله بالنصب، عطفاً على لفظ اسم أنْ. وأجاز الزمخشري أنْ ينتصب على أنه مفعول معه. وقرىء بالجر شاذاً، ورويت عن الحسن. وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار. وقيل: هي واو القسم. وروي أن أعرابياً سمع من يقرأ بالجر فقال: إنْ كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه القارىء إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية. وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء، والخبر محذوف أي: ورسوله بريء منهم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وجوزوا فيه أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في

ص: 239

بريء، وحسنه كونه فصل بقوله: من المشركين، بين متحمله، والمعطوف. ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك، مع أنّ المفتوحة. ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة، ومنع مع المفتوحة.

قال ابن عطية: ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه: أنْ لا موضع لما دخلت عليه إنَّ، إذ هو معرب قد ظهر فيه عمل العامل، وأنه لا فرق بين إنّ وبين ليت، والإجماع أنَّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى. وهذا كلام فيه تعقب، لأنّ علة كون إنّ لا موضع لما دخلت عليه، ليس ظهور عمل العامل، بدليل ليس زيد بقائم، وما في الدار من رجل، فإنه ظهر عمل العامل، ولهما موضع. وقوله: والإجماع إلى آخره يريد: أنّ ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع، وليس كذلك، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن، وأنّ حكم في كون اسمهن له موضع. وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد.

وأذان إذا أعربناه مبتدأ، بل الخبر قوله: إلى الناس. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله: من الله ورسوله. ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله: وأذان، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة، ومن جهة أنه لا يجوز أنْ يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله، وقد أخبر عنه بقوله: إلى الناس.

وحكى القرطبي عن ابن سيرين: أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي حجة الوداع، وحج معه الأمم، وهذا يحتاج إلى إضمار، كأنه قال: هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلّمانتهى.

ص: 240

وجملة براءة من الله ورسوله إبخار بثبوت البراءة، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، فافترقا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً، وغيره مسلماً وكافراً، هذا هو قول الجمهور. قيل: ويجوز أن يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع. فظاهره أن المخاطب بتلك الجمل الكفار، ولما كان المجرور خبراً عن قوله وأذان، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم. ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول. تقول: برئت منك، وبرئت من الدين بخلاف مِنْ في قوله: براءة من الله، فإنها في موضع الصفة.

قال قوم: هذا استثناء منقطع، التقدير: لكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد أتموا إليهم عهدهم. وقال قوم منهم الزجاج: هو استثناء متصل من قوله: إلى الذين عاهدتم من المشركين. وقال الزمخشري: وجهه أنْ يكون مستثنى من قوله: فسيحوا في الأرضإِلَاّ الَّذِينَ عَهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} لأنّ الكلام خطاب للمسلمين.

الاستثناء بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين: ولكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر. وقيل: هو استثناء متصل، وقبله جملة محذوفة تقديرها: اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذي عاهدتم، وهذا قول ضعيف جداً، والأظهر أن يكون منقطعاً لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه.

ص: 241

وعن ابن عباس: كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر، فأتم إليهم عهدهم. وعنه أيضاً: إلى مدتهم، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية. وهذا بعيد، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقض وعدم المظاهرة.

وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة، وأبو زيد، وابن السميفع: ينقضوكم بالضاد، معجمة وتناسب العهد، وهي بمعنى قراءة الجمهور، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب. وهو على حذف مضاف، أي ولم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني: هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد، إلا أنّ القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله: فأتموا إليهم. والتمام ضد النقص. وانتصب شيئاً على المصدر، أي: لا قليلاً من النقص ولا كثيراً، ولم يظاهروا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتموا بإلى لتضمنه معنى فأدوا، أيْ: فأدوه تاماً كاملاً.

ص: 242

وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أنْ تذكر بالضمير نحو: لقيت رجلاً فضربته. ويجوز أنْ يعاد اللفظ معرّفاً بل نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل، ولا يجوز أنْ يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت: لقيت رجلاً فضربت الرجل الأزرق، وأنت تريد الرجل الذي لقيته، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره، ويكون المضروب غير الملقى. فإنْ وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل المذكور. وهنا جاء الأشهر الحرم، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها، فليس الحرم وصفاً مشعراً بالمغايرة. وقيل: الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السموات والأرض، وهي التي جاء في الحديث فيها إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب فتكون الأربعة من سنتين.

قال الزمخشري: كل مرصد كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه، وانتصابه على الظرف كقوله: لأقعدن لهم صراطك المستقيمفَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} انتهى. وهذا الذي قاله الزجاج قال: كل مرصد ظرف، كقولك: ذهب مذهباً ورده أبو علي، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً كما حكى سيبويه: دخلت البيت، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى. وأقول: يصح انتصابه على الظرف، لأن قوله:«واقعدوا لهم» ليس معناه حقيقة القعود، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه، ولما كان بهذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في كما قال: وقد قعدوا منها كل مقعد.

ص: 243

فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز جلست مجلس زيد، وقعدت مجلس زيد، تريد في مجلس زيد. فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه، فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش: معناه على كل مرصد، فحذف وأعمل الفعل، وحذف على، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه، يخصه أصحابنا بالشعر. وأنشدوا:

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة

وأخفى الذي لولا الأسى لقضائني أي لقضي عليّ.

الظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير متسحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره، فلا يتعين القتل.

حتى يصح أن تكون للغاية، أي: إلى أن يسمع. ويصح أن تكون للتعليل، وهي متعلقة في الحالين بأجره. ولا يصح أن يكون من باب التنازع، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقاً باستجارك أو بفأجره، وذلك لمانع لفظي وهو: أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، وحتى لا تجر المضمر، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع. لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور. ولما كان القرآن أعقم المعجزات، علق السماع به، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم. وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك: أنت لم تسمع، تريد لم تفهم. وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه. وقيل: مأممنه مصدر، أي ثم أبلغه أمنه. وقد استدل المعتزلة بقوله: حتى يسمع كلام الله على حدوث كلام الله، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات. ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك، وهذا مذكور في علم الكلام.

ص: 244

هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد. قال التبريزي والكرماني: معناه النفي، أي لا يكون لهم عده وهم لكم ضد. ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك. وقال القرطبي: وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث؟ انتهى. والاستفهام يراد به النفي كثيراً، ومنه قول الشاعر:

فها ذي سيوف يا هدى بن مالك

كثير ولكن ليس بالسيف ضارب أي ليس بالسيف ضارب. ولما كان الاستفهام معناه النفي، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل: منقطع، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. قال الحوفي: ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين، لأن معنى ما تقدم النفي، أي: ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا.

ص: 245

وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف، لقوله: كيف كان عاقبة مكرهم، وأن يكون الخبر للمشركين. وعند على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو للحال، أو هي وصف للعهد. وأن يكون الخبر عند الله، وللمشركين تبيين، أو متعلق بيكون، وكيف حال من العهد انتهى. والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية، أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم، وليست شرطية. وقال أبو البقاء: هي شرطية كقوله: ما يفتح اللَّه للناس من رحمةفَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَاّ الَّذِينَ عَهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَمُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} انتهى. فكان التقدير: ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم. وقال الحوفي: ما شرط ما موضع رفع بالابتداء، والخبر استقاموا، ولكم متعلق باستقاموا، لهم الفاء جواب الشرط انتهى. فكان التقدير فأي: وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم. وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا، لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء. وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل، وتأولنا ما اشتهد به. فعلى قوله تكون زمانية شرطية: أنّ الله يحب المتقين.

ص: 246

كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد. والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها، وحذف للعلم به في كيف السابقة، والتقدير: كيف لهم عهد وحالهم هذه؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيدكَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَسِقُونَ} . وقال الشاعر:

وخبرتماني إنما الموت بالقرى

فكيف وهاتا هضبة وكثيب أي: فكيف مات وليس في قرية؟ وقال الحطيئة:

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم

على معظم وأن أديمكم قدّوا أي فكيف تلومونني على مدحهم؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر. وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله: كيف تطمئنون إليهم؟ وقدره غيره: كيف لا يقتلونهم؟ والواو في «وإن يظهروا» واو الحال. وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالاً في قوله: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} ومعنى الظهور العلو والظفر، تقول: ظهرت على فلان علوته. والمعنى: وإن يقدروا عليكم ويظفروا بكم. وقرأ زيد بن علي: وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول. لا يرقبوا.

قال مجاهد وأبو مجلز: إلْ اسم الله بالسريانية وعرب. ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة، فقال: هذا كلام لم يخرج من إل. وقرأت فرقة: ألا بفتح الهمزة، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد. وقرأ عكرمة: إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها، فقيل: هو اسم الله تعالى. ويجوز أن يراد به إل أبدل من أحد المضاعفين ياء، كما قالوا في: إما إيما. قال الشاعر:

يا ليتما أمنا سالت نعامتها

إيما إلى جنة إيما إلى نار قال ابن جني: ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.

ص: 247

{اشتروا بآثات اللَّه ثمناً قليلاً قصدوا عن سبيل إنهم ساء ما كانوا يعملون} الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم.

الظاهر أنّ ساء هنا محولة إلى فعل. ومذ هو بابها مذهب بئس، ويجوز أقرارها على وصفها الأول، فتكون متعدية أي: أنهم ساءهم ما كانوا يعملون، فحذف المفهوم لفهم المعنى.

{ونفصل الآيات لقوم يعلمون} أي نبيّنها ونوضحها. وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين، بين قوله: فإن تابوا، وقوله: وإن نكثوا، بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بإبدال الهمزة الثانية ياء. وروي عن نافع مد الهمزة. وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع: بهمزتين، وأدخل هشام بينهما ألفاً وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها. وقال الزمخشري:(فإن قلت) : كيف لفظ أئمة؟ (قلت) : همزة بعدها همزة بين بين، أي بين مخرج الهمزة والياء. وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى. وذلك دأبه في تلحين المقرئين. وكيف يكون ذلك لحناً وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء، وقارىء مكة ابن كثير، وقارىء مدينة الرسول نافع، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم، أو يكون على حذف الوصف أي: لا أيمان لهم يوفون بها. وقرأ الجمهور: بفتح الهمزة. وقرأ الحسن، وعطاء، وزيد بن علي، وابن عامر: لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق. قال أبو علي: وهذا غير قوي، لأنه تكرار وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيماناً.

ص: 248

وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي يمينهم يمين، وقال: معناه أنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله: فقاتلوا أئمة الكفر.

ألا حرف عرض، ومعناه هنا الحض على قتالهم. وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام، ولا النافية، فصار فيها معنى التخصيص. وقال الزمخشري: دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة، ومعناها: الحض عليها على سبيل المبالغة.

وقرأ زيد بن علي: بدوكم بغير همز، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء، كما قالوا في قرأت: قريت، فصار كرميت. فلما أسند الفعل إلى الواو الضمير سقطت، فصار بدونكم كما تقول: رموكم. أتخشونهم تقرير للخشية منهم، وتوبيخ عليها. فالله أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه. ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق، وأن تخشوه بدل من الله أي: وخشية الله أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر، وتقديره: بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه. وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ، وأحق خبره قدم عليه. وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه، والجملة خبر عن الأول. وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفة خبراً للنكرة، في نحو: اقصد رجلاً خير منه أبوه.

هذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ. وقرأت فرقة: ويذهب فعلاً لازماً غيظ فاعل به. وقرأ زيد بن علي: كذلك إلا أنه رفع الباء.

ص: 249

وقرأ الجمهور: ويتوبُ اللَّه رفعاً، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم. قال الفراء والزجاج وأبو الفتح: وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى. وقرأ زيد بن علي، والأعرج وابن أبي إسحاق، وعيسى الثقفي، وعمرو بن عبيد، وعمر بن قائد، وأبو عمرو، ويعقوب فيما روي عنهما: ويتوب الله بنصب الباء، جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى. قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء.

ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا. غير متخذين وليجة، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة.

وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد. وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس، وجمعها ولائج وولج، كصحيفة وصحائف وصحف.

قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله: أم حسبتم. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتاً.

وقرأ ابن السميفع: أنْ يُعمِروا بضم الياء وكسر الميم، أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والجحدري: مسجد بالإفراد، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة بالجمع.

وانتصب شاهدين على الحال، والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته.

ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها. وقرأ زيد بن علي: بالياء نصباً على الحال، وفي النار هو الخبر. كما تقول: في الدار زيد قاعداً.

ص: 250

وقرأ الجمهور: سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات، فاحتيج إلى حذف من الأول أي: أهل سقاية، أو حذف من الثاني أي: كعمل من آمن. وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة: سقاة الحاج، وعمرة المسجد، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة. وقرأ ابن جبير كذلك، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة. وقرأ الضحاك: سقاية بضم السين، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال، وظئر وظؤار، وكان المناسب أن يكون بغير هاء، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة.

