الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلة الرسائل الجامعية
أثر تعليل النص على دلالته
(أو)
العلة والنص
تأليف
أيمن علي عبد الرؤوف صالح
دار المعالي
مقدِّمة الإصدار الإلكتروني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه وآله ومن والاه، وبعد:
فهذا الكتاب، في أصله، رسالة علمية استكملتُ بها متطلبات درجة الماجستير في الفقه وأصوله من الجامعة الأردنية في العام (1996 م - 1417 هـ)، أي قبل حوالي عشرين سنة من الآن. وقد سبق طبع هذا الكتاب طبعة وحيدة في العام 1999 م - 1420 هـ، طبعته دار المعالي، في العاصمة الأردنية عمّان. ونظرًا لتعثُّر دار النشر، وإغلاقها فيما بعد، فقد أخلَّت بالتزاماتها تجاه المؤلّف حتى أني لم أرَ أيَّ نسخة للمطبوع من الكتاب إلا قبل أشهر قليلة فقط عن طريق أحد الأصدقاء في جامعة قطر، كان قد اقتنى منه نسخة في أثناء دراسته في المملكة السعودية، فاستعرتها منه آملا إعادة نشر الكتاب نشرًا إلكترونيًّا موافقًا للمطبوع منه؛ ليعمّ الانتفاع به، ولألبّي طَلب كثيرٍ من أهل العلم وطلبته الذين ما فتئوا يسألونني نُسَخًا من الكتاب.
الكتاب ذو موضوع هام؛ لأنه يرسم معالم أصولية للعلاقة الجدلية بين العلة والنص، وهي علاقة شديدة الحساسية والتعقيد، وهو من أوائل الدراسات العلمية التي تناولت هذا الموضوع الدقيق. وما تلاه من دراسات، بعد ذلك، أفاد منه بطريق مباشرة أو غير مباشرة، مع العزو والإحالة أحيانا، ودونهما في أكثر الأحيان.
ورغم أن عشرين سنة مُدّةٌ كفيلة بوجود كثير من التطورات العلمية التي تستدعي إعادة النظر في مادة الكتاب وتطويرها وتحسينها، ولا سيّما مع بحوثي المعمّقة في جناحي الاجتهاد: النصّ والعلة ـ كالقرائن والنص، وتحقيق معنى العلة، وأهل الألفاظ وأهل المعاني، وإشكالية القطع عند الأصوليين، وفوائد تعليل الأحكام، وغيرها من البحوث ـ إلا أني اخترت ألا أفعل ذلك؛ وذلك لأنّ الكتاب أصبح شيئًا من «التاريخ» الذي ينبغي أن يُحافظ عليه، ولذلك أخرجتُه في هذه النسخة الإلكترونية موافقًا للمطبوع منه في أرقام صفحاته ومادته العلمية، اللَّهم إلا بعض التحسينات الشكلية، والتصحيحات الطفيفة، ولا سيّما للأخطاء الطباعية واللغوية.
واللَّه أسأل أن ينفع به، ويقبله مني، فهو أكرم مسؤول، وأعظم مجيب، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. أيمن صالح
الدوحة
ربيع الثاني 1337 هـ/ يناير-كانون الثاني 2016 م
المقدِّمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وآله، ومن والاه، وبعد:
فإنّ التشريع السماوي، بما دلّ عليه من أحكام، لم يكن - بفضل اللَّه ورحمته - إلا هادفًا إلى إصلاح أمور الخلق في داريهم الأولى والآخرة، مصداقًا لقوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، ولقوله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]- لاتّباعهم إياه - {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]- لإعراضهم عنه -، ولقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
قال العز بن عبد السلام، رحمه الله: «اعلم أنّ اللَّه سبحانه وتعالى لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضُّلًا منه على عباده، إذ لا حقَّ لأحد منهم عليه، ولو شرع الأحكام كلّها خليّةً عن المصالح لكان قسطًا وعدلًا كما كان شرعها للمصالح إحسانًا منه وفضلًا.
وقد وصف نفسه بأنه لطيفٌ بعباده، وأنه بالناس رؤوفٌ رحيم، وتمنَّنَ عليهم باللطف والحكمة، كما تمنَّن عليهم بالرأفة والرحمة، وأخبر أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، وأنّه بهم بَرُّ رحيم توّابٌ حكيم. وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلِّف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة»
(1)
.
(1)
العز بن عبد السلام، شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، تحقيق إياد خالد الطباع، ط 1، دار الطباع، دمشق، 1410 هـ، ص 401.
وانطلاقًا من هذا الأصل، وتأسيسًا عليه، لم ينظر سلف هذه الأمة وفقهاؤها إلى النصوص الشرعية، بما تنطوي عليه من أحكام، نظرة جمود على مقتضياتها اللغوية الظاهرة مجرّدة عما يكمن فيها، أو يقف وراءها، من معان مخبوءة، ومقاصدَ مُستبْطَنة. وإنما نظروا إليها - ما وسعهم الجهد - نظر المتدبِّر المستشرف إلى ما هو فوق أرضِ حرفيّةِ تلك النصوص، من أُفق المعاني المكتظّ بالدوافع والبواعث والعلل والحِكَم والمصالح المستهدَفة من تشريع الأحكام التي اشتملت عليها تلك النصوص. حتى وإن أدى بهم هذا النظر - أحيانًا كثيرة - إلى الخروج عن حرفية النص وظاهره بتخصيص عامّه، أو تقييد مُطلقه، أو إبطال مفهومه المخالف، أو صرفه من الحقيقة إلى المجاز. كلُّ ذلك سعيًا وراء البحث الدقيق عن مراد الشارع ومقصوده - على التمام - من النصوص المقرِّرة للأحكام.
و «أثر تعليل النص على دلالته» باعتباره عنوان وموضوع هذه الرسالة يخوض هذا المخاض؛ إذ إنه ليس إلا محاولة من الباحث:
أولًا: للبرهنة على شرعية دور العلة - وهي ما لأجله شُرع الحكم - في توجيه النص الشرعي وتأويله وتبيين المراد منه.
وثانيًا: لوضع ميزان دقيق يمكن من خلاله التوفيق أو الترجيح بين ما تقتضيه علّة النصّ من جهة، وبين ما يقتضيه ظاهر النصّ نفسِه من جهة أخرى، للخروج بعد ذلك بحكم شرعي صحيح.
وثالثًا: لبيان حقيقة مسألة «أثر تعليل النص على دلالته» وواقعها عند الأصوليين، قديما وحديثا، وعرض أقوالهم فيها، وأدلتهم على هذه الأقوال ومناقشة ذلك كله.
وبكلمة، فإن هذه الرسالة تبحث في نقاط التقاطع، ونقاط التوافق، في النص الشرعي الواحد، بين ما يمكن تسميتهما بِ:«نظرية المصلحة» و «نظرية النص» ، وأثر ذلك على الحكم الشرعي المستفاد من هذا النص.
ما راعيته في
منهجية البحث في هذه الرسالة:
أجمله في النقاط التالية:
1 -
انطلقت في عرضي فصول ومباحث هذه الرسالة من أني أخاطب بها قارئًا حصَّل شيئا من علم الأصول، ولذا فإني لم ألجأ إلى التبسيط الشديد الذي يناسب المبتدئ، ولا كذلك إلى الإجمال الذي يناسب المنتهي، وإنما ابتغيت بين ذلك سبيلا.
2 -
حاولت، قدر الإمكان، تجريد الرسالة من القضايا العقلية الكلامية الجامدة، وفي الوقت نفسه، حاولت الإكثار من الأمثلة الفقهية المخرّجة على المسائل الأصولية توضيحًا لهذه المسائل من ناحية، وربطًا لهذه المسائل بواقعها وفائدتها الفقهية من ناحية أخرى.
3 -
ترجمت لبعض الأعلام الواردة في الرسالة ممن ظننت احتياجهم للترجمة لعدم شهرتهم.
4 -
عزوت الآيات الواردة في الرسالة إلى مواضعها من كتاب اللَّه عز وجل.
5 -
خرّجتُ الأحاديث الواردة في الرسالة، فما كان منها في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بعزوه إليهما أو لأحدهما، وما كان في غيرهما عزوته
إلى مصدر أو مصدرين ولم أستقصِ، محاولًا بيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف بما ورد من ذلك عن أهل الحديث، فإن لم أجد لهم كلامًا، اكتفيت بالتخريج إلا في مواضع يسيرة سَهُل علي فيها الاجتهاد بالحكم على ظاهر إسناد الحديث على طريقة أهل هذا الشأن.
6 -
تدخّلت أحيانًا أثناء نقل النصوص بإيراد كلام لتوضيح المراد ببعض ما غَمُض منها، وتمييزًا لكلامي عن كلام صاحب النص، جعلت كلامي بين معكوفتين على النحو التالي:[].
أثر تعليل النص على دلالته
الفصل الأول: التعريف بمسألة «تأثير تعليل النص على دلالته»
الفصل الثاني: «أثر تعليل النص على دلالته» في اجتهادات الصحابة رضوان اللَّه عليهم
الفصل الثالث: «تأثير تعليل النص على دلالته» عند الأصوليين
وخاتمة: في أهم نتائج هذا البحث
الفصل الأول التعريف بمسألة «تأثير تعليل النص على دلالته»
وسيكون ذلك في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بطرفي عملية «تأثير تعليل النص على دلالته» وعلاقتهما بالحكم الشرعي
المبحث الثاني: التعريف بعملية «تأثير تعليل النص على دلالته»
المبحث الثالث: البعد الاجتهادي لمسألة «تأثير تعليل النص على دلالته»
المبحث الأول التعريف بطرفي عملية «تأثير تعليل النص على دلالته» ، وعلاقتهما بالحكم الشرعي
طرفا عملية تأثير تعليل النص على دلالته هما - كما هو بادٍ لكلّ ناظر - العلة والنص، وإذا شئتَ التدقيق قلتَ: هما دلالة العلة ودلالة النص، وذلك لأن العلة من حيث هي معنى مناسب تترتب عليه مصلحة، والنص من حيث هو خطابٌ مكون من حروف، لا يؤثّر أو يتأثر أحدهما بالآخر، وإنما الذي يحصل له أو به التأثير فهو ما تدل عليه العلة أو - بعبارة أخرى - ما تقتضيه العلة، وهو كذلك في الطرف الآخر ما يدل عليه النص، أو ما يقتضيه النص.
فلذا وللتعريف بهذين الطرفين ولبيان وجه تعلق الحكم الشرعي بكل منهما كان لا بد من تضمين هذا المبحث ثلاثة مطالب هي:
المطلب الأول: التعريف بالعلة وبمقتضاها
المطلب الثاني: التعريف بالنص وبمقتضاه
المطلب الثالث: ثبوت الحكم هل هو بالعلة أو النص؟
المطلب الأول التعريف بالعلة وبمقتضاها
وهو في مقصدين:
الأول: التعريف بالعلة
والثاني: التعريف بمقتضى العلة
المقصد الأول التعريف بالعلة
العلة لغة:
قيل: هي اسم لما يتغير حكم الشيء بحصوله، مأخوذٌ من العلة التي هي المرض، لأن تأثيرها في الحكم كأثر العلة في ذات المريض.
وقيل: هي مأخوذة من العَلَل بعد النَّهل، والعلل هو الشرب الثاني، والنهل هو الشرب الأول، وفي ذلك معاودة لشرب الماء مرة بعد مرة - وذلك لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر بعد النظر ولأن الحكم يتكرر بوجودها.
وقيل: - ولعل هذا هو الصحيح - هي عمّا لأجله يُقدم على الفعل أو يمتنع عنه، يقال: فعل الفعل لعلة كيت أو لم يفعل لعلة كيت
(1)
.
(1)
انظر: ابن منظور، لسان العرب، ط 2، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت 1412 هـ، ج 9، ص 365. ومجموعة من الأساتذة في مجمع القاهرة، المعجم الوسيط، ط 3، دار عمران، القاهرة، ج 2، ص 646. وسيشار له: المعجم الوسيط. و الزركشي: محمد بن بهادر، البحر المحيط، ط 1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، طبعة مصورة، ج 5، ص 111. وسيشار له: الزركشي، البحر المحيط.
العلة اصطلاحًا:
تباينت أقوال الأصوليين في «تعريف» العلة:
فعرفها بعضهم بأنها «المعنى الموجب للحكم»
(1)
.
واعتُرض على هذا التعريف بأنّ جعْل العلل موجبة «يؤدي إلى الشركة في الألوهية فإن الموجب في الحقيقة هو اللَّه تعالى»
(2)
.
فزاد بعضهم في التعريف قيدًا، وهو أن العلة هي «الموجب للحكم بجعل اللَّه تعالى»
(3)
، واعتُرض عليه بأن «الحكم ليس إلا خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، وذلك هو كلامه القديم فكيف يُعقل كون الصفة المحدثة موجِبةً للشيء القديم، سواء أكانت الموجبيّة بالذات أو بالجعل»
(4)
.
وللخروج عن هذا الاعتراض وغيره لجأ بعضهم إلى تعريف العلة بأنها «باعث الشرع على الحكم أو الداعي له»
(5)
.
(1)
انظر: فخر الدين الرازي، المحصول، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ، ج 2، ص 305، وسيشار له: الرازي، المحصول. والزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 112، والبدخشي، محمد بن الحسن، مناهج العقول شرح منهاج الأصول، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ، ج 3، ص 50، وسيشار له: البدخشي، مناهج العقول.
(2)
قاله فخر الإسلام البزدوي في شرح التقويم. انظر: محمد مصطفى شلبي، تعليل الأحكام، دار النهضة العربية، بيروت، 1401 هـ، ص 113 وسيشار له: شلبي، تعليل الأحكام.
(3)
الرازي، المحصول، ج 2، ص 308
(4)
المرجع السابق.
(5)
انظر: المرجع السابق، ج 2، ص 308، والزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 113، وشلبي، تعليل الأحكام، ص 117.
وهذا تعريف حسن مطابق للوضع اللغوي ولما يعقله الناس من معنى العلة في أفعالهم وأقوالهم إلا أنه على الرغم من ذلك لم يسلم من انتقاد بعض الأصوليين، لا سيما أولئك الذين تأثروا بمذهب الأشعري في نفي التعليل عن أفعاله سبحانه وتعالى، فقالوا: هذا التعريف يستلزم نسبة الغرض إليه سبحانه وتعالى وهو محال عليه «لأنّ من فَعَل فعلًا لغرض فلا بد وأن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من لا حصوله، وإلا لم يكن غرضًا، وإذ كان حصول الغرض أولى وكان حصول تلك الأولوية متوقفًا على فعل ذلك الفعل كان حصول تلك الأولوية لله تعالى متوقفة على الغير، فتكون ممكنة غير واجبة لذاته ضرورةَ توقفها على الغير، فيكون كماله تعالى غير واجب لذاته، وهو باطل»
(1)
.
وبناء على ذلك لجأوا إلى تعريف العلة بأنها «المعرّف للحكم أو الأمارة على الحكم»
(2)
، ولم يسلم هذا التعريف من اعتراض أيضًا فقال الآمدي: إذا كانت العلة «أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم، والحكم في الأصل معروف بالخطاب لا بالعلة المستنبطة منه.
الثاني: أن علة الأصل مستنبطةٌ من حكم الأصل ومتفرّعةٌ عنه فلو كانت معرَّفة لحكم الأصل لكان متوقفًا عليها ومتفرّعًا عنها وهو دورٌ ممتنع»
(3)
.
(1)
السبكي، الإبهاج، ج 3، ص 40.
(2)
المرجع السابق، ج 3، ص 40، والرازي، المحصول، ج 2، ص 311، والزركشي البحر المحيط، ج 5، ص 111، 112.
(3)
سيف ا لدين علي بن أبي علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية بيروت، 1403 هـ، ج 3، ص 289. وسيشار له: الآمدي، الإحكام.
وللخروج عن هذا الاعتراض زاد بعضهم في هذا التعريف قيدًا وهو أن العلة هي: «المعرف لحكم الفرع»
(1)
لا لحكم الأصل، وبهذا يُخرج عما أورده الآمدي.
وعلى الرغم من وجود هذا القيد فإن هذا التعريف لم يسلم من جديد من الاعتراض عليه، ومن ثَمَّ جوابٌ ودفعٌ لهذا الاعتراض
(2)
، وهكذا حتى غَدا معنى العلة تيهًا مُضلًّا وبحرًا مهلكًا.
والحقّ أن معنى العلة ليس هو بهذه الدرجة من التعقيد حتى ينشب فيه الخلاف ويكثر فيه الكلام؛ إذ لا يُراد بالعلة - لغة وعرفًا - أكثر من أنها المعنى الذي لأجله شُرع الحكم، ولا غضاضة في إطلاق أي من التعريفات السابقة إذا اتُفق على أنها تتضمّن هذا المعنى، قال الأستاذ محمد شلبي في كتابه «تعليل الأحكام» بعد إيراده جملة من تعريفات العلة والمراحل التي مر بها بعضها: «هذه بعض خطوات ذلك التعريف وما صادفه في طريقه من عوامل المد والجزر والأخذ والرد في جامعيته ومانعيته وتمامه ونقصانه، وهو شيء يوقفنا على مبلغ عناية هؤلاء بالألفاظ وتقاتلهم من أجل العبارات؛ الأمر الذي لم يوله الأئمة السابقون شيئًا من عنايتهم، بل لم يلتفتوا إليه بالكلية وما كانوا يفهمون في العلة أكثر من أنها: الأمر الجامع بين الأصل والفرع الذي من أجله شرع الحكم منصوصًا عليه أو غير منصوص يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالته
(3)
: فإن قال قائل: فاذكر من الأخبار التي
(1)
جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، نهاية السول شرح منهاج الأصول، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ ج 3، ص 53، وسيشار له: الإسنوي، نهاية السول.
(2)
انظر: شلبي، تعليل الأحكام، ص 122، 123.
(3)
الإمام الشافعي: محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق وشرح أحمد شاكر، دار الفكر، بيروت، ص 512، وسيشار له: الشافعي، الرسالة.
تقيس عليها، وكيف تقيس؟ قيل له إن شاء اللَّه: كل حكم لله أو لرسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام اللَّه أو رسوله بأنه حُكِمَ به لمعنى من المعاني فنزلت نازلة ليس فيها نصُّ حُكْمٍ حُكِمَ فيها حُكْمُ النازلة المحكوم فيها إذا كانت في معناها»
(1)
.
ومن هنا قال الشاطبي، وهو ميّال إلى إحياء المعاني السلفية:«وأما العلة فالمراد بها الحِكَمُ والمصالح التي تعلّقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي، فالمشقة علة في إباحة القصر، والفطر في السفر»
(2)
.
والذي يمكن الخلوص إليه بعد إمعان النظر في تعريفات الأصوليين للعلة وفيما أداروا حول هذه التعريفات من نقاش هو أن خلافهم - أي الأصوليين - نشأ عن أمرين، كلاهما محدث:
أما الأمر الأول: فهو علم الكلام؛ إذ من كان مذهبه الكلامي قاضيًا بوجوب أو جواز تعليل أفعاله سبحانه وتعالى لم يأنف عن تعريف العلة بالموجب أو المؤثر أو الداعي أو الباعث، ومن كان مذهبه قاضيًا بخلاف ذلك عرّف العلّة بالمعرف وفرّ من كل تعريف سواه.
وهاهنا يحسن التنبيه إلى حقيقة مهمة وهي أن المتكلمين جميعًا معلّلين وغير معلّلين معترفون بالقياس وبكل ما تقتضيه العلة من حيث البناء الفقهي، فخلافهم ليس منصبًا على العلة من حيث هي مصلحة يحصلها الحكم الشرعي، بل الكل متفقون على أن الأحكام الشرعية تحقق مصالح وتدفع مفاسد، وإنما خلافهم منصب - في رأي البعض - على قضية وجوب رعاية
(1)
شلبي، تعليل الأحكام، ص 123، 124.
(2)
الشاطبي: إبراهيم بن موسى، الموافقات، تحقيق وشرح عبد اللَّه دراز، دار المعرفة، بيروت، ج 1، ص 265، وسيشار له: الشاطبي، الموافقات.
المصالح عليه سبحانه وتعالى، أو كون ذلك منه سبحانه وتعالى تفضلًا وإحسانًا
(1)
، وعلى رأي آخر هو منصب على جواز التعبير بنسبة «الغرض» أو «البعث» إليه سبحانه وتعالى أو عدم جواز ذلك لما يوحيه من النقص
(2)
(3)
.
وعليه - وكما هو في واقع الأمر - فالخلاف بين المتكلمين في تعليل أفعاله سبحانه وتعالى، ليس له ثمرة في الواقع الفقهي أو حتى الأصولي، وإنما هو - على فرض التسليم بأنه خلاف معنوي لا لفظي - خلاف في فرع من فروع الاعتقاد الكلامية المبتدعة؛ لذلك لا غضاضة في القول بلزوم محو هذه المسألة من علم أصول الفقه والاقتصار على بحثها في علم الكلام. قال الشاطبي، رحمه الله:«كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونًا في ذلك - فوضعها في أصول الفقه عارية»
(4)
.
(1)
انظر: محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ط 6، الدار المتحدة، دمشق، ومؤسسة الرسالة، بيروت، 1412 هـ، ص 89، 90 وسيشار له: البوطي، ضوابط المصلحة.
(2)
انظر: شلبي، تعليل الأحكام، ص 128.
(3)
الألوسي: شهاب الدين محمود، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1408 هـ، ج 1، ص 187 وسيشار له: الألوسي، روح المعاني.
(4)
الشاطبي، الموافقات، ج 1، ص 42.
وأمّا الأمر الآخر الذي جعل الأصوليين يختلفون في تعريف العلة ويتجادلون فيه هو: ما ألزموه أنفسهم من صناعة الحدود الجامعة المانعة، فكان هذا مثارًا للبحث والجدال لا في تعريف العلة فحسب بل في كثير من المفاهيم العلمية، فتجد الكم الهائل من الجدال في تعريف الحكم الشرعي وأنواعه المختلفة، وتعريف الأمر والنهي، والعام والخاص، وتعريف القياس، وغير ذلك من الأمور التي كثر فيها الأخذ والرد بما تستحق أحيانًا وبما لا تستحق في غالب الأحيان، حتى تضخم علم الأصول وتعقّد فعَسُر على المبتدئ وُلوجُه وعلى المنتهي حفظُه والإحاطة به.
وصناعة الحدود أو التعريفات والجدال فيها لا ينتمي إلى منهج السلف بنسب ولا ولاء، إنما هو شيء أحدثه المناطقة؛ قال الشاطبي، رحمه الله:«إن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبيٌّ يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور. فأما الأول: فهو المطلوب المنبَّه عليه كما إذا طلب معنى المَلَك فقيل: «إنه خلق من خلق اللَّه يتصرف في أمره» ، أو معنى الإنسان فقيل:«إنه هو هذا الذي أنت من جنسه» ، أو معنى الكوكب فقيل:«هذا الذي نشاهده بالليل» ، ونحو ذلك، فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال.
وعلى هذا وقع البيان في الشريعة كما قال صلى الله عليه وسلم: "الكبر بطر الحق وغمط الناس"
(1)
ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد وكما نفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغةً من حيث كانت أظهر في الفهم منها، وهي عادة العرب والشريعة عربية، ولأن الأمة أمية فلا يليق بها من البيان إلا الأمي
…
(1)
مسلم بن الحجاج القشيري، الصحيح، ومعه شرح النووي، ط 1، دار المعرفة، بيروت، 1414 هـ، حديث رقم (261) وسيشار له: مسلم، الصحيح.
وأما الثاني: وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته أخرجه عن اعتبار الشرع له، لأن مسالكه صعبة المرام، وما جعل عليكم في الدين من حرج، كما إذا طلب معنى الملك فأُحيل به على معنى أغمض منه وهو:"ماهية مجرّدة عن المادة أصلًا" أو يقال: "جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلي" أو طلب معنى الإنسان فقيل هو "الحيوان الناطق المائت" وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلّف به»
(1)
.
المقصد الثاني التعريف بمقتضى العلة
الاقتضاء هو الاستلزام أو التطلّب
(2)
. ومقتضى العلّة هو ما تستلزمه أو تتطلبه العلة، أو إن شئتَ قلتَ: ما تدل عليه العلة، وذلك كما نقول: مقتضى الأمر الوجوب أي: ما يدل عليه هو الوجوب، أو ما يستلزمه هو الوجوب.
والذي تقتضيه العلة - إذا ثبتت لأحد الأحكام بمسلك صحيح - أمران:
أحدهما: ثبوت هذا الحكم لكل محل توجد فيه هذه العلة، وهذا ناشئ عما يعبر عنه الأصوليون بـ «اطراد العلّة»
(3)
(4)
.
(1)
الشاطبي، الموافقات، ج 1، ص 56، 57 مع حذف ما لا حاجة إليه.
(2)
انظر: المعجم الوسيط، ج 2، ص 771.
(3)
انظر: إمام الحرمين: أبو المعالي الجويني، البرهان في أصول الفقه، ط 3، دار الوفاء، المنصورة، 1412 هـ، ج 2، ص 648، وسيشار له: إمام الحرمين، البرهان. والغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، ط 2، دار الفكر، دمشق، 1400 هـ، ص 348، وسيشار له الغزالي، المنحول. والزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 135.
(4)
انظر: الرازي، المحصول ج 1، ص 355.
والآخر: انتفاء هذا الحكم عن كل محل لا تتحقق فيه هذه العلّة.
وهذا ناشئ عما يعبر عنه الأصوليون بـ «انعكاس العلة»
(1)
(2)
.
فالمقتضى الأول موجب للحكم والمقتضى الآخر سالبٌ للحكم، وفيما يلي شرح لهذين المقتضيين بشيء من التفصيل:
أولًا: مقتضى اطراد العلة:
معناه: ثبوت حكم العلة في كل محل تتحقق فيه.
وبيان ذلك: أنه إذا تقرر أن حكمًا من الأحكام الشرعية ثبت في محل من المحال لعلة من العلل، كما لو قيل بتحريم قضاء القاضي حالة الغضب لما في ذلك من تشوش الفكر الحائل دون الإصابة في الحكم - فإنّ مقتضى اطراد العلة هذه - وهي تشوش الفكر - هو ثبوت حكمها، وهو في المثال التحريم، لجميع المحال التي تتحقق فيها هذه العلة.
فيحرم بناءً على هذا المقتضى القضاء حالة الألم المفرط، أو الجوع المفرط، أو النعاس المفرط، أو الحزن المفرط، وغير ذلك من المحال التي تتحقق فيها العلة.
الفرق بين مقتضى اطراد العلة وبين القياس:
فإن قيل: فما الفرق بين مقتضى اطراد العلة وبين القياس مع أنهما في النتيجة يشتركان في كونهما إلحاق واقعة مسكوت عنها بأخرى منصوص عليها إذا اشتركتا في العلّة المقتضية للحكم؟
(1)
انظر: إمام الحرمين، البرهان، ج 2، ص 551، والغرالي، المستصفى، ط 2، ص 143، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 2، ص 344، وسيشار له: الغزالي، المستصفى، والزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 143.
(2)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 4، ص 36، وإمام الحرمين، البرهان، ج 2، ص 556.
فالجواب: نعم، هما من حيث النتيجة سيّان؛ إذ لا اختلاف بين الحكم بالقياس في واقعة ما وبين الحكم بمقتضى اطراد العلة في الواقعة ذاتها بل هما يؤديان الغرض نفسه ويثبتان الحكم نفسه، وإنما يكمن الفرق بينهما - ولم أرَ من نبّه على ذلك - في طريقة إجراء كل منهما من قِبَل المجتهد وذلك من وجهين:
الأول: أن المجتهد حين إجرائه القياس يبتدئُ النظر في الواقعة المسكوت عنها ليلحقها بما يشابهها من الوقائع المنصوص عليها، وهذا بخلاف حاله إذا أراد أن يحكم بمقتضى اطراد العلة، فإن نظره إذ ذاك، ينصب بادئ ذي بدء على الواقعة المنصوص عليها ليستنبط منها العلة ثم ليعمم حكمها في جميع الوقائع المسكوت عنها التي تتحقق فيها هذه العلة.
فالقياس - على ذلك - يبدأ بالمسكوت عنه، والحكم بمقتضى اطراد العلّة يبدأ بالمنطوق به.
والوجه الثاني: أن المجتهد حين إجرائه القياس ينظر في إلحاق واقعة مفردة مسكوت عنها بأخرى منصوص عليها وأما في مقتضى اطراد العلة فينظر في إلحاق عموم الوقائع المسكوت عنها والتي تتحقق فيها العلة بحكم الواقعة المنصوص عليها التي أُخذت منها هذه العلة.
وعليه فمقتضى اطراد العلة هو حكم بجملة من الأقيسة في آن واحد دفعة واحدة واللَّه أعلم.
عموم العلة وعموم اللفظ والفرق بينهما:
والحكم بمقتضى اطراد العلة أو - بعبارة أخرى - بمقتضى عموم العلة، بما هو تتبع لمحال تحقق العلة لإلصاق حكمها بهذه المحال، كالعموم اللفظي الذي
هو تتبع لمحال تحقق الاسم العام لإلصاق حكمه بها - فإنه يختلف عن الحكم بمقتضى عموم اللفظ اختلافًا جوهريًا، نشأ عن التباين بين طبيعة كلا العمومين: عموم العلة، وعموم اللفظ.
فعموم العلة، عموم عقلي لا بد فيه من الاطراد كما هو الشأن - تقريبًا - في القضايا العقلية إذ لا تثبت إلا بالاستقراء التام.
أما عموم اللفظ فهو عموم لغوي خاضع للاصطلاح، وقد اصطلح العرب في خطابهم على أن لا يشترط له الاطراد، ولذا كان من السائغ بل الواقع الكثير أن يُحدَّ من عموم اللفظ بالتخصيص فيبطل حكم اللفظ في محلّ التخصيص بينما يبقى عاملًا فيما هو وراءه من المحال، ولا يُعد هذا التخصيص بحال من الأحوال إبطالًا للفظ العام بالكلّية.
أما عموم العلة فإن ثبت تخصيصه أو - بعبارة أخرى - إن ثبت تخلّف حكم العلة عن محل من محال تحققها من غير «فرق مؤثر»
(1)
بين محل التخصيص وبين باقي المحال، فإن هذا يُعد إبطالًا «نقضًا» لهذه العلة بالكلية.
قال الغزالي، رحمه الله: «اعلم أن العلة إذا ثبتت فالحكم بها عند وجودها حكم بالعموم، فإنه إذا ثبت أن الطعم علة انتظم منه أن يقال: كل مطعوم ربوي، والسفرجل مطعوم، فكان ربويًا، وإذا ثبت أن السُّكْر علة انتظم أن
(1)
كانتفاء شرط لعمل العلة أو وجود مانع من عملها أو وجود علة أخرى تقتضي حكمًا آخر. انظر: آل تيمية، المسودة في أصول الفقه، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 414، وسيشار له: آل تيمية المسودة والغزالي، المستصفى، ج 2، ص 334.
يُقال: كل مسكر حرام، والنبيذ مسكر، فكان حرامًا، وكذلك في كل علة دل الدليل على كونها مناطًا للحكم فينتظم منها قضية عامة كلية تجري مجرى عموم لفظ الشارع بل أقوى؛ لأن عموم اللفظ معرّض للتخصيص، والعلة إذا كانت عبارة عن مناطٍ [و] كانت جامعة لجميع أوصافها وقيودها لم يتطرق إليها تخصيص؛ إذ يكون تخصيصها نقضًا لعمومها»
(1)
.
فإن قيل: فتخصيص العلة ونقضها به مسألة مختلف فيها بين الأصوليين حتى حكى الزركشي فيها بضعة عشر قولًا
(2)
، فكيف ساغ هاهنا - وكما دلّ عليه كلام الغزالي - جزم القول بأن تخصيص العلة غير جائز وأنه إذا ثبت لعلة من العلل فإنه يُعدّ نقضًا لها.
فالجواب: هو أن ما سبق تقريره من أن ثبوت تخلف حكم العلة عن محل من محال تحققها من غير «فرق مؤثر» بين محل التخلف وبين باقي المحالّ يُعدّ نقضًا للعلة أمرٌ - بعد التمحيص - لا خلاف فيه، والذي جرى بين الأصوليين في هذه المسألة هو خلافٌ وهمي لا حقيقة له، إذ هو دائر على الألفاظ فحسب نشأ - في أغلبه - عن اختلاف مآخذهم في تفسير العلة.
وقد أشار إلى عدم جدوى الخلاف في هذه المسألة ولفظيته كل من إمام الحرمين
(3)
والغزالي
(4)
، وهو ظاهر كلام ابن الحاجب
(5)
والبيضاوي
(6)
، وقرره
(1)
الغزالي، أساس القياس، حققه د. فهد السرحان، ط 1، مكتبة العبيكان، الرياض، 1413 هـ، ص 43، وسيشار له: الغزالي، أساس القياس.
(2)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 262.
(3)
انظر: إمام الحرمين، البرهان، ج 2، ص 648.
(4)
انظر: الغزالي، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، ط 1، رئاسة ديوان الأوقاف، إحياء التراث الإسلامي، العراق، 1391 هـ، ص 458، وسيشار له: الغزالي، شفاء الغليل.
(5)
أ بو عمرو بن الحاجب، منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ ص 172. وسيشار له: ابن الحاجب، منتهى الوصول.
(6)
البيضاوي، منهاج الوصول في معرفة الأصول، ط 1، عالم الكتب، بيروت، 1405 هـ، ص 236.
ابن تيمية، رحمه الله، في «مجموع الفتاوى»
(1)
، وكذلك فعل ابن الهمام في «التحرير»
(2)
والأنصاري في «فواتح الرحموت»
(3)
وأطال في بيانه الأستاذ شلبي في «تعليل الأحكام»
(4)
.
وعليه ساغ جزم القول بأن تخصيص العلة لا يجوز وأنه إذا ثبت فإنه يُعد نقضًا لها.
والفلسفة في ذلك أن قول المعلل: إنّ هذا الحكم شُرع لهذه العلة، بعد ثبوت تخصيصها أو - بعبارة أخرى - بعد وجود محل تحقّقت فيه هذه العلة ولم يُشرع له ذات الحكم - ينافي منطقية وعدالة وحكمة التشريع اللائي يقضين بوجوب التشريك بين المتشابهات في الحكم، فإذا ما ثبت أنّ ثمة فرقًا معنويًا بين محلّ الحكم وبين محل التخلف كان ذلك خروجًا عن هذه المنافاة.
ثم إن المجتهد في استنباطه للعلة إنما يستدلُّ على كونها علّةً ملحوظةً للشارع في موارد أحكامه بوجود خصيصة الاطراد فيها، فإذا انخرم هذا الاطراد بثبوت التخصيص في محل من المحال دون عذر مانع دلَّ هذا على عدم اعتبار الشارع لهذه العلة.
ثانيًا: مقتضى انعكاس العلة:
ومعناه: انتفاء حكم العلة عن كل محل لم تتحقق فيه.
(1)
انطر: تقي الدين أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي، ج 20، ص 167.
(2)
انظر: كمال الدين بن الهمام الإسكندري الحنفي، التحرير، ومعه تيسير التحرير، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 4، ص 17، وسيشار له: ابن الهمام، التحرير.
(3)
انظر: عبد العلي الأنصاري، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، بذيل المستصفى، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 2، ص 279، وسيشار له: الأنصاري، فواتح الرحموت.
(4)
شلبي، تعليل الأحكام، ص 174 - 188.
وبيان ذلك: أنه إذا تقرر أن حكما من الأحكام الشرعية ثبت في محل من المحال لعلة من العلل كما سبق القول بتحريم قضاء القاضي حالة الغضب لعلة تشوش الفكر - فإن مقتضى انعكاس العلة هو انتفاء هذا الحكم عن كل محل لم تتحقق فيه العلة المذكورة، فيحل بناء على هذا المقتضى القضاء حالة الغضب اليسير الذي لا يشوش لخلوّه من العلة المقتضية للتحريم.
والفلسفة التشريعية التي ينبني عليها القول بمقتضى انعكاس العلة أو - بعبارة أخرى - القول بزوال الحكم إذا زالت علته: هي أن العلة هي الباعث على تشريع الحكم أو هي المصلحة التي يستهدفها الحكم، فإذا انتفى الباعث أو انعدمت المصلحة وافترضنا عدم انتفاء الحكم لذلك، كان هذا الحكم ثابتًا من غير باعث ومستهدفًا ما ليس بمصلحة، وهذا لا يجوز؛ لأنه مناقض لحكمة الباري سبحانه وتعالى ولِما اطرد في أحكامه من أنها شُرعت لعلل ومصالح سواء أمكن الوقوف عليها أم لا.
انعكاس العلة عند الأصوليين
(1)
:
فإن قيل: يلزم من القول بزوال الحكم إذا زالت علّته القول باشتراط الانعكاس في العلل الشرعية، وهذه قضية خلاف بين الأصوليين، والأكثرون على عدم اشتراطه فكيف يصح جزم الحكم في أفراد المسائل بمقتضى انعكاس العلة مع أن اشتراطه قضية خلاف؟!
فالجواب هو أن القول في انعكاس العلة كالقول في اطرادها سواءً بسواء، وقد سبق بيان أن الأصل هو اطراد العلة وأنه لا يجوز الحدُّ من هذا الاطراد في محل من المحال إلا لعذر مانع، فكذلك الانعكاس لا بدّ منه إلا أن يمنع منه مانع - يقوم عليه
(1)
انظر: إمام الحرمين، البرهان، ج 2، ص 551، والغزالي، المستصفى، ج 2، ص 344، والزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 143.
الدليل - وهذا مما لا ينبغي الخلاف فيه، قال إمام الحرمين:«دينًا حقَّ على كل مجتهد أن يفتي بعكس العلة إذا لم يمنع من ذلك مانع ولم يحجز حاجز»
(1)
.
(2)
.
والذي يُلحظ من كلام الغزالي هذا هو أن القول في اشتراط الانعكاس، إثباتًا ونفيًا، إنما ينبني على كون الحكم معلّلًا بعلة واحدة أو أكثر، فحيث قيل في حكم من الأحكام: إنه معلل بعلل، فحيث انتفت إحدى هذه العلل لم يلزم من ذلك انتفاء الحكم لأنه يثبت بغيرها من العلل، ومثال ذلك:
مَنْ قَتَل وارتدّ، فإنّ دمه يباح لعلّتين:
الأولى: الردة.
والثانية: القتل العمد العدوان.
فإذا انتفت علة الردة، بأن فاء إلى الإسلام، لم ينتفِ حكم إباحة الدم لثبوته بالعلة الأخرى، وإذا انتفت علة القتل العمد العدوان، كأن تراجع
(1)
إمام الحرمين، البرهان، ج 2، ص 559.
(2)
الغزالي، المستصفى، ج 2، ص 344.
الشهود، لم ينتفِ كذلك حكم إباحة الدم.
إذن، فالانعكاس ليس يُشترط في حالة تعدد العلل الموجبة للحكم، أما حيث قيل: بأن الحكم معلل بعلة واحدة فقط، فلا بد حينئذ من اشتراط الانعكاس أو - بعبارة أخرى - لا بد من انتفاء الحكم إذا انتفت هذه العلة.
ومثال ذلك: ما لو قيل بأن العلة في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الصدقات هي حاجة الدولة إليهم في كفّ شرهم وشرّ غيرهم، فإذا انتفت هذه العلة بأن قويت الدولة فلم تعد بحاجة إليهم، كان لا بد من قطع العطاء عنهم؛ لأنا لو أعطيناهم - والحالة هذه - لكان هذا لغير علة ولا مصلحة وهو لا يجوز، ولعل هذا هو منحى اجتهاد عمر رضي الله عنه في هذه المسألة
(1)
.
أما لو قيل بأن العلة في إعطاء المؤلفة ليست هي ما سبق فحسب، بل يضاف إليها علة تشوف الشارع إلى إسلامهم ببذل المال لهم تحبيبًا لهم في الإسلام، ففي مثل هذه الحالة لا يشترط الانعكاس، لأنها إن انتفت الحاجة إلى دفع الشر؛ نظرًا إلى قوة الدولة، فإنها لا تزال تبقى الحاجة إلى التأليف والتحبيب في الإسلام، وبهذه العلة يثبت الحكم وإن زالت العلة الأولى، وعلى هذا لا يُمنع عطاء المؤلفة بحال.
وعليه فحاصل مسألة الانعكاس، وحاصل ما قاله الغزالي، رحمه الله، في هذا الشأن: هو أنه لا بدّ من زوال الحكم إذا زالت علته إلا أن يثبت الحكم لعلة أخرى.
وهذا لا ينبغي الخلاف فيه، قال العلامة الأصولي الصفي الهندي
(2)
: «لا ينبغي أن يكون فيما ذكره الغزالي [وهو ما أُورد آنفًا] خلافٌ ونزاعٌ لأحد»
(3)
.
(1)
سيأتي في الفصل الثاني تفصيل القول في هذا الاجتهاد.
(2)
هو: محمد بن عبد الرحيم بن محمد الآرموي الهندي: فقيه أصولي، ولد بالهند، وخرج إلى اليمن ومصر والروم، واستوطن دمشق، أشهر مصنفاته:«نهاية الوصول إلى علم الأصول» في أصول الفقه، توفي سنة 715 هـ. انظر: خير الدين الزِّركلي، الأعلام، ط 10، دار العلم للملايين، بيروت، 1992 م، ج 6، ص 200، وسيشار له: الزركلي، الأعلام.
(3)
نقله عنه الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 144.
مثال لتوضيح مقتضى العلة طردًا وعكسًا في المسألة الواحدة:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. دلت هذه على تحريم البيع وقت النداء يوم الجمعة، وهذا الحكم مأخوذ من قوله تعالى:{وَذَرُوا الْبَيْعَ} .
وعلة هذا الحكم - كما هي لائحة من خلال السياق - هي أن البيع شاغل عن السعي المطلوب.
ولهذه العلة - بطردها وعكسها - مقتضيان: موجب وسالب، أما الموجب - وهو مقتضى اطراد العلة - فهو تحريم كل عمل تحققت فيه علة الإشغال عن السعي يوم الجمعة، فيدخل في هذا إجراء العقود كلها وقت النداء، كالإجارة والسَّلم والهبة والدين وحتى عقد النكاح.
بل يدخل فيه كذلك كل عمل هو في الأصل مباح لكنها تتحقق فيه علة الإشغال كالأكل والشرب واللعب وغير ذلك.
لا يقال: ويدخل الوضوء أو الاغتسال وقت النداء لأنه شاغل عن السعي.
لأنا نقول: إن الأمر بالشيء أمرٌ بلوازمه، فالأمر بالصلاة أمر بالوضوء، وعليه يكون الوضوء أو الغسل وقت النداء جزءًا من المأمور به بالنص نفسه.
فإن قيل: فهذا نقض للعلة إذ هي لم تستلزم حكمها في جميع محالّ تحققها.
فيقال: بل هو تخصيص لها وقد سبق القول بجوازه بوجود دليل مانع من اطرادها ينبني على وجود فرق مناسب بين محل التخصيص وبين باقي المحال، وهو الحاصل هاهنا.
هذا هو مقتضى اطراد العلة وهو موجب للحكم في جميع محال تحقق العلة.
وأما المقتضى الآخر، وهو مقتضى انعكاس العلة، فيسلب حكم تحريم البيع عن جميع المحال التي لا تتحقق فيها العلة، وهي الإشغال عن السعي، حتى لو كان أحد هذه المحال مندرجًا في جنس البيع.
وهذا يُتصور في حالة ما إذا تعاقد المتبايعان وهما - مثلًا - في سيارة أو حافلة تسعى بهما إلى المسجد.
ففي هذه الحالة وُجد جنس متعلق الحكم، وهو مطلق البيع، وانتفت العلة المقتضية للتحريم، وهي الإشغال عن السعي، فأُبيحت هذه الصورة من مطلق البيع.
المطلب الثاني التعريف بالنص وبمقتضاه
وهو في مقصدين:
المقصد الأول: التعريف بالنص
المقصد الثاني: التعريف بمقتضى النص
المقصد الأول
التعريف بالنص
النص لغة:
مأخوذٌ من الظهور، يقال: نصَّ الشيء ينصُّه نصًا إذا رفعه وأظهره، ويقال: نصت الظبية جيدها إذا رفعته، ومنه «المنصة» وهي كرسي مرتفع أو سرير يُعدّ للخطيب ليخطب أو للعروس لتجلى
(1)
.
النص اصطلاحًا:
يطلق النص في اصطلاح الأصوليين ويراد به معانٍ خمسة:
الأول: نصوص الكتاب والسنة، فيقال: هذا الحكم ثبت بالنصّ وهذا بالقياس
(2)
.
الثاني: اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحدًا، أو: ما لا يحتمل التأويل وذلك كلفظ خمسة فإنه لا يحتمل الأربعة أو الستة، ولفظ الفرس فإنه لا يحتمل الحمار ولا البعير
…
(3)
.
(1)
انظر: المعجم الوسيط، ج 2، ص 963.
(2)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 1، ص 462. وابن الهمام، التحرير، ج 1، ص 137.
(3)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 385.
الثالث: اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى هو في أحدها أكثر ظهورًا من غيره لذا فهو يحتمل التأويل، وهو إطلاق «أطلقه الشافعي، رحمه الله، فإنه سمّى الظاهر نصًا وهو منطبق على اللغة ولا مانع منه في الشرع»
(1)
.
