الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - شرح أحاديث
كتاب بدء الوحي (4)
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
"قال أبو سفيان: فلما قال ما قال -أي الذي قاله في السؤال والجواب- وفرغ من قراءة الكتاب -النبوي- كثر عنده الصخب -أي اللغط، وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة- وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا -وفي رواية: حين خلوت به-: والله لقد أمِر -أي كبر وعظم- أمر ابن أبي كبشة"، أي شأنه، وكبشة ليس هو مؤنث الكبش، من غير لفظه، والمراد بذلك كنية النبي عليه الصلاة والسلام، لأنها كنية أبيه من الرضاعة، الحارث بن عبد العزى فيما قاله ابن ماكولا، أو هو والد حليمة مرضعته، أو ذلك نسبةً إلى جد جده؛ لأن أمه آمنة بنت وهب وأم جد وهب قيلة بنت أبي كبشة، أو لجد جده عبد المطلب لأمه، أو هو رجل من خزاعة اسمه وجز بن غالب، خالف قريشاً في عبادة الأوثان، فعبد الشعر، فنسبوه إليه لاشتراكه في مطلق المخالفة، يعني يكون لقب لهذا للخزاعي، لما خالف قريش فعبد غير ما كانت تعبده قريش نسب إليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه خالف قومه فدعا إلى عبادة الله وحده، ومخالفاً بذلك قومه.
"إنه يخافه" بكسر الهمزة على الاستئناف، وجوز العيني فتحها، والمعنى عظم أمره عليه الصلاة والسلام لأجل أنه يخافه ملك بني الأصفر، وهم الروم؛ لأن جدهم روم بن عيص ابن إسحاق تزوج بنت ملك الحبشة فجاء ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر، أو لأن جدته سارة حلته بالذهب، وقيل غير ذلك.
قال أبو سفيان: "فما زلت موقناً أنه سيظهر، حتى أدخل الله عليّ الإسلام، فأبرزت ذلك اليقين"، أبو سفيان كأنه عنده شيء من القناعة النفسية لكن تمنعه الأنفة عن الدخول في الإسلام كما كانت تمنع أبا طالب، هذا موجود من كبراء قريش هي تمنعهم الأنفة من أن يعترفوا ويذعنوا، لكن أدخل الله عليه الإسلام فأبرز ذلك وحدث به الناس.
المقدم: هناك إشكال -أحسن الله إليكم- حقيقة يرد كثيراً في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: ((إني أدعوكم بدعاية الإسلام، اسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)) كيف يحمل وزر هؤلاء أي الأريسيين إذا لم يسلم؟ هل من عادة الملوك منع أتابعهم من الإسلام، أو بمجرد أن يكون ذا سلطةٍ وبالتالي يتبعه من تحته، ويكون عليه الوزر لامتناع دخول جمهرة الناس في دين الإسلام؟
سبقت الإشارة إلى شيءٍ من ذلك، وأن ليس لأحد أن يحمل وزر غيره {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [(7) سورة الزمر] لكن هو سبب في صدهم عن الإسلام، سواء كان بفعله إذا اقتدوا به، أو بقوله وإلزامه وإكراهه لهم، فمجرد الاقتداء به لا شك أنه سبب في صدهم عن دين الإسلام، وهذا يجعل على طالب العلم مسؤولية كبرى في أن يعمل بعلمه، عليه أن يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعمله واقتدى به الناس تحمل آثامهم وأوزارهم لماذا؟ لأنهم يقولون: لو كان ما يقوله حق؟ لفعله هو، هو أولى الناس به، فدل على أنه غير مقتنع بما يقول؟ فهو وإن أمر الناس بقوله فقد صدهم عن الاقتداء به بفعله، فعلى طالب العلم وعلى العالم أن يكون داعيةً بقوله وفعله؛ لأن الاضطراب والازدواجية بين القول والفعل تجعل عامة الناس يضطربون فلا يدرون يصدقونه فيما يقول أو يقتدون به فيما يفعل؟ لا شك أن مثل هذا له نصيب من الصد عن دين الله.
وكثيراً ما نرى بعض عامة الناس يستدل الشيخ الفلاني يقول كذا، الشيخ الفلاني يفعل كذا، الشيخ الفلاني يجر ثوبه، الشيخ الفلاني يقص من لحيته، يقولون مثل هذا الكلام فهم يقتدون بفعله، ولا شك أن القدوة والأسوة هو محمد عليه الصلاة والسلام، لكن حذاري حذاري أن يكون العالم أو طالب العلم ممن يكون داعية شرٍ وداعية ضلال بفعله، وإن أظهر بلسانه خلاف فعله، والله المستعان.
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا النص جاء في الإمام لأمةٍ كاملة، ومع ذلك جاء هذا التحذير الشديد، ألا ترون أن ولي الأمر في المنزل أيضاً ربما يناله حظ من هذا الإثم إذا كان سبب لصد أبناءه ومن تحت يده من الهداية بأن يسر لهم سبل الشر في المنزل، ألا يناله وزر من هذا يكون من تحته؟
لا شك أن كل مسؤول ومقتدى به عليه وزر من تبعه، إضافةً إلى وزره الأصلي، وكل مسؤول، كلٌ راعٍ وكل مسؤول عن رعيته، لا شك أن رب البيت راعٍ في بيته، وهو قدوة لأولاده، والمعلم قدوة أيضاً لطلابه وتلاميذه، والعالم قدوة للناس، وهكذا، فكل بحسب موقعه ومسؤوليته، لا شك أن الذي يجلب ما يصد الناس عن دين الله، لا شك أنه شريك له، بل يتحمل أوزار الناس كلهم؛ لأنه هو المتسبب، الرجل في بيته إذا أدخل في بيته ما يكون سبباً لصد أسرته وعائلته عن دين الله عليه الوزر، إذا اقتدى به من عوام الناس من الجيران وغيرهم أيضاً ناله من الإثم ما يناله؛ لأنه في موقع الاقتداء والائتساء، والله المستعان.
