الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النحل
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَنَهُ وَتَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ بِالْحَقِّ تَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنْسَنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأٌّنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَلِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأٌّرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِى الأٌّرْضِ
رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلهٌ وَحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ * قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَنَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَفِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
ومِنْ للتبعيض، أو لبيان الجنس. ومن يشاء: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنْ مصدرية، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع، وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم: كتبت إليه بأنْ قم، وهو بدل من الروح. أو على إسقاط الخافض: بأن أنذروا، فيجري الخلاف فيه: أهو في موضع نصب؟ أو في موضع خفض؟ وقال الزمخشري: وأن أنذروا بدلاً من الروح أي: ننزلهم بأن أنذروا، وتقديره: أنذروا أي: بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أنه لا إله إلا أنا انتهى. فجعلها المخفف من الثقيلة، وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن، وقدر إضمار القول: حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونها الشانية التي من شأنها نصب المضارع. وجوّز ابن عطية، وأبو البقاء، وصاحب الغنيان: أن تكون مفسرة فلا موضع لها من الإعراب.
ودفء مبتدأ وخبره لكم، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار. وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالاً من دفء، إذ لو تأخر لكان صفة. وجوز أيضاً أن يكون لكم حالاً من دفء وفيها الخبر، وهذا لا يجوز لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها، لا يجوز: فائماً في الدار زيد، فإنْ تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش، ومنعه الجمهور. وأجاز أيضاً أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بال، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى. ولا تسمى جملة، لأنّ التقدير: خلقها لكم فيها دفء، أو خلقها لكم كائناً فيها دفء، وهذا من قبيل المفرد، لا من قبيل الجملة. وجوزوا أن يكون لكم متعلقاً بخلقها، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام.
والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام. وقال الزمخشري، وابن عطية: يجوز أن يكون قد عطف على البيان، وعلى هذا كون لكم استئناف، أو متعلق بخلقها.
الظاهر أنّ مِن للتبعيض كقولك: إذا أكلت من الرغيف.
وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري: حيناً فيهما بالتنوين، وفك الإضافة. وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد كقوله:{واتقوا يوماً لا تجزى} ويكون العامل في حيناً على هذا، إمّا المبتدأ لأنه في معنى التجمل، وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار.
وقرأ الجمهور: والخيل وما عطف عليه بالنصب عطفاً على والأنعام.
وانتصب وزينة، ولم يكن باللام، ووصل الفعل إلى الركوب بوساطة الحرف، وكلاهما مفعول من أجله، لأن التقدير: خلقها، والركوب من صفات المخلوق لهم ذلك فانتفى شرط النصب، وهو: اتحاد الفاعل، فعدى باللام. والزينة من وصف الخالق، فاتحد الفاعل، فوصل الفعل إليه بنفسه. وقال ابن عطية: وزينة نصب بإضمارفعل تقديره: وجعلناها زينة. وروى قتادة عن ابن عباس: لتركبوها زينة بغير واو. قال صاحب اللوامح: والزينة مصدر أقيم مقام الاسم، وانتصابه على الحال من الضمير في خلقها، أو من لتركبوها.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع، وتكون مِن للتبعيض.
ومفعول شاء محذوف لدلالة لهداكم أي: ولو شاء هدايتكم.
والظاهر أنّ لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي: ماء كائناً لكم منه شراب. ويجوز أن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافاً، وشراب مبتدأ.
وقرأ الجمهور: والشمس وما بعده منصوباً، وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة إن كان مسخرات اسم مفعول، وهو إعراب الجمهور.
وقرأ ابن عامر: والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر، وحفص والنجوم مسخرات برفعهما.
والظاهر في قراءة نصب الجميع أنّ والنجوم معطوف على ما قبله. وقال الأخفش: والنجوم منصوب على إضمار فعل تقديره: وجعل النجوم مسخرات، فأضمر الفعل. وعلى هذا الإعراب لا تكون مسخرات حالاً مؤكدة، بل مفعولاً ثانياً لجعل إن كان جعل المقدرة بمعنى صير، وحالاً مبينة إن كان بمعنى خلق.
والظاهر عطف، ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه. وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفاً على علة محذوفة أي: لتبتغوا بذلك. ولتبتغوا، وأن يكون على إضمار فعل أي: وفعل ذلك لتبتغوا.
وقال ابن عطية أيضاً: وقوله: وأنهاراً، منصوب بفعل مضمر تقديره: وجعل، أو خلق أنهاراً.
وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر.
أموات خبر مبتدأ ومحذوف أي هم أموات ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر.
والظاهر أنّ قوله: إيان، معمول ليبعثون، والجملة في موضع نصب بيشعرون، لأنه معلق. إذ معناه العلم.
وقيل: تم الكلام عند قوله: وما يشعرون. وأيان يبعثون ظرف لقوله: إلهكم إله واحد، أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد انتهى. ولا يصح هذا القول لأنّ إيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفاً، إما استفهاماً، وإما شرطاً. وفي هذا التقدير تكون ظرفاً بمعنى وقت مضافاً للجملة بعدها، معمولاً لقوله: واحد، كقولك: يوم يقوم زيد قائم.
