المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(مقدمة عن السنة وكتبها وبعض شروحاتها) - شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - عبد الكريم الخضير - جـ ١

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: ‌(مقدمة عن السنة وكتبها وبعض شروحاتها)

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح ‌

(مقدمة عن السنة وكتبها وبعض شروحاتها)

الشيخ/ عبد الكريم الخضير

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفيه من خلقه، وخيرته من بريته، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فإن سنة النبي عليه الصلاة والسلام عند عموم الأمة هي ثاني مصادر التشريع الإسلامي المعتبرة عند أهل العلم، ولم ينازع في ذلك إلا من أعمى الله قلبه من المبتدعة الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، كما جاء وصفهم في الحديث الصحيح، وقد قرن الله سبحانه وتعالى طاعة رسوله عليه الصلاة والسلام بطاعته عز وجل، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [(59) سورة النساء]، وقال تعالى:{قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [(32) سورة آل عمران] وقال عز من قائل: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [(132) سورة آل عمران] وقال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [(71) سورة الأحزاب] وقال جل من قائل: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [(36) سورة الأحزاب].

يقول الشاطبي في الموافقات في قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ} [(92) سورة المائدة] قال: "وسائرُ ما قرن الله فيه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته فهو دالٌ على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله".

ص: 1

وقال -جل وعلا-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [(65) سورة النساء] يقول العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين: "أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتفِ في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضاءه وحكمه، ولم يكتفِ منهم أيضاً منهم بذلك حتى يسلموا تسليماً، وينقادوا انقياداً".

الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة يقول: "هذه الآية يعني قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [(65) سورة النساء] هذه الآية نزلت فيما بلغنا -والله أعلم- في رجلٍ خاصم الزبير في أرضٍ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بها للزبير، وهذا القضاء سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حكماً منصوص في القرآن، والقرآن يدل -والله أعلم- على ما وصفت؛ لأنه لو كان قضاءٌ بالقرآن لكان حكماً منصوصاً في كتاب الله، وأشبه أن يكونوا إذا لم يسلموا الحكم لكتاب الله نصاً غير مشكل الأمر أنهم ليسوا بمؤمنين إذ ردوا حكماً تنزيلي فلم يسلموا".

المقدم: الشيخ الخضير: كأنكم تشيرون أيضاً من خلال هذه النقول إلى وجود فرق بين القبول والرضا أيضاً بالنسبة للسنة، فلا يعني أيضاً مجرد القبول بحكم السنة الإيمان، لا بد مع القبول الرضا، لو وجد من قبل السنة ولكنه لم يرض بها فلا يحكم له بهذا الأمر.

أولاً: التحكيم، التحاكم إلى السنة، ثم القبول والرضا بما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام، بعد ذلكم التسليم والانقياد لما حكم به عليه الصلاة والسلام، لكن قد يقول قائل: أن الإنسان قد يجد في نفسه شيء من الحكم إذا كان ضد مصالحه، كما يوجد من كثيرٍ من يحكم عليهم عند القضاة إذا كان الحكم ليس في صالحهم فإنهم يجدون في أنفسهم ولا بد، المقصود أن لا يتحدث بما في نفسه، ولا يحمله هذا على أن يقدح في الحكم الشرعي.

ص: 2

أما وجود ذلك في نفسه فهذا أمرٌ جبلي، كل إنسان يود أن يكون الحكم لصالحه، ومن ذلكم ما يثار كثيراً من قضايا تعدد الزوجات مثلاً، كثيراً من النسوة تعرف أن هذا شرع الله، وهذا حكم الله، لكن لا ترض أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة، وهي التي تقدر مصلحتها، لكن لا بد من الرضا والانقياد لحكم الله وحكم رسوله، لنعلم أن هذا شرع من الله سبحانه وتعالى، فلا بد من الرضا به سواءٌ كان في كتابه أو جاء على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام لا فرق.

المقدم: فضيلة الدكتور: في قولكم في المقدمة بأنها هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، هذا الترتيب فقط من أهل العلم بحيث جعلوا مصدر أول ومصدر ثاني ومصدر ثالث.

نعم، باعتبار أن المتكلم بكتاب الله سبحانه وتعالى هو الله عز وجل، فالقرآن يختلف عن السنة من وجوه منها: أنه متعبد بتلاوته، والسنة وإن كان يجب تحكيمها، ويجب الإيمان بها، ويجب العمل بمقتضاها، إلا أنه لا يتعبد بتلاوتها.

المقدم: لكن حجيتها مثل حجية القرآن؟

حجيتها مثل القرآن تماماً.

المقدم: إنما مراد الفقهاء بالتقسيم لذات التقسيم؟

لذات التقسيم باعتبار القائل، وإلا فالسنة وحيٌ كما جاء عن الله عز وجل:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3 - 4) سورة النجم] يقوله في حق نبيه عليه الصلاة والسلام، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:((عليكم بسنتي)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا أوتين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتب الله اتبعناه)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي رافع.

وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي نابٍ من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها)) الحديث مخرج في السنن، سنن أبي داود والترمذي والحاكم عن المقدام بن معدي كرب.

ص: 3

على كل حال السنة بالنسبة للاحتجاج مثل القرآن سواءً بسواء، لا تختلف عنه، فما ثبت بالسنة يجب العمل به سواء قلنا: أنه مثل القرآن في القطعية في الثبوت أو دونه.

المقدم: اخترتم كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، ما المراد بالجامع الصحيح هنا؟

الجامع الصحيح المراد به ما اشتهر عند الناس واستفاض لديهم من صحيح البخاري الذي سماه مؤلفه (الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه).

المقدم: لعلكم تتحدثون إذاً عن البخاري وعن صحيحه ما دام هذا الكتاب باختصار.

البخاري -رحمه الله تعالى- هو أمير المؤمنين في الحديث: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري، ولد -رحمه الله تعالى- سنة (194هـ) ببخارى، ومات أبوه وهو صغير، فكفلته أمه وأحسنت تربيته، وقد ظهر نبوغه من صغره وهو في الكتاب، فرزقه الله سبحانه وتعالى قلباً واعياً وحافظة قوية، وذهناً حاداً، ووفق لحفظ الحديث فأخذ منه بحظٍ كبير، ولما يبلغ العاشرة من عمره، ثم صار يختلف إلى علماء عصره وأئمة بلده فأخذ الحديث والعلم عنهم، وصار يراجعهم في بعض ما سمع منهم، وقد بلغ عدد شيوخه فيما روي عنه ثمانين وألف نفس (1080) ليس فيهم إلا صاحب حديث، وقد بلغت محفوظاته رحمه الله أنه يحفظ من الحديث الصحيح مائة ألف، ويحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، يحدث هذا الكم الهائل من السنة، فرحمه الله تعالى رحمةً واسعة.

وقد أثنى عليه جمعٌ من الحفاظ من أقرانه، فقد قال أبو حاتم الرازي:"لم تخرج خرسان قط أحفظ منه، ولا قدم إلى العراق أعلم منه"، وكذلك أثنى عليه الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن فقال:"رأيتُ علماء الحرمين والحجاز والشام والعراق، فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل" وروى الحاكم بسنده أن مسلماً الإمام صاحب الصحيح جاء إلى البخاري فقبله بين عينيه، وقال:"دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".

ص: 4

وأما ثناء من جاء بعده فيكفي في ذلك قول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في مقدمة الفتح، يقول:"لو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذلك بحرٌ لا ساحل له".

وعلى كل حال ترجمة الإمام البخاري مدونة ومسطرة ومفردة ومع غيره من الأئمة، صنفت في ترجمة المصنفات التي منها المجلد، ومنها المجلدان، ومنها ما يبلغ المئات من الصفحات في ثنايا الكتب، وألف عن كتابه الصحيح العشرات من المؤلفات والرسائل العلمية، كلٌ يتناوله من جهة، ولا يزال الصحيح بحاجة إلى خدمة، وإن كان مشروحاً من أكثر من ثمانين شرح فيما عده صاحب كشف الظنون، والشروح أضعاف هذا العدد الذي ذكره مما لم يطلع عليه وممن تأخر عنده.

الإمام البخاري له مصنفات غير الجامع الصحيح، التواريخ الثلاثة (الكبير والأوسط والصغير) كتاب التفسير الكبير، وله الأدب المفرد، وله القراءة خلف الإمام، ورفع اليدين، وله غيرها من الكتب.

توفي رحمه الله ليلة عيد الفطر سنة (256) عن اثنتين وستين عاماً، بقرية يقال لها: خرتنك على فرسخين من سمرقند.

المقدم: كانوا يتكلمون العربية -فضيلة الدكتور- في بخارى قبل أن يتعلمها هو؟

نعلم أن الأعاجم لما دخلوا في الإسلام عنوا بلغة الإسلام، بلغة القرآن، فتعلموها وأتقنوها وضبطوها وحفظوها حتى برز أكثرهم وصنف فيها، بل أكثر المؤلفين والمصنفين في علوم العربية بفروعها العشرة منهم، ويكفينا من ذلكم سيبويه صاحب الكتاب ليس بعربي، وهو أشهر كتابٍ في العربية على الإطلاق، على كل حال معرفة الأعاجم للعربية أمرٌ مستفيض ظاهر معروف، ومؤلفتاهم كثيرة جداً تغني عن الإفاضة عن هذا الموضوع.