المقدم: قال: وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أُسقُفاً على نصارى الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلون من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا الرجل فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت: مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.
والناطور: هو حافظ البستان، وهو لفظ أعجمي تكلمت به العرب، وفي رواية:(الناظور) بالمعجمة، وفي رواية الليث: عن يونس بن ناطوراء، بزيادة ألفٍ في آخره، والواو عاطفة، فالقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزهري خلافاً لمن توهم أنها معلقة أو مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان، والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله، وذكر الحديث، ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدث، فذكر هذه القصة، "صاحب إيلياء" أي أميرها و (صاحب) منصوب على الاختصاص أو الحال، لا خبر كان؛ لأن خبرها إما (إسقفا) أو (يحدث) وجوز كونه خبر لكان؛ لأنه لا مانع من تعدد الخبر، وفي رواية:(صاحبُ) بالرفع صفة لابن الناطور، وجوز بعضهم إعرابه خبر مبتدأ محذوف أي هو صاحب إيلياء.
"وهرقلَ" مجرور عطفاً على إيلياء، أي صاحب إيلياء وصاحب هرقل، وأطلق عليه الصحبة إما بمعنى التبع، وإما بمعنى الصداقة، "أسقفا" هذه اللفظة رويت بألفاظٍ متعددة، بضم الهمزة مبنياً للمفعول، وفي رواية:(أُسقفّاً) بتشديد الفاء، بضم الهمزة وسكون السين، وضم القاف وتشديد الفاء، وفي رواية:(أُسقفَاً) مثلها إلا أنها بتخفيف الفاء، والتشديد:(أُسْقُفّاً) قال النووي: هي الأشهر، وفي رواية:(سُقُّفَ)"على نصارى الشام" لكونه رئيس دينهم، أو عالمهم، أو هو قيم شريعتهم، وهو دون القاضي، أو هو فوق القسيس ودون المطران، "يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء" عند غلبة جنوده على جنود فارس، وإخراجهم في سنة عمرة الحديبية، "أصبح خبيث النفس" رديئها غير طيبها، مما حل به من الهم، وعبر بالنفس عن جملة الإنسان روحه وجسده اتساعاً لغلبة أوصاف الجسد على الروح، وفي رواية:"أصبح يوماً خبيث النفس" أصبح خبيث النفس، هي هو كله خبيث، قالوا: عبر بالنفس عن جملة الإنسان عن روحه وعن جسده عن كامله لغلبة أوصاف الجسد على الروح، يعني تطلق الروح يراد به الجسد، كان هذا مرادهم.
"فقال له بعض بطارقته: " بفتح الموحدة جمع بِطريق أي قواده وخواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم "قد استنكرنا هيأتك" أي سمتك وحالتك، لكونها مخالفة ً لسائر الأيام، "قال ابن الناطور" وفي رواية: الناظور، "وكان" عطف على مقدر تقديره قال ابن الناطور: كان هرقل عالماً، "حزاءً" فلما حذف المعطوف عليه أُظهر هرقل في المعطوف و (حزاء) منصوب؛ لأنه خبر كان، و (حزاء) بالمهملة وتشديد الزاي آخرها همزة منونة أي كاهناً "ينظر في النجوم" خبر ثاني لـ (كان) إن قلنا: أنه ينظر في الأمرين، يعني يكون حزاء، وينظر في النجوم، أو هو تفسير للحزاء؛ لأن الكهانة تؤخذ من ألفاظ الشياطين تارةً، وتارةً من أحكام النجوم، وكان هرقل علم ذلك بمقتضى حساب المنجمين، "فقال لهم" أي لبعض بطارقته حين سألوه "إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختام" ملك بفتح الميم وكسر اللام، وفي رواية:(مُلك) بالضم ثم الإسكان "قد ظهر" أي غلب، وهو كما قال؛ لأنه في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره صلى الله عليه وسلم، إذ صالح الكفار بالحديبية، وأنزل الله تعالى سورة الفتح، ومقدمة الظهور ظهور، "فمن يختتن من هذه الأمة؟ " أي من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم تجوز، وفي رواية:(من يختتن من هذه الأمم؟ )"قالوا -مجيبين لاستفهامه إياهم- ليس يختتن إلا اليهود" أجابوا بمقتضى علمهم؛ لأن اليهود كانوا بإيلياء تحت الذلة، مع النصارى بخلاف العرب، يعني ما في خلطة بين النصارى والعرب بخلاف الخلطة الحاصلة بين اليهود والنصارى، "فلا يهمنك -أي لا يقلقك شأنهم- واكتب إلى مدائن ملكك" جميع مدينة بالهمز، وقد يترك فيقال: مداين "فيقتلون من فيهم من اليهود" وفي رواية: (فليقتلوا) باللام، "فبينما هم" الآن هرقل وأعوانه ما رفعوا شأناً باليهود ولا اهتموا لهم، فلذلك قالوا:"فلا يهمنك شأنهم" لأنهم قد ضرب عليهم الذلة والصغار، فلا شك أن شأنهم أضعف من أن يلقى لهم أي بال، وأن يحسب لهم أي حساب، وكونهم يتسلطون في مثل هذه الأيام، وفي مثل هذه العصور على المسلمين هذا من باب العقوبة للمسلمين لإعراضهم عن دين الله، وكون الإنسان يعاقب بأضعف الأشياء زيادة في النكاية، وتشديد في
العقوبة أن يسلط على الإنسان أضعف الأشياء، وأحقر الأشياء، "فبينما هم" بالميم وأصله (بين) فأشبعت الفتحة فصارت (بينا) ثم زيدت عليها الميم، وفي رواية:(فبينا) والمعنى واحد، و (هم) مبتدأ خبره "على أمرهم" مشورتهم التي كانوا فيها "أوتي هرقل برجلٍ أرسل به ملك غسان" بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة، والملك: هو الحارث بن أبي شمر، وغسان ماءٍ نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، ولم يسمَ الرجل ولا من أرسل به، "يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال -كما عند ابن إسحاق-: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركتهم وهم على ذلك"، "فلما استخبره هرقل" وأخبره بذلك، قال هرقل لجماعته: "اذهبوا فانظروا إلى الرجل أمختتن هو؟ " بهمزة الاستفهام، فتح المثناة الفوقية وكسر الثانية، "أم لا؟ فنظروا إليه" وعند ابن إسحاق: (فجردوه فإذا هو مختتن) "فحدثوه -أي حدثوا هرقل- إنه مختتن" "وسأله عن العرب" هل يختتنون؟ "فقال -أي الرجل-: هم يختتنون" وفي رواية: (مختتنون) "فقال هرقل: هذا -الذي نظرته في النجوم- ملك هذه الأمة" أي العرب، وفي رواية:(يملك) وليس المراد بذكر هذا هنا، تقويةً لقول المنجمين أو اعتماداً عليها، بل المراد أن البشارات به عليه الصلاة والسلام جاءت على لسان كل فريقٍ من إنسي وجني، يعني تظافرت عليه الأدلة.