الرابع: اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى هو في أحدها أكثر ظهورًا من غيره، لذا فهو يحتمل التأويل إلا أنه لم يتطرق إليه تأويل مقبول يعضده دليل، وبهذا يختلف هذا الإطلاق عن الثالث الذي قبله
(2)
.
الخامس: اللفظ أو المعنى الذي سيق الكلام لأجله، مع أنه يحتمل التأويل وهذا الإطلاق خاصّ بالحنفية
(3)
.
والمراد بالنص - في اصطلاح هذه الرسالة - من بين هذه الإطلاقات هو الإطلاق الأول، إذ لا يعني كاتب هذه الرسالة بـ «أثر تعليل النص على دلالته» إلا نصوص الكتاب والسنة بغض النظر عن كون ألفاظها تحتمل التأويل أو لا تحتمله.
ثم إن المراد بنصوص الكتاب والسنة ليس هو كل ما ورد في الكتاب والسنة على الإطلاق، وإنما ما ورد فأمكن استنباط الأحكام منه فقط، إذ لا علاقة لأصول الفقه بالنصوص التي لا تدل على أحكام فقهية، كالنصوص
(1)
المرجع السابق، ج 1، ص 384.
(2)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 386.
(3)
انظر: ابن الهمام، التحرير، ج 1، ص 137، وصدر الشريعة، عبيد اللَّه بن مسعود البخاري الحنفي، التوضيح لمتن التنقيح، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 1، ص 124، وسيشار له: صدر الشريعة، التوضيح و أ. د فتحي الدريني، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ط 2، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق 1405 هـ، ص 51، وسيشار له: الدريني، المناهج الأصولية.
الواردة في العقائد أو القصص أو الأخبار وغير ذلك مما لا يستنبط منه أحكام شرعية عملية.
ومما ينبغي ذكره هاهنا هو أن نصوص الكتاب المقتضية للأحكام إنما هي مجرد أقوال بخلاف نصوص السنة إذ هي ثلاثة أنواع: أقوال وأفعال وتقريرات.
وكذلك فإن الأقوال الدالة على الأحكام - سواء أكانت من الكتاب أو السنة - ثلاثة أقسام:
الأول: ما دل على طلب فعل وهذه هي الأوامر.
الثاني: ما دل على طلب ترك وهذه هي النواهي.
الثالث: ما دل على التخيير بين الفعل والترك.
المقصد الثاني التعريف بمقتضى النص
مقتضى النص هو ما يدل عليه أو يستلزمه النص، والذي يدل عليه النص هو الحكم الشرعي بأنواعه المختلفة.
فإن كان النص قولًا فلا يخلو أن يكون أمرًا أو نهيًا أو تخييرًا.
فالأمر يدلُّ - كما هو رأي الجمهور
(1)
- على الوجوب إلا أن ترد قرينة تصرفه إلى الندب أو الإباحة.
والنهي يدل على التحريم إلا أن ترد قرينة تصرفه إلى الكراهة، والتخييرُ يدلُّ على الإباحة.
(1)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 2، ص 365، ومحمد بن على الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ، ص 169، وسيشار له: الشوكاني، إرشاد الفحول.
وإن كان النص فعلًا ففي دلالته على الحكم الشرعي تفصيل كثيرٌ عند الأصوليين
(1)
يمكن تلخيصه بما يلي:
الفعل لا يخلو، إما أن يكون على سبيل القربة، وإما لا، فإن لم يكن على سبيل القربة كالأكل والشرب والجماع، فهو يدل على الإباحة، وإن كان على سبيل القربة فهو على وجهين:
الأول: أن يُفعل بيانًا لغيره كأفعاله صلى الله عليه وسلم في الصلاة والحج إذ قد ورد بهما الأمر مجملًا فبيّنهما صلى الله عليه وسلم بفعله، والأصل في هذا الفعل أن يتبع في حكمه حكم المبيَّن إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك.
والثاني: أن يُفعل ابتداءً من غير سبب كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يضجع بعد ركعتي الفجر
(2)
، ففي دلالة هذا الفعل على الحكم ثلاثة أقوال:
القول الأول: الأصل فيه أن يدل على الوجوب ولا يصرف إلى غير ذلك إلا بدليل.
القول الثاني: الأصل فيه أن يدل على الندب ولا يصرف إلى غير ذلك إلا بدليل.
القول الثالث: أنه يُتوقف فيه فلا يحمل على الوجوب أو الندب إلا بدليل.
وإن كان النص إقرارًا فهو يدل على جواز الفعل المقرّ ورفع الحرج عن فاعله.
(1)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 4، ص 176 - 181. وأبو إسحاق الشيرازي، شرح اللمع، ط 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1408 هـ، ج 1، ص 545 - 552، والغزالي، المستصفى، ج 2، ص 214 - 221.
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1160).
القطعية والظنية في مقتضى النص:
والنص إما أن يدل على الحكم قطعًا كما هو في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وإما أن يدل عليه ظنًا كما هو في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
فقد قال قوم بوجوب كتابة الدين كما هو ظاهر النص، وقال قوم بندبها لأدلة قرروها
(1)
.
وإفادة القطع بمجرد النصوص وحدها قليل، وبعضهم نفاه، وذلك لكثرة الاحتمالات التي ترد على الألفاظ إلا أن القطع يكثر في النصوص إذا نظرنا إليها مع ما يحتف بها من القرائن المؤكِّدة لظواهرها
(2)
.
فمثلًا ما سبق إيراده آنفًا وهو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان قطعيًا في تحديد عدد الجلدات فإنه مظنون في إفادة وجوب الجلد، وذلك لأن صيغة الأمر وهي هاهنا «فاجلدوهم» تتردد - بحسب ما تقضي به اللغة - بين الطلب الجازم وبين الطلب غير الجازم، وسواء أقيل بأنها ظاهرة في الوجوب مؤولة في الندب، أم قيل بأنها مشتركة بن المعنيين، فإنها على كل تقدير تظل ظنية الدلالة.
هذا إذا كان النظر منصبًّا على مجرد النص، وأما إذا نظرنا إلى النص مع ما احتف به من قرائن، وأهمها تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معه، وكيف أنه كان لا يتساهل
(1)
انظر: أبو بكر أحمد بن علي الجصاص، أحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 هـ، ج 2، ص 205، وسيشار له: الجصاص، أحكام القرآن.
(2)
انظر: فخر الدين الرازي، المحصول، ج 1، ص 172 - 178.
في شأن الحدود ولا يتوانى في تطبيقها ولا يقبل الشفاعة فيها وغير ذلك - لم نرتَبْ في القول بأن النص هاهنا يدل على وجوب الجلد ثمانين قطعًا.
ومما ينبغي تقريره هاهنا هو أن الكثرة الكاثرة من النصوص التي تدل على أحكامها قطعًا لا تخلو - على الرغم من قطعيتها - من «دلالات ظنية» على جوانب ومتعلَّقات الحكم المقطوع.
فقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان - مع ما احتفّ به من قرائن - قاطعًا في وجوب الجلد ثمانين فإنَّه - مع ذلك - ظنيٌّ في كثير من جوانب هذا الحكم ومتعلقاته:
فمثلًا: النص مطلق في طلب الجلد بغضّ النظر عن محلّ الجلد أهو الظهر أو البطن أو الأطراف، وبغض النظر عن الشيء الذي يتم به الجلد، وبغض النظر عن شدة الجلد ودرجة قوته.
ثم إن النص عام في المجلودين، لذا فهو يقبل التخصيص بدليل كما هو الشأن في العبد إذ قد جلده الخلفاء الراشدون أربعين على النصف من حدِّ الحُر
(1)
.
وكذا هو عام في مكان الجلد حيث منع العلماء من إقامة الحد في المسجد
(2)
، وكذا حصل خلاف في إقامة الحد في الغزو وفي دار الحرب
(3)
.
(1)
مالك، الموطأ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1406 هـ، ج 2، ص 838، وإسناده على شرط البخاري.
(2)
انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط 1، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407 هـ، ج 12، ص 132، وسيشار له: ابن حجر، فتح الباري.
(3)
انظر: محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، دار الفكر، بيروت، 1414 هـ، ج 7، ص 286، وسيشار له: الشوكاني، نيل الأوطار.
وكذا النص عام في زمان الجلد، وفيمن يقوم بالجلد أهو الإمام أم يجوز ذلك للأفراد، كالأب على ابنه، أو السيد على عبده، وغير ذلك
(1)
.
فكل هذا الذي ذُكر من متعلقات وجوانب حكم «وجوب الجلد ثمانين» هو مقتضيات ظنية للنص {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، دلّ عليها بإطلاقه أو بعمومه، ودلالة المطلق على الإطلاق، والعام على العموم هي - كما هو عند الجمهور - دلالات ظنية تقبل التخصيص والتقييد.
إذن، فالنص وإن كان - أحيانًا - قاطع الدلالة على الحكم فإنه يبقى مع ذلك ظني الدلالة على كثير من جوانبه ومتعلقاته كزمانه ومكانه ومحله وكيفيته وغير ذلك.
وفي مقابل هذا فإن النص الدال على الحكم ظنًا لا يخلو - على الرغم من ظنيته - من أن تكون له «دلالات قطعية» ، بل لا بد له من ذلك.
فمثلًا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وإن كان ظنيًا في الدلالة على مدة التربص للاشتراك في لفظ «القرء» فإنه قاطع في حصر مدة التربص بين ثلاث حيض وبين ثلاثة أطهار فلا يجوز بحال أن يُختلف في أن العدة لا تقل عن ثلاث حيض وأنها لا تزيد عن ثلاثة أطهار.
ومثلًا قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وإن كان ظنيًا في تحديد ماهية اللمس الناقض للوضوء أهي الجماع أم الجسُّ باليد، فإنه قاطع في كون اللمس لا يخرج عن هذين المعنيين، فالنص إذن يدل قطعًا على أن واحدًا من
(1)
انظر: المرجع السابق، ج 7، ص 270.
الجماع أو الجس باليد ناقض للوضوء، والمظنون فيه هو دلالته على أحد هذين المعنيين بالتحديد.
وقول القائل جاء الأولاد يدل دلالة ظنية على عموم الأولاد المعهودين لكنه كذلك يدل، وفي الوقت نفسه، دلالة قطعية على مجيئ أقل الجمع - وهو اثنان أو ثلاثة - من الأولاد، وإلا كان قوله - إذا لم يقصد مجيء أحد - كذبًا وزورًا، ومن هنا قال الأصوليون: إن دلالة العام على أقل الجمع دلالة قطعية
(1)
، وكذلك قالوا: إن العام إذا ورد على سبب فإن صورة السبب مرادة به قطعًا فلا يصح إخراجها بالتخصيص
(2)
، مع أن العام من حيث الأصل يقبل التخصيص.
وبعد هذا كله يمكن الخلوص إلى هاتين النتيجتين:
الأولى: أن النص إذا دل على الحكم قطعًا فإنه في الوقت نفسه يدل على كثير من جوانب الحكم ومتعلقاته ظنًا.
والثانية: أن النص إذا دل على الحكم ظنًا فإنه في الوقت نفسه يدل قطعًا على حصر هذا الظن بمجال معيّن لا يصح تجاوزه.
وهاتان النتيجتان تخلصان بدورهما إلى نتيجة واحدة هي أن كل نص تشريعي - إلا النادر الذي لا يكاد يوجد - لا بد له من مقتضيين:
الأول: مقتضى قطعي: وهو ما دل عليه النص قطعًا.
والثاني: مقتضى ظني: وهو ما دلّ عليه النص ظنًا.
(1)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 139، والشيرازي، شرح اللمع، ج 1، ص 342.
(2)
انظر: إمام الحرمين، البرهان، ج 1، ص 256، وأبو إسحاق الشيرازي، اللمع في أصول الفقه، مع تخريج أحاديثه للغماري ط 1، عالم الكتب، بيروت، 1405 هـ، ص 122، وسيشار له الشيرازي، اللمع.
المقتضى الظني للنص الشرعي:
إذا كان النص الشرعي ظنيًا يحتمل معنيين أو أكثر، فالنص إذ ذاك: إما أن يدلَّ على معنييه أو معانيه بدرجة من الظن مختلفة ما بين معنى وآخر وإما أن يدل عليها بدرجة متساوية.
فإذا كانت دلالته على معانيه مختلفة فلا بدّ أن تكون راجحة في معنى من المعاني ومرجوحة في غيره.
فإذا كانت راجحة في معنى من المعاني سُمِّيَ هذا المعنى ب «ظاهر النصّ»
(1)
، أما المعاني المرجوحة الأخرى فتُسمى بـ «مؤول النص»
(2)
.
وإذا كانت دلالة النص على معانيه بدرجة متساوية من الظن سُمّي هذا النص بـ «المجمل»
(3)
أو «المشكل» في اصطلاح الحنفية
(4)
.
وعليه يمكن تعريف المقتضى الظني للنص الشرعي بأنه: دلالة النص على معنى من معانيه التي يحتملها من غير قطع، سواء أكانت هذه الدلالة من النص في غالب الظن أو في مغلوبه أو في لا غالبه ولا مغلوبه، وبتعبير آخر، سواء أكانت هذه الدلالة «ظاهرة» أو غير ظاهرة وإنّما «مؤوّلة» أو كانت لا ظاهرة ولا مؤوّلة وإنّما «مجملة» .
والأصل في النص الشرعي - وهو ما تقتضيه لغة العرب - أن يُحمل على معناه الظاهر إلا أن ترد «قرينة» تعضد المعنى المؤوَّل لتنقله من الضعف إلى القوة ومن المرجوحيّة إلى الرجحان، فيتقدم بذلك على المعنى الظاهر
(5)
.
(1)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 336، والرازي، المحصول، ج 1، ص 81، والآمدي، الإحكام، ج 3، ص 73.
(2)
المراجع السابقة.
(3)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 336، والآمدي، الإحكام، ج 3، ص 11.
(4)
انظر: صدر الشريعة، التوضيح، ج 1، ص 126، والدريني، المناهج الأصولية، ص 87.
(5)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 336، ص 340، والرازي، المحصول، ج 1، ص 180.
هذا إذا كان للنص معنى ظاهر، وآخر مؤول، وأما إذا لم يكن له ذلك بأن كان نَصًّا مجملًا فالأصل إذ ذاك التوقف عن إحالة مراد الشارع على أيّ من معانيه حتى يتسنى الوقوف على «قرينة» ترجح أحد هذه المعاني
(1)
.
فالقرينة على هذا، وبالنظر إلى ما سبق، شيء مشترك بين إرادة حمل اللفظ على المعنى المؤول إذا كان اللفظ محتملًا للتأويل وبين حمل اللفظ على أحد معانيه إذا كان مجملًا.
إلا أنه ثمّة فرق وهو: أن القرينة المحتاج إليها في دعم احتمال التأويل ينبغي أن تكون على قدر من القوة بحيث تفوق قوة المعنى الظاهر المقابل للمعنى المؤول، ومن هنا يشترط الأصوليون لصحة التأويل:«أن يكون الدليل الصّارف للفظ عن مدلوله الظاهر راجحًا على ظهور اللفظ في مدلوله ليتحقق صرفه عنه إلى غيره»
(2)
.
أما القرينة المحتاج إليها في رفع الإجمال عن اللفظ بترجيح أحد معانيه فلا يشترط فيها أن تكون قوية كالقرينة الداعمة للتأويل، وذلك لأن التساوي بين معاني اللفظ المجمل في القوة يجعل أحدها يترجح على غيره بأدنى دليل على خلاف الحال في الظاهر والمؤول.
ومما تنبغي الإشارة إليه هاهنا هو: أن علة النص يُسلك بها مسلك القرينة: إما الداعمة للتأويل وإما الرافعة للإجمال - إذا كان اللفظ مشتركًا - كما سيرد بيانه في المبحث القادم إن شاء الله.
(1)
انظر: الغزالي، ج 1، ص 336، والدريني، المناهج الأصولية، ص 103، 104.
(2)
الآمدي، الإحكام، ج 3، ص 75.
المطلب الثالث
ثبوت الحكم هل هو بالعلة أو النص؟
سبق القول فيما مضى بأن الذي تقتضيه العلة، وكذلك النص، هو الحكم.
وعليه، فهل يُضاف الحكم في ثبوته إلى العلة أم إلى النص أم إليهما معًا؟
فعلى سبيل المثال هل ثبت حكم التحريم للخمر بالنص وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]؟ أو أنه ثبت بالعلة وهي الإسكار المؤدي إلى وقوع العداوة والبغضاء بين الناس والصدّ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة؟ أم أنه ثبت بالعلة والنص جميعًا؟
قد شجر الخلاف بين الأصوليين في ذلك، فذهب معظم الحنفية إلى أن الحكم يثبت في محل الأصل بالنص أما في محل الفرع فيثبت بالعلة، وذهب معظم الشافعية إلى أنه يثبت في محل الأصل والفرع - على حد سواء - بالعلة، وقال قائلون بأن الحكم يثبت في محله بالعلة والنص جميعًا
(1)
.
والخطب في هذه المسألة - وإن كثر فيها الجدل - سهل يسير، وذلك لأن خلاف الأصوليين فيها إنما يدور على العبارة لا أكثر
(2)
وبيان ذلك: أن من قال: إن الحكم في محل الأصل يثبت بالنص فمراده أن النص هو الذي كشف عن هذا الحكم وعرف به ولولاه لما أمكن الوقوف عليه.
(1)
سيأتي تفصيل الأقوال في المسألة وعزوها إلى أصحابها بعد أوراق.
(2)
ولطالما كانت الألفاظ مثارًا للخلاف، قال الغزالي رحمه الله:«معظم الأغاليط والاشتباهات ثارت من الشغف بإطلاق ألفاظ دون الوقوف على مداركها ومآخذها» وقال: «إنما منشأ الإشكال التخاوض في الأمور دون التوافق على حدود معلومة لمقاصد العبارات فيطلق المطلق عبارة على معنى يقصده، والخصم يفهم منه معنى آخر يستبد هو بالتعبير عنه فيصير به النزاع ناشبًا قائمًا لا ينفصل أبد الدهر» . الغزالي، شفاء الغليل، ص 420، 588.
ومن قال: إنه ثبت بالعلة فمراده أن العلة هي التي بعثت عليه وأنه شرع من أجلها وبدافع منها.
ومن قال: إن الحكم ثبت بالعلة والنص معًا فقد جمع بين الأمرين، قال الآمدي، رحمه الله:«اعلم أن الخلاف في هذه المسألة آئل إلى اختلاف في اللفظ، وذلك أن قول أصحابنا بأن الحكم ثابت بالعلة، لا يريدون به أن العلة معرّفة له بالنسبة إلينا ضرورة أنها مستنبطة منه وأنها لا تعرف دون معرفته، وإنما يريدون به أنها الباعثة للشارع على إثبات الحكم في الأصل وأنها التي لأجلها أثبت الشارع الحكم، وأصحاب أبي حنيفة غير منكرين لذلك، وحيث قالت الحنفية: إن العلة غير مثبتة للحكم لم يريدوا بذلك أنها ليست باعثة، وإنما أرادوا بذلك أنها غير معرّفة لحكم الأصل بالنسبة إلينا، وأصحابنا غير منكرين لذلك، فلا خلاف في المعنى بل في اللفظ»
(1)
.
ويمكن في هذا الصدد توضيح علاقة كل من العلة والنص بالحكم بمثال محسوس، وهذا المثال هو الشجرة: جذرها المتشعب تحت الأرض هو العلة وثمرتها هي الحكم، وما بين الجذر والثمرة من الساق والغصن هو النص، فإما أن يقال - وهو الظاهر للعيان - بأن الثمرة ثابتة بالساق والغصن لأنهما محل ظهورها وحملها وتعريف الناس بها.
وإما أن يُقال بأنها ثابتة بالجذر، وذلك لأنه وإن خفي فهو على التحقيق معدن تكوينها وإنشائها وسبب حمل الساق والغصن لها.
وعليه، فإضافة الثمرة إلى الغصن هي إضافة حمل وإظهار، وإضافتها إلى الجذر هي إضافة تكوين وإنشاء، ولا تناقض بين الإضافتين.
(1)
الآمدي، الإحكام، ج 3، ص 358.
فكذلك الحال بالنسبة إلى الحكم، يضاف إلى النص لأنه هو الحامل له والكاشف عنه، ويضاف إلى العلة؛ لأنها هي الباعث عليه والداعي له، فإضافته إلى النص تختلف عن إضافته إلى العلّة وليس بين الإضافتين تناقض أو تضاد حتى يثور الخلاف في أيّهما الصواب.
فإذا تقرر ما سبق، واتضحت حقيقة القول في وجه إضافة الحكم إلى العلة أو إلى النص فلا بدّ في هذا المقام من استعراض هذه المسألة في كتب الأصوليين، حتى يمكن من خلال ذلك النظر في كيفية نشوء هذه المسألة عندهم والمراحل التي مرّت بها وما آلت إليه عند المتأخّرين، ويتخلل ذلك كلَّه مناقشةُ ما يحتاج إلى نقاش من أقوال الأصوليين.
كيف نشأت هذه المسألة؟
صرّح الغزالي
(1)
وغيره
(2)
بأن الخلاف في هذه المسألة تولّد من الخلاف في صحة العلّة القاصرة
(3)
ويؤيد ذلك أن معظم الأصوليين إذ بحثوا هذه المسألة فإنما بحثوها عقب بحث العلة القاصرة مباشرة
(4)
.
(1)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 2، ص 346، والغزالي، شفاء الغليل، ص 537.
(2)
انظر: الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ط 5، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1978 م، ص 47 وسيشار له فيما يلي بـ الزنجاني: تخريج الفروع على الأصول.
(3)
العلة القاصرة ويقال: الواقفة هي التي لم تتعدّ الأصل إلى فرع، لأنها إذا ثبتت في محل من المحال كانت مقصورة عليه وغير موجودة فيما سواه، وذلك مثل قول الجمهور بأن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة حرام وعلة ذلك أنهما أصول الأثمان وبهما تتقيم الأشياء وهذه علة معدومة فيما سواهما فلا يقاس عليها. انظر: الباجي، الحدود في الأصول، ص 73، 74.
(4)
انظر: عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار، ج 3، ص 316 والإسنوي، نهاية السول، ج 3، ص 150، 151، والرازي، المحصول، ج 2، ص 403 - 407.
أما وجه تولدها من مسألة العلة القاصرة، فذلك أن الحنفية عندما أبطلوا التعليل بالعلة القاصرة عللوا ذلك بأن فائدة العلة إنما هي التوسل بها إلى معرفة الحكم، وهذا غير متحقق في القاصرة؛ لأنها لا تفيد حكمًا في الفرع ولا تفيد حكمًا في الأصل، فقيل لهم: نسلم لكم أنها لا تفيد حكمًا في الفرع فلمَ قلتم: إنها لا تفيد حكمًا في الأصل فقالوا: لأن الحكم في الأصل ثبت بالنص لا بالعلة، فقيل لهم: لا نسلم ذلك بل الحكم ثابت بها لا بالنص
(1)
ومن ثَم كثر الأخذ والرد.
حقيقة القول في العلة القاصرة:
والخلاف في صحة العلة القاصرة لفظي كما هو في هذه المسألة، ذكر ذلك الغزالي
(2)
والزنجاني
(3)
وابن قدامة المقدسي
(4)
وابن الهمام
(5)
وأطال النفس في بيان ذلك الأستاذ محمد شلبي في كتابه «تعليل الأحكام» ومما قال في ذلك: «قديمًا تنازع العلماء في جواز التعليل بالعلة القاصرة وطال الأخذ والرد بين الحنفية والشافعية على وجه أخص جيلًا بعد جيل، حتى خُيّل للناظر في كلامهم أنه دفاع عن عقيدة أو تنازع في حقيقة، ويعلم اللَّه أن لا عقيدة ولا حقيقة وإنما هو خلاف في الألفاظ، ومن أنصف منهم وتجرد عن العصبية قال:
(1)
المراجع السابقة.
(2)
الغزالي، شفاء الغليل، ص 537.
(3)
الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ص 47. والزنجاني هو شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني الشافعي نسبة إلى مدينة زنجان على حد أذربيجان من بلاد الجبل، وهو أحد من برعوا في اللغة وعلم الخلاف والأصول والتفسير له تصانيف لم يظهر منها إلا النزر اليسير، توفي في بغداد سنة 656 هـ. انظر: مقدمة د. محمد أديب الصالح لكتاب «تخريج الفروع على الأصول» ، ص 11، 12.
(4)
ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجُنة المناظر، مكتبة المعارف، الرياض ج 2، ص 320، وسيشار له فيما يلي بـ ابن قدامة، روضة الناظر.
(5)
ابن الهمام، التحرير، ج 4، ص 6.
نزاع لفظي حيث اختلف محل النفي والإثبات، وأن كل فريق معترف بما يقول الآخر شاء أم أبى، ومن أخذته الحميّة - حميّة الدفاع عن مشايخه - حاول ردّ النزاع الصوري إلى حقيقي متكلفًا أيّما تكلف كي يوجد لهذا الخلاف ثمرة صالحة لمّا بان له ذبول ثمراته التي رتبها عليه السابقون. وأغلب الظن عندي [والكلام لا يزال لشلبي] أن منشأ هذا الخلاف هو ما روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه من جعله علة الربا في الذهب والفضة الثمنيّة وهي قاصرة عليهما، والحنفية جعلوا العلة الجنس والوزن وهي موجودة في غيرهما، وسواء أكان هذا التعليل منقولًا عن الإمام وصاحبيه أم من استنباط الأتباع فقد جدّ النزاع بين أتباع المذهبين في هذا الفرع وانجر الكلام منه إلى علة قاصرة ومتعدية وأيهما تُرجح في مقام الترجيح أو في مجالس المناظرات»
(1)
.
وإذن، فثبوت الحكم في المحل هل هو بالعلة أو النص مسألة تفرّعت عن مسألة العلة القاصرة، والخلاف بين الأصوليين في هذين المسألتين كليهما لفظي.
المراحل التي مرت بها هذه المسألة في كتب الأصوليين:
أولًا: في كتب أصوليي الشافعية
وثانيًا: في كتب أصوليي الحنفية
أولًا: كتب أصوليي الشافعية:
ما من شك في أنَّ الإمام الشافعي، رحمه الله أوّلَ من دوَّن الأصول - لم يتعرّض لهذه المسألة ولا لكثير غيرها من المسائل التي كثر خوض الأصوليين فيها فيما بعد، ودليل ذلك أن أتباعه وهم الحريصون على التمسك بأدنى
(1)
محمد شلبي، تعليل الأحكام، ص 164، وما بعدها، بتصرف، وانظر تمام القول هناك إذا أردت تفصيل القول في المسألة.
شيء من أقواله - لم يوردوا نقلًا واحدًا عنه رضي الله عنه يظهِر من قريب أو بعيد أنه تعرض لثبوت الحكم هل هو بالعلة أو النص.
وأما نسبة بعض الاصوليين
(1)
القول في هذه المسألة له، رحمه الله، فذلك لأن شأن أتباع المذاهب في وضع أصول مذهبهم هو استخراج هذه الأصول مما نقل عن إمامهم من فروع فقهية، ومن ثَم نسبة هذه الأصول إلى إمام المذهب نفسه، وهذا لا يدل صراحة على أن إمام المذهب قائل بهذه الأصول، ودليل ذلك أن أصوليي المذهب الواحد أنفسهم، كثيرًا ما يختلفون في حكاية المذهب في المسألة الواحدة من مسائل الأصول على قولين أو أكثر، وذلك تبعًا لاختلافهم في تخريج مذهب إمامهم في هذه المسألة بحسب ما روي عنه من فروع فقهية
(2)
.
وعليه، فليس للشافعي نص في هذه المسألة، وهذا يعني بالضرورة أنها نشأت بعده.
وأقدم من وجدته يذكر هذه المسألة من الشافعية أبو بكر الصيرفي
(3)
، المتوفى سنة 330 هـ، حيث قال:«الحكم في الأصل ثبت بالعلة التي دل عليها النص، وحظ النص فيها التنبيه عليها، وهذا هو الراجح عند أصحابنا»
(4)
.
(1)
انظر: البزدوي، أصول البزدوي، ومعه كشف الأسرار، مطبعه الشركة الصحافية العثمانية، ج 3، ص 315، 316، وسيشار له فيما يلي بـ البزدوي، أصول البزدوي. وعلاء الدين السمرقندي، ميزان الأصول في نتائج العقول، ط 1، مطابع الدوحة، قطر، 1404 هـ، ص 636 وسيشار له بـ السمرقندي، الميزان. والغزالي، شفاء الغليل، ص 537.
(2)
ومن هنا لم يرتض إمام الحرمين - وهو الأصولي البارع - أن تأخذ الأصول من الفروع فقال: «حق الأصولي ألا يلتفت إلى مذاهب أصحاب الفروع ولا يلتزم مذهبًا مخصوصًا في المسائل المظنونة الشرعية» ، إمام الحرمين، البرهان، ج 1، ص 534.
(3)
هو محمد بن عبد اللَّه الشافعي البغدادي، فقيه أصولي متكلم محدث، تفقه على ابن سريح وسمع الحديث وتوفي بمصر، له شرح رسالة الشافعي وكتاب في الإجماع وآخر في أصول الفقه. انظر: عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين، دمشق، ج 10، ص 220.
(4)
نقله عنه الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 105.
ثم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني
(1)
، المتوفى سنة 418 هـ، إذ حكى أن للشافعية وجهين في ثبوت الحكم في المحل هل هو بالعلة أو النص؟
(2)
.
والذي يظهر أن هذه المسألة ظلت منذ نشوئها كذلك تخضع للأخذ والرد والترجيح، فيما بين الشافعية والحنفية حينًا، وفيما بين الشافعية أنفسهم حينًا آخر، حتى جاء حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله، المتوفى سنة 505 هـ، فكشف عن وجه هذه المسألة قناع الالتباس لتؤول بذلك من الخلاف إلى الوفاق.
فقال، رحمه الله: «الحكم في الأصل هل يضاف إلى العلة أم لا؟ فهم [أي الحنفية] يزعمون أن المضاف إلى العلة حكم الفرع فأما حكم الأصل فمضاف إلى النص لا إلى العلة.
وهذه المسألة عندي لفظية تنبني على بيان حد العلة، وما هو المراد بإطلاقها، وقد بيّنّا أن الفقهاء يطلقون اسم العلة على العلامة الضابطة لمحل الحكم، وقد تُطلق على الباعث الداعي إلى الحكم وهو وجه المصلحة، وقد تُطلق على السبب الموجب للحكم الذي يتنزل في الإيجاب وإضافة الموجب إليه منزلة العلة العقلية بنصْب الشرع، وإذا خُرّجت المسألة على هذه المآخذ ارتفع الخلاف، فإذا أُريد بالعلة السبب الموجب الذي يقتضي إضافةً عقلية، كما في العلل العقلية، فهذا يقتضي أن يقال: إن كانت العلة منصوصًا عليها كالسرقة مثلا جاز إضافة الحكم إليها وإن كانت قاصرة، وإن كانت مستنبطة
(1)
هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، متكلم أشعري وفقيه شافعي، أخذ عن أبي الحسن الباهلي والباقلاني، ودفن في إسفرايين، ولم يصل إلينا شيء من التصانيف الكثيرة التي ألفها في أصول الفقه والفقه. انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، دار صادر، بيروت، 1971 م، ج 1، ص 4.
(2)
نقله عنه أيضًا الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 104.
بالظن فلا؛ لأنّ المضاف - وهو الحكم - مقطوع به، فيستحيل أن يكون المضاف إليه مظنونًا والعلة المستنبطة مظنونة.
وإن أُطلق اسم العلة لإرادة الباعث على الحكم والداعي له وهو: وجه المصلحة، فيقول الناظر: الحكم ثابت بالنص ومضاف إليه، والسبب الباعث للشرع على النص: المصلحة الفلانية فهذا لا حجر في إطلاقه
…
»
(1)
.
ثم جاء بعد الغزالي تلميذه أبو الفتح ابن برهان
(2)
، المتوفى سنة 518 هـ، فأضاف إلى وجهي القول في المسألة وجهًا ثالثًا وهو: أن الحكم يثبت في محله بالعلة والنص جميعًا فقال: «ثبوته [أي الحكم] بالنصّ لا يمنع من إضافته إلى العلة فنحن نجمع بينهما فنقول: الحكم ثابت بينهما جميعًا، ويجوز إضافة الحكم إلى دليلين بالاتفاق»
(3)
، وكأنه في هذا القول أعرض أو غفل عما قرره شيخه الغزالي، ومع ذلك فهو لم يأت بشيء، وذلك لأن إضافة الحكم إلى النص تختلف عن إضافته إلى العلة؛ إذ هي في الحالة الأولى: إضافة تعريف ودلالة وفي الحالة الثانية: إضافة بعث وإنشاء كما سبق تقريره، والجمع بين الإضافتين على النحو الذي قاله ابن برهان زيادة خبط في المسألة؛ لأنه جمع بين مختلفين في الذات والحقيقة، وهذا ينافي الدقة ويجلب الغموض ويزيد الإيهام.
(1)
الغزالي، شفاء الغليل، ص 537 - 539 مع حذف ما لا حاجة إليه.
(2)
هو أحمد بن علي بن محمد الوكيل الشافعي البغدادي، درس في النظامية ودرّس فيها وكان يضرب به المثل في حدة الذكاء، له «الوجيز» ، و «الأوسط» و «الوصول إلى الأصول» في أصول الفقه. انظر: د. عبد الحميد أبو زنيد، مقدمة الوصول إلى الأصول، ط 1، مكتبة المعارف، الرياض، ص 9 وما بعدها.
(3)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 104، 105.
وتابع ابنَ برهان على ذلك أبو المظفر بن السمعاني
(1)
، المتوفى سنة 562 هـ، فقرر - كابن برهان - أن الحكم في محله ثابت بالنص والعلة جميعًا
(2)
.
وبعد ذلك جاء فخر الدين الرازي، المتوفى سنة 606 هـ ليعيد المسألة إلى حقيقتها من جديد، وليقرر ما قرره الغزالي من قبل: أن الخلاف في ثبوت الحكم في محله هل هو بالنص أو العلة: لفظي انبنى على المأخذ في تعريف العلة فقال: «اختلفوا في أن الحكم في مورد النص ثابت بالنص، أو بعلة النص، فقالت الحنفية: لا يمكن ثبوته بالعلة، لأن الحكم معلوم والعلة مظنونة، والمظنون لا يكون طريقًا إلى المعلوم، وأصحابنا جوّزوه، والخلاف لفظي؛ لأنا نعني بالعلة هاهنا أمرًا مناسبًا يغلب على الظن أنّ الشرع أثبت الحكم لأجله، وذلك ممّا لا يمكن إنكاره»
(3)
.
ومن ثم جاء الآمدي، المتوفى سنة 631 هـ، وكذلك ابن الحاجب، المتوفى سنة 646 هـ، ليؤكدا ما قاله الرازي من لفظية الخلاف في المسألة
(4)
.
واستقر حال المسألة على هذا الوضع الذي قرره المحققون - الرازي والآمدي وابن الحاجب - إلى أن جاء ابن السبكي، المتوفى سنة 771 هـ، ليقرر - من جديد - أن الخلاف في ثبوت الحكم في محله هل هو بالعلة أو النص: خلاف معنوي لا لفظي قائلًا: «نحن معاشر الشافعية لا نفسّر العلة بالباعث
(1)
هو منصور بن محمد بن عبد الجبار المروزي الحنفي ثم الشافعي، مفسر من علماء الحديث من أهل مرو مولدًا ووفاةً كان مفتي خراسان له تفسير السمعاني والانتصار لأهل الحديث والقواطع في أصول الفقه والاصطلام في الرد على الدبوسي وهو جدّ السمعاني صاحب الأنساب.
(2)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 105.
(3)
الرازي، المحصول، ج 2، ص 407.
(4)
انظر: الآمدي، الإحكام، ج 3، ص 358 وقد سبق نقله آنفًا وابن الحاجب، منتهى الوصول، ص 178.
أبدًا وإنما نفسّرها بالمعرف، ونشدّد النكير على من يفسّرها بذلك؛ لأن الربّ تعالى لا يبعثه شيء على شيء، ومن عبّر عنها من الفقهاء بالباعث أراد أنها باعثة للمكلّف على الامتثال نبّه عليه أبي، رحمه اللَّه تعالى»
(1)
، وجعل من ثمرة الخلاف جواز التعليل بالعلة القاصرة وعدمه
(2)
، فقذف بذلك المسألة إلى ملتطم بحر الخلاف بعد أن استقرت على شاطئ الوفاق.
وهو في تقريره هذا لم يأت بما يستحق إعادة النظر في المسألة؛ إذ إن قوله: «نحن معاشر الشافعية
…
الخ» مخالفة للصواب وللواقع:
أما مخالفته للصواب؛ فلأن الفرار من تفسير العلة بالباعث إنما هو تأثر بمذهب الأشعري في الكلام حيث نفى تعليل أفعاله سبحانه وتعالى وهو: إما خطأ، وإما أنه قصد به نفي وجوب تشريع الأحكام وفق العلل عليه، سبحانه وتعالى، وقد سبق تقرير القول في هذا الشأن عند الحديث عن تعريف العلة.
وأما مخالفته للواقع؛ فلأن القول بأن الشافعية - هكذا بإطلاق - لا يفسّرون العلة بالباعث عار عن الدقة؛ إذ إن كتبهم تعج بتعريف العلة بالباعث والداعي ونحوها من العبارات
(3)
، ولذلك قال الأنصاري بعد نقله كلام ابن السبكي آنف الذكر:«ما ذكره مخالف لسائر كتب الشافعية فإنهم متفقون على العلة الباعثة فافهم»
(4)
.
(1)
انظر: تاج الدين السبكي، جمع الجوامع، دار الكتب العلمية، بيروت ج 2، ص 274، والأنصاري، فواتح الرحموت، ج 2، ص 293.
(2)
انظر: تاج الدين السبكي، جمع الجوامع، دار الكتب العلمية، بيروت ج 2، ص 274، والأنصاري، فواتح الرحموت، ج 2، ص 293.
(3)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 2، ص 346، والآمدي، الإحكام، ج 3، ص 289 والزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 113.
(4)
الأنصاري، فواتح الرحموت ج 2، ص 293.
وما اعتذر به السبكي الوالد عمّن عرف العلة بالباعث من الشافعية بأنه قصد بذلك أن العلة باعثة للمكلف على الامتثال، فهو أبعد ما يكون عن الصواب؛ بدليل أن الغزالي، وهو أحد من أطلق لفظ «الباعث» على العلة، صرّح بأنها باعثة للشرع، حيث قال:«إنا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم»
(1)
وهذا صريح في أن فقهاء الشافعية لا يعنون بالبعث بعث المكلف على الامتثال - كما ادعاه السبكي - وإنما بعْث الشارع على الحكم؛ ولذا قال العطار
(2)
منتقدًا كلام السبكي آنف الذكر: «هذا أمر مخترع لوالد المصنف لا معنى له، لأن البعث للحاكم على شرع الحكم أي إظهار تعلقه بأفعال المكلفين»
(3)
.
وأما الثمرة الخلافية التي رتبها ابن السبكي على هذه المسألة - وهي مسألة جواز التعليل بالعلة القاصرة وعدمه - فمِمّا لا يُفرح به، وذلك لأنه قد سبق بيان أن الخلاف في صحة العلة القاصرة - كهو في هذه المسألة تمامًا - لفظي لا أكثر.
وبعد السبكي جاء الزركشي، المتوفى سنة 794 هـ، ليؤكد مرة أخرى أن الخلاف في هذه المسألة معنوي لا لفظي، ثم لينقل لنا عن الأبياري
(4)
شارح
(1)
الغزالي، المستصفى، ج 2، ص 346.
(2)
هو حسن بن محمد بن محمود، من علماء مصر وأصله من المغرب ومولده ووفاته بالقاهرة، تولى مشيخة مصر سنة 1246 هـ، إلى أن توفي سنة 1250 هـ، له حواشٍ في العربية والمنطق والأصول أكثرها مطبوع، انظر: الزركلي، الأعلام، ج 2، ص 220.
(3)
العطار، حاشيته على جمع الجوامع، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 2، ص 275.
(4)
هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الصنهاجي التلكاني المالكي، عرف بالأبياري، له شرح على البرهان اسمه «التحقيق والبيان في شرح البرهان» لم يطبع توفي سنة 616 هـ، انظر: ابن فرحون، الديباج المذهب في تراجم أعيان المذهب، طبع القاهرة، 1351 هـ، ج 2، ص 121.
«البرهان» ثمرة جديدة ترتبت على الخلاف في هذه المسألة فقال: «والتحقيق أن الخلاف معنوي وله أصل وفرع: أما أصله فيرجع إلى تفسير العلة
…
وأما فرعه فالخلاف في جواز التعليل بالقاصرة
…
وذكر الأبياري في شرح البرهان من فوائد الخلاف: تحريم قليل النبيذ وكثيره كالخمر عندنا وعندهم [يعني الحنفية] لا يحرم إلا القدر المسكر بخلاف الخمر فإن حرمة الخمر ثابتة بالنص، وهو عام يشمل قليله بعلة الإسكار، وحرمة النبيذ والفرع ثابت بعلة الأصل وهي الإسكار فلا بد من وجودها فلا يحرم منه قدر لا يسكر»
(1)
هذا هو ما في النسخة المطبوعة من البحر المحيط والذي يظهر أن في الكلام سقطًا، لكنه مع ذلك واضح في الدلالة على المقصود، ويمكن توضيحه أكثر بما يلي:
الحنفية يحرمون الخمر - وهو المتخذ من العنب - قليله وكثيره أسكر أو لم يسكر؛ وذلك نظرًا لأن حرمة الخمر ثبتت بالنص، وهو عام يشمل القليل والكثير، أما الأنبذة الأخرى المتخذة من غير العنب فلا يحرمون منها إلا القدر المسكر، بينما يرون القليل الذي لا يسكر مباحًا، وذلك نظرًا لأن حرمة هذه الأنبذة ثبتت عندهم بالقياس على الخمر بعلة الإسكار، وما دامت العلة هي الإسكار فلا يحرم إلا قدْرٌ يُسكِر
(2)
.
وإذن فقد اختلف الحكم عند الحنفية ما بين الأصل، وهو الخمر، وما بين الفرع، وهو النبيذ، وذلك نتيجة لاختلاف وسيلة إثبات الحكم في كل من المحلين: الخمر والنبيذ، حيث إن ثبوته في الخمر كان بوَساطة النصّ بينما كان ثبوته في النبيذ بوَساطة العلة، والنص عام فيقتضي شمول حكم التحريم لقليل
(1)
الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 105.
(2)
انظر: ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 5، ص 305 والجصاص، أحكام القرآن، ج 4، ص 122. وهذا هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وخالفهم محمد فوافق الجمهور.
الخمر وكثيره، والعلة لا تقتضي شمول حكم التحريم لقليل النبيذ الذي لا يسكر، وذلك لأنها - وهي الإسكار - لا تتحقق فيه وإنما تقتضي فقط حرمة القدر المسكر نظرًا لتحققها فيه.
وعليه، فلو كان الحنفية يقولون بأن الحكم في الأصل - وهو الخمر - ثبت بالعلة لا بالنص كما هو شأن النبيذ لوجب أن يكون الحكم في الخمر والنبيذ كليهما واحدًا، وهو حرمة القدر المسكر فقط وحِلُّ القدر الذي لا يسكر، لكنهم لما قالوا بأن الحكم في الأصل يثبت بالنص وفي الفرع بالعلة فرقوا بين الأمرين؛ لأن مقتضى النص العموم، أما العلة فمقتضاها التخصيص بالمسكر فقط.
هذا - واللَّه أعلم - ما أراده الأبياري بذكره هذه الفائدة من فوائد الخلاف، وهي فائدة - كغيرها مما سبق ذكره - متوهمة وغير صحيحة، وذلك لوجهين:
الأول: هو أن الجمهور بما أنهم قالوا بأن الحكم يثبت في الأصل بالعلة لا بالنص بخلاف الحنفية فالواجب أن لا يحرم عندهم قليل الخمر الذي لا يسكر، وذلك لأن علة الإسكار - وهي ما ثبت بها حكم تحريم الخمر عندهم - غير متحققة فيه، وهذا ما لا تجدهم يذهبون إليه، فدل ذلك على أن مبنى الخلاف في هذه المسألة ليس هو ما ذُكر من الخلاف في ثبوت الحكم هل هو بالعلة أو النص كما هو مدّعى الأبياري، ويؤكد هذا أن هناك من الشافعية من يوافق الحنفية في أن الحكم يثبت في محله بالنص لا بالعلة
(1)
، ومع ذلك فهم يحرّمون قليل النبيذ وكثيره بخلاف الحنفية.
(1)
سبق قبل أوراق ذكر أن للشافعية وجهين في هذه المسألة.
والوجه الثاني: هو أنه من الخطأ استخلاص قاعدة من قواعد الأصول لمذهب من المذاهب من خلال فرع أو أكثر من فروع الفقه، إلا أن تبلغ هذه الفروع من الكثرة والسلامة من النقد، بحيث يغلب على الظن أن المجتهد يسير في هذه الفروع على نمط واحد وقاعدة مطردة، وهذا ما لا يوجد هاهنا، حيث إن هذا الفرع - وهو حكم قليل النبيذ - الذي خُرّج على الخلاف فيما يثبت به حكم الأصل هل هو العلة أم النص؟ فضلًا عن كونه واحدًا، فإنه لا يسلم من النقد بحيث يمكن حمل الخلاف فيه على محمل أو محامل أخر - سواء عند أبي حنيفة، رحمه الله، أو عند الجمهور - غير محمل الخلاف في أنه هل يثبت حكم الأصل بالنص أو العلة.