ص: 5

صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أول كتاب صنف في الصحيح المجرد من غيره، فقد كان الأئمة قبل الإمام البخاري لا يقصرون كتبهم على الأحاديث الصحيحة، بل كانوا يجمعون بين الصحيح والحسن الضعيف، تاركين التمييز بينها إلى معرفة القارئين والطالبين إلى معرفة هؤلاء بالرجال، ومقدرتهم على التمييز بين المقبول والمردود، وقد كانوا لا يهتمون بالتمييز فيما تقدم من الأزمان؛ لأنهم عندهم أن من ذكر الإسناد فقد برئ من العهدة، والمطلع على هذه الأسانيد يستطيع أن يميز، لكن لما دخلت العلوم، وكثر الداخلون في الإسلام، وقلت العناية بعلوم الشرع، احتاج الناس إلى من يميز لهم الصحيح من غيره، فجاء الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فصنف كتابه الصحيح، فرأى أن يخص الصحيح بجمع فألف كتابه المذكور، وفي هذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:

أول من صنف بالصحيحِِ

محمدٌ وخص بالترجيحِ

ومسلمٌ بعد وبعض الغرب معْ

أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ

الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- روي عنه أنه قال: "ما على ظهر الأرض كتابٌ بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك" وهذا كان قبل وجود الصحيحين، وإلا لو رأى الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- هذين الكتابين أعني صحيح البخاري وصحيح مسلم لما قال هذه المقالة، وشواهد الأحوال وواقع هذه الكتب يشهد بما ذكرنا ولذا فإن صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى عند جماهير العلماء، وذهب بعض المغاربة إلى تفضيل صحيح مسلم، كما أشار الحافظ العراقي رحمه الله:

ومسلمٌ بعد وبعض الغرب معْ

أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ

ص: 6

ولعل مرد التفضيل وسببه أن صحيح مسلم ليس فيه بعد الخطبة إلا حديث السرد، فقد جرده الإمام مسلم رحمه الله من الموقوفات، وفتاوى الصحابة والتابعين، كما نقل ذلك القاسم التجريبي عن ابن حزم، وهذا غير راجع إلى الأصحية، نعم إذا نظرنا إلى الصحيحين من هذه الحيثية وجدنا صحيح الإمام مسلم مجرد، ليس فيه إلا الحديث بعد الخطبة، حتى التراجم الإمام مسلم ما ترجم كتابه، بخلاف البخاري الذي يشتمل على آلاف التراجم، ويشتمل أيضاً على آلاف الموقوفات من أقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم.

المقصود بالتراجم الأبواب، باب ما جاء في كذا، باب حكم كذا، باب

إلى آخره، هذه التراجم، الإمام مسلم جرد كتابه منها، وكون الإمام مسلم جرد كتابه من الموقوفات والمقطوعات من أقوال الصحابة والتابعين هذا غالباً، وإلا يوجد فيه عدد يسير جداً من الموقوفات، وفيه أيضاً بعض المعلقات، وإن كانت يسيرة جداً.

من الموقوفات التي في صحيح مسلم، قول يحيى بن أبي كثير:"لا يستطاع العلم براحة الجسم" هذا الموقوف أدخله الإمام مسلم رحمه الله بين أحاديث مواقيت الصلاة، وأشكل على جمع من الشراح مناسبة لهذا الخبر وهذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير بين أحاديث مرفوعة في مواقيت الصلاة، ولعل الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- أعجبه سياق المتون والأسانيد، وأراد أن يلمح مثل هذا الضبط وهذا الإتقان لا يأتي براحة، لا يأتي مع الراحة، ولا يأتي مع الاسترخاء، بل لا بد من إتعاب الجسم، ولذا قال -رحمه الله تعالى-:"لا يستطاع العلم براحة الجسم، أو لا ينال العلم براحة الجسم" هذا الذي ذكروه وما نقل عن بعض المغاربة أن سبب التفضيل تجريد الإمام مسلم لكتابه من الموقوفات وأقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم، هذا غير راجع إلى الأصحية، المفاضلة بين الصحيحين في الأحاديث الأصول المرفوعة التي هي العمدة في الكتاب.

ص: 7

ممن فضل مسلم على البخاري أبو علي النيسابوري، وأشار إليه الحافظ العراقي فيما تقدم، روي عنه قال:"ما تحت أديم السماء كتابٌ أصح من كتاب مسلم" وكلامه كما أشار ابن حجر محتملٌ للمدعى أنه أصح من كتاب البخاري، وهو محتملٌ أيضاً لنفي الأصحية خاصة دون المساواة، كونه لا يوجد أصح منه لا ينفي أن يوجد مساوي له، كون صحيح مسلم لا يوجد كتاب على وجه الأرض أصح منه لا ينفي أن يوجد كتاب مساويٍ له في الأصحية، ويتأيد ذلك بحكاية التساوي قولاً ثالثاً في المسألة، فأبو علي إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم، ولم ينفِ المساوي، هذا ما قرره ابن حجر وتبعه عليه الحافظ السخاوي.

لكن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [(125) سورة النساء] يقول: "فإن قيل: الآية نصٌ في دينٍ أحسن من دين هذا المسلم لكن من أين له أنه ليس هناك دينٌ مثله؟ " الآية نصٌ في دينٍ أحسن من دين الإسلام، لكن من أين لهذا المسلم أن يدعي أنه ليس هناك دينٌ مثله؟ أجاب -رحمه الله تعالى- من وجوه: والوجه الأول هو الذي يعيننا هنا، فقال: "أحدها: أن هذه الصيغة وإن كانت في أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل فإنه كثيراً ما يضمر بعرف الخطاب يفضل المذكور المجرور بمن مفضلاً عليه في الإثبات، فإنك إن قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلاً عليه، والأول مفضلاً، فإذا قلت: لا أحسن من هذا أو من أحسن من هذا أو ليس فيهم أفضل من هذا، أو ما عندي أعلم من زيد، أو ما في القوم أصدق من عمرو، أو ما فيهم خيرٌ منه، فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم، بل قد صار حقيقة عرفية، يعني هذه العبارة صارت حقيقة عرفية في نفي فضل الداخل في أفعل، وتفضيل المجرور على الباقي، وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم، وضمنت معنى الاستثناء كأنك قلت: ما فيهم أفضل من هذا أو ما فيهم المفضل إلا هذا، ثم ذكر رحمه الله بعد ذلك بقية الوجوه.

ص: 8

مفاد كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- أن قولنا: لا يوجد أفضل من فلان أو ما على وجه الأرض أفضل من فلان أن الحقيقة العرفية تدل على تفضيل هذا المذكور على جميع من على وجه الأرض، فصار حقيقةً عرفية، وإن كان في الأصل اللغوي أنها تنفي الأفضل، ولا تنفي وجود المساوي، هذا كلام الشيخ -رحمه الله تعالى-، يقول:"فإن هذا التأليف يدل على أنه الأفضل والأعلم والخير".

شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- حينما ذكر هذا الكلام وهو كلامٌ جميل ونفيس، يرد عليه ما ذكره ابن القطاع في شرح ديوان المتنبي قال:"ذهب من لا يعرف معاني الكلام إلى أن مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر)) مقتضاه أن يكون أبو ذر أصدق العالم أجمع، ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر)) فمقتضاه أن يكون أبا ذر أصدق العالم أجمع، قال: "وليس المعنى كذلك، وإنما نفى أن يكون أحدٌ أعلى رتبةً في الصدق منه، ولم ينفِ أن يكون في الناس مثله في الصدق، ولو أراد ما ذهبوا إليه لقال: أبو ذرٍ أصدق من كل من أقلت" والحديث مخرج في المسند والترمذي وابن ماجة، والحديث بمجموع طرقه حسن، حسنه الترمذي والسيوطي والألباني، وقال الحافظ: "إسناده جيد".

المقدم: كأني فهمت أن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لا يؤيد أن صحيح مسلم أفضل من صحيح البخاري ولا حتى مساوياً له، وإنما يقول: أن هذه العبارة خاطئة، هل فهمي صحيح؟

شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لا يعرض للصحيحين، كلامه ليس له علاقة بالصحيحين في الآية، كلامه يوضح لنا كلام أبي علي النيسابوري، وأنا أبا علي النيسابوري يرى أن صحيح مسلم أفضل بهذه العبارة، ولا يعني أنه ينفي الأفضل بل يثبت المساوي لا، لا يعني هذا.

المقدم: فهم الآية حتى أن من قال: أنه أقر بأن صحيح مسلم أفضل من صحيح البخاري لم ينفِ أن يكون متساوياً، لكن من فهم الآية ينفي أن يكون متساوياً.

نعم، إذا قلنا: الحقيقة العرفية لمثل هذا التركيب يجعل المذكور أفضل من غيره مطلقاً، نأتي إلى الحديث حديث:((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء)) لا يوجد على ظهر الأرض أصدق لهجةً من أبي ذر.

مثل {وَمَنْ أَحْسَنُ} ؟

ص: 9

مثل الآية ومثل قول أبي علي، مفهوم على مقتضى كلام شيخ الإسلام أن يكون أبا ذر أصدق العالم أجمع، جميع من وطئ على وجه الأرض أبو ذر أصدق منه، لكن هذا غير مراد بلا شك إذ الأنبياء أصدق، الصديق أصدق، يعني أثبت النبي عليه الصلاة والسلام أثبت له الصديق، وسمي الصديق، واستحق هذا الوصف الذي هو وصف المبالغة لما اتصف به من هذا الوصف، لكن لعل الحديث جرى مجرى المبالغة في إثبات الصدق لأبي ذر، ولم تقصد حقيقة هذه المبالغة.