المقدم: النسخة التي بين أيدينا -أحسن الله إليكم- فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، وقد ذكرتم أنه قال: هذا الذي نظرته في النجوم.
لا لا، هذا شرح "فقال هرقل: هذا -أي الذي نظرتم في النجوم- ملك هذه الأمة" يعني طابق وواقع ما رآه، ولا شك أن أخبار المنجمين وأخبار الكهان قد تصدق، فمسترق السمع قد يسترق الكلمة ويلقيها على الكاهن، والكاهن يزيد عليها مائة كما جاء في الأخبار.
"ثم كتب هرقل إلى صاحبٍ له -يسمى ضغاطر الأسقف- برومية" بالتخفيف، أي فيها وهي مدينة كبيرة يقال: إن سورها أربعة وعشرون ميلاً، "وكان نظيره في العلم -أي مثيله- وسار هرقل إلى حمص" مجرور بالفتحة (حمص) مجرور بالفتحة؛ لأنه غير منصرف، لعللٍ ثلاث، للعالمية والتأنيث والعجمة، وجوز بعضهم صرفه وعدمه؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط، والخلاف بين العيني وابن حجر هل كونه ثلاثياً ساكن الوسط يقابل العلل الثلاث فيصرف؟ أو يقابل واحدة من الثلاث فيبقى فيه علتان فيمنع من الصرف؟
وعلى كل حال الخطب سهل، هو ثلاثي ساكن الوسط فيخف على اللسان ويهون ويسهل صرفه، مثل نوح ولوط وهند، وإنما سار هرقل إلى حمص لأنها دار ملكه، "فلم يرم" أي يبرح منها أو لم يصل إليها هرقل "حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه -ضغاطر- يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم -أي ظهوره- وأنه نبي" وهذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوته صلى الله عليه وسلم، لكن هرقل لم يستمر على ذلك، ولم يعمل بمقتضاه، بل شحّ بملكه ورغب في الرياسة، وآثر الدنيا على الآخرة، بخلاف صاحبه ضغاطر فإنه أظهر إسلامه وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام فقتلوه، "فأذن -بالقصر من الإذن وفي رواية:(فآذن) بالمد أي أعلم- هرقل لعظماء الروم في دسكرة" دسكرة وهي القصر يكون حوله البيوت، "له -أي كائنة له - بحمص، ثم أمر بأبوابها -أي أبواب الدسكرة- فغلقت" بتشديد اللام وكأنه دخلها ثم أغلقها، وفتح أبواب البيوت التي حولها، وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها، دخل أولاً ثم أغلق على نفسه خوفاً منهم، "ثم اطلع" عليهم من علو، خوف أن ينكروا مقالته فيقتلوه كما قتلوا صاحبه ضغاطر، ثم خاطبهم "فقال: يا معشر الروم، هل لكم -رغبة- في الفلاح والرشد؟ " بالضم ثم السكون، أو بفتحتين الرشد، وهو خلاف الغي، "وأن يثبت ملككم، فتبايعوا" منصوب بحذف النون بأن مقدرة في جواب الاستفهام، وفي نسخةٍ: (فبايعوا) وفي روايةٍ: (نبايع) بنون الجمع ثم موحدة، وفي رواية: (نتابع) وفي رواية: (فتتابعوا) من الاتباع أو من البيعة وفي نسخة: (فنتبع) "هذا الرجل" النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية:(لهذا) وإنما قال هرقل هذا لما عرفه من الكتب السابقة أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك، ونقل أن في التوراة: ونبياً أرسله أي إنسانٍ لم يقبل كلامي الذي يؤديه عني فإني أهلكه، هذا منقول من التوراة، والله أعلم.
"فحاصوا -أي نفروا- حيصة حمر الوحش -أي كحيصتها- إلى الأبواب فوجودها قد غلقت" بالتشديد، وشبه نفرتهم مما قال لهم من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بنفرة حمر الوحش؛ لأنها أشد نفرةً من سائر الحيوانات، ولذا جاء في سورة المدثر:{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} [(50) سورة المدثر].
"فلما رأى هرقل نفرتهم وآيس" وفي رواية: (يئس) أي قنط "من الإيمان" أي من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لكونه شحّ بملكه، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه، ويسلم ويسلمون، هو يحب هذا، ليجمع بين خيري الدنيا والآخرة، لكن الآن الامتحان في المفاضلة، حصلت المفاضلة بين الدنيا والآخرة فآثر الدنيا، والله المستعان.