وماذا كلمة استفهام مفعول بأنزل، أو مبتدأ خبره ذا بمعنى الذي، وعائده في أنزل محذوف أي: أي شيء الذي أنزله. وأجاز الزمخشري أن يكون ماذا مرفوعاً بالابتداء قال: بمعنى أي شيء أنزله ربكم. وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر، والضمير في لهم عائد على كفار قريش، وماذا أنزل ليس معمولاً لقيل على مذهب البصريين، لأنه جملة، والجملة لا تقع موقع المفعول الذي لم يسم فاعله، كما لا تقع موقع الفاعل. وقرىء شاداً: أساطير بالنصب على معنى ذكر ثم أساطير، أو أنزل أساطير على سبيل التهكم والسخرية.
وقرأ الجمهور: برفع أساطير، فاحتمل أن يكون التقدير المذكور: أساطير، أو المنزل أساطير، جعلوه منزلاً على سبيل الاستهزاء، وإن كانوا لا يؤمنون بذلك. واللام في ليحملوا لام الأمر على معنى الحتم عليهم والصغار الموجب لهم، أو لام التعليل من غير أن يكون غرضاً كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر، وهي التي يعبر عنه بلام العاقبة، لأنهم لم يقصدوا بقولهم: أساطير الأولين، أن يحملوا الأوزار. ولما قال ابن عطية: إنه يحتمل أن تكون لام العاقبة قال: ويحتمل أن يكون صريح لام كي على معنى قدر هذا لكذا، وهي لام التعليل، لكنه لم يعلقها بقوله. قالوا: بل أضمر فعلاً آخر وهو: قدر هذا، وكاملة حال أي: لا ينقص منها شيء، ومن للتبعيض.
وقال الأخفش: من زائدة أي: وأوزار الذين يضلونهم، والمعنى: ومثل أوزار الذين يضلونهم كقوله: «فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
ويجوز أن يكون الذين خبر مبتدأ محذوف، وأن يكون منصوباً على الذم، فاحتمل أن يكون مقولاً لأهل العلم، واحتمل أن يكون غير مقول، بل من إخبار الله تعالى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله، وخبره في قوله: فألقوا السلم، فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا انتهى. وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش، فإنه يجيز: زيد فقام، أي قام. ولا يتوهم أنّ الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولاً، وضمن معنى الشرط، لأنه لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح الشرط، فلا يجوز فيما ضمن معناه.
واظاهر عطف فألقوا على تتوفاهم، وأجاز أبو البقاء أن يكون معطوفاً على قوله: الذين، وأن يكون مستأنفاً.
واللام في فلبئس لام تأكيد، ولا تدخل على الماضي المنصرف، ودخلت على الجاخد لبعده عن الأفعال وقربه من الأسماء.
والمخصوص بالذم محذوف أي: فلبئس مثوء المتكبرين هي أي جهنم.
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الأٌّخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلَغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَلَةُ فَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّصِرِينَ * وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَذِبِينَ *
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَالَّذِينَ هَجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأّجْرُ الأٌّخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأٌّرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَئِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَفُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * وَقَالَ}
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الأٌّخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تقدم إعراب ماذا، إلا أنه إذا كانت ذا موصولة لم يكن الجواب على وفق السؤال، لكون ماذا مبتدأ وخبر، أو الجواب نصب وهو جائز، ولكن المطابقة في الإعراب أحسن. وقرأ الجمهور: خيراً بالنصب أي: أنزل خيراً.
وقرأ زيد بن علي: خير بالرفع أي: المنزل فتطابق هذه القراءة تأويل من جعل إذا موصولة، ولا تطابق من جعل ماذا منصوبة، لاختلافهما في الإعراب، وإن كان الاختلاف جائزاً كما ذكرنا.
والظاهر أن المخصوص بالمدح هو جنات عدن. وقال الزمخشري: ولنعم دار المتقين دار الآخرة، فحذف المخصص بالمدح لتقدم ذكره، وجنات عدن خبر مبتدأ محذوف انتهى. وقاله ابن عطية، وقبلهما الزجاج وابن الأنباري، وجوزوا أن يكون جنات عدن مبتدأ، والخبر يدخلونها. وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات عدن بالنصب على الاشتغال أي: يدخلون جنات عدن يدخلونها، وهذه القراءة تقوي إعراب جنات عدن بالرفع أنه مبتدأ، ويدخلونها الخبر. وقرأ زيد بن علي: ولنعمت دار، بتاء مضمومة، ودار مخفوض بالإضافة، فيكون نعمت مبتدأ ونات الخبر. وقرأ السلمي: تدخلونها بتاء الخطاب. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع: يدخلونها بياء على الغيبة، والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر وشيبة: تجري. قال ابن عطية: في موضع الحال، وقال الحوفي: في موضع نعت لجنات انتهى. فكان ابن عطية لحظ كون جنات عدن معرفة، والحوفي لحظ كونها نكرة، وذلك على الخلاف في عدن هل هي علم؟ أو نكرة بمعنى إقامة؟ والكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف أي: جزاء مثل جزاء الذين أحسنوا يجزي، وطيبين حال من مفعول تتوفاهم.
ويقولون نصب على الحال من الملائكة.
وقال مقاتل والحسن: عند دخول الجنة وهو قول خزنة الجنة لهم في الآخرة: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار. فعلى هذا القول يكون يقولون حالاً مقدرة، ولا يكون القول وقت التوفي. وعلى هذا يحتمل أن يكون الذين مبتدأ، والخبر يقولون.
الكاف في موضع نصب أي مثل فعلهم.
وقوله: فأصابهم معطوف على فعل.