بالنسبة لعناية الأمة بالصحيح الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، فلم يحظى كتابٌ من كتب الحديث بعناية الأمة مثل ما حظي بذلك هذا الكتاب للإمام البخاري رحمه الله، فقد عني به علماء الأمة شرحاً له واستنباطاً وبياناً لمشكليه وإعرابه، وكلاماً على رجاله وتعاليقه، وقد تكاثرت شروحه حتى خال صاحب كشف الظنون إنها تنيف على ثمانين شرحاً، وذلك عدا ما ألف بعده، ودون ما لم يقف عليه من الشروح الكاملة والناقصة.

من أهم شروح الجامع الصحيح شرح الخطابي المسمى (أعلام الحديث) وشرح ابن بطال، وشرح الكرماني (الكواكب الدراري) وشرح الحافظ ابن رجب اسمه (فتح الباري) و (فتح الباري) للحافظ ابن حجر، و (عمدة القاري) للعيني، و (إرشاد الساري) للقسطلاني، وكلها مطبوعة، وهناك الشروح الكثيرة المخطوطة، وهناك أيضاً شروح المعاصرين مثل:(فيض الباري) لمحمد أنور الكشميري، وهناك (لامع الدراري) وغيرها من الشروح التي تفوق الحصر.

المقدم: القديمة مكتملة فضيلة الدكتور؟

هذه التي ذكرناها كلها مكتملة سوى شرح ابن رجب إلى الجنائز، وهو كتابٌ نفيس.

المقدم: نفس المسمى؟

نفس المسمى، اسمه (فتح الباري) وكتاب ابن حجر اسمه (فتح الباري) وقد اطلع عليه ابن حجر، ونقل منه في موضعين في الفتح، ونص عليه، ونص على أنه قال ابن رجب في شرح البخاري.

المقدم: والنفيس منهما تقول: فتح الباري لابن رجب؟

ابن رجب شرحٌ نفيس لو كان كاملاً لما عدل به غيره، لكن الكتاب ناقص والأمر يومئذٍ لله، وفتح الباري لابن حجر أيضاً كتابٌ لا يستغني عنه طالب علم، وإرشاد الساري للقسطلاني لا يستغني عنه من أراد ضبط ألفاظ الصحيح في متونه وأسانيده.

ص: 10

المقدم: ألحظ -عفواً فضيلة الدكتور- لعلكم دائماً تقولون: القسطلاّني

هو اسمه هكذا؟

نعم، القسطلاني.

المقدم: لأن بعض الناس يضبطونها القسطلَاني.

لا، بتشديد اللام.

أيضاً الكتاب كما شرح اختصر، اختصره جمعٌ من أهل العلم لتقريبه على الطالبين بحذف الأسانيد والمكررات، فمن هذه المختصرات: مختصر الشيخ الإمام جمال الدين أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي، المتوفى سنة (656هـ) مختصر صحيح البخاري، وله أيضاً مختصر صحيح مسلم وهذا مطبوع، ومشهور ومتداول، وشرحه بنفسه أبو العباس القرطبي، شيخ صاحب التفسير أبو عبد الله.

من المختصرات: مختصر الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعد بن أبي جمرة الأندلسي، المتوفى سنة (695هـ) وهو نحو ثلاثمائة حديث، قد شرحهم مختصره في كتابٍ سماه:(بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها) والشرح نفيس، يعتمد عليه كثيرٌ من الشراح كابن حجر وغيره؛ لكنه لا يسلم من ملحوظات ليس هذا محلُّ بسطها، لكن يستفاد منها على كل حال.

من المختصرات: مختصر الشيخ بدر الدين حسن بن عمر بن حبيب الحلبي المتوفى سنة (779هـ) واسمه (إرشاد السامع والقاري المنتقى من صحيح البخاري)، ومن المختصرات: مختصر الزبيدي الذي نحن بصدد شرحه، وسيأتي الكلام عنه -إن شاء الله تعالى-.

المقدم: هناك موضوع يتساءل عنه الكثير فضيلة الدكتور، هذا يتبين حقيقة في تراجم الإمام البخاري، طريقة الإمام البخاري في التراجم أثبتت أن عند البخاري فقهٌ عجيب كما نص على ذلك كثير من الشراح، فإذا جاء يترجم أو يتحدث عن ترجمة للإمام البخاري قال: وهذا من فقه الإمام البخاري، الحديث عن فقه البخاري.

ص: 11

الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كغيره من الأئمة المجتهدين ممن جمع بين الحديث والاستنباط، مثل مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم، ولا يختلف معهم في المصادر، بل الجميع عمدتهم في الاستنباط الكتاب والسنة والإجماع والقياس عند الحاجة إليه، إلا أنه يختلف عنهم من حيث طريقة تدوين الأحكام، فلم ينهج نهجهم في فرز الأحكام عن أصولها؛ ولكنه يترجم بها للحديث، ولذا قال جمعٌ من الحفاظ:"فقه البخاري في تراجمه" وسوف أولي هذا الجانب عناية تليق بمقام هذا الإمام أثناء شرح الكتاب، فأذكر تراجمه على حديث الواحد في المواضع المختلفة من صحيحه، وأربط بين الحديث وهذه التراجم، ليتضح للسامع مدى دقة هذا الإمام في الاستنباط، وأنه إمامٌ مجتهد إضافة إلى كونه شيخ الصناعة الحديثية وإمام المحدثين.

ومما يجدر التنبيه عليه أن أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة تنازعوا في نسبة الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- إلى مذاهبهم، فترجم رحمه الله في طبقات الشافعية بدعوى أنه منهم، كما ترجم في طبقات الحنابلة، والمترجم يزعم أنه حنبلي، وزعم المالكية أنه مالكي، وادعى الحنفية أنه حنفي، وهذه الأقوال لا ثبات لها، يشير إلى ضعفها تعارضها، ولا شك أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- إمامٌ مجتهد، من سبر كتابه وطريقته في استنباط الأحكام من الأحاديث، وقارن أقواله بأقوال الأئمة المجتهدين وجد أنه يخالفهم، فتجده مرةً يوافق الإمام أبا حنيفة، ومرةً يوافق الإمام مالك، ومرةً يوافق الشافعي، ومرةً يوافق الإمام أحمد وإسحاق وهكذا، المقصود أنه مجتهد مطلق، وليس له مذهب يتبعه -رحمه الله تعالى-.

ص: 12

والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عنده دقة متناهية في الاستنباط، وهذا هو الذي حير كثيراً من الشراح، وجعل بعضهم يحكم عليه بأنه لم يحرر كتابه، ولم يبيض كتابه، بل جعله مسودات تحتاج إلى تبييض، هذا الكلام ليس بصحيح، منشأه عدم فهم مراد البخاري، فله ملاحظ دقيقة جداً خفيت على كثيرٍ من الشراح، فجعل بعضهم أحياناً يقول: ليس بين الحديث وبين الترجمة رابط، وبعضهم يقول: هذا الحديث يتبع الترجمة السابقة، وبعضهم يقول

إلى غير ذلك من الأقوال، حتى جرؤ بعضهم أن قال: أن إيراد هذا الحديث تحت هذه الترجمة مجرد تعجرف، ونحن نولي -بإذن الله تعالى- هذه التراجم خلال شرح الكتاب فيما سيأتي -إن شاء الله تعالى- عناية تليق بمقام الكتاب -إن شاء الله تعالى-.

سبب اختيار الكتاب أنه مختصر، من أصح الكتب، وأولى منه الأصل (صحيح الإمام البخاري) لكن باعتبار أن من السامعين جمعٌ كبير ممن لا يحتمل سماع كثرة الأسانيد حدثنا فلان قال: حدثنا فلان من عامة الناس ممن يريدون النتيجة والفائدة بسرعة، آثرنا اختيار هذا المختصر، وإلا فالأصل أن الحديث يكون عن الكتاب الأصلي الذي هو البخاري.

هذا المختصر اسمه: (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح) اختصره الزبيدي من صحيح الإمام البخاري بأقل من ربع حجمه، حذف الأحاديث المكررة والأسانيد فقال في مقدمته:"اعلم أن كتاب الجامع الصحيح للإمام الكبير أبي عبد الله البخاري من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد، إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، فإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهدٍ وطول فتش، ومقصود البخاري -رحمه الله تعالى- بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصودنا هنا: أخذ أصل الحديث لكونه قد علم أن جميع ما فيه صحيح".

يقول النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم: "وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة، وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به، فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث".

ص: 13

قال: "وقد رأيت جماعةً من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا، فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم".

الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أحياناً يغرب في الاستنباط ويبعد، وإذا أراد الباحث قبل وجود هذه الفهارس وقبل وجود هذه الآلات التي يسرت على الناس أن يبحث عن حديثٍ ما فإنه يشق عليه أن يقف عليه؛ لأنه يقدر أنه في الباب الفلاني، والإمام البخاري لحظ في الحديث ملحظاً آخر فجعله في باب بعيد كل البعد عن هذا الباب أو عن جميع الكتاب، الكتاب الذي يدخل ضمن هذا الباب، فمثلاً حديث ضباعة بنت الزبير لما أرادت الحج وقالت: أريد الحج وأجدني شاكية، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام:((حجي واشترطي)) موضوع الحديث عند عموم الناس وعند عموم المتعلمين موضوع الاشتراط في الحج، فالباحث حينما يريد أن يقف على هذا الحديث في الصحيح لا يمكن أن يتعدى كتاب الحج، فإذا بحث في كتاب الحج من أوله إلى آخره لن يجد هذا الحديث، حتى قال جمعٌ من أهل العلم: أن البخاري لم يخرج هذا الحديث، لكن الإمام البخاري أبعد في الاستنباط فخرج الحديث في كتاب النكاح، ولحظ فيه أن ضباعة تحت المقداد، وكانت ضباعة تحت المقداد -طيب- إذا كانت تحت المقداد والمقداد مولى، وهي قرشية هاشمية ابنة عم الرسول عليه الصلاة والسلام، فلحظ عدم الكفاءة، وعدم اشتراط الكفاءة في النسب، وترجم على الحديث بقوله -رحمه الله تعالى-:(باب الأكفاء في الدين).