فأما عند أبي حنيفة فيمكن أن يقال: إن حرمة قليل الخمر وكثيرها ثبتت عنده لعلتين وهما: الإسكار والنجاسة - وأبو حنيفة ممن يقول بنجاسة الخمر
(1)
- فإن انتفت علة الإسكار في قليل الخمر فقد بقيت علة النجاسة، وهي تستقل بتحريم القليل كالكثير تمامًا، أما حرمة النبيذ فهي ثابتة، بعلة الإسكار فقط فيحرم الكثير دون القليل لخلوّ القليل من العلة المحرِّمة.
ويمكن أن يقال: إن هذا كله لم يكن دائرًا في ذهن أبي حنيفة عندما حكم في النبيذ، بل الذي دفعه إلى مثل هذا الحكم هو تعارض الأخبار والآثار في هذه المسألة، كما يُلحظ ذلك من خلال الاطلاع على ما استدل به الحنفية والجمهور، كلٌّ على صحة مذهبه من أخبار وآثار، فرأى أبو حنيفة أن الجمع بين هذه الآثار وبين آية تحريم
(1)
انظر: ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 1، ص 196 وعبد اللَّه الموصلي الحنفي، الاختيار لتعليل المختار، دار الأرقم، بيروت، ج 1، ص 45، 46.
الخمر لا يكون إلا على هذا النحو، لا سيما أن بعض الآثار التي يذكرها الحنفية توضح أن بعض الصحابة قد شرب من قليل النبيذ الذي لا يسكر
(1)
.
وأما عند الجمهور فيمكن أن يقال بأن مأخذهم في قولهم بحرمة قليل النبيذ يحتمل محلين:
الأول: - وهو الأغلب على الظن - النصوص مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"
(2)
وقوله "ما أسكر كثيره فقليله حرام"
(3)
، وغير ذلك من النصوص.
والثاني: وجود علة محرِّمة في القليل من النبيذ غير الإسكار، وهي أن قليله يدعو إلى كثيره أو لأن القليل الذي لا يسكر لا ينضبط بل يختلف باختلاف الأشخاص فحسم فيه الباب، وهذه العلل تستقل بالتحريم واللَّه أعلم.
فإذا تقرر ما سبق كله، فإنه لا يمكن الادعاء بأن الخلاف في حكم قليل النبيذ هو ثمرة من ثمار الخلاف في مسألة ثبوت الحكم في المحل هل هو بالعلة أو النص، لا سيما مع وجود ما ذُكر من احتمالات في محمل الخلاف في المسألة.
ومن ثَمَّ يعود الخلاف في ثبوت الحكم في المحل هل هو بالعلة أو النص إلى اللفظ فحسب كما قرره المحققون من أصوليي الشافعية كالغزالي والرازي
(1)
انظر: ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 5، ص 305 وما بعدها والجصاص، أحكام القرآن، ج 4، ص 122 وما بعدها.
(2)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (2003)
(3)
الترمذي، السنن، تحقيق أحمد شاكر، دار الفكر، بيروت 1408 هـ، ج 4، ص 258، وقال حسن غريب. وأبو داود، السنن، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، ج 3، ص 327.
والآمدي، ولا يُغبِّر على تقريرهم هذا ما أثاره السبكي والزركشي والأبياري من زوبعات مصطنعة سرعان ما انكشفت عن غير طائل.
ثانيًا: استعراض المسألة في كتب أصوليي الحنفية:
أقدم من وجدته يذكر هذه المسألة من الحنفية أبو الحسن الكرخي
(1)
، المتوفى سنة 340 هـ، وذلك أثناء حديثه عن العلة القاصرة فقال، رحمه الله:«الأصل أن النص يحتاج إلى التعليل بحكم غيره لا بحكم نفسه»
(2)
، وهذه هي مسألة العلة القاصرة، ثم قال موضحًا ذلك ومعللًا له:
«وذلك أن الحرمة في الأشياء الستة التي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: الحنطة بالحنطة .. الخ
(3)
ثابتة بعين النص لا بالمعنى وفي سائر المكيلات والموزونات بالمعنى وهو القدر مع الجنس»
(4)
، ثم جاء من بعده تلميذه أبو بكر الجصاص، المتوفى سنة 370 هـ، مؤكدًا ذلك بقوله:
«إن علة تحريم التفاضل في الأرز، أنه مكيل جنس، قياسًا على البر، وليس هذا الحكم موجَبا في البر بهذه العلة؛ لأن البر إنما وجب فيه هذا الحكم بالنص لا بهذا المعنى، إذ كان دخوله تحت النص مغنيًا عن تعليله لإيجاب حكمه،
(1)
هو أبو الحسن عبيد اللَّه بن الحسين بن دلال الكرخي، انتهت إليه رئاسة الحنفية بعد القاضي أبي حازم وأبي سعيد البردعي، يعد في طبقة عالية من أصحاب أبي حنيفة معدودًا من المجتهدين القادرين على حل المسائل التي لا نص فيها، له رسالة في الأصول وشرح الجامع الكبير والجامع الصغير و غيرها، أه، من مقدمة رسالته في الأصول.
(2)
أبو الحسن الكرخي، رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية، دار ابن زيدون، بيروت، ص 171.
(3)
وهو حديث ربا الفضل المشهور: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد" أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(4)
أبو الحسن الكرخي، رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية، ص 172.
وإنما اقتضبنا هذا الاعتلال للفرع الذي ليس بمنصوص عليه ألا ترى أنه لولا الفرع لكان ذكر هذا الاعتلال لغوًا»
(1)
.
والذي يظهر أن قضية ثبوت الحكم في المحل هل هو بالنص أو العلة ظلت - ومنذ نشوئها عند الحنفية - تُبحث كجزء من مسألة العلة القاصرة - كما هو واضح من صنيع الجصاص وشيخه الكرخي - إلى أن جاء أبو زيد الدبوسي، المتوفى سنة 430 هـ، فأفرد المسألة بالذكر واستدل لها وكان مما قال:«الحكم في محل النص يثبت بالنص وفيما عداه من الفروع بالعلة» واحتج لذلك قائلًا «الحكم في محل النص ليس يخلو إما أن يكون ثابتًا بالنص أو بالعلة أو بهما، لا يجوز أن يقال ثبت بالعلة لأن العلة مظنونة فيكون حكمها مظنونًا والنص مقطوع به فكيف نضيف الحكم إلى أمر مظنون ونقطعه عن أمر مقطوع به، ولا يجوز أن يقال: ثبت بهما، فإن كون الحكم ثابتًا بالنص يقتضي أن يكون مقطوعًا به، وكونه ثابتًا بالعلة يقتضي أن يكون مظنونًا مقطوعًا به في حالة واحدة بالإضافة إلى شخص واحد، فدل على أنه يثبت بالنص قطعًا»
(2)
.
ولم يرتض أبو الفتح ابن برهان كلام الدبوسي هذا فقال عقب إيراده: «وطريق الجواب عنه أن نقول: الحكم ثبت بطريق مقطوع به عندنا وهو النص، ولكن العلة هي التي دعت صاحب الشرع إلى الحكم بظنونه، فنحن نقطع على الحكم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ونظن أن العلة هي الداعية لصاحب الشرع إلى الحكم، فالظن يرجع إلى غير ما رجع إليه القطع، بل هما أمران
(1)
سميح أحمد خالد أسعد، تحقيق الجزء الثاني من الفصول في الأصول من أوله إلى نهاية باب القياس، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1403 هـ، ج 3، ص 895.
(2)
نقله عنه: ابن برهان، الوصول إلى الأصول، تحقيق د. عبد الحميد أبو زنيد، ط 1، مكتبة المعارف، الرياض، 1404 هـ، ج 2، ص 274 - 275.
مختلفان، وذلك أننا نظن أنها المثبتة للحكم عند اللَّه تعالى، فلا تناقض بينهما»
(1)
.
وبعد أبي زيد جاء البزدوي، المتوفى سنة 482 هـ، فتابعه على مقالته
(2)
، وكذلك فعل السرخسي، المتوفى سنة 490 هـ
(3)
.
وبعد هؤلاء برز توجه جديد لبعض الحنفية في هذه المسألة على يد علاء الدين السمرقندي الحنفي
(4)
، المتوفى سنة 539 هـ، وهو أحد من أخذ عن البزدوي، حيث رجح أن الحكم في محله يثبت بالعلة لا بالنص على النقيض مما قرره من سبق من الحنفية، والمثير في الأمر أن السمرقندي لم يذكر أن ثبوت الحكم في المحل بالعلة مذهبًا له فحسب، بل نسبه إلى مشايخ سمرقند كلهم وعلى رأسهم الإمام أبي منصور الماتُريدي، رحمه الله
(5)
.
فقال، رحمه الله: «من شرائط صحة القياس أن يكون الحكم في المنصوص عليه ثابتًا بالوصف الذي جُعل علة حتى يثبت مثل ذلك الحكم في غير المنصوص عليه لوجود مثل ذلك المعنى، أما متى لم يكن الحكم في الأصل ثابتًا بالعلة فكيف يثبت في الفرع بمثله وهذا على قول مشايخ سمرقند، وهو قول الإمام الأجل أبي منصور الماتريدي، رحمه الله، وهو قول الشافعي، رحمه الله.
(1)
ابن برهان، الوصول إلى الأصول، ج 2، ص 275.
(2)
انظر: البزدوي، أصول البزدوي، ج 3، ص 316.
(3)
السرخسي، أصول السرخسي، ج 2، ص 160.
(4)
هو محمد بن أحمد السمرقندي أبو منصور، فقيه حنفي من أهل سمرقند من كتبه المشهورة «تحفة الفقهاء» في فروع الحنفية، انظر: الزركلي، الأعلام، ج 5، ص 318.
(5)
هو محمد بن محمد بن محمود من أئمة علم الكلام نسبته إلى ما تريد محلة بسمرقند، من كتبه: التوحيد، ومآخذ الشرائع في أصول الفقه توفي سنة 333 هـ، انظر: الزركلي، الأعلام ج 7، ص 19.
وقال مشايخ العراق: هذا ليس بشرط، والحكم في النص لا يثبت بالعلة بل بعين النص، ولكن الوصف في الأصل جُعل علمًا على كونه علة للحكم في الفرع»
(1)
، وأفاض بعد ذلك في الاستدلال لقوله والرد على أقوال المخالفين
(2)
.
وبعد ذلك، وفي القرن الثامن الهجري، ظهر شرح عبد العزيز البخاري، المتوفى سنة 730 هـ، على أصول البزدوي فتعرض للمسألة ونصر قول مشايخ العراق بأن الحكم في المحل يثبت بالنص لا بالعلة
(3)
.
أما صدر الشريعة، المتوفى سنة 747 هـ، فقد ذكر في «متن التنقيح» أن الحكم في الأصل ثابت بالنص لكنه - على خلاف عادته في مثل هذه المواضع - لم يتعرض لتفصيل القول في ذلك في شرحه المسمى بالتوضيح
(4)
.
وفي القرن التاسع الهجري ظهر الإمام المحقق الكمال بن الهمام، المتوفى سنة 861 هـ، ليكون - واللَّه أعلم - أول من تنبه من الحنفية لحقيقة الخلاف في هذه المسألة وذلك أنه عائد إلى اللفظ لا إلى المعنى فقال:«والخلاف في كونه [أي حكم الأصل] ثابتًا بالعلة عند الشافعية وبالنص عند الحنفية لفظي، فمراد الشافعية [بثبوت الحكم بالعلة] أنها الباعثة عليه ومراد الحنفية [بثبوت الحكم بالنص] أنه المعرف [له]»
(5)
.
(1)
السمرقندي، الميزان، ص 636.
(2)
المرجع السابق، ص 636 - 640.
(3)
انظر: عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار، ج 3، ص 316.
(4)
صدر الشريعة، عبيد اللَّه بن مسعود، شرح التوضيح على التنقيح، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 2، ص 66.
(5)
ابن الهمام، التحرير، ج 3، ص 295.
وبعد ابن الهمام جاء صاحب مسلم الثبوت محب اللَّه بن عبد الشكور، المتوفى سنة 1119 هـ، فسار سير ابن الهمام وقرر كذلك بأن الخلاف في المسألة لفظي لا معنوي
(1)
.
وهكذا انتهت هذه المسألة عند الحنفية إلى الوفاق لا الخلاف، لكن انتهاءها إلى هذا الوضع كان متأخرًا بالقياس إلى الوقت الذي انتهت فيه عند المحققين من الشافعية.
(1)
محب اللَّه بن عبد الشكور، مسلم الثبوت، ومعه شرحه فواتح الرحموت، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 2، ص 293.
المبحث الثاني
التعريف بعملية «تأثير تعليل النص على دلالته»
وسيكون ذلك في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأثر الذي يلقيه تعليل النص على دلالته
المطلب الثاني: سبب وكيفية تأثير تعليل النص على دلالته
المطلب الثالث: مجال تأثير تعليل النص على دلالته
المطلب الأول
الأثر الذي يلقيه تعليل النص على دلالته
وهذا الأثر يتلخص - ببساطة - في إفضاء التعليل:
إما إلى تأكيد المعنى الظاهر للنص وتقويته.
وإما إلى توهينه وصرف النص من الدلالة عليه إلى الدلالة على المعنى المؤول.
هذا إذا كان للنص معنيان ظاهرٌ ومؤول، أما إذا لم يكن له ذلك بأن كان مجملًا - مشتركًا - فأثر التعليل هاهنا هو في الإفضاء إلى ترجيح أحد معنييه على الآخر.
وعليه فأثر التعليل على النص ثلاثة أنواع:
أحدها: تقوية المعنى الظاهر.
والثاني: تقوية المعنى المؤول.
والثالث: ترجيح أحد معاني المشترك.
وفيما يلي ثلاثة أمثلة لتوضيح هذه الأنواع:
المثال الأول: أثر التعليل في تقوية المعنى الظاهر:
قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ
…
} [الأحزاب: 53].
النهي الوارد في هذه الآية ظاهر في التحريم، لكنه - بمقتضى تردُّد صيغة النهي بين طلب الكف الجازم وغير الجازم - محتمل لأن يراد به الكراهة.
ولكن، لما ثبت تعليل النهي بكون الفعل المنهي عنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، تعين المعنى الظاهر من النص، وهو التحريم، وانتفى أو على الأقل ضَعُف جدًا المعنى المؤول من النص، وهو الكراهة، وذلك لأن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم محرم قطعًا قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]، والفعل إنما نهي عنه لأجل الإيذاء، فيحرم هذا الفعل بناء على ذلك قطعًا، فهذا هو مثال تقوية التعليل لظاهر النص حتى يزداد ظهورًا.
المثال الثاني: أثر التعليل في تقوية المعنى المؤول:
ذهب الإمام الشافعي، رحمه اللَّه تعالى، إلى كون لمس النساء ناقض للوضوء استنادًا إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
…
} [النساء: 43].
والعلة في كون لمسهن ناقض للوضوء - كما رآها الشافعي - هي كون النساء «مظنة للشهوة» .
ومقتضى هذه العلة أن لا يجب الوضوء من لمس النساء اللاتي لسن مظنة للشهوة كالمحارم وكالصغار اللاتي لا يشتهين عادة وهذا بالفعل ما ذهب إليه الإمام الشافعي، رحمه الله، في الراجح من قوليه، وهو بهذا يكون قد خصص عموم لفظ «النساء» الوارد في الآية بما استنبطه منها من علة
(1)
.
(1)
انظر: الشربيني، محمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، دار الفكر، بيروت، ج 1، ص 34، وسيشار له: الشربيني، مغني المحتاج.
وخالف الإمامان مالك وأحمد رحمهما اللَّه الإمامَ الشافعي في هذا الاجتهاد وذلك بأن رأيا - لأدلة وقفا عليها - أن العلة في كون لمس النساء ناقض للوضوء هي «ذات الشهوة» لا «مظنتها» ، وبالبناء على هذا التعليل قيّدا مطلق «اللمس» الوارد في الآية بالشهوة فلم يوجبا الوضوء إلا من لمس بشهوة
(1)
.
فالشافعي، رحمه الله، صرف العام عن عمومه بالتعليل فصار خاصًا، ومالك وأحمد رحمهما اللَّه صرفا المطلق عن إطلاقه بالتعليل فصار مقيدًا، والخاص والمقيد معنيان مؤولان لا يصار إليهما إلا بقرينة مقوية وهو ما حدث هاهنا بقرينة التعليل.
فهذا هو مثال تقوية التعليل لمؤول النص حتى يغلب على الظن فهمه منه.
المثال الثالث: أثر التعليل في ترجيح أحد معاني المشترك:
قال تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
واختلف العلماء في المراد بالقرء نظرًا للاشتراك في هذه اللفظة بين الطهر والحيض.
فذهب الشافعية إلى أن المراد بالقرء في هذه الآية هو الطهر ورجّحوا هذا المعنى بقرائن ذكروها
(2)
.
وذهب الحنفية إلى أن المراد به الحيض ورجحوا هذا المعنى بقرائن ذكروها، ومن بين هذه القرائن قرينة التعليل، وذلك لأن العلة الأساس
(1)
انظر: أحمد الصاوي، بلغة السالك لأقرب المسالك، دار الفكر، بيروت، ج 1، ص 51. وابن قدامة المقدسي، المغني على مختصر الخرقي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ، ج 1، ص 153، وسيشار له ابن قدامة، المغني.
(2)
انظر: الشربيني، مغني المحتاج، ج 3، ص 385.
في تشريع العدة إنما هي معرفة براءة الرحم من الحمل، ومعرفة براءة الرحم إنما تكون بالحيض لا بالطهر، فيكون على ذلك المراد بالقرء هو الحيض لا الطهر
(1)
.
قال ابن رشد وهو بصدد ذكر أدلة الحنفية على ما ذهبوا إليه «وأقوى ما تمسك به الفريق الثاني [يعني الحنفية ومن قال بقولهم] أن العدة إنما شرعت لبراءة الرحم، وبراءتها إنما تكون بالحيض لا بالأطهار، ولذلك كان عدة من ارتفع عنها الحيض بالأيام، فالحيض هو سبب العدة بالأقراء، فوجب أن تكون الأقراء هي الحيض»
(2)
.
فهذا هو مثال ترجيح التعليل لأحد ألفاظ المشترك.
المطلب الثاني
سبب وكيفية تأثير تعليل النص على دلالته
مما سلف ذكره في المطلب السابق أن للتعليل على النص - القابل للتأويل - أثرين:
1 -
إما تقوية ظاهر النص.
2 -
وإما توهين هذا الظاهر وبالتالي تقوية المعنى المؤول.
ومما يجدر قوله هاهنا: إن هذين الأثرين إنما ينتجان عن التمازج والتفاعل بين مقتضى العلة بطردها أو عكسها من جهة وبين مقتضى النص بظاهره ومؤوله من جهة أخرى.
(1)
انظر: ابن الهمام، كمال الدين السيواسي الحنفي، شرح فتح القدير، دار الفكر، بيروت، ج 4، ص 308 وسيشار له: ابن الهمام: شرح فتح القدير.
(2)
ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر، بيروت، ج 2، ص 68 وسيشار له: ابن رشد، بداية المجتهد.
فالأثر الأول - وهو تقوي ظاهر النص - ينتج عن توافق ظاهر النص مع مقتضى العلة سواء بطردها أو عكسها.
أو بعبارة أخرى ينتج عن تعارض مؤول النص مع مقتضى العلة - بطردها أو عكسها - فيزداد بهذا التعارض مؤول النص وهنًا على وهن، ليزداد - في الوقت نفسه - ظاهر النص قوة على قوة.
والأثر الثاني - وهو تقوي مؤول النص - ينتج عن توافق مؤول النص مع مقتضى العلة سواء بطردها أو عكسها.
أو بعبارة أخرى ينتج عن تعارض ظاهر النص مع مقتضى العلة - بطردها أو عكسها - فيَهِنُ بهذا التعارض ظاهر النص، ليتقوى - في الوقت نفسه - مؤول النص.
فالتوافق والتعارض بين مقتضى النص والعلة هما إذن سبب تأثير تعليل النص على دلالته.
وفهم كيفية هذا التأثير تكمن في فهم طبيعة المقتضيات التي تسبب هذا التأثير بتفاعلها مع بعضها البعض، وذلك: أنها ظنون، والظنون من شأنها أن تتوافق أو تتعارض فإذا توافق ظنان تولد من مجموعهما ظنٌ واحد قوي، وإذا تعارضا طغى الأقوى منهما على الأضعف.
فالحال على ذلك إذن: أن ظاهر النص قد يقتضي حكمًا ما في محل ما، والعلة - بطردها - قد تقتضي ذات الحكم في ذات المحل، فيتأكد في ذهن المجتهد قصد الشارع إلى المعنى الظاهر من النص، وقد تقتضي العلة - بعكسها - نفي هذا الحكم عن ذات المحل، ويوافقها على ذلك مقتضى المعنى المؤول للنص، فيترجح في ذهن المجتهد قصد الشارع إلى هذا المعنى من النص دون المعنى الظاهر.
ويمكن توضيح ذلك بالمثال التالي:
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وَضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"
(1)
.
هذا الحديث يشتمل على أمر بغسل اليد عند الاستيقاظ من النوم، ويشتمل كذلك على ذكر علة هذا الأمر، قال البيضاوي في قوله صلى الله عليه وسلم "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده":«فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة، لأن الشارع إذا ذكر حكمًا وعقّبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم كان لأجلها»
(2)
.
هذا وللعلماء اجتهادات في نص هذا الحديث الشريف نتجت عن التوافق والتعارض بين مقتضيات كل من النص والعلة.
ويمكن تصنيف هذه الاجتهادات بحسب طبيعة المقتضيات المسببة لها ضمن أربعة أنواع:
النوع الأول: الاجتهاد الذي نتج عن توافق مقتضى اطراد العلة مع مقتضى مؤول النص.
النوع الثاني: الاجتهاد الذي نتج عن توافق مقتضى اطراد العلة مع مقتضى ظاهر النص.
النوع الثالث: الاجتهاد الذي نتج عن توافق مقتضى انعكاس العلة مع مقتضى مؤول النص.
النوع الرابع: الاجتهاد الذي نتج عن توافق مقتضى انعكاس العلة مع مقتضى ظاهر النص.
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (162).
(2)
نقله عنه ابن حجر، فتح الباري، ج 1، ص 318. وليس هو في المنهاج.
النوع الأول: الاجتهاد الذي نتج عن توافق مقتضى اطراد العلة مع مقتضى مؤول النص:
ويمكن إجراؤه في موضعين كما يلي:
أولًا: ظاهر الأمر "فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه" يقتضي وجوب الغسل قبل الإدخال.
ومؤول هذا الأمر - بحكم دلالة صيغة الأمر - يقتضي ندب الغسل قبل الإدخال.
أما مقتضى اطراد العلة فهو كذلك يقتضي ندب الغسل لا وجوبه، وذلك لأن علة غسل اليدين قبل الإدخال - كما دلّ عليها النص - هي الشك في نجاستها، والشك - كما دلت عليه الأدلة - لا يرفع اليقين السابق، لذلك لم يقل العلماء بوجوب إزالة الشك إذا ما حصل، وإنما قالوا بندب ذلك احتياطًا
(1)
.
إذن فقد تعاضد مقتضى مؤول النص مع مقتضى اطراد العلة، ولذا ذهب الجمهور من العلماء إلى القول بندب غسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم خلافًا لظاهر النص، قال الحافظ، رحمه الله:«القرينة الصارفة للأمر عن الوجوب عند الجمهور: التعليل بأمر يقتضي الشك، لأن الشك لا يقتضي وجوبًا في هذا الحكم استصحابًا لأصل الطهارة»
(2)
.
(1)
انظر: جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ، ص 51.
(2)
ابن حجر، فتح الباري، ج 1، ص 317.
ثانيًا: ظاهر الشرط "إذا استيقظ أحدكم من نومه" يقتضي بمفهومه المخالف عدم استحباب غسل اليدين في غير «الاستيقاظ من النوم» من الحالات، ومقتضى اطراد العلة أن يعم حكم الاستحباب كافة المحال أو الحالات التي يتحقق فيها الشك بنجاسة اليد.
وعلى ذلك يدخل في حكم النص: الإفاقة من الإغماء، ومن السكر، ومن الجنون، وكذلك أي حال حصل فيها الشك بنجاسة اليد لأي سبب من الأسباب، قال النووي، رحمه الله:«مذهبنا ومذهب المحققين أن هذا الحكم ليس مخصوصًا بالقيام من النوم، بل المعتبر الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كُره له غمسها في الإناء»
(1)
.
النوع الثاني: الاجتهاد الذي نتج عن توافق مقتضى اطراد العلة مع مقتضى ظاهر النص:
وإجراؤه كالتالي:
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه" يعم بظاهره نوم الليل ونوم النهار، وقد رأى الإمام أحمد، رحمه الله، تخصيص هذا العموم بنوم الليل دون نوم النهار، وحجته على هذا التخصيص قرينة لفظية وردت في الحديث وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"أين باتت يده" حيث إن لفظ «بات» لا يستخدم لغة إلا في نوم الليل ولا يستخدم في نوم النهار، فدلّ هذا على أن المقصود في الحديث هو نوم الليل خاصة لا عموم النوم كما هو ظاهر اللفظ
(2)
، لكن جمهور العلماء
(1)
النووي: يحيى بن شرف، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط 1، دار المعرفة بيروت، 1414 هـ، ج 3، ص 171. وسيشار له: النووي: شرح صحيح مسلم.
(2)
انظر: ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 92. والشوكاني، نيل الأوطار، ج 1، ص 63.
خالفوا أحمد في هذا التخصيص، وإن دعمته القرينة اللفظية، مستندين في مخالفتهم هذه إلى مقتضى العلة، إذ لا فرق في حصول الشك بنجاسة اليد بين نوم الليل ونوم النهار
(1)
، وبناء على ذلك فقد تقوى عموم النص - وهو الظاهر منه - بمقتضى العلة فامتنع عن التخصيص.
النوع الثالث: الاجتهاد الذي نتج عن توافق مقتضى انعكاس العلة مع مقتضى مؤول النص:
وإجراؤه كالتالي:
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه" عام في كل من يقوم من النوم من المكلفين فهذا هو الظاهر من النص، وانعكاس العلة يعارض هذا الظاهر، إذ هو يقتضي عدم وجوب أو استحباب غسل اليدين لمن قام من نومه متأكدًا من طهارة يديه كمن وضعهما في قفازين مثلًا قبل أن ينام
(2)
، فيُخَصُّ عموم النص بمقتضى انعكاس العلة هذا، ويَخرُج عن حكم النص كل من لم تتحقق فيه علة الشك بنجاسة يده لأي سبب من الأسباب وإن صدق عليه أنه استيقظ من نومه، فهذا هو تخصيص - تأويل - النص بالتعليل.
النوع الرابع: الاجتهاد الذي نتج عن توافق مقتضى انعكاس العلة مع مقتضى ظاهر النص:
وإجراؤه كالتالي:
(1)
المراجع السابقة.
(2)
انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 1، ص 317.
ظاهر الحديث يقتضي إخراج النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم النص، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا استيقظ أحدكم" صريح في إضافة الحكم إلى المخاطَبين ولا يدخل فيه المخاطِب - وهو هو صلى الله عليه وسلم إلا بدليل.
والعلة بانعكاسها توافق الظاهر إذ هي تقتضي خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الحديث لأنه صلى الله عليه وسلم ليس هو ممن «لا يدري أين باتت يده» إذا نام؛ لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه
(1)
.
جملة القول في هذا المطلب
تعليل النص يعمل عمل «القرينة» المبيِّنة لمراد الشارع من النص، فإذا كان النص عامًا فإما أن تؤكد هذا العموم وإما أن تخصصه، وإذا كان مطلقًا فإما أن تؤكد هذا الإطلاق وإما أن تقيده، وإذا كان حقيقة فإما أن تؤكدها وإما أن تصرف النص عنها إلى المجاز، وإذا كان له مفهوم مخالف فإما أن تؤكد هذا المفهوم وإما أن تبطله.
وهكذا كل ظاهر للنص إما أن يؤكده التعليل وإما أن يصرف النص من الدلالة عليه إلى الدلالة على المعنى المؤول بغض النظر عن نوع التأويل ما دام احتماله قائمًا.
والفلسفة في امتلاك التعليل هذه القوة في التبيين: هي كون التعليل يحدث ظنًا دالًا على مراد الشارع من النص، فإذا اجتمع هذا الظن مع الظن الذي يحدثه ظاهر النص قواه، وإذا عارضه - وكان أقوى منه - صرفه إلى المعنى المؤول.
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (3569).
المطلب الثالث
مجال تأثير تعليل النص على دلالته
يمكن - بشيء من التجوز - تشبيه النص الشرعي القابل للتأويل برسالة أراد مرسلها منها الدلالة على أمر ما، لكنه - لغرض يريده - كتب ما أراد الدلالة عليه بحبر سرّي أو خفي، ثم كتب فوقه كلاما لا يقصد مدلوله بحبر عادي أو ظاهر.
فمقتضى المكتوب بالحبر الخفي هو مؤول النص، ومقتضى المكتوب بالحبر الظاهر هو ظاهر النص.
وموقع التعليل من هذا التشبيه هو تلك النار الهادئة التي إذا قربت إليها الرسالة برز مراد المرسل منها على التحقيق، وذلك أن التعليل يكشف عن المعنى المؤول للنص بعد أن كان خفيًّا ليبطل العمل بظاهر النص مع أنه كان واضحًا، كل ذلك سعيًا وراء تحقيق مراد الشارع من النص بالتحديد.
وعليه، فعمل التعليل في النص هو عمل توضيحيٌّ كشفيٌّ عن المراد منه، وليس هو تغييرًا أو نسخًا أو إبطالًا للنص، وذلك لأن النص لم يُلغَ بالتعليل بل بقي دالًا على معنى من معانيه يحتمله لغة، وهذا ليس هو شأن التعليل فقط، وإنما هو شأن القرائن كلها، ولم يقل أحد بأن صرف النص عن معناه الظاهر إلى المعنى المؤول لقرينة من القرائن هو تغيير أو إبطال أو نسخ له، وإنما هو تبيين لمراد الشارع منه.
نعم، هو إبطال لظاهر النص، لكن هذا شيء وإبطال النص بالكلية شيء آخر، والفرق بينهما كالفرق بين تقريب الرسالة إلى نار هادئة ليَظهر بذلك أن المراد بها هو ما دل عليه مكتوبُها الخفي دون ما دل عليه مكتوبها الظاهر وبين حرق هذه الرسالة بمكتوبيْها، الخفي والظاهر معًا.
فالحال الأولى هي حال المؤوِّل للنص بالتعليل أو بغيره من القرائن، والحال الثانية هي حال المبطِل للنص والناسخ له حتى لا تبقى له دلالة أصلًا لا ظاهرة ولا مؤولة.
فإذا تقرر هذا، وما سبق، فعلى ضوئه يمكن تحديد مجال تأثير تعليل النص على دلالته بأنه مهما كانت دلالة النص ظنية تقبل مزيدًا من التوضيح أمكن تأثير التعليل عليها وإلا، بأن كانت قطعية، فإنه لا يتطرق إليها تأثير التعليل بحال، وذلك لأن الدلالة القطعية قد بلغت الغاية في الوضوح بحيث لا يمكن بشيء من الأشياء الزيادة من وضوحها في الدلالة على المراد منها، فإذا ما حصل وازدادت وضوحًا بقرينة من القرائن دلّ هذا على أنها لم تكن قطعية في دلالتها، لأن المقطوع لا يزيده الظن شيئًا، وإنما الذي يزداد بالظن المظنون فقط.
فمجال تأثير التعليل على النص - إذن - هو الدلالات الظنية أو المقتضى الظني له فحسب، أما الدلالات القطعية أو المقتضى القطعي لنص من النصوص فهو عن تأثير التعليل بمعزل.
المبحث الثالث
البعد الاجتهادي لمسألة «تأثير تعليل النص على دلالته»
وهو في مطلبين:
المطلب الأول: كيفية نظر المجتهد إلى النص الشرعي بناءً على القول بتأثير تعليل النص على دلالته
المطلب الثاني: الثمرة الأصولية المترتبة على القول بتأثير تعليل النص على دلالته
المطلب الأول
كيفية نظر المجتهد إلى النص الشرعي بناءً على القول بتأثير تعليل النص على دلالته
عندما ينظر المجتهد في النص الشرعي القابل للتأويل ليستنبط منه حكمًا من الأحكام، فإن نظره يدور بين ثلاثة أقطاب لهذا النص:
القطب الأول: المعنى الظاهر للنص، وهو الراجح الذي تقتضيه ألفاظ النص بوضعها اللغوي، كدلالة العام على العموم أو المطلق على الإطلاق أو الخاص على الحقيقة.
القطب الثاني: علة النص، سواء أكانت منصوصة أو اجتُهد في استنباطها.
القطب الثالث: المعنى المؤول للنص، وهو المرجوح الذي يحتمل أن تقتضيه ألفاظ النص بوضعها اللغوي كدلالة العام على الخاص أو المطلق على المقيد أو الخاص على المجاز.
فإذا نظر المجتهد نظر متفحص في هذه الأقطاب الثلاثة فإنه يتحصل على جملة من الظنون لا يتسنى له استنباط الحكم منها إلا بعد أن يجمع بين هذه الظنون ويوفق بينها بحيث يخرج بعد ذلك بظن غالب على حكم من الأحكام.
وهذه الظنون هي:
الظن الأول: ظن المعنى الظاهر، ومقتضى هذا الظن إجراء الحكم على وفقه، فإن كان عامًا عُمّم الحكم، وإن كان مطلقًا أُطلق وإن كان لفظًا حقيقيًا فهو المراد دون المجاز.
وهذا الظن من اسمه ظاهر، أي قوي، لذلك فهو أول ظن يقع اعتبار المجتهد له.
الظن الثاني: ظن العلة، ومقتضى هذا الظن أن يثبت الحكم في جميع المحال التي تتحقق فيها العلة، وأن ينتفي عن جميع المحال التي لا تتحقق فيها.
وهذا الظن في القوة على درجات، وهو ثاني ظن يقع اعتبار المجتهد له، فإن انسجم واتفق هذا الظن مع ظن المعنى الظاهر في الدلالة على حكم ما قضى المجتهد بهذا الحكم واكتفى بذلك وإلا اضطر إلى النظر إلى:
الظن الثالث: وهو ظن المعنى المؤول، ومقتضى هذا الظن إجراء الحكم على وفقه، فإذا كان خاصًا خُصّص الحكم وإن كان ظاهر النص العموم، وإذا كان مقيدًا قُيّد الحكم وإن كان ظاهر النص الإطلاق وإذا كان مجازًا فهو المراد دون المعنى الحقيقي.
وهذا الظن - من حيث الأصل - ضعيف ولذا فهو آخر ما يقع اعتبار المجتهد له.
هذه هي الظنون الثلاث التي تتحصل لدى المجتهد عند نظره في نص شرعي قابل للتأويل.
فأما ظن المعنى الظاهر، وظن المعنى المؤول فهما ظنان متعاكسان متضادان إذا قوي أحدهما ضعف الآخر وإذا ضعف أحدهما قوي الآخر.
وأما ظن العلة فله مع ظنّيِ المعنى الظاهر والمؤول حالات ثلاث:
الأولى: أن لا يؤثر على كل من الظنين، وذلك كإذا لم تعرف علة النص بأن لم يوقف عليها بمسلك صحيح وفي هذه الحالة يحكم المجتهد بما يقتضيه ظاهر النص لأنه هو الظن الأقوى.
الثانية: أن يزيد في قوة المعنى الظاهر بأن يتفق مقتضى العلة مع مقتضى ظاهر النص، وفي هذه الحالة أيضًا يحكم المجتهد - ولكن بمزيد من الثقة - بما يقتضيه ظاهر النص.
الثالثة: أن يزيد في قوة المعنى المؤول بأن يتفق مقتضى العلة مع مقتضى المعنى المؤول للنص، وهذا بالضرورة يقتضي تعارض مقتضى العلة مع مقتضى ظاهر النص، لأن المعنى المؤول والمعنى الظاهر متضادان فموافقة أحدهما تعني بالضرورة مضادة الآخر.
وهذه الحالة يتفرع عنها بحسب التقسيم المنطقي ثلاث حالات:
الأولى: أن يتقوى كل من ظن العلة وظن المعنى المؤول حتى يصيرا بمجموعهما أقوى من ظن المعنى الظاهر، وفي هذه الحالة يحكم المجتهد بمقتضى المعنى المؤول للنص.
الثانية: أن يتقوى كل من ظن العلة وظن المعنى المؤول ولكن بحيث يظل - في نظر المجتهد - ظن المعنى الظاهر أقوى من مجموعهما وفي هذه الحالة يحكم المجتهد بمقتضى المعنى الظاهر.
الثالثة: أن يتقوى كل من ظن العلة وظن المعنى المؤول بحيث يساويان ظن المعنى الظاهر وفي هذه الحالة: إما أن يُقال بالتوقف وطلب الدليل من خارج، وإما أن يُقال: نحكم بالظاهر لأنه هو المتبادر.
المطلب الثاني
الثمرة الأصولية المترتبة على القول بتأثير تعليل النص على دلالته
سبق القول بأن التعليل: إما أن يقوي المعنى الظاهر، وإما أن يقوي المعنى المؤول. فإذا كان النص مشتركًا فهو قد يرجح أحد معانيه على الآخر.
فإذا قوّى التعليل المعنى الظاهر للنص فلذلك فائدتان:
الأولى: عصمة الظاهر من التأويل لاسيما إذا أفضى التعليل إلى جعل الظاهر «نصا» أي قاطعًا في الدلالة على معناه.
الثانية: عند تعارض ظاهرين أحدهما تأيد بالتعليل والآخر لم يتأيد يقدم الذي تأيد بالتعليل على الآخر.
وقريب في الدلالة على هذا قول إمام الحرمين في كتاب الترجيحات من البرهان: «إذا تعارض ظاهران وفي أحدهما ما يقتضي التعليل في صيغة التعميم فهو مرجّح على العام الذي عارضه وليس فيه اقتضاء التعليل والسبب فيه أن التعليل في صيغة العموم من أقوى الدلالات على ظهور قصد التعميم حتى ذهب ذاهبون إلى أنه نص ممتنع تخصيصه، فإن قُدِّر نصًا فلا شك في تقديمه على الظاهر المعرض للتأويل»
(1)
.
وإذا قوى التعليل المعنى المؤول للنصّ أو رجَّح أحد معاني المشترك ففائدة ذلك عظيمة، وهي تكمن في الكشف عن مراد الشارع من النص وبالتالي تحديد الحكم الشرعي الملائم لإرادة الشارع هذه، وفي ذلك أمان من الخطأ في تقرير الأحكام الشرعية وأمان من الخطأ في اتباع ظاهر النص مع أنه ليس بمراد قال ابن برهان، رحمه الله، في شأن «التأويل» «هو أنفع كتب الأصول وأجلها»
(2)
.
(1)
إمام الحرمين، البرهان، ج 2، ص 777.
(2)
نقله عنه الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 436.
الفصل الثاني
«أثر تعليل النص على دلالته» في اجتهادات الصحابة رضوان اللَّه عليهم
وهو في مبحثين:
المبحث الأول: «أثر تعليل النص على دلالته» في اجتهادات الصحابة إبان العهد النبوي
المبحث الثاني: «أثر تعليل النص على دلالته» في اجتهادات الصحابة بعد العهد النبوي
المبحث الأول
«أثر تعليل النص على دلالته» في اجتهادات الصحابة إبّان العهد النبوي
تكتسب اجتهادات الصحابة إبان العهد النبوي مزية كبيرة على غيرها من الاجتهادات، وذلك لأنها فضلًا عن كونها اجتهادات صدرت عن خير القرون علمًا وورعًا وذكاءً فإنها لقيت إجازة الشرع لها متمثلة في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على فعلها من حيث مبدأ الاجتهاد في حضرته صلى الله عليه وسلم أولًا ومن حيث طريقة هذا الاجتهاد ونتيجته ثانيًا.
وبناءً على هذا يمكن القول بأن ما سيرد فيما يلي من الأمثلة على اجتهادات الصحابة المبنية على تأثير تعليل النص على دلالته - يُعدّ بحق أحدَ أعظم الأسس التي يستند إليها القول بتعليل الأحكام بشكل عام، وبتأثير تعليل النص على دلالته بشكل خاص.
المثال الأول: حديث الصلاة في بني قريظة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلّي لم يُرد منا ذلك فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم"
(1)
.
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (4116).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال السهيلي
(1)
وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه»
(2)
.
(3)
.
حاصل اجتهاد الصحابة الذي صلوا في الطريق أنه تخصيص لعموم النص بالعلة، وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" نهي يعم جميع المخاطبين به في جميع الأحوال، سواء خِيف فوات وقت الصلاة أم لا، ولكن بعد أن وقف الصحابة على علة هذا النهي خصصوا بها هذا العموم فأخرجوا منه حالة ما إذا خشي فوات الوقت، فكأن النهي بعد فهم العلة صار كالتالي: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة إلا أن يخشى فوات الوقت.
(1)
السهيلي: عبد الرحمن بن عبد اللَّه الخثعمي الشافعي، عالم باللغة والسير ولد في مالقه وعمي وعمره 17 سنة، ونبغ فاتصل خبره بصاحب مراكش فطلبه وأقام عنده إلى أن توفي سنة 583 هـ، من أشهر مصنفاته «الروض الأنف» شرح سيرة ابن هشام، انظر: الزركلي الأعلام، ج 3، ص 313.
(2)
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 7، ص 473.
(3)
ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الجيل، بيروت، ج 1، ص 203، وسيشار إليه فيما يلي بـ ابن القيم: إعلام الموقعين.
ومن ثم أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا الاجتهاد فكان دليلًا على جواز أن يستنبط من النص معنى يخصصه كما قاله السهيلي رحمه الله.
لكن بقي هاهنا إشكال، وهو أن هذا الحديث وإن كان دالًا على مشروعية اتباع العلل والمعاني وإن خالفت ظاهر اللفظ، فإنه دال في الوقت نفسه على مشروعية اتباع الظاهر وإن عارضته العلة وقد سبق بيان أن المجتهد حين نظره إلى النص ينبغي أن لا يُغفل الظن الحاصل من العلة ويقتصر على الظاهر فحسب
(1)
لاسيما إذا كانت العلة واضحة وجلية كما هو الشأن في هذا الحديث.
فهل في هذا الحديث دليل على جواز اتباع الظاهر بإطلاق كما يفعله الظاهرية؟
والجواب على هذا الإشكال هو أنه قد سبق أيضًا بيان أن ظاهر النص وإن كان لا يتبع بإطلاق إلا إنه يتبع في حالات وهي:
1 -
إذا توافق مقتضاه مع مقتضى العلة.
2 -
إذا تعارض مقتضاه مع مقتضى العلة وكان مقتضاه أقوى من مقتضى العلة.
3 -
إذا تعارض مقتضاه مع مقتضى العلة وكان مقتضاه مساويًا لمقتضى العلة.
4 -
إذا خفيت علة النص ولم يمكن الوقوف عليها.
ويترك الظاهر بسبب التعليل في حالة واحدة فقط وهي: إذا تعارض مقتضاه مع مقتضى العلة وكان الظن الحاصل من العلة أقوى من الظن الحاصل من ظاهر اللفظ مع احتمال اللفظ للتأويل
(2)
.
(1)
انظر: الفصل الأول، المبحث الثالث، المطلب الأول.
(2)
انظر: الموضع السابق.
وبناءً على هذا التفصيل يمكن تخريج اجتهاد الصحابة الذين أخروا الصلاة - كما هو في الواقع - ليكون مندرجًا ضمن الحالات التي يتبع فيها الظاهر، وذلك بأن يقال:
إن الصحابة المؤخرين للصلاة إذ اتبعوا الظاهر فإنهم ظنوه مقصودًا للشارع، وتأيد ظنهم هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الطريق إلى بني قريظة وقدْرَ ما يستغرق قطعُها من الوقت ومستبعدٌ أن يغيب عن خاطره صلى الله عليه وسلم أنه سيفوتهم وقت العصر، فلو كان مقصوده أن يصلوا في الطريق لنبَّه على ذلك واستدرك قائلًا: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة إلا أن يخشى فوات الوقت، وعليه فالظن بأن الظاهر مقصود للشارع كان عند هؤلاء الصحابة أقوى من ظن العلة وبناءً على ذلك ساروا وراءه.
فسيرهم هذا وراء الظاهر لم يكن نتيجة إهمال للعلة مطلقًا كما يفعله الظاهرية، وإنما لأنهم رأوا أن العلة - وهي محل لاختلاف الرُّؤا - لم تبلغ من القوة بحيث تقضي على ظاهر اللفظ، هذا وجه في التخريج ووجه آخر لعله أصح:
أن الصحابة المؤخرين للصلاة إذ اتبعوا الظاهر فإنهم قد التفتوا إلى العلة فتأيد لديهم ظاهر اللفظ بموافقته لمقتضى العلة ووجه ذلك: أن النزول للوضوء في الطريق ومن ثم الصلاة يتطلب قدْرًا لا بأس به من الوقت، وهذا تأخير ينافي «الإسراع» الذي هو علة النص، وبهذا يكون مقتضى العلة من هذا الوجه يوجب تأخير الصلاة وعدم أدائها في الطريق كما يوجب ذلك ظاهر اللفظ.