وقرأ الحرميان، والعربيان، والحسن، والأعرج، ومجاهد، وشيبة، وشبل، ومزاحم الخراساني، والعطاردي، وابن سيرين: لا يهدي مبنياً للمفعول، ومن مفعول لم يسم فاعله. والفاعل في يضل ضمير الله والعائد على من محذوف تقديره: من يضله الله. وقرأ الكوفيون، وابن مسعود، وابن المسيب، وجماعة: يهدي مبنياً للفاعل. والظاهر أنّ في يهدي ضميراً يعود على الله، ومن مفعول، وعلى ما حكى الفراء أنّ هدى يأتي بمعنى اهتدى يكون لازماً، والفاعل من انتصب وعداً وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه. وقال الحوفي: حقاً نعت لو عدا. وقرأ الضحاك: بلى وعد حق، والتقدير: بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد. وقال الزمخشري: وأقسموا بالله معطوف على وقال الذي أشركوا.
واللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي: نبعثهم ليبين لهم كما يقول الرجل: ما ضربت أحداً فيقول: بلى زيداً أي: ضربت زيداً. ويعود الضمير في يبعثهم المقدار، وفي لهم على معنى من في قوله: من يموت.
الظاهر أن اللام في الشيء وفي له للتبليغ كقولك قلت لزيد قم وقال الزجاج هي لام السبب آي: الأجل إيجاد شيء وكذلك له أي لأجله.
وقوله: أن نقول، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا، ولكن أن مع الفعل تعطى استئنافاً ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية. وكقوله تعالى: ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره وغير ذلك انتهى. وقوله: ولكن أن مع الفعل يعني المضارع، وقوله: في أغلب أمرها ليس بجيد، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها.
والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي: تبوئة حسنة. وقيل: انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر، لأنّ معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم، فحسنة في معنى إحساناً. وقال أبو لابقاء: حسنة مفعول ثان لنبوأنهم، لأنّ معناه لنعطينهم، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي: دار حسنة انتهى.
وقرأ عليّ، وعبد الله، ونعيم بن ميسرة، والربيع بن خيثم: لنثوينهم بالثناء المثلثة، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة، أو على نزع الخافض أي: في حسنة.
وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ، خلافاً لثعلب. وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل. ولا يجوز زيداً لأضربن، فلا يجوز زيداً لأضربنه.
وما أرسلنا، وهذا فيه وجهان: أحدهما: أن النية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً حتى لا يكون ما بعد إلا معمولين متأخرين لفظاً ورتبة، داخلين تحت الحصر لما قبلها، وهذا حكاه ابن عطية عن فرفة. والوجه الثاني: أن لا ينوي به التقديم، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر، وهذا قاله الحوفي والزمخشري، وبدأ به قال: تتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيداً بالسوط، لأن أصله ضربت زيداً بالسوط انتهى. وقال أبو البقاء: وفيه ضعف، لأنّ ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلام على إلا وما بيليها، إلا أنه قد جاء في الشعر. قال الشاعر:
ليتهم عذبوا بالنار جارهمولا يعذب إلا اللَّه بالنار
انتهى. وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا، إلا مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً، وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلاّ قدر له عامل. وأجاز الكسائي أن تقع معمولاً لما قبلها منصوب نحو: ما ضرب إلا زيداً عمراً، ومخفوض نحو: ما مرّ إلا زيد بعمرو، ومرفوع نحو: ما ضرب إلا زيداً عمرو. ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال. فالقول الذي قاله الحوقي والزمخشري بتمشى على مذهب الكسائي والأخفش، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو. وأجاز الزمخشري أن يكون صفة لرجال أي: رجالاً ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف، وهذا وجه سائغ، لأنه في موضع صفة لما بعد: إلا، فوصف رجالاً بيوحى إليهم، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول: ما أكرمت إلا رجلاً مسلماً ملتبساً بالخير. وأجاز أيضاً أن يتعلق بيوحى إليهم، وأن يتعلق بلا يعلمون.
والسيئات نعت لمصدر محذوف أي: المكرات السيئات قاله الزمخشري: أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة: أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية. وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلاً من السيئات. وعلى القولين. قبله مفعول بأمن.
والجملة من قوله: تتفيئوا، في موضع الصفة قاله الحوفي، وهو ظاهر قول ابن عطية والزمخشري.
قال الزمخشري: سجداً حال من الظلال وهم داخرون حال من الضمير في ضلالة.
فغاير الزمخشري بين الحالين، جعل سجداً حالاً من الظلال، ووهم داخرون حالاً من الضمير في سجداً، وأن يكون حالاً ثانية من الظلال كما تقول: جاء زيد راكباً وهو ضاحك، فيجوز أن يكون وهو ضاحك حالاً من الضمير في راكباً، ويجوز أن يكون حالاً من زيد، وهذا الثاني عندي أظهر، والعامل في الحالين هو تتفيؤ، وعن متعلقة به، وقاله الحوفي. وقيل: في موضع الحال، وقاله أبو البقاء. وقيل: عن اسم أي: جانب اليمين، فيكون إذ ذاك منصوباً على الظرف. وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله: وهم داخرون، حال من الضمير في ظلاله، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزء جاز.
{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّيَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِى الْسَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاٍّنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأٌّعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَئَخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ * تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأٌّنْعَمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ}
الظاهر أن لا تتخذوا، تعدى إلى واحد واثنين كما تقدم تأكيد. وقيل: هو متعد إلى مفعولين، فقيل: تقدم الثاني على الأول وذلك جائز، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: حذف الثاني للدلالة تقديره معبوداً واثنين على هذا القول تأكيد.
انتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون، وتقديره: وإياي ارهبوا. وقول ابن عطية: فإياي، منصوب بفعل مضمر تقديره: فارهبوا إياي فارهبون، ذهول عن القاعدة في النحو، أنه إذا كان المفعول ضميراً منفصلاً والفعل متعدياً إلى واحد هو الضمير، وجب تأخير الفعل كقولك: إياي نعبد ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:
إليك حين بلغت إياكا
قال ابن عطية: والواو في وله ما في السموات والأرض عاطفة على قوله: إله واحد، ويجوز أن تكون واو ابتداء انتهى. ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال، وإنما هي عاطفة: فإما على الخبر كما ذكر أولاً فتكون الجملة في تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر، وإما على الجملة بأسرها التي هي: إنما هي إله واحد، فيكون من عطف الجمل. وانتصب واصباً على الحال، والعامل فيها هو ما يتعلق به المجرور. أفغير الله استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي: بعدما عرفتم وحدانيته، وأن ما سواه له ومحتاج إليه، كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضر يقدر عليه؟ ثم أخبر تعالى بأنّ جميع النعم المكتسبة منا إنما هي من إيجاده واختراعه، ففيه إشارة إلى وجوب الشكر على ما أسدى من النعم الدينية والدنيوية. ونعمه تعالى لا تحصى كما قال تعالى:{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} . وما موصولة، وصلتها بكم، والعامل فعل الاستقرار أي: وما استقر بكم، ومن نعمة تفسير لما، والخبر فمن الله أي: فهي من قبل الله، وتقدير الفعل العامل بكم خاصاً كحلّ أو نزل ليس بجيد. وأجاز الفرّاء والحوفي: أن تكون ما شرطية، وحذف فعل الشرط. قال الفراء: التقدير. وما يكن بكم من نعمة، وهذا ضعيف جداً لأنه لا يجوز حذفه إلا بعد أن وحدها في باب الاشتغال، أو متلوة بما النافية مدلولاً عليه بما قبله، نحو قوله:
فطلقها فلست لها بكفءوإلا يعل مفرقك الحسام
أي: وإلا تطلقها، حذف تطلقها الدلالة طلقها عليه، وحذفه بعد أنْ متلوة بلا مختص بالضرورة نحو قوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإنكان فقيراً معدماً قالت وإن
أي: وإن كان فقيراً معدماً، وأما غير إن من أدوات الشرط فلا يجوز حذفه إلا مدلولاً عليه في باب الاشتغال مخصوصاً بالضرورة نحو قوله: أينما الريح تميلها تمل. التقدير: أينما تميلها الريح تميلها تمل.
وقرأ قتادة: كاشف، وفاعل هنا بمعنى فعل، وإذا الثانية للفجاءة. وفي ذلك دليل على أنّ إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب، لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها.
منكم في موضع الصفة، ومِنْ للتبعيض، وأجاز الزمخشري أن تكون من للبيان لا للتبعيض قال: كأنه قال فإذا فريق كافروهم أنتم. قال: ويجوز أن تكون فيهم من اعتبر كقوله: {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} انتهى واللام في ليكفروا، إن كانت للتعليل كان المعنى: أنّ إشراكهم بالله سببه كفرهم به، أي جحودهم أو كفران نعمته، وبما آتيناهم من النعم، أو من كشف الضر، أو من القرآن المنزل إليهم. وإن كانت للصيرورة فالمعنى: صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، بل آل أمر ذلك الجوار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم، أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به. وإن كانت للأمر فمعناه التهديد والوعيد.
وقرأ أبو العالية: فيمتعوا بالياء باثنتين من تحتها مضمومة مبنياً للمفعول، ساكن الميم وهو مضارع متع مخففاً، وهو معطوف على ليكفروا، وحذفت النون إما للنصب عطفاً إنْ كان يكفروا منصوباً، وإما للجزم إن كان مجزوماً أن كان عطفاً، وأن للنصب إن كان جواب الأمر.
ولهم ما يشتهون: وهم الذكور، وهذه الجملة مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري: ويجوز فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور انتهى. وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي. وقال أبو البقاء: وقد حكاه، وفيه نظر. وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو: وهو أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدّى إلى ضميره المتصل المنصوب، فلا يجوز زيد ضربه زيد، تريد ضرب نفسه إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد، وعدم، فيجوز: زيد ظنه قائماً وزيد فقده، وزيد عدمه. والضمير المجرور بالحرف المنصوب المتصل، فلا يجوز زيد غضب عليه تريد غضب على نفسه، فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب إحذ يكون التقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. قالوا: وضمير مرفوع، ولهم مجرور باللام، فهو نظير: زيد غضب عليه.
وفي قوله: على هون قولان: أحدهما: أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس. قال ابن عباس: إنه صفة للأب، والمعنى: أيمسكها مع رضاه بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه؟ وقيل: حال من المفعول أي: أيمسكها مهانة ذليلة.
وأنّ لهم الحسنى بدل من الكذب، أو على إسقاط الحرف أي: بأن لهم.
فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي: لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة. وأل في اليوم للعهد.
وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله، وانتصباً لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم. ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل، لأن المنزل هو الله، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وقول الزمخشري: معطوف محل لتبين ليس بصحيح، لأنّ محله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه. ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل؟.