نعم، قد يقول قائل: الأولى أن يذكر البخاري الحديث في كتاب الحج ويكرره مرةً ثانية في كتاب النكاح؛ لأن أولى ما يوضع فيه مثل هذا الحديث كتاب الحج، فإذا بحثنا في كتاب الحج وفي الفوات والإحصار ما وجدنا شيء، لكن لدقة الإمام -رحمه الله تعالى- في الاستنباط جعله في كتاب النكاح الذي يخفى استنباط هذا الحكم من هذا الحديث على كثيرٍ من المتعلمين بالنسبة لكتاب النكاح، لكن كتاب الحج الحديث مشهور ومستفيض يعرفه الخاص والعام قد لا تكون الحاجة إليه ماسة لإيراده في كتاب الحج مثل إيراده في كتاب النكاح من وجهة نظر الإمام البخاري.

ص: 14

وإن كان قد ينازع في هذا -رحمه الله تعالى-، فالإمام البخاري كما عرفنا يكرر الأحاديث مرات، وأحياناً يكرر الحديث في عشرة مواضع في عشرين موضعاً، فلو أنه كرره هذا الحديث في الحج وفي النكاح لكان أولى.

الإمام البخاري عرفنا أن من طريقته أنه يكرر الأحاديث، فأحياناً يقطع الحديث ويذكره في عشرين موضعاً، لكن لم يكن من عادته أن يكرر الحديث بلا فائدة، فلا يذكر الحديث بلفظه بسنده ومتنه من غير فرق إلا نادراً، لا بد إذا كرر الحديث أن يشتمل هذا التكرار على فائدة زائدة غير ما ذكر في الباب السابق، وغير ما ذكر فيما تقدم أو فيما سيأتي، كرر أحاديث يسيرة نحو العشرين في مواضع من كتابه دون تغييرٍ لألفاظها وأسانيدها، بل جاءت بلفظها في متونها وأسانيدها، وهذا قليلٌ جداً بالنسبة لحجم الكتاب.

يقول المختصِر: "لما كان الأمر كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب"، ثم ذكر المختصِر منهجه أنه إذا أتى الحديث المتكرر يقول:"أثبته في أول مرة" يثبت الحديث في أول موضع من مواضعه، البخاري قد يذكر الحديث في عشرين موضع يذكره المختصر في الموضع الأول، "وإن كان في الموضع الثاني زيادةٌ فيها فائدة ذكرتها وإلا فلا".

ص: 15

يقول: "وقد يأتي حديثٌ مختصر ويأتي بعد في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول، فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة، ولا أذكر من الأحاديث إلا ما كان مسنداً متصلاً، وأما ما كان مقطوعاً أو معلقاً فلا أتعرض له، وكذلك ما كان من أخبار الصحابة فمن بعدهم مما ليس له تعلق بالحديث، ولا فيه ذكرُ النبي صلى الله عليه وسلم فلا أذكره" يعني أن المختصر حذف الأسانيد وحذف المكررات وحذف المعلقات وحذف الموقوفات عن الصحابة والمقطوعات من أقوال من بعدهم، واقتصر على الأصول المرفوعة، ولا شك أن صنيعه هذا يقرب الكتاب على الطالبين لكنه يبقى أن الكتاب الأصل هو الأصل، وأن ما حذفه فيه فائدة كبيرة، وأن فقه الإمام البخاري أحياناً لا يتبين إلا بذكر ما يذكر رحمه الله بعد الترجمة من الأقوال الموقوفة من أقوال الصحابة والتابعين، فقد يرجح بها أحياناً، يأتي ترجمته على سبيل التردد فلا يعرف مذهبه، والعلماء ذكروا استقراءً أن طريقة الإمام البخاري ومنهجه أنه إذا أيد الترجمة التي لم يجزم فيها بقول صحابي أو تابعي فإن قوله يكون هو اختيار الإمام -رحمه الله تعالى-، وقد نص على ذلك الشراح ابن حجر وغيره.

المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ كم عدد أحاديث التجريد الصحيح؟

أحاديث التجريد تبلغ (2195) حديث، أحاديث البخاري من غير تكرار تبلغ (2602) حديث، فرق نعم أكثر من أربعمائة حديث.

المقدم: كيف حصل هذا؟ مع أنه مجرد إزالة المكرر، هل هذا يعني يحسب فيه الموقوفات والمعلقات وغيرها؟

ص: 16

لا لا، الكلام على المرفوع (2602) حديثاً هذه الأحاديث المرفوعة الأصول من غير تكرار، هذا الفرق، أولاً أن الشيخ المختصر فاته عدة أحاديث لم يتعرض لها تزيد على المائة، واعتنى بها وذكرها الشيخ المحدث عمر ضياء الدين الداغستاني في جزءٍ صغير طبع مستقلاً، (زوائد الزبيدي) يبقى أيضاً أكثر من ثلاثمائة حديث، سببها أن من عدَّ أحاديث البخاري من غير تكرار كالحافظ ابن حجر وبلغت عدتها عنده (2602) إنما يذكر التكرار عن الصحابي الواحد، لكن إذا كان الحديث ولو اتحد لفظه عن صحابيين فإنه حديثان، يعتبر حديثان، بينما المختصِر إذا تكرر ولو اختلف الصحابي حذفه، ولهذا قلَّ العدد بهذه النسبة، أظن أن هذا واضح، إذا اختلف الصحابي عده المحدثون حديثين، الحديث مختلف تماماً، المختصِر ينظر إلى المتن بغض النظر عن الرواة وعن الصحابة، ولذا قل العدد، فربَّ حديثٍ عده ابن حجر مرتين واللفظ واحد، لكنه روي عن ابن عمر وابن عباس فهما حديثان عنده، لكن عند المختصِر واحد؛ لأنه ينظر إلى المتن، ولهذا قلَّ العدد.

المقدم: لكنه أحياناً قد يحذف أحاديث فضيلة الدكتور كما ذكرتم عن حذفه لبعض الأحاديث ربما يتعلق بها أحياناً ترجمة معينة، والحديث قد يذكر في موضع آخر؟

يحصل المختصِر لا يعتني بالتراجم، إنما يهمه متون الأحاديث المرفوعة، إن شاء الله في شرح كل حديث نذكر جميع التراجم التي ترجم بها البخاري على هذا الحديث لنقارن فقه الإمام بفقه غيره من الأئمة.

مؤلف المختصر: حصل خطأٌ كبير في نسبة الكتاب إلى الحسين بن المبارك الزبيدي، فطبع الكتاب مراراً مفرداً ومشروحاً منسوباً إلى الحسين بن المبارك الزبيدي، وهذا جهلٌ ممن طبعه أول مرة، وقلده من جاء بعده، مع أن الشارح الشرقاوي وغيره قد نص بصريح العبارة في أول الشرح على أن مؤلف الأصل الحقيقي وذكره باسمه الصحيح، الشارح نص على المؤلف، ومع ذلك من طبع هذا الشرح أخطأ في اسم المؤلف، وقلده جميع من جاء بعده، الكتاب في الطبعات القديمة نسب إلى الحسين بن المبارك الزبيدي.

المقدم: شرح الشرقاوي على هذا المختصر؟

ص: 17

على المختصر نعم، شرح الشرقاوي، وهناك شرح آخر لصديق حسن خان، منشأ الوهم وسببه، لماذا أخطأوا في نسبة الكتاب إلى غير مؤلفه؟ منشأ الوهم وسببه ورود اسم من نسب إليه الكتاب الحسين بن المبارك الزبيدي في سلسلة إسناد المؤلف، الكتاب معروف (مختصر الزبيدي) فجاء هذا الاسم الحسين بن المبارك الزبيدي في سلسلة إسناد مؤلف الكتاب الزبيدي إلى البخاري، فخلط وهذا زبيدي وهذا زبيدي مع أن المؤلف المختصر ما ذكر اسمه في أول الكتاب فنسبوه إليه، وإلا فبينهما مائتان واثنان وستون سنة، هذا توفي سنة (631هـ) الحسين بن المبارك، ومؤلف الكتاب الحقيقي أحمد بن محمد بن عبد اللطيف الشرجي الزبيدي، هذا توفي سنة (893هـ) وهو منسوبٌ إلى شرجة موضع بنواحي مكة، والزبيدي نسبة إلى زبيد إحدى بلاد اليمن؛ لأنه ولد بها واشتهر ومات بها، وهو مولود سنة (811هـ) وصحح السخاوي أنه ولد سنة اثني عشرة، وكان محدثاً فقهياً حنفياً أديباً شاعراً بارعاً، له أوصاف ذكرت في الضوء اللامع للسخاوي وغيره، ومات كما ذكرنا سنة (893هـ).