وإذن، ونظرًا لالتفات هؤلاء الصحابة إلى العلة فليس في هذا الحديث دلالة على جواز إهمال العلة واتباع ظاهر اللفظ مطلقًا كما هو دأب الظاهرية.
فإن قيل: فإذا كان الصحابة المؤخرين للصلاة وكذا المقدمين لها قد التفتوا جميعًا إلى العلة فلماذا اختلفت نتيجة اجتهاديهما؟
فالجواب هو أن الفريقين جميعًا وإن التفتوا إلى العلة إلا أنهم لم يلتفتوا إليها بالقدر نفسه، بل كان التفات المؤخرين للصلاة إلى العلة أعمق وأقوى حيث إنهم أبوا أن يفوتوا «الإسراع» الذي هو علة النص ولو بأداء الصلاة، أما الآخرون فإنهم وإن التفتوا إلى العلة إلا أنهم اكتفوا تلبية لمقتضاها بسرعة النهوض والذهاب إلى بني قريظة من غير تشاغل بشيء ورأوا أن ذلك فقط هو مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، ولم تصل بهم نظرتهم إلى العلة إلى درجة أن يعتبروا الإسراع مطلوبًا أثناء الطريق إلى القدر الذي ينبغي أن تترك من أجله الصلاة على الرغم من أهميتها وضرورتها وهذا ظاهر في قولهم «بل نصلي لم يرد من ذلك» أي أراد منا الإسراع لكن لا إلى درجة ترك الصلاة، وبناء على ذلك صلوا في الطريق وإن كان ذلك مخالفًا لظاهر اللفظ.
هذا ولما كان في هذا الحديث حجة قوية على جواز اتباع مقتضى العلة وإن عارض مقتضى اللفظ فقد تلبَّك ابن حزم، رحمه الله، في الإجابة عنه وذكر في تزييف دلاله هذا الحديث على ذلك جوابًا ضعيفًا وهو:«أنه قد كان تقدم من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر في وقت العصر أنه مذ يزيد ظل الشيء على مثله إلى أن تصفر الشمس، وأنّ مؤخّرها إلى الصفرة بغير عذر يفعل فعل المنافقين، فاقترن على الصحابة في ذلك أمران واردان، واجب أن يُغلَّب أحدهما على الآخر ضرورة، فأخذت إحدى الطائفتين بالأمر المتقدم، وأخذت الأخرى بالأمر المتأخر»
(1)
.
(1)
علي بن أحمد بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ط 2، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1403 هـ، ج 3، ص 28 وسيشار له فيما يلي بـ ابن حزم: الإحكام.
وحاصل هذا الجواب أن اختلاف الصحابة في هذه الواقعة لم يكن بسبب اتباع العلة أو اتباع الظاهر وإنما بسبب تعارض الأوامر الشرعية: أحدها وهو المتقدم يوجب أن تؤدى صلاة العصر في وقتها، والآخر وهو المتأخر يوجب أن تؤدى الصلاة في بني قريظة بغض النظر عن وقت الأداء.
والخلاف الناشئ بسبب تعارض النصوص يجيزه ابن حزم ولا يُحرِّجُ فيه بخلاف الناشئ عن اتباع العلل
(1)
.
ولا يخفى تكلف هذا الجواب على ذي نظر، إذ على فرض تسليم التعارض بين الأوامر كما يدعيه ابن حزم رحمه الله، فإن المتعارضيْن عام متقدم وخاص متأخر: عام يأمر بالمحافظة على صلاة العصر بشكل عام وأدائها في وقتها، وخاص ينهى عن صلاة عصر معينة في يوم معين لأناس معينين، ومن المحال على الصحابة وهم أفقه هذه الأمة وأعلمها أن يقدِّموا العام المتقدم على الخاص المتأخر لاسيما وقد تعاضدت أقوال الأصوليين - حتى ابن حزم - على أن الخاص المتأخر يقضي على الخاص المتقدم
(2)
فكيف لا يقضي على العام الذي هو أضعف دلالة.
وما مَثَلُ من قدم العام المتقدم على الخاص المتأخر إلا كمثل سيد قال لغلامه: لا تُدْخل أحدًا عليَّ ثم جاءه بعد حين وقال له: إذا جاء زيد فأدخله، فجاء زيد فلم يسمح له الغلام بالدخول فلما وصل الأمر إلى السيد قال لغلامه: لِمَ لمْ تسمح له بالدخول وقد أمرتك بإدخاله فقال الغلام مجيبًا: إنه قد سبق منك أمر لي بعدم إدخال أحد وعلى هذا الأمر اعتمدت فقدمته على أمرك المتأخر فهل تستقيم عند ذوي العقول حجة هذا الغلام؟
(1)
انظر: المرجع السابق، ج 8، ص 146 - 149.
(2)
انظر: ابن حزم، الإحكام، ج 2، ص 22 و ج 4، ص 54 والآمدي: الإحكام، ج 3، ص 258.
والقول بأن اجتهاد الصحابة الذين صلوا في الطريق كان اعتمادًا على العام المتقدم ما هو إلا تشبيه لاجتهادهم هذا باجتهاد هذا الغلام.
وفي هذا من التسفيه والتجهيل لهم - رضوان اللَّه عليهم بأبسط قواعد الاجتهاد ـ بل التفكير المنطقي ـ ما فيه؟ فحاشاهم إياه.
نعم، لا يمكن إنكار أن الصحابة نظروا إلى العام المتقدم الآمر بأداء الصلاة على وقتها، لكنّ هذا لم يكن إلا بعد أن صرفوا النهي الخاص المتأخر عن ظاهره بالتعليل، وهذا هو المقصود من إيراد هذا الحديث، وذلك بين لائح - لو تأمّل ابن حزم - من قولهم في دفع النهي المتأخر «لم يرد منا ذلك» واللَّه أعلم.
المثال الثاني: حديث الفطر في السفر:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "سافرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا" قال أبو سعيد: "فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، فنزلنا منزلًا فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا" قال أبو سعيد: "فكانت عزمة فأفطروا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر"
(1)
.
وجه «تأثير تعليل النص على دلالته» في هذه الواقعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالفطر وذلك في قوله: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا" ولم يفهم الصحابة رضوان اللَّه عليهم من هذا الأمر أنه يدل على وجوب الفطر أو حتى ندبيته كما هو الظاهر من الأوامر في العادة بل
(1)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (2619).
فهموا أنه خرج مخرج الترخيص والتيسير، ولذا قال أبو سعيد رضي الله عنه "فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر" أي منا من جرى مع ظاهر الأمر فأفطر ومنا من نظر إلى علة الأمر فصام، وكل على صواب إن شاء اللَّه بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم لأنه كان بين ظهرانيهم ومستبعد أن لم يكن قد اطلع عليهم.
وفي المرة الثانية لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم مجالًا للاجتهاد فجزم الأمر بالفطر فكان ذلك - كما قال أبو سعيد - «عزمة» فأطاعوا.
المثال الثالث: حديث النهي عن الوصال في الصوم
(1)
:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تواصلوا" وفي رواية "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم قالوا: إنك تواصل: قال: إني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقين، فلم ينتهوا عن الوصال" قال: "فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين أو ليلتين ثم رأوا الهلال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكي لهم"
(2)
.
وجه «تأثير تعليل النص على دلالته» في هذه الواقعة هو أن مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا تواصلوا" هو أن يمتنعوا عن الوصال وجوبًا أو ندبًا تمشيًا مع ظاهر النهي وهذا ما لم يحدث، إذ إن الصحابة لم يلتفتوا إلى ظاهر هذا النهي حتى نظروا في علته فلما وجدوه خرج مخرج الرفق بهم والرحمة لهم، كما صرحت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها في روايتها للحديث
(1)
الوصال في الصوم: هو أن يصام اليوم واليومان والثلاثة فأكثر من غير فطر في ليل أو نهار. انظر: المعجم الوسيط، ج 2، ص 1079.
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (7299).
إذ قالت: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم"
(1)
، عارضوا يهذه العلة ظاهر النهي فحملوا النهي على وجه الترخيص وأخذوا هم بالعزيمة "فلم ينتهوا عن الوصال" كما قال أبو هريرة رضي الله عنه.
وهذا التخريج لفعل الصحابة متعين إذ لا يُظن بهم رضوان اللَّه عليهم عصيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم مع ما كانوا عليه من كمال الطاعة وسرعة الامتثال، ولو اقتضى ذلك زهوق أرواحهم ونفاد أموالهم.
قال الشاطبي رحمه الله: «واصل عليه الصلاة والسلام وواصل السلف مع علمهم بالنهي، تحقُّقا بأن مغزى النهي الرفق والرحمة، لا أن مقصود النهي عدم إيقاع الصوم ولا تقليله»
(2)
.
وقال أيضًا «قد واصل عليه الصلاة والسلام بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا، وفي هذا أمران إذا أخذنا بظاهر النهي:
أحدهما: أنه نهاهم فلم ينتهوا، فلو كان المقصود من النهي ظاهره لكانوا عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة وقابلوه بالعصيان صراحًا، وفي هذا القول ما فيه.
والآخر: أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه، ولو كان النهي على ظاهره لكان تناقضًا وحاشى لله من ذلك، وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة وإبقاء عليهم فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة اللَّه أراد عليه الصلاة والسلام أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله وهو دخول المشقة حتى يعلموا أن نهيه عليه الصلاة والسلام هو الرفق بهم والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء في مرضاة ربهم»
(3)
.
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1964).
(2)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 150.
(3)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 151.
هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن علماء السلف قد اختلفوا في حكم الوصال على قولين:
الأول: مشروعية الوصال واستحبابه لمن لم يشق عليه وحرمته على من شق عليه وعليه جماعة من الصحابة والتابعين إذ كان عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه يواصل خمسة عشر يومًا
(1)
.
(2)
.
والقول الثاني: عدم مشروعية الوصال والمنع منه إما كراهة وإما تحريمًا وحجة أصحاب هذا القول صريح النهي عن الوصال، فهؤلاء مشوا مع ظاهر النهي فقالوا بحرمة الوصال أو كراهته لكل أحد شق عليه ذلك أم لم يشق، وأصحاب القول الأول جمعوا بين النهي وعلته فحملوا النهي على من يشق عليه الوصال، أما من لم يشق عليه ذلك فأخرجوه عن عموم النهي بالعلة، فتحصل أن اجتهادهم إنما هو تخصيص لعموم النص بالعلة المستنبطة منه، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاجتهاد حين واصل بأصحابه أيّامًا بعد النهي ودلَّ هذا على صحة الوصال لأنه لو كان معصية لما واصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم، أما قول أبي هريرة رضي الله عنه «كالمنكي لهم» فهو يعني أنه أراد أن يريهم وجه نهيه عن الوصال وهو خشية دخول المشقة عليهم حتى يتبين لهم بالتجربة العملية أن من لا يقوى
(1)
انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 2، ص 241.
(2)
المرجع السابق.
على مثل هذا الوصال فأحرى به أن يأخذ بالرخصة فإن ذلك أفضل له كما سبق أن قرره الشاطبي رحمه الله.
المثال الرابع: حديث الأمر بالتحلل بعد صلح الحديبية:
عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه في قصة صلح الحديبية قال: "فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا قال: فواللَّه ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي اللَّه أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا .... الحديث"
(1)
.
ووجه تأثير «تعليل النص على دلالته» في هذه الواقعة أن الصحابة رضوان اللَّه عليهم لم يمتثلوا الأمر، فاحتمل ذلك سببين:
أحدهما: أن يكون عدم امتثالهم عصيانا ومعاندة حاشاهم من ذلك مع ما عرفوا به من سرعة الامتثال وحب النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته.
والثاني: أن يكون قد حصل لهم اجتهاد في مورد الأمر بحيث لم يحملوه على ظاهره وإنما حملوه على الترخيص والتيسير وأن العزيمة هي الاستمرار على الإحرام، وترجح لديهم هذا التعليل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث استمر على إحرامه ولم يتحلل.
وعلى ذلك فحالهم هاهنا كما هي عندما نهاهم عن الوصال حيث ترجح لديهم أن الوصال عزيمة بسبب وصال النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (2732).
قال الحافظ رحمه الله: «قوله «قالت أم سلمة يا نبي اللَّه أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم» يحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذًا بالرخصة في حقهم وأنه هو يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال وعَرف النبي صواب ما أشارت إليه ففعله فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبقَ بعد ذلك غاية تنتظر»
(1)
.
وفي إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا الاجتهاد إذ إنه لم يوبخهم عليه ولم يعاقبهم أو يعاتبهم ولم ينقل عنه شيء من ذلك دليل على صحة «تأثير تعليل النص على دلالته» وجواز ذلك واللَّه أعلم.
المثال الخامس: حديث إمامة أبي بكر وتأخره:
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأُقيم قال: نعم فصلى أبو بكر فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك - وفي رواية "فأشار إليه يأمره أن يصلي" - فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه فحمد اللَّه على ما أمره به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فصلى، فلما انصرف قال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما لي
(1)
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 5، ص 409.
رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من رابه شيءٌ في صلاته فليسبِّح، فإنه إذا سَبَّح التُفت إليه، وإنما التصفيق للنساء"
(1)
.
وجه «تأثير تعليل النص على دلالته» في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر بالثبوت في مكانه، فكان مقتضى ظاهر الأمر أن يبقى أبو بكر في مكانه من غير استئخار، لكن هذا ما لم يكن، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه نظر إلى علة أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالثبوت فوجد أن الأمر لم يخرج مخرج الإلزام كما هو الظاهر من الأمر في المعتاد، وإنما خرج مخرج الإكرام فلما كان كذلك رأى رضي الله عنه أن سلوك الأدب في مثل هذه الحال أولى من امتثال الأمر فاستأخر مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالثبوت.
والتكييف الأصولي لاجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في هذه الواقعة يشتمل على نظرين ترتب أحدهما على الآخر:
الأول: النظر في علة الأمر، وهذا أدى بأبي بكر رضي الله عنه إلى صرفه من الوجوب أو الندب إلى الإباحة.
والثاني: النظر في هذا المباح هل هناك ما هو أولى منه؟ فكم من مباح لا يفعله المرء لانشغاله بما هو أولى منه، وهاهنا كان سلوك الأدب بالاستئخار أولى من فعل المباح الذي هو الثبوت في المكان، وعلى أية حال، فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على هذا الاجتهاد دليل على صحة تأثير تعليل النص على دلالته وجواز ذلك.
المثال السادس: حديث علي في رفضه محو الصحيفة:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "لما صالح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي بن أبي طالب رضوان اللَّه عليه بينهم كتابًا، فكتب: «محمد رسول
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (684).
اللَّه» فقال المشركون: لا تكتب «محمد رسول اللَّه» لو كنت رسولًا لم نقاتلك فقال لعلي: امحه. فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام. ولا يدخلوها إلا بجُلُبَّان السلاح فسألوه: ما جلبّان السلاح؟ فقال: القراب بما فيه"
(1)
.
ووجه «تأثير تعليل النص على دلالته» في هذه الواقعة أن عليًا رضي الله عنه بما احتف بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بمحو الاسم من قرائن لم يره خرج مخرج الإلزام، وإنما خرج مخرج المداراة والمسايسة وإظهار التساهل، لأن القائد قد يُظهر التساهل في الصلح لرغبة منه في تتميمه وهذا قد يؤدي به إلى التنازل عن بعض الحقوق، والذي ينبغي على الأفراد حينئذ إظهار الصلابة والشدة وعدم التساهل حتى لا يطمع طرف الصلح الآخر بأكثر مما نال، وهذا ما فعله عليّ رضي الله عنه في امتناعه عن محو اسم النبي صلى الله عليه وسلم مع أمره له بذلك، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يعنفه ولو كان إحجامه عن امتثال الأمر عصيانًا - حاشاه ذلك - لبيَّنه له النبي صلى الله عليه وسلم وأنكره لقوله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157].
قال السرخسي في أصوله مبينًا وجه امتناع علي رضي الله عنه عن امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّه أبى أن يمحو ذلك تعظيمًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو العزيمة، وقد علم أن رسول اللَّه ما قصد بما أمر إلا تتميم الصلح لما رأى فيه من الحظ للمسلمين بفراغ قلوبهم، ولو علم علي أن ذلك كان أمرًا بطريق الإلزام لمحاه من ساعته، ألا ترى أنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنك ستبعثني في أمر أفأكون فيه كالسِّكَّة
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (2698).
المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: "بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"
(1)
. فبهذا تبين أنه عرف بأن ذلك الأمر منه لم يكن إلزامًا ورأى إظهار الصلابة في الدين بمحضر من المشركين عزيمةً فتمسك به، ثم الرغبة في ا لصلح مندوبٌ إليه الإمام بشرط أن يكون فيه منفعة للمسلمين، وتمام هذه المنفعة في أن يُظهر المسلمون القوة والشدة في ذلك ليعلم العدو أنهم لا يرغبون في الصلح لضعفهم فلأجل هذا فعل علي رضي الله عنه عنه ما فعله»
(2)
.
والتكييف الدقيق لاجتهاد علي رضي الله عنه في هذه الواقعة يشتمل على نظرين، ترتب أحدهما على الآخر، كما هي الحال في اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في الحديث السابق وهما:
الأول: النظر إلى علة الأمر، وبهذا النظر تبين لعليّ رضي الله عنه أن الأمر لم يُرد به ظاهره من الإلزام.
الثاني: النظر فيما هو الأولى، هل هو الإتيان بمقتضى الأمر مع عدم لزومه أم شيء آخر؟
وهاهنا رأى رضي الله عنه أن الأفضل هو عدم التزام الأمر لوجهين:
أحدهما: لما في ذلك من سلوك الأدب مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه.
(1)
رواه أحمد في المسند من حديث علي رضي الله عنه، والقضاعي في مسند الشهاب عن أنس رضي الله عنه وقال العامريُّ في شرح الشهاب: صحيح، ولذا رمز السيوطي لصحته. ومعناه: أألتزم أمرك بأحرفه لا أحيد عنه أم أجتهد فيه لأنه عند التنفيذ يظهر لي ما لا يظهر لك لحضوري وغيبتك؟
انظر: محمد عبدالرؤوف المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، دار الفكر، بيروت، ج 4، ص 171. وأحمد بن حنبل، المسند، ج 1، ص 83، ومحمد بن سلامة القضاعي، مسند الشهاب، ط 1، مؤسسة الرسالة، 1405 هـ، ج 1، ص 85.
(2)
السرخسي أصول السرخسي، ج 2، ص 137.
والثاني: لما في ذلك من إظهار الصلابة والشدة في الدين أمام أعين المشركين.
واللَّه أعلم.
المثال السابع: حديث عمرو بن العاص في تيممه من الجنابة بحضور الماء:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت اللَّه يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا"
(1)
.
وجه «تأثير تعليل النص على دلالته» في هذه الواقعة: أن النص الذي جاء بمشروعية التيمم دلّ بظاهره على أن التيمم لا يشرع لواجد الماء إلا المريض، حيث قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
…
} [النساء: 43]، فالآية تنص صراحة على أنه يشترط في صحة التيمم عدم وجود الماء {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} .
وعليه، فإنّ التيمم عند وجدان الماء - بناء على ظاهر النص - باطل بالاستناد إلى أمرين:
أحدهما: المفهوم المخالف للقيد {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} بحيث يصير المعنى فإن وجدتم ماءً فلا تتيمّموا.
(1)
أبو داود، السنن، ج 1، ص 92، قال الحافظ في الفتح [1/ 541]: إسناده قوي.
والثاني: حكم النفي الأصلي، وهذا إذا لم يكن المفهوم المخالف حجة كما هو رأي جمع من الأصوليين
(1)
، لأن الأصل في العبادات أنها لا تشرع إلا بدليل والمنصوص عليه في الآية هو وجوب التيمم عند عدم وجدان الماء أما التيمم عند وجدان الماء فهذه حالة لا يتعرض لها النص - إذا أُلغي المفهوم المخالف - بالنفي أو الإثبات، فتبقى على حكم النفي الأصلي والذي يقضي بعدم إجزاء التيمم في هذه الحالة لأن العبادة لا تشرع إلا بدليل أو لأن الأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على خلاف ذلك.
فما الذي فعله عمرو؟ إنه خرج عن هذا الظاهر وألحق حالة الخوف من الهلاك عند استعمال الماء بحالة فقد الماء أو المرض بعلة ظاهرة وهي: أن التيمم إنما شرع دفعًا للحرج عند فقد الماء أو عند المرض والحرج موجودٌ أيضًا في حالة الخوف من الهلاك عند استعمال الماء فتُلحق هذه الحالة بما نُصَّ عليه من الحالات لاشتراك الجميع في العلة وهي وجود الحرج في كلٍّ.
فاجتهاده هذا تضمن تعميم الحكم لعموم علة النص، بحيث أصبح التيمم مشروعًا في كل حالة يلحق الحرج صاحبها إذا استعمل الماء سواء نُصّ على هذه الحالة في الآية أم لم يُنصّ.
وبهذا يكون عمرو قد أبطل المفهوم المخالف للقيد {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وكذا أبطل حكم النفي الأصلي - وهي أدلة ظاهرة لا قاطعة - بالتعليل.
وقد أقرّه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاجتهاد فكان حجة على صحة عود التعليل على حكم النص بالتعميم أو - بعبارة أخرى - حجة على مشروعية القياس وإن عارضه المفهوم المخالف للنص.
(1)
انظر: الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1992 م، ص 303.
فإن قيل: إذا كان مستند عمرو رضي الله عنه في اجتهاده هو ما ذُكر من نظره إلى علة مشروعية التيمم وهي دفع الحرج فما وجه استدلاله على ما صنع بالآية {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
فالجواب أن عمرًا رضي الله عنه استدل بالآية على عدم جواز إلقاء النفس بالتهلكة، وبالتالي على عدم جواز الوضوء بالماء البارد إذا كان مؤداه إلى الهلاك، أما وجوب التيمم في مثل هذه الحالة فإن الآية لا تدل عليه من قريب ولا بعيد، لأنها لا تقضي إلا بعدم لزوم استعمال الماء إذا كان استعماله مفضيًا إلى الهلاك، أما لزوم استعمال التراب في مثل هذه الحالة فمأخذه ما ذُكر من القياس على باقي الحالات التي شرع عندها التيمم كالمرض وفقد الماء للاشتراك في نفس العلة.
فكأن عمرًا استدلّ بالآية على أن الحرج الناشئ عن استعمال الماء واجب الرفع، ورفع الحرج فيما يشبه هذه الحالة كالمرض وغيره كان - نصًا - بالتيمم، فألحق حالته بما يشبهها من الحالات ودفع الحرج عن نفسه فتيمم.
المبحث الثاني
«أثر تعليل النص على دلالته» في اجتهادات الصحابة بعد العهد النبوي
بعد أن مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه سلك الصحابة رضوان اللَّه عليهم في اجتهاداتهم ذات المسلك الذي سلكوه إبان حياته صلى الله عليه وسلم ولكن بشيء من التوسع في التعليل والرأي والنظر في مآلات الأفعال.
وقد حظيت اجتهادات الصحابة هذه - سواءٌ الطريقة التي تمت بها أو النتيجة التي وصلت إليها -باعتناء كبير من قِبَل الفقهاء والأصوليين.
فأما الفقهاء فأكثرهم على أن قول الصحابي حجة فيما لا يخالف الكتاب والسنة
(1)
ونسب ابن القيم هذا الرأي إلى الأئمة الأربعة وأطال في الاستدلال له في كتابه إعلام الموقعين
(2)
.
وقال الشاطبي رحمه الله: «سنة الصحابة، رضي الله عنهم، سنة يعمل عليها ويرجع إليها»
(3)
(4)
.
(1)
انظر: ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 4، ص 118 - 156.
(2)
المرجع السابق.
(3)
الشاطبي، الموافقات، ج 4، ص 74 - 77.
(4)
المرجع السابق.
وأما الأصوليون فإنهم إنما بنوا غالب أبحاثهم الأصولية بالاستناد إلى طرائق الصحابة في الاجتهاد والإفتاء حتى قال ابن رشد
(1)
(2)
يعني الصحابة رضوان اللَّه عليهم.
(3)
.
وتصديقًا لما قاله ابن خلدون ومن قبله ابن رشد أورد نقولًا عن بعض الأصوليين تبين اعتمادهم على اجتهادات الصحابة في تثبيت قواعدهم الأصولية.
قال الإمام الشافعي، رحمه الله، وهو بصدد إثبات المصالح المرسلة «من سبر أحوال الصحابة، رضي الله عنهم، وهم القدوة والأسوة في النظر لم يرَ لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن»
(4)
.
(1)
وهو محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد، الفيلسوف المعروف، من أهل قرطبة، يلقب بابن رشد الحفيد تمييزًا له عن جدّه، له كتب كثيرة في الفلسفة ومن كتبه في الفقه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» وفي الأصول «الضروري» و «مناهج الأدلة» توفي سنة 595 هـ. انظر: الزركلي، الأعلام، ج 5، ص 318.
(2)
أبو الوليد بن رشد، الضروري في أصول الفقه، ط 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994 م، ص 36، وسيشار له: ابن رشد الضروري.
(3)
ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، ط 1، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1414 هـ، ج 2، ص 138.
(4)
نقله عنه إمام الحرمين، البرهان، ج 2، ص 723.
وقال أبو بكر الباقلاني وهو في صدد بحث الطرد والعكس
(1)
هل يدلان
على العلة؟:
(2)
.
وقال أبو الحسين البصري
(3)
: وهو بصدد إثبات تخصيص العموم بالقياس: «والدليل على تخصيص العموم بالقياس هو أن الصحابة رضي الله عنها اختلفت في الجد فبعضهم جعله أولى من الأخ والأخت بجميع المال وذهب في ذلك إلى قياس وخصَّ به قول اللَّه عز وجل {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]»
(4)
.
وقال الغزالي في السبيل التي يتم الكشف من خلالها عن عادة الشارع في إجراء الأحكام.
«نحن نستدل على وقوعها بما ينقل من أفعال الصحابة واتفاقاتهم حتى إذا رأينا جمعهم يتشاورون في الوقائع ويحكمون فيها برجم الظنون فيُعلم من فعلهم أنهم فهموا ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقرائن أحواله وتنبيهات أفعاله وأقواله المتكررة وبأنه رخّص لهم في الاجتهاد ورجم الظن، فيكون فعلهم
(1)
الطرد والعكس: وجود الحكم لوجود العلة وانتفاؤه لانتفائها وهو مسلك من مسالك إثبات العلة يسمى بالدوران: انظر: الرازي المحصول، ج 2، ص 347. والباجي، الحدود في الأصول، ص 74، 75.
(2)
المرجع السابق، ج 2، ص 548.
(3)
هو محمد بن علي بن الطيب البصري، شيخ المعتزلة، بصري، سكن بغداد وكان قوي العارضة في المجادلة والدفاع عن آراء المعتزلة له «المعتمد» و «تصفح الأدلة» و «غرر الأدلة» وغيرها توفي سنة 436 هـ. انظر: مقدمة كتابه المعتمد، ص ذ.
(4)
أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت، 1403 هـ، ج 2، ص 275 - 276 وسيشار له: أبو الحسين البصري، المعتمد.
صريحًا في الدلالة على التوقيف فيجري مجرى التوقيف المنقول إذ لا فرق بين أن يَنقُل إلينا الصحابة بألفاظهم توقيفه وبين أن يعرّفونا بأفعالهم»
(1)
.
فإذا تقرر ما سبق وبانت لنا المكانة التي تمتعت بها أقوال الصحابة واجتهاداتهم عند كل من الفقهاء والأصوليين فإنه يمكن القول بأن ما سيتم إيراده فيما يلي من أمثلة على اجتهادات الصحابة رضوان اللَّه عليهم تضمنت تأثيرًا لتعليل النص على دلالته يُعدُّ أساسًا آخر، غير الذي سبق، للقول بتأثير تعليل النص على دلالته.
المثال الأول: حكم إعطاء المؤلفة قلوبهم من الصدقات:
قضى اللَّه عز وجل في كتابه بإعطاء المؤلفة قلوبهم من الصدقات فقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، وعلى إعطائهم جرت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ومن ثم اشتهر عن عمر رضي الله عنه قطعُ هذا العطاء عنهم
(3)
. ووجه ذلك - كما يراه المحققون - أنه رأى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائمًا على علة، وهي دفع أذيتهم عن المسلمين والاستعانة بهم على غيرهم ونحو ذلك، فلما أغنى اللَّه عنهم حين قويت شوكة الإسلام واشتدّ ساعد المسلمين انتفت العلة الباعثة على إعطائهم فمنع هذا العطاء
(4)
.
(1)
الغزالي، أساس القياس، ص 58، 59.
(2)
انظر: أبو بكر الجصاص، أحكام القرآن. دار إحياء التراث العربي، ج 4، ص 325. وابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعارف، مصر، ج 14، ص 315، وجلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1403 هـ، ج 4، ص 223 - 224.
(3)
المراجع السابقة.
(4)
انظر: عبد العلي: فواتح الرحموت ج 2، ص 84، وابن الهمام، شرح فتح القدير ج 2، ص 260، وشلبي، تعليل الأحكام، ص 38.
قال أستاذنا الدريني، حفظه اللَّه، بهذا الصدد:
«إنّ الاجتهاد بالرأي في الاستدلال من الكتاب والسنة إنما يعني الدقة في فهم النص وفي طريقة تطبيق حكمه، أو في مسالك ذلك التطبيق على ضوء من الملائمة بين ظروف الواقعة المعروضة والتي يتناولها النص، والمقصد الذي يستشرفه النص نفسُه من تطبيقه، وليس أبين على ذلك مثالًا من اجتهاد عمر رضي الله عنه برأيه في «المؤلفة قلوبهم» فإنه بدقة ملحظه في فهم النص وأنه «معلل» أي معقول المعنى وللرأي في فهمه مجال، وأن العلة - وهي التأليف - مَظِنة للمصلحة العامة للدولة التي تقتضي هذا التأليف، أدرك أنها علة زمنية على خطر الوجود والعدم، والحكم يدور معها، فلم ينظر عمر - بثاقب فكره - إلى مجرد الحكم بل إلى غايته أيضًا، ولم يطبقه آليًا دون نظر واجتهاد، بل وازن - في ظل ظروف الدولة القائمة آنذاك - بين علة الحكم وما تنطوي عليه من مصلحة عامة نظريًا وبين ما يفضي إليه تطبيق النص في هذه الظروف عمليًا، فرأى أن المصلحة العامة لا تقتضي التأليف في ذلك الظرف فأوقف تطبيق الحكم لتخلف مقصده إذ لا عبرة بالوسائل إذا لم تحقق المقاصد»
(1)
.
فإن قيل: مسلّمٌ أن عمر رضي الله عنه رأى أن العلة في إعطاء المؤلفة قلوبهم لم تعد متحققة، ومن ثَم وبالبناء على ذلك منعهم، ولكن أين هذا مما جُلب المثال من أجله وهو صرف النصّ عن ظاهره بالتعليل؟ وأين هو ظاهر النص الذي أثرت عليه العلّة؟
(1)
د. فتحي الدريني: المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ط 2، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق، 1405 هـ، ص 210 بحذف يسير.
وهل اجتهاد عمر رضي الله عنه هذا إلاّ من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علّته كما قاله غير واحد من الأصوليين
(1)
؟
فالجواب: نعم هو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علّته، وهذا لا ينفي القول بأنه من قبيل صرف النص عن ظاهره بالتعليل أو - بعبارة أدق - من قبيل تخصيص عموم النص بالعلة المستفادة منه، إذ الأمران سِيان وإنما الخلاف في وُجهة التعبير.
وظاهر النص الذي أثّرت عليه العلة هو العموم المعنوي القاضي بأن النصوص الشرعية - ومنها آية مصارف الصدقات - عامة في الأزمان والأحوال والأماكن واجبة التطبيق في كل عصر وحال ومكان إلا ما دلّ الدليل على تخصيصه. قال الزركشي رحمه الله: «مما عُرف بالضرورة من دينه عليه السلام: أن كل حكم تعلّق بأهل زمانه فهو شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة»
(2)
.
فعمر رضي الله عنه بعد وقوفه على علّة النص خصص بها هذا العموم فرأى أن تطبيق الآية خاص بحال ضعف الأمة دون حال قوتها مع أن النص - بظاهره - خالٍ عن مثل هذا القيد، مقتض لتطبيق الحكم في كافة الظروف.
ويمكن، لمزيد من التوضيح، القول بأن اجتهاد عمر رضي الله عنه في هذه الواقعة يتحلَّل إلى خطوتين:
الأولى: استنباط علة حكم إعطاء المؤلفة قلوبهم من الصدقة.
الثانية: المواءمة بين مقتضى هذه العلة وبين مقتضى عموم النص في التطبيق مما أفضى به إلى تخصيصه وتقييده بحال دون أخرى وزمن دون آخر.
(1)
انظر: عبد العلي الأنصاري، فواتح الرحموت، ج 2، ص 84، وابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 260.
(2)
الزركشي البحر المحيط، ج 3، ص 184، وانظر: صلاح الدين العلائي الكيكلدي، تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم، ط 1، تحقيق ونشر د. عبد اللَّه آل الشيخ، 1403 هـ، ص 339.
وبناء على ذلك يمكن القول بأن د. البوطي نأى عن الصواب في تكييفه اجتهاد عمر رضي الله عنه في هذه الواقعة بأنه من قبيل: «تحقيق المناط» إذ قال: «ولقد كان اجتهاد عمر في هذا متعلّقًا بتحقيق المناط، فلقد رأى أن الإسلام وصل شأنه إلى القمة في القوة والمنعة، سواء من الناحية المعنوية المتعلقة بسطوع حجته وبرهانه، أو من الناحية المادية المتعلقة بكثرة أهله وانتشاره.
أفلا يزال مناط حق الوافدين جديدًا إلى الإسلام في الزكاة متحققًا بعد؟ وهو كما قلنا حاجة التودد إليهم كي لا يندّوا عن الإسلام بعد أن دخلوا فيه. ومعلوم أن الاجتهاد المتعلق بتحقيق مناط الحكم لا علاقة له بأمر النص وإنما هو استجلاء لحقائق الأشياء وإدراكها على ما هي عليه لتعلق حكم شرعي بها، كاستجلاء حقيقة البلوغ في الصبي وتعيين المثلي لضمان المتلَف ولذلك قال الشاطبي:«إن الاجتهاد في تحقيق المناط لا يفتقر إلى العلم بمقاصد التشريع كما أنه لا يفتقر إلى علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد العلم بالموضوع على ما هو عليه»
(1)
»
(2)
.
والحق أن اجتهاد عمر رضي الله عنه كما سبق بيانه - ليس هو من قبيل «تحقيق المناط» الذي هو عمل تنفيذيٌ آلي محض، فحسب، بل هو من قبيل تخريج المناط باستنباط العلة أولًا.
ومن ثم النظر في تحقيق هذا المناط المستنبط في واقع الحال ثانيًا.
وإلا كيف يمكن السماح لمن ليس عنده علم بمقاصد الشارع ولا باللغة بأن يقدم على مثل اجتهاد عمر هذا؟!.
(1)
الشاطبي، الموافقات، ج 4، ص 89 وما بعدها.
(2)
البوطي، ضوابط المصلحة، ص 130.
المثال الثاني: جعل الدية على أهل الديوان
(1)
:
قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدية على العاقلة، وهم عشيرة القاتل، وعلى ذلك جرى الأمر في عهد أبي بكر رضي الله عنه، حتى إذا جاء عهد عمر رضي الله عنه، ودون الدواوين، جعل الدية على أهل الديوان، قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:«أجمع أهل السير والعلم بالخبر أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل عمر الديوان»
(2)
، وهذا الفعل من عمر رضي الله عنه لم يكن نسخًا للحكم «بل هو تقرير معنى، لأن العقل كان على أهل النصرة، وقد كانت بأنواع: بالقرابة والحلف والولاء والعهد. وفي عهد عمر رضي الله عنه قد صارت بالديوان فجعلها على أهله اتباعًا للمعنى ولهذا قالوا: لوكان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة»
(3)
.
إذن فاجتهاد عمر رضي الله عنه في هذه الواقعة، كهو في «المؤلفة قلوبهم» ، تعليلٌ للنص القاضي بإيجاب الدية على العاقلة بأن وجوبها عليهم كان لأجل معنى التناصر فيما بينهم.
ومن ثم تخصيص للعموم التطبيقي لهذا النص القاضي باستغراق حكم وجوب الدية على العاقلة كافة الأزمنة والأمكنة والأحوال بذلك التعليل.
(1)
الديوان: الجريدة: من دوّن الكتب إذا جمعها لأنها قطع من القراطيس مجموعة ويروى أن عمر رضي الله عنه أول من دوّن الدواوين: أي رتب الجرائد للولاة والقضاة، ويقال: فلان من أهل الديوان: أي ممن أُثبت اسمه في الجريدة لاستحقاقه العطاء. انظر: البابرتي: أكمل الدين محمد بن محمود الحنفي، شرح العناية على الهداية، المطبوع بذيل شرح فتح القدير، دار الفكر، بيروت، ج 10، ص 395.
(2)
ابن عبد البر النمري، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار، ط 1، دار الوغى، حلب والقاهرة، 1414 هـ، ج 25، ص 221، وسيشار له: ابن عبد البر: الاستذكار.
(3)
المرغيناني: برهان الدين علي بن أبي بكر الحنفي، الهداية شرح البداية، وبذيله شرح فتح القدير، دار الفكر، بيروت، ج 10، ص 395 وسيشار له: المرغيناني، الهداية. أفاده شلبي، تعليل الأحكام، ص 42.
المثال الثالث: سكنى المطلقة ثلاثًا:
عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا فلم يجعلْ لي رسول صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة"
(1)
، وفي رواية:"قلت: يا رسول اللَّه زوجي طلقني ثلاثًا وأخاف أن يقتحم علي فأمرها فتحولت"
(2)
.
الآخذ بظاهر هذا الحديث يحكم - بلا بدّ - بأن المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة بعد الطلاق، وليس بضائر هذا الأخذ أن حديث فاطمة واقعة عين لأنهم أجمعوا على أن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على شخصٍ أو عين يأخذ حكم العموم شرعًا من حيث شموله كافة المكلفين في كافة الأزمان. قال القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله:«إذا حكم صلى الله عليه وسلم في حادثة بين نفسين كان واجبًا على كل أحد أن يُحكم عليه بمثل تلك الحادثة وهذا لا أعلم فيه خلافًا»
(3)
.
إذن، فالظاهر العموم إلا أن يرد دليل على التخصيص، وهو في هذه الواقعة لم يرد صراحة، إلا أن السيدة عائشة رضي الله عنها خصصت هذا العموم بالتعليل، إذ قد روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه قال لعائشة:"ألم تري إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة فخرجت. فقالت: بئسما صَنَعتْ. فقال: ألم تسمعي إلى قول فاطمة؟ فقالت: أما إنه لا خير لها في ذلك" وزاد بعضهم: "عابت عائشة ذلك أشدّ العيب، وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخِيفَ على ناحيتها فلذلك أرخص لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(4)
.
(1)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (3700).
(2)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (3702).
(3)
نقله عنه الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 190.
(4)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (5326).
إذن، فإرخاص النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بالخروج من بيت مطلِّقها كان لعلّة وقفت عليها السيدة عائشة فلم تحكم بعموم قضائه صلى الله عليه وسلم على فاطمة بأن لا سكنى لها ولا نفقة كما هو الظاهر بل رأت أن هذا القضاء خاص بفاطمة أو بمن هي في حالتها وليس هو عامًا في جميع المطلقات ثلاثًا.
وإلى هذا الرأي الذي ذهبت إليه عائشة ذهب الجمهور من الفقهاء
(1)
، وهو ظاهر صنيع البخاري إذ قال:«باب المطلقة إذا خُشي عليها في مسكن زوجها أن يُقتحم عليها أو تبذوَ على أهلها بفاحشة»
(2)
. أي فلا سكنى لها.
المثال الرابع: فسخ الحج إلى عمرة:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال: اجعلوا حجكم عمرة، قال: فقال الناس: يا رسول اللَّه قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: انظروا ما آمركم به فافعلوا، فردّوا عليه القول، فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه اللَّه؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أُتبع"
(3)
.
هذا الحديث هو واحدٌ من أحد عشر حديثًا صحيحًا رويت في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة
(4)
وذلك في حجة الوداع.
(1)
انظر: أبو الوليد بن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر، بيروت، ج 2، ص 71، وسيشار له: ابن رشد، بداية المجتهد.
(2)
البخاري، الصحيح، مع شرحه فتح الباري، ج 9، ص 391.
(3)
أحمد بن حنبل، المسند، ج 4، ص 286، ابن ماجة القزويني، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث، ج 2، ص 993.
(4)
انظر: ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 463.
والذي يقتضيه ظاهر هذا الأمر هو وجوب فسخ الحج على من أهلّ به مفردًا في كل عصر وأوان، وهذا ما ذهب إليه جمعٌ من أهل العلم
(1)
، ودافع عنه ابن القيم، رحمه الله، حتى قال:«ونحن نشهد اللَّه علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضًا علينا فسخه إلى عمرة تفاديًا من غضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واتباعًا لأمره»
(2)
.
لكنَّ الجمهور من السلف والخلف على عدم الوجوب بل على عدم جواز الفسخ، وجوابهم عن الأحاديث المروية في الفسخ أنها خاصة بالصحابة رضوان اللَّه عليهم
(3)
.
قال أبو ذر رضي الله عنه فيمن حج ثم فسخها بعمرة: "لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(4)
.
وقال عمر رضي الله عنه: "إن اللَّه يحلُّ لرسوله ما شاء فأتمّوا الحج والعمرة كما أمركم اللَّه"
(5)
.
ومن ثم تتابع الخلفاء والصحابة ومن بعدهم على عدم نقض الحج إلى عمرة فعن عروة عن عائشة قالت: "
…
حج أبو بكر رضي الله عنه فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم عثمان رضي الله عنه مثل ذلك، ثم معاوية وعبد اللَّه عمر. قال عروة ثم حججت مع أبي الزبير بن
(1)
المرجع السابق.
(2)
ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، ط 2، مؤسسة الرسالة، بيروت ومكتبة المنار الإسلامية، الكويت، 1401 هـ، ج 2، ص 182.
(3)
انظر: الشوكاني، نيل الأوطار، ج 5، ص 54.
(4)
أبو داود، السنن، ج 3، ص 161، وهو في صحيح سنن أبي داود للألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود، ناصر الدين الألباني، ط 1، المكتب الإسلامي، بيروت، 1409 هـ، ج 1، ص 340.
(5)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (2939).
العوّام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكن عمرة ثم آخر من رأيت يفعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة
…
"
(1)
.
فكيف جاز لهؤلاء كلهم أن يعرضوا عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ؟ وكيف جاز لهم أن يخصوه بالعصر الأول فحسب مع أن عموم النصوص لكل عصر وأوان مما علم من الدين بالضرورة كما قاله الزركشي رحمه الله
(2)
؟
الذي يظهر أنهم خصصوا هذا العموم بالتعليل، وذلك أنهم ربطوا الأمر بالفسخ بعلة كانت قائمة في العصر الأول ثم انتفت فانتفى معها الحكم، وهي أنهم كانوا في الجاهلية يرونه من أفجر الفجور أن يُعتمر في أشهر الحج فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ إبطالًا لما قام في نفوسهم من هذا الاعتقاد، ثم لمّا زال هذا الاعتقاد من النفوس عاد الحكم إلى أصله وهو وجوب الإتمام وعدم جواز الفسخ عملًا بقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ لأن الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمًا.
قال ابن الهمام رحمه الله: «سبب الأمر بالفسخ ما كان إلا تقريرًا لشرْع العمرة في أشهر الحج، ما لم يكن مانع سوق الهدي، وذلك أنه كان مستعظمًا عندهم حتى كانوا يعدونها في أشهر الحج من أفجر الفجور فكَسر سَوْرة ما استحكم في نفوسهم من الجاهلية من إنكارها بحملهم على فعله بأنفسهم، يدل على هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرّم صفرًا،
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1641).
(2)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 184، وقد سبق إيراد قوله أيضًا.
ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر
(1)
وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول اللَّه. أي الحلّ؟ قال: الحل كلّه"
(2)
»
(3)
.
فإذا كان ذلك كذلك كانت هذه الواقعة من أكبر المثل على تأثر ظاهر النص بعلته المستفادة منه واللَّه أعلم.
المثال الخامس: الغسل يوم الجمعة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"
(4)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل"
(5)
.
وقد أخذ بظاهر هذه الأحاديث جماعة من أهل العلم فأوجبوا الغسل يوم الجمعة
(6)
.
إلا أن ابن عباس رضي الله عنهما بما فقَّهههُ اللَّه في الدين وعلّمه التأويل - له رأي آخر بناه على التعليل، فقد رُوي عنه أنه "سئل عن غسل الجمعة أواجب هو؟
(1)
إذا برأ الدبر أي إذا شفي ظهر الإبل من الدَّبر وهو ما كان يؤثِّر فيها من الحمل عليها ومشقة السفر، فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج وعفا الأثر: أي اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها. انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 3، ص 498.