وقرأ أبو رجاء: يسقيكم بالياء مضمومة، والضمير عائد على الله أي: يسقيكم الله. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون مسنداً إلى النعم، وذكر لأنّ النعم مما يذكر ويؤنث ومعناه: وأنّ لكم في الأنعام نعماً يسقيكم أي: يجعل لكم سقياً انتهى. وقرأت فرقة: بالتاء مفتوحة منهم أبو جعفر. قال ابن عطية: وهي ضعيفة انتهى. وضعفها عنده ـ والله أعلم ـ من حيث أنث في تسقيكم، وذكر في قوله مما في بطونه، ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة، لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين، وأعاد الضمير مذكراً مراعاة للجنس، لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكراً كقولهم: هو أحسن الفتيان وأنبله، لأنه يصح هو أحسن فتى، وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه، إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب. وقيل: جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع، فيعود الضمير عليه مفرداً. كقوله:
مثل الفراخ نبقت حواصله
وقيل: أفرد على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كما قال:
فيها خطوط من سواد وبلقكأنه في الجلد توليع البهق
فقال: كأنه وقدر بكان المذكور. قال الكسائي: أي في بطون ما ذكرنا. قال المبرد: وهذا سائغ في القرآن قال تعالى: {إن هذه تذكرةوَمِن ثَمَرَتِ النَّخِيلِ وَالأٌّعْنَبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ} {فمن شاء ذكره} أي ذكر هذا الشيء. وقال: {فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي} أي هذا الشيء الطالع. ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازى، لا يجوز جاريتك ذهب. وقالت فرقة: الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها فكأنّ العبرة إنما هي في بعض الأنعام. وقال الزمخشري: ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة على أفعال كقولهم: ثواب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان: أحدهما: أن يكون تكسير نعم كالأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله:
في كل عام نعم تحوونهيلقحه قوم وينتجونه
وإذا أنّث ففيه وجهان: إنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع انتهى. وأما ما ذكره عن سيبويه ففي كتابه في هذا في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها، لأنها ضارعت الواحد. ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل، وإعراب وأعاريب، وأيد وأياد، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل كما يخرج إليه الواحد إذا كسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر، فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا، لأن هذا البناء هو الغاية، فلما ضارعت الواحد صرفت. ثم قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس لأن تجمع جمعاً لأخرجته إلى فعائل، كما تقول: جدود وجدائد، وركوب وركائب، ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء. ويقوي ذلك أنّ بعض العرب يقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد تقع للواحد من العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه وعز: نسقيكم مما في بطونه.
وقال أبو الخطاب: سمعت العرب يقولون: هذا ثواب أكياس انتهى. والذي ذكره سيبويه هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل، وبين أفعال وفعول، وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث أنّ مفاعل ومفاعيل لا يجمعان، وأفعال وفعول قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل أو مفاعيل لشبه ذينك بالمفرد، من حيث أنه يمكن جمعهما وامتناع هذين من الجمع، ثم قوى شبههما بالمفرد بأنّ بعض العرب قال في أتى: أتى بضم الهمزة يعني أنه قد جاء نادراً فعول من غير المصدر للمفرد، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للواحدة من حيث أفرد الضمير فتقول: هو الأنعام، وإنما يعني أن ذلك على سبيل المجاز، لأنّ الأنعام في معنى النعم كما قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى
وقلنا للنساء بها أقيمي
ولذلك قال سيبويه: وأما أفعال فقد تقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع. فقول الزمخشري: إنه ذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدل على ما قلناه أنّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنّ أفعالاً ليس من ابنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام: أفعيل، ولا أفعول، ولا أفعال، ولا أفعيل، ولا أفعال إلا أنْ تكسر عليه اسماً للجميع انتهى. فهذا نص منه على أنّ أفعالاً لا يكون في الأبنية المفردة.
ومِن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، والثانية لابتداء الغاية متعلقة بنسقيكم، وجاز تعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما. ويجوز أن يكون من بين في موضع الحال، فتتعلق بمحذوف، لأنه لو تأخر لكان صفة أي: كائناً من بين فرث ودم. ويجوز أن يكون من بين فرث بدلاً من ما في بطونه.
والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون، وكررت من للتأكيد، وكان الضمير مفرداً راعياً لمحذوف أي: ومن عصير ثمرات، أو على معنى الثمرات وهو الثمر، أو بتقدير من المذكور. وقيل: تتعلق بنسقيكم، فيكون معطوفاً على مما في بطونه، أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة، فيكون من عطف الجمل، والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل. وقيل: معطوف على الأنعام أي: ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة، ثم بين العبرة بقوله: تتخذون. وقال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. فحذف ما هو لا يجوز على مذهب البصريين، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف كقوله: بكفي كان من أرمي البشر. تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه انتهى. وهذا الذي أجازه قاله الحوفي قال: أي وإن من ثمرات، وإن شئت شيء بالرفع بالابتداء، ومن ثمرات خبره انتهى.
وأن تفسيرية، لأن تقدم معنى القول وهو: وأوحى. أو مصدرية أي: باتخاذ، قال أبو عبد الله الرازي: أن هي المفسرة لما في الوحي من معنى القول، هذا قول جمهور المفسرين وفيه نظر.
وتقتضي ثم المهلة والتراخي بين الاتخاذ والأكل الذي تدخر منه العسل، فلذلك كان العطف بثم وهو معطوف على اتخذي، وهو أمر معطوف على أمر، وقيل: سبل ربك أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو فاسلكي ما أكلت أي: في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك ومنافذ مأكلك. وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به.
وقال مجاهد: ذللاً عير متوعرة عليها سبيل تسلكه، فعلى هذا ذللاً حال من سبيل ربك كقوله تعالى: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً وقال قتادة: أي مطيعة منقادة. وقال ابن زيد: يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، فعلى هذا ذللاً حال من النحل كقوله: وذللناها لهم.