والمختصر له شروح من أهمها شرح الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي المتوفى سنة (1227هـ) واسمه (فتح المبدي في شرح مختصر الزبيدي) ومن شروحه (عون الباري لحل أدلة البخاري) لأبي الطيب صديق حسن الكنوجي البخاري المتوفى سنة (1307هـ).

ص: 18

لعل من أجود طبعات الكتاب المطبوعة مع عون الباري، فإن تيسرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب الموجود على هامش نيل الأوطار المطبوعة في بولاق فبها ونعمت، وإلا فنشرت دار الرشيد بحلب سنة (1404هـ)، طبعة جيدة ونفيسة، والشرح يعين الطالب لعله يراجع قبل الاستماع، طبع مراراً مستقلاً قديماً وحديثاً، ومن آخر طبعاته طبعة للشيخ علي حسن عبد الحميد مرقمة ومفهرسة، وذكرت فيها الأطراف لكن مع الأسف الشديد أنه حذف مقدمة المؤلف، وهذا عيب لا شك أن هذا عيب في هذه الطبعة، فالتصرف في كتب أهل العلم أمرٌ لا يقبله أحد، فالأصل أن يبقي الكتاب على وضع مؤلفه، فيذكر مقدمته ولعله يستدرك ذلك في طبعات لاحقة، وطبعة علي حسن هذا صدرت عن دار ابن القيم ودار ابن عفان، لا شك أن الكتب ينبغي أن تبقى على وضعها، والتصرف فيها المؤلف نفسه أراد أن يكون كتابه هكذا، ونحن نتصرف فيه ونحذف منه ما لم يرده، فلعل الشيخ علي يعيد النظر في طبعة لاحقة، ويذكر هذه المقدمة، أما المقدمة فهي مشتملة على منهج المختصر، وسنده إلى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-.

المقدم: نبدأ على بركة الله في قراءة خطبة الكتاب، والتي عنون لها المؤلف بقوله:

خطبة الكتاب:

قال رحمه الله: الحمد لله البارئ المصور الخلاق، الوهاب الفتاح الرزاق، المبتدئ بالنعم قبل الاستحقاق، وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، وفضله على كافة المخلوقين على الإطلاق حتى فاق جميع البرايا في الآفاق، وعلى آله الكرام الموصوفين بكثرة الإنفاق، وعلى أصحابه أهل الطاعة والوفاق، صلاة دائمة مستمرة بالعشي والإشراق.

ص: 19

عرفنا أن هذا الكتاب مختصر من صحيح البخاري، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لم يفتتح كتابه بخطبة تنبيء عن مقصوده مفتتحةً بالحمدِ والشهادة، واعتُذر له بأن الخطبة لا يتحتم فيها سياقٌ واحد يمتنع العدول عنه، بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود، وقد صدّر كتابه بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائرٌ مع النية، وأما الحديث المشهور:((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع)) وحديث: ((كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء)) خرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة، فالحديثان ليسا على شرط الإمام البخاري، فلا يلزمه العمل بهما؛ لأنهما ليسا على شرطه، ولعل الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- حمد وتشهد نطقاً عند وضع الكتاب ولم يكتب ذلك اقتصاراً واقتصر على البسملة.

ويؤيد ذلك وقوع كتب رسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك كتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلةٍ وغيرها، كما في حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وستأتي -إن شاء الله تعالى-، وهذا يشعر بأن الحمد والشهادة إنما يحتاج إليهما في الخطب دون الرسائل، فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، والاقتصار على البسملة طريقة متبعة وجادة مسلوكة عند شيوخ الإمام البخاري وشيوخ شيوخه وأهل عصره، كمالك وعبد الرزاق وأحمد وأبي داود وغيرهم -رحمهم الله تعالى-، ويندر من وجد منهم في ذلك العصر ممن افتتح كتابه بخطبةٍ كمسلم -رحمه الله تعالى-.

أما الجادة المسلوكة فهي عدم ذكر هذه الخطب التي يبين فيها المناهج، مناهج الكتب، هذه طريقة المتقدمين من أهل العلم طبقة البخاري وشيوخه وشيوخ شيوخه، وأما المختصِر فجرى على عادة أهل عصره، ومن تقدم من ذكر خطبةٍ يبين فيها السبب الباعث على التأليف، ومنهجه في الاختصار، وسنده إلى مؤلف الكتاب.

ص: 20

فقال -رحمه الله تعالى-: "الحمد لله البارئ المصور الخلاق"(الحمد) فيما حققه العلامة ابن القيم في الوابل الصيب هو: الإخبار عن الله بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضا به، وأما الثناء فهو تكرير المحامد شيئاً بعد شيء، وجمهور العلماء يفسرون الحمد بأنه الثناء على المحمود بصفاتِ جلاله ونعوت جماله الاختيارية، ولا شك أن الحمد غير الثناء، ففي الحديث الذي خرجه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن الله سبحانه وتعالى:((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدين، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليَّ عبدي)) فجعل الحمد غير الثناء، ولذا المتجه في تعريف الثناء ما قاله العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- أنه هو الإخبار عن الله بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضا به، وأما الثناء فهو تكرير المحامد شيئاً بعد شيء يقال له: ثناء.

"لله" الله علمٌ على ذات الرب سبحانه وتعالى المستحق لجميع المحامد الذي لا إله غيره ولا رب سواه.

"البارئ" بالهمز من البرء، وهو التهيئة للخلق، وقيل: هو الذي يخلق الخلق بريئاً من التنافر، ولا شك أن نعمة الخلق من أعظم البواعث على الحمد؛ لكون ذلك أول نعمة أنعم الله بها على الحامد وعلى غيره، وقال الحليمي:"معناه الموجد لما كان في معلومه من أصنافِ الخلائق" البارئ هو الموجد لما كان في معلومه من أصناف الخلائق، وهو الذي يشير إليه قوله عز وجل:{مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [(22) سورة الحديد] يعني من قبل أن نوجدها، "المصور" المعطي كل مخلوقٍ صورته، وقال الخطابي:"المصور هو الذي أنشأ خلقه على صورٍ مختلفة ليتعارفوا بها، والتصوير التخطيط والتشكيل"، "الخلاق" الخلق إيجاد الممكن وإبرازه من العدم إلى الوجود، أي أن الله سبحانه وتعالى هو موجد الكائنات، الخلاق صيغة مبالغة من الخلاق، كلٌ من الخلاق والخالق من أسماء الله سبحانه وتعالى.

ص: 21

"الوهاب" المتفضل بالعطايا المنعم بها، لا عن استحقاقٍ عليه، "الفتاح" الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، ويفتح قلوبهم وعيون بصائرهم ليبصروا الحق، "الرزاق" المنعم على عباده بإيصال حاجتهم من الرزق، وقال الخطابي:"هو المتكفل بالرزق، القائم على كل نفسٍ بما يقيمها من قوتها" وكل ما وصل منه إليه من مباحٍ وغيره فهو رزق الله، وعلى هذا فالكسب المحرم رزق عند أهل السنة، وإن أخرجه المعتزلة من كونه من مسمى الرزق، على معنى أن الله قد جعله قوتاً ومعاشاً بغض النظر عن وسيلة إليه.

"المبتدئ بالنعم قبل الاستحقاق" يقول الخطابي: "من كرم الله سبحانه وتعالى أنه يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق لمن أسديت إليه" والمراد بالنعم ما يشمل النعم الدنيوية والأخروية.

بعد أن أثنى على الله سبحانه وتعالى حمده بما يليق بجلاله وعظمته ثنى بالصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام فأردف الحمدلة بالصلاة على رسوله فقال: "وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم مكارم الأخلاق" فعل ذلك رحمه الله لكون الرسول عليه الصلاة والسلام الواسطة في وصول جميع الكمالات العلمية والعملية إلينا من الله -عز شأنه- الذي بعثه الله –سبحانه- ليتمم ما جاءت به الرسل قبله من مكارم الأخلاق والشيم، "وفضله على كافة المخلوقين على الإطلاق، حتى فاق جميع البرايا في الآفاق" والآفاق جمعُ أفق، وهو الناحية من الأرض والسماء، والأحاديث الواردة في فضله عليه الصلاة والسلام على جميع الخلق أكثر من أن تحصى، فهو سيد ولد آدم، وأول شافع مشفع، وخاتم الأنبياء وأكرم المرسلين، "وعلى آله" أهل بيته وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب أو أتباعه على دينه كما قاله جمعٌ من أهل العلم.

ص: 22

"الكرام الموصوفين بكثرة الإنفاق" أي إنفاق الخيرات المعنوية والحسية، وبذلها على أهل الآفاق، "وعلى أصحابه أهل الطاعة والوفاق" الشامل حيث أطاعوا الله وأطاعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنفقوا في سبيل الله نفائس الأموال، بل أنفقوا وبذلوا المهج فضلاً عن ما يملك من الأموال، "صلاة دائمة مستمرة بالعشي والإشراق" أردف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على الآل والأصحاب؛ لكونهم الواسطة بيننا وبينه في نقل دينه، ولما لهم من مواقف جليلة في نصر دينه.

والصلاة في الأصل الدعاء، وهي من الله الرحمة، وروى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه في باب قول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [(56) سورة الأحزاب] تعليقاً مجزوماً به عن أبي العالية قال: "صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء" وروى عن ابن عباس أنه قال: "يصلون يبركون" وفي جامع الترمذي باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام من أبواب الصلاة، روي عن سفيان الثوري وغير واحدٍ من أهل العلم قالوا:"صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار".