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1564) ومسلم، الصحيح حديث رقم (2999).
(3)
ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 464.
(4)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (879).
(5)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (877).
(6)
انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 2، ص 420.
فقال: لا ولكنّه أطهر لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس بواجب عليه، وسأخبركم عن بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون، وكان مسجدهم ضيقًا، فلما آذى بعضهم بعضًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا".
قال ابن عباس: "ثم جاء اللَّه بالخير ولبسوا غير الصوف وكُفوا العمل، ووُسّع المسجد"
(1)
.
فالملاحظ في اجتهاد ابن عباس هذا أنه نظر إلى علة الأمر بالغسل، فوجدها ما يترتب على تركه من أذى الناس بعضهم بعضًا، لما كان من ضيق المسجد ولبس الصوف والعمل قبل الصلاة، ومن ثَم انتفت هذه العلة؛ لما جاء اللَّه به من الخير ولم يعد الأذى متحققًا ولو ترك الغسل، لأن الناس لا يلبسون الصوف ولا يعملون قبل الصلاة والمسجد متسع، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم، فأفتى رضي الله عنه بناءً على ذلك بعدم وجوب الغسل.
وإذن فحاصل اجتهاد ابن عباس رضي الله عنهما: أنه تخصيص لعموم الأمر القاضي باستغراق الحكم كافة الأحوال بالتعليل، فمن احتمل أن يؤذي غيره برائحته أو غير ذلك وجب عليه الغسل ومن لا فلا. واللَّه أعلم.
المثال السادس: سفر المرأة بغير محرم:
روى البيهقي من طريق الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها حدثته "أنها كانت عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأُخبرت أن أبا سعيد الخدري يخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للمرأة أن تسافر ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم" فالتفتت عائشة وقالت: ما كلهن لها ذو محرم"
(2)
.
(1)
أبو داود، السنن، ج 1، ص 97، حديث رقم (353). وقال الحافظ في الفتح [2/ 422]: إسناده حسن.
(2)
البيهقي: أحمد بن حسين، معرفة السنن والآثار، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت 1991 م، ج 4، ص 243. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عمرة عن عائشة به وهذا إسناد صحيح.
والظاهر من أمر عائشة رضي الله عنها أنها اعترضت بقولها "ما كلهن لها ذو محرم" الأخذ بظاهر الحديث.
ولذا فقد روى البخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: "أذن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف"
(1)
.
وفي رواية عند غير البخاري "فكان عثمان يسير أمامهن وعبد الرحمن خلفهن"
(2)
، وفي رواية أخرى "وكان عثمان ينادي: ألا لا يدنو أحد منهن ولا ينظر إليهن، وهن في الهوادج على الإبل، فإذا نزلن أنزلهن بصدر من الشِّعب فلم يصعد إليهن أحد، ونزل عثمان وعبد الرحمن بذنب الشعب"
(3)
.
قال الحافظ بن حجر: «استُدل به على جواز حج المرأة بغير محرم»
(4)
.
والذي فعلته عائشة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أمرين:
أحدهما: أنهن عصين الأمر النبوي المحرِّم للسفر من غير محرم، وهذا فيه ما فيه حاشاهن من ذلك.
والثاني: أنهن تأولن الحديث كما تأوله غيرهن من العلماء بأن نظروا إلى علّة اصطحاب المحرم فإذا هي حصول الأمن، فرأوه كما يحصل بالمحرم يحصل بغيره، وعليه خصصوا عموم النهي القاضي باستغراق تحريم السفر كافة الأحوال بهذا التعليل فأخرجوا عن العموم حالة الأمن.
(1)
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 4، ص 88.
(2)
المرجع السابق.
(3)
المرجع السابق.
(4)
انظر: ابن عبد البر، الاستذكار، ج 13، ص 369.
وهذا هو مذهب الإمام مالك والشافعي والأوزاعي وغيرهم من فقهاء الأمصار
(1)
. قال ابن سيرين
(2)
حين سئل عن سفر المرأة بغير محرم: «رب من ليس بذي محرم خير من محرم»
(3)
.
ونظير ما وقع لعائشة رضي الله عنها وقع لابن عمر رضي الله عنه. إذ إنه وهو أحد رواة الحديث: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم"
(4)
، كان يردِفُ مولاة له يُقال لها «صفية» تسافر معه إلى مكة
(5)
.
وقال البيهقي رحمه الله: وروى بكير بن الأشج عن نافع: أنه كان يسافر مع ابن عمر مواليات ليس معهن ذو محرم
(6)
.
المثال السابع: كراهة القبلة للصائم:
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم. ثم ضحكت"
(7)
.
دلَّ هذا الحديث بظاهره على إباحة التقبيل للصائم أيًا كان وذلك لأن ما أُبيح له صلى الله عليه وسلم فهو مباح لأمته إلا أن يرد دليل على تخصيصه به صلى الله عليه وسلم.
(1)
المرجع السابق.
(2)
هو: محمد بن سيرين الأنصاري مولى أنس بن مالك روى عن ثلاثين من الصحابة قال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا عاليًا رفيعًا فقيهًا إمامًا كثير العلم وورعًا مات سنة 110 هـ. انظر: المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413 هـ، ج 25، ص 344.
(3)
ابن عبد البر، الاستذكار، ج 13، ص 369.
(4)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1086).
(5)
البيهقي، السنن الكبرى، ط 1، دار المعرفة، بيروت، ج 5، ص 226، وقد رواه بإسنادين جيدين.
(6)
البيهقي، معرفة السنن والآثار، ج 4، ص 253. وبكير بن الأشج ثقة كما في التقريب ص 128.
(7)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1928).
لكن، ومن ثَم قال الأسود بن يزيد:"قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا. قلت: أليس كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت إنه كان أملككم لإربه"
(1)
.
فمن الملاحظ هاهنا أن عائشة رضي الله عنها عارضت عموم ما روت عنه صلى الله عليه وسلم وأفتت بخلافه، وذلك بأن عللت عموم ما روت بعلة تقتضي تخصيص حكم المباشرة بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بمن هو مثله في الثقة بملك نفسه عن الانجرار - بواسطة التقبيل المهيّج للشهوة - إلى الجماع المفسد للصوم.
وهذا المعنى لحظه أيضًا ابن عباس، رضي الله عنهما، فقد سُئل عن القبلة للصائم "فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب"
(2)
.
لكن الفرق بين اجتهاد ابن عباس وبين اجتهاد عائشة رضي الله عنهما: أن عائشة خصصت عموم إباحة التقبيل بالعلة ذاتها فأباحت التقبيل لكل من وثق بعدم التورط في الجماع وكرهته لمن هو بخلاف ذلك - كما هو مقتضى قولها -.
أما ابن عباس فقد خصص عموم إباحة التقبيل لا بالعلة ذاتها وإنما بمظنتها فأباح القبلة للشيخ لأنه ليس بمظنة للانجراف وراء الشهوة لضعفها لديه وكرهها للشاب لأنه مظنة لذلك.
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1927)، والنسائي، السنن الكبرى، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 2، ص 210، واللفظ للنسائي.
(2)
مالك بن أنس، الموطأ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1406 هـ، ج 1، ص 293 وإسناده صحيح.
المثال الثامن: حديث الاحتكار:
عن يحيى بن سعيد قال: كان سعيد بن المسيب يحدِّث أن معمرًا قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من احتكر فهو خاطئ" فقيل لسعيد: فإنك تحتكر؟ قال سعيد: "إنّ معمرًا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر"
(1)
.
في هذا الحديث ذم الاحتكار عمومًا فكيف خالف معمر بن عبد اللَّه وسعيد رضي الله عنهما ما رويا؟
(2)
.
إذن، فحاصل اجتهاد معمر وسعيد أنه تخصيص لعموم النص بالتعليل وذلك أنهما رأيا أن العلة في النهي عن الاحتكار ليست هي مجرد صورته وإنما ما يترتب عليه من الضرر كغلاء السعر واحتياج الناس، فحيث تحققت العلة ثبت النهي وحيث لم تتحقق انتفى وإن كان في ذلك مخالفة لظاهر النص القاضي باستغراق النهي جميع صور الاحتكار في جميع الأحوال.
ويذكر عن سعيد بن المسيب، رحمه الله، أنه سئل عن وجه احتكاره فقال:«ليس هذا الذي قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالي بها فأما أن يأتي الشيء وقد اتضع فيشتريه ثم يضعه فإن احتاج إليه الناس أخرجه فذلك خير»
(3)
.
(1)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (4029).
(2)
النووي، شرح صحيح مسلم، ج 11، ص 45.
(3)
أبو إسحاق الشيرازي، المهذب، ومعه المجموع للنووي، ط 2، مكتبة الإرشاد، جدة، ج 12، ص 122. وقد أسنده البيهقي في سننه الصغير، ج 2، ص 282.
قال أستاذنا الدريني معلقًا على كلام ابن المسيب، رحمه الله:«فهذا - كما ترى - ادخار للتوسعة وهو رفق وإحسان لا استغلال فيه ولا إضرار، فلم يتحقق فيه مناط الاحتكار المحرم المنظور إليه من حيث أثره ومآله. وهو وإن اتفق مع الاحتكار صورة لكنه على النقيض منه أثرًا ومآلًا والعبرة بالمآل، لأن التصرفات محكومة شرعًا بنتائجها»
(1)
.
المثال التاسع: مسافة القصر:
جاء القرآن مرخِّصا بقصر الصلاة وبالفطر في الصيام للمسافر، فقال تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101].
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قصر الصلاة في السفر فقال: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم"
(2)
.
وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
ولم يأتِ - كما هو مُلاحظ - عن الشارع الحكيم تحديد للمسافة التي يجوز لقاصدها أن يقصر أو يفطر، وإنما جاءت الأدلة في ذلك مطلقة.
لكنَّ ابن عباس رضي الله عنه وغيره من السلف لم يعملوا بهذا الإطلاق فلم يجيزوا القصر والفطر في مطلق السفر كما هو ظاهر النص، وإنما حددوا ذلك بمسافات معينة.
(1)
محمد فتحي الدريني، بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1994 م، ج 1، ص 479 بتصرف.
(2)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (1571).
قال البخاري رحمه الله: كان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة بُرُد وهي ستة عشر فرسخًا
(1)
.
وعن عطاء قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما: أقصر الصلاة إلى عرفة؟ قال: لا، قلت: إلى منى؟ قال: لا، ولكن إلى جدّة وإلى عسفان وإلى الطائف، فإن قدمت على أهل لك أو ماشية فأتمّ الصلاة
(2)
.
وعلى هذا النهج جرى جمهور الفقهاء من بعد فلم يروا جواز القصر أو الفطر في مطلق السفر وإنما حدّدوا ذلك بمسافات معينة
(3)
.
والباحث عن مستند أصولي لهذا التحديد الوارد عن السلف يجده ظاهرًا في البناء على علة النصوص الواردة بمشروعية القصر والفطر، إذا أن رفع المشقة - وهي علة مشروعية القصر والفطر - لا تتحقق في مطلق السفر، وإنما في أسفار خاصّة يختلف تقديرها بحسب الزمان والمكان، فبتقييد مطلق النص بهذه العلة تم هذا التحديد، والخلاف الوارد عن السلف في هذا التحديد إنما نشأ - في رأيي - عن الاختلاف في «تحقيق مناط» المشقة. إذ قد يرى البعض أن مسافة ما تحتمل المشقة ويرى البعض الآخر بأنها لا تحتمل وهكذا
…
واللَّه أعلم.
المثال العاشر: حديث تحريم لحوم الحمر:
عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "أصابتنا مجاعةٌ يوم خيبر، فإن القدور لتغلي - قال: وبعضها نضجت - فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئًا
(1)
البخاري، الصحيح، ج 2، ص 659، والفرسخ مسافة تقارب خمسة كيلومترات. انظر: المعجم الوسيط، ج 2، ص 707 وص 930.
(2)
عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ط 1، من منشورات المجلس العلمي، ج 2، ص 524، وإسناده صحيح.
(3)
انظر: ابن رشد، بداية المجتهد، ج 1، ص 121.
وأهريقوها. قال ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس. وقال بعضهم: نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العذرة"
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا أدري أنهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرّم في يوم خيبر لحم الحمر الأهلية؟ "
(2)
.
واضحٌ من خلال هذين الأثرين النظرة التعليلية للأحكام التي كان يتمتع بها الصحابة رضوان اللَّه عليهم حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وتعليلاتهم هذه للنهي عن لحوم الحمر الأهلية تُعدّ بلا ريب من أسفر الأدلة على تأثر النص بما يستنبط منه من علة إذ إن مقتضى قول من علّل النهي عن الحمر بأنها لم تخمس إباحة لحوم الحمر إذا خُمِّست
(3)
، وهذا تخصيص لعموم النص بالتعليل، ومقتضى قول من علّل النهي عن الحمر بأنها كانت تأكل العذرة، إباحة لحوم الحمر التي لا تأكل العذرة، وهذا أيضًا تخصيص لعموم النص بالتعليل.
وكذا تعليل ابن عباس، وهو أن النهي عن الحمر كان من أجل أنها كانت حمولة الناس، فهو يقتضي إباحة لحوم الحمر إذا لم يُحتج إليها للحمل. وهذا أيضًا تخصيص لعموم النص بالتعليل.
وبغض النظر عن صحة هذه التعليلات أو ضعفها فإن دلالتها على المنهجية الاجتهادية القائمة على تعليل الأحكام عند الصحابة رضوان اللَّه عليهم تبقى ثابتة وواضحة.
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (4220).
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (4227).
(3)
أي: أخرج منها الخمس الذي هو حق اللَّه والرسول والفقراء من الغنائم.
هذا وقد أدرجت هذا المثال في هذا المبحث مع أنه كأمثلة المبحث السابق حدث إبّان العهد النبوي؛ لأنه لم يلق الإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم كتلك الأمثلة لأن الظاهر أنه لم يطلع عليه، فكان هذا المثال بذلك أشبه ما لو كان حصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
المثال الحادي عشر: النهي عن ادخار الأضاحي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "الضحيّة كنا نملح منه فنقدم به إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال: لا تأكلوا إلا ثلاثة أيام" قالت عائشة: "وليست بعزيمة، ولكن أراد أن نطعم منه واللَّه أعلم"
(1)
.
واضح من خلال هذا المثال أن عائشة رضي الله عنها صرفت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث من التحريم إلى الكراهة أو عدم الاستحباب بالتعليل.
المثال الثاني عشر: الإتمام في السفر:
روى الزهري عن عائشة قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت في السفر، وأُتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأوّلت ما تأوّل عثمان"
(2)
.
فما هو التأويل الذي تأوّلته عائشة رضي الله عنها بحيث خالفت به فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالقصر في السفر؟
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (5570).
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1090).
روى البيهقي عن عروة عن عائشة "أنها كانت تصلي في السفر أربعًا قال عروة: فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق عليّ"
(1)
.
إذن فقد رأت عائشة رضي الله عنها أن القصر شرع لعلة التيسير والترخيص ورفع المشقة، ومن ثم وبالبناء على هذه العلة رأت أن العزيمة في الإتمام وإن كان في ذلك صرف للفعل النبوي عن ظاهره القاضي بندب الاستنان به صلى الله عليه وسلم إلى غيره
(2)
.
المثال الثالث عشر: الطواف راكبًا:
عن أبي الطفيل قال: "قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبًا أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة قال: صدقوا وكذبوا. قلت: وما قولك صدقوا وكذبوا. قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثروا عليه ركب، والمشي والسعي أفضل"
(3)
.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعيره يستلم الركن كراهية أن يصرف عنه الناس"
(4)
.
(1)
البيهقي، السنن الكبرى، ح 3، ص 143 وقال الحافظ في الفتح [2/ 665]: إسناده صحيح.
(2)
قد سبق القول في المبحث الأول من الفصل الأول فيما تدل عليه الأفعال النبوية من الأحكام والذي اخترته هاهنا هو الندب.
(3)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (3044).
(4)
مسلم، الصحيح حديث رقم (3065).
وعن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: "طاف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه"
(1)
.
وهذه التعليلات الجلية للصحابة رضوان اللَّه عليهم لفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ طاف راكبًا أدت إلى صرفه عن دلالته الظاهرة والقاضية بندب الاستنان بأفعاله صلى الله عليه وسلم لا سيّما في التعبدات إلى غير ذلك من الإباحة أو خلاف الأولى.
المثال الرابع عشر: النزول بالمحصَّب (الأبطح)
(2)
:
عن الزهري عن سالم: "أن أبا بكر وعمر كانوا ينزلون بالأبطح"، وقال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة أنها لم تكن تفعل ذلك. وقالت: "إنما نزله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأنه كان منزلًا أسمح لخروجه
(3)
")
(4)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "ليس التحصيب بشيء إنما هو منزل نزله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(5)
.
هذا المثال كالذي قبله، والذي فيه أن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما لم يريا فعله صلى الله عليه وسلم إذ نزل بالمحصب حين صدر عن الحج فعلًا تعبديًا أو سنة
(1)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (3063).
(2)
الأبطح: أي البطحاء التي بين مكة ومنى وهي ما انبطح من الوادي واتسع وهي التي يقال لها: المحصّب والمعرس. انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 3، ص 691.
(3)
أسمح لخروجه: أي أسهل لتوجهه إلى المدينة ليستوي في ذلك البطيء والمعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. انظر: ابن حجر، فتح الباري ج 3، ص 691.
(4)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (3158).
(5)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1766).
تقتفى كما هي رؤية غيرهم من الصحابة. والذي أوقفهم على هذا الاجتهاد ملاحظة علة الفعل وأنه كان لغاية خاصة ليست تعبدية.
وعليه فحاصل اجتهادهم في هذه الواقعة صرفٌ للفعل النبوي عن ظاهره من الندب إلى غيره من الإباحة بالتعليل.
ومثل هذا الاجتهاد اجتهاد عطاء بن أبي رباح
(1)
، رحمه الله، في فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصل مكة ليلًا فبات بذات طوى حتى أصبح ثم دخلها نهارًا
(2)
.
فقال عطاء دفعًا لما أفتى به بعضهم من أن دخول مكة نهارًا سنة: "إن شئتم فادخلوا ليلًا، إنكم لستم كرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنه كان إمامًا فأحب أن يدخلها نهارًا ليراه الناس"
(3)
.
(1)
هو عطاء بن أسلم القرشي الفهدي، ولد في خلافة عثمان فأدرك مائتين من الصحابة فأخذ العلم عنهم حتى انتهت إليه فتوى أهل مكة قال ابن سعيد: سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس أشل أعرج ثم عمي بعد ذلك، وكان ثقة عالمًا فقيهًا كثير الحديث توفي سنة 114 هـ، انظر: المزي، تهذيب الكمال، ج 2، ص 69.
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1769).
(3)
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 3، ص 510.
الفصل الثالث
«تأثير تعليل النّص على دلالته» عند الأصوليين
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث:
التمهيد: في مواضع بحث «تأثير تعليل النّص على دلالته» في كتب الأصول
المبحث الأول: عرض أقوال الأصوليين في «تأثير تعليل النّص على دلالته»
المبحث الثاني: عرض أدلة الأصوليين في «تأثير تعليل النّص على دلالته» ومناقشتها
المبحث الثالث: مسائل فقهية - في كتب الأصول - تضمنت تأثيرًا لتعليل النّص على دلالته
تمهيد
في مواضع بحث «تأثير تعليل النّص على دلالته» في كتب الأصول
تتعدد مواضع بحث مسألة تأثير تعليل النّص على دلالته عند الأصوليين تبعًا لتعدد تعلّقات هذه المسألة، إذ إنها من جانب تتعلق بالعلّة وشروطها، ومن جانب آخر تتعلق بالنّص وتأويله، ومن جانب ثالث بالقياس وشروطه.
ولهذا نجد أن الزركشي - وهو من أكثر الأصوليين استقصاءً في هذه المسألة - تعرض لهذه المسألة في ثلاثة مواضع من كتابه: البحر المحيط:
أحدها: عند الحديث عن شروط العلّة
(1)
.
والثاني: في ختام بحث الظاهر وتأويله
(2)
.
والثالث: بعد بحث مسألة تخصيص العموم بالقياس
(3)
.
ولا يخرج أصوليو الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة عن هذه المواضع
(4)
، اللَّهم إلا أن الغزالي، رحمه الله، بحث هذه المسألة - بتوسع - عند حديثه عن مسالك العلّة، وذلك في كتابه شفاء الغليل
(5)
، أما في كتابيه المنخول
(6)
والمستصفى
(7)
، فقد وافق غيره في مواضع بحث هذه المسألة،
(1)
الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 152.
(2)
المرجع السابق، ج 3، ص 447، 448، 449.
(3)
المرجع السابق، ج 3، ص 377.
(4)
انظر: إمام الحرمين، البرهان، ج 1، ص 359. والآمدي، الإحكام، ج 3، ص 79، ص 354. وابن النجار: أحمد الفتوحي الحنبلي، شرح الكوكب المنير، طبع مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى، 1408 هـ، ج 3، ص 465.
(5)
انظر: الغزالي، شفاء الغليل، ص 61 - 91.
(6)
انظر: الغزالي، المنخول، ص 192.
(7)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 394، ج 2، ص 326.
وكذلك فإن الشاطبي وابن القيم، رحمهما اللَّه، كونَهما لم يسلكا في ترتيب كتابيهما الموافقات وإعلام الموقعين المنهج التقليدي للتأليف الأصولي - فقد تعرض الشاطبي لـ «تأثير تعليل النّص على دلالته» في فصل الأوامر والنواهي من كتاب الأدلة من الموافقات
(1)
، أما ابن القيم فقد تعرّض لهذه المسألة في ثنايا إثباته للقياس
(2)
.
وفي الوقت الذي تعددت فيه مواضع بحث هذه المسألة عند أصوليي الجمهور فقد اتفق الحنفية على بحث هذه المسألة في موضع واحد، وذلك عند الحديث عن شروط القياس
(3)
.
إلا أن متأخري الحنفية الذين جمعوا في تأليفهم الأصولي بين طريقتي المتكلمين والحنفية تعددت عندهم مواضع بحث هذه المسألة، فبحثها ابن الهمام في ختام بحث الظاهر وتأويله
(4)
، وفي بحث شروط القياس
(5)
، وفي بحث شروط العلّة
(6)
، وكذلك فعل ابن عبد الشكور في كتابه مسلّم الثبوت
(7)
.
هذا ومما تنبغي الإشارة إليه هاهنا أمران:
أحدهما: أن الأصوليين إذ يبحثون هذه المسألة فإن ألفاظهم تختلف في التعبير عن «الأثر» الذي تلقيه العلّة على النّص، فيقع منهم التعبير عن تأثير العلّة على النّص بأنها عادت عليه، أو على حكمه بالتغيير أو الإبطال، أو أنها عكّرت على النّص بالتخصيص أو التعميم، أو أنها رفعت حكم النّص،
(1)
انظر: الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 144.
(2)
انظر: ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 1، ص 217 - 220.
(3)
انظر: عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار، ج 3، ص 331 - 344. والسمرقندي، الميزان، ص 642، 643. والسرخسي، أصول السرخسي، ج 2، ص 150، ص 166 - 171. وصدر الشريعة، التوضيح، ج 2، ص 59 - 62.
(4)
انظر: ابن الهمام، التحرير، ج 1، ص 146 - 148.
(5)
انظر: المرجع السابق، ج 3، ص 297.
(6)
انظر: المرجع السابق، ج 4، ص 31.
(7)
انظر: ابن عبد الشكور، مسلّم الثبوت، مع شرحه فواتح الرحموت، ج 2، ص 30، ص 257، ص 289.
أو أزالته، أو أسقطته، أو أنها زادت في حكم النّص، أو نقصت منه، أو أنها خالفت ظاهر النّص، أو عارضته، أو أبطلته
(1)
، وغير ذلك من التعبيرات التي تتنوع تبعًا لتنوع «الأثر» أو التأويل الذي يعود به التعليل على النّص وتبعًا لتنوع دلالة النّص المتأثرة بهذا التعليل.
ولكن مهما يكن من تعبير فإنّ ذلك كله يندرج تحت مفهوم عام واحد وهو: أن العلّة المأخوذة من نصّ ما عادت على دلالة هذا النّص بالتأثير أو التأويل، بغض النظر عن نوع هذا التأثير أو التأويل، وبغض النظر عن نوع دلالة النّص التي وقع عليها.
والأمر الآخر: هو أن الأصوليين إذ يبحثون في أثر العلّة على النّص فهم إنما يبحثون في الأثر الذي يتعارض مع دلالة النّص، أما الأثر المؤكّد لهذه الدلالة والمقوي لها فإني لم أجد لأحدهم فيه كلامًا، وما ذاك - في نظري - إلا لأن تأكيد العلّة لمقتضى النّص، فضلًا عن ضعف الفائدة الأصولية والفقهية المترتبة عليه، فإنه ليس موضع خلاف وأخذ وردّ بخلاف التأثير المعارض لدلالة النّص واللَّه أعلم.
(1)
ستمر غالب هذه التعبيرات في المباحث القادمة أثناء عرض أقوال الأصوليين في المسألة.
المبحث الأول
عرض أقوال الأصوليين في «تأثير تعليل النّص على دلالته»
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أقوال أصوليي الشافعية والمالكية والحنابلة
المطلب الثاني: أقوال أصوليي الحنفية
المطلب الثالث: أقوال الأصوليين المحدثين
المطلب الأول
أقوال أصوليي الشافعية والمالكية والحنابلة
قول الإمام الشافعي رحمه الله:
بخلاف كثير من مسائل العلّة فإن هذه المسألة، مسألة تأثير تعليل النّص على دلالته، قديمة الوجود، حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله، أول الأصوليين، تعرّض لها، حيث منع - في ثنايا ردوده على الحنفية في بعض مسائل الفقه - من أن تؤثر العلّة على ظاهر النّص، قال إمام الحرمين:
«مما غلّظ الشافعي فيه القول على المؤولين كل ما يؤدي التأويل فيه إلى تعطيل اللفظ، وخرّج الشافعي على ذلك مسائل مستفادة، ونحن نرى أن نفردها مسألة مسألة
(1)
، ونبدأ الآن بالكلام على قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
} [التوبة: 60]. قال الشافعي: أضاف اللَّه تعالى الصدقات بلام الاستحقاق إلى أصناف موصوفين بأوصافٍ فرأى بعض الناس جواز الاقتصار على بعضهم ذاهبًا إلى أن المرعيَّ الحاجة، وهذا في التحقيق: تأسيس معنى يعطل تقييدات أمر اللَّه تعالى فلو كانت الحاجة هي المرعية لكان ذكرها أكمل وأشمل وأولى من الأقسام التي اقتضاها اللفظ ومقتضاها الضبط»
(2)
.
ومحل الاستشهاد في هذا الكلام هو قول الشافعي رحمه الله: «وهذا في التحقيق تأسيس معنى يعطل تقييدات أمر اللَّه تعالى» .
(1)
سيأتي شرح وتوضيح بعض هذه المسائل في المبحث الثالث من هذا الفصل.
(2)
إمام الحرمين، البرهان، ج 2، ص 359، وليس كلام الشافعي هذا في الرسالة ولا في مظانه من كتاب الأم ولعله أشبه بأسلوب إمام الحرمين فيكون من نقله بالمعنى.
أي أنها علة - معنى
(1)
- أبطلت القيود اللفظية للنص، وهذا يعني أنها عادت عليه بالتأثير وهذا الوجه من التأويل لا يجوز
(2)
.
وقال إلكيا الهرّاسي
(3)
تأكيدًا لورود القول في هذه المسألة عن الإمام الشافعي رحمه الله: «المنقول عن الشافعي أنه لا يجوز تخصيص العموم بالمعنى»
(4)
.
وهذا الذي ذكره إلكيا ونقله إمام الحرمين هو أحد القولين عن الإمام الشافعي، رحمه الله، في هذه المسألة، وأما القول الآخر فهو يقضي بجواز تأثير العلّة على النّص، قال الزركشي عقب مسألة تخصيص العموم بالقياس: «إن هذه المسألة غير مسألة تخصيص العموم بالمعنى، فإن تلك للشافعي فيها قولان، ولهذا تردّد في نقض الوضوء بالمحارم لأجل عموم {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، والتخصيص بالمعنى - وهو الشهوة - منتفية فيهم، وكذا في القاتل بحق مع حديث:"القاتل لا يرث"
(5)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب
(1)
قال عبد العزيز البخاري: «كان السلف لا يستعملون لفظ العلّة وإنما يستعملون لفظ: المعنى أخذًا من قوله عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث" أي: علل» . عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار، ج 1، ص 12. أفاده الأستاذ شلبي، تعليل الأحكام، ص 124.
(2)
سيأتي في المبحث الثالث من هذا الفصل توضيح وجه عود العلّة على النّص بالتأثير في هذه المسألة.
(3)
هو: علي بن محمد بن علي، إمام أصحاب الشافعي في زمانه، والمناظر عنهم، برع في الفقه والأصول والخلاف، وولي تدريس النظامية ببغداد، له:«أحكام القرآن» و «نقض مفردات أحمد» ، وكتابان في أصول الفقه، توفي سنة 504 هـ، انظر: ابن بدران الدمشقي، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ط 4، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1411 هـ، ص 457.
(4)
الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 378.
(5)
الترمذي، السنن، ج 4، ص 425. ابن ماجة، السنن، ج 2، ص 913. والحديث حسن بطرقه. انظر: عبد اللَّه الغماري، الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج، ط 1، عالم الكتب، بيروت، 1405 هـ، ص 100. ووجه اجتهاد الشافعي في هذا الحديث أنه أخرج «القاتل بحق» كالجلاّد أو القاضي أو دافع الصائل عن عموم الحديث «القاتل لا يرث» فحكم بتوريثه نظرًا إلى أن العلّة من حرمان القاتل من الإرث هي العقوبة وهو ليس أهلًا لها، والمخطئ أهلٌ لها بتقصيره، وهذا تعليل عاد على النّص بالتخصيص، وهناك قول آخر للشافعي بعدم توريثه نظرًا إلى الصيغة. انظر: الغزالي، شفاء الغليل، ص 73، والشربيني، مغني المحتاج، ج 4، ص 25.
دُبغ فقد طهر"
(1)
استنبطوا منه ما خصص جلد الكلب والخنزير».
ثم قال: «وقد نقّح إمام الحرمين في «النهاية» الفارق بين المسائل فقال بعد تجويزه التخصيص بالقياس: هذا فيما يتطرق إليه المعنى، وأما ما لا يتطرق إليه معنى مستمر جائز على السير فالأصل فيه التعلّق بالظاهر وتنزيله منزلة النّص، ولكن قد يلوح مع هذا مقصود الشارع بجهة من الجهات فيتعين النظر إليه. وهذا له أمثلة:
منها: أن اللَّه تعالى ذكر الملامسة في قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، فحملها الشافعي على الجس باليد ثم تردد نصُّه في لمس المحارم، من جهة أن التعليل لا جريان له في الأحداث الناقضة وما لا يجري القياس في إثباته فلا يكاد يجري في نفيه، فمال الشافعي في ذلك [أي في قوله الأول] إلى اتباع اسم النساء وأصح قوليه [القول الثاني وهو] أن الطهارة لا تنقض بمسهن لأن ذكر الملامسة المضافة إلى أن يقع شيء من الأحداث يُشعر بلمس اللاتي يُقصدن باللمس»
(2)
.
وقد حكى هذين القولين كليهما ابن السبكي في جمع الجوامع، فقال وهو بصدد تعداد شروط العلّة:«ومنها [أي من شروط العلّة] أن لا تعود على الأصل الذي استنبطت منه بالإبطال، وفي عودها على الأصل بالتخصيص له لا التعميم قولان»
(3)
.
(1)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (366) وسيأتي وجه تأثير تعليل النّص على دلالته في هذا الحديث عند الشافعي بعد قليل في ثنايا كلام الغزالي في المسألة.
(2)
الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 377.
(3)
السبكي، جمع الجوامع، ج 2، ص 290.
قال شارحه المحلّي
(1)
: «قيل: يجوز فلا يشترط عدمه وقيل: لا فيشترط، مثاله تعليل الحكم في آية {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] بأن اللمس مظنة الاستمتاع، فإنه يخرج من النساء المحارم فلا ينقض لمسهن الوضوء، كما هو أظهر قولي الشافعي. الثاني: ينقض عملًا بالعموم و [مثاله] تعليل الحكم في حديث أبي داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع اللحم بالحيوان"
(2)
بأنه بيع الربوي بأصله فإنه يقتضي جواز البيع بغير الجنس من مأكول وغيره كما هو أحد قولي الشافعي لكن أظهرهما المنع نظرًا للعموم»
(3)
.
قال المحلي: «ونظرًا لاختلاف الترجيح في الفروع أطلق المصنف [يعني صاحب جمع الجوامع] القولين»
(4)
أي: ولم يرجح أحدهما على الآخر، قال العطّار:«ولكن رجح الإسنوي الجواز»
(5)
.
قلت: وكذلك فعل الشربيني
(6)
، حيث قال في مغني المحتاج بعد بيانه لقولي الشافعي في نقض الوضوء بلمس المحارم:
(1)
هو: محمد بن أحمد بن محمد المحلي الشافعي، أصولي مفسر، مولده ووفاته بالقاهرة، كان مهيبًا، صداعًا بالحق، له:«شرح المنهاج» في فقه الشافعية و «البدر الطالع في حل جمع الجوامع» ، و «شرح الورقات» في الأصول، توفي سنة 864 هـ. انظر: الزركلي، الأعلام، ج 5، ص 333.
(2)
أبو داود، السنن، ج 3، ص 250. ومالك، الموطأ، ج 2، ص 655. وحسنه الشافعي كما نقله عنه الماوردي، الحاوي الكبير، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ، ج 5، ص 157. ووجه اجتهاد الشافعي في هذا الحديث أنه أخرج -في أحد قوليه- بيع الحيوان المأكول بغير المأكول عن عموم الحديث فأجاز هذا البيع نظرًا إلى أن العلّة في النهي عن بيع اللحم بالحيوان أن هذا بيع يتضمن تبادل مال ربوي بأصله وهو لا يجوز لعدم إمكان التماثل وأما بيع المأكول بغير المأكول فلا تتحقق فيه هذه العلّة لأن غير المأكول ليس مالًا ربويًا عند الشافعي لأنه غير مطعوم. وانظر: في قولي الشافعي في المسألة، الماوردي، الحاوي الكبير، ج 5، ص 159.
(3)
جلال الدين المحلي، شرح جمع الجوامع، ج 2، ص 290.
(4)
المرجع السابق، ج 2، ص 291.
(5)
العطّار، حاشية العطار على جمع الجوامع، ج 2، ص 291، ولم أجده في شرح الإسنوي على المنهاج.
(6)
هو: محمد بن أحمد الخطيب الشربيني شمس الدين، فقيه شافعي، من أهل القاهرة، له تصانيف منها:«الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع» ، و «مغني المحتاج» توفي سنة 977 هـ. انظر: الزركلي، ج 6، ص 6.
«والقولان مبنيان على أنه هل يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه؟ أو لا؟ والأصح الجواز»
(1)
.
وقول الشربيني، ومن قبله الإسنوي، بترجيح جواز أن يُستنبط من النص معنى يخصصه أولى من إطلاق ابن السبكي القولين في هذه المسألة من غير ترجيح نظرًا لاختلافه في الفروع.
ووجه الأولوية هو أنّ القول بجواز أن يُستنبط من النّص معنى يخصصه لا يستلزم وجوب اطراد ذلك في جميع الفروع، لأن الجواز شيء، والوجوب شيء آخر.
وإذن، فإن اختلاف الترجيح في الفروع الفقهية لا ينافي القول بالجواز حتى يُعدَّ المنع من تخصيص نص ما بالعلة المأخوذة منه إبطالًا لهذا الجواز، وذلك لأن الجواز تخييرٌ بين التخصيص وعدمه، فجائز أن يُرجح التخصيص بالعلة في فرع من الفروع ثم لا يُرجح في فرعٍ آخر.
هذا ومما ينبغي التنبيه إليه هو أن القولين المحكيين عن الشافعي في جواز وعدم جواز أن تعود العلّة على النص بالتأثير، إنما هما في صورة محدّدة من صور التأثير، وهي صورة عود العلة على النص بالتخصيص
(2)
، وأما عودها عليه بالتعميم فالقول عنده واحد وهو الجواز لذلك قال ابن السبكي في جمع الجوامع - وكما سبق نقله - «وفي عودها [أي العلة] على الأصل بالتخصيص لا التعميم قولان»
(3)
فاستثنى التعميم. قال شارحه المحلي: «وقوله: «لا التعميم» أي فإنه يجوز العود به قولًا واحدًا كتعليل الحكم في حديث
(1)
الشربيني، مغني المحتاج، ج 1، ص 34.
(2)
ويقاس عليه كل تأويل.
(3)
ابن السبكي، جمع الجوامع، ج 2، ص 291.
الصحيحين: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان"
(1)
بتشويش الفكر فإنه يشمل غير الغضب أيضًا»
(2)
.
وكذلك قال الزركشي عقب بيانه لقولي الشافعي في عود العلة على النص بالتخصيص: «واعلم أنه يجوز أن يُستنبط من النص معنى يعمّمه قطعًا، كاستنباط ما يشوش الفكر من قوله صلى الله عليه وسلم "لا يقضي القاضي وهو غضبان" وكاستنباط الاستنجاء بالجامد القالع من الأمر بالأحجار، وهو غالب الأقيسة»
(3)
.
وإجازة الإمام الشافعي، رحمه الله، عود العلة على النص بالتعميم قولًا واحدًا بخلاف عودها عليه بالتخصيص، ما هي - واللَّه أعلم - إلا لأن عود العلة على النص بالتعميم ليس هو شيئًا آخر غير القياس - والقياس حجة عند الشافعي بلا تردد - إذ قال الشاطبي في القياس:«لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى وهو معنى متفق عليه»
(4)
.
وقال في تعميم الأصوليين حكم تحريم القضاء حالة الغضب في كل مشوش: «إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ»
(5)
.
أقوال الأصوليين ممن هم بعد الشافعي في المسألة:
ذهب أكثر الأصوليين ممن جاءوا بعد الشافعي رحمه الله إلى ما ذهب إليه الشافعي في قوله الأول فمنعوا من أن تعود العلة على النص بالتخصيص أو التأويل، وهذا هو قول القاضي أبي بكر الباقلاني
(6)
، وأبي إسحاق
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (7158) ومسلم، الصحيح، حديث رقم (1717).
(2)
جلال الدين المحلي، شرح جمع الجوامع، ج 2، ص 291.
(3)
الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 377.
(4)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 51.
(5)
المرجع السابق، ج 1، ص 90.
(6)
انظر، الغزالي، المنخول، ص 192، والباقلاني مالكي المذهب.
الإسفراييني
(1)
وتلميذه أبي منصور البغدادي
(2)
وأبي إسحاق الشيرازي
(3)
، وإمام الحرمين
(4)
. قال الباقلاّني: «كل تأويل تضمن الحطّ عن المنصوص فهو باطل»
(5)
، وقال في اجتهاد الحنفية بجواز دفع القيم في الزكوات نظرًا لعلة سدّ الحاجة:«هذا دليل مستنبط من النص يكر على ظاهره بالإبطال والرفع، وهذا الفن باطل»
(6)
.
وقال إمام الحرمين: لا تجوز «إزالة الظاهر بمعنى يستنبط منه يتضمن تخصيصه وقصره على بعض المسميات»
(7)
.
وهذا القول هو الذي ظل سائدًا في أوساط الأصوليين حتى جاء الغزالي، رحمه الله، فأعرض عما قرره شيخه إمام الحرمين، وغيره من أصوليي الشافعية، وفصّل القول في المسألة فقال بعد أن قرّر أن الفقهاء مالكًا والشافعي وأبا حنيفة قائلون - من خلال تفريعاتهم الفقهية - بجواز أن تعود العلة على أصلها بالتخصيص: «والذي يظهر لنا في ضبط هذا النوع من التخصيص، وما يجوز منه وما يمتنع - والعلم فيه عند اللَّه تعالى - أن المعاني المفهومة من النصوص تنقسم إلى:
* ما يسبق مع اللفظ إلى الفهم سبقًا لا يتراخى عنه، وقد يكون المعنى أسبق إلى الفهم من اللفظ وقد يكون مساويًا له، وقد يتراخى عنه قدر التأمل القليل من فهم البصير. وإلى:
(1)
انظر، الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 154.
(2)
المرجع السابق. وأبو منصور البغدادي هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد، عالم متقن من أئمة الأصول، ولد ونشأ في بغداد ومات في إسفرايين، من كتبه:«أصول الدين» و «الفرق بين الفرق» في العقائد، و «التحصيل» في أصول الفقه، توفي سنة 429 هـ. انظر: الزركلي، الأعلام، ج 4، ص 48.
(3)
انظر، أبو إسحاق الشيرازي، شرح اللمع، ج 2، ص 965. وأبو إسحاق الشيرازي هو إبراهيم بن علي بن يوسف، ولد في فيروزأباد، قرية من قرى بلاد فارس، ولازم شيراز، ثم انتقل إلى البصرة فبغداد، له: «اللمع» وشرحها في الأصول، و «المهذب» في الفقه، توفي سنة 485 هـ. انظر: مقدمة عبد المجيد تركي ل «شرح اللمع» ، ج 1، ص 9.
(4)
انظر، إمام الحرمين، البرهان، ج 1، ص 359 والزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 374.
(5)
نقله عنه الغزالي، المنخول، ص 192.
(6)
المرجع السابق، ص 201.
(7)
نقله الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 374 عن نهاية المطلب لإمام الحرمين.
* ما لا يسبق إلى الفهم، ولكنه يستنبط بالسبر والنظر ويستبان بدقيق الفكر.
وهذا الانقسام في الأصل معلوم، وهو من قبيل الغضب الذي ذكرناه [في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قضاء القاضي وهو غضبان] إذ لا يسبق إلى الفهم منه إلا اضطرب العقل إذا ذكر مقرونًا بتحريم القضاء.
فما يجري هذا المجرى، فتحكيمه في النقصان والزيادة، وتغيير الحكم إلى الخصوص من العموم وإلى العموم من الخصوص - جائز على نسق واحد، من حيث إن من منع العلة التي تعكر على الأصل بالتخصيص، منع من حيث إن القياس ليس تفسيرًا للألفاظ، فيجب معرفة الحكم أولًا، ثم طلب علته.
وهذا فيما يتقدم الحكم في الفهم على العلة والمعنى، ولا يكون المعنى قرينة، فالمعنى في هذه الأمثلة ونظائرها سابق إلى الفهم، وهو قائم مقام القرينة المفسِّرة للفظ، المقررة لمعناه في الفهم، فلم يكن من ذلك القبيل.
فأما ما لا يسبق إلى الفهم، ويُستنبط بالتأمل والنظر فلا يُتجاسر به على كل تخصيص، ولا يحسم أيضًا باب التخصيص به، بل يجوز أن يُعتمد عليه ويُخرج به عن اللفظ ما يقع موقع النادر البعيد عن الفكر، بالإضافة إلى المراد وهو الذي لا يخطر بالبال إلا بالإخطار، ويقع نادرًا في قبيل ذلك الحكم، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:"أيما إهاب دبغ فقد طهر"
(1)
، فقد ذكر للطهارة سببًا وهو الدباغ واقتضى عمومه طهارة جلد الكلب بالدباغ.
وقد استنبط الشافعي رضي الله عنه من الدباغ معنى، بالنظر الصحيح والفكر المستقيم، وهو أن الدباغ يبعد الجلد عن العفونات ويعصمه عن الفساد، ويؤثر فيه مثل تأثير الحياة، ويقوم مقامها في التأثير واقتضاء الطهارة.
(1)
سبق تخريجه في هذا المطلب.
واقتضى مساق هذا الكلام إخراج جلد الكلب منه، بعد تناوله، بدليل أن الكلب نجس في حال الحياة.
فهذا نوع تخصيص بعلة مستنبطة من المخصوص، وليس أمثاله ممنوعًا؛ إذ العام يطلق ويُراد به الخاص وهو غالب في عادة العرب واتباع المعنى أولى من الجمود على الصيغة»
(1)
.
وهذا الذي فصّله الغزالي ووضحه هو الغاية في هذه المسألة، وهو يرمي - باختصار - إلى جواز عود العلة على أصلها بالتخصيص، لكن لا بإطلاق، وإنما حيث قَوِي ظن العلة أو ضَعُف ظن ظاهر اللفظ كما سبق بسط القول في ذلك في الفصل الأول من هذه الرسالة.
ومن ثَمّ، وبعد أن مضى الغزالي، رحمه الله، انحسر البحث في هذه المسألة في كتب الأصول، لا سيما تلك التي اشتهرت بعده كالمحصول للرازي، والإحكام للآمدي، ففي حين لم يتعرض الرازي للمسألة من قريب ولا بعيد، مرّ بها الآمدي مرورًا سريعًا فلم يذكر قولي الشافعي أو تفصيل الغزالي فيها، وإنما قال في شروط العلة:«يجب أن لا تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع على الحكم الذي استنبطت منه بالإبطال، وذلك كتعليل وجوب الشاة في مال الزكاة بدفع حاجة الفقراء، لما فيه من رفع وجوب الشاة»
(2)
.