ص: 251

وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن سقايتهم وعمارتهم فضيلة، فخوطبوا على اتقادهم. أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا. وقيل: أعظم ليست على بابها، بل هي كقوله: أصحاب الجنة يؤمنوا خير مستقراًوَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلَا تُقَتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَلِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَجِدَ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءاتَى الزَّكَوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ * أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَجَهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ

ص: 252

وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * الَّذِينَءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . وقول حسان:

فشركما لخير كما الفداء

وكأنه قيل: عظيمون درجة. وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} .

قال التبريزي: ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم. برحمة أي: رحمة لا يبلغها وصف واصفل.

وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وحميد بن هلال: يَبشُرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: ورُضوان بضم الراء، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران. وقرأ الأعمش: بضم الراء والضاد معاً. قال أبو حاتم: لا يجوز هذا انتهى. وينبغي أن يجوز، فقد قالت العرب: سُلطان بضم اللام، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء.

وقرأ عيسى بن عمران: استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلاً، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطاً. ومعنى استحبوا: آثروا وفضلوا، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر. وقيل: بمعنى أحب. وضمن معنى اختار وآثرو، ولذلك عدي بعلى.

وقرأ الجمهور: بغير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن: بألف على الجمع. وزعم الأخفش أنّ العرب تجمع عشيرة على عشائر، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء.

والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان. وكان الحجاج بن يوسف يقرأ: أحب بالرفع، ولحنه يحيى بن يعمر، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كل ضمير الشأن، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان.

وصرف مذ هو بابه مذهب المكان، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال:

نصروا نبيهم وشدّوا أزره

ص: 253

بحنين يوم تواكل الأبطال وعطف الزمان على المكان. قال الزمخشري: وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة، ويوم حنين. وقال ابن عطية: ويوم عطف على موضع قوله: في مواطن، أو على لفظه بتقدير: وفي يوم، فحذف حرف الخفض انتهى. وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم.

والكثرة بفتح الكاف، ويجمع على كثرات. وتميم تكسر الكاف، وتجمع على كثر كشذرة وشذر، وكسرة وكسر.

قرأ زيد بن علي: بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرف.

قرأ زيد بن علي: سكينته بكسر السين وتشديد الكاف مبالغة في السكينة. نحو شرّيب وطبيخ.

وقرأ أبو حيوة: نِجْس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف، أي: جنس نجس، أو ضرب نجس، وهو اسم فاعل من نجس، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش. وقرأ ابن السميفع: أنجاس، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل.

قرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه: عائلة وهو مصدر كالعاقبة، أو نعت لمحذوف أي: حالاً عائلة، وإنّ هنا على بابها من الشرط. وقال عمرو بن قائد: المعنى وإذ خفتم كقولهم: إن كنت ابني فأطعني، أي: إذ كنت. وكون إنْ بمعنى إذ قول مرغوب عنه.

ص: 254

وقرأ عاصم، والكسائي عزيز منوناً على أنه عربي، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كعاذر وغيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القراءتين فابن خبر. وقال أبو عبيد: هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود. قيل: وليس قوله بمستقيم، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر، كسليمان جاء على هيئه عثمان وليس بمصغر. ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة: قل هو اللَّه أحد اللَّه الصمديُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَنٍ وَجَنَّتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ * قُلْ إِن كَانَءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَنُكُمْ وَأَزْوَجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ * لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآءُ الْكَفِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يأَيُّهَا

ص: 255

الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَهِهِمْ يُضَهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَرَهُمْ وَرُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَحِداً لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ} وقول الشاعر:

إذا غطيف السلمى فرّا

ص: 256

أو لأنّ ابناً صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه، والخبر محذوف أي: إلا هنا ومعبودنا. فقوله متمحل، لأنّ الذين أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى. ومعنى بأفواههم: أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير. وقيل: معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد، كما قال:{يكتبون الكتاب بأيديهم} {ولا طائري يطير بجناحيه} ولا بد من حذف مضاف في قوله: يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله، وهو قول الضحاك. أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي: يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير، واليهود أقدم من النصارى، وهو قول قتادة. وقرأ عاصم وابن مصرف: يضاهئون بالهمز، وباقي السبعة بغير همز. قاتلهم الله أنى يؤفكون: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المقتول. وقال ابن عباس: معناه لعنهم الله. وقال ابان بن تغلب:

قاتلها اللَّه تلحاني وقد علمت

إني لنفسي إفسادي وإصلاحي وقال قتادة: قتلهم، وذكر ابن الأنباري عاداهم. وقال النقاش: أصل قاتل الدعاء، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي:

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني

وأخبر الناس أني لا أباليها وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص. أنّى يؤفكون: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجب.

تعدت اتخذ هنا المفعولين، والضمير عائد على اليهود والنصارى، والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم.

الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا.

ص: 257

ومجيء إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منه محذوف، لأنه فعل موجب، والموجب أن يتم قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان: جاز هذا في أبي، لأنه منع وامتنع، فضارعت النفي. وقال الكرماني: معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة. وقال الفراء: دخلت إلا لأنّ في الكلام طرفاً من الجحد. وقال الزمخشري: أجرى أبى مجرى لم يرد. ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا بقوله: ويأبى الله، وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره؟.

والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على الرسول لأنه المحدّث عنه، والدين هنا جنس أي: ليعليه على أهل الأديان كلهم، فهو على حذف مضاف.

وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام وأدّى الخراج. وقيل: مخصوص بجزيرة العرب، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحداً من الكفار. وقيل: مخصوص بقرب الساعة، فإنه إذا ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم. وقيل: ليظهره بالحجة والبيان. وضعف هذا القول لأنّ ذلك كان حاصلاً أول الأمر.

أصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال:

لا درّ درّي إن أطعمت ضائعهم

قرف الجثى وعندي البر مكنوز وقالوا: رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه. وقال الراجز:

على شديد لحمه كناز

ص: 258

بات ينزيني على أوفاز ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة. الكي: معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد. والجبهة: معروفة وهي صفحة أعلى الوجه. والغاز: معروف وهو نفر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه، وقال ابن قارس: الغار الكهف، والغار نبت طيب الريح، والغار الجماعة، والغاران البطن والفرج. طبطه عن الأمر أبطأ به عنه، وناقة ثبطة أي بطيئة السير. وأصل التثبيط التعويق، وهو أو يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه. الزهف: الخروج بصعوبة، قال الزجاج: بالكسر خروج الروح، وقال الكسائي والمبرد: زهقت نفسه وزهقت لغتان، والزهق الهلاك، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر، والزهوق البعد، والزهوق البئر البعيدة المهواة. الملجأ: مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته. جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل. قال:

سبوحاً جموحاً وإحضارها

كمعمعة السعف الموقد وقال مهلهل:

وقد جمحت جماحاً في دمائهم

حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا وقال آخر:

إذا جمحت نساؤكم إليه

اشظ كأنه مسد مغار جمز قفر، وقيل: بمعنى جمح. قال رؤبة:

قاربت بين عنقي وجمزي

اللمز قال الليث: هو كالغمز في الوجه. وقال الجوهري: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها. وقال الأزهري: أصل اللمز الدفع، لمزتُه دفعته. الغرم: أصله لزوم ما يشق، والغرام العذاب الشاق، وسمي العشق غراماً لكونه شاقاً ولازماً.

ص: 259

وقرأ الجمهور: والذين بالواو، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين. وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله: فبشرهم. وقيل: والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان. وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية. وقيل: كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين، وروي هذا القول عن السدي، والظاهر العموم كما قلناه، فيقرن بين الكانزين من المسلمين، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظاً ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب. وروي العموم عن أبي ذر وغيره. وقرأ ابن مصرّف: الذين بغير واو، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم، ويحتمل الاستئناف والعموم. والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل الله.

ص: 260

والضمير في: ولا ينفقونها، عائد على الذهب، لأن تأنيثه أشهر، أو على الفضة. وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعاً، فروعي المعنى كقوله: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوااتَّخَذُواْ أَحْبَرَهُمْ وَرُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَحِداً لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأٌّحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ * إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَبِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَت وَالأٌّرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ

ص: 261

فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَلِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأٌّرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الأٌّخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الأٌّخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ * إِلَاّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا

ص: 262

أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَهِدُواْ بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً ولأّوْضَعُواْ خِلَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُاْ

ص: 263

الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَرِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَفِرِينَ * إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ * قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلَاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كَرِهُونَ * فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَلَا أَوْلَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَفِرُونَ * وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَرَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا

ص: 264

اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ} أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم، أو على المكنوزات، لدلالة يكنزون. أو على الأموال، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه. ولا ينفقونها، أو على الزكاة أي: ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال. وقال كثير من المفسرين: عاد على أحدهما كقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً} وليس مثله، لأن هذا عطف بأو، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو، إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن، وهو خلاف الظاهر.

يقال: حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى، وتقول: أحميتها أدخلتها لكي تحمى أضاً فحميت. وقرأ الجمهور: يوم يحمى عليها بالياء، أصله يحمى النار عليها، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور، لم تلحق التاء كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت: رفع إلى الأمير، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلى النار، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء. وقيل: من قرأ بالياء، فالمعنى: يحمى الوقود. ومن قرأ بالتاء فالمعنى: تحمى النار. والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي: يعذبون يوم يحمى. وقرأ أبو حيوة: فيكوى بالياء، لما كان ما أسند إليه ليس تأنيثه حقيقياً، ووقع الفصل أيضاً ذكر.

أضمر القول في هذا ما كنزتم أي: يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم، أي: هذا الكي نتيجة ما كنزتم، أو ثمرة ما كنزتم.a

ص: 265

ويجوز أن يتكون ما مصدرية أي: وبال كونكم كانزين. وقرىء يكنزون بضم النون.

الشهور: جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة، بخلاف قوله: الحج أشهر معلومات فجاء بلفظ جمع القلة.

ومعنى عند الله: أي، في حكمه وتقديره كما تقول: هذا عند أبي حنيفة. وقيل: التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر. وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص: بإسكان العين مع إثبات الألف، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة، كما روي: التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا. وقرأ طلحة: بإسكان الشين، وانتصب شهراً على لتمييز المؤكد كقولك: عندي من الرجال عشرون رجلاً.

ص: 266

قال ابن عطية: أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه، وليس بمعنى قضائه وتقديره، لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض انتهى. وعند الله متعلق بعدة. وقال الحوفي: في كتاب الله متعلق بعدة، يوم خلق السموات والأرض متعلق أيضاً بعدّة. وقال أبو علي: لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصولة بالخبر الذي هو أثنا عشر شهراً، لأنه لا يجوز انتهى. وهو كلام صحيح. وقال أبو البقاء: عدة مصاراً لا جثة، ويجوز أن يكون جثة، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى. وقيل: انتصب يوم بفعل محذوف أي: كتب ذلك يوم خلق السموات، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله: إن اللَّه عنده علم الساعةيَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ * إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَبِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَت وَالأٌّرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} جمع هنا بينهما، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر.

الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهراً قاله ابن عباس قال قتادة والفداء هو عائد على الأربعة الحرم.

ص: 267

وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى:{فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وإن كان ذلك محرماً في سائر الشهور انتهى. ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن، ولم يجىء بلفظ فيها كما جاء منها أربعة حرم، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول: الجذوع انكسرت، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول: الأجذاع انكسرن، هذا هو الصحيح. وقد يعكس قليلاً فتقول: الجذوع انكسرن، والأجذاع انكسرت، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال، أو بالبداءة بالقتال، أو بترك المحارم لعددكم أقوال. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول، ومعناه جميعاً. ولا يثني، ولا يجمع، ولا تدخله أل، ولا يتصرف فيها بغير الحال. وتقدم بسط الكلام فيها في قوله:{ادخلوا في السلم كافة} فأغنى عن إعادته. والمعية بالنصر والتأييد، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها.

ص: 268

يقال: نسأله وأنسأه إذا أخَّره، حكاه الكسائي. قال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتلو إلى قتيل. ورجل ناسىء وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة انتهى. وقيل: النسيء مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكير من أنكر، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه الزيادة انتهى. فإذا قلت: أنسأ الله؛ الله أجله بمعنى أخَّر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفاً للزيادة، بل قد يكون منفرداً عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسيء مصدراً كان الإخبار عنه بمصدر واضحاً، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة أي: ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.