"قال: ردوهم عليّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً -بالمد أي هذه الساعة- أختبر -أي أمتحن- بها شدتكم -أي رسوخكم- على دينكم، فقد رأيت شدتكم" فحذف المفعول للعلم به مما سبق، وفي رواية:"فقد رأيت منكم الذي أحببت"، "فسجدوا له" حقيقةً، على عادتهم لملوكهم، أو قبلوا الأرض بين يديه؛ لأن ذلك ربما كان كهيئة السجود، "ورضوا عنه، فكان ذلك آخر -بالنصب خبر كان- شأن هرقل" أي فيما يتعلق بهذه القصة خاصةً، هذا لا يعني أن هذا آخر حياة هرقل، إنما هذا آخر شأنه فيما يتعلق بهذه القصة، أو فيما يتعلق بالإيمان، فإنه بعد ذلك وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة وتبوك ومحاربته للمسلمين، وهذا يدل على استمراره على الكفر، نسأل الله العافية، لكن قال بعض الشراح: مع ذلك يحتمل أنه يكون يضمر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاةً لمملكته، وخوفاً من أن يقتله قومه.
وعلى كل حال مثل هذا الإيمان ولو أضمره، ولو وقر الإيمان في القلب لكن لم ينطق به الشخص، فإنه لا يحكم بإيمانه، وإنما حكمه في الدنيا الكفر، إلا أن في مسند الإمام أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني مسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: بل هو على نصرانيته.
وقال البخاري بعد ذلك: "رواه" أي روى حديث هرقل، وفي رواية: بواو العطف، وفي رواية: نسخ الصحيح هذا كله لا يوجد في المختصر، هذا في الأصل، قال: محمد أي البخاري "رواه صالح بن كيسان" المدني المتوفى بعد الأربعين ومائة عن مائة سنة ونيفٍ وستين، عمّر لأنه قيل إنه ابتدأ طلب العلم بعد التسعين فأخذ عن الزهري حتى عد من كبار الآخذين عن الزهري وانتفع ونفع الله بعلمه بعد التسعين، منهم من يقول أقل من ذلك، لكن أقل ما قيل الخمسين فلا يأس، كثير من عوام المسلمين كبار السن حرموا من التعلم في أوائل حياتهم حتى لا يقرؤون ولا القرآن، فينظرون إلى من يقرأ القرآن حسرة، أنا أقول: لماذا هذا اليأس والبيوت -ولله الحمد- الآن مملوءة بمن يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن؟ لماذا لا يجاهد الإنسان وإن كان كبير السن نفسه في حفظ شيء من كتاب الله ولو تعب؟ ولا يلزم أن يحفظ كل يوم قدراً كبيراً، لو يحفظ كل يوم آية، أو يردد آية حتى يحفظها في يوم يومين ثلاثة، سورة قصيرة، الذي ينتفع بذلك، والحرف بعشر حسنات.
ولكن ننظر مع الأسف الشديد في مساجد المسلمين في رمضان كثير من عوام المسلمين وكبار السن يلتفت يميناً وشمالاً يتمنى ويتحسر أن لو كان يقرأ القرآن ويستفيد مثل الناس؛ لأنه فاته القطار في حد زعمه، لا، لا يأس، الآن بإمكانه أن يستمع من ولده، من بنته، من المسجل، والحمد لله كل شيء متيسر، ولله الحمد، وهذا جهاد بحد ذاته، لو لم يدرك شيء هو في جهاد؛ لأنه يطلب العلم وخير العلوم ما يتعلق بكتاب الله عز وجل.
ورواه أيضاً يونس بن يزيد الأيلي، ورواه معمر بن راشد الثلاثة عن الزهري، فأخرج المصنف الأول والثاني في الجهاد، والثالث في التفسير، والحديث مخرج في مسلم أيضاً فهو متفق عليه.
المقدم: في طلب هرقل من أصحابه أن يتأكدوا أمختتن هو؟ قال: فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن؟ كيف كان هذا النظر؟
كما جاء في بعض الروايات أنهم جردوه، جردوه من ثيابه.
المقدم: جردوا النبي صلى الله عليه وسلم؟
لا لا، جردوا هذا الرجل الذي جيء به إلى هرقل، الذي أرسل به ملك غسان، هذا الرجل من العرب جيء به إلى هرقل فقال: تأكد هل العرب يختتنون أو لا؟
المقدم: وبالتالي تبيّن من خلال هذا العربي أنه من الأمة التي تختتن، وأن النبي الذي سيبعث منهم.
وسأل هل العرب يختتنون؟ فقال: نعم، هم يختتنون.
المقدم: ذكرتم -أحسن الله إليكم- في مسند أحمد أنه كتب للنبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أنه مسلم فقال النبي: بل هو على نصرانيته، هذا مما يؤيد القول ويفصل النزاع في مسألة إسلامه من عدمه؟
لكن هذا إن صح؛ لأن في سنده مقال.
المقدم: لا زلنا في باب بدء الوحي، ولم يحذف أي حديث حتى الآن من التجريد فهو موافق لما في الصحيح أصلاً.
بلا شك لأن أوائل الكتاب ما بعد مرّ التكرار إلى الآن، ما جاء تكرار إلى الآن.
المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا أيضاً أن نتعرف من خلالكم عن موقف هرقل وكسرى وأتباع هذين المسؤولين أو الأمرين من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم المذكور في صدر الحديث كما سبق؟
أما بالنسبة لكسرى، فإنه لما جاءه كتاب النبي عليه الصلاة والسلام مزقه، فدعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام أن يمزق الله ملكه فحصل، ولم تقم لهم قائمة، أما بالنسبة للروم وهرقل فإنهم احتفظوا بكتاب النبي عليه الصلاة والسلام ويذكر في أخبارٍ كثيرة أن النصارى أطلعوا بعض قواد المسلمين، وبعض علماء المسلمين على هذا الكتاب، وأنه موجود عندهم في صندوقٍ من ذهب، وملفوف بقطع الحرير وما أشبه ذلك، اعتنوا به، واهتموا به، ويظنون أن بقاء ملكهم دائم مع بقاء هذا الكتاب.
المقدم: أحسن الله إليكم في بداية الشرح لما كنا وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل ثم ذكرتم أيضاً شيئاً من اجتماعه ببطارقته هذا في الحقيقة لفتة إلى وزراء السوء أيضاً الذين ربما يكون لهم تأثير خطير على الإنسان ومن فضل الله -جل وعلا- بالمؤمن أن يجعل له وزيراً من خاصة نفسه يذكره بالخير ويدله عليه، أيضاً الصاحب والصديق للإنسان إذا كان خيراً دله على الخير، وإذا كان سيئاً دله على السوء، فهؤلاء البطارقة الذين كانوا حوله، ربما كانوا سبباً أيضاً في ضلاله.