واللام في لكي قال الحوفي: هي لام كي دخلت على كي للتوكيد، وهي متعلقة بيرد انتهى. والذي ذهب إليه محققو النحاة في مثل لكي أنّ كي حرف مصدري إذا دخلت عليها اللام وهي الناصبة كأن، واللام جارة، فينسبك من كي والمضارب بعدها مصدر مجرور باللام تقديراً، فاللام على هذا لم تدخل على كي للتوكيد لاختلاف معناهما واختلاف عملهما، لأن اللام بالتعليل، وكي حرف مصدري، واللام جارة، وكي ناصبة. وقال ابن عطية: يشبه أن تكون لام صيرورة.
وانتصب شيئاً إما بالمصدر على مذهب البصريين في اختيار أعماله ما يلي للقرب، أو بيعلم على مذهب الكوفيين في اختيار أعمال ما سبق للسبق.
وحفدة منصوب بجعل مضمرة.
وأجازوا في شيئاً انتصابه بقوله: رزقاً، أجاز ذلك أبو عليّ وغيره. ورد عليه ابن الطراوة بأنّ الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن، والمصدر هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد على ابن الطراوة بأنّ الرزق بالكسر يكون أيضاً مصدراً، وسمع ذلك فيه، فصح أنْ يعمل في المفعول به والمعنى: ما لا يملك أن يرزق من السموات والأرض شيئاً. ومن السموات متعلق إذ ذاك بالمصدر. قال ابن عطية بعد أن ذكر أعمال المصدر منوناً: والمصدر يعمل مضافاً باتفاق، لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية. وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر:
ضعيف النكاية أعداءه
البيت وقوله:
لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
انتهى. أما قوله: يعمل مضافاً بالاتفاق إنْ عنى من البصريين فصحيح، وإن عنى من النحويين فغير صحيح، لأنّ بعض النحويين ذهب إلى أنه وإن أضيف لا يعمل، وإن نصب ما بعده أو رفعه إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر. وأما قوله: لأنه في تقدير الانفصال ليس كذلك، لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الإضافة غير محضة، وقد قال بذلك أبو القاسم بن برهان، وأبو الحسين بن الطراوة، ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف، وتوكيده بالمعرفة. وأما قوله: ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قول أخيراً: وقد جاء عاملاً مع الألف واللام. وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين، ومذهب سيبويه جواز أعماله. قال سيبويه: وتقول عجبت من الضرب زيداً، كما تقول: عجبت من الضارب زيداً، تكون الألف واللام بمنزلة التنوين. وإذا كان رزقاً يراد به المرزوق فقالوا: انتصب شيئاً على أنه بدل من رزقاً، كأنه قيل: ما لا يملك لهم من السموات والأرض شيئاً، وهو البدل جارياً على جهة البيان لأنه أعم من رزق، ولا على جهة التوكيد لأنه لعمومه ليس مرادفاً، فينبغي أن لا يجوز، إذ لا يخلو البدل من أحد نوعيه هذين. إما البيان، وإما التوكيد. وأجازوا أيضاً أن يكون مصدراً أي: شيئاً من الملك كقوله: ولا تضرونه شيئاً أي شيئاً من الضرر. وعلى هذين الإعرابين تتعلق من السموات بقوله: لا يملك، أو يكون في موضع الصفة لرزق فيتعلق بمحذوف.
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَاّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأٌّبْصَرَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأٌّنْعَمِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَمَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَثاً وَمَتَعاً إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَفِرُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ
كَفَرُواْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَذِبُونَ * وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
والظاهر كون ومن موصولة أي: والذي رزقناه، ودلت الصلة وما عطف على أنه يراد به الحر. وقال أبو البقاء: موصوفة. قال الزمخشري: الظاهر أنها موصوفة كأنه قال: وحراً رزقناه ليطابق عبداً، ولا يمتنع أن تكون موصولة. وقال الحوفي: مَن بمعنى لذي، ولا يقتضي ضرب المثل لشخصين موصوفين بأوصفا متباينة تعيينهما.
وقرأ عبد الله، وعلقمة، وابن وثاب، ومجاهد، وطلحة يوجه بهاء واحدة ساكنة مبنياً، وفاعله ضمير يعود عليى مولاه، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه. ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الأبكم، ويكون الفعل لازماً وجه بمعنى توجه، كان المعنى: أينما يتوجه. وعن عبد الله أيضاً: توجهه بهاءين، بتاء الخطاب، والجمهور بالياء والهاءين. وعن علقمة وابن وثاب، وطلحة، يوجه بهاء، واحدة ساكنة، والفعل مبني للمفعول. وعن علقمة، وطلحة: يوجه بكسر الجيم وهاء واحدة مضمومة. قال صاحب اللوامح: فإنْ صح ذلك فإنّ الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فراراً من التضعيف، ولأن اللفظ به صعب مع التضعيف، أو لم يرد به الشرط، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه، وقد حذف منه ضمير المفعول به، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو: يوم يأت. وإذا يسر انتهى. ولا يخرج أين عن الشرط أو الاستفهام. وقال أبو حاتم: هذه القراءة ضعيفة، لأن الجزم لازم انتهى. والذي توجه عليه هذه القراءة إن صحت أنّ أينما شرط حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية، ثم حذفت الياء من لا يأت تخفيفاً، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه، فهو فعل لازم لا متعد.
