المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقصد الثاني: بيان إسناد مقالة التعطيل - شرح الحموية - يوسف الغفيص - جـ ٢١

[يوسف الغفيص]

الفصل: ‌المقصد الثاني: بيان إسناد مقالة التعطيل

‌المقصد الثاني: بيان إسناد مقالة التعطيل

ثم عني المصنف بعد ذلك ببيان إسناد مقالة التعطيل -أي: نفي الصفات التي أظهرها الجهمية والمعتزلة- فقال: إن أول من تكلم بالتعطيل في هذا الباب هو الجعد بن درهم، ثم قتل، ثم أظهر مقالته الجهم بن صفوان الترمذي، وقتل أيضاً، ولكنه أشاعها بعض الشيء فانتشرت هذه المقالة ونسبت إليه.

ثم تكلم عن أئمة المعتزلة، مبيناً أنهم وافقوا مقالة جهم في الجملة، وإن كانوا يختلفون مع الجهم بن صفوان في مسألة الأسماء وبعض مسائل هذا الباب، لكنهم يتفقون معه على نفي الصفات.

فهذه المقالة إذاً منتهاها من حيث الإسناد العلمي عند المسلمين هو الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وأمثالهما، حتى ولو قلت: إن منتهى هذه المقالة هو بعض أئمة المعتزلة، وأن طريقة المعتزلة مستقلة عن طريقة جهم كما يفرضها بعض النظار، فأيضاً حتى أئمة المعتزلة الذين تكلموا في هذا الباب ليسوا ممن لهم قدم صدق عند الأمة أو عرفوا بالتحقيق أو السنة والأثر، بل كانوا على خلاف مع أئمة السنة والحديث، ولهم طعن عليهم.

فهذا الأخذ عرف وتحقق؛ ولهذا اتفق أئمة السلف على ذم الجهمية والمعتزلة إذ ذاك، وعرفوا ببدعتهم عند جمهور المسلمين، حتى من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة ومن متكلمة الصفاتية: كالكلابية والماتريدية والأشعرية، فإن جميع هذه الطوائف الفقهية والكلامية اتفقوا على ذم الجهمية والمعتزلة؛ وهذا يدل على أن إسناد هذه المقالة ومنتهاها -أعني: مقالة التعطيل- قوم قد أجمع السلف، والفقهاء من بعدهم، وأهل السنة والمنتسبون إليها على ذمهم والطعن فيهم؛ ولهذا لا ترى للمعتزلة قدم صدق محفوظة أو ثناء معروف، وإن كانوا قد يشتغلون ببعض المعارف التي يحسنونها أو يجيدون في بعض الأبواب في أصول الفقه وغيره، لكن هذا لا يكون مطرداً، فضلاً عن أن يكون لهم اختصاص أو تحقيق في باب أصول الدين.

فهذا في الجملة هو الإسناد المتحقق.

وفيما يتعلق بما بعد ذلك، فإن المصنف يذكر إسناداً يذكره بعض أهل الأخبار، وهو من جهة تلقي الجعد لهذه المقالة، وهو إسناد تارةً يوصل ببعض اليهود وتارةً يوصل ببعض المتفلسفة

إلخ.

والمتحقق عند النظار من أهل السنة وغيرهم: أن مقالة التعطيل المحضة -وهي نفي أسماء الرب وصفاته أو حتى نفي الصفات نفياً تاماً- مقالة مأخوذة عن قوم من المتفلسفة، سواء صح الإسناد الذي يصلهم ببعض أعيان اليهود أو غيرهم أو لم يصح، فهذا إسناد تاريخي قد لا يكون له ذاك الاعتبار الكثير، لكن باعتبار الحقيقة العلمية فإن هذه المقالة بتمامها -أعني: مقالة التعطيل- على طريقة أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة لا شك أنها ليست مقالة لها أصل في الكتاب والسنة، ولا في العقل ابتداءً، فهي ليست مقالة شرعية؛ لأن الكتاب والسنة لم يذكرا هذه المقالة، وليست كذلك مقالة لها ذكر في العقل ابتداءً أو قبول في العقل ابتداءً.

والدليل على هذا الكلام: أنه لما جاء المتفلسفة المحضة -أي: الذين نقلوا الفلسفة نقلاً محضاً كـ ابن سينا وأبي نصر الفارابي وأمثالهما، وهم غير أهل الكلام- انتهوا في باب الأسماء والصفات إلى قريب من هذه المقالة، بل إنهم يكادون يتفقون على النتيجة مع أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة في مسألة الصفات.

وأبو نصر الفارابي وابن سينا يصرحون أن هذه المقالة مقالة منقولة عن طريقة أرسطو وأمثاله من الفلاسفة الذين قبل الإسلام.

فالمهم: أن هذا الإسناد ينتهي إلى أعيان اتفق جمهور المسلمين على الطعن عليهم، والطعن عليهم لا يختص بأهل السنة وحدهم، بل حتى جمهور الفقهاء وجمهور الصوفية وجمهور متكلمة الصفاتية يطعنون على أئمة المعتزلة والجهمية، إن لم يكن هذا مذهب لسائرهم، ومن المتحقق بطريقة المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام كـ ابن سينا وغيره أن هذه المقالة بتنظيمها هي مقالة فلسفية، وإن كان المعتزلة وقربوها بعض التقريب إلى مقاصد الإسلام؛ ولهذا أصبحت بطريقة المعتزلة مقالةً مولدة.

ولهذا تجد أن المعتزلة خاصة -أعني: أئمة المعتزلة- ينتهون إلى نفي الصفات نفياً تاماً كالانتهاء الذي ينتهي إليه ابن سينا، لكن ابن سينا يستعمل الطريقة الفلسفية المحضة، في حين أن المعتزلة يقربون الطريقة إلى الإسلام، ويستعملون بعض المقدمات الشرعية المجملة، وبعض المقدمات العقلية العامة، وإن كانوا لا يستغنون عن المقدمات الفلسفية، وترى هذا متحققاً في دليل الأعراض الذي استعمله المعتزلة لنفي الصفات، فإنه بالمقارنة بينه وبين دليل التركيب الذي استعمله ابن سينا لنفي الصفات؛ نجد أن كلا الدليلين على طريقة ونمط واحد.

ومحصل هذا: أن مقالة التعطيل مقالة ينتهي إسنادها إلى نظريات فلسلفية منقولة ليس عليها أثرة شرعية، بل ولا أثرة عقلية مبتدعة -أي: ابتدعها العقل دون الالتزام بقوانين فلسفية معينة-.

ولهذا لا تجد أن الأدلة الكبار التي تستعملها المعتزلة بل حتى الأشعرية -وإن كان هذا مقصداً يأتي التنبيه إليه- إلا وهي تتضمن بعض القوانين الفلسفية التي كان يستعملها أئمة الفلاسفة قبل الإسلام كـ أرسطو وغيره، وإن كان يُعلم أن الإسلاميين الذين تكلموا بهذه المقالات التي كان يتكلم بها أئمة الفلسفة لم يوافقوا أئمة الفلسفة موافقةً مطلقة، ولكن مقالاتهم محصلة من طريقة أولئك.

ولهذا انتهى ابن سينا إلى إثبات مسألة الوجود المطلق بشرط الإطلاق، والتزم تقرير التجريد في كتبه تقريراً مطولاً، وانتهى إلى عدم إثبات الصفات الثبوتية مطلقاً، وإنما يقع عنده إثبات صفات السلوب أو الإضافات أو المركبات.

وهذا الأسلوب وإن كان غلب عليه النمط الفلسفي إلا أن النتيجة المعتزلية الأولى عند أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام وأمثالهما، ومن باب أولى عند جهم بن صفوان والجعد بن درهم هي من حيث النتيجة واحدة، وإن كان تقرير المتفلسفة كـ ابن سينا أخذ الحروف الفلسفية، في حين أن المتكلمين كأئمة الجهمية وأئمة المعتزلة صارت حروفهم مولدة من أنماط فلسفية وأنماط لغوية

الخ.

فمن هنا يتحصل: أن هذا الإسناد ينتهي إلى قوم ممن عرف كفرهم وإلحادهم وهم المتفلسفة، وهذا انقطاع صريح في مقالة التعطيل.

ص: 4