وقال في باب الظاهر وتأويله، بعد أن أبطل تأويل الحنفية لوجوب الشاة في باب الزكاة بنحو ما سبق عنه من قول: «ومما يلتحق من التأويلات بهذا التأويل ما يقوله بعض الناس في قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
} [التوبة: 60]. من جواز الاقتصار على البعض نظرًا إلى أن المقصود من الآية إنما هو دفع الحاجة
…
»
(3)
(1)
الغزالي، شفاء الغليل، ص 83 - 87 مع حذف ما لا حاجة إليه.
(2)
الآمدي، الإحكام، ج 3، ص 79.
(3)
الآمدي، الإحكام، ج 3، ص 79.
أما ابن الحاجب فقد سلك مسلك الآمدي تمامًا إلا أنه عارضه - بحكم مالكيته - في رده تأويل الحنفية والمالكية لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
} [التوبة: 60].
وكما صنع الرازي، صنع صاحب المنهاج - البيضاوي - فلم يتعرض للمسألة من قريب ولا بعيد.
وهكذا ظل البحث في هذه المسألة مقتضبًا وغامضًا، إلى أن جاء ابن السبكي، ومن بعده الزركشي، فكشفا عن قولي الشافعي في المسألة وفرّقا بين عود العلة على النص بالتخصيص، وبين عودها عليه بالتعميم، فالحالة الأولى فيها قولان، والحالة الثانية تجوز قولًا واحدًا
(1)
.
ومن حَسَنِ ما نبّه إليه الزركشي في هذه المسألة قوله: «فرعٌ ولّدتُه: هل يجوز أن يستنبط من المقيد معنى يعود عليه بالإطلاق؟ فيه نظر، وقد جوَّز جمهور أصحابنا الاستنجاء بحجر واحد له ثلاثة أحرف نظرًا للمعنى وهو الإزالة بطاهر، وفيه رفع قيد العدد في قوله صلى الله عليه وسلم:"فليستنج بثلاثة أحجار"
(2)
»
(3)
، فأشار بهذا الكلام إلى أن ما يُقال بشأن عود العلة على النص بالتخصيص أو عودها عليه بالتعميم لا يقتصر على هذه الصورة من صور تأثير تعليل النص على دلالته فحسب بل يطّرد في غيرها من صور التأثير كعودها على المطلق بالتقييد أو عودها على المقيد بالإطلاق.
(1)
انظر: ابن السبكي، جمع الجوامع، ج 2، ص 290، 291، وقد سبق إيراد قوله بتمامه، والزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 152، وقد سبق نقل شيء من أقواله.
(2)
الدارقطني، السنن ج 1، ص 54، وقال عقب إحدى رواياته: إسناد صحيح.
(3)
الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 378.
هذه هي أقوال أصوليي الشافعية والمالكية في المسألة، أما الحنابلة فقد ذكر ابن النجار في كتاب الترجيحات من شرح الكوكب المنير أن العلة التي لا تعود على أصلها بالتخصيص، تُرجح في مقام التعارض على العلة التي تعود عليه بذلك عازيًا هذا القول إلى أبي الخطاب وابن عقيل الحنبليين
(1)
، وهذا يقتضي جواز عود العلة على أصلها بالتخصيص عندهم لأن الترجيح فرع عن صحة دليلي التعارض.
وقبل الانتقال إلى أقوال أصوليي الحنفية في المسألة، أود التعرض لبيان أقوال أربعة من محققي الأصوليين أحسنوا القول في هذه المسألة: أحدهم ابن دقيق العيد
(2)
، وهو شافعي المذهب، والثاني أبو إسحاق الشاطبي، وهو مالكي المذهب والثالث والرابع تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهما - في الجملة - حنبليّان.
أقوالٌ أخرى:
أولًا: ابن دقيق العيد:
قال، رحمه الله، في كتابه إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام عند تعرضه لشرح قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يبيع حاضر لباد"
(3)
.
(1)
انظر: ابن النجار، شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 735. وابن النجار هو: محمد بن شهاب الدين أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الحنبلي، فقيه أصولي صاحب «المنتهى» ذكر أنه اختصر فيه كتاب «تحرير المنقول من علم الأصول» للمرداوي، وشرحه في كتاب «الكوكب المنير». وأبو الخطاب هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني البغدادي، أحد المجتهدين في مذهب أحمد له في الفقه «الهداية» و «الانتصار» ، وله كتاب «التمهيد في أصول الفقه» ، توفي سنة 695 هـ.
(2)
هو: محمد بن علي بن وهب أبو الفتح القشيري، من أكابر العلماء في الأصول، حتى قيل مجتهد، ولد في ينبع في مصر، وتوفي في القاهرة، له:«إحكام الأحكام» و «شرح مقدمة المطرزي» في أصول الفقه، وغيرها، توفي سنة 702 هـ. انظر: الزركلي، الأعلام، ج 6، ص 283.
(3)
البخاري الصحيح، حديث رقم (2158).
«وأما بيع الحاضر للبادي فمن البيوع المنهي عنها لأجل الضرر، وصورته أن يحمل البدوي، أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه، ويرجع، فيأتيه البلدي فيقول: ضعه عندي ليبيعه على التدريج بزيادة سعر، وذلك إضرار بأهل البلد وحرام إن علم بالنهي، وتصرف بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي في ذلك فقالوا: شرطه أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد، فإن لم يظهر، إما لكثرته في البلد، أو لقلة الطعام المحمول، ففي التحريم وجهان: يُنظر في أحدهما إلى ظاهر اللفظ، وفي الآخر إلى المعنى، وهو عدم الإضرار وتفويت الربح أو الرزق على الناس، وهذا المعنى منتف، وقالوا: يُشترط أن يكون المتاع أيضًا مما تعم الحاجة إليه دون ما لا يُحتاج إليه إلا نادرًا، وأن يدعوَ البلديُّ البدويَّ إلى ذلك فإن التمسه البدويُّ منه فلا بأس» ، ثم قال:«واعلم أن أكثر هذه الأحكام قد تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ ولكن ينبغي أن يُنظر في المعنى إلى الظهور والخفاء فحيث يظهر ظهورا كثيرًا فلا بأس باتباعه، وتخصيص النص به، أو تعميمه على قواعد القياسيين، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهورًا قويًا فاتباع اللفظ أولى» .
(1)
.
(1)
ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام، ج 3، ص 112 - 114 مع حذف ما لا حاجة إليه.
ثانيًا: أبو إسحاق الشاطبي:
تعرض الشاطبي، رحمه الله، في كتاب الأدلة من الموافقات لبيان تأثير علة النص - أمرًا كان أو نهيًا - على مفهومه، فقرر أن النص يُمكن النظر إليه بطريقين:
(1)
.
وقال، وهو بصدد توجيه هذا النظر، والدفاع عنه: «قد مرّ في كتاب المقاصد أن كل أمر ونهي لا بد فيه من معنى تعبدي وإذا ثبت هذا لم يكن لإهماله سبيل، فكل معنى يؤدي إلى عدم اعتبار مجرّد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه، فإذن المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كرّ عليه بالإهمال فلا سبيل إليه.
ولا يقال: إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة، كما في قول القائل: لا يجوز الوضوء بالماء الذي بال فيه الإنسان، فإن كان قد بال في إناء ثم صبّه في الماء جاز الوضوء به.
لأنا نقول: هذا أيضًا معارَض بما يضاده في الطرف الآخر في تتبع المعاني مع إلغاء الصيغ، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم "في أربعين شاة شاة"
(2)
: إن المعنى قيمة شاة؛ لأن المقصود سد الخلة، وذلك حاصل بقيمة الشاة، فجعل الموجود معدومًا والمعدوم موجودًا، وأدى ذلك إلى أن لا تكون الشاة واجبة وهو عين المخالفة، وأشباه ذلك من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني، وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق، وإنما تعتبر من حيث هي مقصود الصيغ فاتباع
(1)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 144.
(2)
أبو داود، السنن، ج 2، ص 226. والترمذي، السنن، ج 3، ص 17، وقال: حديث حسن.
أنفس الصيغ التي هي الأصل واجب، لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل»
(1)
.
وبعد ذلك ذكر الشاطبي الطريق الثاني للنظر في النصوص فقال:
(2)
.
وقال وهو بصدد توجيه هذا النظر وترجيحه:
«إن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أشياء وأمر بأشياء وأطلق القول فيها إطلاقًا، ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجرّدًا من الالتفات إلى المعاني، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر
(3)
، وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه؛ كبيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثي كلها، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيَّب، كالديار والحوانيت المغيبة الأسس، وما أشبه ذلك مما لا يحصى، ولم يأت فيه نص بالجواز، ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلًا، لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررًا مترددًا بين السلامة والعطب، فهو مما خُصَّ بالمعنى المصلحي، ولا يُتّبع فيه اللفظ بمجرّده».
(1)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 147، 148 مع حذف ما لا حاجة إليه.
(2)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 148.
(3)
مسلم، الصحيح، حديث رقم (3787).
(1)
.
ثالثًا: تقي الدين أحمد بن تيمية:
تعرض ابن تيمية رحمه الله في مسائل النسخ من «المسودة» إلى مسألة تأثير تعليل النص على دلالته فجاء فيها بتفصيل جديد قال: «الحكم العام أو المطلق، هل يجوز تعليله بما يوجب تخصيصه أو تقييده، سواء كان ثابتًا بخطاب أو بفعل؟ هذا فيه أقسام:
القسم الأول: ما كان عامًا للمكلفين فيدّعى تخصيصه بنفي التعليل، فمنه ما علم قطعًا بالاضطرار عمومه، فمُخصِّصه كافر كمدعي تخصيص تحريم الخمر بمن قد سبقه، أو بغير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وسقوط الصلاة عمن دام حضور قلبه، إلى غير ذلك من دعوى اختصاص بعض المنتسبين إلى العلم أو إلى العبادة بسقوط واجب أو حل محرم، كما قد وقع لطوائف من المتكلمين والمتعبدين وهذا كفر، ومنه ما ليس كذلك لكن هو مثله.
(1)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 151 - 154 مع حذف ما لا حاجة إليه.
القسم الثاني: ما كان عامًا في الأزمنة لفظًا أو حكمًا فيُدّعى اختصاصه بزمانه فقط، وقد كتبته في غير هذا الموضع
(1)
.
القسم الثالث: أن يدعى اختصاصه بحال من الأحوال الموجودة في زمان الشرع مما قد يجوز عودها.
القسم الرابع: أن يدّعى اختصاصه بمكان، كدعوى اختصاص فرضه للأصناف الخمسة
(2)
في صدقة الفطر بالمدينة لكونها قوتَهم الغالب، وهذا من جنس الذي قبله، فإنه لا يوجب انقطاع الحكم بل اختصاصه بحال دون حال.
القسم الخامس: الأفعال التي فعلها في العبادات والعادات إذا ادُّعي اختصاصها بزمان أو مكان أوحال.
فهذه أصول عظيمة مبناها على أصلين:
أحدهما: صحة ذلك التعليل وأن الشارع إنما شرع لأجله فقط، الأصل الثاني: ثبوت الحكم مع عدم تلك العلة لعلة أخرى، إذ أكثر ما في هذا، دعوى ارتفاع الحكم بما يُعتقد أن لا علة غيره»
(3)
.
والناظر في تفصيل ابن تيمية القول في هذه المسألة يجد أنه ركّز نظره على النص الشرعي، فوجده إما خطابًا وإما فعلًا، ثم نظر إلى نوع العموم المتأثر بالتعليل في النص الشرعي - خطابًا كان أو فعلًا - فخلص إلى أربعة أنواع من العموم:
(1)
سيأتي تفصيل قوله في هذا القسم بعد قليل.
(2)
وهي البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقِط (اللبن المجمد) انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 3، ص 463.
(3)
آل تيمية، المسودة، ص 199 مع حذف يسير.
أولًا: عموم النص الشرعي في المكلفين، وهذا لا يجوز تخصيصه بالتعليل بل يكاد يكون ذلك كفرًا.
ثانيًا: عمومه في الأزمنة.
ثالثًا: عمومه في الأمكنة.
رابعًا: عمومه في الأحوال.
وهذه العمومات الثلاث يجوز تخصيصها بالتعليل بشرطين:
الأول: أن يكون التعليل في ذاته صحيحًا.
والثاني: أن يكون النص معلّلًا بعلة واحدة فقط، حتى يلزم من ارتفاعها ارتفاع الحكم، وإلا فلو وُجدت علة أخرى لثبت الحكم بها.
وكلام ابن تيمية هذا لا غبار عليه.
ثم إنه رحمه الله تعرض في موضع آخر من كتاب النسخ لمسألة نسخ النص الشرعي بالعلة المستفادة منه، وفرق بينها، وبين تخصيص العموم الزماني للنص بالعلة، فمنع من النسخ بالعلة وفصّل في التخصيص بها بالنظر إلى نوع الخطاب.
قال رحمه الله: «ما حَكَمَ به الشارع مطلقًا أو في أعيان معينة فهل يجوز تعليله بعلة مختصة بذلك الوقت بحيث يزول ذلك الحكم زولًا مطلقًا؟ قد ذهب الحنفية والمالكية [في بعض الفروع الفقهية] إلى جواز ذلك» . قال: «وهذا عندي اصطلام للدين، ونسخ للشريعة بالرأي، ومآله إلى انحلال من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم عن شرعه بالرأي، فإنه لا معنى للنسخ إلا اختصاص كل زمان بشريعة، فإذا جُوِّز هذا بالرأي، نسخ بالرأي، وأما أصحابنا وأصحاب الشافعي فيمنعون ذلك ولا يرفعون الحكم المشروع بخطاب إلا بخطاب» .
قال: «وينبغي أن يُذكر هذا في مسألة النسخ بالقياس ويُسمى النسخ بالتعليل، فإنه تعليل للحكم بعلة توجب رفعه وتُسقط حكم الخطاب» . ثم قال: «فإن كان الحكم مطلقًا فهل يجوز تعليله بعلة قد زالت لكن إذا عادت يعود؟ [وهذه هي مسألة تخصيص العموم الزماني للخطاب بالعلة] فهذا أحق من الأول [يعني النسخ بالتعليل] وفيه نظر
…
وهو خطاب مطلق أو معين أو فعل أو إقرار، فأما الفعل والإقرار فيقع هذا فيه كثيرًا إذ لا عموم له، وكذلك يقع في القضية التي في عين كثيرًا، لكنّ وقوعه في الخطاب العام فيه نظر»
(1)
.
وحاصل هذا القول: أن ابن تيمية، رحمه الله، يفرق بين النسخ بالتعليل، وبين تخصيص العموم الزماني به، بأن النسخ بالتعليل هو رفع الحكم مطلقًا لارتفاع العلة، وحتى لو عادت لا يعود، وأما التخصيص بها فهو وإن استلزم رفع الحكم بارتفاع العلة في زمن من الأزمان، إلا أنه يستلزم عوده إذا عادت هذه العلة.
وتخصيص العموم الزمني للنص بالعلة يجوز - في نظر ابن تيمية - في مواضع:
أولًا: إذا كان الخطاب فعلًا. ومثاله ما سبق بيانه من اجتهادات الصحابة في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج كطوافه راكبًا ونزوله بالمحصب وغير ذلك.
ثانيًا: إذا كان الخطاب إقرارًا. وصورة ذلك أن يقر النبي صلى الله عليه وسلم فعلًا ما ثم يستنبط المجتهد علة لهذا الإقرار تقتضي تقييد جواز الفعل المقر بحال دون أخرى أو زمن دون آخر.
(1)
آل تيمية، المسودة، ص 227، 228 مع حذف ما لا حاجة إليه.
ثالثًا: إذا كان الخطاب واقعة عين. ويمكن التمثيل له بما سبق إيراده في اجتهادات الصحابة من اجتهاد عائشة في واقعة فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما.
أما إذا كان الخطاب عامًا - ليس فعلًا ولا إقرارًا ولا واقعة عين - فيرى ابن تيمية أن تخصيص عمومه الزمني بالعلة فيه مجال للنظر.
وكلامه هذا حق؛ إذ لا يُقال بجواز ذلك بإطلاق، ولا بعدم جوازه بإطلاق، وإنما ينظر إلى كل مسألة على حدة، فإن رجح ظن العلة على الظن المستفاد من ظاهر اللفظ قيل بالتخصيص، وإلا فلا ومثال هذا اجتهاد الصحابة في حكم المؤلفة قلوبهم، واللَّه أعلم.
رابعًا: ابن قيم الجوزية:
تعرّض ابن القيم، رحمه الله، في كتابه «إعلام الموقعين» لمسألة تعارض المعنى - العلة - مع ظاهر اللفظ وأورد في ذلك كلامًا حسنًا فقال:«والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تُقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني، وللتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون فهمه من المعنى أقوى وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان»
(1)
.
وقال: «الألفاظ لم تُقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يُستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده، ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيمائه، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطّردة لا يخل بها، أومن مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه
(1)
ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 1، ص 217.
إرادةُ ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقَّنٌ مصلحته، وأنه يُستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه، فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا، ويكره هذا، ويحب هذا، ويبغض هذا، وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله، كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه، ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه، لما لا يوجد في كلامه صريحًا، وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة، وهذا أمر يعم أهل الحق وأهل الباطل، لا يمكن دفعه، فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة، والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة، فإذا دُعي إلى غداء فقال: واللَّه لا أتغدى، أو قيل له: نم، فقال: واللَّه لا أنام، أو: اشرب هذا الماء، فقال: واللَّه لا أشرب فهذه كلها ألفاظ عامة نُقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي إلى آخر العمر.
والألفاظ ليست تعبدية، والعارف يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، وقد أنكر اللَّه سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، فذم من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، والعلم بمراد المتكلم يُعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته، والحَوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر»
(1)
.
(1)
ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 1، ص 218 - 220 مع حذف ما لا حاجة إليه.
المطلب الثاني
أقوال أصوليي الحنفيّة
ذهب جمهور الحنفية - على خلاف ما هو منشود منهم - إلى القول بعدم جواز أن تؤثر علة النص على دلالته، وذلك على الرغم من وجود وفرة من الفروع الفقهية في مذهبهم تتضمن تأثيرًا لتعليل النص على دلالته؛ ولهذا السبب - وهو كثرة الفروع المتضمنة لتأثير تعليل النص على دلالته في مذهبهم - فإن الناظر في كتبهم يجد أنهم، بعد تقريرهم ما ذهبوا إليه، قد أوردوا كثيرًا من الفروع الفقهية التي انتُقدت عليهم لأنها تضمنت عود العلة على النص بالتأثير، وأخذوا في الإجابة عنها وتخريجها مخارجَ أخر في غالبها تكلّف، كما سيرد بيان شيء من ذلك في المبحث الثالث من هذا الفصل.
هذا، وقد سبق القول، أن الحنفية إذ يبحثون هذه المسألة فإنما يبحثونها عند الخوض في شروط القياس، وأقدم من وجدته يذكرها منهم: القاضي أبو زيد الدبوسي المتوفى سنة 430 هـ.
قال السمرقندي: «ذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله شروطًا أربعة لصحة القياس:
…
الثالث: أن يبقى حكم النص بعد التعليل كما كان قبله من غير تغيير لأنه يصير التعليل مُبطلًا لحكم النص، مثاله ما قاله الشافعي رحمه الله [منتقدًا إياه على الحنفية]: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في خمس من الإبل شاة"
(1)
حكم النص وجوب دفع الشاة، ومتى جوّزنا التعليل لا يبقى حكم النص وهو وجوب
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1454).
الشاة، بل هو مخير عندكم بين أن يؤدي عين الشاة وبين أن يؤدي قيمتها، وهذا مناقضة حكم الوجوب»
(1)
.
وقد تتابع الحنفية بعد أبي زيد على ذكر هذا الشرط، فقال البزدوي: «وأما الشرط الرابع، وهو أن يبقى حكم النص على ما كان قبل التعليل؛ فلأن تغيير حكم النص في نفسه بالرأي باطل كما أبطلناه في الفروع، وذلك مثل قول الشافعي في طعام الكفارة بشرط التمليك فإنه تغيير لحكم النص بعينه، لأن الإطعام اسم لفعل يُسمى لازمه طعمًا، وهو الأكل على ما قلنا
(2)
، ومثل قوله في حد القذف إنه لا يبطل الشهادة وهذا تغيير لأن النص يوجب أن يكون حكم القذف إبطال الشهادة حدًّا وقد أبطله، فجعل بعض الحدّ حدًّا لأن الوقت من الأبد بعضه، وأثبت الردّ بنفس القذف دون مدة العجز وهو تغيير، وزاد النفي على الجلد وهو تغيير وجعل الفسق مبطلًا للشهادة والولاية، وهو تغيير؛ لأن حكم الفسق بالنص التثبت والتوقف، دون الإبطال، ومثلُه كثير»
(3)
.
أما السرخسي فقد ادعى الإجماع على عدم جواز أن يعود التعليل على النص بالتغيير أو الإبطال
(4)
، وأضاف إلى شروط القياس الأربعة التي ذكرها من قبله شرطًا جديدًا يزيد من التأكيد على أنه لا يجوز للتعليل أن يؤثر على النص بحال فقال في شروط القياس: «وهذه الشروط خمسة
…
الرابع: أن يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله.
(1)
علاء الدين السمرقندي، الميزان، ص 642.
(2)
انظر في توضيح هذا المثال وما يليه من أمثلة مع بيان وجه تأثير تعليل النص على دلالته فيها: عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار، ج 3، ص 331، 332.
(3)
البزدوي، أصول البزدوي، ج 3، ص 331.
(4)
انظر: السرخسي، أصول السرخسي، ج 2، ص 193.
والخامس: أن لا يكون التعليل متضمّنا إبطال شيء من ألفاظ المنصوص»
(1)
ومثَّل للشرط الرابع بنحو ما مثّل به البزدوي من اجتهادات الشافعية، وأما الشرط الخامس، فمثاله - قال السرخسي -: «ما قاله علماؤنا: إنه لا يجوز قياس السباع سوى الخمس المؤذيات على الخمس بطريق التعليل في إباحة قتلها للمُحرم، وفي الحرم، لأن في النص قال عليه الصلاة والسلام:"خمس يُقتلن في الحلّ والحرم"
(2)
وإذا تَعدى الحكم إلى محل آخر، يكون أكثر من خمس، فكان في هذا التعليل إبطالُ لفظٍ من ألفاظ النص، بخلاف حكم الربا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: الربا في ستة أشياء ولكن ذكر حكم الربا في أشياء، فلا يكون في تعليل ذلك النص إبطال شيء من ألفاظ النص»
(3)
.
ولم يأتِ من هم بعد السرخسي والبزدوي، كصدر الشريعة
(4)
، وعبد العزيز البخاري
(5)
، وحتى ابن الهمام
(6)
، وابن عبد الشكور
(7)
، بشيء جديد في هذه المسألة، وإنما تابعوا فيها من قبلهم إلا أنهم انتقدوا التمثيل ببعض الفروع الفقهية ممن تقدمهم، وأحدثوا جوابات جديدة عما انتُقِد على مذهبهم من فروع تضمَّنت تأثيرًا لتعليل النص على دلالته.
غير أن علاء الدين السمرقندي - وهو أحد من أخذ عن البزدوي - جاء بجديد حيث كشف عن أنَّ هذه الشروط التي يشترطها أصوليو العراق من
(1)
المرجع السابق، ج 2، ص 150.
(2)
سيأتي تخريجه في المبحث التالي في المطلب الأول.
(3)
السرخسي، أصول السرخسي، ج 2، ص 170.
(4)
انظر: صدر الشريعة، التوضيح، ج 2، ص 59 - 62.
(5)
انظر: عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار، ج 3، ص 331 - 344.
(6)
انظر: ابن الهمام، التحرير، ج 3، ص 269 - 299.
(7)
انظر: ابن عبد الشكور، مسلّم الثبوت، ج 2، ص 257 - 259.
الحنفية، لا اعتبار لها عند مشايخ سمرقند، فقال بعد نقله هذه الشروط عن الدبوسي:«ولكنّ أهل التحقيق من مشايخنا قالوا: إن ما ذكر لا يصلح أن يكون شرط صحة القياس، لأنه يمنع ثبوت حكم القياس فيمنع وجود القياس، ولا يُتصور وجود القياس مع هذه الشرائط»
(1)
.
فبان من هذا الكلام أن الحنفية منقسمون في اعتبار هذه الشروط - ومنها شرط أن لا يُؤثّر تعليل النص على دلالته - إلى قسمين: فأهل العراق يعتبرونها، وأهل سمرقند لا يعتبرونها.
والذي أراه أن قول أهل سمرقند أقرب إلى التحقيق، وأصدق في تمثيل المذهب الحنفي من قول أهل العراق، وذلك لوفرة الفروع المنقولة عن أبي حنيفة وصاحبيه والتي تتضمن تأثيرًا لتعليل النص على دلالته، كما سيأتي بحث بعضها في المبحث الثالث من هذا الفصل. واللَّه أعلم.
المطلب الثالث
أقوال الأصوليين المحدثين
لم أجد للمحدثين من الأصوليين بحثًا خاصًا في تأثير تعليل النص على دلالته، وإنما تعرض لها بعضهم في ثنايا البحث في العرف أو المصلحة أو في شروط العلة أو في مسألة التعليل بشكل عام.
وفيما يلي استعراض لبعض أقوالهم على حسب ترتيب كتبهم في الظهور.
وأبدأ بالأستاذ محمد شلبي صاحب كتاب «تعليل الأحكام» إذ إنه قد أورد - كدليل على مشروعية تعليل الأحكام بشكل عام - مجموعة من اجتهادات
(1)
علاء الدين السمرقندي، الميزان، ص 643.
الصحابة المبنية على التعليل، وقسّمها إلى أنواع تضمن بعضها تأثيرًا لتعليل النص على دلالته.
(1)
.
(2)
.
وشلبي، إذ يقول بتخصيص النص بعلته المستنبطة منه، ويثبته للصحابة رضوان اللَّه عليهم، يذهب في القول إلى أبعد من ذلك، حيث يقول بأن المصلحة - وهي ما يترتب على العلّة - تُخصص النص إذا تعارضت معه، قال في ختام بحث المصلحة:
«عُلم مما سبق موقف المصلحة من النصّ، وأنها إذا تعارضت معه في أبواب المعاملات والعادات التي تتغير مصالحها أُخذ بها، وليس هذا إهدارًا للنص بمجرد الرأي، بل هو عمل بالنصوص الكثيرة الدالة على اعتبارها، وأما إذا كانت المصلحة المستفادة من النص لا تتغير فلا يترك النص أصلًا وإنه لا يتصور تعارض بينهما فضلًا عن أن يترك النص بها.
وأما غير المعاملات كالعبادات والمقدرات فلا سبيل إلى عمل المصلحة فيها، والأحكام هنا لا تتغير إلا إذا ألجأتنا الضرورة إلى شيء أُخذ به مقدّرًا بقدْرها
…
(1)
محمد شلبي، تعليل الأحكام، ص 37، وقد سبق إيراد شيء من هذه الاجتهادات في الفصل الثاني.
(2)
محمد شلبي، تعليل الأحكام، ص 56 وقد سبق إيراد شيء من هذه الاجتهادات في الفصل الثاني من هذه الرسالة.
ويُستفاد من هذا أنها تخصص النصوص في النوع الأول، وهو في الحقيقة، جمع بين الدليلين المتعارضين بحمل هذا على حالة، وذاك على حالة أُخرى أو حمل هذا على بعض الأفراد وذاك على البعض الآخر.
ومن أمعن النظر في هذا التعارض وجده صوريًا فقط لأن النص ورد لمصلحة خاصّة فلما انتهت انتهى عمله، أو جاء معلّلًا بعلة خاصة فلما زالت هذه العلة انتهى العمل به. هكذا فهم الصحابة ومن بعدهم»
(1)
.
وتخصيص النص بالمصلحة موضوع ذو شجون، وأَخذ ورد، وليس هذا موضع بسطه.
أما الأستاذ مصطفى الزرقاء - متّع اللَّه بعلمه - فقد تعرض لهذه المسألة - على خلاف المتوقع - عند بحثه نظرية العرف حيث قال: «إذا كان النص التشريعي معلَّلًا بعلة ينفيها العرف الحادث، سواء أكانت علة النص مصرّحًا بها فيه، أو مستنبطة استنباطًا بطريق الاجتهاد، ففي مثل هذه الحالة يُعتبر العرف الحادث، ويُحترم وإن خالف النص، لأن هذه المخالفة تصبح ظاهرية غير حقيقية ما دامت علة النص تنتفي بوجود العرف، إذ من المقرر في قواعد الأصول أن الحكم الشرعي يدور مع علته، فيثبت عند ثبوتها، وينتفي بانتفائها، وهناك شواهد فقهية عديدة على هذا المبدأ في اعتبار العرف الحادث نورد بعضها فيما يلي»
(2)
.
وأورد اجتهاد الحنفية في الحديث "نهى عن بيع وشرط"
(3)
حيث استثنوا من عموم هذا النهي الشرط الذي يتعارفه الناس ومستندهم في ذلك: «هو
(1)
محمد شلبي، تعليل الأحكام، ص 321.
(2)
مصطفى الزرقاء، المدخل الفقهي العام، ط 9، دار الفكر، بيروت، ج 2، ص 905، وسيشار له بـ مصطفى الزرقاء، المدخل الفقهي العام.
(3)
هذا الحديث لا أصل له، روي في حكاية عن أبي حنيفة ثم تداوله الفقهاء، ويغني عنه ما رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم (3758):"ما كان من شرط ليس في كتاب اللَّه فهو باطل". وانظر: الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ط 3، المكتب الإسلامي، ج 1، ص 491.
النظر في علة الحديث النبوي الذي نص على منع الشرط في البيع، فقد اعتبروا أن الغرض التشريعي منه، هو منع سبب المنازعة، لأن هذه الشروط الزائدة على أصل عقد البيع يفضي تنفيذها وكيفيته إلى النزاع غالبًا، فرأوا أن العرف إذا جرى على بعضها ينفي النزاع، إذ يجعل الأمر معلومًا مألوفًا فلا يكون العرف قاضيًا على النص بل موافقًا لغرضه وروحه ولو كان عرفًا حادثًا»
(1)
.
ولما كان التخصيص في المثال المذكور ناشئًا عن العلة لا عن العرف الحادث، تنبَّه الأستاذ الزرقا لهذا الأمر واستدرك في حاشية الطبعات الجديدة من كتابه قائلًا: «يتضح من ذلك أن اعتبار العرف الحادث المخالف في الظاهر لعموم النص التشريعي ليس من قبيل تخصيص النص العام بعرف حادث؛ لأن من شرائط تخصيص النص التشريعي العام أن يكون دليل تخصيصه مقارنًا له في الوجود
…
ولكن اعتبار العرف الحادث الذي يزيل علة النص هو نتيجة لاعتبار النص مخصَّصًا بمقتضى علته، فهو تخصيص بالعلة لا بالعرف الحادث، وما اعتبار العرف الحادث إذا كان نافيًا لتلك العلة إلا تطبيق لذلك التخصيص سابق الاعتبار»
(2)
.
وقال بعد بيان اختباط بعض الكاتبين في تخريج هذه المسألة:
(3)
.
وأما الدكتور البوطي فقد أضاف - كما هو شأنه في كتابه الضوابط - قيدًا جديدًا في مسألة تخصيص النص بالعلة، وهو أن تكون هذه العلة المخصِّصة
(1)
مصطفى الزرقاء، المدخل الفقهي العام، ج 2، ص 907.
(2)
المرجع السابق، ج 2، ص 907 بتصرف.
(3)
المرجع السابق، ج 2، ص 319.
لأصلها منصوصة أو مجمعًا عليها، فقال بأنه لا عبرة بالعرف الحادث إذا وقع في معارضة النص «وليس من خلاف بين المسلمين في هذا إلا إذا كان النص معلَّلًا وكان العرف الحادث مزيلًا لتلك العلة، ففي هذه الصورة مجال للبحث والنقاش ويرجِح فضيلة الأستاذ الزرقا [والكلام لا يزال للبوطي] في كتابه المدخل الفقهي القول بحجية العرف في مثل هذه الحال» ثم أورد طرفًا مما سبق نقله من كلام الزرقا وقال: «وهذا الذي يراه الأستاذ الزرقا دقيقٌ ووجيه ولا أظن إلا أنه الحق الذي ينبغي أن يقول به عامة الأصوليين
…
إلا أنه ينبغي اشتراط كون علة مثل هذا النص ثابتة بالإجماع أو بدلالة النص فحينئذ يمكن أن نطمئن إلى أن اختلاف العرف أو طروءه المؤثر في العلة الثابتة مؤثر في الحكم المرتبط به أيضًا»
(1)
.
وهذا القيد الذي قرره البوطي غير وجيه فيما أرى، لأن العلل المنصوصة والمجمع عليها من الندرة بمكان فيترتب على هذا القيد تعطيل الاجتهاد بالتعليل - والتعليل أصل في كل حكم - إلا في حدود ضيقة جدًا، هذا فضلًا عن كون هذا القيد مما لا دليل عليه بل إنه مخالف لما درج عليه الأولون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الفقهاء.
وأما الدكتور السعدي الهيتي فلم يعط هذه المسألة حقها من البحث في كتابه مباحث العلة عند الأصوليين، وإنما تعرض لما شرطه الأصوليون لصحة العلة أن لا تعود على أصلها بالإبطال ولم يزد عما قرره الزركشي - في كتابه البحر المحيط - من القول في المسألة
(2)
.
(1)
د. محمد سعيد البوطي، ضوابط المصلحة، ص 251 - 253.
(2)
انظر: د. عبد الحكيم السعدي الهيتي، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، ط 1، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1406 هـ، ص 264 - 267.
وأما الأستاذ أحمد الريسوني فقد نادى - وهو بصدد بحث مجالات العقل في تقدير المصالح - بما سماه «التفسير المصلحي للنصوص» قال: «وأعني بذلك أن تفسير الفقهاء للنصوص واستنباطهم منها، تُستحضر فيه وتستصحب المعاني والحكم والمصالح التي يعمل الشرع على تحقيقها ورعايتها، وهو ما يكون له أثره في فهم النص وتوجيهه والاستنباط منه، فقد يُصرف النص عن ظاهره وقد يُقيّد أو يُخصص، وقد يُعمم وظاهره الخصوصية، ودور العقل هنا يتمثل في تقدير المصلحة التي يستهدف النص تحقيقها، إذا لم يكن مصرحًا بها طبعًا، ثم تفسير النص بما يحققها مع عدم الغفلة عن مختلف المصالح والمفاسد التي لها صلة بموضوع ذلك النص ومعلوم أن أحد مسالك التعليل هو مسلك المناسبة وهو مسلك عقلي إلى حد كبير ولعلّ أكثر التعليلات الدائرة في الفقه تقوم على هذا المسلك بحيث تنبني عليه اجتهادات وقياسات واستنباطات لا تُحصى وكلها عبارة عن تفسير مصلحي للنصوص، وفي هذا يقول الدكتور حسين حامد حسان وهو يشير إلى آفاق (نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي):"وقد ينص الشارع على حكم واقعة، دون أن يدل النص على المصلحة التي قُصد بالنص تحقيقها ويجد الفقيه أن فهم النص وتحديد مضمونه ونطاق تطبيقه يتوقف على معرفة هذه المصلحة فعند ذلك يجتهد الفقيه في التعرف على هذه المصلحة أو الحكمة أو العلة أو الوصف المناسب، مسترشدًا بروح الشريعة وعللها المنصوصة، وقواعدها أو مصالحها المستنبطة، فإذا ما توصل إلى هذه الحكمة وتعرف على تلك المصلحة فسَّر النص في ضوئها وحدد نطاق تطبيقه على أساسها"
(1)
»
(2)
.
(1)
د. حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، ط 1، دار الكتاب العربي، مصر، 1981، ص م.
(2)
أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط 1، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1412 هـ، ص 230.
المبحث الثاني
عرض أدلة الأصوليين في «تأثير تعليل النص على دلالته» ومناقشتها
ويشتمل هذا المبحث على مطلبين:
المطلب الأول: أدلة المجيزين لتأثير تعليل النص على دلالته ومناقشتها
المطلب الثاني: أدلة المانعين من تأثير تعليل النص على دلالته ومناقشتها
المطلب الأول
أدلة المجيزين لتأثير تعليل النص على دلالته ومناقشتها
سبق نقل جواز تأثير تعليل النص على دلالته عن الغزالي وعزاه إلى الأئمة مالك وأبي حنيفة والشافعي وعن ابن السبكي والإسنوي وابن دقيق العيد وابن القيم وابن تيمية والشاطبي ومشايخ سمرقند من الحنفية وأبي الخطاب وابن عقيل الحنبليين.
وهؤلاء المجيزون لا يذكرون - في جملتهم - أدلة خاصة على ما ذهبوا إليه إلا أن بعضهم استدل بما يلي:
الدليل الأول: ما روي من اجتهاد الصحابة بالوصال في الصوم مع علمهم بالنهي «تحقُّقًا بأن مغزى النهي الرفق والرحمة لا أنّ مقصود النهي عدم إيقاع الصوم ولا تقليله»
(1)
وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على هذا الاجتهاد.
وقد سبق توضيح هذا الاجتهاد ومناقشته أثناء الحديث عن اجتهادات الصحابة في الفصل الثاني فلا حاجة لتكرار القول هاهنا.
الدليل الثاني: القياس على جواز تخصيص العام بالقياس.
العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد
(2)
والقياس هو إلحاق فرع بأصل في الحكم لاشتراكهما في العلة المقتضية للحكم
(3)
.
(1)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 150.
(2)
الرازي، المحصول، ج 1، ص 353.
(3)
انظر: محمد بن أحمد التلمساني، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت 1403 هـ، ص 129، وسيشار له بـ التلمساني، مفتاح الوصول. ومحمد الخضري بك، أصول الفقه، ط 7، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1412 هـ، ص 288، وسيشار له بـ الخضري، أصول الفقه.
وإذن، فتخصيص العام بالقياس يعني: قصر العام على بعض ما يصلح له بدليل القياس، أو هو إخراج بعض أفراد العام عن حكمه لاندراج هذا البعض تحت حكمٍ آخر يقتضيه القياس.
ومثال ذلك إباحة بعض الشافعية
(1)
قطع «الشوك الذي يعترض طريق الحجيج في البلد الحرام» بدليل القياس على إباحة قتل الفواسق الخمس الثابتة بالحديث «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم .... »
(2)
وذلك لاشتراك «الشوك الذي يعترض طريق الحجيج» و «الفواسق الخمس» بعلة الإيذاء.
مع أن هذا القياس معارض بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في البلد الحرام: "هو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده .... "
(3)
.
وجه ابتناء القول بتأثير تعليل النص على دلالته على القول بجواز تخصيص العام بالقياس:
تخصيص العام بالقياس إنما هو صرف للنص عن معناه الظاهر إلى معناه المؤول بمقتضى العلة.
وبيان ذلك - من خلال المثال المتقدم - أنه قد وقع تعارض في «الشوك الذي يعترض طريق الحجيج» في أرض الحرم بين مقتضى ظاهر النص وبين مقتضى العلة.
(1)
انظر: النووي، منهاج الطالبين، مع شرحه مغني المحتاج، ج 1، ص 528 والبوطي، ضوابط المصلحة، ص 175.
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1829).
(3)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1834).
فمقتضى ظاهر النص "لا يعضد شوكه" يتناوله بحكمة وهو عدم جواز التخلص منه بقطع أو غيره ومقتضى العلة المستنبطة من الحديث خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم
…
وهي الإيذاء يتناوله بحكمه وهو جواز التخلص منه بقطع أو غيره.
ولدفع هذا التعارض وجمعًا بين دليلي العموم والعلة قيل بتخصيص عموم النص بالعلة، وتخصيص العموم صرفٌ للنص عن معناه الظاهر إلى المعنى المؤول، وعليه، فالقول بتخصيص العام بالقياس ما هو إلا قول بتقديم مقتضى العلة على مقتضى ظاهر النص عند التعارض، فإذا كان كذلك فأيُّ فرق بين أن يُقدم مقتضى العلة المستنبطة من نص ما على مقتضى ظاهر نص آخر - كما هو الحال في تخصيص العام بالقياس - وبين أن يُقدم مقتضى العلة المستنبطة من نص ما على مقتضى ظاهر النص نفسه الذي استُنبطت منه العلة - كما هو الحال في تأثير تعليل النص على دلالته -؟.
أليس ذاك نصًا بطل ظاهره بالعلة وهذا كذلك؟
وأليس القول بتقديم مقتضى العلة على مقتضى النص عند التعارض حاصل في الحالين؟
وإذن، فمن قال بجواز تخصيص العام بالقياس - وهم الجمهور من الأصوليين
(1)
- يلزمه بلا بد القول بتأثير تعليل النص على دلالته، لاسيما وقد أشار إلى ابتناء القول بتأثير تعليل النص على دلالته على القول بتخصيص العام
(1)
انظر: أبو الحسين البصري، المعتمد، ج 2، ص 275. والرازي، المحصول، ج 1، ص 436، والزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 369 - 374 وابن الهمام، التحرير، ج 1، ص 321.
بالقياس الإسنوي، رحمه الله، حيث رجح جواز أن تعود العلة على أصلها بالتخصيص قياسًا على جواز تخصيص اللفظ العام بها
(1)
.
وأشار إلى ذلك أيضًا الصفي الهندي رحمه الله، وذلك حينما انتقد اشتراط الأصوليين لصحة العلة المستنبطة من أصل ما أن لا تعود على أصلها الذي استنبطت منه بالإبطال فقال:«هذا الشرط صحيح إن عني بذلك إبطاله [أي الأصل] بالكلية، فأما إذا لزم فيه تخصيص الحكم ببعض الأفراد دون البعض فينبغي أن يجوز لأنه كتخصيص العلة لحكم نص آخر [وهذا هو التخصيص بالقياس] وهو جائز فكذا هذا»
(2)
.
إلا أن بعض الأصوليين قد اعترض على التسوية بين تخصيص النص بما يستنبط منه من علة وبين تخصيص النص بعلة مستنبطة من نص آخر، بأن الحالة الأولى تتضمن عود الفرع على أصله بالإبطال - وهذا لا يصح - بخلاف الحالة الثانية لأن العلة لا تخصص أصلها وإنما تخصص نصًا آخر. قال أبو إسحاق الشيرازي:«القياس الجلي يجوز التخصيص به قطعًا، وأما الخفي فإن كان مستنبطًا من الأصل لم يجز تخصيصه به قطعًا لأنه يعترض الفرع على أصله وهو لا يصح، وإن كان غير مستنبط من الأصل جاز»
(3)
.
وهذا الاعتراض صحيح إذا سُلّم بأن عود العلة على أصلها بالتخصيص إنما هو إبطال له، ولكنَّ هذا ليس بمسلم كما سيأتي بيانه في المطلب التالي.
الدليل الثالث: وهو دليل لغوي وذلك «أنّ [والكلام للشاطبي] كلام العرب على الإطلاق لابد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلا
(1)
انظر: العطار، حاشية العطار على جمع الجوامع، ج 2، ص 291 وليس هو في شرح الإسنوي على المنهاج.
(2)
نقله عنه الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 153.
(3)
نقله عنه الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 347، مع حذف ما لا حاجة إليه ولم أجده بنصه في شرح اللمع.
صار ضحكة وهزءة، ألا ترى إلى قولهم: فلان أسد أو حمار أو عظيم الرماد أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط
(1)
وما لا ينحصر من الأمثلة ولو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول فما ظنك بكلام اللَّه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم»
(2)
.
وقال الغزالي بعد تجويزه لتخصيص النص بما يستنبط منه من عله «فهذا نوع تخصيص بعلة مستنبطة من المخصوص وليس أمثاله ممنوعًا إذ العام يطلق ويراد به الخاص وهو غالب في عادة العرب واتباع المعنى أولى من الجمود على الصيغة»
(3)
.
(4)
.
ويمكن الاعتراض على هذا الاستدلال بأن نقل الخاص إلى العام والعام إلى الخاص بالعلة، وإن أمكن أن يكون تصرفا لغويًا، إلا أنه ليس على إطلاقه كذلك، بل لا يكون هذا التصرف لغويًا إلا حيث كانت العلة قاطعة أو ظاهرة ظهورًا قويًا كما في قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] إذ لا يقتصرُ النهي على التأفف وإنما يعم كل ما يؤدي إلى
(1)
القرط: ما يعلق بالأذن (الحلق) وبعيدة مهوى القرط كناية عن طول العنق. انظر: المعجم الوسيط، ج 2، ص 755.
(2)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 147.
(3)
الغزالي، شفاء الغليل، ص 87.
(4)
ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 1، ص 219.
الإيذاء، وهذا ما يسميه الأصوليون بمفهوم الموافقة
(1)
أو دلالة النص
(2)
، ولا خلاف في التخصيص والتعميم بمثل هذه العلل إلا عند من شذ من الظاهرية
(3)
.
وأما العلل التي تحتاج إلى تأمل وتفكير واستنباط - وهي التي وقع النزاع بتأثيرها على النص - فلا يمكن الادعاء بأن تعميم النص وتخصيصه بها هو من قبيل الدلالة اللغوية لنفس النص الذي استنبطت منه والدليل على ذلك أن غير المجتهد - حتى لو كان لغويا - لا يقوى على فهم هذا التعميم أو التخصيص بمجرد سماع النص بخلاف الحال في مفهوم الموافقة حيث يدرك ذلك كل عالم باللغة.