ثم ذكر بعد ذلك المختصِر الصحيح الذي هو الأصل ومنزلته، والباعث على اختصاره، ومنهجه بالاختصار فقال:

المقدم: عفواً فضيلة الدكتور، قبل ذلك إذا أذنتم: في قوله: "وعلى آله الكرام" هل الآل هم أهل البيت أم يختلفون عند أهل السنة؟

الآل في الأصل هم الأهل، ولذا يصغر الآل على أهيل، فالآل هم أهل البيت عند جمع من أهل العلم، ومن أهل العلم من يقول: إن آله عليه الصلاة والسلام من تبعه على دينه فهو من آله، كما يقال: آل إبراهيم آل فرعون آل كذا، كلهم أتباعه، ولا يخص أهل بيته.

المقدم: قال رحمه الله:

ص: 23

أما بعد: فاعلم أن كتاب الجامع الصحيح للإمام الكبير الأوحد مقدم أصحاب الحديث أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد، إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، وإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهل وطول فتشٍ، ومقصود البخاري رحمه الله بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصودنا هنا أخذ أصل الحديث لكونه قد عُلم أن جميع ما فيه صحيح.

قال الإمام النووي في مقدمة كتابه شرح مسلم: "وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبوابٍ متفرقة متباعدة، وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به، فيصعب على الطالب جمعُ طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث، قال: وقد رأيتُ جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا فنفوا رواية البخارية أحاديث هي موجودةٌ في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم، انتهى ما ذكره النووي رحمه الله، فلما كان كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب، وإذا أتى الحديث المتكرر أثبته في أول مرة، وإن كان في الموضع الثاني زيادةٌ فيها فائدة ذكرتها وإلا فلا، وقد يأتي حديثٌ مختصرٌ ويأتي بعدُ في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة، ولا أذكر من الأحاديث إلا ما كان مسنداً متصلاً، وأما ما كان مقطوعاً أو معلقاً فلا أتعرض له، وكذلك ما كان من أخبار الصحابة فمن بعدهم مما ليس له تعلقٌ بالحديث، ولا فيه ذكرُ النبي صلى الله عليه وسلم فلا أذكره كحكاية مشي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى سقيفة بني ساعدة، وما كان فيه من المقاولة بينهم، وكقصة مقتل عمر رضي الله عنه، ووصيته لولده في أن يستأذن لعائشة في أن يدفن مع صاحبيه، وكلامه في أمر الشورى، وبيعة عثمان رضي الله عنه، ووصية الزبير لولده في قضاء دينه، وما أشبه ذلك.

ص: 24

ثم إني أذكر اسم الصحابي الذي روى الحديث في كل حديثٍ ليعلم من رواه، وألتزم كثيراً ألفاظه في الغالب، مثل أن يقول: عن عائشة، وتارة يقول: عن ابن عباس، وحيناً يقول: عن عبد الله بن عباس، وكذلك ابن عمر، وحيناً يقول: عن أنس، وحيناً يقول: عن أنس بن مالك، فأتبعه في جميع ذلك، وتارةً يقول: عن فلان يعني الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتارةً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيناً يقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، فأتبعه في جميع ذلك، فمن وجد في هذا الكتاب ما يخالف ألفاظه فلعله من اختلاف النسخ، ولي بحمد لله في الكتاب المذكور

بعد أن ذكر ما ينبغي ذكره من الثناء على الله سبحانه وتعالى والصلاة والسلام على نبيه وعلى آله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، قال:"أما بعد" وأما حرف شرط وبعد قائم مقام الشرط مبني على الضم؛ لأن المضاف محذوف مع نيته، واختلف العلماء في أول من قال: أما بعد على أقوال ثمانية، يجمعها قول الشاعر:

جرى الخلف أما بعد من كان بادئاً

بها عُد أقوالٌ وداود أقربُ

ويعقوب أيوب الصبور وآدمُ

وقسٌ وسحبان وكعبٌ ويعربُ

والاتفاق على أن الإتيان بها سنة، وهي ثابتةٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام في خطبه وفي مكاتباته، ولا تتأدى السنة إلا بهذه الصيغة (أما بعد) وبعضهم يقتصر على الواو بدل من أما، سمع فيها عن كثير من المتأخرين، لكن السنة لا تتأدى إلا بأما.

ص: 25

ويؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وليست بحاجة إلى ثم قبلها، بحيث يقال: ثم أما بعد، كما يجري على ألسنة كثيرٍ من المنتسبين إلى طلب العلم في العصور المتأخرة، الثابت عنه عليه الصلاة والسلام (أما بعد) نعم إن احتيج إليها بعد ذلك للانتقال من أسلوب ثاني إلى ثالث يعطف على الأولى فيقال: ثم أما بعد، أما في الموضع الأول فلا حاجة إلى العطف، النصوص كلها ليس فيها ثمَّ، نعم أشار محقق تفسير الطبري أن في بعض نسخ التفسير "ثم أما بعد" لكن المعروف من أسلوبه عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام، ومن جاء بعدهم كلهم جروا على هذه الصيغة (أما بعد) وجوابها ما دخلت عليه، "فاعلم أن كتاب جامع الصحيح للإمام الكبير الأوحد مقدم أصحاب الحديث أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري" تقدمت ترجمته في حلقةٍ سابقة، "من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد" لا شك أن من أدام النظر في هذا الكتاب رأى العجب العجاب من الفوائد المتنية والإسنادية الحديثية والفقهية وغيرها من الفوائد، "إلا أن الأحاديث المتكررة" هذا يذكر المبرر للاختصار، المبرر لاختصاره الكتاب وجود التكرار، ووجود الأسانيد مع أن الكتاب صحيح، فيرى أن المتأخرين ليسوا بحاجة إلى تكرار، وليسوا بحاجة إلى سماع الأسانيد مع ثبوت المتون، نظراً لضعف الهمم، وكثرة من يمل من سماع الأسانيد، "إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، وإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهدٍ وطول فتش، ومقصود البخاري -رحمه الله تعالى- في ذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصوده هنا أخذ أصل الحديث لكونه قد علم أن جميع ما فيه صحيح"، يعني فلا داعي لذكر هذا التكرار الذي يستفاد منه تقوية الحديث بكثرة الطرق، وبلوغه إلى حد الشهرة وما أشبه ذلك، مع أنهم لا حاجة بهم إلى ذلك الإسناد ما دامت المتون ثابتة، لكن الكتاب الأصلي لا يستغني عنه طالب علم، وكون بعض المثقفين ممن لا علاقة له بالعلم الشرعي يحتاج إلى من يختصر له، ويقتصر على المتون دون الأسانيد هذه وجهة نظر صحيحة لا بأس بها، لكن المتخصص في العلوم الشرعية لا بد له من معرفة الأسانيد، ولا بد له من إدامة

ص: 26

النظر في هذه الأسانيد، وإن كانت صحيحة ثابتة، ورجالها كلهم ثقات.

"قال الإمام النووي في مقدمة كتابه شرح مسلم: وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة" نعم البخاري يقطع الحديث الواحد ويجعله في أماكن متعددة، ويكرر الحديث الواحد في مواضع، لكنه لا يكرر الحديث إلا لفائدة، ولا يمكن أن يكرر الحديث في موضعين بلفظه إسناداً ومتناً إلا فيما ندر، يعني نحو عشرين موضع فقط في الصحيح، وأما ما عدا ذلك فكل المكررات لا بد أن يوجد فيها الاختلاف سواءٌ كان في المتن أو في صيغ الأداء أو في الإسناد، "وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به"، سبق أن مثلنا بحديث ضباعة بنت الزبير في الاشتراط في الحج، الباب الذي يسبق الفهم إليه باب الفوات والإحصار في الحج، لكنه رحمه الله جعله في كتاب النكاح، (باب الأكفاء في النكاح) ومغزاه بعيدٌ جداً لا ينتبه إليه كثيرٌ من المتعلمين؛ لأن الحديث اشتمل على قول الراوي، وكانت تحت المقداد، وهي قرشية هاشمية ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك هي تحت المقداد وهو مولى، "فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث"، قال -يعني النووي-:"وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا، فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم، انتهى ما ذكره النووي رحمه الله".

كلامه صحيح، وجد من بعض العلماء من نفى رواية البخاري لأحاديث هي موجودة فيه؛ لأن البخاري رحمه الله أغرب جداً وأبعد في الاستنباط من الحديث، وجعله في غير مظنته -رحمه الله تعالى-.

ص: 27

يقول بعد ذلك المختصِر: "فلما كان كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب"، ليقرب حصول الحديث والوصول إليه من غير تعب من قبل الطالب "وإذا أتى الحديث المتكرر أثبته في أول مرة، وإن كان في الموضع الثاني زيادة فيها فائدة ذكرتها"، يعني يقتصر على هذه الزيادة التي فيها فائدة، "وإلا فلا، وقد يأتي حديثٌ مختصر، ويأتي بعد في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة"، لكن يأتينا أنه في حديث (الأعمال بالنيات) ذكره في الموضع الأول مع أنه مختصر، وفي المواضع الأخرى فيه زيادة ولم يذكرها.