بلا شك أن الجليس له دور كبير في توجيه الإنسان، وقصة أبي طالب حينما حضرته الوفاة وهي في الصحيح، لما قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ يعني المسألة مصيرية، لو قال: لا إله إلا الله، ((قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)) فخسر الدنيا والآخرة من أجل قرناء السوء.
المقدم: تفضلوا بالحديث عن تراجم هذا الحديث أحسن الله إليكم.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرج الحديث في اثني عشر موضعاً، وحقيقة مثل هذه الأحاديث، أحاديث بدء الوحي قد لا يحس الإنسان بقيمة هذه التراجم؛ لأنه لا يظهر فيها فقه عملي، في بدء الوحي، لكن بدءً من كتاب الإيمان ثم العلم ثم العبادات والمعاملات وغيرها تظهر ميزة تراجم الإمام رحمه الله ودقة فقهه، لكن هذا مسلك سوف يكون أو نسير عليه -إن شاء الله- بالكتاب كله.
أقول: خرج الإمام رحمه الله الحديث في اثني عشر موضعاً:
الأول: بدء الوحي، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره فذكره مطولاً كما سمعنا، ومناسبة الحديث في بدء الوحي أنه مشتمل على ذكر جمل من أوصاف من يوحى إليه، يعني في مساءلات هرقل لأبي سفيان كلها أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام وهو الموحى إليه، طرف في الموضوع، وأيضاً فإن قصة هرقل متضمنة كيفية حال النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، وأيضاً الابتداء يناسب البدء من هذه الحيثية.
وأيضاً فإن الآية المكتوبة إلى هرقل، والآية التي صدر بها الباب، مشتملتان على أن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لإقامة الدين، وإعلاء كلمة التوحيد، يظهر ذلك بالتأمل قاله العيني، وقال ابن حجر: فإن قيل ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟ فالجواب: أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الابتداء؛ ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل بالدعاء إلى الإسلام ملتئمة مع الآية التي في الترجمة، وهي قوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [(163) سورة النساء]
…
الآية، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [(13) سورة الشورى]
…
الآية، فبان أنه أوحى إليهم كلهم:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [(13) سورة الشورى] وهو معنى قوله تعالى: {سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [(64) سورة آل عمران]
…
الآية.
الموضع الثاني: في كتاب الإيمان باب بلا ترجمة، قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره فذكره مختصراً.
والباب تالٍ لباب سؤال جبريل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال ابن حجر: باب إلى ترجمة في رواية كريمة وأبي الوقت، وسقط من رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما، ورجح النووي إثبات باب، وزعم أن حذفه فاسد، والصواب إثباته؛ لأن ترجمة الباب الأول لا يتعلق بها هذا الحديث فلا يصح إدخاله فيه، ومقصود البخاري بقصة هرقل أنه سماه ديناً وإيماناً، وقال: وفي الاستدلال بها إشكال؛ لأنه كافر فكيف يستدل بقوله؟ وقد يقال: هذا الحديث تداولته الصحابة رضي الله عنهم وسائر العلماء ولم ينكروه، بل استحسنوه، والله أعلم.
الآن الرابط بين حديث جبريل وسؤاله عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وبين حديث هرقل قال: أنه سمى الدين أو سمى الإيمان دين في الأمرين، ولذا قال: ومقصود البخاري في قصة هرقل أنه سماه ديناً، وإيماناً، وهناك:((أتاكم جبريل يعلمكم دينكم)) ثم قال النووي: وفي الاستدلال بها إشكال؛ لأنه كافر فكيف يستدل بقوله؟ وقد يقال: هذا الحديث تداولته الصحابة رضي الله عنهم وسائر العلماء ولم ينكروه بل استحسنوه والله أعلم.
وقال ابن حجر في الاستدلال بقوله: وهو كافر، فالجواب أنه ما قاله من قبل اجتهاده، وإنما أخبر به عن استقراءه من كتب الأنبياء كما قررناه فيما مضى، وأيضاً فهرقل قاله بلسانه الرومي، وأبو سفيان عبر عنه بلسانه العربي، وألقاه إلى ابن عباس وهو من علماء اللسان، فرواه عنه ولم ينكره، فدل على أنه صحيح لفظاً ومعنى، يقول ابن حجر متعقباً كلام النووي، النووي يقول: الصواب إثبات كلمة (باب) لأنه لا علاقة بقصة هرقل مع الترجمة السابقة، التي هي إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم لكن باب سؤال جبريل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإيمان والإسلام والإحسان يقول: ما له ارتباط لا بد أن يفصل بينهما بباب، نذكر أننا تكلمنا على الباب بلا ترجمة، وأنه بمنزلة الفصل من الباب السابق، وأنه له تعلق وارتباط وثيق به، هنا يقول ابن حجر:"نفي التعلق لا يتم هنا على الحالتين؛ لأنه إن ثبت لفظ باب بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله فلا بد له من تعلق به، وإن لم يثبت فتعلقه به متعين" يعني جزء من الباب، يعني الحديث في الباب، لكنه يتعلق بقوله في الترجمة: جعل ذلك كله ديناً، ووجه التعلق أنه سمى الدين إيماناً في حديث هرقل فيتم مراد المؤلف بكون الدين هو الإيمان، أين سمى هرقل الدين إيمان؟ انظر في المتن؟
المقدم: قال: فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمّ، وقال أيضاً في موضعٍ آخر: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
"فهل يترد أحد منهم سخطةً لدينه؟ " فمرةً عبر بالدين، ومرة عبر بالإيمان، فدل على أن الدين هو الإيمان، وفي سؤال جبريل سأل عن الإيمان والإسلام والإحسان ثم قال في النهاية:((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فدل على أن البخاري -رحمه الله تعالى- دقيق الاستنباط حينما أورد هذا الحديث ليبين أن الإيمان والدين بمعنىً واحد، دقة متناهية.