ولا تعلمون جملة حالية أي: غير عالمين.
ويحتمل وجعل أن يكون معطوفاً على أخرجكم، فيكون واحداً في حيز خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفاً على الجملة الابتدائية كاستئنافها.
والظاهر أنّ أثاثاً مفعول، والتقدير: وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً. وقيل: أثاثاً منصوب على الحال على أنّ المعنى: جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً، فيكون ذلك معطوفاً على من جلود الأنعام، كما تقول: جعلت لك من الماء شراباً ومن اللبن، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجروراً على مجرور، ومنصوباً على منصوب كما تقول: ضربت في الدار زيداً وفي القصر عمراً.
فإن تولوا، يحتمل أن يكون ماضياً أي: فإن أعرضوا عن الإسلام. ويحتمل أن يكون مضارعاً أي: فإن تتولوا، وحذفت التاء، ويكون جارياً على الخطاب السابق والماضي على الالتفات، والفاء وما بعدها جواب الشرط صورة، والجواب حقيقة محذوف أي: فأنت معذور إذ أدّيت ما وجب عليك.
وانتصب يوم بإضمار اذكر قاله: الحوفي، والزمخشري، وابن عطية، وأبو البقاء. وقال الزمخشري: أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه. وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه: ثم ينكرونها، أي ينكرونها اليوم. ويوم نبعث.
والظاهر أنّ جواب إذا قوله فلا يخفف، وهو على إضمار هو أي: فهو لا يخفف، لأنه لولا تقدير الإضمار لم تدخل الفاء، لأن جواب إذا إذا كان مضارعاً لا يحتاج إلى دخول الفاء، سواء كان موجباً أم منفياً، كما قال تعالى:{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} وتقول: إذا جاء زيد لا يجيء عمرو. قال الحوفي: فلا يخفف جواب إذا، وهو العامل في إذا، وقد تقدم لنا أنّ ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا تعمل فيما قبله، وبينا أنّ العامل في إذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط، وإن كان ليس قول الجمهور. وجعل الزمخشري جواب إذا محذوفاً فقال: وقد قدر العامل في يوم نبعث مجزوماً قال: ويوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه.
والظاهر أنّ الذين مبتدأ وزدناهم الخبر. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون قوله: الذين، بدلاً من الضمير في يفترون. وزدناهم فعل مستأنف إخباره.
والظاهر أنّ تبياناً مصدر جاء على تفعال، وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف، ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء. وقد جوّز الزجاج فتحه في غير القرآن. وقال ابن عطية: تبياناً اسم وليس بمصدر، وهو قول أكثر النحاة. وروى ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين: أنه مصدر ولم يجيء على تفعال من المصادر إلا ضربان: تبيان وتلقاء.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الأٌّيْمَنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلَا تَتَّخِذُواْ أَيْمَنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلَا تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَآءَايَةً مَّكَانَءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَنِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَنِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَوةَ الْدُّنْيَا عَلَى الأٌّخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَرِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَفِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ هُمُ الْخَسِرونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَلِمُونَ * فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَلَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ إِبْرَهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لانْعُمِهِ اجْتَبَهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَءاتَيْنَهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّبِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}
{
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الأٌّيْمَنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
ودخلاً مفعول ثان. وقيل: مفعول من أجله، وأن تكون أي: بسبب أن تكون وهي أربى مبتدأ وخبر. وأجاز الكوفيون أن تكون هي عماداً يعنون فضلاً، فيكون أربى في موضع نصب، ولا يجوز ذلك عند البصريين لتنكير أمة. والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي: بسبب كون أمة أربى من أمة يختبركم بذلك.
وما مصدرية في بما صددتم، أي: بصدودكم أو بصدكم غيركم.
وروي عن نافع: وليجزينهم بالياء بدل النون، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة. وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفاً على فلنحيينه، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية، وكلتاهما محذوفتان. ولا يكون من عطف جواب على جواب، لتغاير الإسناد، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب، وذلك لا يجوز. فعلى هذا لا يجوز: زيد قلت والله لأضربن هنداً ولينفينها، ويريد ولينفيها زيد. فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي: وقال زيد لينفينها لأن، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه، وأن تحكى على المعنى. فمن الأول: وليحلفن باللَّه إن أردنا إلا الحسنى ومن الثاني: يحلفون باللَّه ما قالوا ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا.
وهو مؤمن: جملة حالية.
وهذه الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه ويحتمل أن يكون حال.
وقرىء: ليثبت مخففاً من أثبت. قال الزمخشري: وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى. وتقدم الرد عليه في نحو هذا، وهو قوله: لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة في هذه السورة. ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل، لأنه مجرور، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول: جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد، إذ التقدير: لإحسان إلى زيد. وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي: وهو هدى وبشرى.
قال الزمخشري: (فإن قلت) : الجملة التي هي قوله لبيان الذي يلحدون إليه أعجمي، ما محلها؟ (قلت) : لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم، ومثله قول الله: أعلم، حيث يجعل رسالاته بعد قوله:{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله} انتهى. ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي: يقولون ذلك والحالة هذه أي: علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة، كما تقول: تشتم فلاناً وهو قد أحسن إليك أي: علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه. وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ، وهو مذهب مرجزوح جداً، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب، وهو مذهب تبع فيه الفراء، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.
والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب.
وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره: الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين، فعليهم غضب. ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي: فعليهم غضب، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب، ولكنْ من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول مَن جعل مَن شرطاً. وقال ابن عطية: وقالت فرقة مَن في قوله مَن كفر ابتداء، وقوله: من شرح تخصيص منه، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه. ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله: فعليهم، خبر عن مَن الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله: من كفر، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى. وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب. وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله:{فسلام لك من أصحاب اليمين} وقوله: {فروح وريحان} جواب لأما، ولأنّ هذا وهما أدانا شرط، إحداهما تلي الأخرى، وعلى كون مَن في موضع رفع على الابتداء، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط. إلا أنْ من الثانية لا يجوز أنْ تكون شرطاً حتى يقدر قبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكنْ فيتعين إذ ذاك أن تكون مَن موصولة، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله:
ولكن متى يسترقد القوم أرقد
أي: ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد. وكذلك تقدر هنا، ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي: منهم. وأجاز الحوفي والزمخشري: أن تكون بدلاً من الذين لا يؤمنون، ومن الكاذبون. ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلاً من الكاذبون، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام، فعلقه بما قبله. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من أولئك، فإذا كان بدلاً من الذين لا يؤمنون فيكون قوله: وأولئك هم الكاذبون، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء. وإذا كان بدلاً من الكاذبون فالتقدير: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه، وإذا كان بدلاً من أولئك فالتقدير: ومَن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون.
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة. لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك، إذ التقدير: وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث فكذلك. إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى. وهذا أيضاً بعيد، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى
وقال أبو البقاء: خبر أن الأولى قوله: إن ربك لغفور، وأن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى. وإذا كانت أنّ الثانية واسمها تكريراً للتوكيد كما ذكر، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر أنّ الأولى هو قوله: لغفور، ويكون للذين متعلقاً بقوله: لغفور، أو برحيم على الأعمال، لأنّ إن ربك الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب. كما أنك إذا قلت: قام قام زيد، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى. وقيل: لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدم، ولا يجوز.
(فإن قلت) : لم لم يتعد الفعل إلى الضمير، لا إلى لفظ النفس؟ (قلت) : منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله، ولا مضمره إلى مضمره المتصل، فلذلك لم يجيء التركيب تجادل عنها، ولذلك لا يجوز: ضربتها هند ولا هند ضربتها، وإنما تقول: ضربت نفسها هند، وضربت هند نفسها، ما عملت أي: جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة، وأنث الفعل في تأتي، والضمير في تجادل وفي عن نفسه، وفي توفي، وفي عملت، حملاً على معنى كل، ولو روعي اللفظ لذكر. وقال الشاعر:
جادت عليها كل عين ثرةفتركن كل حديقة كالدرهم
فأنث على المعنى.
والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع. وروي العباس عن أبي عمرو: والخوف بالنصب عطفاً على لباس. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله ولباس الخوف.
وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي: ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي. وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب، أو على إضمار فعل أي: فتقولوا هذا حلال وهذا حرام. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوف العائد على ما، كما تقول: جاءني الذي ضربت جخاك، أي ضربته أخاك. وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بإضمار أعني. وقال الكسائي والزجاج: ما مصدرية، وانتصب الكذب على المفعول به أي: لوصف ألسنتكم الكذب. ومعمول: ولا تقولوا، الجملة من قوله: هذا حلال وهذا حرام، والمعنى: ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذباً، لا بحجة وبينة. وهذا معنى بديع.
وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وابن عبيد، ونعيم بن ميسرة: بكسر الباء، وخرج على أن يكون بدلاً من ما، والمعنى الذي: تصفه ألسنتكم الكذب. وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية. قال الزمخشري: كأنه قيل: لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى: {بدم كذب} والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة انتهى. وهذا عندي لا يجوز، وذلك أنهم نصوا على أنّ أنْ المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل، ولا يوجد من كلامهم: يعجبني أنْ قمت السريع، يريد قيامك السريع، ولا عجبت من أنْ تخرج السريع أي: من خروجك السريع. وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أنّ فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أنْ ولا، من ما ولا، من كي، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب.
واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض، قاله الزمخشري، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة. قيل: ذلك الافتراء.
الواحدي: لتفتروا على الله الكذب يدل من قوله: لما تصف ألسنتكم الكذب، لأنّ وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى. وهو على تقدير ما مصدرية، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل، فيبدل منها ما يقتضي التعليل، بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك: لا تقولوا، لما أحل الله هذا حرام أي: لا تسموا الحلال حراماً، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم.
وقال مكي: ولا يكون ـ يعني حنيفاً ـ حالاً من ابراهيم لأنه مضاف إليه، وليس كما قال لأنّ الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك: مررت بزيد قائماً انتهى. أما ما حكى عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب، جازت الحال منه نحو: يعجبني قيام زيد مسرعاً، وشرب السويق ملتوتاً. وقال بعض النحاة: ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه كقوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} إخواناً أو كالجزء منه كقوله: {ملة ابراهيم حنيفاً} وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل، وعلى الألفية لابن مالك. وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله: وليس كما قال، لأنّ الحال إلى آخره فقول بعيد عن قول أهل الصنعة، لأن الباء في بزيد ليست هي العاملة في قائماً، وإنما العامل في الحال مررت، والباء وإن عملت الجر في زيد فإنّ زيداً في موضع نصب بمررت، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجروراً بالحرف.
والظاهر عود الضمير إلى المصدر الدال عليه الفعل مبتدأ بالإضافة إليهم أي: لصبركم وللصابرين أي: لكم أيها المخاطبون، فوضع الصابرين.