وادعاء ابن رشد
(4)
- وهو ما قد يُفهم من كلام ابن القيم
(5)
- بأن القياس، أو بعبارة أخرى تعميم الحكم بالعلة إنما هو من قبيل الدلالة اللغوية للنص الشرعي - على الرغم من أن له وجهًا إلا أنه يبقى محلًا للنظر.
الدليل الرابع: وهو أوجه نظرية ثلاثة ذكرها الشاطبي:
أحدها: أنه «قد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعًا، وأن الأوامر والنواهي مشتملة عليها، فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق لكنا قد خالفنا الشارع من حيث قصدنا موافقته، فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة، فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر كنا قد أهملنا في
(1)
وهو إطلاق الجمهور انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 4، ص 7 - 11 ومحمد الخضري أصول الفقه، ص 122.
(2)
وهو إطلاق الحنفية انظر: ابن الهمام، التحرير، ج 1، ص 90، ومحمد الخضري، أصول الفقه ص 122.
(3)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 4، ص 10.
(4)
انظر: ابن رشد، الضروري في أصول الفقه، ص 130 - 131.
(5)
انظر: ابن القيم، إعلام الموقعين، ص 218 وما بعدها، ص 337 وما بعدها.
الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه فيوشك أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر»
(1)
.
والوجه الثاني: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أشياء وأمر بأشياء وأطلق القول فيها ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة، والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة وقد تقدم أن المكلف جُعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومُنّته
(2)
، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردًا من الالتفات إلى المعاني»
(3)
.
(4)
.
وهذه الأوجه التي يذكرها الشاطبي في تدعيم القول بلزوم النظر إلى علة النص وإن أدى ذلك إلى التأثير على ظاهره أوجه قوية، إلا أنه يمكن الاعتراض على الوجه الأخير منها بأن ما ذكر من أن دلالة الأوامر على الوجوب أو الندب والنواهي على التحريم أو الكراهة لا تُعلم بالتحديد إلا من خلال
(1)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 150.
(2)
المُنَّة بضم الميم وتشديد النون: القوة والطاقة. انظر: المعجم الوسيط، ج 2، ص 924.
(3)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 151.
(4)
المرجع السابق، ج 3، ص 153.
اتّباع المعاني فهذا صحيح عند من يقولون
(1)
- ومنهم الشاطبي
(2)
- بالوقف
(3)
أو الاشتراك
(4)
في دلالة الأمر بين الوجوب والندب وفي دلالة النهي بين التحريم والكراهة.
أمّا جمهور الأصوليين
(5)
القائل بأن الأصل في الأمر الوجوب وفي النهي التحريم فلا يرد عليه أن التفرقة بين الأوامر ما كان منها أمر وجوب أو ندب، وبين النواهي ما كان منها نهي تحريم أو كراهة لا تكون إلا باتباع المعاني، لأنه حيث لا قرينة صارفة للأمر أو النهي تبقى دلالتهما على أصلها من الوجوب أو التحريم ولا لزوم لاتباع المعنى أو العلة كما ادعاه الشاطبي.
(1)
كالأشعري والباقلاني والغزالي وأبي منصور الماتريدي، وعُزي إلى الشافعي انظر: الشوكاني، إرشاد الفحول، ص 169.
(2)
انظر: الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 210.
(3)
وصفة الوقف أنهم يقولون: الأمر إما حقيقة في الوجوب وإما حقيقة في الندب وإما مشترك بينها لكنا ما ندري ما هو الواقع من هذه الأقسام الثلاثة، لذلك لا يتعين معنى الأمر عندهم إلا بالقرينة انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 2، ص 368.
(4)
إما الاشتراك اللفظي كالقرء للحيض وللطهر وإما الاشتراك المعنوي بأن يدل الأمر على مطلق الطلب ويحصل التفريق بين أمر الوجوب وغيره بالقرائن انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 2، ص 368.
(5)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 2، ص 365 والشوكاني، إرشاد الفحول، ص 169.
المطلب الثاني
أدلة المانعين من تأثير تعليل النص على دلالته ومناقشتها
سبق نقل المنع من تأثير تعليل النص على دلالته عن القاضي الباقلاني وإمام الحرمين، وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي منصور البغدادي وأبي إسحاق الشيرازي ومشايخ العراق من الحنفية كالدبوسي والبزدوي والسرخسي وغيرهم.
ويمكن تقسيم أدلتهم على ما ذهبوا إليه إلى قسمين:
الأول: الأدلة النقلية.
الثاني: الأدلة النظرية.
ولذا كان هذا المطلب في مقصدين:
المقصد الأول: الأدلة النقلية للمانعين من «تأثير تعليل النص على دلالته» ومناقشتها.
المقصد الثاني: الأدلة النظرية للمانعين من «تأثير تعليل النص على دلالته» ومناقشتها.
المقصد الأول
الأدلة النقلية للمانعين من تأثير تعليل النص على دلالته ومناقشتها
وهذه الأدلة عبارة عن وقائع اجتهادية صدرت عن الصحابة رضوان اللَّه عليهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن تصنيف هذه الوقائع ضمن نوعين:
النوع الأول: وقائع تضمنت اجتهادات للصحابة رضوان اللَّه عليهم انبنت على اتباع الظاهر دون الالتفات إلى العلة فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها.
النوع الثاني: وقائع تضمنت اجتهادات للصحابة رضوان اللَّه عليهم انبنت على التعليل فلم يقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها
أما أمثلة النوع الأول فقد ذكر منها الشاطبي ما يلي:
1 -
حديث الصلاة في بني قريظة
(1)
حيث إن الصحابة الذين أخروا صلاة العصر إلى ما بعد المغرب إنّما ساروا وراء الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم وتركوا الالتفات إلى علة هذا القول مع وضوحها.
وقد سبق في الفصل الثاني من هذه الرسالة مناقشة هذا الدليل وتوجيهه فلا حاجة لتكرار القول هاهنا.
2 -
ما رواه أبو داود من أنّ ابن مسعود رضي الله عنه جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فسمعه يقول: "اجلسوا" فجلس بباب المسجد فرآه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: تعال يا عبد اللَّه
(2)
.
(1)
انظر: الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 145.
(2)
أبو داود، السنن، ج 1، ص 286، وانظر: الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 145.
ووجه دلالة هذا الحديث على جواز اتباع الظاهر واضح، إذ إن ابن مسعود جرى مع ظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالجلوس فجلس بباب المسجد مع أنّ الغالب على الظن أنه ليس مقصودًا في الخطاب وإنما المقصود من حضر من الصحابة في المسجد، فكأن ابن مسعود في هذا الاجتهاد كان جاريًا مع الصيغة دون الالتفات إلى القصد، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ويرد على هذا الدليل أن حديث ابن مسعود هذا لا يصح موصولًا وإنما هو مرسل من رواية عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: قد رواه أبو داود من طريق مخلد بن يزيد ثنا ابن جريح عن عطاء عن جابر به
(1)
وهذا موصول من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه.
فالجواب عليه هو أنّه لم يصلْ هذا الحديث سوى مخلد بن يزيد وهو ليس ممن يُحتمل تفرده
(2)
لذلك قال أبو داود عقب رواية الحديث: «هذا يعرف مرسل إنّما رواه الناس عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومخلد هو شيخ
(3)
»
(4)
.
وعلى فرض صحة هذا الحديث أو قبوله - لأن المرسل حجة عند جمع من العلماء
(5)
- فإن دلالته على اتباع ظاهر اللفظ دون الالتفات إلى العلة تظل محل نظر وذلك لأن علة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالجلوس ليست واضحة في
(1)
أبو داود، السنن، ج 1، ص 286.
(2)
قال فيه الإمام أحمد: «لا بأس به وكان يهم» وقال ابن حجر: «صدوق له أوهام» انظر: الحافظ المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413 هـ، ج 27، ص 345، وابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب، ط 3، دار الرشيد، حلب، 1411 هـ، ص 524.
(3)
قال الذهبي في ترجمة العباس بن الفضل: قال أبو حاتم: شيخ، فقوله هو شيخ ليس هي عبارة جرح ولكنها أيضًا ما هي بعبارة توثيق وبالاستقراء يلوح لك أنه ليس بحجة» الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، مطبعة السعادة، القاهرة، 1325 هـ ج 2، ص 19 بحذف يسير. أفاده العلامة أبو غدة في تعليقاته على الرفع والتكميل، لمحمد اللكنوي، ط 3، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، 1407 هـ، ص 150.
(4)
أبو داود، السنن، ج 1، ص 286.
(5)
كأبي حنيفة ومالك وأحمد، انظر: ابن الصلاح، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، دار الفكر، بيروت، 1408 هـ، ص 26.
الحديث حتى يقال بأنَّ ابن مسعود ترك الالتفات إليها هذا فضلًا عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرَّ ابن مسعود على اجتهاده هذا تمامًا إذ قال له: "تعال".
3 -
ما رُوي أن عبد اللَّه بن رواحة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اجلسوا" فجلس بالطريق فمرّ به صلى الله عليه وسلم فقال: "ما شأنك" فقال: سمعتك تقول: "اجلسوا" فقال له: "زادك اللَّه طاعة"
(1)
.
ووجه دلالة هذا الحديث على اتباع الظاهر دون الالتفات إلى العلة كهي في الحديث السابق مع مزيد وضوح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثنى على اجتهاد عبد اللَّه بن رواحة هذا بخلاف ما سبق من اجتهاد ابن مسعود.
ويرد على هذا الحديث أنه ليس في كتب السنة المشهورة وإنما عزاه صاحب كنز العمال إلى ابن عساكر والديلمي والعزو إلى هذين المصدرين وحدهما مشعر بضعف الحديث لاسيما وقد ذكر المتقي الهندي صاحب الكنز في مقدمة كتابه أن ما عزاه إلى هذين المصدرين دون غيرهما من كتب السنة المشهورة فهو ضعيف
(2)
.
وأما أمثلة النوع الثاني - وهي الاجتهادات المبنية على التعليل ولم يقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها - فقد ذكر الشاطبي منها مثالًا واحدًا وهو:
1 -
ما روي عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أنه قال: "كنت أصلي فمر بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل اللَّه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] "
(3)
.
(1)
رواه ابن عساكر والديلمي، انظر: المتقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 هـ، ج 13، ص 450. وانظر: الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 145.
(2)
انظر: المتقي الهندي، كنز العمال، ج 1، ص 10.
(3)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (4647).
قال الشاطبي: «فهذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى النظر لمجرّد الأمر وإن كان ثَمَّ معارض»
(1)
.
ويرد على هذا الدليل أن اجتهاد أبي سعيد في هذه الواقعة ليس هو من قبيل تأثر النص بما يستنبط منه من علة، وذلك لأن علة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجابته غير معروفة حتى يقال بأن أبا سعيد فهم من علة الأمر عدم لزوم الإجابة على الفور.
وإنما الذي صنع أبو سعيد هو الموازنة بين حكمين شرعيين: -
الأول: يقضي بإتمام الصلاة وهو مأخوذ من الآية: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وغيرها من الدلائل.
والآخر: يقضي بقطع الصلاة وهو مأخوذ من أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالإجابة.
فجمع أبو سعيد بين النصين بأن أتم الصلاة ثم أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. وقد أخطأ في هذا الاجتهاد؛ لأن إتمام النافلة نافلة وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم فرض ولا تقدم النافلة على الفرض، فلامه صلى الله عليه وسلم على ذلك بيانًا لخطأ هذا الاجتهاد، وعليه، فلا دلالة في الحديث على عدم جواز تأثير تعليل النص على دلالته واللَّه أعلم.
وبالإمكان إضافة مثال آخر على هذا النوع أكثر وضوحًا وهو:
2 -
ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: "لددْنا
(2)
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه، وجعل يشير إلينا: لا تلدُّوني، قالت: فقلنا: كراهيةَ المريض للدواء، فلما أفاق قال: ألم أنهكن أن تلدوني؟ قالت: قلنا: كراهية للدواء، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: لا يبقى أحدٌ منكم إلا لُدَّ وأنا أنظر"
(3)
.
(1)
الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص 145.
(2)
أي وضعنا الدواء في جانب فمه دون اختياره ورضاه. انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 7، ص 754 والمعجم الوسيط، ج 2، ص 854.
(3)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (6886).
في هذا الحديث عَمِدت نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مخالفة ظاهر نهي النبي صلى الله عليه وسلم لهنّ عن صب الدواء في فمه دون اختياره وذلك بناء على حملهن هذا النهي على أنه إنما كان لعلة كراهية المريض للدواء إذا لم يوافقه، وفي هذه الحالة لا يؤخذ بأمر المريض ونهيه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أفاق من إغمائته لم يقبل باجتهادهن هذا في مورد نهيه صلى الله عليه وسلم ولذلك عاقبهن بأن يُلددْن جميعًا حتى من كانت منهن صائمة كما جاء ذلك في بعض الروايات
(1)
.
وهذا الدليل من القوة بمكان إلا أنه يمكن الجواب عليه بما يلي:
أولًا: أن هذا الحديث لا يتضمن نصًا شرعيًا ورد لتقرير حكم شرعي معين، وإنما كان نهي النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته عن لدّه أمرًا جبليًا يتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم من حيث إرادته أو عدم إرادته التداوي بدواء معين أو غيره، وهذا خارج عن أمر التشريع، وما كان كذلك فلا ينبغي التجاسر عليه وعلى ظاهره بالتعليل بخلاف نصوص الشريعة التي جاءت لتقرير أحكام مصلحية ظاهرة.
ثانيًا: أن تأويل أزواجه صلى الله عليه وسلم لنهيه أنه كان من أجل كراهية الدواء كان تأويلًا بعيدًا وذلك لما عُلم من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتداوى ويأمر بالتداوي، والتأويل البعيد - حتى لو كان بالتعليل - فهو مردود، قال ابن حجر رحمه الله:
«ويستفاد منه [أي الحديث السابق] أن التأويل البعيد لا يعذر به صاحبه»
(2)
.
(1)
انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 7، ص 755.
(2)
المرجع السابق، ج 7، ص 754.
ومما يستدل به أيضًا على منع تأثير تعليل النص على دلالته من اجتهادات الصحابة رضوان اللَّه عليهم اجتهادهم - وهو لا يندرج تحت أي من النوعين آنفي الذكر - في مسألة الرمل في الطواف.
وذلك أن الرمل في الطواف - وهو شدة السعي في الأشواط الثلاثة الأولى - شُرع لعلة إظهار القوة للمشركين وقد زالت هذه العلة بعد فتح مكة وتطهيرها منهم إلا أن حكم الرمل لم يَزُلْ بل بقي الصحابة ومن بعدهم يرملون في هذه الأشواط.
قال ابن عباس، رضي الله عنهما:"قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم"
(1)
.
وفي هذا دليل على عدم جواز تخصيص العموم الزمني للنص الشرعي بما يُستفاد منه من علة أو بعبارة أخرى دليل على عدم جواز تأثير تعليل النص على دلالته.
ويرد على هذا الدليل أنه يمكن القول بأن العلة لابتداء حكم الرمل وإن زالت إلا أن استمرار حكم الرمل ثبت لعلة أخرى، وهي التذكير بما كان عليه حال المسلمين من الخوف والمعاناة وكيف آل الأمر إلى انتشار الإسلام وعموم الأمن وخروج المشركين من جزيرة العرب، وهذا بدوره يذكر بفضل اللَّه ونعمته مما يدفع إلى حمده وشكره، وهذه معاني عبادية لا يهيجها شيء مثل الاتباع ولو في الصورة، وقد ألمح إلى شيء من ذلك عمر رضي الله عنه حين قال:
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1602).
"ما لنا وللرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم اللَّه" ثم قال: "شيء صنعه النبي
(1)
صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه"
(2)
.
(3)
.
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله: «الأصل أن تزول الأحكام بزوال عللها» وذكر أمثلة لذلك ثم قال: «وقد شُرع الرمل في الطواف لإيهام المشركين قوة المؤمنين وقد زال ذلك والرمل مشرع إلى يوم الدين، ومثل هذا لا يُقاس عليه، لأن القياس فرع لفهم المعنى، ويجوز أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع مع زوال السبب تذكيرًا لنعمة الأمن بعد الخوف لنشكر عليها فقد أمرنا اللَّه بذكر نِعَمَهُ في غير موضع من كتابه وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها»
(4)
.
وهذا الجواب الذي أفاده العز وابن حجر رحمهما اللَّه أولى مما أجاب به الأستاذ شلبي بقوله - بعد إيراد قول عمر رضي الله عنه في الرمل: - «ولعلك تلمس من أثر عمر هذا شيئًا يميز لك بين نوعين من الأحكام فكثيرًا ما نراه، رضي الله عنه، يعلل تبعًا
(1)
يعني - واللَّه أعلم - أنه صنعه في حجة الوداع وليس يومئذ في مكة مشرك كما ثبت ذلك في الصحيح، انظر: البخاري، الصحيح، حديث رقم (1604).
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1605).
(3)
ابن حجر، فتح الباري، ج 3، ص 551.
(4)
عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، مؤسسة الريان، بيروت، 1410 هـ، ج 2، ص 191.
للمصلحة وإن أدى ذلك إلى ترك ظواهر النصوص أو تخصيصها، ولكنه رأى في هذا الفعل - الرَّمل - أنه وإن كانت العلة قد زالت فلم يجد مصلحة في تركه ولا يترتب على فعله مفسدة، ومثل هذا لا يُترك»
(1)
.
ووجه الأولوية هو أن الفعل لا لمصلحة وإن لم يترتب عليه مفسدة أقرب إلى العبث منه إلى التشريع، ومثل هذا الفعل ينبغي أن يترك بخلاف ما قاله شلبي، وعلى أي تقدير فإن دلالة استمرار حكم الرمل على وجوب اتباع الظاهر من غير نظر إلى العلة - بعدما سبق من جواب - تصبح في محل نظر.
(1)
محمد شلبي، تعليل الأحكام، ص 70.
المقصد الثاني
الأدلة النظرية للمانعين من تأثير تعليل النص على دلالته ومناقشتها
ويمكن في هذا الصدد ذكر أدلة أربعة:
الدليل الأول: - وهو الذي يذكره أكثر الأصوليين
(1)
- أن الاجتهاد المبنيَّ على تأثير تعليل النص على دلالته هو اجتهاد تضمّن إبطال الفرع لأصله وهو باطل؛ لأن الفرع إذ أبطل أصله أبطل نفسه.
ووجه ذلك أنّ النص أصل والعلة فرع تولّد عن هذا الأصل، فإذا عادت العلة على النص بإبطال كله أو بعضه كأن تخصص من عمومه، أو تقيّد من إطلاقه، أو تصرفه من الحقيقة إلى المجاز أو تبطل مفهومه المخالف، لزم من ذلك أن تبطُل هذه العلة أيضًا، لأن الفْرضَ أن الفرع إنما ثبت بالأصل فإذا بطل الأصل بطل الفرع، وإذن فاعتبار الفرع على هذا الوجه مؤدٍّ إلى عدم اعتباره، وتصحيحه مؤدٍّ إلى إبطاله وهذا تناقض لا يُتصوّر فهو باطل وكذا ما أدى إليه، فوجب أن يُشترط في التعليل حتى يصحّ أن لا يعود على أصله وهو النص بالإبطال، وهذا بالفعل ما أجمع عليه الأصوليون، قال ابن حجر رحمه الله:«اتفقوا على أنه لا يجوز أن يُستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال»
(2)
.
(1)
انظر: الغزالي، المنخول، ص 201، والآمدي، الإحكام، ج 3، ص 354 والزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 152، وعضد الدين الأيجي، شرح مختصر ابن الحاجب، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403، هـ، ج 2، ص 228 وابن الهمام، التحرير، ج 4، ص 31.
(2)
ابن حجر، فتح الباري، ج 12، ص 75.
ويمكن الاعتراض على هذا الدليل بالقول:
إنه من المسلم به أن معرفة العلة فرع عن دلالة النص، ومن المسلم به أيضًا أنه لا يصح للفرع أن يعود على أصله بالإبطال، إلا أن المنازعة قائمة في إسقاط هذه القاعدة على محل النزاع، وذلك لأن تأويل النص بصرفه من العموم إلى الخصوص أو من الخصوص إلى العموم أو بصرفه من الحقيقة إلى المجاز وغير ذلك من أوجه التأويل ليس هو «إبطالًا» للنص، وإنما هو إعمال له في أحد معنييه بكامل دلالته، وإعمال النص - ولو في أحد معنييه - مناف لإبطاله، فليس التأويل إبطالًا وإنما هو ترجيح لأحد معنيي أو محملي النص على الآخر، وشأن التعليل في ترجيح أحد هذين المحملين هو شأن أي قرينة تصرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى المعنى المؤول فلا يُقال بأن هذه القرينة بتأثيرها على النص بالتأويل تكون قد أبطلته.
نعم، يمكن القول بأنها أبطلت ظاهره، ولكنَّ هذا شيء وإبطاله كليا شيء آخر. ومن هنا قال الصفي الهندي، رحمه الله، عندما علّق على اشتراط الأصوليين لصحة العلة أن لا تعود على أصلها بالإبطال:«هذا الشرط صحيح إن عني بذلك إبطاله بالكلية فأما إذا لزم فيه تخصيص الحكم ببعض الأفراد دون البعض فينبغي أن يجوز»
(1)
.
فإن قيل: فما الدليل على أن عَوْد العلّة على ظاهر النص بالإبطال يفترق عن عودها عليه كليًا بذلك، وأن عودها على الظاهر بالإبطال لا يُعدّ من قبيل عود الفرع على أصله بالإبطال لا سيما أن العلة منبثقة عن النص كلّه بكلتا دلالتيه الظاهرة - أو الظنية - والقاطعة؟
(1)
الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 153.
فالجواب هو أنّ القول بانبثاق العلة عن كلا دلالتي النص الظنية والقطعية - وقد سبق شرح هذين الدلالتين في مقتضى النص في الفصل الأول - فيه نظر.
ووجه ذلك أن الدلالة القطعية للنص - وهي ما دلّ عليه النص قطعًا - تكفي بمجردها للتعريف بعلة النص، لذلك فإنها - وحدها دون الدلالة الظنية - هي أصل العلة والعلة فرعها، ومن هنا سبق القول بأنه لا يجوز للعلة أن تعود عليها بالتأثير، وبأن مجال تأثير التعليل على النص يتحدد بما دون المقتضى القطعي للنص، فإذا كان ذلك خرج عود العلة على المقتضى الظني للنص بالإبطال عن كونه عودًا للفرع على أصله بذلك لأنه - وكما سبق القول - ليست العلة فرعًا لمقتضى النص الظني وإنما لمقتضى النص القطعي فقط.
ويمكن توضيح هذا القول بمثال، وهو اجتهاد المالكية في الحديث «القاتل لا يرث»
(1)
، إذ يرى الإمام مالك، رحمه الله، أن القتل المانع من الإرث هو فقط القتل العمد العدوان؛ وذلك لأن العلة في الحرمان من الإرث - كما رآها هو - هي معاملة القاتل المستعجل للإرث بنقيض مقصوده عقوبة له، ومقتضى هذه العلة هو أن لا يحرم القاتل خطأ من الإرث وذلك لعدم توفر قصد الإجرام لديه، وأن لا يحرم كذلك القاتل بحق كمستوفي القصاص وذلك لأنه لا يستحق العقوبة لقيامه بواجبه.
وعليه يكون الإمام مالك قد خصّ بمقتضى العلة هذا عموم الحديث الناصّ على حرمان القاتل - بإطلاق - من الإرث
(2)
.
(1)
سبق تخريجه في المبحث السابق، المطلب الأول.
(2)
انظر: الغزالي، شفاء الغليل، ص 72، والحطاب، مواهب الجليل، ج 6، ص 422.
وللحديث دلالتان:
إحداهما: قطعية وهي تفيد بأن نوعًا على الأقل مما يُسمَّى قتلًا يمنع من الإرث، وهذه الدلالة لا يجوز التأثير عليها بحال؛ لأن ذلك يعني نسخَ حكم منع القتل لاستحقاق الإرث وتعطيلَه، وهذا لا يكون إلا بخطاب من الشارع الحكيم وهو ما لم يرد، ومن هنا أجمع الفقهاء الآخذون بهذا الحديث على أن نوعًا على الأقل من القتل يمنع من الإرث، وهو القتل العمد العدوان، واختلفوا فيما سوى هذا النوع من القتل
(1)
.
والدلالة الثانية: ظنية وهي تفيد بأن جميع أنواع القتل تمنع من الإرث، وهذه الدلالة مأخوذة من عموم لفظ «القاتل» ، وإنّما قيل بأنها ظنية لأن اللفظ العام يقبل - من حيث الاستعمال اللغوي - أن يُراد به الخاص وإن كان الأصل فيه العموم والاستغراق.
فإذا تقرر ما سبق، فإنه من غير المستهجن القول بأن دلالة النص القطعية والتي قضت بأن هناك نوعًا على الأقل من القتل يمنع من الإرث تكفي في إفادة علة الحكم، وذلك لأن العلة إذا استُنبطت بمسلك المناسبة فهي إنما تتولّد من نظر العقل في وجه المصلحة التي من أجلها ربط الشارع «الحكم» بـ «المحكوم فيه» ، وما دامت دلالة النص القطعية كافية في الدلالة على هذا الربط - إذ إنها ربطت بين القتل، وهو الفعل المحكوم فيه، وبين المنع من الإرث، وهو الحكم - فإنه يمكن، بالنظر إليها بمجردها، استنباطُ علة الحكم.
(1)
انظر: سعدي أبو جيب، موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، ط 2، دار الفكر دمشق، 1404 هـ، ج 2، ص 986.
وبناء على ذلك فليس للدلالة الظنية للنص دخْل في إفادة العلة حتى يُقال بأن اجتهاد الإمام مالك في هذا الحديث تضمّن استنباط علة عادت على أصلها بالإبطال.
وإذن فهكذا يمكن القول في كل مثال عادت فيه العلة المستنبطة من نصّ ما على ظاهر هذا النص بالإبطال.
فإن قيل: فما هو مثال عود العلة على أصلها وهي الدلالة القاطعة للنص بالإبطال؟
فالجواب إنه يمكن التمثيل لذلك بمثالين:
المثال الأول: قوله تعالى في القاذفين: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 4 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4، 5]، على فرض عدم تعلّق الاستثناء {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} بعدم قبول الشهادة وإنما بالحكم بالفسق كما هو رأي الحنفية
(1)
.
فلو علّل أحدهم عدم قبول شهادة القاذف بأنه خرج عن حدّ العدالة بالقذف، وهذا يقتضي أنه إذا تاب قُبلت شهادته لأن العدالة تعود بالتوبة، فهذا تعليل عاد على أصله بالإبطال وذلك لأن لفظ التأبيد «أبدًا» أفاد القطع بدوام الحكم في كل الأحوال، والتعليل وهو مظنون أفاد حكما غير ذلك، فإذا تعارض ظني مع قطعي لم يكن شكٌ في بطلان ما هو ظني.
المثال الثاني: تعليل قوله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه إذ أراد أن يضحّي بجذعة
(2)
"اذبحها ولا تصلح لغيرك" وفي رواية "ولن تجزي عن أحد بعدك"
(3)
- بأن
(1)
انظر: الجصاص، أحكام القرآن، ج 5، ص 119.
(2)
والجذعة من المعز: ما دخل السنة الثانية انظر: ابن حجر، فتح الباري ج 10، ص 7.
(3)
البخاري، الصحيح، الأحاديث رقم (5556)، (5557).
ذلك كان لأنه لا يجد مُسنَّة
(1)
يضحي بها، فيُقاس عليه من هو مثله في عدم وجدانه ذلك فيجوز له أن يضحي بما وجد عنده حتى لو لم تستوف أُضحيتُه السنّ المقررة لها شرعًا.
فهذا تعليل عاد على أصله بالإبطال وذلك لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "ولن تجزي عن أحدٍ بعدك" قاطع في الدلالة على تحصيص الحكم بذلك الصحابي فلا يجوز إلحاق غيره به بالتعليل لمنافاة التعليل حينئذ لدلالة النص القاطعة.
الدليل الثاني: هو أن القول بتأثير تعليل النص على دلالته «يُفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح إذ الظن المستفاد من اللفظ أقوى من المستفاد من الاستنباط»
(2)
. ومثل هذا لا يجوز.
ويرد على هذا الدليل أمران:
أحدهما: أن الظن المستفاد من ظاهر النص ليس دائما أقوى وأرجح من الظن المستفاد من العلة، كما هو الحال في كثير من الأمثلة مما مرّ سابقًا وسيرد لاحقًا.
والآخر: أنه حيثما كان الظن المستفاد من ظاهر اللفظ أقوى من الظن المستفاد من العلة لم يجز القول بتأثير العلة على هذا الظاهر كما سبق توضيح ذلك في الفصل الأول. وعلى هذا خرج هذا الدليل عن محلّ النزاع.
الدليل الثالث: وهو ما قاله إلكيا الهراسي من أنه لا يجوز للعلة المستنبطة أن تخصّص عموم النص الذي أُخذت منه «لأنّ العموم ينبغي أن يُفهم ثم يُبحث عن دليله، فإن فهم معنى اللفظ سابق على فهم معناه المستنبط، وإذا فُهم عمومه فكيف يتّجه بناء علة على خلاف ما فُهم منه»
(3)
.
(1)
المسنة من المعز: ما دخل السنة الثالثة انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 10، ص 16.
(2)
الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 152.
(3)
المرجع السابق، ج 3، ص 378.
وقريب من هذا قول الغزالي: «إنّ من منع العلة التي تعكِّر على الأصل بالتخصيص، منع من حيث إن القياس [التعليل] ليس تفسيرًا للألفاظ، فيجب معرفة الحكم أولا، ثم طلب علته»
(1)
.
وقد كفى إلكيا الهراسي المجيزين لتأثير تعليل النص على دلالته مؤونة الاعتراض على هذا الدليل فأجاب عنه بقوله:
(2)
.
الدليل الرابع: وهو ما استشكله الشاطبي على المقدمة العاشرة من الموافقات والتي تنصّ على أنه: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا ويتأخّر العقل فيكون تابعًا فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدْر ما يُسرّحه النقل»
(3)
- من أن بعض الأصوليين قرّر «أنّ المعنى المناسب إذا كان جليًا سابقًا إلى الفهم عند ذكر النص، صحّ تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه، ومثلوا ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»
(4)
فمنعوا - لأجل معنى التشويش - القضاء مع جميع المشوّشات، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب
(1)
الغزالي، شفاء الغليل، ص 84.
(2)
الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 378.
(3)
الشاطبي، الموافقات، ج 1، ص 87.
(4)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (7158) بلفظ قريب.
فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقُّف»
(1)
. وهذا منافٍ للمقدمة آنفة الذكر.
(2)
.
ولا يخفى ضعف هذا الجواب على ذي نظر، وذلك لأنه - على فرض التسليم به من الناحية اللغوية - إنّما يستقيم في مثال النهي عن القضاء حالة الغضب فحسب، وأمّا في غيره من الأمثلة - وهي بالعشرات - فلا يمكن الإجابة عنها بمثل هذا الجواب فيبقى إشكال تقديم العقل على النقل قائمًا فيها.
(1)
الشاطبي، البحر المحيط، ج 1، ص 89.
(2)
الشاطبي، الموافقات، ج 1، ص 90.
والجواب الصحيح عن هذا الإشكال هو أن تأثير تعليل النص على دلالته وإن تضمن تقديمًا للعقل على النقل فإنّ هذا إنما كان بموافقة الشرع وإقراره كما يظهر من خلال ما أُورد في الفصل الثاني من اجتهادات للصحابة انبنت على هذا الأصل فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، هذا من ناحية، وَمن ناحية أخرى، فإنّ التعليل ليس عملًا عقليًا محضًا بل هو محاطٌ بضوابط وقيود شرعية ومدلولٌ عليه بأدلة سمعية توقيفية، قال الغزالي رحمه الله: إنّ الأدلة على العلة لا تكون إلا سمعية وتعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها لا يمكن إلا بالأدلة السمعية كما يثبت الحكم الشرعي تمامًا
(1)
.
(2)
.
فإذا تقرر ما سبق لم يكن القول بتأثير تعليل النص على دلالته قولًا بتقديم العقل على النقل بتاتًا.
وأخيرًا وبعد استعرض أدلة المجيزين والمانعين من تأثير تعليل النص على دلالته ومناقشتها يظهر بجلاء رجحانُ أدلة المجيزين وهشاشة أدلة المانعين، لا سيما إذا أُضيف إلى أدلة المجيزين ما سبق إيراده من اجتهادات الصحابة رضوان اللَّه عليهم التي انبنت على تأثير تعليل النص على دلالته سواء تلك التي كانت إبّان حياته صلى الله عليه وسلم فأقرهم عليها أو تلك التي كانت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
(1)
انظر: الغزالي، المستصفى، ج 2، ص 280.
(2)
الغزالي، المستصفى، ج 2، ص 281.
المبحث الثالث
مسائل فقهية - في كتب الأصول - تضمّنت «تأثيرًا لتعليل النص على دلالته»
ما من شك في أن التأليف الأصولي خضع بشكل أو بآخر للمذهبية الفقهية، وعلى الرغم من أن إمام الحرمين ذكر أنه من «حق الأصولي ألا يلتفت إلى مذاهب أصحاب الفروع ولا يلتزم مذهبًا مخصوصًا في المسائل المظنونة الشرعية»
(1)
إلا أن أكثر الأصوليين - وحتى إمام الحرمين نفسه
(2)
- تأثروا برياح المذهبية ممّا جعل غالب أبحاثهم الأصولية تأخذ شكل الجدال والنقاش والمناظرة أكثر من أخذها شكل العرض والتبسيط والتوضيح.
و «تأثير تعليل النص على دلالته» باعتبارها قضية أصولية ذات أبعاد فقهية شتى خضعت لهذا الأصل فتأثّرت بلفحات المذهبية والتقليد حتى اضطر الغزالي - وهو بصدد الخروج عن تقليد من قبلَه من أصوليي الشافعية في هذه القضية - إلى القول بأن: «الكلمات التي تداولتها الألسنة لا سبيل إلى تقليدها دون البحث عن مداركها وأدلتها وإنما اتباع صورها دأب العجزة الذين قعدت بهم البلادة عن الارتقاء إلى بقاع المعاني المعقولة بالرأي الصائب والذوق السليم، فلازموا - بحكم القصور والعجز - حضيض التقليد وركنوا إلى ما تداولته الألسنة من غير خوض على خفيات أسرارها وتشوف إلى العثور على أغوارها وهذا مزلة قدم لا بد من الاتئاد فيه»
(3)
.
(1)
إمام الحرمين، البرهان، ج 1، ص 534.
(2)
ويظهر ذلك أكثر ما يكون في كتابه: مغيث الخلق في ترجيح القول الحق.
(3)
الغزالي، شفاء الغليل، ص 80، 81.
وتأثرًا بلفحات المذهبية هذه فإن الأصوليين - لا سيّما المانعون من تأثير تعليل النص على دلالته - قد أوردوا في ثنايا بحث هذه المسألة عددًا جمًّا من المسائل الفقهية التي قال بها خصومهم منتقدين هذه المسائل على القائلين بها لأنها تضمنت تأثيرًا لتعليل النص على دلالته.
وأكتفي، منعًا للتطويل، ولأن المسائل كلها - تقريبًا - تجري على نسق واحد، ببحث ثلاث مسائل مركِّزًا البحث على الجانب الأصولي المتعلق بها، وهذه المسائل هي:
أولًا: دفع القيم في الزكوات.
ثانيًا: دفع الزكاة إلى بعضٍ من مصارفها الثمانية.
ثالثًا: سفر المرأة إلى الحج من غير محرم عند الأمن.
المسألة الأولى: دفع القيم في الزكوات
ورد النص بإيجاب شاة من الغنم إذا بلغت الغنم أربعين أو الإبل خمسًا كزكاة فقال صلى الله عليه وسلم: "في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة"
(1)
، وقال:"ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة"
(2)
.
فالتزم جمهور الفقهاء - مالك
(3)
والشافعي
(4)
وأحمد
(5)
- ظاهر النص بأن أوجبوا إخراج عين الشاة.
أما أبو حنيفة فقد اجتهد في مورد هذا النص بالتعليل حيث رأى رحمه الله أن العلة في إعطاء الزكاة للفقير هي سد حاجته وعليه أجاز كلًّا من إخراج عين الشاة أو إخراج ما يساوي قيمتها؛ وذلك لأن سدّ الحاجة حاصل بالطريقين ولربما كان قضاء الحاجة بطريق إخراج القيم أتم
(6)
.
وقد انتقد أصوليو الشافعية وغيرهم اجتهاد أبي حنيفة هذا مدّعين بأنه اجتهاد تضمّن استنباط علة من النص عادت على هذا النص بالإبطال، وهذا لا يجوز لأنه من باب إبطال الفرع لأصله
(7)
وهو باطل كما سبق بيانه.
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1454).
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1454).
(3)
انظر: الحطاب، مواهب الجليل، ج 1، ص 258.
(4)
انظر: النووي، المجموع، ج 5، ص 401.
(5)
انظر: ابن قدامة، المغني، ج 3، ص 48.
(6)
انظر: ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 191، 192.
(7)
انظر: الغزالي، المنخول، ص 201 وابن الحاجب، منتهى الوصول، ص 176 والزركشي، البحر المحيط، ج 5، 152.
قال الآمدي: «ومن جملة التأويلات البعيدة ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة"
(1)
من أن المراد به مقدار قيمة الشاة، وذلك لأن قوله "في أربعين شاة شاة" قوي الظهور في وجوب الشاة عينًا، حيث إنه خصصها بالذكر
…
ولا يخفى أنه يلزم من تأويل ذلك بالحمل على وجوب مقدار قيمة الشاة بناء على أن المقصود إنما هو دفع حاجات الفقراء وسدّ خلاّتهم جواز دفع القيمة، وفيه رفع الحكم وهو وجوب الشاة بما استُنبط منه من العلة وهي دفع حاجات الفقراء واستنباط العلة من الحكم إذا كانت موجبة لرفعه كانت باطلة»
(2)
.
دفاع أصوليي الحنفية عن اجتهاد إمامهم:
وقد حاول الحنفية الدفاع عن مذهب إمامهم في هذه المسألة لا سيما أنهم يرون - في أغلبهم - عدم جواز أن تعود العلة على النص بالتأثير والتغيير فضلًا عن أن تعود عليه بالإبطال.
فتتابع أصوليّوهم
(3)
على إيراد جواب وضَّحه صدر الشريعة بقوله: «إنما كان التعليل في دفع القيم تغييرًا للنص إذا كان الأصل وهو الشاة مثلًا واجبًا للفقير لعينه، وليس كذلك فإن الزكاة عبادة محضة لا حقَّ للعباد فيها وإنما هي حق اللَّه تعالى، لكن سقط حقه في صورة ذلك الواجب بإذنه بدلالة النّص؛ لأنّه تعالى وعد أرزاق الفقراء بقوله:{إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ثم أوجب على الأغنياء مالًا مسمًّى ثم أمر بأداء تلك المواعيد وهي الأرزاق
(1)
سبق تخريجه في المبحث الأول من هذا الفصل.
(2)
الآمدي، الإحكام، ج 3، ص 79.
(3)
انظر: البزدوي، أصول البزدوي، ج 3، ص 335، وابن الهمام، التحرير، ج 1، ص 155، والأنصاري، فواتح الرحموت، ج 2، ص 23.
المختلفة من ذلك المسمى، ولا يمكن ذلك الأداء إلا بالاستبدال فيكون متضمنًا للأمر بالاستبدال، كالسلطان يعد مواعيد مختلفة ثم يأمر بعض وكلائه بأدائها من مال معين عنده يكون إذنًا بالاستبدال، فكذا هاهنا
…
فالتعليل وقع في هذا الحكم وليس فيه تغييرٌ للنص بل يكون التغيير في الحكم الأول وهو ثابت بالنص لا بالتعليل، فيكون تغيير النص بالنص مجتمعًا مع التعليل في حكم آخر ليس فيه تغيير النص، وهذا معنى قول فخر الإسلام رحمه الله: فصار التغيير مجامعًا للتعليل بالنص لا بالتعليل، وقد قال أيضًا: فصار صلاح الصرف إلى الفقير بعد الوقوع لله بابتداء اليد ليصير مصروفًا إلى الفقير بدوام يده حكمًا شرعيًا في الشاة فعللناه بالتقويم وعدّيناه إلى سائر الأموال»
(1)
.
ونظرًا لتكلُّف هذا الجواب وصعوبة مدركه فقد اعترف صدر الشريعة بعد إيراده بقوله: «وهذه المسألة مع هذه العبارة [يعني بها عبارة فخر الإسلام آنفة الذكر] من مشكلات كتب أصحابنا في الأصول»
(2)
، هذا وقد أطال الأنصاري في تفنيد هذا الجواب بما يثقل إيراده
(3)
. ولو أنّ الحنفية كيّفوا اجتهاد أبي حنيفة هذا بدقّة لما احتاجوا لمثل هذا الجواب العسير على الفهم، وذلك بالقول بأن اجتهاد أبي حنيفة، رحمه الله، لم يتضمّن عود التعليل على النص بالإبطال كما هو المدعى، وذلك لأن أبا حنيفة وإن قال بجواز دفع القيمة فإنه قائل في الوقت نفسه بجواز دفع الشاة، وما دام ذلك كذلك فإن حكم النص - وهو إجزاء دفع الشاة - معمولٌ به غير معطل وإنما أُضيف إليه حكم آخر - سكت عنه النص - هو إجزاء القيمة.
(1)
صدر الشريعة، التوضيح، ج 2، ص 59.
(2)
المرجع السابق، ج 2، ص 60.
(3)
انظر: الأنصاري، فواتح الرحموت، ج 2، ص 23، 24.
وعليه فقد وسّع أبو حنيفة حكم النص بالتعليل أو - بعبارة أخرى - علّل النص بحيث عاد التعليل على حكم هذا النص بالتعميم، وليس في ذلك إبطال لذات النص وإنما لمفهومه المخالف المستفاد من تخصيص الشاة بالذكر، وهو مفهوم ضعيف لأنه مفهوم لقب
(1)
، ومثل هذا يحصل في كل قياس ولا قائل بعدم جوازه، قال الزركشي: «اعلم أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يعممه قطعًا كاستنباط ما يشوش الفكر من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"
(2)
وكاستنباط الاستنجاء بالجامد القالع من الأمر بالأحجار، وهو غالب الأقيسة»
(3)
.
وقد أشار إلى ذلك - أعني كون اجتهاد أبي حنيفة من قبيل توسيع حكم النص لا من قبيل إبطال النص - الغزاليُّ، رحمه الله، فقال: «قال بعض الأصوليين: كل تأويل يرفع النص أو شيئًا منه فهو باطل، ومثاله تأويل أبي حنيفة في مسألة الإبدال حيث قال عليه الصلاة والسلام:"في أربعين شاة شاة"
(4)
فقال أبو حنيفة: الشاة غير واجبة وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان قال: فهذا باطل لأنّ اللفظ نصٌّ في وجوب شاة، وهذا رفع وجوب الشاة فيكون رفعًا للنص
…
وهذا غير مرضي عندنا فإن وجوب الشاة إنما يسقط بتجويز الترك مطلقا، فأما إذا لم يجز تركها إلا ببدل يقوم مقامها فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة فإن من أدّى خصلة من خصال الكفارة المخيَّر فيها فقد أدى واجبها وإن كان الوجوب يتأدّى بخصلة أخرى، فهذا توسيعٌ للوجوب واللفظ نصُّ في أصل الوجوب لا في تعيينه وتصنيفه، ولعلَّه ظاهرٌ في
(1)
وهو عند الأكثرين ليس بحجة انظر: الشوكاني، إرشاد الفحول، ص 308.
(2)
سبق تخريجه في المبحث الأول من هذا الفصل.
(3)
الزركشي، البحر المحيط، ج 3، 377.
(4)
سبق تخريجه في المبحث الأول من هذا الفصل.
التعيين محتمِلٌ للتوسيع وهو كقوله: "وليستنجِ بثلاثة أحجار"
(1)
فإنّ إقامة المدر
(2)
مقامه لا يُبطل وجوبَ الاستنجاء لكن الحَجَرُ يجوز أن يتعيّن ويجوز أن يُتخيَّر بينه وبين ما في معناه»
(3)
.
ولم أجد من متقدمي الحنفية من تنبه إلى هذا الذي ذكره الغزالي، رحمه الله، إلا أن صاحب الخمسين في أصول الحنفية أشار إليه إشارة خفية فقال:«التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة" لإثبات عدم جواز دفع القيمة ضعيف، لأنه [أي الحديث] يقتضي وجوب الشاة ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في سقوط الواجب بأداء القيمة»
(4)
.
(5)
.
أما ابن الهمام من متأخري الحنفية فقد صرح بأن تعليل أبي حنيفة للحديث "في أربعين شاة شاة"«لم يكن مُبطلًا للمنصوص عليه بل توسعة لمحل الحكم فإن الشاة المنصوص عليها بعد التعليل محل للدفع كما أن قيمتها محل أيضًا وليس التعليل حيث كان إلا لتوسعة المحل»
(6)
.