وقرأ الجمهور: النسيء مهموز على وزن فعيل. وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني: النسيّ بتشديد الياء من غير همز، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء، وأدغم الياء فيها، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا: نبي وخطية بالإبدال والإدغام. وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري.

وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل: النسء بإسكان السين. والأشهب: النسي بالياء من غير همز مثل الندى. وقرأ مجاهد: النسوء على وزن فعول بفتح الفاء، وهو التأخير. ورويت هذه عن طلحة والسلمي. وقول أبي وائل: إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف. وقول الشاعر:

أنسنا الناسئين على معدّ

شهور الحل نجعلها حراما وقال آخر:

نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها

ص: 269

من قبلكم والعز لم يتحول وأعاد الضمير في به على النسيء، لا على لفظ زيادة. وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: يضل مبنياً للمفعول، وهو مناسب لقوله: زين، وباقي السبعة مبنياً للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب: يضل أي الله، أي: يضل به الذين كفروا اتباعهم. ورويت هذه القراءة عن: الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء. وقرأ أبو رجاء: يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام، أضلَّ بفتح الضاد منقولاً، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن: نُضل بالنون المضمومة وكسر الضاد، أي: نضل نحن. ومعنى تحريمهم عاماً وتحليلهم عاماً: لا يرادان ذلك، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام. وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفراً بدلاً من المحرم، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة، وإنَّ هذه كانت حال القوم.

ص: 270

وتقدم لنا أنّ الذي انتدب أولاً للنسيء القلمس. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة. وعن ابن عباس: إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ، وهو أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة. والمواطأة: الموافقة، أي ليوافقوا وقرأ الأعمش وأبو جعفر: ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف، فكنت لاستثقال الضمة عليها، وذهبت لالتقاء الساكنين، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا. وجاء عن الزهري: ليواطيوا بتشديد الياء، هكذا الترجمة عنه. قال صاحب اللوامح: فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهه انتهى.

قرأ الجمهور: زين لهم سوء أعمالهم مبنياً للمفعول. والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم. وقرأ زيد بن علي: زيِّن لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم.

ص: 271

وقرأ الأعمش: تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم، وهو ماض بمعنى المضارع، وهو في موضع الحال، وهو عامل في إذ أي: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا. وقال أبو البقاء: الماضي هنا بمعنى المضارع أي: ما لكم تتثاقلون، وموضعه نصب. أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على مذهب الخليل انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه يلزم منه حذف أنْ، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل، وحذف أنْ في نحو هذا قليل جداً أو ضرورة. وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا، لأن معمول المصدر الموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبراً لما. وقرىء: اثاقلتم على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ، ولا يمكن أن يعمل في إذ ما بعد حرف الاستفهام. فقال الزمخشري: يعمل فيه ما دل عليه، أو ما في ما لكم من معنى الفعل، كأنه قال: ما تصنعون إذا قيل لكم، كما تعمله في الحال إذا قلت: ما لك قائماً. والأظهر أن يكون التقدير: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا، وحذف لدلالة اثاقلتم عليه. ومعنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر. وقيل ملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله: الزجاج. ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى. وفي قوله: أرضيتم، نوع من الإنكار والتعجب أي: أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي. ومِن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي: بدل الآخرة كقوله: لجعلنا منكم ملائكةإِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَلِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ مَا

ص: 272

لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأٌّرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الأٌّخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الأٌّخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ * إِلَاّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِلَاّ} أي بدلاً، ومنه قول الشاعر:

فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى تبرد. وأصحابنا لا يثبتون أن تكون هنُّ للبدل. ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير: فما متاع الحياة الدنيا محسوباً في نعيم الآخرة. وقال الحوفي: في الآخر متعلق بقليل، وقليل خبر الابتداء. وصلح أن يعمل في الظرف مقدماً، لأنّ رائحة الفعل تعمل في الظرف. ولو قلت: ما زيد عمراً إلا يضرب، لم يجز.

ص: 273

وجواب الشرط محذوف تفسيره: فسينصره، ويدل عليه فقد نصره الله أي: ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف يكون قوله تعالى: فقد نصره الله جواباً للشرط؟ (قلت) : فيه وجهان: أحدهما: فسينصره، وذكر معنى ما قدمناه. والثاني: أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى. وهذا لا يظهر منه جواب الشرط، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق، والماضي لا يترتب على المستقبل، فالذي يظهر الوجه الأول. ومعنى إخراج الذين كفروا إياه: فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج، والإشارة إلى خروج رسول الله من مكة إلى المدينة. ونسب الإخراج إليهم مجازاً، كما نسب في قوله: التي أخرجتكإِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وقصة خروج الرسول صلى الله عليه وسلّموأبي بكر مذكورة في السير. وانتصب ثاني اثنين على الحال أي: أحد اثنين وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه.

وقرأت فرقة: ثاني اثنين بسكون ياء ثاني. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف.

إذ هما: بدل وإذ يقول: بدل ثان.

وقرئ: وكلمة الله بالنصب أي: وجعل. وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار. وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ: وجعل كلمته هي العلياء.

ص: 274

والشّقة بالضم من الثياب، والشقة أيضاً السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر قاله: الجوهري. وقال الزجاج: الشقة الغاية التي تقصد. وقال ابن عيسى: الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها. وقال ابن فارس: الشقة المسير إلى أرض بعيدة، واشتقاقها منه الشق، أو من المشقة. وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين، وافقه الأعرج في بعدت. وقال أبو حاتم: إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى. وحكى الكسائي: شقة وشقة.

وقوله: لخرجنا سدَّ مسدَّ جواب القسم. ولو جميعاً والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة، واستطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا انتهى. وما ذهب إليه من أنّ قوله: لخرجنا، سدَّ مسدَّ جواب القسم. ولو جميعاً ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان: أحدهما: إن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور. والآخران لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك. إنْ لخرجنا يسد مسدهما، فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك. ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو، ودل عليه جواب القسم جعل، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعاً.

ص: 275

وقرأ الأعمش وزيد بن علي: لوُ استطعنا بضم الواو، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن: بفتحها كمتا جاء: اشتروا الضلالةفَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَهِدُواْ بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب، أي: يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى. وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلاً من سيحلفون، أو حالاً بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يخلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالاً من قوله: لخرجنا أي، لخرجنا معكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً؟ يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكام انتهى. أما كون يهلكون

ص: 276

بدلاً من سيحلفون فبعيد، لأن الإهلاك ليس مرادفاً للحلف، ولا هو نوع من الحلف، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه. وأما كونه حالاً من قوله: لخرجنا، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم. فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب: نهلكُ أنفسنا أي: مهلكي أنفسنا. وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم، لو قلت: حلف زيد ليفعلن وأنا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز، وكذا عكسه نحو: حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائماً لم يجز. وأما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبراً عنهم بقوله: لو استطعنا لخرجنا معكم، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكاية. والحال من جملة كلامهم المحكي، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالداً، تريد اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هند: خرج زيد أضرب خالداً، تريد خرج زيد ضارباً خالداً، لم يجز.

وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه.

ص: 277

ولم ولهم متعلقان بأذنت، لكنه اختلف مدلول اللامين، إذ لام لم للتعليل، ولام لهم للتبليغ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما. ومتعلق الإذن غير مذكور، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي: لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له. وقيل: متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو، لما ترتب على خروجهم من المفاسد، لأنهم كانوا عيناً للكفار على المسلمين. ويدل عليه قوله: وفيكم سماعون لهمعَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَذِبِينَ * لَا} .

وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي: ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر، هكذا قدره الحوفي. وقال أبو البقاء: حتى يتبين متعلق بمحذوف دل عليه الكلام تقديره: هلاّ أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين. وقوله: لم أذنت لهم يدل على المحذوف. ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التبيين، وهذا لا يعاتب عليه انتهى.

والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا.

وقيل: التقدير لا يستأذنك المؤمنون في الخروج ولا القعود كراهة أن يجاهدوا.

ص: 278

قرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية: عُدَّ بضم العين من غير تاء، والفراء يقول: تسقط التاء للإضافة، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة. وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب، ولكن لا يقيس ذلك، إنما نقف فيه مع مورد السماع. قال صاحب اللوامح: لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها، وذلك لأنّ العد بغير تاء، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه. وقال أبو حاتم: هو جمع عدة كبرة وبر ودرة ودر، الوجه فيه عدد، ولكن لا يوافق خط المصحف. وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم: عده بكسر العين، وهاء إضمار. قال ابن عطية: وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد، وسمي قتلاً إذ حقه أن يقتل. وقرىء أيضاً: عبة بكسر العين، وبالتاء دون إضافة أي: عدة من الزاد والسلاح، أو مما لهم مأخوذ من العدد. ولما تضمنت الجملة انتفاء الخروج والاستعداد، وجاء بعدها ولكن، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه، لا بين متفقين، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقاً لما قبلها.

قال الزمخشري: (فإن فعلت) : كيف موقع حرف الاستدراك؟ (قلت) : لما كان قوله: ولو أرادوا الخروج معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: ولكن كره الله انبعاثهم، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ انتهى. وليست اةية نظير هذا المثال، لأنّ المثال واقع فيه لكن بين ضدين، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى، والانبعاث الانطلاق والنهوض.

بنى وقيل للمفعول، فاحتمل أن يكون القول: أذن الرسول لهم في القعود، أو قول بعضهم لبعض إما لفظاً وإما معنى، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه.

ص: 279

هذا الاستثناء متصل وهو مفرغ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر، وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير، ولهم لا شك خبال، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال. وقال الزمخشري: المستثنى منه غير مذكور، فالاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان هو استثناء متصلاً لأنّ بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً. وقيل: هو استثناء منقطع، وهذا قولمن قال: إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال. فالمعنى: ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً. وقرأ ابن أبي عبلة: ما زادوكم بغير واو، ويعني: ما زادكم خروجهم إلا خبالاً. والإيضاع الإسراع قال:

أرانا موضعين لأمر غريب

ونسحر بالطعام وبالشراب ويقال: وضعت الناقة تضع وضعاً ووضوعاً قال:

يا ليتني فيها جذع

أخب فيها وأضع قال الحسن: معناه لأسرعوا بالنميمة. وقرأ محمد بن القاسم: لأسرعوا بالفرار. ومفعول أوضعوا محذوف تقديره: ولا وضعوا ركائبكم بينكم، لأن الراكب أسرع من الماشي. وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد: ولا وفضوا أي أسرعوا كقوله: إلى نصب يوفضونلَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً ولأّوْضَعُواْ خِلَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ} وقرأ ابن الزبير: ولا رفضوا بالراء من رفض أسرع في مشيه رفضاً ورفضاناً قال حسان:

بزجاجة رفضت بما في جوفها

رفض القلوص براكب مستعجل وقال غيره:

والرافضات إلى منى فالقبقب

والخلاف جمع الخلل، وهو الفرجة بين الشيئين. وقال الأصمعي: تخللت القوم دخلت بين خللهم وخلالهم، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي: بينها، ويبغون حال أي: باغين.

فاللام في القول الأول للعليل، وفي الثاني لتقوية التعدية كقوله:{فعال لما يريد} .

{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين

ص: 280

متعلق الإذن محذوف تقديره: في القعود وفي مجاورته الرسول على نفاقه. وقرأ ورش: بتخفيف همزة إئذن لي بإبدالها واواً لضمة ما قبلها. وقال النحاس ما معناه: إذا دخلت الواو أو الفاء على أأئذن، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون، والفرق أنَّ ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما. وقرأ عيسى بن عمرو: لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن. قال أبو حاتم هي لغة تميم، وهي أيضاً قراءة ابن السميقع، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي.5 وجمع الشاعر بين اللغتين فقال:

لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت

سعيداً فأمسى قد قلا كل مسلم قرأ ابن مسعود وابن مصرف: هل يصيبنا مكان لن يصيبنا. وقرأ ابن مصرف أيضاً وأعين قاضي الرّي: هل يصيبنا بتشديد الياء، وهو مضارع فيعل نحو: بيطر، لا مضارع فعل، إذ لو كان كذلك لكان صوّب مضاعف العين. قالوا: صوب رأيه لما بناه على فعل، لأنه من ذوات الواو. وقالوا: صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة، وبعض العرب يقول: صاب السهم يصيب، جعله من ذوات الياء، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل، والصيب يحتمل أن يكون كسيدوكلين. وقال عمرو بن شقيق: سمعت أعين قاضي الري يقول: قل لن يصيبنا بتشديد النون. قال أبو حاتم: ولا يجوز ذلك، لأن النون لا تدخل مع لن، ولو كانت لطلحة بن مصرف الحارث، لأنها مع هل. قال تعالى: هل يذهبن كيده ما يغيطقُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} انتهى. ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد، وهذا توجيه شذوذ. أي: ما أصابنا فليس منكم ولا بكم، بل الله هو الذي أصابنا.

ص: 281

وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد. وقرأ ابن محيصن الأحدي: بإسقاط الهمزة. قال ابن عطية: فوصل ألف إحدى وهذه لغة وليست بالقياس، وهذا نحو قول الشاعر:

يابا المغيرة رب أمر معضل

ونحو قول الآخر:

إن لم أقاتل فالبسني برقعا

انتهى.

قرأ الأعمش وابن وثاب: كرهاً بضم الكاف، ويعني: في سبيل الله ووجوه البر. قيل: وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ. وقال الزمخشري: هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداًقُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ * قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَسِقِينَ} .

قوله: أسيىء بنا أو أحسنى لا ملومة. أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى. وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي: إنْ تتفقوا طوعاً أو كرهاً لم يتقبل منك، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى. قال ابن عطية: أنفقوا أمر في ضمنه جزاء، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء، والتقدير: إنْ تنفقوا لن نتقبل منكم. وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى. ويقدح في هذا التخريج أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء، لأنّ لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء، فكذلك ما ضمن معناه. ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيداً يحسن إليك، وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال.

ص: 282

في هذه القراءات الفعل مبني للمفعول. وقرأت فرقة: أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة. قال الزمخشري: وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أنّ الفعل لله تعالى انتهى. والأولى أن يكون فاعل منع قوله: ألا أنهم أي كفرهم، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي: وما منعهم الله، ويكون إلا أنهم تقديره: إلا لأنهم كفروا. وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه، وإما على تقدير حذف حرف الجر، فوصل الفعل إليه.

والمغارات جمع مغارة وهي الغار، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذا دخل مفعلة للمكان كقولهم: مزرعة. وقيل: المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع.

وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف: مغارات بضم الميم، فيكون من أغار. قيل: وتقول العرب: غار الرجل وأغار بمعنى دخل، فعلى هذا يكون مغارات من أغار اللازم. ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم. وقال الزجاج: ويصح أن يكون من قولهم: جبل مغار أي مفتول. ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم، فيجيء التأويل على هذا لو يجدون نصرة أو أموراً مرتبطة مشدّدة تعصمهم منكم أو مدّخلاً لولوا إليه. وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع، بمعنى مهارب ومغارّ انتهى.

يكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفتء الإعجاب.

للرسول وضمير ومنهم للمنافقين والكاف.

الظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه. وقيل: التقدير فإن أعطوا منها كثيراً يرضوا، وإن لم يعطوا منها كثيراً بل قليلاً، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين، لأنّ الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه، بل قد يجوز أن يتأخر نحو: إن أسلمت دخلت الجنة، فإنما يقتضي مطلق الترتب. وأما جواب الشرط الثاني فجاء إذا الفجائية، وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها. ومفعول رضوا محذوف أي: رضوا ما أعطوه.

ص: 283

وقرأ الجمهور: يلمزك بكسر الميم. وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم: بضمها، وهي قراءة المكيين، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ الأعمش: يلمزك. وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير: يلامزك، وهي مفاعلة من واحد.

وجواب لو محذوف تقديره: لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم. وكان ذلك الفعل دليلاً على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم الله، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون: سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وقيل: جواب لو هو قوله: وقالوا على زيادة الواو، وهو قول كوفي.

وقيل: ما آتاهم الله بالتقدير، ورسوله بالقسم انتهى. وأتى أولاً بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب، فكل قضائه صواب وحق، لا اعتراض عليه. ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان، فحسبنا ما رضي به. ثم أتى ثالثاً بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعمُ الله مترادفة عليه حالاً ومآلاً، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. ثم أتى رابعاً بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره، والرغبة إليه، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب، وما تضمن الإقرار باللسان، تعاطفتا. ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم: حسبنا الله لم تتعاطفا، إذ هما كالشرح لقولهم: حسبنا الله، فلا تغاير بينهما.

ص: 284

ولفظه إنما إنْ كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه. والظاهر أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف. والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير، فتكون الفقراء عين المساكين. والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائماً، إذ لم يرد نص في نسخ شيء منها. والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً، والخلاف في كل شيء من هذه الظواهر.

وأما قوله وفي الرقاب فالتقدير: وفي فك الرقاب فيعطي ما حصل به فك الرقاب من ابتداء عتق يشتري منه العبد فيعتق، أو تخليص مكاتب أو أسير.

انتصب فريضة لأنه في معنى المصدر المؤكد، لأن قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء، معناه فرض من الله الصدقات لهم. وقرىء فريضة بالرفع على تلك فريضة انتهى. وقال الكرماني وأبو البقاء: فريضة حال من الضمير في الفقر، أي مفروضة. قال الكرماني: كما تقول هي لك طلقاً انتهى. وذكر عن سيبويه أنها مصدر، والتقدير: فرض الله الصدقات فريضة. وقال الفراء: هي منصوبة على القطع. والله عليم حكيم، لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة، أو عليم بمقادرير المصالح، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح.

الاعتذار التنصل من الذنب، فقيل: أصله المحو، من قولهم: اعتذرت المنازل ودرست، فالمعتذر يحاول إزالة ذنبه. قال ابن أحمر:

قد كنت تعرف آيات فقد جعلت

إطلال إلفك بالوعساء تعتذر وعن ابن الأعرابي: إنّ الاعتذار هو القطع، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع، واعتذرت المياه انقطعت، والعذر سبب لقطع الذم. عدن بالمكان يعدن عدونا أقام، قاله: أبو زيد وابن الأعرابي. قال الأعشى:

وإن يستضيفوا إلى حلمه

ص: 285

يضافوا إلى راجح قد عدن وتقول العرب: تركت إبل فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه. وسمي المعدن معدناً لا نبات الله الجوهر فيه وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت. وعدن مدينة باليمن لأنها أكثر مدائن اليمن قطاناً ودوراً.

وقال الزمخشري: الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كان جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للرئية: عين. وقال الشاعر:

قد صرت أذناً للوشاة سميعة

ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا وهذا منهم تنقيص للرسول، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع. وقيل: المعنى ذو أذن، فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس. وقيل: أذن حديد السمع، ربما سمع مقالتنا. وقيل: أذن وصف بنى على فعل من أذن يأذن أذناً إذا استمع، نحو أنف وشلل وارتفع. أذن على إضمار مبتدأ أي: قل هو أذن خير لكم. وهذه الإضافة نظيرها قولهم: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الإذن. ويجوز أن يراد هو أذن في الخير والحق وما يجب سماعه وقبوله، وليس بإذن في غير ذلك. ويدل عليه خير ورحمة في قراءة من جرها عطفاً على خير أي: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم في رواية قل: أذن بالتنوين خير بالرفع. وجوزوا في أذن أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وخير خبر ثان لذلك المحذوف أي: هو أذن هو خير لكم.

وتعدية يؤمن أولاً بالباء، وثانياً باللام. قال ابن قتيبة: هما زائدان، والمعنى: يصدق الله، ويصدق المؤمنين.

ص: 286

وقال الزمخشري: قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر، فعدى بالباء، وقصد الاستماع للمؤمنين، وإن يسلم لهم ما يقولون فعدى باللام. ألا ترى إلى قوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقينوَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلَاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كَرِهُونَ * فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَلَا أَوْلَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَفِرُونَ * وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَرَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ

ص: 287

إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ * يَحْذَرُ الْمُنَفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ * الْمُنَفِقُونَ وَالْمُنَفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ هُمُ الْفَسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَفِقِينَ وَالْمُنَفِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَلاً وَأَوْلَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَهِيمَ وِأَصْحَبِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَتِ بَعْضُهُمْ

ص: 288

أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَمَسَكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ما أنباه عن الباء ونحوه {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه أنؤمن لك واتبعك الأرذلون آمنتم له قبل أن آذن لكم} انتهى. وقال ابن عطية: يؤمن بالله يصدق بالله، ويؤمن للمؤمنين. قيل: معناه ويصدق المؤمنين، واللام زائدة كما هي في {ردف لكم} وقال المبرد: هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل، كأنه قال: وإيمانه للمؤمنين أي: وتصديقه. وقيل: يقال آمنت لك بمعنى صدقتك، ومنه قوله:{وما أنت بمؤمن لنا} وعندي أنّ هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى: ويصدق للمؤمنين فيما يخبرونه به، وكذلك وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله لك انتهى. وقرأ أبي، وعبد الله، والأعمش، وحمزة: ورحمة بالجر عطفاً على خبر، فالجملة من يؤمن اعتراض بين المتعاطفين، وباقي السبعة بالرفع عطفاً على يؤمن، ويؤمن صفة لأذن خير. وابن أبي عبلة: بالنصب مفعولاً من أجله حذف متعلقه التقدير: ورحمة يأذن لكم، فحذف لدلالة أذن خير لكم عليه. وأبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيماً لشأنه، وجمعاً له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوّة والرسالة، وإضافته إليه زيادة في تشريفه، وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم، وحق لهم ذلك والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين أذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم.

ص: 289

الظاهر أنّ الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون: هو أذن أنكره وحلفوا أنهم ما قالوه. وقيل: عائد على الذين قالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن شر من الحمير، وتقدم ذكر ذلك. وقيل: عائد على الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.

اللام في ليرضوكم لام كي، وأخطأ من ذهب إلى أنها جواب القسم، وأفرد الضمير في أن يرضوه لأنهما في حكم مرضي واحد، إذ رضا الله هو ضا الرسول، أو يكون في الكلام حذف. قال ابن عطية: مذهب سيبويه أنهما جملتان، حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه. وهذا كقول الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ومذهب المبرد: أنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله. وقيل: الضمير عائد على المذكور كما قال رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق انتهى. فقوله: مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الأولى لدلالة الثانية عليها أنْ كان الضمير في أنهما عائداً على كل واحدة من الجملتين، فكيف تقول حذفت الأولى ولم تحذف الأولى؟ إنما حذف خبرها، وإن كان الضمير عائداً على الخبر وهو أحق أن يرضوه، فلا يكون جملة إلا باعتقاد كون أنْ يرضوه مبتدأ وأحق المتقدم خبره، لكن لا يتعين هذا القول: إذ يجوز أن يكون الخبر مفرداً بأن يكون التقدير: أحق بأن يرضوه.

ورسوله كذلك. إن كانوا مؤمنين كما يزعمون، فأحق من يرضونه الله ورسوله بالطاعة والوفاق.

ص: 290

أي ألم يعلم المنافقون؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار. وقرأ الحسن والأعرج: بالتاء على الخطاب، فالظاهر أنه التفات، فهو خطاب للمنافقين. قيل: ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين، فيكون معنى الاستفهام التقرير. وإن كان خطاباً للرسول فهو خطاب تعظيم، والاستفهام فيه للتعجب، والتقدير: ألا تعجب من جهلهم في محادّة الله تعالى: وفي مصحف أبيّ ألم يعلم. قال ابن عطية: على خطاب النبي عليه السلام انتهى. والأولى أن يكون خطاباً للسامع، قال أهل المعاني: ألم تعلم، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئاً مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له: ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة والمدة المديدة، وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي معه، وكثر منه التحذير عن معصية الله والترغيب في طاعة الله. قال بعضهم: المحادّة المخالفة، حاددته خالفته، واشتقاقه من الحد أي كان على حد غير حادة كقولك: شاقة، كان في شق غير شقه. وقال أبو مسلم: المحادة مأخوذة من الحديد، حديد السلاح. والمحادة هنا، قال ابن عباس: المخالفة. وقيل: المحاربة. وقيل: المعاندة. وقيل: المعادة. وقيل: مجاوزة الحد في المخالفة. وهذه أقوال متقاربة. وقرأ الجمهور فإنّ له بالفتح، والفاء جواب الشرط. فتقتضي جملة وإنّ له مفرد في موضع رفع على الابتداء، وخبره محذوف قدره الزمخشري: مقدماً نكرة أي: فحق أن يكون وقدره غيره: متأخراً أي فإن له نار جهنم واجب، قاله: الأخفش، ورد عليه بأن أنْ لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر، وهذا مذهب سيبويه والجمهور. وأجاز الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة على الخبر، فالأخفش خرج ذلك على أصله. أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب أنّ له النار. قال علي بن سليمان: وقال الجرمي والمبرد: إن الثانية مكررة للتوكيد، كان التقدير: فله نار جهنم، وكرر أنّ توكيداً. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه، على أن جواب من محذوف تقديره:

ص: 291

ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له نار جهنم انتهى، فيكون فإنّ له نار جهنم في موضع نصب. وهذا الذي قدره لا يصح، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ، أو مضارعاً مجزوماً بلم، فمن كلامهم: أنت ظالم إن فعلت، ولا يجوز أن تفعل، وهنا حذف جواب الشرط، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعاً مقروناً بلم، وذلك إنْ جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة. وأيضاً فتجد الكلام تاماً دون تقدير هذا الجواب. ونقلوا عن سيبويه أنّ أنّ بدل من أنه. قال ابن عطية: وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى. والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر. وأيضاً فإنّ الفاء مانع البدل وأيضاً، فهي معنى آخر غير الأول، فيقلق البدل. وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال انتهى. وقال أبو البقاء: وهذا يعني البدل ضعيف لوجهين: أحدهما: أن الفاء التي معها تمنع من ذلك، والحكم بزيادتها ضعيف. والثاني: أن جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب الكلام انتهى. وقيل: هو على إسقاط اللام أي: فلأن له نار جهنم، فالفاء جواب الشرط، ويحتاج إلى إضمار ما يتم به جواب الشرط جملة أي: فمحادته لأن له نار جهنم. وقرأ ابن أبي عبلة: فإن له بالكسر في الهمزة حكاها عنه أبو عمرو الداني، وهي قراءة محبوب عن الحسن، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو، ووجهه في العربية قوي لأنّ الفاء تقتضي الاستئناف، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار، بخلاف الفتح. وقال الشاعر:

فمن يك سائلاً عني فإني

ص: 292

وجروة لا ترود ولا تعار وعلى هذا يجوز في أنّ بعد فاء الجزاء وجهان: الفتح، والكسر. ذلك لأن كينونة النار له خالداً فيها هو الهوان العظيم كما قال: ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيتهيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ} .