الموضع الثالث: كتاب الشهادات باب من أمر بإنجاز الوعد، قال: حدثني إبراهيم بن حمزة، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله أن عبد الله بن عباس قال: أخبرني أبو سفيان فذكره مختصراً وفيه: "فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد" يأمر بالوفاء بالعهد، وفيه أيضاً: فهل يغدر؟ والترجمة: باب من أمر بإنجاز الوعد، وجه تعلق الباب بالشهادات؟ أن وعد المرء كالشهادة على نفسه قاله الكرماني، الترجمة: باب من أمر بإنجاز الوعد، علاقة الوعد بالشهادات؟ الوعد والعهد وعدم الغدر، علاقتها بالشهادات؟ يقول الكرماني: أن وعد المرء كالشهادة على نفسه، إذا وعد لا بد أن يفي، كما أنه إذا تحمل شهادة لا بد أن يصدق في التحمل، ولا بد أن يؤدي كما سمع.
الموضع الرابع: في كتاب الجهاد، باب قول الله عز وجل:{هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [(52) سورة التوبة] والحرب سجال، علاقة الحرب سجال بإحدى الحسنيين؟ لأنهم إن انتصروا، وهذه هي إحدى الحسنيين أديلوا على أعداءهم، وإن قتلوا أديل أعداؤهم عليهم وهي أيضاً إحدى الحسنيين، وحينئذٍ يتضح قول البخاري رحمه الله:"والحرب سجال" وهذه مأخوذة من حديث هرقل.
المقدم: وهي من قول أبي سفيان.
نعم، قال: حديثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله به فذكره مختصراً، وفيه:"فزعمت أن الحرب سجال ودول" قال ابن حجر: الغرض منه قوله فيه: "فزعمت أن الحرب بينكم سجال" أو دول، وقال ابن المنير: التحقيق أنه ما ساق حديث هرقل إلا لقوله: "وكذلك الرسل تبتلى" ثم تكون لهم العاقبة، قال: فبذلك يتحقق أن لهم إحدى الحسنيين إن انتصروا فلهم العاجلة والعاقبة، وإن انتصر عدوهم فللرسل العاقبة.
أثناء شرحكم تفضلتم وقلتم أنه في باب بدء الوحي هنا سقط السؤال العاشر، وهو سؤاله عن القتال، وأثبت في باب الجهاد، وهو الذي أتيتم به في هذه الترجمة، هذا مرادكم به أنه أثبت في هذا الباب كاملاً؟
نعم، يقول ابن حجر: وهذا لا يستلزم نفي التقدير الأول ولا يعارضه، بل الذي يظهر أن الأول أولى؛ لأنه من نقل أبي سفيان عن حال النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الآخر فهو من قول هرقل مستنداً إلى ما تلقفه من الكتب، وعلى كل حال هذا وذاك كله يدل على الترجمة.
الموضع الخامس: في كتاب الجهاد باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس فذكره مطولاً، والمناسبة ظاهرة بين الجهاد والدعوة، وأن الدعوة لا بد أن تسبق الجهاد، والمناسبة بين الحديث والترجمة ظاهرة، المناسبة بين الجهاد والدعوة، كتاب الجهاد باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد، المناسبة ظاهرة؛ لأن الدعوة لا بد أن تسبق الجهاد، إن حصلت الاستجابة بها ونعمت، وهذا هو المطلوب، وإن لم تحصل تأتي المرحلة الثانية وهي الجهاد، المناسبة بين الحديث والترجمة ظاهرة أيضاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل إلى هرقل الكتاب يدعوه إلى الإسلام، متغانماً عليه الصلاة والسلام، ومغتنماً فرصة الصلح مع الكفار، وعلى هذا ينبغي للمسلم أن يجند نفسه للدعوة، وأن يستغل الفرص، لا سيما من كان الناس بحاجته؛ لأن قوله أوقع، فهذا يوسف عليه السلام استغل وجوده في السجن بين أولئك الناس واستغل حاجة الناس إليه في التأويل والتعبير دعاهم {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} [(39) سورة يوسف] المهم أنه استغل الموقف، وعلى هذا لو أن كل مسلم على حسب أو على اختلاف مواقع المسلمين وأعمالهم استغلوا هذه المواقع في نشر الدين، الطبيب المريض محتاج إليه فلو وجهه بكلمات قبل منه، المعلم الطالب بحاجة إليه، كل إنسان بحسب موقعه، القاضي الخصوم بحاجة إليه وهكذا، لا بد أن يغتنم المسلم فرصة عمله ووجوده لينشر الدين ليكون من الدعاة إلى الهدى، فمن دل على هدى كان له مثل أجر فاعله.
المقدم: والملاحظ -مع الأسف- أن النصارى يستغلون هذا الجانب كثيراً -فضيلة الدكتور- في أعمالهم الإغاثية ونحوها، فهم وإن أظهروها أنها باسم الإنسانية؛ لكنها في الحقيقة الأمر بالدعوة إلى النصرانية.
هي أسلوب من أساليب الدعوة، أقول: المحتاج يقبل ممن يساعده، فلو سلكت الدعوة ومعها البذل، هناك المجتمعات الفقيرة حينما يدعمون بالمال أملي عليهم ما شئت من الدعوة لا شك أنهم يقبلون، انتبه النصارى لمثل هذا واستغلوه استغلال، أنشئوا المستشفيات، وأنشئوا اللجان الإغاثية وما أشبه ذلك، كله من أجل التأثير على هؤلاء المحتاجين، ومع ذلك النتائج -ولله الحمد- ليست على ما يتصورون ويتوقعون، والإسلام -ولله الحمد- رغم تقصير المسلمين في الدعوة إليه، ورغم ما يوجد من الصد عنه، إلا أنه -ولله الحمد- يسري في الناس سريان النار في الهشيم، كل ذلك لأن دين الإسلام موافق للفطرة.