يقول: "ولا أذكر من الأحاديث إلا ما كان مسنداً متصلاً"، مسنداً يعني مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، متصلاً يعني متصل الإسناد خالٍ عن الانقطاع، "وأما ما كان مقطوعاً -ومراده بذلك المنقطع وليس مراده المقطوع المصطلح عليه مما هو منسوب إلى من دون الصحابة من التابعين فمن دونهم- أو معلقاً فلا أتعرض له -فحذف المعلقات والمعلقات في صحيح البخاري تزيد على (1340) حديث معلق، حذفها كلها- واقتصر على الأحاديث المسندة المتصلة التي هي المقصود من الصحيح، وكذلك ما كان من أخبار الصحابة -يعني الموقوفات حذفها أيضاً- فمن بعدهم -يعني مما أضيف إلى التابعين فمن دونهم- مما ليس له تعلق بالحديث -يعني ما كان له تعلق بالحديث مما يفسر معنىً غامض فإنه قد يذكره، هذا مفهوم- كلامه.

"ولا فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلا أذكره، كحكاية مشي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أمثلة لما ذكره- إلى سقيفة بني سعد، وما كان فيه من المقاولة بينهم"، والمقاولة مفاعلة، من قال، يعني قال بعضهم ورد عليه آخر بقول وما أشبه ذلك، "وكقصة مقتل عمر رضي الله عنه ووصيته لولده"، هذه كلها من الموقوفات؛ لأنها حصلت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم، "في أن يستأذن عائشة ليدفن مع صاحبيه، وكلامه في أمر الشورى، وبيعة عثمان رضي الله عنه، ووصية الزبير لولده في قضاء دينه، وما أشبه ذلك"، كل ذلك لأنها من الأخبار الموقوفة، ولا ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام فيها.

ص: 28

بعد ذلك يقول: "ثم إني أذكر اسم الصحابي"، يعني يحذف جميع الإسناد، ويقتصر على اسم الصحابي "الذي روى الحديث في كل حديثٍ ليعلم من رواه"، يعني من الصحابة، يعني يذكر الراوي الأعلى في الإسناد وهو الصحابي، "وألتزم كثيراً ألفاظه في الغالب -ألفاظ الإمام البخاري- مثل أن يقول: عن عائشة وتارةً يقول: عن ابن عباس -فيقتصر المختصِر على قوله: عن عائشة وعن ابن عباس- وحيناً يقول: عن عبد الله بن عباس -فيقول المختصر: وعن عبد الله بن عباس- وكذلك ابن عمر، وحيناً يقول عن أنس -فيقتصر على قوله: وعن أنس- وحيناً يقول: عن أنس بن مالك فأتبعه في جميع ذلك"؛ تقليداً للإمام -رحمه الله تعالى-. "وتارة يقول: عن فلان يعني الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيناً يقول: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كذا وكذا، فأتبعه في الجميع"، فيفرق في الأسانيد بين المعنعن والمؤنن؛ لأن لكل منهما حكمه عند بعض أهل العلم، وإن كان حكم المؤنن عند جمهور العلماء والمعنعن سواء، فالمؤنن حكمه حكم السند المعنعن عند جماهير العلماء، وإن خالف في ذلك من خالف فيما نسبه ابن الصلاح للإمام أحمد ويعقوب بن شيبة، ولم يصوب صوابه، كما قال الحافظ العراقي، ولذا يقول رحمه الله:

. . . . . . . . .

وحكم أن حكم عن فالجلُّ

سووا وللقطع نحا البرديجي

حتى يبين الفصل في التخريجي

إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-.

يقول: "فأتبعه في جميع ذلك، فمن وجد في هذا الكتاب ما يخالف ألفاظه فلعله من اختلاف النسخ"، ولا شك أن نسخ البخاري مختلفة، ورواية الصحيح أيضاً كثيرة، والله المستعان.

المقدم: أحسن الله إليكم، ما الذي جعلكم تقولون في قوله:"وأما ما كان مقطوعاً" بأنه لا يريد المنقطع، لا يريد الحديث الموقوف على التابعي، وإنما يريد المنقطع؟

ص: 29

لأنه أشار إلى ذلك صراحةً، عطف عليه قوله:"وكذلك ما كان من أخبار الصحابة فمن بعدهم"، هذا هو المقطوع، فمن بعدهم هو المقطوع، فلا يريد بقوله:"مقطوعاً" المقطوع الذي هو مضاف للتابعي فمن دونه، لكن هو يريد المنقطع، وأطلق بعضهم كالشافعي وغيره على المنقطع المقطوع والعكس، وجد هذا في تعبيرهم.

المقدم: فضيلة الشيخ ذكرتم من كلام العلماء في اعتذارهم للإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في عدم. . . . . . . . . في. . . . . . . . . كتابه الصحيح ما ذكرتم من أن حديثي الباب ليس على شرط الإمام البخاري رحمه الله، فهل يعني هذا عدم ثبوت هذين الحديثين عنده أم يعني غير ذلك؟

الاعتذار عند الإمام البخاري في عدم إيراده الخطبة للكتاب، وعدم احتجاجه بحديث:((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد لله فهو أقطع)) وحديث: ((كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء)) نعم، الحديثان ليسا على شرطه، وشرطه هنا أوسع من أن يكون شرطاً للتخريج في كتابه، وبين أن يكون شرطاً للعمل بالحديث وقبوله، فالحديثان ليسا على شرطه لا من حيث الاحتجاج ولا من حيث القبول، ولا من حيث الإيراد في الكتاب، فالحديثان، حديث ((كل أمرٍ ذي بال)) محكوم عليه بجميع طرقه وألفاظه بالضعف عند جمعٍ من أهل العلم ممن هم أشد تساهلاً من الإمام البخاري فضلاً عنه، وإن حسن النووي وبعض أهل العلم لفظ (الحمد) فقط:((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد لله فهو أقطع)) حسنه النووي وبعض العلماء، لكن الأكثر على عدم ثبوت هذا الحديث بجميع طرقه وألفاظه، وممن ضعفه جملةً وتفصيلاً الألباني وغيره، وإن خرجه ابن حبان في صحيحه؛ لأنه معروف بالتساهل.

المقدم: أحسن الله إليكم، قال الإمام زين الدين أحمد بن عبد اللطيف الزبيدي في مقدمته فيما قرأناه فيما مضى نستكمل فيقول: ولي بحمد لله في الكتاب المذكور أسانيد كثيرة متصلة بالمصنف عن مشايخ عدة، فمن ذلك روايتي له عن شيخي العلامة نفيس الدين أبي الربيع سليمان بن إبراهيم العلوي -رحمه الله تعالى-، قراءةً مني عليه لبعضه، وسماعاً لأكثره، وإجازة في الباقي بمدينة تعز سنة (823هـ).

ص: 30

اجتمع في هذه الرواية عن هذا الشيخ القراءة على الشيخ التي يسميها أهل العلم العرض، والرواية بها جائزة اتفاقاً، وسماعاً لأكثره إن كان من الشيخ فهو أعلى درجات وطرق التحمل الذي هو السماع من لفظ الشيخ، وإن كان سماعاً لأكثره بقراءة غيره على الشيخ فهو عرضٌ أيضاً، وإجازة في الباقي، فاجتمع في هذه الرواية ثلاثة من أنواع طرق التحمل، السماع والقراءة التي هي العرض والإجازة.

المقدم:

قال: أخبرنا به والدي وشيخنا الإمام الكبير شرف المحدثين موسى بن موسى بن عليٍ الدمشقي المشهور بالغزولي، قراءةً مني عليه لجميعه، قال: أخبرنا به الشيخ المسنِد المعمر أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار، إجازة للأول وسماعاً للثاني، ومنها روايتي له عن الشيخ الصالح الإمام ولي الله تعالى أبي الفتح.

هذه طريق أخرى يروي بها صحيح الإمام البخاري بعد أن ذكر الطريق الأول ذكر الطريق الثاني، ثم قال: "ومنها روايتي له عن الشيخ الصالح

" إلى آخره.

المقدم: قال: ومنها رواتي له عن الشيخ الصالح الإمام ولي الله تعالى أبي الفتح محمد بن الإمام زين الدين أبي بكر بن الحسين المدني العثماني سماعاً عليه لأكثره، وإجازة لجميعه، والشيخ الإمام خاتمة الحفاظ شمس الدين أبي الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري الدمشقي، والقاضي العلامة الحافظ تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي الشريف الحسني المكي قاضي المالكية بمكة المشرفة إجازة معينة منهم لجميعه -رحمهم الله تعالى-.

ص: 31

الإجازة المقصود بها الإذن بالرواية، والإجازة المعينة هي المراد بها تعيين الكتاب المجاز، وتعيين أيضاً الطالب المجاز، تعيين الطالب وتعيين الكتاب المجاز به، فيقول المجيز: أجزت أو أذنت لفلان بن فلان أن يروي عني كتاب كذا صحيح البخاري مثلاً، بخلاف الإجازة العامة التي ليس فيها تعيين لا للطالب ولا للكتاب، والإجازة الرواية بها سائغة وجائزة عند أهل العلم، لا سيما عند تعذر قراءة الكتب على الشيوخ لضيق أوقاتهم وكثرة الطالبين، توسعوا في قبول الرواية بالإجازة، لكن التوسع الذي هو في الحقيقة غير مرضي في الإجازة العامة، أن يجيز أهل بلده مثلاً، أو يجيز من قال: لا إله إلا الله، أو أجزت أهل الإقليم الفلاني، كل هذا توسع غير مرضي، لكن إذا أجاز شخصاً معيناً بكتاب معين والمجاز من أهل الرواية اشترط ابن عبد البر أن يكون ماهراً بالصناعة، أقل الأحوال أن يكون له اهتمام وعناية بالعلم الشرعي، حينئذٍ تصح الإجازة وإلا فلا.