وقال الزجاج وغيره ممن ذهب إلى التحرز من أن يكون كفرهم عناداً: هو مضارع في معنى الأمر أي: ليحذر المنافقون، ويبعده مخرج ما تحذرون، وأن تنزل مفعول يحذر، وهو متعد. قال الشاعر:

حذر أموراً لا تضرّ وآمن

ما ليس ينجيه من الأقدار وقال تعالى: ويحذركم الله نفسهيَحْذَرُ الْمُنَفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} لما كان قبل التضعيف متعدياً إلى واحد، عداه بالتضعيف إلى اثنين. وقال المبرد: حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثل فزع، والتقدير: يحذر المنافقون من أن تنزل، ولا يلزم ذلك: ألا ترى أنّ خاف من هيئات النفس وتتعدى؟ والظاهر أن قوله عليهم: وتنبئهم، الضمير أنّ فيهما عائدان على المنافقين، وجاء عليهم لأنّ السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة علهم قاله: الكرماني، والزمخشري. قال الكرماني: ويحتمل أنه من قولك: هذا عليك لا لك.

ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم: تذيع أسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة، فكأنها تخبرهم بها. وقال الزمخشري: والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، وصح ذلك لأنّ المعنى يعود إليه انتهى. والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله:{اعلموا ما شئتم} .

ص: 293

وقرأ باقي السبعة: إن تعف تعذب طائفة، مبنياً للمفعول. وقرأ الجحدري: أن يعف بعذب مبنياً للفاعل فيهما، أي: أن يعف الله. وقرأ مجاهد: أن تعف بالتاء مبنياً للمفعول، تعذب مبنياً للمفعول بالتاء أيضاً. قال ابن عطية: على تقدير إن تعف هذه الذنوب. وقال الزمخشري: الوجه التذكير لأنّ المسند إليه الظرف كما تقول: سير بالدابة، ولا تقول سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة فأنث لذلك، وهو غريب. والجيد قراءة العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طائفة بالتأنيث انتهى. مجرمين: مصرين على النفاق غير تائبين.

الكفر والانسلاخ من كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسب هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين.

الكفار هنا المعلنون بالكفر، وخالدين فيها حال مقدرة، لأن الخلود لم يقارن الوعد. وحسبهم كافيهم، وذلك مبالغة في عذابهم، إذ عذابهم شيء لا يزاد عليه، ولعنهم أهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المقربين. مقيم: مؤبّد لا نقلة فيه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق. والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين، وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.

هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. قال الفراء: التشبيه من جهة الفعل أي: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب. وقال الزجاج: المعنى وعد كما وعد الذين من قبلكم، فهو متعلق بوعد. وقال ابن عطية: وفي هذا قلق. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وهذا فيه بعد. وقيل: في موضع رفع التقدير أنتم كالذين. والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض. وقوله: كانوا أشد، تفسير لشبههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم.

ص: 294

وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى.

وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياًلَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ * الْمُنَفِقُونَ وَالْمُنَفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ هُمُ الْفَسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَفِقِينَ وَالْمُنَفِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَلاً وَأَوْلَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ} وكقوله: {إن المنافقين هم الفاسقون} .

وقيل: النون محذوفة أي: كالذين خاضوا، أي كخوض الذين. وقيل: الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي: كخوضهم. والظاهر أنّ أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدّة وكثرة الأموال والأولاد.

ص: 295

الظاهر أنّ الضمير في أتتهم رسلهم بالبينات عائد على الأمم الستة المذكورة، والجملة شرح للنبأ. وقيل: يعود على المؤتفكات خاصة، وأتى بلفظ رسل وإن كان نبيهم واحداً، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً، فهم رسول رسول الله، ذكره الطبري. وقال الكرماني: قيل: يعود على المؤتفكات أي: أتاهم رسول بعد رسول. والبينات المعجزات، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق، لا بالنسبة إلى المكذبين.

يظهر أن بين قوله بالبينات. وقوله: فما كان كلاماً محذوفاً تقديره والله أعلم فكذبوا فأهلكهم الله، فما كان الله ليظلمهم.

ص: 296

قال ابن عطية: السين مدخلة في الوعد مهلة، لتكون النفوس تتنعم برجائه وفضله تعالى. وقال الزمخشري: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوماً يعني: إنك لا تفوتني وإن تبطأ ذلك. ونحوه: سيجعل لهم الرحمن وداً ولسوف يعطيك ربك سوف نؤتيهم أجورهمأَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَهِيمَ وِأَصْحَبِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} انتهى. وفيه دفينة خفية من الاعتزال بقوله: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، يشير إلى أنه يجب على الله تعالى إثابة الطائع، كما تجب عقوبة العاصي. وليس مدلول السين توكيد ما دخلت عليه، إنما تدل على تخليص المضارع للاستقبال فقط. ولما كانت الرحمة هنا عبارة عما يترتب على تلك الأعمال الصالحة من الثواب والعقاب في الآخرة، أتى بالسين التي تدل على استقبال الفعل أنّ الله عزيز غالب على كل شيء، قادر عليه، حكيم واضع كلاًّ موضعه.

ص: 297

وقال الزمخشري: وعدن علمٌ لقوله تعالى: جنات عدن التي وعد الرحمن عبادهوَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَمَسَكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ويدل عليه ما روى أبو الدرداء، وساق الحديث المتقدم الذكر عن أبي الدرداء، وإنما استدل بالآية على أنّ عدناً علم، لأن المضاف إليها وصف بالتي وهي معرفة، فلو لم تكن جنات مضافة لمعرفة لم توصف بالمعرفة ولا يتعين ذلك، إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً بإضمار أعني: أو أمدح، أو بدلاً من جنات. ويبعد أن تكون صفة لقوله: الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات، والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت، وجيء بعده بالبدل.

وقرأ الأعمش ورضوان: بضمتين. قال صاحب اللوامح: وهي لغة، ورضوان مبتدأ. وجاز الابتداء به لأنه موصوف بقوله: من الله، وأتى به نكرة ليدل على مطلق أي: وشيء من رضوانه أكبر من كل ما ذكر.

ما نقموا الجملة كلام أجرى مجرى التهكم به، كما تقول: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لئاماً. وقال الشاعر:

ما نقموا من بني أمية إلا

أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا

يصلح إلا عليهم العرب وقال الآخر وهو نظير البيت السابق:

ولا عيب فينا غير عرق لمعشر

كرام وإنا لا نحط على النمل والظاهر عود الضمير في: يلقونه، على الله تعالى. وقيل: يلقون الجزاء. فقيل: جزاء بخلهم. وقيل: جزاء أفعالهم.

وقرأ الأعمش: لنصدقن ولنكوننّ بالنون الخفيفة فيهما والظاهر أن الضمير في فأعقيهم هو عائد على الله وقال الحسن وقتادة: الضمير في فأعقبهم للبخل.

ص: 298

وإذا كان الضمير عائداً على الله فلا يكون اللقاء متضمناً رؤية الله لإجماع العلماء على أنّ الكفار لا يرون الله، فالاستدلال باللقاء على الرؤية من قوله تعالى: تحيتهم يوم يلقونه سلاميَأَيُّهَا النَّبِىُّ جَهِدِ الْكُفَّرَ وَالْمُنَفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الأٌّرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَمِنْهُمْ مَّنْ عَهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّلِحِينَ * فَلَمَّآءَاتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمُ الْغُيُوبِ * الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ * فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَفَ رَسُولِ اللَّهِ

ص: 299

وَكَرِهُواْ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَتِلُواْ مَعِىَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَلِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَأَوْلَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَفِرُونَ * وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَلِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ جَهَدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأٌّعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ

ص: 300

حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَاّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} ليس بظاهر، ولقوله:{من حلف على يمين كاذبة ليقطع حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان} وأجمعوا على أنّ المراد هنا لقي ما عند الله من العقاب. ألم يعلموا هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع.

وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن: تعلموا بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير.

وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أنّ المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال: لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله. وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال، وفي قوله: فيهما فاكهة ونخل ورمانالَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ} وإلى هذا كان يذهب تلميذه ابن جني، وأكثر الناس على خلافهما.

ص: 301

والأحسن في الإعراب أن يكون الذين يلمزون مبتدأ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين، كأنه قيل: يلمزون الأغنياء وغيرهم. وفيسخرون معطوف على يلمزون، وسخر الله منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون. وذكر أبو البقاء أن قوله: والذين لا يجدون، معطوف على الذين يلمزون، وهذا غير ممكن، لأنن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر، ولا يمكن مشاركة الذين لا يجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين. قال: وقيل: والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين، وهذا بعيد جداً. قال: وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان: أحدهما فيسخرون. ودخلت الفاء لما في الذين من التشبيه بالشرط انتهى هذا الوجه. وهذا بعيد، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ، لأنّ من عاب وغمز أحداً هو ساخر منه، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها، وهو لا يجوز. قال: والثاني: أن الخبر سخر الله منهم، قال: وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر، تقديره عاب الذين يلمزون. وقيل: الخبر محذوف تقديره: منهم الذين يلمزون. وقال أبو البقاء أيضاً: من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى. وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر، وإذا كان حالاً جاز الفصل بها بين العامل فيها، وبين المعمول أخر، لذلك العامل نحو: جاءني الذي يمر راكباً بزيد. والسخرية: الاستهزاء. والظاهر أن قوله: سخر الله منهم خبر لفظاً ومعنى، ويرجحه عطف الخبر عليه. وقيل: صيغته خبر، ومعناه الدعاء.

فالضمائر عائدة على الذين سبق ذكرهم، أو على جميع المنافقين قولان. والخطاب بالأمر للرسول، والظاهر أنّ المراد بهذا الكلام التخيير.

ص: 302

وقيل: لفظه أمر ومعناه الشرط، بمعنى إنْ استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر الله، فيكون مثل قوله: قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكماسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ} وبمنزلة قول الشاعر:

أسيء بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت ومر الكلام في هذا في قوله: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً} وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره، وهو اختيار الزمخشري قال: وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت أم لم تستغفر، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر انتهى. يعني في تفسير قوله تعالى:{قل أنفقوا} وكان قال هناك. (فإن قلت) : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: لن يتقبل؟ (قلت) : هو أمر في معنى الخبر كقوله: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدًّا} ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً، ونحوه قوله: أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وقوله:

أسيء بنا أو أحسنيي لا ملومة

أي: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أحسنت إلينا أو أسأت. فإن قيل: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك: غفر الله لزيد ورحمة. (فإن قلت) : لم فعل ذلك؟ (قلت) : لنكتة وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة: امتحني لطف محلك عندي، وقوة محبتي لك، وعامليني بالإساءة والإحْسان، وانظري هل تتفاوت خالي معك مسيئة كنت أو محسنة. وفي معناه قول القائل:

أحول الذي إن قمت بالسيف عامداً

ص: 303

لتضربه لم يستغشك في الودّ وقال الأزهري في جماعة من أهل اللغة: السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة، لا السبعة التي فوق الستة انتهى. والعرب تستكثر في الآحار بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، وفي المئين بسبعمائة. قال الزمخشري: والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير. قال عليّ رضي الله تعالى عنه:

لأصبحن العاص وابن العاصي

سبعين ألفاً عاقدي النواصي قال ابن عطية: وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الإعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية ومقنعاً في الكثرة. ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى، وإلى أصحاب العقبة؟ وقد قال بعض اللغويين: إنّ التصريف الذي يكون من السين والباء والعين شديد الأمر من ذلك السبعة، فإنها عدد مقنع هي في السموات وفي الأرض، وفي خلق الإنسان، وفي بدنه، وفي أعضائه التي بها يطيع الله، وبها يعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي: عيناه، وأذناه، وأسنانه، وبطنه، وفرجه، ويداه، ورجلاه. وفي سهام الميسر، وفي الأقاليم، وغير ذلك ومن ذلك السبع العبوس، والعنبس، ونحو هذا من القول انتهىى واستدل القائلون بدليل الخطاب وأنّ التخصيص بالعدد يدل على أنّ الحكم فيما وراء ذلك بخلافه بما روى أنه قال:«والله لأزيدن على السبعين» ولم ينصرف حتى نزل: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} فكف عنه.

ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان، والمصدر وهو هنا للمصدر أي: بقعودهم، وهو عبارة عن الإقامة بالمدينة. وانتصب خلاف على الظرف، أي بعد رسول الله يقال: فلان أقام خلاف الحي، أي بعدهم. إذا ظعنوا ولم يظعن معهم. قاله أبو عبيدة، والأخفش، وعيسى بن عمرو. قال الشاعر:

عقب الربيع خلافهم فكأنما

بسط السواطب بينهنّ حصيرا ومنه قول الشاعر:

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

ص: 304

تأهب لأخرى مثلها وكأن قد ويؤيد هذا التأويل: قراءة ابن عباس، وأبي حيوة، وعمرو بن ميمون خلف رسول الله. وقال قطرب، ومؤرج، والزجاج، والطبري: انتصب خلاف على أنه مفعول لأجله أي: لمخالفة رسول الله، لأنهم خالفوه حيث نهض للجهاد وقعدوا. ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ خُلف بضم الخاء، وما تظاهرت به الروايات من أنه أمرهم بالنفر فغضبوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين وغير مستأذنين، وكراهتهم للجهاد هي لكونهم لا يرجون به ثواباً، ولا يدفعون بزعمهم عنهم عقاباً. وفي قوله: فرح وكرهوا مقابلة معنوية، لأن الفرح من ثمرات المحبة.

الأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره.

انتصب قليلاً وكثيراً على المصدر، لأنهما نعت للمصدر أي: ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً. وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت، ويقوم نعته مقامه، وذلك لدلالة الفعل عليه. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكونا نعتاً لظرف محذوف أي: زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً انتهى. والأول أجود، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته على الزمان بهيئته، فدلالته على المصدر أقوى. وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله، وهو متعلق بقوله: وليبكوا كثيراً.

ومرة مصدر كأنه قيل: أو خرجة دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة، فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق. وقيل: التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه. وقيل: أول مرة قبل الاستئذان. وقال أبو البقاء: أول مرة ظرف، ونعني ظرف زمان، وهو بعيد.

وقال الزمخشري: (فإن قلت) : مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ (قلت) : أكثر اللغتين هند. أكبر النساء، وهي أكبرهن. ثم إنّ قولك هي كبرى امرأة لا تكاد تعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة انتهى.

ص: 305

والخالفون جميع من تخلف من نسائ وصبيان وأهل عذر. غلب المذكر، فجمع بالواو والنون، وإن كان ثمّ نساء وهو جمع خالف. وقال قتادة: الخالفون النساء، وهذا مردود. وقال ابن عباس: هم الرجال. وقال الطبري: يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد، ومنه خلوف فم الصائم. وقرأ مالك بن دينار وعكرمة: مع الخلفين، وهو مقصور من الخالفين كما قال: عدداً وبدداً يريد عاددا وباددا، وكما قال الآخر:

مثل النقي لبده ضرب الظلل

يريد الظلال.

ومات صفة لا حد، فقدم الوصف بالمجرور ثم بالجملة، وهو ماض بمعنى المستقبل، لأن الموت غير موجود لا محالة.

ص: 306

وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه قاله: الزمخشري. وقال ابن عطية: ووجه تكريرها توكيد هذا المعنى. وقال أبو علي: ظاهره أنه تكرير وليس بتكرير، لأن الآيتين في فريقين من المنافقين، ولو كان تكريراً لكان مع تباعد الآيتين لفائدة التأكيد والتذكير. وقيل: أراد بالأولى لا تعظمهم في حال حياتهم بسبب كثرة المال والولد، وبالثانية لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق. وقد تغايرت الآيتان في ألفاظ هنا، ولا، وهناك، فلا ومناسبة الفاء أنه عقب قوله: ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي: للإنفاق، فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد، فنهاه عن الإعجاب بفاء التعقيب. ومناسبة الواو أنه نهي عطف على نهي قبله. ولا تصل، ولا تقم، ولا تعجبك، فناسبت الواو وهنا وأولادهم وهناك، ولا أولادهم، فذكر لا مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد واحد على انفراد. ويتضمن ذلك النهي عن المجموع، وهنا سقطت، فكان نهياً عن إعجاب المجموع. ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد واحد. فدلت الآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين. وهنا أن يعذبهم، وهناك ليعذبهم، فأتى باللام مشعرة بالتعليل. ومفعول يريد محذوف أي: إنما يريد الله ابتلاءهم بالأموال والأولاد لتعذيبهم. وأتى بأن لأنّ مصب الإرادة هو التعذيب أي: إنما يريد الله تعذيبهم. فقد اختلف متعلق الفعل في الآيتين هذا الظاهر، وإن كان يحتمل زيادة اللام. والتعليل بأنّ وهناك الدنيا، وهنا في الحياة الدنيا، فأثبت في الحياة على الأصل، وحذفت هنا تنبيهاً على خسة الدنيا، وأنها لا تستحق أن تسمى حياة، ولا سيما حين تقدمها ذكر موت المنافقين، فناسب أنْ لا تسمى حياة.

ليست هنا إذاً تفيد التعليق فقط، بل انجرَّ معها معنى التكرار سواء كان ذلك فيها بحكم الوضع أنه بحكم غالب الاستعمال، لا الوضع. وهي مسألة خلاف في النحو، ومما وجد معها التكرار قول الشاعر:

ص: 307

إذا وجدت أوار النار في كبدي

أقبلت نحو سقاء القوم أبترد ألا ترى أنّ المعنى متى وجدت وإن آمنوا يحتمل أنْ أنْ تكون تفسيرية، لأن قبلها شرط ذلك؟ ويحتمل أن تكون مصدرية أي: بأن آمنوا أي: بالإيمان. والظاهر أنّ الخطاب للمنافقين أي: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. قيل: ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين.

وقال النحاس: يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة، وهذا جمعه بحسب اللفظ، والمراد أخساء الناس وأخلافهم. وقالت فرقة: الخوالف جمع خالف، فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك، والظاهر أن قوله: وطبع خبر من الله بما فعل بهم. وقيل: هو استفهام أي: أو طبع على قلوبهم، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والضلال.

والخيرات: جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء، فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ، وكثرة استعماله في النساء ومنه فيهن خيرات حسان. وقال الشاعر:

ولقد طعنت مجامع الربلات

ربلات هند خيرة الملكات وقيل: المراد بالخيرات هنا الحور العين. وقيل: المراد بها الغنائم من الأموال والذراري. وقيل: أعدّ الله لهم جنات، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم.

ص: 308

ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الإعراب. قرأ الجمهور: المعذبون بفتح العين وتشديد الذال، فاحتمل وزنين: أحدهما: أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه: تكلف العذر ولا عذر له، ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذراً فيما يفعل ولا عذر له. والثاني: أن يكون وزنه افتعل، وأصله اعتذر كاختصم، فأدغمت التاء في الذال. ونقلت حركتها إلى العين، فذهبت ألف الوصل. ويؤيده قراءة سعيد بن جبير: المعتذرون بالتاء من اعتذر. وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل. الأخفش، والفراء، وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزجاج، وابن الأنباري. وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، والضحاك، والأعرج، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، ويعقوب، والكسائي، في رواية المعذرون من أعذر. وقرأ مسلمة: المعذرون بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر. قال أبو حاتم: أراد المتعذرين، والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج، وهي غلط منه أو عليه.

يحتمل أن يكونوا كفاراً كما قال قتادة، فانقسموا إلى جاء معتذر وإلى قاعد، واستؤنف إخبار بما يصيب الكافرين. ويكون الضمير في منهم عائداً على الإعراب، أو يكون المعنى: سيصيب الذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي، وفي الآخرة بالنار. وقرأ الجمهور: كذبوا بالتخفيف أي: في إيمانهم فاظهروا ضد ما أخفوه. وقرأ أبيّ والحسن في المشهور عنه: ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالى ولا رسوله، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم.

وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله بنصب الجلالة، والمعطوف ما على المحسنين من سبيل أي: من لائمة تناط بهم أو عقوبة. ولفظ المحسنين عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم، وقيل: المحسنين هنا المعذورون الناصحون، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس.

معطوف على ما قبله.

ص: 309

وقرأ معقل بن هارون: لنحملهم بنون الجماعة، وإذا تقتضي جواباً. والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو قلب، ويكون قوله: تولوا جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول؟ قيل: تولوا وأعينهم تفيض. وقيل: جواب إذا تولوا، وقلب جملة في موضع الحال من الكاف، أي: إذا ما آتوك قائلاً لا أجد، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله: حصرت صاورهم قاله الزمخشري. أو على حذف حرف العطف أي: وقلت، قاله الجرجاني وقاله ابن عطية وقدره: فقلت بالفاء وأعينهم تفيض جملة حالية. قال الزمخشري: (فإن قلت) : فهل يجوز أن يكون قوله: قلت لا أجد استئنافاً مثله يعني: مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف؟ كأنه قيل: إذا ما أتوك لنحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ قلت: لا أجد ما أحملهم عليه، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض (قلت) : نعم، ويحسن انتهى. ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب، فيكف في كلام الله وهو فهم أعجمي؟ وتقدّم الكلام على نحو وأعينهم تفيض من الدمع في أوائل حزب لتجدنفَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَتِلُواْ مَعِىَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَلِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ

ص: 310

وَأَوْلَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَفِرُونَ * وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَلِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ جَهَدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأٌّعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَاّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} من سورة المائدة. وقال الزمخشري: هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض. ومن للبيان كقولك: أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز انتهى. ولا يجوز ذلك لأنّ التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن، وأيضاً فإنه معرفة، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة. وانتصب حزناً على المفعول

ص: 311

له، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء: أو مصدر في موضع الحال. وأن لا يجدوا مفعول له أيضاً، والناصب له حزناً قال أبو البقاء: ويجوز أن يتعلق بتفيض انتهى. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناً مفعولاً له والعامل فيه تفيض، لأنّ العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. وقوله: أن لا يجدوا ما ينفقون فيه دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله: ولا على الذين لا يجدون ما نفقون حرج.k

الإعراب صيغة جمع، وفرق بينه وبن العرب. فالعربي من له نسب في العرب، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ، ما كان من العرب أو من مواليهم. فالعربي من له نسب في العرب، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ، كان من العرب أو من مواليهم. وللفرق نسب إليه على لفظه فقيل: الأعرابي، وجمع الأعراب على الأعارب جمع الجمع.

أجدر أحق وأحرى، قال الليث: جدر جدارة فهو جدير وأجدر، به يؤنث ويثني ويجمع. قال الشاعر:

نخيل عليها جنة عبقرية

جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا أسس على وزن فعل مضعف العين، وآسس على وزن فاعل وضع الأساس وهو معروف، ويقال فيه: أس. والجرف: البئر التي لم تطوه، وقال أبو عبيدة: الهوة وما يجرفه السيل من الأودية. هار: منهال ساقط يتداعى بعضه في إثر بعض، وفعله هار يهور ويهار ويهير، فعين هار يحتمل أن تكون واواً أو ياءً، فاصله هاير أو هاور فقلبت، وصنع به ما صنع بقاضٍ وغازٍ، وصار منقوصاً مثل شاكي السلاح ولاث قال: لاث به الآشاء والعبريّ. وقيل: هار محذوف العين لفرعله فتجري الراء بوجوه الإعراب. وحكى الكسائي: تهور وتهير. أواه كثير قول أوّه، وهي اسم فعل بمعنى أتوجع، ووزنه فعال للمبالغة. فقيال الفعل أن يكون ثلاثياً، وقد حكاه قطرب: حكى آه يؤوه أوهاً كقال يقول قولاً ونقل عن النحويين أنهم أنكروا ذلك وقالوا: ليس من لفظ أوه فعل ثلاثي، إنما يقال: أوّه تأويها وتأوّه تأوهاً. قال الراجز: فأوه الداعي وضوضأ أكلبه.

ص: 312

وقال المثقب العبدي:

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوه آهة الرجل الحزين وفي أوه اسم الفعل لغات ذكرت في علم لنحو. الظمأ: العطش الشديد، وهو مصدر ظمىء يظمأ فهو ظمآن وهي ظمآن، ويمد فيقال ظماء. الوادي: ما انخفض من الأصل مستطيلاً كمحاري السيول ونحوها، وجمعته العرب على أودية وليس بقياسه، قال تعالى: فسالت أودية بقدرهاإِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَاّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ * الأٌّعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الأٌّعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأٌّعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ

ص: 313

اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّبِقُونَ الأٌّوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالأَنْصَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأٌّعْرَابِ مُنَفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ

ص: 314

إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَلِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأٌّمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ

ص: 315

بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّئِبُونَ الْعَبِدُونَ الْحَمِدُونَ السَّئِحُونَ الركِعُونَ السَّجِدونَ الأٌّمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَهِيمَ لأًّبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ * لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَجِرِينَ وَالأٌّنصَرِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ

ص: 316

الرَّحِيمُ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّدِقِينَ * مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأٌّعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَمَا} وقياسه فواعل، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين. قال النحاس: ولا أعرف فاعلاً أفعلة سواه، وذكر غيره ناد وأندية قال الشاعر:

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل والنادي: المجلس، وحكى الفراء في جمعه أو داء، كصاحب وأصحاب قال جرير:

عرفت ببرقة الأوداء رسماً

مجيلاً طال عهدك من رسوم وقال الزمخشري: الوادي كل منعرج من جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل فاعل من ودي إذا سال، ومنه الودى. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض تقول: لا تصل في وادي غيرك.

وليست إنما للحصر، إنما هي للمبالغة في التوكيد، والمعنى: إنما السبيل في اللائمة والعقوبة والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم، وكان خبر السبيل على وإن كان قد فصل بإلى كما قالت:

هل من سبيل إلى خمر فاشربها

ص: 317

أم من سبيل إلى نصر بن حجاج لأنّ على تدل على الاستعلاء وقلة منعة من دخلت عليه، ففرق بين لا سبيل لي على زيد، ولا سبيل لي إل زيد. وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم: عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وغيرهم. ورضوا: استئناف كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا في القعود بالمدينة وهم قادرون على الجهاد، فقيل: رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف. وعطف وطبع تنبيهاً على أنّ السبب في تخلفهم رضاهم بالدناءة، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا.

نبأ هنا تعدّت إلى مفعولين كعرف، نحو قوله: من أنبأك هذا؟ والثاني هو من أخباركم أي: جملة من أخباركم، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم. وقيل: نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة، والثالث محذوف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي: من أخباركم كذباً أو نحوه. وسيرى الله توعد أي: سيراه في حال وجوده، فيقع الجزاء منه عليه إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر.

ص: 318

وهنا حذف المحلوف به، وفي قوله: سيحلفون باللهإِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَاّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ} أثبت كقوله: {إذا أقسموا ليصرمنها} وقوله: {وأقسموا بالله} فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يميناً.

ص: 319

وفي الحجة يجوز أن تكون الدائرة مصدراً كالعاقبة، ويجوز أن تكون صفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: والسوء هنا. وفي سورة الفتح ثانية بالضم، وباقي السبعة بالفتح، فالفتح مصدر. قال الفراء: سوأته سوأ ومساءة وسوائية، والضم الاسم وهو الشر والعذاب، والفتح ذم الدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وصت الدائرة بالمصدر كما قالوا: رجل سوء في نقيض رجل صدق، يعنون في هذا الصلاح لا صدق اللسان، وفي ذلك الفساد. ومنه ما كان أبوك امرأ سوءوَمِنَ الأٌّعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي امرأً فاسداً. وقال المبرد: لسوء بالفتح الرداءة، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء، قاله أكثرهم. وقد حكي بالضم وقال الشاعر:

وكنت كذيب السوء لما رأى دماً

بصاحبه يوماً أحال على الدم والله سميع لأقوالهم عليم بنياتهم.

والظاهر عطف وصلوات على قربات. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون وصلوات الرسول عطفاً على ما ينفق.

والضمير في أنها قيل: عائد على الصلوات. وقيل: عائد على النفقات. وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها، والمعنى: قربة لهم عند الله. وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه، وهو ألا وحرف التوكيد وهو أنّ. قال الزمخشري: وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأنّ الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها انتهى. وتقدم الكلام معه في دعواه أنّ السين تفيد تحقيق الوعد. وقرأ ورش: قربة بضم الراء، وباقي السبعة بالسكون، وهما لغتان. ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعاً لما قبله، كما قالوا: ظلمات في جمع ظلمة.

ص: 320

وقرأ عمر بن الخطاب، والحسن، وقتادة، وعيسى الكوفي، وسلام، وسعيد بن أبي سعيد، وطلحة، ويعقوب، والأنصار: برفع الراء عطفاً على والسابقون، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ. وعلى قراءة الجمهور وهي الجر، يكونون قسمين: سابق أول، وغير أول. ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم، والذين اتبعوهم الضمير في القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار. والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي الله الخبر، وجوّزوا في الخبر أنْ يكون الأولون أي: هم الأولون من المهاجرين. وجوزوا في قوله: والسابقون، أن يكون معطوفاً على قوله: من يؤمن أي: ومنهم السابقون. وجوزوا في الأنصار أنْ يكون مبتدأ، وفي قراءة الرفع خبره رضي الله عنهم، وذلك على وجهين. والسابقون وجه العطف، ووجه أنْ لا يكون الخبر رضي الله، وهذه أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن. وقرأ ابن كثير: من تحتها بإثبات من الجارة، وهي ثابتة في مصاحف مكة. وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم. وعن عمر أنه كان يرى: والذين اتبعوهم بإحسان، بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد بن ثابت: إنها بالواو فقال: ائتوني بأبيّ فقال: تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهموَمِنَ الأٌّعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّبِقُونَ الأٌّوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالأَنْصَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وأوسط الحشر: {والذين جاؤوا من بعدهم} وآخر الأنفال: {والذين آمنوا من بعد} . وروي

ص: 321

أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو فقال: من أقرأك؟ فقال: أني فدعاه فقال: أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا وقعتا وقعة لا يبلغها أحد بعدنا.

والذين كانوا حول المدينة جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ومزينة، وعصية، ولحيان، وغيرهم ممن جاوز المدينة. ومن أهل المدينة يجوز أن يكون من عطف المفردات، فيكون معطوفاً على من في قوله: وممن، فيكون المجرور أن يشتركان في المبتدأ الذي هو منافقون، ويكون مردوا استئنافاً، أخبر عنهم أنهم خريجون في النفاق. ويبعد أن يكون مردوا صفة للمبتدأ الذي هو منافقون، لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على وممن حولكم، فيصير نظير في الدار زيد وفي القصر العاقل، وقد أجازه الزمخشري تابعاً للزجاج. ويجوز أن يكون من عطف الجمل، ويقدر موصوف محذوف هو المبتدأ أي: ومن أهل المدينة قوم مردوا، أو منافقون مردوا. قال الزمخشري: كقوله: أنا ابن جلا. انتهى. فإن كان شبهه في مطلق حذف الموصوف، وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامه، وهي في تقدير الاسم، ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم: منا ظعن ومنا أقام. وأما أنا ابن رجلاً فضرورة شعر كقوله:

يرمي بكفي كان من أرمى البشر

أي بكفي رجل. وكذلك أنا ابن جلا تقديره: أنا ابن رجل جلا أي كشف الأمور. وبينها وعلى الوجه الأول يكون مردوا شاملاً للنوعين، وعلى الوجه الثاني يكون مختصاً بأهل المدينة.

ص: 322

وفي قوله: نحن نعلمهم تهديد وترتب عليه بقوله: سنعذبهم مرتين. والظاهر إرادة التثنية ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد، بل يكون المعنى على التكثير كقوله: ثم ارجع البصر كرتينوَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأٌّعْرَابِ مُنَفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي كرة بعد كرة. كذلك يكون معنى هذا سنعذبهم مرة بعد مرة. وإذا كانت التثنية مرادة فأكثر الناس على أنّ العذاب الثاني هو عذاب القبر.

وفي مصحف أنس سيعذبهم بالياء، وسكن عياش عن أبي عمر والياء.

وعطف أحدهما على الآخر دليل على أنّ كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، كقولك: خلطت الماء واللبن، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن، فليس فيه إلا أنّ الماء خلط باللبن، قال معناه الزمخشري: ومتى لطت شيئاً بشيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به، من حيث مدلولية الخلط، لأنها أمر نسبي. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهماً، بمعنى شاة بدرهم.

الخطاب للرسول، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلقتنا عنك فتصدق بها وطهرنا.

ص: 323

من أموالهم: متعلق بخذ وتطهرهم، وتزكيهم حال من ضمير خذ، فالفاعل ضمير خذ. وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة، فلما تقدم كان حالاً، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة، وأن يكون استئنافاً، وأن يكون ضمير تطهرهم عائداً على صدقة، ويبعد هذا العطف، وتزكيهم فيختلف الضمير أن، فأما ما حكى مكي من أنّ تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ، فقدر ردّ بأنّ الواو للعطف، فيكون التقدير: صدقة مطهرة ومزكياً بها، وهذا فاسد المعنى، ولو كان بغير واو جاز انتهى. ويصح على تقدير مبتدأ محذوف، والواو للحال أي: وأنت تزكيهم، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب.

وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه: ألم تعلموا بالتاء على الخطاب، فاحتمل أن يكون خطاباً للمتخلفين الذين قالوا: ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء؟ واحتمل أن يكون على معنى: قل لهم يا محمد، وأن يكون خطاباً على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء. وهو تخصيص وتأكيد أنّ الله من شأنه قبول توبة من تاب.

وقيل: كلمة مِن وكلمة عَن متقاربتان، إلا أنّ عن تفيد البعد. فإذا قيل: جلس عن يمين الأمير أفاد أن جلس في ذلك الجانب، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته. فلفظه عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى. والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة. فإن قلت: أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك، وإذا قلت: من زيد دل على ابتداء الغاية، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد. وعن أبلغ لظهور الانتقال معه، ولا يظهر مع من.

ص: 324

وقرأ أهل المدينة: نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: الذين بغير واو، كذا هي في مصاحف المدينة والشام، فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله: وآخرون مرجون، وأن يكون خبر ابتداء تقديره: هم الذين، وأن يكون مبتدأ. وقال الكسائي: الخبر لا تقم فيه أبد. قال ابن عطية: ويتجه بإضمار إما في أول الآية، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم. وقال النحاس والحوفي: الخبر لا يزال بنيانهم. وقال المهدوي: الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه.

ص: 325

وقرأ جمهور القراء: والذين بالواو وعطفاً على وآخرون أي: ومنهم الذين اتخذوا، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ. وقال الزمخشري:(فإن قلت) : والذين اتخذوا ما محله من الإعراب؟ (قلت) : محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى: والمقيمين الصلاةوَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَلِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأٌّمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وقيل: هو مبتدأ وخبره محذوف، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى:{والسارق والسارقة} وانتصب ضراراً على أنه مفعول من أجله أي: مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء، ومعازّة وكفراً وتقوية

ص: 326

للنفاق، وتفريقاً بين المؤمنين، لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم، فأرادوا أنْ يفترقوا عنه وتختلفم كلمتهم، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان. ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موع الحال. وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ثانياً لاتخذوا.

ومن هنا دخلت على الزمان، واستدل بذلك الكوفيون على أنّ من تكون لابتداء الغاية في الزمان، وتأوله البصريون على حذف مضاف أي: من تأسيس أول يوم، لأنّ من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان، وتحقيق ذلك في علم النحو. قال ابن عطية: ويحسن عندي أن يستغني عن تقدير، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنى البداءة، كأنه قال: من مبتدأ الأيام، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى. وأحق بمعنى حقيق، وليست أفعل تفضيل، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم

وقرأ عبد الله بن يزيد: فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين، والأصل الضم، وفيه رفع توهم التوكيد، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع. وجوزوا في فيه رجال أن يكون صفة لمسجد، والحال، والاستئناف.

وقرأ ابن مصرف والأعمش: يطهروا بالإدغام، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين.