(1)
سبق تخريجه في المبحث الأول من هذا الفصل.
(2)
المدر: هو الطين اللزّج المتماسك، انظر: المعجم الوسيط، ج 2، ص 893.
(3)
الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 394 - 396.
(4)
أبو علي الشاشي، أصول الشاشي أو الخمسين، دار الكتاب العربي، بيروت 1402 هـ، ص 178، وأنا أشك بنسبة الكتاب إلى الشاشي، وذلك لأن صاحب هذا الكتاب ينقل عن الدبوسي بعض النقول كما في صفحة 108 وصفحة 373، والدبوسي توفي سنة 430 هـ بينما توفي أبو علي الشاشي سنة 344 هـ كما ترجم له بذلك محقق الكتاب فيكون الشاشي قد سبق الدبوسي بقرن من الزمن فكيف ينقل عنه؟
(5)
محمد فيض الحسن الكنكوهي، حاشية الكنكوهي على أصول الشاشي، دار الكتاب العربي، بيروت 1402 هـ، ص 184.
(6)
ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 192، وانظر: ابن الهمام، التحرير، ج 1، ص 155.
وحاصل ما سَبق أن النص "في أربعين شاة شاة" ذكر إجزاء الشاة وسكت عن إجزاء القيمة، فقاس أبو حنيفة قيمة الشاة على الشاة في حصول الإجزاء بها، والعلة الجامعة هي حصول سدّ حاجة الفقير في كلّ من دفع الشاة أو قيمتها، فلم يخالف أبو حنيفة النص، وإنما قاس عليه ووسّع منه، وهذا المسلك في الاجتهاد جائز عند القائسين بلا خلاف.
اعتراض الزركشي على هذا التقرير:
إلا أن الزركشي، رحمه الله، لم يعجبه القول بأن اجتهاد أبي حنيفة في دفع القيم لا يتضمن إبطال النص بالتعليل، وإنما هو من باب توسيع حكم الوجوب فأورد عنه ثلاثة أجوبة.
قال: و «نازع فيه -[أي في التمثيل لإبطال النص بالعلة باجتهاد أبي حنيفة في دفع القيم] الغزاليُّ من جهة أن من أجاز القيمة فهو مستنبط معنى مُعمِّم لا مبطل لأنه لا يمنع إجزاء الشاة» قال: «وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن استنباط القيمة ألغى تعلّق الزكاة بالعين ابتداءً الذي عليه الدليل، وهذا معنى الإبطال أي إبطال التعلق.
الثاني: أنه ألغى تعيينها من بنت مخاض أو بنت اللبون أو حقّة أو جذعة
(1)
وصيّر الواجب جائزًا، لأنه إن كانت القيمة هي الواجب لم تكن الشاة واجبة ولا يلزم وجوبُها ولا قائل به.
(1)
هذه أسماء لأسنان الإبل المختلفة فبنت المخاض لها سنة ودخلت في الثانية سميت به لأن أمها بعد سنة من ولادتها آن لها أن تحمل مرة أخرى وبنت اللبون لها سنتان ودخلت في الثالثة وسميت به لأن أمها آن لها أن تلد فتصير لبونًا والحقة لها ثلاث سنوات وطفقت في الرابعة وسميت به لأنها استحقت أن تحمل ويركب عليها، والجذعة لها أربع سنوات وطفقت في الخامسة، سميت به لأنها أجذعت - أسقطت - مقدم أسنانها انظر: الشربيني، مغني المحتاج، ج 1، ص 370.
الثالث: يُقال: إن أجزأت الشاة لكن من حيث لم يُخصّ الإجزاء بها فبطل لفظ "في أربعين شاة شاة" وليس القيمة أعمّ من الشاة»
(1)
.
وهذه الأجوبة التي أوردها الزركشي أجوبة ضعيفة وبيان ذلك بما يلي:
أما قوله: بأن معنى الإبطال هو إبطال التعلق فالجواب عليه هو بأن مقصود الأصوليين بقولهم: لا يجوز استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال هو إبطال الدلالة القاطعة للنص التي يتوقف على وجودها استنباط علة النص، وهذا القصد متعيِّن حتى يصح أن الفرع - في مثل هذه الحالة - عاد على أصله بالإبطال كما سبق توضيحه في المبحث السابق، وليس المقصود إبطال التعلّق كما هو المدعى بدليل أن كل قياس يُجرى على حكم من الأحكام لا بدّ أن يتضمن إبطال تعلق الحكم بالمقيس عليه، فمثلًا قياس كل جامد قالع على الأحجار المنصوص عليها في قوله صلى الله عليه وسلم "وليستنج بثلاثة أحجار"
(2)
أبطل تعلّق حكم الاستنجاء بالأحجار فقط ليصبح هذا الحكم - بعد التعليل - عامًّا في كل قالع مزيل للنجاسة إذا كان يتأدّى به الغرض، وكذلك قياس أبي حنيفة في دفع القيم أبطل تعلّق الإجزاء بالشاة وحدها فقط ليعمّ كل ما يساوي قيمتها.
وأما قوله: بأن اجتهاد أبي حنيفة بدفع القيم ألغى تعيين نوع الشاة أو الناقة من بنت مخاض أو بنت لبون وما إلى ذلك، فالجواب عليه: هو أن ذكر هذه الأنواع إنما هو بيان لمعيار الواجب، وعليه تختلف القيمة بين نوع وآخر، وهذا يدل على عدم إلغاء أبي حنيفة هذه الأنواع؛ لأنه أوجب في كل نوع ما يساوي قيمته لا مطلق القيمة، ثم إن الشافعي، رحمه الله، أجاز إلغاء تعيين
(1)
الزركشي، البحر المحيط، ج 5، ص 153.
(2)
سبق تخريجه في أوائل المبحث الأول من هذا الفصل.
مثل هذه الأنواع وذلك في حالة ما إذا أراد المصدِّق إعطاء نوع أفضل ممّا وجب عليه كأن يعطي على خمس من الإبل بعيرًا بدلًا من الشاة
(1)
وهكذا، بل أجاز الشافعية دفع القيمة بالدراهم في بعض الحالات كأن تكون الإبل أو الشياه كلها مراضًا، أو لا يوجد السنّ المطلوب من بينها، وهذه الاجتهادات كلها تتضمن إلغاء تعيين النوع المنصوص عليه في الحديث، فَلِم لم يُقل في هذه الاجتهادات مثلُ ما قيل في اجتهاد أبي حنيفة رحمه الله؟!.
وأما قوله: بأن الإجزاء لم يُخصَّ بالشاة بعد التعليل، فهذا هو شأن القياس كلِّه يبطل اختصاص الحكم بمحل واحد بل يعديه إلى جميع محال تحقق العلة كما سبق بيانه، قال ابن الهُمام «وليس التعليل حيث كان إلا لتوسعة المحل»
(2)
.
وأما قوله بأن القيمة ليست أعم من الشاة فهذا سواءٌ أكان صحيحًا أم خاطئًا فإنه لا يضير اجتهاد أبي حنيفة، إذ إنّ كون القيمة أعم من الشاة أو الشاة أعم من القيمة لا يؤثر في قياس إحداهما على الأخرى، إذ لم يشترط أحد من الأصوليين لصحة القياس أن يكون المقيس أعم من المقيس عليه أو العكس.
فإذا تقرر ما سبق يتبين بجلاء أن اجتهاد أبي حنيفة، رحمه الله، بجواز إخراج القيم في الزكوات ليس هو من باب إبطال العلة للنص كما هو مدّعى كثير من الأصوليين فلا يجوز ردّ هذا الاجتهاد بالادعاء بأنه يستلزم إبطال الفرع لأصله.
إلا أنه - ومع التسليم بأن المسألة محل اجتهاد - يمكن مناقشة اجتهاد أبي حنيفة هذا من باب آخر، وذلك بالقدح في صحة العلة التي جمع من خلالها بين
(1)
انظر: الشربيني، مغني المحتاج، ج 1، ص 370، 372.
(2)
ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 192.
الفرع والأصل - الشاة والقيمة - وذلك بإيراد بعض المعاني المناسبة المعارضة لعلة سد الحاجة وذلك كتطلع الشارع إلى مشاركة الفقير الغني في عين ماله الزكوي
(1)
أو كتطلعه إلى إرادة تنمية الثروة لأن الفقير إذا أخذ الشاة استخدمها بالدر والنسل بخلاف ما إذا أخذ القيمة، أو غير ذلك من المعاني المناسبة التي تكون في تعين دفع الشاة دون القيمة، فهذه سبيلٌ صحيحة في مناقشة الأقيسة بخلاف إلقاء الكلام على عواهنه بأن هذا اجتهاد باطلٌ لأنه تضمن إبطال الفرع لأصله واللَّه أعلم بالصواب.
المسألة الثانية: دفع الزكاة إلى بعض من مصارفها الثمانية
قال اللَّه تعالى في بيان مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
واختلف العلماء في أنه هل يجب على الإمام أو المزكي أن يستوعب جميع هذه الأصناف عند أداء الصدقة أم أنه يجزئه الدفع إلى بعض هذه المصارف.
فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد أو أكثر من صنف واحد إذا رأى ذلك بحسب الحاجة، وقال الشافعي: لا يجوز ذلك بل يقسمها على الأصناف الثمانية كما سمّى اللَّه تعالى
(2)
.
(1)
انظر: الغزالي، المنخول، ص 20 وانظر: الغزالي، إحياء علوم الدين، ط 2، دار الفكر، بيروت، 1409 هـ ج 1، ص 252.
(2)
انظر: الشافعي، الأم، ط 2، دار الفكر، بيروت، 1403، ج 2، ص 80. وابن رشد، بداية المجتهد، ج 1، ص 201.
(1)
.
ووجه اقتضاء اللفظ لوجوب القسمة على المصارف الثمانية هو أن النص مصرح بإضافة الصدقة للفقراء والمساكين
…
الخ بلام التمليك مع وجود الواو العاطفة الدالة على الجمع والتشريك، وهذا يدلّ على وجوب اشتراك جميع هذه المصارف في الصدقة لا الاقتصار على بعضها.
ووجه اقتضاء المعنى - أو العلة - لجواز الاقتصار على بعض هذه المصارف هو أن سدّ الحاجة - وهو الغرض من الصدقة - متحقق وحاصل سواء أَدُفعت هذه الصدفة لجميع المصارف أو اقتُصر بها على بعضها.
انتقاد الشافعية لاجتهاد الجمهور في هذه المسألة:
هذا ولم يرتض الإمام الشافعي، رحمه الله، ولا أتباعه من بعده، باجتهاد الحنفية والمالكية في هذه المسألة؛ وذلك لأن هذا الاجتهاد يتضمن تعليلًا للنص عاد عليه بالتعطيل والإبطال، قال الإمام الشافعي، رحمه الله: «أضاف اللَّه تعالى الصدقات بلام الاستحقاق إلى أصناف موصوفين بأوصاف، فرأى بعض الناس جواز الاقتصار على بعضهم ذاهبًا إلى أن المرعيَّ الحاجة، وهذا في التحقيق تأسيس معنىً يعطل تقييدات أمر اللَّه تعالى، فلو كانت الحاجة هي
(1)
ابن رشد، بداية المجتهد، ج 1، ص 201.
المرعية لكان ذكرها أكمل وأشمل وأولى من الأقسام التي اقتضاها اللفظ ومقتضاها الضبط»
(1)
.
وقد تابع الشافعيَّ على هذه الدعوى كثيرٌ من الأصوليين كالقاضي الباقلاني
(2)
، وإمام الحرمين
(3)
، والزركشي
(4)
، وقال الآمدي: ومن التأويلات البعيدة «ما يقوله بعض الناس في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
} [التوبة: 60]، من جواز الاقتصار على البعض نظرًا إلى أن المقصود من الآية إنما هو دفع الحاجة في جهة من الجهات المذكورة لا دفع الحاجة عن الكل؛ لأن الآية ظاهرة في استحقاق جميع الأصناف المذكورة للصدقة حيث إنه أضافها إليهم بلام التمليك في عطف البعض على البعض بواو التشريك وما استُنبط من هذا الحكم من العلة يكون رافعًا لحكم المستنبط منه فلا يكون صحيحًا»
(5)
.
ردّ بعض الأصوليين هذه الدعوى:
هذا ولم ير عدد من الأصوليين صحة زعم من قال بأن الاجتهاد بجواز قصر الصدقة على بعض مصارفها هو من قبيل إبطال العلة للنص الذي استنبطت منه.
منهم الغزالي إذ قال: «قال قوم: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
(1)
إمام الحرمين، البرهان، ج 1، ص 359.
(2)
الغزالي، المنخول، ص 192.
(3)
إمام الحرمين، البرهان، ج 1، ص 359، 360
(4)
الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 451.
(5)
الآمدي، الإحكام، ج 3، ص 79.
وَالْمَسَاكِينِ
…
} [التوبة: 60]، نصٌّ في التشريك فالصرف إلى واحد إبطال له» قال الغزالي: «وليس كذلك عندنا بل هو عطف على قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]، إلى قوله {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
} [التوبة: 60]، يعني أنّ طمعهم في الزكاة مع خلوهم عن شرط الاستحقاق باطل، ثم عدد شروط الاستحقاق ليبيّن مصرف الزكاة، ومن يجوز صرف الزكاة إليه، فهذا محتمل فإن منعه [أحدٌ] فللقصور في دليل التأويل لا لانتفاء الاحتمال»
(1)
.
ومنهم ابن الحاجب إذ قال وهو بصدد ذكر أمثلة التأويلات البعيدة: «وقد عدّ بعضهم قول مالك في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
} [التوبة: 60]، إنه لبيان المصرف من ذلك [أي من التأويلات البعيدة] وليس منه؛ لأن سياق الآية من الردّ على لمزهم في المعطين ورضاهم في إعطائهم وسخطهم في منعهم يدل عليه»
(2)
، ومنهم أُصوليو الحنفية إذ قال صدر الشريعة - وقد أخذ هذا القول عن البزدوي
(3)
(4)
.
(1)
الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 399، 400.
(2)
ابن الحاجب، منتهى الوصول، ص 147.
(3)
انظر: البزدوي، أصول البزدوي، ج 3، ص 339.
(4)
صدر الشريعة، التوضيح، ج 2، ص 61.
وللحنفية أقوال وأجوبة أخرى لا تخلو من تكلف
(1)
ومنهم الأبياري شارح البرهان إذ قال - وهو من أحسن الناس قولًا في هذه المسألة -: «اللام في [الفقراء] إما أن تكون للتمليك أو للأهلية والانتفاع كالجلّ
(2)
للفرس فإن كان المراد الملك صح ما قاله الشافعي وإلا فلا؛ لاشتراك الكل في الأهلية وصحة التصرف وهذا هو المختار، فيخرج الكلام [يعني الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
}] بهذا التقرير عن مراتب النصوص [ذات الدلالة القاطعة]، فإما أن نقول: إنه [معنى اللام] مشترك بين الجهتين مفتقر إلى البيان في الحالين فيكون كل واحد مفتقرًا إلى الدليل أو نسلّم ظهور ما قالوه فتخرج المسألة عن تعطيل النصوص وتكون من التأويلات المقبولة التي يحتاج من صار إليها إلى دليل يعضده»
(3)
.
ويظهر مما سبق كله أن الخلاف في هذه المسألة يتركز حول معنى اللام في الآية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
} [التوبة: 60].
فإن قيل بأنها للتمليك اقتضى ذلك وجوب التشريك.
وإن قيل بأنها لبيان العاقبة أو للأهلية اقتضى ذلك جواز الاقتصار على بعض المصارف.
وإن قيل بأنها مشترك لفظي بينهما توقف الأمر في هذه المسألة على دليل خارجي.
(1)
انظر: عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار، ج 3، ص 339، 340.
(2)
الجل: ما تغطى به الدابة لتصان، انظر: المعجم الوسيط، ج 1، ص 136.
(3)
نقله عنه الزركشي، البحر المحيط، ج 3، ص 451.
لكن الراجح أن اللام وإن لم تكن نصًا في إفادة معنى الملك إلا أنها ظاهرة فيه وهذا يعني أنها مؤولة - مجاز - في إفادة معنى بيان العاقبة
(1)
.
والقاعدة تقول: الأصل في الألفاظ أن تحمل على معناها الظاهر إلا إذا ورد دليل يصرفها إلى المعنى المؤول.
وقد صار الجمهور - وهو الراجح واللَّه أعلم - إلى أن اللام في آية المصارف محمولة على المعنى المؤول وهو الأهلية وبيان العاقبة.
وقد أيدوا تأويلهم بأدلة ثلاث:
الأول: دليل السياق
(2)
حيث إن الآية سيقت للرد على الطامعين في الزكاة ببيان أنهم ليسوا من أهلها وإنما أهلها أصحاب هذه المصارف المذكورة كما أشار إلى ذلك الغزالي وابن الحاجب
(3)
.
الثاني: دليل العلة حيث إن القول بأن القصد من أداء الزكاة هو سد الحاجة يقتضي جواز الصرف إلى بعض المصارف لأن العلة المراد تحقيقها حاصلة في مثل هذه الحالة.
الثالث: مجموعة من الأحاديث والآثار دلت على اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على بعض المصارف دون بعض وكذلك أصحابه من بعده
(4)
.
(1)
انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج 2، ص 272.
(2)
قال ابن دقيق العيد: «السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وفهم ذلك قاعدة كبيرة في أصول الفقه، ولم أر من تعرض للكلام عليها في أصول الفقه إلا بعض المتأخرين» ابن دقيق العيد، أحكام الأحكام، ج 2، ص 232. أفاده الأستاذ محمد سليمان الأشقر في الواضح في أصول الفقه، ط 4، دار النفائس، عمان، 1412 هـ، ص 170.
(3)
وقد سبق نقل قوليهما.
(4)
انظر: ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 265، 266.
وأخيرًا نخلص إلى القول بأن قول الحنفية والمالكية بجواز الاقتصار في دفع الزكاة على بعض مصارفها لم يتضمن تعليلًا للنص الشرعي بحيث عاد هذا التعليل على أصله بالتعطيل والإبطال - كما هو مدعى البعض - وإنما عاد عليه - بمساعدة أدلة أخرى - بالتأويل حيث صرفه من الدلالة على المعنى الظاهر إلى الدلالة على المعنى المؤول ومثل هذا لا غبار عليه.
المسألة الثالثة: سفر المرأة إلى الحجّ من غير محرم عند الأمن
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث في تحريم سفر المرأة من غير محرم.
فعن ابن عمر، رضي الله عنهما، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم"
(1)
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر المرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم"
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة"
(3)
.
واختلاف الروايات في ذكر مدة السفر يدل على عدم تحديد هذه المدة، ولذا ذهب أكثر العلماء إلى تحريم مطلق السفر، قال ابن حجر رحمه الله: «وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات، قال النووي رحمه الله: ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل ما يسمّى سفرًا
(1)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1086).
(2)
المرجع السابق، حديث رقم (1864).
(3)
المرجع السابق، حديث رقم (1864).
فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه، وقال ابن المنير: وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين»
(1)
.
ومع أن أكثر العلماء حرموا سفر المرأة من غير محرم على العموم إلا أن كثيرًا منهم كالشافعي ومالك والأوزاعي وابن سيرين
(2)
، ومن قبلهم جماعة من الصحابة كعائشة وابن عمر
(3)
رضي الله عنهم أجمعين، أخرجوا من هذا العموم سفرَ المرأة إلى الحج عند الأمن، فلم يشترطوا - والحالة هذه - وجود المحرم أو الزوج بل يكفي تحقُّق الأمن بوجود رفقة مأمونة أو نسوة ثقات أو حتى امرأة واحدة ثقة بل صح عن الشافعي القول بأنه يجوز للمرأة أن تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنًا
(4)
.
ووجه قول هؤلاء هو أن العلة من اصطحاب المحرم المنصوص عليه في الحديث هي تحقيق الأمن للمرأة خشية الاعتداء عليها، فإذا تحققت العلة - وهي حصول الأمن - بغير طريق المحرم أو الزوج كان ذلك جائزًا وخارجًا عن مقتضى النهي.
ولم يرتض الحنفية هذا الاجتهاد من الشافعية وغيرهم، ووجه اعتراضهم عليه هو أنه تضمن تعليلًا للنص الشرعي بحيث عاد هذا التعليل على النص بالتأثير ومثل هذا - عندهم - لا يجوز.
(1)
ابن حجر، فتح الباري، ج 4، ص 90.
(2)
انظر: ابن عبد البر، الاستذكار، ج 13، ص 369.
(3)
وقد سبق بيان مذهبيهما - عائشة وابن عمر - في الفصل الثاني.
(4)
انظر: النووي، المجموع، ج 7، ص 68.
قال صاحب الخمسين في أصول الحنفية: «إذا قلنا جاز حج المرأة مع المحرم فيجوز مع الأمينات كان هذا قياسًا بمقابلة النص»
(1)
.
وقال الجصاص: «أسقط الشافعي اشتراط المحرم، وهو منصوص عليه، وشرط المرأة [الثقة] ولا ذكر لها»
(2)
.
ردُّ الحافظ ابن العربي المالكي
(3)
على مذهب الحنفية:
وبصدد الرد على الحنفية قال الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي: «لَمّا فَهِم العلماء علة [النص "لا تسافر المرأة
…
"] قالوا: إنها يجوز لها السفر في الرفقة المأمونة الكثيرة الخلق الفضلاء الرجال وقال أبو حنيفة: بل عين المحرم شرط. وأعجب له يُعلّل العبادة ويقول: إن معنى المحرمية التعظيم
(4)
والغرض من عبادة الزكاة سدّ خلّة الفقراء فتجزئ فيها القيمة، ثم يأتي إلى هذه المسألة ولا يعللها، ويدعي أن المحرم عين معينة فيها، إن هذا لشيء عجاب معرض لكل مَعاب»
(5)
.
(1)
الشاشي، أصول الشاشي، ص 314.
(2)
نقله عنه ابن التركماني، الجوهر النقي، المطبوع بذيل سنن البيهقي، ط 1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1352 هـ، ج 5، ص 226.
(3)
هو القاضي أبو بكر محمد بن عبد اللَّه الإشبيلي المالكي ولد سنة 468 هـ، طلب العلم ووصل إلى المشرق فأخذ عن الغزالي وأبي بكر الشاشي، ولي قضاء إشبيلية فكان ذا شدة وسطوة ثم عزل، صنف في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن والأدب والنحو والتاريخ ومات بفاس سنة 543 هـ، انظر: طبقات الحفاظ، مكتبة وهبة، القاهرة، ص 467.
(4)
والمقصود بذلك أن أبا حنيفة، رحمه الله، رأى أن تكبيرة الإحرام في بدء الصلاة لا يتعين لها لفظ اللَّه أكبر وإنما تجوز بكل لفظ دال على التعظيم كاللَّه أجل، واللَّه أعظم، وذلك لأن التحريم عنده مشروع لغرض التعظيم، انظر: ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 1، ص 283، وصدر الشريعة، التوضيح، ج 2، ص 61.
(5)
أبو بكر بن العربي المالكي، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، دار الكتب العلمية بيروت، ج 5، ص 118 بحذف يسير.
والذي أراه هو أن الحنفية - مع توسع أبي حنيفة في التعليل حتى في العبادات - غير محقين في انتقاد اجتهاد الجمهور في هذه المسألة وذلك لوجهين:
أحدهما: أن الاجتهاد المتضمن لتأثير تعليل النص على دلالته جائز من حيث الأصل - كما سبق بيانه - وقول أصوليي العراق من الحنفية بعدم الجواز قولٌ مرجوح.
والآخر: أن انتقاد الحنفية هذا لا يمثل بصدق وجهة نظر أبي حنيفة في هذه المسألة، وبيان ذلك أن أبا حنيفة، رحمه الله، وإن خالف الجمهور في اجتهادهم فإنه - واللَّه أعلم - لم يصدر في مخالفته هذه عن إهماله لعلة النص كما ادعاه ابن العربي، وإنما صدر عن عدم اقتناعه بالعلة التي ذهب إليها الجمهور، إذ إنهم إذ يرون أن العلة من اصطحاب المحرم هي حصول الأمن يرى هو أن هذا الذي يذكره الجمهور هو جزء العلة وليس تمامها، وذلك لأن المرأة تحتاج للمحرم في السفر - فضلًا عن توفير الأمن - في خدمتها وتحميلها وتنزيلها وغير ذلك مما لا تستطيع القيام به بنفسها، فهذا معنى مناسب يضاف إلى معنى الأمن، وعليه لا يجوز للمرأة اصطحاب غير المحرم وإن كان ثقة يحصل معه الأمن، لأنه لن يتمكن من خدمتها بتحميلها وتنزيلها وغير ذلك لما تتضمنه هذه الخدمة من ارتكاب بعض المحذورات الشرعية كالنظر واللمس وغير ذلك من الأمور، قال ابن الهمام، رحمه الله،: «المرأة لا تستطيع النزول والركوب إلا مع من يركبها وينزلها ولا يحلّ ذلك إلا للمحرم والزوج، وهذا هو الغالب فلا يعتبر ثبوت القدرة على ذلك في بعضهن، ولو قدرت فالقدرة عليه مع انكشاف شيء مما لا يحل لأجنبي النظر إليه كعقبها ورجلها وطرف
ساقها وطرف معصمها لا يتحقق إلا بالمحرم ليباشرها في هذه الحالة ويسترها»
(1)
.
ومما يدل على التفات أبي حنيفة، رحمه الله، إلى هذا المعنى أن الحنفية قد أجازوا - استثناءً من عموم الحديث - للأمة وأم الولد أن تسافر إحداهما من غير محرم قال في البداية وشرحها:«ولا بأس بأن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم»
(2)
.
وهذا الاجتهاد بإخراج الأمة عن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة
…
" ما هو إلا تخصيص لعموم النص بالتعليل، وذلك لأن الأمة - عند الحنفية - لا يحرم مسّها أو النظر إليها كونها مبتذلة في الخدمة بخلاف الحرة، وما دام ذلك كذلك فالعلة من نهي المرأة عن السفر من غير محرم - كما سبق تقريرها من وجهة نظر أبي حنيفة - غير متحققة فيها فتخرج عن عموم النص.
فإذا تقرر ما سبق ظهر أن انتقاد بعض أصوليي الحنفية اجتهاد الجمهور بأنه من قبيل تأثر النص بعلّته ليس في محلّه وذلك لأن الحنفية أنفسهم قد اجتهدوا في مورد الحديث بالتعليل بحيث أثروا بذلك على عموم النص، مما يدلّ على أن قولهم بعدم جواز عود العلّة على النصّ بالتأثير قول مرجوح مخالف لما عليه أبو حنيفة نفسه.
هذا ولبعض المالكية اجتهاد آخر في نص هذا الحديث "لا تسافر المرأة
…
" بالتعليل يتضمن عود العلّة عليه بالتخصيص؛ قال ابن دقيق العيد، رحمه الله: «لفظ المرأة عام بالنسبة إلى سائر النساء، وقال بعض المالكية: هذا عندي في الشابّة، وأما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر حيث شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم،
(1)
ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 421 بحذف يسير.
(2)
المرغيناني، الهداية، ج 10، ص 68.
والذي قاله المالكي تخصيص العموم بالنظر إلى المعنى، وقد اختار هذا الشافعي أن المرأة تسافر في الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة فتكون آمنة. وهذا مخالف لظاهر الحديث»
(1)
.
التخريج الأصولي للخلاف في هذه المسألة كما يراه ابن حزم:
هذا ويرى ابن حزم، رحمه الله، أن سبب الخلاف بين العلماء في جواز حج المرأة من غير محرم ليس هو ما ذُكر من النظر إلى العلة، وإنما هو نتيجة لتعارض عمومين
(2)
.
العموم الأول: هو المستفاد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
والعموم الثاني: هو المستفاد من الحديث "لا تسافر المرأة
…
".
وبيان ذلك أن الآية عامّة في إيجاب الحج على المكلفين جميعًا رجالًا ونساء لمن استطاع إلى البيت سبيلًا، والحديث عام في نهي النّساء عن جميع الأسفار، فرأى بعض العلماء أن عموم الآية يخص عموم الحديث، فأوجب على المرأة أن تحج من غير محرم إذا استطاعت إلى البيت سبيلًا، ورأى البعض الآخر من العلماء أن عموم الحديث يخص عموم الآية فلم يوجبوا الحج على المرأة إذا لم تجد محرمًا، بل لم يجيزوا لها السفر إلى الحج من غير محرم.
وهذا التخريج من ابن حزم، رحمه الله، له وجهٌ، ويؤيِّده أن الأكثرين ممن أجازوا حج المرأة من غير محرم خصوا الجواز بسفر الحج فقط ولم يعدُّوه إلى بقية الأسفار، قال البغوي: «لم يختلفوا في أنه ليس للمرأة السفر في غير الفرض
(1)
ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام، ج 3، ص 19.
(2)
انظر: ابن حزم، الإحكام، ج 2، ص 26، 27.
إلا مع زوج أو محرم»
(1)
. وهذا يدل على أنهم نظروا إلى عموم الآية الموجبة للحج لا إلى العلة المتمثلة في حصول الأمن، وذلك لأن نظرهم لو كان إلى العلة لأجازوا للمرأة الخروج في كل سفر تتحقق فيه هذه العلة ولم يكن الجواز مقتصرًا على سفر الحج فقط.
ومع وجاهة هذا التخريج إلا أنه يمكن اعتراضه من وجهين:
الأول: هو أنه قد وردت نصوص خاصّة في عدم إباحة حج المرأة من غير محرم كالذي يرويه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول اللَّه إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج فقال: اخرج معها"
(2)
.
وأَخصُّ من هذا الحديث دلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحجنّ امرأة إلا ومعها ذو محرم"
(3)
.
وبهذه النصوص الخاصة المانعة من حجّ المرأة بغير محرم ينتفي القول بأن الخلاف في هذه المسألة ناشئ عن تعارض العمومين، وذلك لأنه لا يوجد إلا عموم واحد يأمر بحج المكلفين جميعًا رجالًا ونساءً، وأما حج النساء من غير محرم فقد جاء النهي عنه بنصوصٍ خاصّة، والخاص يقدم على العام باتفاق كما هو معروف.
والوجه الثاني: هو أنه وإن صحّ التفات الجمهور في قولهم بجواز حج المرأة من غير محرم إلى عموم الآية {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فإن هذا لا ينفي أنهم نظروا إلى علة الحديث الناهي عن سفر المرأة إلا باصطحاب المحرم، كدليل على ترجيح عموم الآية على عموم الحديث،
(1)
نقله عنه ابن حجر، فتح الباري، ج 4، ص 90.
(2)
البخاري، الصحيح، حديث رقم (1862).
(3)
الدارقطني، السنن، ج 2، ص 223، وصحّحه أبو عوانة كما قال الحافظ ابن حجر، فتح الباري، ج 4، ص 90.
ويؤيد ذلك أنهم لم يجيزوا للمرأة الحج من غير محرم بإطلاق، وإنما بشرط توفّر الأمن فلولا التفاتهم إلى علة الحديث لما اشترطوا هذا الشرط.
وأما تخصيصهم للجواز بسفر الحج فقط فذلك لما سبق به القول أنهم نظروا إلى عموم الآية وعلة الحديث معًا فأدى اجتماع هذين الدليلين وتقوي أحدهما بالآخر إلى مثل هذا التخصيص بسفر الحج وأما بقية الأسفار فلا يقتضي جواز خروج المرأة فيها من غير محرم إلا دليل واحد هو دليل العلة، وهذا الدليل وحده ليس له من القوة - كما رأى ذلك الجمهور - ما يحمل على القول بمقتضاه كما هو الحال في شأن الدليلين.
على أنه قد ذهب بعض فقهاء الشافعية إلى جواز سفر المرأة من غير محرم في كافة الأسفار إذا ما حصل الأمن
(1)
، وهو ما ذهب إليه بعض المحدثين
(2)
واللَّه أعلم.
(1)
انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 4، ص 90.
(2)
انظر: د. يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية، ط 6، دار الوفاء، المنصورة، 1414 هـ، ص 129.
خاتمة البحث
وبعد: فهذه هي نهاية ما أردت بيانه بشأن «أثر تعليل النص على دلالته» . وقد تمخّض هذا البحث - في أبرز ما تمخّض عنه - عمّا يلي:
أولًا: العلة المستنبطة من نص ما تقوم بدور القرينة الموضِّحة للمراد من هذا النص؛ ولذلك فهي تملك - بشروطٍ قُرِّرت - صرف النص عن ظاهره إلى معناه المؤول.
ثانيًا: دليل ما سبق في النقطة الأولى وجود «تأثير تعليل النص على دلالته» في اجتهادات الصحابة رضوان اللَّه عليهم إبّان عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعده.
ثالثًا: قول الأصوليين بأنه لا يجوز للعلة أن تعود على أصلها بالإبطال كلام مجملٌ، لا بدّ له من تفصيل، وهو: أنه لا يجوز للعلة أن تعود على أصلها بإبطال دلالته القطعية فحسب، أما دلالته الظنية فهي معرّضة لتأثير العلة.
رابعًا: الأئمة الأربعة وغيرهم يقولون بشكل عام - من خلال تفريعاتهم الفقهية - بجواز عود العلة على أصلها بالتأثير.
ولا بدّ من كلمة أخيرة: وهي أنّ «تأثير تعليل النص على دلالته» ، وإن ثبت جوازه ووجوده عند سلف هذه الأمة وفقهائها، فإنه لا ينبغي لكل من هبَّ ودرج - حتى لو شدا شيئًا من علم الشريعة - أن يجتهد بالبناء على هذا الأصل، وذلك لأن العلة في استنباطها وفي التحقُّق من توفر شروطها وانتفاء موانعها وقوادحها أمرٌ في الغاية من الدّقة والخطورة، بحيث لا يُسمح لأي كان بالتجرُّؤ عليه، إلا من كان من أهل المعرفة والاختصاص الذين قضوا - بالإضافة إلى ما حباهم اللَّه إياه من ملكة الاجتهاد - دهرًا طويلًا في دراسة الشريعة أصولًا وفروعًا، حتى أمكنهم الوقوف على مرامي الشريعة ومقاصدها الكلية والجزئية. واللَّه أعلم.
وآخر دعوايَ أن الحمد لله رب العالمين.
1/ محرّم/ 1417 هـ
18/ 5/ 1996 م.
المصادر والمراجع
1.
آل تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية وأبوه وجده، المسودة في أصول الفقه، دار الكتاب العربي، بيروت.
2.
الآمدي: سيف الدين علي ابن أبي علي، الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ.
3.
أحمد الصاوي، بلغة السالك لأقرب المسالك، دار الفكر، بيروت
4.
أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط 1، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1412 هـ.
5.
الألوسي: شهاب الدين محمود، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1408 هـ.
6.
-إمام الحرمين: أبو المعالي الجويني، البرهان في أصول الفقه، ط 3، دار الوفاء، المنصورة 1412 هـ.
7.
أبو إسحاق الشيرازي، اللمع في أصول الفقه، مع تخريج أحاديثه للغماري، ط 1، عالم الكتب، بيروت، 1405 هـ.
8.
أبو إسحاق الشيرازي، المهذب، ومعه مجموع النووي، ط 2، مكتبة الإرشاد، جدة.
9.
أبو إسحاق الشيرازي، شرح اللمع، ط 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1408 هـ.
10.
الإسنوي: جمال الدين عبد الرحيم، نهاية السول شرح منهاج الأصول، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405.
11.
البابرتي: محمد بن محمود الحنفي، شرح العناية على الهداية، دار الفكر، بيروت.
12.
الباجي: أبو الوليد سليمان بن خلف، الحدود في الأصول، ط 1، مؤسسة الزعبي للنشر، بيروت، 1392 هـ.
13.
ابن بدران الدمشقي: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ط 4، مؤسسة الرسالة، بيروت.
14.
البدخشي: محمد بن الحسن، مناهج العقول شرح منهاج الأصول، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ.
15.
البزدوي، أصول البزدوي، ومعه كشف الأسرار، مطبعة الشركة الصحافية العثمانية.
16.
البيهقي: أحمد بن حسين، معرفة السنن والآثار، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1991 م.
17.
البيهقي، السنن الكبرى، ط 1، دار المعرفة، بيروت.
18.
البيضاوي: عبد اللَّه بن عمر، منهاج الوصول في معرفة الأصول، ط 1، عالم الكتب، بيروت، 1405 هـ.
19.
ابن برهان: أحمد بن علي، الوصول إلى الأصول، ط 1، مكتبة المعارف، الرياض، 1404 هـ.
20.
البخاري، الصحيح، ومعه فتح الباري، ط 1، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407 هـ.
21.
جلال الدين المحلي، شرح جمع الجوامع، دار الكتب العلمية، بيروت.
22.
جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، ط 1، دار الكتب العلمية بيروت، 1403 هـ.
23.
جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1403 هـ.
24.
جلال الدين السيوطي، طبقات الحفاظ، مكتبة وهبة، القاهرة.
25.
الجصاص: أحمد بن علي، أحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 هـ.
26.
ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعارف، مصر.
27.
أبو داود، السنن، ط 1، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت.
28.
الدارقطني، السنن، دار المحاسن للطباعة، القاهرة.
29.
ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت.
30.
ابن الهمام الحنفي، شرح فتح القدير، دار الفكر، بيروت.
31.
ابن الهمام، التحرير، ومعه تيسير التحرير، دار الكتب العلمية، بيروت.
32.
الزنجاني: محمود بن أحمد، تخريج الفروع على الأصول، ط 5، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1987 م.
33.
الزركلي: الأعلام، ط 10، دار العلم للملايين، بيروت، 1992 م.
34.
الزركشي: محمد بن بهادر، البحر المحيط، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، طبعة مصورة.
35.
ابن الحاجب: عثمان بن عمر، منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ.
36.
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط 1، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407 هـ.
37.
ابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب، ط 3، دار الرشيد، حلب، 1411 هـ.
38.
ابن حزم: علي بن أحمد، الإحكام في أصول الأحكام، ط 2، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1403 هـ.
39.
الحطاب: محمد بن محمد، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، ط 3، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ.
40.
أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ.
41.
د. حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، ط 1، دار الكتاب العربي، مصر، 1981 م.
42.
أبو الحسن الكرخي، رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية أو أصول الكرخي، دار ابن زيدون، بيروت.
43.
د. يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية، ط 6، دار الوفاء، المنصورة، 1414 هـ.
44.
اللكنوي، الرفع والتكميل، ط 3، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، 1407 هـ.
45.
ابن ماجه، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث، بيروت.
46.
الماوردي، الحاوي الكبير، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ.
47.
مالك بن أنس، الموطأ، دار إحياء التراث، بيروت، 1406 هـ.
48.
مجموعة من الأساتذة في مجمع القاهرة، المعجم الوسيط، ط 3، دار عمران، القاهرة.
49.
المزي: جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413 هـ.
50.
محب اللَّه بن عبد الشكور، مسلم الثبوت، ومعه فواتح الرحموت، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت.
51.
محمد بن أحمد التلمساني، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ.
52.
محمد فيض الحسن الكنكوهي، حاشية الكنكوهي على أصول الشاشي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404 هـ.
53.
محمد مصطفى شلبي، تعليل الأحكام، دار النهضة العربية، بيروت، 1401 هـ.
54.
محمد بن سلامة القضاعي، مسند الشهاب، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ.
55.
محمد سليمان الأشقر، الواضح في أصول الفقه، ط 4، دار النفائس، عمان، 1412 هـ.
56.
محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ط 6، الدار المتحدة، دمشق، ومؤسسة الرسالة، بيروت، 1412 هـ.
57.
محمد عبد الرؤوف المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، دار الفكر، بيروت.
58.
أ. د. محمد فتحي الدريني، بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1994 م.
59.
أ. د. محمد فتحي الدريني، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ط 2، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق، 1405 هـ.
60.
محمد الخضري بك، أصول الفقه، ط 7، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1412 هـ.
61.
ابن منظور، لسان العرب، ط 2، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1412 هـ.
62.
مسلم بن الحجاج، الصحيح، ومعه شرح النووي، ط 1، دار المعرفة، بيروت، 1414 هـ.
63.
مصطفى الزرقاء، المدخل الفقهي العام، ط 9، دار الفكر، بيروت.
64.
المرغيناني: برهان الدين علي ابن أبي بكر الحنفي، الهداية شرح البداية، وبذيله شرح فتح القدير، دار الفكر، بيروت.
65.
ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ط 3، المكتب الإسلامي، بيروت.
66.
ناصر الدين الألباني، صحيح سنن أبي داود، ط 1، المكتب الإسلامي، بيروت، 1409 هـ.
67.
ابن النجار: أحمد الفتوحي الحنبلي، شرح الكوكب المنير، طبع مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى 1408 هـ.
68.
النووي: يحي بن شرف، المجموع شرح المهذب، ط 2، مكتبة الإرشاد، جدة.
69.
النووي، منهاج الطالبين، ومعه مغني المحتاج، دار الفكر، بيروت.
70.
النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط 1، دار المعرفة، بيروت، 1414 هـ.
71.
النسائي، السنن الكبرى، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت.
72.
سميح أحمد خالد أسعد، تحقيق الجزء الثاني من الفصول في الأصول من أوله إلى نهاية باب القياس، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1403 هـ.
73.
سعدي أبو جيب، موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، ط 2، دار الفكر، دمشق، 1404 هـ.
74.
السرخسي: أحمد ابن أبي سهل، أصول السرخسي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ.
75.
ابن عبد البر النمري القرطبي، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار، ط 1، دار الوغى، حلب والقاهرة، 1414 هـ.
76.
عبد الحكيم السعدي الهيتي، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، ط 1، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1406 هـ.
77.
عبد اللَّه الموصلي الحنفي، الاختيار لتعليل المختار، دار الأرقم، بيروت.
78.
عبد اللَّه الغماري، الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج، ط 1، عالم الكتب، بيروت، 1405 هـ.
79.
عبد العلي الأنصاري، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، بذيل المستصفى، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت.
80.
عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط 1، من منشورات المجلس العلمي.
81.
عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، مؤسسة الريان، بيروت، 1410 هـ.
82.
عز الدين بن عبد السلام، شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، تحقيق إياد خالد الطباع، ط 1، دار الطباع، دمشق، 1410 هـ.
83.
العطار، حاشية العطار على جمع الجوامع، دار الكتب العلمية، بيروت.
84.
علاء الدين السمرقندي، ميزان الأصول في نتائج العقول، ط 1، مطابع الدوحة، قطر، 1404 هـ.
85.
علي بن عبد الكافي السبكي وولده عبد الوهاب، الإبهاج في شرح المنهاج، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404 هـ.
86.
أبو علي الشاشي، أصول الشاشي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1402 هـ.
87.
ابن العربي المالكي، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت.
88.
ابن فرحون المالكي، الديباج المذهب في تراجم أعيان المذهب، القاهرة، 1351 هـ.
89.
فخر الدين الرازي، المحصول، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ.
90.
صدر الشريعة: عبيد اللَّه بن مسعود الحنفي، التوضيح لمتن التنقيح، دار الكتب العلمية، بيروت.
91.
صلاح الدين العلائي الكيكلدي، تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم، ط 1، تحقيق ونشر د. عبد اللَّه آل الشيخ، 1403 هـ.
92.
ابن الصلاح، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، دار الفكر، بيروت، 1408 هـ.
93.
ابن قدامة المقدسي، المغني على مختصر الخرقي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ.
94.
ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنة المناظر، مكتبة المعارف، الرياض.
95.
ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الجيل، بيروت.
96.
ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، ط 2، مؤسسة الرسالة، بيروت، ومكتبة المنار الإسلامية، الكويت، 1401 هـ.
97.
ابن رشد: أبو الوليد محمد بن أحمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر، بيروت.
98.
ابن رشد، الضروري في أصول الفقه، ط 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994 م.
99.
الشاطبي: إبراهيم بن موسى، الموافقات، تحقيق وشرح عبد اللَّه دراز، دار المعرفة، بيروت.
100.
الشافعي: محمد بن إدريس، الأم، ط 2، دار الفكر، بيروت، 1403 هـ.
101.
الشافعي، الرسالة، تحقيق وشرح أحمد شاكر، دار الفكر، بيروت.
102.
الشوكاني: محمد بن علي، إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ.
103.
الشوكاني، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، دار الفكر، بيروت، 1414 هـ.
104.
الشربيني: محمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، دار الفكر، بيروت.
105.
تاج الدين السبكي، جمع الجوامع، دار الكتب العلمية، بيروت.
106.
ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى، جمع وترتيب ونشر عبد الرحمن العاصمي.
107.
ابن التركماني، الجوهر النقي، المطبوع بذيل سنن البيهقي، ط 1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1352 هـ.
108.
الترمذي، السنن، تحقيق أحمد شاكر، دار الفكر، بيروت، 1408 هـ.
109.
ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، ط 1، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1414 هـ.
110.
ابن خلكان، وفيات الأعيان، دار صادر، بيروت، 1971 م.
111.
الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، مطبعة السعادة، القاهرة.
112.
الغزالي: محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ط 2، دار الفكر، بيروت، 1409 هـ.
113.
الغزالي، أساس القياس، ط 1، مكتبة العبيكان، الرياض، 1413 هـ.
114.
الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، ط 2، دار الفكر، دمشق، 1400 هـ.
115.
الغزالي، المستصفى، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت.
116.
الغزالي، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، ط 1، رئاسة ديوان الأوقاف، العراق، 1391 هـ.