وذكر الشيخ العبودي في حلقةٍ من حلقاته ورحلاته في الهند أن رجلاً هندي جاء إلى السفارة فأعلن إسلامه، فسئل ما السبب؟ هو ما دعي إلا الإسلام، قال: إنه ذهب بأمه ليحرقها، على عادتهم، فجمع الحطب لها وأشعل فيها النار فأكلت النار الكفن فقط، وبقيت الأم كما خلقت، أديان سبحان الله كيف تقبلها العقول، ثم جاء فأعلن إسلامه؛ لأنه يعرف أن المسلم مكرم محترم، حياً وميتاً فإذا مات دفن في هذه الحفرة أستر له بلا شك، والله المستعان.
الموضع السادس: في كتاب الجهاد أيضاً باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله فذكره مختصراً، وفيه قول أبي سفيان:"لقد أمِر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر" والمناسبة في قوله: "إنه يخافه ملك بني الأصفر" لأنه كان بين المدينة وبين المكان الذي كان قيصر ينزل فيه مدة شهرٍ أو نحوه ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) هذه الترجمة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) يخافه ملك بني الأصفر، يخافه لماذا؟ من الرعب.
الموضع السابع: في كتاب الجزية والموادعة، باب فضل الوفاء بالعهد، قال: حدثني يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله فذكره مختصراً، والمناسبة أن في الحديث التام هو مختصر وليس فيما أورده البخاري هنا ما يدل على الترجمة، لكن البخاري عادة يذكر طرف الحديث، والترجمة المطابقة من الحديث قد تكون فيما لم يذكره الإمام -رحمه الله تعالى-، وقد تكون في رواية أو زيادةٍ ليست على شرطه، وإنما يشير إليها بترجمة، المناسبة أن في الحديث التامة نفي الغدر، هل يغدر؟ نفي الغدر عنه عليه الصلاة والسلام، والغدر نقض العهد، باب فضل الوفاء بالعهد.
المقدم: عفواً يا دكتور في هذا الموضع ما ذكر أنه لا يغدر.
لا، هو ذكره مختصر، ما فيه، لكن هو بهذا يشير إلى أنه في الرواية المطولة موجود.
المقدم: هنا قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها؟
هذه تغانمها أو اغتنمها أبو سفيان، ودس هذه الدسيسة، ولم يلتفت إليها هرقل؛ لأنه إخبار عن مستقبل ما يمكن أن يقال له: كذبت.
المقدم: صاحب التجريد إذا جاء في ترجمة ولم يذكرها في باب قبل هل يذكر الموضع مرةً أخرى أو يكتفي بذكر. . . . . . . . .؟
لا لا، صاحب التجريد قصده من ذلك الاختصار الشديد من أجل أن يحفظ، فيذكر الحديث في أول الموضع، ولا يعرج عليه في الموضع الثاني، هو الأصل أن لا يترك شيء من متون الأحاديث، فإذا ذكر الحديث في موضع، يأتي بالزوائد أو بالألفاظ الزائدة من الروايات الأخرى اللاحقة في الموضع الأول، يقول: في رواية كذا ليتم الكتاب كامل.
الموضع الثامن: في كتاب التفسير: باب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللهَ} [(64) سورة آل عمران] قال: حدثني إبراهيم بن موسى عن هشام عن معمر ح، وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله فذكره مطولاً، والمناسبة ظاهرة، حيث ذكرت الآية في الحديث.
الموضع التاسع: في كتاب الأدب: باب صلة المرأة أمها ولها زوج، في كتاب الأدب؟ باب صلة المرأة أمها ولها زوج، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله فذكره مختصراً، وفيه:"يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة" وهنا باب: صلة المرأة أمها، والمناسبة ظاهرة، حيث ذكرت الصلة في الحديث وهي شاملة للأم وغيرها من المتزوجة وغيرها، فيؤخذ حكم الترجمة من عمومها.
الموضع العاشر: في كتاب الاستئذان، باب كيف يكتب إلى أهل الكتاب؟ قال: حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله فذكره مختصراً وفيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى أما بعد)) وما ذكره ظاهر المناسبة للترجمة، كيف يكتب إلى أهل الكتاب؟ قال ابن بطال:"فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه، وفيه: حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب السلام عند الحاجة" هذه حجة من يقول من أهل العلم من أجل الدعوة والتأليف يتنازل في مثل هذه الأمور، فيبدأ المخالف بالسلام، من أجل تحصيل أو تحقيق مصلحة الدعوة، يقول ابن بطال: "فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه، هذا الظاهر، قال: وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، قال ابن حجر: قلت: في جواز السلام على الإطلاق نظر، والذي يدل عليه الحديث السلام المقيد، مثلما في الخبر، السلام على من اتبع الهدى، أو السلام على من تمسك بالحق أو نحو ذلك، سلام مقيد وليس بسلامٍ مطلق، أما بداءة المشرك بالسلام جاء النهي عنها كما هو معروف.
المقدم: لكن مناسبة الكتاب للباب، كيف يكتب لأهل الكتاب؟ وآخر في باب الاستئذان؟
نعم الاستئذان؛ لأن المخاطبة والمكاتبة في حكم الاستئذان، في حكم الاستئذان.
الموضع الحادي عشر: في كتاب الأحكام، باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد؟ قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، فذكره مختصراً، وفيه: ثم قال لترجمانه، فقال للترجمان، والمناسبة ظاهرة.