المقدم: قال: وثلاثتهم أنبأنا به الشيخ الإمام الحافظ شيخ المحدثين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن صديق الدمشقي المعروف بابن الرسام، قال: أنبأنا به أبو العباس الحجار وأخبرني به عالياً

التقى مع السند الأول.

المقدم: قال: وأخبرني به عالياً الشيخ الإمام زين الدين أبو بكر بن الحسين المدني المراغي، والد شيخنا أبي الفتح، وقاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي إجازة عامة، قال: أخبرنا به أبو العباس الحجار قال:

ص: 32

التقى مع السندين السابقين، وأخبرني به عالياً يعني بإسنادٍ عالي، والإسناد العالي عند أهل العلم ما قلت فيه الوسائط بين الراوي وبين النبي عليه الصلاة والسلام، يعني ما قل عدد رجاله فهو الإسناد العالي، وما كثر عدد رجاله فهو الإسناد النازل، وأعلى ما في الكتب الستة الثلاثيات، وفي البخاري منها (22) حديثاً ثلاثياً، وأنزل ما في البخاري حديثٌ واحد تساعي وفيه ثماني أيضاً، وأنزل ما في الكتب الستة حديثٌ عند النسائي فيه أحد عشر راوياً، هذا حديثٌ نازل جداً يتعلق بسورة الإخلاص وفضلها، وعلى كل حال الثلاثيات في الصحيح، وهو الذي يهمنا (22) حديثاً جلها عن المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع، وهذا أعلى ما في الكتب الستة.

المقدم: من البخاري إلى النبي ثلاثة؟

من البخاري إلى النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة رواة، لكن لو صاروا أربعة صار أنزل خمسة أنزل إلى التساعي الذي هو أنزل ما في الصحيح.

المقدم: قال: أنبأنا به الشيخ الصالح أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب الهروي الصوفي، قال: أنبأنا الشيخ الفقيه عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداويدي، قال: أنبأنا به الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي.

مثل هذا الاسم حمويه وسيبويه ونفطويه المختار عند أهل اللغة أنه على هذه الصيغة مختوم بويه، وأهل الحديث يقول: حمويتا سيبويتا راهويتا، وأما أهل اللغة فيقولون: راهويه سيبويه نفطويه حمويه، وأهل اللغة هم المرجع إليهم في هذا الباب كما هو معروف، والذي يجعل أهل الحديث لا يلفظون بويه يروون في الباب حديث أن ويه اسم من أسماء الشيطان فلا يريدون أن ينطقون به، والحديث ضعيفٌ جداً لا يثبت.

المقدم: قال: أنبأنا به الشيخ الصالح محمد بن يوسف الفربري، قال: أنبأنا به الإمام الكبير أبو عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري -رحمه الله تعالى-، ولكل واحدٍ من هؤلاء المذكورين إلى البخاري أسانيد كثيرة بطرق متنوعة، ولي -بحمد الله- أسانيد غير هذه عن مشايخ كثيرين يطول تعدادهم، اقتصرت منها على هذه الطرق لشهرتها وعلوها.

ص: 33

صحيح البخاري رواه عن مؤلفه أكثر من تسعين ألفاً، اشتهر وانتشر في الآفاق، شهرته طبقت الآفاق، وتلقاه الناس بالقبول، وكثرة الأسانيد إلى مؤلفه، فما من عالمٍ يهتم بالسنة إلا وله سند متصل بصحيح البخاري وغيره من كتب السنة مما يطول ذكره، وإن كانت المحافظة على الأسانيد في العصور المتأخرة بعد تدوين السنة واستقرارها في الكتب الفائدة منها العملية القليلة؛ لأنه لا يترتب عليها تصحيح ولا تضعيف، لا يترتب عليها قبول ولا رد، وإنما المحافظة عليها من قبيل المحافظة على خصيصة هذه الأمة، الأمة اختصت بالأسانيد شرفاً لها، ولا يوجد إسناد متصل في أي أمة من الأمم إلى نبيها غير هذه الأمة زادها الله شرفاً وعلواً ورفعة.

على كل حال أهل العلم يهتمون بالأسانيد ويرحلون إلى الأقطار من أجلها، وإن كانت فائدتها ما ذكرتم، وبالنسبة لي أنا على وجه الخصوص فأنا أروي صحيح البخاري -رحمه الله تعالى- وغيره من كتب السنة إجازة عن شيخنا العلامة المحقق حمود بن عبد الله بن حمود التويجري -رحمه الله تعالى-، رواية أو إجازة عن شيخيه الفاضلين الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري والشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان تغمدهما الله برحمته وأسكنهما فسيح جنته، وحقيقةً ليس لي من إجازة ولا رواية إلا من طريق الشيخ -رحمه الله تعالى-، ويكفيني في ذلك أن يكون واسطتي أو الواسطة بيني وبين الرسول عليه الصلاة والسلام مثل هذا الحبر العالم الزاهد الورع، والله المستعان.

وثبت الشيخ متداول بين الإخوان وبين طلبة العلم باسم (إتحاف النبلاء للرواية عن الأعلام الفضلاء) من أراد أن ينظر أسانيده بالتفصيل فليرجع إلى الثبت المذكور، ويقع في أكثر من خمسين صفحة، ويوجد عند كل من أجازه الشيخ -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-.

المقدم: كيفية طريقة إجازة الشيخ لكم يا شيخ كيف كانت؟

ص: 34

الشيخ رحمه الله نما إلى علمه -رحمه الله تعالى- أني أرغب في الإجازة منه وإن لم أطلب منه مباشرة، فبادرني -رحمة الله عليه-، فأعطاني الثبت وقال: تأمله وتصحفه واقرأه ثم تأتي إلي بعد أسبوع كي أجيزك به، فلما رجعت إليه حدثني مشافهة بالحديث المسلسل بالأولية:((الراحمون يرحمهم الرحمن)) وجرت عادة أهل العلم أنهم يبدؤون بهذا الحديث؛ لأنه مسلسل بالأولية، لكل راوي من رواته إلى الشيخ حمود بالنسبة لي، يقول: وهو أول حديث سمعته من شيخي فلان، وأنا أقول: وهو أول حديث سمعته من شيخي فلان، وهكذا إلى سفيان بن عيينة رحمه الله تابع التسلسل فيه إلى سفيان بن عيينة، وما فوقه تسلسل فيه نظر، وعلى كل حال بعد ذلكم أجازني وأذن لي بالرواية لجميع الكتب المدونة في الثبت الصحيحين والسنن والمسانيد وبعض الجوامع، ومصنفات وكتب شيخ الإسلام بن تيمية، وابن القيم، وكتب المذهب الحنبلي وغيرها من الكتب المزبورة في هذا الثبت المشار إليه (إتحاف النبلاء بالرواية عن الأعلام الفضلاء).

المقدم: في أكثر من إسناد يا شيخ؟

في بالنسبة للشيخ يروي من طريقين، من طريق الشيخ عبد الله العنجري، ومن طريق الشيخ سليمان بن حمدان، وكلٌ منهما يروي من طرق، كل من الشيخين يروي من طرق وهي مدونة.

المقدم: تصل إلى كم تقريباً العدد؟

ما حصرتها بالضبط لكن لكل واحدٍ منهما طرق متعددة.

المقدم: قال رحمه الله: وسميت هذا الكتاب المبارك بـ (التجريد الصريح في أحاديث الجامع الصحيح) والمسؤول من الله تعالى أن ينفع بذلك، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يصلح المقاصد والأعمال بجاه سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وهذا حين الشروع -إن شاء الله-.

ص: 35

يقول المؤلف: "وسميت هذا الكتاب بالتجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح" المقصود بالتجريد التخليص من الزوائد، الصريح الذي لا خفاء فيه ولا غموض، "لأحاديث الجامع الصحيح" يعني للإمام البخاري، "والمسؤول من الله تعالى أن ينفع بذلك، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يصلح المقاصد والأعمال" نعم لأن العبرة بالمقاصد، وليست بالعبرة بالمظاهر، ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) وأول حديث في الصحيح حديث الأعمال بالنيات، فعلى الإنسان لا سيما طالب العلم أن يتفقد نيته، وأن يكون ديدنه اللهج بسؤال الله سبحانه وتعالى أن يصلح مقصده؛ لأن العلم الشرعي من علوم الآخرة المحضة التي لا يجوز التشريك فيها بغير الله سبحانه وتعالى، بل على طالب العلم أن يحسن نيته التي لا يجوز للمسلم أو لطالب العلم أن يشرك بها فيها مع الله سبحانه وتعالى غيره.

يقول المختصر: "بجاه سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين" السؤال بجاه النبي عليه الصلاة والسلام لا يخلو من أحد أمرين: أما أن يكون قسم بجاه النبي عليه الصلاة والسلام، والإقسام على الله سبحانه وتعالى بمثل هذا لا يجوز، بل منهيٌ عنه عند جماهير العلماء، إذ لا يجوز الإقسام بغير الله سبحانه وتعالى، ويحتمل أيضاً أن يكون يسألُ الله سبحانه وتعالى به، وهذا وإن جوزه طائفة من الناس، ووجد في دعاء كثيرٍ منهم، لكن ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وأشار إلى ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتابه: الموسوم بـ (قاعدة جليلة في التوسل بالوسيلة) فعلى الإنسان أن يجتنب مثل هذه الأساليب التي فيها شيءٌ من المخالفة، وفيها شيءٌ من الخروج من السنة وغيرها.

يقول: "وهذا حين الشروع -إن شاء الله تعالى-"، يعني في الاختصار، بدأً في الباب الأول، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 36