ص: 327

قرأ نافع وابن عامر: أسس بنيانه مبنياً للمفعول في الموضعين. وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنياً للفاعل، وبنصب بنيان. وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول، والثانية على بنائه للفاعل. وقرأ نصر بن علي، ورويت عن نصر بن عاصم أسس بنيانه، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضاً، أساس جمع أسّ. وعن نصر بن عاصم آسس بهمزة مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء إساس بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء أساس بفتح الهمزة، وأُس بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفاً إلى البنيان، فهذه تسع قراءات. وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم: أفمن أسس بالتخفيف والرفع، بنيانه بالجرّ على الإضافة، فأسس مصدر أس: الحائط يؤسة أساً وأسساً. وعن نصر أيضاً أساس بنيانه كذلك، إلا أنه بالألف، وأسّ وأس وأساس كلّ مصادر انتهى. والبنيان مصدر كالغفران، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق. وقيل: هو جمع واحده بنيانه قال الشاعر:

كبنيانة القاريّ موضع رحلها

وآثار نسعيها من الدفّ أبلق وقرأ عيسى بن عمر على تقوى بالتنوين، وحكى هذه القراءة سيبويه، وردها الناس. قال ابن جني: قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كارطي. وقرأ جماعة منهم: حمزة، وابن عامر، وأبو بكر، جرف بإسكان الراء، وباقي السبعة وجماعة بضمها، وهما لغتان. وقيل: الأصل الضم. وفي مصحف أبي فانهارت به قواعده في نار جهنم.

يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدراً أي: لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان، ويحتمل أن يراد به المبني، فيكون على حذف مضاف أي: لا يزال بناء المبنى.

وقال قتادة: في الكلام حذف تقديره: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي: حزازة وغيظاً في قلوبهم.

ص: 328

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص: إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي: يتقطع، وباقي السبعة بالضم، مضارع قطع مبنياً للمفعول. وقرىء يقطع بالتخفيف. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، ويعقوب: إلى أن نقطع، وأبو حيوة إلى أن تُقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة، ونصب قلوبهم خطاباً للرسول أي: تقتلهم، أو فيه ضمير الريبة. وفي مصحف عبد الله: ولو قطعت قلوبهم، وكذلك قرأها أصحابه. وحكى أبو عمرو هذه القراءة: إن قطعت بتخفيف الطاء. وقرأ طلحة: ولو قطعت قلوبهم خطاب للرسول، أو كل مخاطب. وفي مصحف أبي: حتى الممات، وفيه حتى تقطع. فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى: بالقتل. وأما على من قرأه مبنياً للمفعول، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم: بالموت.

على الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون، في موضع الحال. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والعربيان، والحرميان، وعاصم: أولاً على البناء للفاعل، وثانياً على البناء للمفعول. وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك، والمعنى واحد.

ص: 329

قال الزمخشري: يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى: تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكمأَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} انتهى. فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالاً. وانتصب وعداً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة.

قط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي. ثم قال: فاستبشروا، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم، وهي حكمة الالتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد، ومحيل على البيع السابق.

ص: 330

وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى: {أن الله اشترى} الآية وقال: لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك: ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون، فقيل: هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون، وما بعده خبر بعد خبر أي: التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وقيل: خبره الآمرون. وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف، وتقديره: من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} ولذلك جاء: {وبشر المؤمنين} وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها. وقيل: التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون، أي الذين بايعوا الله هم التائبون، فيكون صفة مقطوعة للمدح، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش: التايبين بالياء إلى والحافظين نصباً على المدح. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين، وقاله أيضاً: ابن عطية. وقيل: يجوز أن يكون التائبون بدلاً من الضمير في يقاتلون.

والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف. ولما كان الأمر مبايناً للنهي، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل، حسن العطف في قوله: والناهون ودعوى الزيادة، أو واو الثمانية ضعيف.

ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب أنّ ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها. ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب.

ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم: قراءة الحسن، وحماد الراوية، وابن السميقع، وأبي نهيك، ومعاذ القارىء، وعدها أباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم.

ص: 331

والأوّاه: الدعاء، أو المؤمن، أو الفقيه، أو الرحيم، أو المؤمن التواب، أو المسيح، أو الكثير الذكر له، أو التلاء لكتاب الله، أو القائل من خوف الله، أواه المكثر ذلك، أو الجامع المتضرع، أو المؤمن بالحبشية، أو المعلم للخير، أو الموفى، أو المستغفر عند ذكر الخطايا، أو الشفيق، أو الراجع عن كل ما يكرهه الله، أقوال للسلف، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات. وقال الزمخشري: أوّاه فقال: من أوّه كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه. وقوله: لأرجمنك انتهى. وتشبيه أوّاه من أوّه بلأل من اللؤلؤ ليس بجيد، لأنّ مادة أوّه موجودة في صورة أوّاه، ومادة لؤلؤة مفقودة في لأل لاختلاف التركيب، إذ لأل ثلاثي، ولؤلؤ رباعي، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية.

اتبعوه: أي اتبعوا أمره، فهو من مجاز الحذف. ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي: في وقت العسرة، والتباعة مستعارة للزمان المطلق، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم. قال:

غداة طفت علماء بكر بن وائل

عشية قارعنا جذام وحميرا وآخر:

إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى

ص: 332

قرأ حمزة وحفص: يزيغ بالياء، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر، لأنّ النية به التأخير. ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرأ باقي السبعة: بالتاء، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد، وتزيغ الخبر وسط بينهما، كما فعل ذلك بكان. قال أبو علي: ولا يجوز ذلك في عسى، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار، أي من بعد ما كاد هو أي: الجمع. وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء، كأنه قال: من بعد ما كاد القوم. وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النحو: من أنّ خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها. فبعضهم أطلق، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة، ولا يكون سبباً، وذلك بخلاف كان. فإنّ خبرها يرفع الضمير، والسبي لاسم كاد، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر، والمرفوع ليس ضميراً يعود على اسم كادبل ولا سبباً له، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضاً. وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان: يقوم زيد، وفيه خلاف، والصحيح المنع. وأما توجيه الآخر فضعيف جداً من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم، ومن حيث يكون خبر كاد واقعاً سببياً، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة، ومعناها مراد، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر، فتكون مثل كان إذا زيدت، يراد معناها ولا عمل لها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود: من بعد ما زاغت، بإسقاط كاد. وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى: لم يكد يراها مع تأثيرها للعامل، وعملها هي. فأحرى أن يدعي زيادتها، وهي ليست عاملة ولا معمولة.

ص: 333

وقرأ الأعمش والجحدري: تزيغ برفع التاء. وقرأ أبي: من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم، الضمير في عليهم عائد على الأولين، أو على الفريق فالجملة كرّرت تأكيداً. أو يراد بالأول إنشاء التوبة، وبالثاني استدامتها.

وقرأ الجمهور: خلفوا بتشديد اللام مبنياً للمفعول. وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام. وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي، وذر ابن حبيش، وعمرو بن عبيد، ومعاذ القاري، وحميد: بتخفيف اللام مبنياً للفاعل، ورويت عن أبي عمرو أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة. وقرأ أبو العالية أبو الجوزاء كذلك مشدَّد اللام. وقرأ أبو زيد، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر، وعلي بن الحسين، وابناه زيد، ومحمد الباقر، وابنه جعفر الصادق: خالفوا بألف أي: لم يوافقوا على الغزو. وقال الباقر: ولو خلفوا لم يكن لهم. وقرأ الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف.

وإذاً إنْ كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره: تاب عليهم، ويكون قوله: ثم تاب عليهم، نظير قوله: ثم تاب عليهم، بعد قوله لقد تاب الله على النبي الآية. ودعوى أنّ ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جداً، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم. ومن زعم أنّ إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله: خلفوا أي: خلفوا إلى هذا الوقت، ثم تاب عليهم ليتويوا.

ص: 334

وقال صاحب اللوامح: ومن أعم من مع، لأنّ كل ن كان من قوم فهو معهم في المعنى المأمور به، ولا ينعكس ذلك. وقرأ زيد بن علي، وابن السميقع، وأبو المتوكل، ومعاذ القاري: مع الصادقين بفتح القاف وكسر النون على التثنية، ويظهر أنهما الله ورسوله لقوله تعالى: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسولهمَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَهِيمَ لأًّبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ * لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَجِرِينَ وَالأٌّنصَرِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّدِقِينَ} ولما تقدم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، أمروا بأنْ يكونوا مع الله

ص: 335

ورسوله بامتثال الأمر واجتناب المنهى عنه كما يقال: كن مع الله يكن معك.

وموطئاً مفعل من وطىء، فاحتمل أنْ يكون مكاناً، واحتمل مصدراً. والفاعل في يغيظ عائد على المصدر، إما على موطىء إن كان مصدراً، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكاناً، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار.

وقرأ زيد بن علي: يغيظ بضم الياء. والنيل مصدر، فاحتمل أن يبقى على موضوعه، واحتمل أن يراد به المنيل. وأطلق نيلاً ليعمّ القليل والكثير مما يسوءهم قتلاً وأسراً وغنيمة وهزىمة، وليست الياء في نيل بدلاً من واو خلافاً لزاعم ذلك، بل نال مادتان: إحداهما من ذوات الواو نلته أنولة نولاً ونوالاً من العطية، ومنه التناول. والأخرى: هذه من ذوات الياء، نلته ناله نيلاً إذا أصابه وأدركه. وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضاً وهو الوطء، ثم ثنى بالنيل من العدو. جاء العموم في الكفار بالألف واللام، وفي من عدو لكونه في سياق النفي، وبدىء أولاً بما يحض المافر في الجهاد في نفسه، ثم ثانياً بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو.

والجملة من كتب في موضع الحال، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي: بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل.

ص: 336

ومفعول كتب مضمر يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون، كأنه قيل: كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع، ويجوز أن يعود على قوله: عمل صالح المتقدم الذكر. وتأخرت هاتان الجملتان وقدّمت تلك الجمل السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى في العدو، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لم يحصلا، فهذا أعم وتلك أخص. وكان تعليل تلك آكد، إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأنّ، وذكر فيه الأجر. ولفظ المحسنين تنبيهاً على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين. وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير: أحسن جزاء الذي كانوا يعملون، لأنّ عملهم له جزاء حسن، وله جزاء أحسن، وهنا الجزاء أحسن جزاء. وقال أبو عبد الله الرازي: أحسن ما كانوا يعملون فيه وجهان: الأول: أن أحسن من صفة فعلهم، وفيها الواجب والمندوب دون المباح اننتهى. هذا الوجه فاحتمل أن يكون أحسن بدلاً من ضمير ليجزيهم بدل اشتمال، كأنه قيل: ليجزي الله أحسن أفعالهم بالأحسن من الجزاء، أو بما شاء من الجزاء. ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف فيكون التقدير: ليجزيهم جزاءاً أحسن أفعالهم. والثاني: أن الأحسن صفة للجزاء أي: يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل، وهو الثواب انتهى، هذا الوجه، وإذا كان الأحسن من صفة الجزاء فكيف أضيف إلى الأعمال وليس بعضها منها؟ وكيف يقع التفضيل إذ ذاك بين الجزاء وبين الأعمال، ولم يصرح فيه بمن؟.

كان ثم جملة محذوفة دل عليها تقسيمها أي: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة مقعدت أخرى ليتفقهوا. وقيل: على أن يكون النفير إلى الغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على الكافرين.

ص: 337

وقوله تعالى: ليتفقهوا، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة، ولينذروا قومهم، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.

يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين، ويحتمل أن يقولوا: ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق. ومعنى قولهم ذلك: هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها، كما تقول: أي غريب في هذا وأي دليل في هذا، وفي الفتيان قيل: هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه. وقرأ الجمهور: رأيكم بالرفع. وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير: أيكم بالنصب على الاشتغال، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كهو بعد أداة الاستفهام نحو: أريد اضربته. والتقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين.

الضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض، وذلك على قراءة الجمهور بالياء. وقرأ حمزة: بالتاء خطاباً للمؤمنين. والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب، ومن رؤية البصر. وقرأ أبي وابن مسعود، والأعمش: أو لا نرى أي أنت يا محمد؟ وعن الأعمش أيضاً: أو لم تروا؟

الظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت. وقيل: ثم صفة محذوفة أي: سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم.

صرف الله قلوبهم صيغته خبر، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان، قاله الفراء.

وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي، ويعقوب من بعض طرقه: من أنفسكم بفتح الفاء. ورويت هذه القراءة عن رسول الله، وعن فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما، والمعنى: من أشرفكم وأعزكم، وذلك من النفاسة، وهو راجع لمعنى النفس، فإنها أعز الأشياء. والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي: يعز عليه مشقتكم كما قال:

يسر المرء ما ذهب الليالي

ص: 338