قال ابن بطال: "لم يدخل البخاري حديث هرقل حجةً على جواز الترجمان المشرك؛ لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما أدخله ليدل على أن الترجمان كان يجري عند الأمم مجرى الخبر لا مجرى الشهادة" وقال ابن المنير: "وجه الدليل من قصة هرقل مع أن ما فعله لا يحتج به، أن مثل هذا صواب من رأيه؛ لأن كثيراً مما أورده في هذه القصة صواب وموافق للحق، فموضع الدليل تصويب حملة الشريعة لهذا، وأمثاله من رأيه وحسن تفطنه، ومناسبة استدلاله، وإن كان غلبت عليه الشقاوة، وقال ابن حجر: "وتكملة هذا أن يقال: يؤخذ من صحة استدلاله، قال ابن حجر:"وتكملة هذا أن يقال: يؤخذ من صحة استدلاله فيما يتعلق بالنبوة والرسالة أنه كان مطلعاً على شرائع الأنبياء، فتحمل تصرفاته على وفق الشريعة التي كان متمسكاً بها" وقال ابن حجر أيضاً" "والذي يظهر لي أن مستند البخاري تقرير ابن عباس، وهو من الأئمة الذين يقتدى بهم على ذلك، يعني أنه يكفي ترجمان واحد، وأن هذا يجري مجرى الأخبار، والأخبار يقبل فيها قول الواحد إذا ثبتت ثقته.
المقدم: لكن عفواً: النبي عليه الصلاة والسلام كتب له بالعربية؟
بالعربية نعم.
المقدم:. . . . . . . . .
ما أمر أن يتعلموا، الكتاب بالعربية، ثم قال للترجمان اقرأه.
الموضع الثاني عشر: في كتاب التوحيد، باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها لقول الله تعالى:{قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [(93) سورة آل عمران] قال: وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [(64) سورة آل عمران].
الآن أرسل النبي عليه الصلاة والسلام بالآية إلى هرقل وهي بالعربية، ما يجوز من تفسير التوراة الترجمة، والترجمان ترجم له الآية بلغته، فإذا جاز ترجمة الآية فترجمة التوراة من باب أولى، ومعلوم أن ترجمة الآية معناها ترجمة المعاني، وأما ترجمة الألفاظ معروف أنها مستحيلة لإعجاز القرآن، لا يمكن أن يأتي أحد بمثله.
قال: وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [(64) سورة آل عمران]
…
الآية، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على ما من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، فإذا جاز ترجمة الآية وترجمة معنى الآية فترجمة التوراة بالعربية وغيرها من باب أولى، وغيرها من الكتب الإلهية.
ولما فرغ المؤلف -رحمه الله تعالى- من الوحي الذي هو كالمقدمة لهذا الكتاب، هو كالمقدمة؛ لأن البخاري ما صدره بكتاب كما تقدم، فهو كالمقدمة لهذا الكتاب الجامع شرع بذكر المقاصد الدينية، وبدأ منها بالإيمان لأنه ملاك الأمر؛ لأن الباقي مبني عليه ومشروط به، والله أعلم.
المقدم: هذا يسأل يقول: لماذا نرى أن البخاري رحمه الله لا يخرج بعض الأحاديث في صحيحه مع أن أهل العلم يقولون: رجاله رجال الصحيح، ومع ذلك لم يخرجه البخاري في صحيحه؟
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرج من الصحيح أصحه، ولم يلتزم -رحمه الله تعالى- أن يخرج جميع الأحاديث الصحيحة، وكذلك الإمام مسلم، ويروى عن الإمام البخاري رحمه الله بالأسانيد أنه قال:"خرجت فيه ما صح، وتركت من ذلك ما هو أكثر خشية أن يطول الكتاب" فلولا إطالة الكتاب لخرج المزيد من الأحاديث، فخرج في الكتاب ما هو منطبق عليه شرطه، وأما كونه يوجد شرطه في غيره من الكتب على اختلافٍ بين العلماء في المراد بشرطه -رحمه الله تعالى-، وهذه الكلمة يتداولها أهل العلم، واختلف في مرادهم بها، ولكن الذي حرره أهل التحقيق من المحدثين أن المراد بشرط البخاري أو شرط الشيخين رجالهما، فإذا خرج الحديث من أي كتابٍ من الكتب المعتبرة عند أهل العلم بإسنادٍ خرج له الإمام البخاري قيل على شرط البخاري، وإذا خرج له الإمام مسلم قيل على شرط مسلم، وإذا خرج في الصحيحين لرواة هذا الحديث قيل: صحيح على شرطهما.
المقدم: ويكون في نفس درجة الحديث عند البخاري ومسلم، بالقوة عند أهل العلم؟
لا يكون بنفس القوة؛ لأن الإمامين أعني البخاري ومسلماً ينتقيان من أحاديث الرواة، وليس معنى أن كل حديث يرويه كل راوي ممن خرج له البخاري في الصحيح أنه بدرجة ما خرج له البخاري، فالبخاري ينتقي من أحاديث هذا الراوي، وقد يترك بعض الأحاديث؛ لأنها لم تثبت عنده، وإن كانت من أحاديث راوٍ خرج له في الصحيح، وانتقى له مما وافقه عليه الحفاظ الضابطون.
المقدم: أحسن الله إليك، يذكر أيضاً السائل يقول: هناك دعوة تقول: أن البخاري لا يروي في صحيحه إلا الأحاديث التي تكون موافقة لرأيه الفقهي، بمعنى: أن بعض الأحاديث لا يقبلها البخاري لأنها تعارض أحاديث أخر عمل بها، وترجم لها، هل هذا صحيح؟
أولاً: الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- فقيه، من فقهاء الحديث، لا ينتمي إلى مذهبٍ معين يتعصب له، وإنما هو يدور مع السنة حيثما دارت، فهو يستنبط الفقه من الأحاديث، وتراجمه التي تتضمن فقهه هي مأخوذة من هذه الأحاديث الصحيحة التي بلغت شرطه، وكونه لم يخرج أحاديث أخرى تختلف مع هذه الأحاديث؛ لأن هذه الأحاديث أرجح عنده من حيث الصناعة الحديثية، لا لأنها توافق اجتهاده ونظره، والأخرى تخالف اجتهاده لا؟ هذا يمكن أن يقال بالنسبة للمتفقهة على المذاهب، أما الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وهو يدور مع الحديث حيثما دار، ويستنبط من الأحاديث، ولا يتبع مذهباً بعينه، فلا يقال في حقه مثل هذا الكلام.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد.